Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة مدخل لإصلاح علوم الملة – أبو يعرب المرزوقي

سلسلة مدخل لإصلاح علوم الملة – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-07-27 14:22:51

Description: سلسلة مدخل لإصلاح علوم الملة – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪9‬‬‫‪14‬‬‫‪19‬‬

‫لست مختصا في علوم الملة لكن ثالوث المدرسة النقدية بما يضمر كشف علل انحرافها إلى حد‬ ‫سيطرة العلوم الزائفة عليها لتبرير الموجود وإهمال المنشود‪.‬‬‫وسبق أن كتبت بالإنجليزية مقالة بينت فيها ما نتج عن هذا التحريف من إفساد للاجتهاد والجهاد‬ ‫أي تحديد الإسلام لنظرية النظر والعمل وتفاعلهما‪.‬‬‫وأريد اليوم ان أشرح التحريف الذي طرأ على علوم الملة فجعلها بالتدريج تصبح أقوالا عديمة‬ ‫السلطان على الأفعال وشرطي قيام الإنسان الحر والكريم‪.‬‬‫لم تعد علوم الملة قادرة على تحقيق استعمار الإنسان في الارض وقيم الاستخلاف فتضفي المعنى‬ ‫عليه وتجعل الدنيا بحق مطية الآخرة لمن يستأهل الخلافة‪.‬‬‫فعمل الغزالي وابن تيمية وابن خلدون هدفه بيان هذا التحريف في علوم الملة الرئيسية‬ ‫(الغزالي) ونظرية العلم (ابن تيمية) ونظرية العمل (ابن خلدون)‪.‬‬‫وحتى أوجز العلاج سأقول إن الامر كله يدور حول تحريف آيتين من القرآن الكريم‪ :‬آل عمران‪7‬‬ ‫وفصلت ‪53‬‬ ‫‪ -1‬أصل التزييف الديني‪.‬‬ ‫‪-2‬أصل التزييف الفلسفي‪.‬‬‫وآل عمران ‪ 7‬تتعلق بالدوافع الواعي منها وغير الواعي وفصلت ‪ 53‬تتعلق بالعوائق‬ ‫الابستمولوجية التي حالت دونهم وفهم توجيهات القرآن لمعرفة حقيقته‪.‬‬‫والعلاقة بين الآيتين هي‪ :‬عدم احترام آل عمران ‪ 7‬المؤدي إلى قلب فصلت ‪ 53‬فأصبح البحث‬ ‫العلمي هروبا من مجاليه وعودة إلى ما حرمته آل عمران ‪.7‬‬‫فحتى يبرروا كل التحريفات التي حصلت عن عدم احترام آل عمران ‪ 7‬تحايلوا ما استطاعوا ‪-‬‬ ‫بمن فيهم الفلاسفة (ابن رشد) ‪ -‬ليبرروا كذبة الراسخين في العلم‪.‬‬‫جعلوهم مثل الله قادرين على تأويل المتشابه ولم يحددوا ما قصده القرآن الكريم باعتبار تأويله‬ ‫ناتجا عن مرض القلب وابتغاء الفتنة‪ :‬فكان المتوقع‪.‬‬ ‫‪24 1‬‬

‫وبهذا المعنى‪ ،‬ففلاسفة المدرسة النقدية حاولوا تدارك تحريف هاتين الآيتين‪ ،‬وهو إن صح‬ ‫التعبير مصدر العائقين الخلقي والمعرفي في علوم الملة كلها‪.‬‬‫ولن استثني من التحريف إلا العلوم الادوات التي يمكن القول إنها كانت بنحو ما سليمة لأنها لا‬ ‫تتعلق بالمضمون الخلقي والمعرفي بل بأدواتهما‪.‬‬ ‫وأقصد بالعلوم الأدوات مبادئ علوم اللسان وعلوم الرياضيات وعلوم المنطق وعلوم التاريخ‪.‬‬ ‫وهي العلوم المساعدة أو أسس منهجية أي معرفة إنسانية‪.‬‬‫لكنها ليس حرزا كافيا ضد التحريف إذا استعملت في مجال هو بمقتضى حده غير قابل للعلم فيكون‬ ‫العلم المزعوم خرافة ووهما مثل معرفة ذات الله وصفاته‪.‬‬‫ما يمكن أن نعلمه عن ذات الله وصفاته هو ما نؤمن به من تمثلات فطرية خاصة إذا أيدها خبر‬ ‫الصادق المعصوم أو الوحي الذي نؤمن به ونصدق مبلغه‪.‬‬‫وحتى أتقدم في البحث أذكر بما أثبته في مقالي بالإنجليزية أثناء مداخلة في ندوة نظمتها كلية‬ ‫علوم الوحي في الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا‪.‬‬‫فقد أثبت أن الاجتهاد والجهاد كلاهما مؤلف من خمس معان‪ :‬أكبر وأصغر وكبير وصغير وأصل‬ ‫يجمع بينها‪ .‬ولا نفهم الأكبر والأصغر في غياب الكبير والصغير‪.‬‬‫والتحريف ألغى الكبير والصغير وبقي يتكلم على الأصغر والأكبر كلاما أجوف فقد التدبير الذي‬ ‫يحقق استعمار الإنسان في الأرض ليكون أهلا للاستخلاف‪.‬‬‫فالاجتهاد مثلا صغيره فقهي وكبيره كلامي‪ .‬لكن تحول الفقه إلى مجرد فنيات صوغ القوانين‬ ‫والكلام إلى أوهام علم الغيب علامة على فقدان الوسيطين‪.‬‬ ‫والوسيطان هما‪:‬‬‫‪ -1‬ما يجعل الفقه علم شروط العمران الذي يحقق حرية الإنسان وكرامته ليكون سيد نفسه‬ ‫بالحريتين الروحية والسياسية‪ .‬كل ذلك غاب فيه‪.‬‬‫‪-2‬ثم ما يجعل الكلام فلسفة في المعرفة تمكن العقل من النقد الذاتي لئلا يتوهم ما لا يستطيع‬ ‫إدراكه فيكون فلسفة نقدية تحرر العلم من وهم معرفة الغيب‪.‬‬‫وهذان الوسيطان الغائبان هما ثمرة اجتهاد ابن خلدون للأول واجتهاد ابن تيمية للثاني وليس‬ ‫لي من فضل عدا اكتشافه وبيانه متحديا الكلفة الكبيرة‪.‬‬‫تسامح أنصاف المثقفين مع موقفي من ابن خلدون لكنهم جرموني بموقفي من ابن تيمية‪ :‬اتهموني‬ ‫بأني اجير لدى الوهابية التي لو فهمت ما قلت لكفرتني‪.‬‬ ‫‪24 2‬‬

‫والجامع بين هذه المعاني الأربعة هو أصلها‪ :‬الاجتهاد هو حرية العقل المبدع في مجالي المعرفة‬ ‫الإنسانية نظرا وتطبيقا‪ :‬علوم الإنسان وعلوم الطبيعة‪.‬‬‫أي إن ابن خلدون وابن تيمية ضمير ما أبدعاه هو تحرير علوم الملة من التحريف أي فهم آل‬ ‫عمران‪ 7‬وفصلت ‪ :53‬البحث في آيات الله في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫إذن الاجتهاد أصغر في الشرائع وأكبر في العقائد وبينهما وسيطان يتعلقان بمجال الشرائع ومجال‬ ‫العقائد أي بالتاريخ والطبيعة والأصل هو حرية العقل‪.‬‬‫والدليل أن الإسلام لا يقتصر في كلامه على الاجتهاد على من يصيب بل على من يحاول بصدق‪:‬‬ ‫ومن ثم فالأساس هو حرية التفكير الصادق في طلب الحقيقة‪.‬‬‫فيكون الاجتهاد هو المعرفة النظرية وتطبيقاتها في العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية بأدواتهما‬ ‫وبشروطهما المعرفية والخلقية‪ :‬ذلك هو الاجتهاد‪.‬‬ ‫ذلك هو تحريف علوم الملة للاجتهاد‪.‬‬‫صارت الأمة بالفقه المبتور وبالكلام المغدور تهدم نفسها من حيث لا تعلم لأنها تحقق ما حذرت منه‬ ‫آل عمران ‪.7‬‬‫فكل أمراض القلوب وابتغاء الفتن مصدرها هذا الفقه المشوه لعلوم الشرائع وهذا الكلام المشوه‬ ‫لعلوم الطبائع وكلاهما لا يعيش إلا بالمتشابه وفيه‪.‬‬ ‫ولأمر الآن إلى الجهاد‪:‬‬ ‫هو بدوره مخمس الأبعاد لتضايفه مع الاجتهاد‪.‬‬ ‫ففيه الاصغر والأكبر وأهمل منه الصغير والكبير والاصل المؤسس لها جميعا‪.‬‬ ‫فالجهاد الأصغر هو القتال‪.‬‬ ‫والجهاد الأكبر هو مجاهدة النفس‪.‬‬ ‫فكيف تقاتل إذا كنت فاقدا لأدوات القتال؟‬ ‫لا بد من جهاد صغير يبدع الأدوات والطرائق‪.‬‬ ‫وذلك هو موضوع الأنفال ‪.60‬‬‫لو نظرنا إلى المسلمين اليوم لوجدناهم كلهم عزلا لا قدرة لهم على حماية أنفسهم لأن من يبيعك‬ ‫السلاح يبيعك ما تجاوزه‪.‬‬ ‫وإذن فلا بد من جهاد صغير يمكن من أدوات الجهاد الأصغر وطرقه أو استراتيجيته‪.‬‬ ‫لكن غياب ذلك جعل الجهاد مقصورا على حماسة الشباب والانتحار‪.‬‬ ‫‪24 3‬‬

‫والجهاد الصغير الضروري للجهاد الاكبر لا يكون إلا بفضل الاجتهاد الصغير الضروري للاجتهاد‬ ‫الأصغر‪ :‬فالقانون الوطني والدولي يحتاج لقوة التنفيذ‪.‬‬ ‫وهذه القوة وخاصة في الدولي هي قوة الاقتصاد والتكنولوجيا‪.‬‬‫ذلك هو الجهاد الصغير الضروري للجهاد الأصغر الذي هو الحرب وهما شرطا الحماية الذاتية‬ ‫للامة‪.‬‬ ‫وإذن فالجهاد الأصغر يحتاج إلى جهاد صغير‪.‬‬‫الباحث العلمي المنتج لأدوات الدفاع الاقتصادي والعسكري مجاهد مثل الجندي في الجبهة بل‬ ‫أكثر‪.‬‬ ‫والجهاد الأكبر (مجاهدة النفس) لا تكفي فيه العبادات على أهميتها‪.‬‬ ‫لابد من علوم التربية والتنشئة المحررتين من النفاق الديني السائد في حضارتنا‪.‬‬ ‫وهذا هو الجهاد الكبير شرطا في الجهاد الاكبر‪.‬‬ ‫ومعاني الجهاد هي بدورها خمسة‪.‬‬ ‫فأصلها هو حرية الإرادة والعقد كحرية العقل والعلم في الاجتهاد‪.‬‬‫والأصلان حرية العقل والاجتهاد وحرية الإرادة والجهاد جمعهما القرآن الكريم في الآية ‪256‬‬ ‫من البقرة وهما المحررتان للإنسان من الإكراه في الدين‪ :‬تبين الرشد من الغي‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن جوهر الديني في الاديان أو الإسلام هو جوهر الفلسفي في الفلسفات أو الحكمة‪:‬‬ ‫حرية العقل وحرية الإرادة هما جوهر الإنسان المسلم‪.‬‬‫فبحرية العقل يبدع الإنسان شروط تعمير الارض وبحرية الإرادة يبدع الإنسان شروط جعل‬ ‫ذلك التعمير محكوما بقيم تؤهل الإنسان لأن يكون خليفة الله‪.‬‬‫ذلك ما فقدناه بتحريف الآيتين اللتين يمكن أن نعتبرهما جوهر أحكام الاجتهاد والجهاد وأساس‬ ‫الفلسفة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون)‪.‬‬ ‫‪24 4‬‬

‫أحد الأغبياء ممن يتطفلون على الفلسفة ادعى لأني قولي بأن جل علوم الملة لم تعد صالحة قد‬ ‫أتيت بدعا متصورا نفسه أعلم بها من فلاسفة النقد الثلاثة‪.‬‬‫وطبيعي فمن يتوهم حلاق أدرى بفلسفة السياسة الإسلامية منهم لا يمكنه أن يفهم دلالة هذا‬ ‫القول ولا أي قول لأن الفلسفة ليست لعبة أطفال وأي دجال‪.‬‬‫ولنبدأ فنبين كيف أن الغزالي في احياء علوم الدين‪-‬وقد سميته فضائح الظاهرية قياسا على‬ ‫كتابه فضائح الباطنية‪ -‬أثبت أنها فقدت الصلة بالدين والدنيا‪.‬‬‫فأي علم بالمنظور القرآني إذا لم يكن عين الصلة بما بينهما من صلة لا يعد علما بأي منهما‪ :‬فلا‬ ‫هو أداة لتعمير الدنيا ولا هو مرقاة للتعالي عليها‪.‬‬‫وحتى يفهم القارئ هذه العلاقة فليشبهها بالثروة‪ :‬هي ضرورية للوجود الدنيوي والأخروي‪.‬‬ ‫ففاقدها يصبح عبدا لها وواجدها إن ملكها حقا تعالى عليها‪.‬‬‫فالإنسان لا يدرك الفقر الوجودي أي ما في الإنسان من فناء واشرئباب للبقاء إ ّلا إذا تجاوز الفقر‬ ‫المادي‪ .‬من يغرق في الفقر المادي عبد للحاجات الدنيا‪.‬‬‫وبهذا اميز بين الزهد الحق والتصوف الذي هو زهد زائف‪ .‬فمن يعاني من الفقر المادي ليس له‬ ‫ما يزهد فيه‪ .‬يزهد من يتعالى على ما يملك فلا ُيملك‪.‬‬ ‫المتصوف في زهده الكاذب من جنس العنين في عفته الكاذبة‪.‬‬ ‫لذلك فهو ليس عبدا للدنيا فحسب بل هو عبد لمن يستبعده بالدنيا يبرر استبداده وفساده‪.‬‬‫ولذلك كانوا يستعبدون العامة بالكرامات الكاذبة ‪-‬مثل خفة الأصابع‪ -‬فيجعلوهم عبيد الأوثان‬ ‫وأكبرها من يسمونهم ولاة الامر معتبرين أفعالهم قضاء وقدر‪.‬‬‫لذلك كانت حركة النهضة في القرنين الماضيين في حرب مع الاستعمار ومع هذه الوثنية التي جعلت‬ ‫الشعوب مستسلمة لما يعد وكأنه قضاء الله وقدره‪.‬‬‫والآن تفهمون لماذا يراد استعادة سلطان هؤلاء الدجالين من جنس دجال اليمن ‪-‬الجفري‪ -‬الذي‬ ‫يقود جوقة الشيشان وكل المخرفين في خدمة الصفوية والصهيونية‪.‬‬ ‫‪24 5‬‬

‫وقد سمعت آخرة أكاذيبه حول إخراج الرسول الخاتم يده ليرد على تحية أحد الدجالين من‬ ‫أمثاله‪ .‬ومن جنسهم دجل الدعاة البكائين وقصصهم المدعومة بكثرة القسم‪.‬‬ ‫أعود إلى الغزالي و\"فضائح الظاهرية\"‪.‬‬ ‫لا يعنيني ما في الكتاب من مضمونات موجبة يعدها الغزالي بديلا مما ينقد‪.‬‬ ‫ما يعنيني هو ما ينقد ولماذا ينقده‪.‬‬ ‫ينقد ما تكلمت عليه في الفصل الأول أي الفقهاء والمتكلمين‪.‬‬‫وهو يركز على أخلاقهم ودوافعهم وخاصة ما يترتب عليهما من ضرر بالأمة وفصل بين الدارين‪.‬‬‫فأما الدوافع فهي دنيوية خالصة‪ :‬خدمة الحكام (الفقهاء) أو خدمة العجب بالنفس والطابع‬ ‫الخصامي (المتكلمون) ومن ثم فليست الحقيقة والعلم قصدهما‪.‬‬ ‫والغريب أن ابن خلدون في سيرته الذاتية يقرب من هذا الرأي وخاصة في الفقهاء‪.‬‬ ‫الاستثناء موجود فهما فقيهان والفضل موجود في غيرهما‪.‬‬ ‫ولست اتكلم على الفقهاء والمتصوفين من فراغ‪.‬‬ ‫فبيئتي مليئة بهم‪.‬‬‫وكان والدي رحمه الله وهو مقدم في القادرية يحدثني كثيرا عن أكاذيب القبوريين من أهل‬ ‫الطرق‪.‬‬‫ولست أجهل أن كبار المقاومين كانوا من قيادات صادقة منتسبة إلى الصوفية السنية مثل الأمير‬ ‫بعد القادر وأبطال ليبيا (المختار والسنوسي) والسودان ومن قاوموا الاستعمار‪.‬‬‫وما يعنيني هو تحريف الاجتهاد والجهاد تحريفهما الراجع إلى تحريف علوم الملة وخاصة الفقه‬ ‫والكلام حول علاقة القانون بالأخلاق والإيمان بالعلم‪.‬‬ ‫فعلاقة القانون بالأخلاق هي الوصلة بين الدارين في الشرائع‬ ‫وعلاقة العلم بالإيمان هي الوصل بين الدارين في العقائد‪:‬‬ ‫فلسفة التاريخ وفلسفة الدين‪.‬‬ ‫فهل يعقل أن يكون الفقيه فقيها إذا فصل بين القانون والأخلاق؟‬ ‫كيف يكون القانون بيد من لا أخلاق له أي المستبد الفاسد ويبقى ذا صلة بالأخلاق؟‬ ‫وهل يعقل أن يكون المتكلم في العقائد مؤمنا بها حقا إذا فصل العلم عن الإيمان؟‬ ‫الكلام بحكم آل عمران ‪ 7‬مرض قلب وابتغاء فتنة وليس علما متصل بإيمان‪.‬‬ ‫لذلك فكل الفتن علتها علم الكلام‪.‬‬ ‫‪24 6‬‬

‫فهو مصدر النحل التي بالتدريج تتحول إلى صيغ عقدية متنافية هي أصل الطائفية في كل الاديان‬ ‫والحروب الأهلية‪.‬‬‫وقد كان الغزالي حكما عدلا‪ :‬وصف الفقهاء بما فيهم خدمة الحكام والدافع طبعا طمع في الدنيا‪.‬‬ ‫كشعراء الكدية‪.‬‬ ‫هؤلاء يضحون بالفن وأولئك بالأخلاق‪.‬‬‫ووصف المتكلمين بما فيهم من طبع منحرف‪ :‬حب الخصومات والزعامات والخطابيات دون طلب‬ ‫للحقيقة‪ .‬فالتبكيت والبروز في المجالس يشبع انتفاخ شخصيتهم‪.‬‬ ‫لكأنه طبق عليهم ما تقوله سابعة آل عمران‪ :‬مرض القلوب وابتغاء الفتنة‪.‬‬ ‫فكلامهم في العقائد من أبلد ما سمعت‪ :‬آية واحدة تغني عن كل الكلام‪ :‬البقرة ‪.177‬‬‫فظنهم أن كلامهم أبلغ وأوضح وأتم مما جاء في القرآن وتفسير النبي له جعلهم كاذبين في الجمع‬ ‫بين العلم والإيمان‪ .‬ودعواهم الدفاع عن الاسلام كذب‪.‬‬ ‫هل معنى ذلك أني أحرم الفقه والكلام؟‬‫أولا أنا لست فقيها فأقدم أحكام الفعل الشرعية حرامها وحلالها بدرجتي التحريم والتحليل‪.‬‬ ‫موضوعي العلمية‪.‬‬ ‫وأقصد ما الذي يجعل الفقه والكلام علميين فلا يبقيان مزيفين؟‬ ‫لا علم فيما يتجاوز الشاهد ولا علم فيما يغفل الشاهد من موضوعه‪.‬‬ ‫وفيهما العيبان‪.‬‬ ‫الفقه يتصوره قابلا للفصل عن الشرعية السياسية فلا يصله به‪.‬‬ ‫والكلام يتكلم في الغيب ويهمل الشاهد رغم أنه يجعله مصدر أساس قيسه للأول عليه‪.‬‬‫ومن ثم فلا يمكن تصور فقه من دون فلسفة سياسية وفلسفة شرائع قانونية وخلقية بها ينتظم‬ ‫العمران حتى يحقق شروط كرامة الإنسان وسعادته في الدارين‪.‬‬‫ولا يمكن تصور علم كلام في العقائد من دون نظرية في الوجود والطبائع تحرر الإنسان من عبادة‬ ‫غير الله فيعمر الأرض بعلم الطبائع ويستأهل الاستخلاف‪.‬‬‫ترك الكلام الشاهد جانبا واهتم بالغيب وكل التخريف متجاوزا سابعة آل عمران ومتوهما أن‬ ‫الرسوخ في العلم يجعله مثل الله قادرا على تأويل الغيب‪.‬‬‫فكان بذلك مصدر كل الفتن التي حولت الدين من رحمة إلى نقمة لأنه صار زيت الحروب الأهلية‬ ‫بين الفرق والطوائف بزعامة مرضى القلوب ومبتغي الفتنة‪.‬‬ ‫‪24 7‬‬

‫وبهذا الكلام يكون الغزالي قد أعد أرضية البديل الذي هو محاولة البحث في علاقة الدارين‬ ‫من خلال علاقة فلسفتين هما فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪.‬‬ ‫والأولى هي مجال إبداع ابن تيمية والثانية هي مجال إبداع ابن خلدون‪.‬‬ ‫فيكون ثالوثنا من مدرسة النقد الفلسفية قد حاول علاج تحريف علوم الملة‪.‬‬‫والسؤال هو لماذا لم يثمر علاجهم فلم تخرج الأمة من المآزق التي أدت إلى الانحطاط في المهمتين‬ ‫اللتين تحددان حقيقة الإنسان في الرؤية القرآنية؟‬ ‫فالأمة فقدت القدرة على تحقيق شروط تعمير الارض المادية والمعرفية‬ ‫والأمة فقدت شروط الاستخلاف لأنها بالانحطاط نكصت إلى قيم الجاهلية دون شك‪.‬‬ ‫أعتقد أن دوري لا يتجاوز أمرين‪:‬‬ ‫بيان ما حققه فلاسفة النقد الثلاثة وهو ليس بالقليل‬ ‫ثم تدارك المفقود في سعيهما وما فيه من علل الفشل الثابت‪.‬‬ ‫وذلك ما أحاوله منذ بدأت تفسير القرآن الكريم‪.‬‬‫صحيح أني قدمت على ذلك محاولة لفهم الغزالي وابن تيمية وابن خلدون لكنه كان عملا أكاديميا‬ ‫خالصا‪.‬‬ ‫لم يكن هدفي منه الانتقال إلى ثمراته العملية‪.‬‬‫لكن الأحداث وضرورة وصلها بما يفسر مجراها ويدل على مرساها فرض أن أضيف الكلام فيها‬ ‫للوصل بينهما‪.‬‬‫فلا ثورة حقيقية من دون أعماق نظرية تضرب بعروقها في رؤية فلسفية مستمدة من أصول‬ ‫الحضارة الإسلامية وخاصة من رؤيتها لذاتها بصوغ كبار مفكريها‪.‬‬ ‫‪24 8‬‬

‫كانت البداية النقدية (تهافت الفلاسفة وخاصة مقدماته) قد حددت دافعه وموضوع النقد‬ ‫وأهدافه دون نفي لدور العقل العلمي المدرك لحدود المعلوم‪.‬‬‫لم يكن قصد الغزالي تحريم الفكر الفلسفي ولا تكفير الفلاسفة كما يدعي خصومه من الحداثيين‬ ‫المزيفين بل إن عمله النقدي كان بداية الفكر الحديث بحق‪.‬‬‫فدافعه ظاهرة مرضية نعيشها الآن وهي أنصاف المثقفين الذين تسكرهم زبيبة فيدعون الممتنع‪:‬‬ ‫ظنوا الفلسفة حربا على الدين وتنصلا من الأخلاق وعلما مطلقا‪.‬‬‫فميز بين الفلاسفة المدركين لحدود العلم والذين لا يدعون علما يقتضي نفي وجود الله ويوم‬ ‫الحساب‪ .‬فما يتجاوز المنطق والرياضيات معرفة ظنية‪.‬‬‫وكان هدف الكتاب الرد بمعرفة ظنية على معرفة ظنية مبينا أن اليقين العلمي الوحيد الذي لا‬ ‫خلاف فيه بينه وبين الفلاسفة هو المنطق والرياضيات‪.‬‬ ‫وبذلك توصل الغزالي إلى تحديد الكاريكاتورين‪:‬‬ ‫من يتصور الدين يشمل مجال العلوم الجوهري‬ ‫ومن يتصور مجال العلوم يشمل مجال الدين الجوهري‪.‬‬‫التهافت فضح للكاريكاتوري أدعياء المعرفة الدينية والمعرفة الفلسفية ومصدر الخلاف بين أنصاف‬ ‫العلماء الخالطين بين المجالين الديني والفلسفي‪.‬‬‫ولو بقي مشروع الغزالي عند هذا الحد لكان الوصل بينه وبين بطلي النقد الفلسفي العربي قابلا‬ ‫لأن يكون دون قطيعة بينهما وبينه‪.‬‬ ‫لكن القطيعة حدثت‪.‬‬‫وقد حدثت في مجال النظر بفضل القفزة النوعية عند ابن تيمية وفي مجال العمل بفضل القفزة‬ ‫النوعية عند ابن خلدون‪ .‬فخرجنا من الفكر القديم والوسيط‪.‬‬ ‫ما القطيعة؟‬‫بعد هذا النقد الدقيق والمحدد موضوعا وأهدافا ودوافع قدم الغزالي حلا ترقيعيا فعالج شكل‬ ‫علوم الملة ومضمونها بالمنطق والتصوف‪.‬‬ ‫‪24 9‬‬

‫القطع مع حله ‪-‬ابن تيمية في النظر وابن خلدون في العمل‪ -‬تجاوز النقد ‪-‬ظاهر الإشكال‪ -‬إلى‬ ‫عمقه الابستيمولوجي (ابن تيمية) والأكسيولوجي (ابن خلدون)‪.‬‬‫وسأحاول في هذا الفصل الثالث بيان طبيعة القطع مع الحل النظري الذي قدمه الغزالي والوعي‬ ‫الحاد بطبيعة الإشكال الابستيمولوجي عند ابن تيمية‪.‬‬‫فالعلاج لا يقتصر على تبني المنطق لإصلاح علوم الملة من حيث أسسها النظرية بل البحث في تأسيس‬ ‫يصلح الفلسفة بتجاوز نظرية المعرفة الدغمائية‪.‬‬‫انقلبت العلاقة‪ :‬اكتشف ابن تيمية أن ما يحتاج إلى الإصلاح مشترك بين الفلسفة والدين وأنه‬ ‫يتجاوز التقابل بينهما لتعلقه بنظرية المعرفة والوجود‪.‬‬ ‫والأمر شديد اللطافة والدقة‪.‬‬‫لذلك لا أعجب من الغفلة عنه‪ :‬سأل ابن تيمية عن مناط التعارض هل هو مضمون المعرفة العقلية‬ ‫أم قدرة العقل المعرفية؟‬‫ولا أشك أن غير المتطفلين على الفلسفة من الباحثين الجديين سيطلب دليل ما أقدمه هنا من‬ ‫أعمال الرجل أو مما سبق أن قدمته من بحوث أكاديمية حولها‪.‬‬‫المهم أن ابن تيمية قلب الأمر كله في درء التعارض‪ :‬بدلا من الكلام على المقابلة بين مضمونين‬ ‫سأل عن القدرة المحصلة للمضمونين هل هي واحدة أم لا؟‬ ‫وبذلك صار البحث ابستمولوجيا وليس طلبا للتوفيق بين العقل والنقل‪.‬‬ ‫فأخرج الفكر الإسلامي من مأزق نظرية معرفة تؤدي إلى العلاقة التقابلية بينهما‪.‬‬‫وعندئذ تبين أن الفلسفة أحوج إلى الإصلاح من الدين‪ :‬فهو أدرك حدود القدرة العقلية في‬ ‫معرفة الوجود وتحرر من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة‪.‬‬‫ولهذه العلة فأكبر ثورة حققها ابن تيمية هي نظرية التصور القاصر دائما وأن كل تصور وراءه‬ ‫تصور أدق وأعمق بلا حد ولا نهاية لاستحالة التطابق‪.‬‬ ‫وبعبارة خلدونية‪ ،‬الوجود لا يقبل الرد للإدراك أبدا‪.‬‬‫ما ندركه منه ليس ترائيا تاما للوجود على مرآة العقل بل هو صورة ينتجها عنه العقل بحدود‬ ‫قدرته‪ .‬فالعقل ليس كاميرا بل رسام‪.‬‬‫وبالتحرر من القول بالمطابقة يعود ابن تيمية إلى المنطق ليبين أنه لا يمثل الحل‪ :‬فاعتماده على‬ ‫المطابقة يجعله مشروطا بالإنسان مقياس كل شيء‪.‬‬ ‫‪24 10‬‬

‫وإذا كان العقل من حيث هو قدرة معرفية واحدا في المعرفة التي تسمى عقلية وفي المعرفة التي‬ ‫تسمى نقلية فبم تتعارض المعرفتان وبم تتمايزان إذن؟‬‫الفرق بين المعرفتين هو طبيعة نظرية المعرفة‪ :‬هل ما يعلمه العقل الإنساني حقيقة مطلقة فيكون‬ ‫الوجود مطلق الشفافية يتطابق فيه الإدراك والوجود؟‬‫ما يدعيه الفلاسفة وتبناه المتكلمون (الرازي نموذجا) هو وهم اعتبار ما يعلمه العقل هو عين‬ ‫حقيقة الوجود‪ :‬علة القول بتأويل النقل ليطابق العقل‪.‬‬‫فيكون الخطأ متمثلا في المقارنة بين مضمونين أحدهما يسمونه عقليا والثاني نقليا والاول يرونه‬ ‫مطابقا للحقيقة المطلقة والثاني خيالات للعامة‪.‬‬‫لكأن الفلاسفة والمتكلمين كانوا ماركسيين قبل ماركس‪ :‬الدين إيديولوجيا شعبية والحقيقة‬ ‫\"العلمية\" هي ما يدركه الفلاسفة والمتكلمون بنظرية المطابقة‪.‬‬‫قوة ابن تيمية جاءت في مفهوم شديد اللطافة \"صريح المعقول\"‪ .‬الصريح هنا لا تعني الصراحة‬ ‫بل الصُراح‪ .‬القصد الخالص لا العلني‪ :‬أعني شكلا بلا مضمون‪.‬‬‫وهذا الشكل الخالص هو القدرة العقلية المشتركة بين العلمي والديني‪ .‬وكلاهما له مضمون‬ ‫مستمد من مجال تجريبي مختلف‪ .‬حسي للأول ووجداني للثاني‪.‬‬‫والوجداني يجعل الإنسان يدرك أن الوجود أوسع من الإدراك‪ .‬فالوجدان يذوق الفرق بين‬ ‫الإدراك وما يتعالى عليه كما في الحب والجمال والخشية الجلال‪.‬‬‫وكل من يتصور الوجود مقصورا على الإدراك فهو عديم الوجدان لا يذوق جمالا ولا يخشى‬ ‫جلالا‪ .‬عقله سديم حدسه وعقيم وجدانه وبهيم فكره وسقيم بصيرته‪.‬‬‫وزبدة القول إن ابن تيمية نقل الإشكال كله إلى البحث الابستيمولوجي‪ :‬ما المعرفة العلمية وما‬ ‫شروطها وكيف يكون العقل أفضل بعلم حدود ما يستطيع‪.‬‬‫وهو بذلك يوافق الغزالي حتى إن اختلف معه مطلق الاختلاف‪ :‬يوافقه على أن المدخل لإصلاح‬ ‫علوم الملة يكون بنقد الفلسفة قبلها ويختلف معه في الحل‪.‬‬‫الغزالي نقد الفلسفة وتبنى رؤيتها‪ .‬وابن تيمية نقد الرؤية نفسها‪ .‬ومنذئذ لم تتجاوز الفلسفة‬ ‫هذا المدخل‪ :‬عودة على الذات لنقد رؤيتها للعقل والوجود‪.‬‬‫وفي الفضاء الذي خلا بين المعلوم واللامعلوم من الوجود ظهر محل المذوق منه أي مجال الجمالي‬ ‫والجلالي من تجارب الإنسان اساس كل ذوق روحي وديني‪.‬‬ ‫‪24 11‬‬

‫وتلك هي بداية تجاوز علم الكلام إلى فلسفة الدين وتجاوز الفقه العقيم إلى فلسفة التاريخ‬ ‫التي تصل بين القانونين اللذين يحكمان حياة الإنسان‪.‬‬‫فعلم الشرائع بديل من عقيم الفقه إنه علم علاقة القانون الطبيعي بالقانون الخلقي لتنظيم‬ ‫العمران البشري تنظيما سياسيا خلقيا بالتربية والحكم‪.‬‬ ‫وتلك هي ثورة ابن خلدون‬ ‫ولذلك اعتبرت ثورة ابن تيمية شرط إمكان لثورة ابن خلدون‪.‬‬ ‫ولأني لم أجد تعليلا يرضيني لثورة الثاني اكتشفت ثورة الأول‪.‬‬‫فثورة ابن خلدون في تغيير علم الشرائع لم أجد لها تأسيسا في تراثنا الفلسفي ولا في تراث‬ ‫يونان‪ .‬وهو ما دعاني للبحث في تراثنا غير الفلسفي التقليدي‪.‬‬‫فكانت النتيجة أن تجاوز التراث الفلسفي التقليدي جاء من غيره أي من محاولات نقده وذلك‬ ‫لعلتين‪ :‬معرفية (عقل نقل) وسياسية (باطنية سنة)‪.‬‬‫لو اكتفينا بالظاهر لقلنا إن السنة نقلية والباطنية عقلية‪ .‬لكن المدرسة النقدية بينت أن فلسفة‬ ‫الباطنية فكر سطحي هدفه تأسيس التعليمية الباطنية‪.‬‬‫ومن ثم فالفلسفة الحديثة التي تحررت من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة أنشأها هذا النقد‬ ‫الجذري لدعاوى الباطنية في الفلسفة القديمة والوسيطة‪.‬‬‫وما كان بوسع ابن تيمية أن يقول ما قال في منطق ارسطو لو لم يكن على بينة من علاقة التحليلات‬ ‫الأوائل بالتحليلات الأواخر الأرسطية‪ :‬بيت القصيد‪.‬‬‫فهو لا يجادل في المنطق الصوري (الأوائل) ما ظل يعمل على متغيرات مجردة (أ‪ .‬ب‪.‬ج) بل ما‬ ‫يتلو عن ملء هذه المتغيرات بقيم وجودية (الأواخر)‪.‬‬‫فهذا الملء يفترض نظرية المطابقة أولا (غاية الأواخر) ويفترض أن قطع التسلسل كضرورة‬ ‫للتأسيس المعرفي يجعل الوجود خاضعا لشروط معرفته (بدايتها)‪.‬‬‫فبمجرد أن نفترض أن ذلك ضروري للمعرفة النسبية نميز بين الوجود وإدراكه فنكتشف أن‬ ‫الفرق بينهما لا يقبل الاستنفاد فيصبح العلم نسبيا ومتواضعا‪.‬‬‫وحينها يصبح الكلام على ضرورة رد المنقول للمعقول ليس دليل عقل فلسفي بل دليل سذاجة‬ ‫فلسفية‪ :‬ما به يتجاوز الوجدان الذوقي الإدراك العقلي لامتناه‪.‬‬‫وذلك هو مجال الفنون والاديان وكل التجارب الروحية التي لا تقتصر على الذريعيات المعرفية‬ ‫بل إن المعرفة نفسها سموها يكون بمقدار إدراكها حدودها‪.‬‬ ‫‪24 12‬‬

‫وكنت دائما أتساءل عن عدم الانتقال إلى فائدة النقد التيمي في مجالي نظرية العلم ونظرية ما‬ ‫يتعالى عليه من مجال الوجدان كما حددناه هنا؟‬‫والجواب لم يفتح الله علي اكتشافه إلا بعد أن ربطت المسألة بما آل إليه تحريف التصوف المتفلسف‬ ‫لهذا الفضاء الناتج عن الفرق بين العقلي والوجداني‪.‬‬‫وهذا الفتح الرباني لم يأت بالصدفة بل كان ثمرة قراءتي لكتاب ابن خلدون شفاء السائل‪ .‬ففيه‬ ‫كتب ابن خلدون فصلا في الشطح يبين فيه اللاانقيالية‪.‬‬‫الوجداني نذوقه ولا نستطيع قوله‪ .‬وفي الحقيقة هو غير مقصور على الوجداني بالمقابل مع‬ ‫المعقولي بل هو يشمل اللامعقول واللامقول في كل مداركنا‪.‬‬‫فحتى مدارك الحواس الخارجية فإن ما ينقال منها هو المشترك بين الذوات ‪Intersubjectif‬‬ ‫; وهو قليل بالقياس إلى ما لا ينقال‪ :‬وهو شخصي وفردي مطلق‬‫ما أراه وما أسمعه وما أشمه وما ألمسه فيه من الذوق الفردي الذي لا يمكن لأحد أن يشاركني‬ ‫فيه‪ .‬وما لا يشاركني فيه أحد أذوقه ولا أستطيع قوله‪.‬‬ ‫وهو البعد الوجداني في كل إدراك للوجود بما في ذلك الإدراك الحسي المباشر والبسيط‪.‬‬ ‫ويبلغ ذلك الذروة عندما تجتمع كل الحواس في الحس المطلق‪.‬‬‫والحس المطلق هو اللذة الجنسية عندما تكون تامة فتبلغ ذروتها وهي اجتماع كل الحواس في لقاء‬ ‫يتجاوز الانفصال بين ذاتين متحابتين سر الوجود الحي‪.‬‬‫ولذلك فالمثال الذي يضربه الغزالي حول خصوصية المدارك في مستوى ما لا ينقال منها هو عجز‬ ‫الإنسان العنين (العاجز جنسيا) عن فهم اللذة الجنسية‪.‬‬‫وهذا الذوق ليس معرفة قابلة للقول إلا بقياس بعيد وهو أن المتلقي للخطاب يؤوله بقياسه على‬ ‫تجاربه أي بتخليصه من فرديته ورده إلى المشترك‪.‬‬‫ابن تيمية في رده على التصوف بمنطق سد الذرائع دون أن يذهب إلى نفي مفهوم الذوق‬ ‫الوجداني لم يصل إلى الحل الخلدوني‪ :‬الاعتراف به ونفي انقياله‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فالثالوث كما سأبين في الفصلين المواليين متكامل‪:‬‬ ‫كل واحد منهم تقدم خطوة في حل معضلة التحريفين الفلسفي والديني في بداية جديدة‪.‬‬ ‫‪24 13‬‬

‫والخطوة الأخيرة في مدرسة النقد الفلسفية ‪-‬خصصت لها ضميمة المثالية الألمانية‪ -‬هي مرحلة‬ ‫ابن خلدون مؤسس علوم الإنسان تأسيس أرسطو لعلوم الطبيعة‪.‬‬‫والمشكلة مع ابن خلدون أعسر بكثير من المشكلة حتى مع ابن تيمية‪ :‬فالحداثيون المزيفون‬ ‫استبعدوا هذا بحجة ظلاميته وأفسدوا الثاني بحجة تنويره‪.‬‬‫وتنوير ابن خلدون هو ما تصوروه كونتيا أو ماركسيا فيه وطلب للدور في علاج عقدهم بالبحث‬ ‫عن مثيل لما يعبدون ما أعماهم عن رؤية إبداعه الحقيقي‪.‬‬‫وأكبر الأدلة على أنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون هو أن من استنوروه لم يكن أفضل حظا ممن‬ ‫استظلموه‪ :‬فلم يروا الابداع لأنهم يعبدون الاتباع‪.‬‬ ‫ابداع ابن خلدون أعمق من مجرد تأسيس علم الاجتماع القابل للتشكيك‪.‬‬ ‫إبداعه الفلسفي أسس لعلوم الإنسان كلها بدأ بفلسفة العلم العقلي وختما بالنقلي‪.‬‬ ‫ولذلك فهو أرسطو علوم الإنسان‪.‬‬‫وما كان ليكون أرسطوها لو لم يتجاوز ابستمولوجية أرسطو‪ :‬نظرية المطابقة وحصر العلمي في‬ ‫الكلي يخرج التاريخي من العلمي‪.‬‬‫وإخراج التاريخي من العلمي علته حصر العلمي في الكلي اللاتاريخي وهو مبدأ صريح في‬ ‫أبستمولوجية أرسطو وكل الموروث الفلسفي لغاية الفكر الوسيط‪.‬‬‫لم يستنوروا ابن خلدون بسبب إبداعه بل بسبب ما ظنوا أنهم قد وجدوه فيه من أوغست كونت‬ ‫وماركس‪.‬‬ ‫ولم يستظلموا ابن تيمية لأنه ليس فيه ما يعبدون‪.‬‬‫في الحالتين هم لا يطلبون المعرفة ولا الحقيقة بل علاج أمراضهم النفسية‪ :‬البحث في تراثنا عما‬ ‫في تراث أسيادهم وتأييد أسيادهم بالحط مما لا يرضيهم‪.‬‬‫وليس عندي حجة أخرى في وصفهم بكاريكاتور الحداثة غير هذا الموقف الذي هو واحد‪ :‬التسليم‬ ‫بـ\"سردية\" تدل على عقد نفسية إزاء من جعلوه معيار تقييم‪.‬‬ ‫وهم بذلك لا يختلفون عمن سميتهم كاريكاتور التأصيل‪.‬‬ ‫‪24 14‬‬

‫كلاهما سلفي بالمعنى السلبي‪.‬‬ ‫هذا يوثن الماضي ماضينا وذاك ماضي الغرب‪.‬‬ ‫فلا يبقى للإبداع محل‪.‬‬‫فاعتبار التاريخ علما فلسفيا حقق ثورتين‪ :‬دحض نظرية أرسطو في نفي العلمية عن التاريخ‬ ‫وتجاوز الفلسفة القديمة والوسيطة بجعل المعلوم تاريخيا‪.‬‬‫المعلوم الفلسفي في الفكر الفلسفي القديم والوسيط لا تاريخي لأنه الكلي ولأنه الانعكاس التام‬ ‫للواقع على الفكر أو المطابقة بين العلم والمعلوم‪.‬‬ ‫لكن الأعمق من ذلك كله هو أن التاريخ لم يعد علما بموضوع بل نقدا لإدراكنا لموضوع‪.‬‬ ‫فهو نقد الأخبار على موضوع جديد لم يكن موجودا في الفلسفة‪.‬‬‫وهذا الموضوع الجديد يناظر موضوع الفلسفة ويشمله بل صار هو الاصل البديل منه‪ :‬العمران‬ ‫البشري والاجتماع الإنساني‪ .‬التاريخ نقد الأخبار المتعلقة به‪.‬‬‫فالفلسفة القديمة والوسيطة علمها الرئيس الميتافيزيقا والفلسفة التي بدأت مع ابن خلدون علمها‬ ‫الرئيس علم العمران البشري والاجتماع الإنساني‬‫ولذلك اضطررت لوضع مفهوم جديد في رئاسة العلوم يتجاوز المفهوم اليوناني‪ :‬إنه ما بعد الأخلاق‬ ‫بديلا مما بعد الطبيعة‪.‬‬ ‫الاساس الحضارة وليس الطبيعة‪.‬‬‫وهذا المنظور ليس فلسفيا بل هو ما تبنته الفلسفة من النظرة الدينية‪ :‬تاريخ الإنسانية الروحي‬ ‫والخلقي والسياسي والحضاري هو المنطلق لكل ما عداه‪.‬‬‫مقدمة ابن خلدون تقبل الرد إلى هذه الثورة وهذا كاف‪ :‬كيف قلبت تأسيس الفكر الإنسان‬ ‫فجعلت ما بعد الخلقي والتاريخي بديلا مما بعد الطبيعي واللاتاريخي‪.‬‬‫وأي قارئ مهما كان غافلا عن تاريخ الفكر الإنساني يلاحظ أن المقدمة بأبوابها الستة تنتظم‬ ‫بتطور علاقة الثقافة بالطبيعة موضوعا للعلم الجديد‪.‬‬‫فإذا قرأتها صاعدا من الباب الأول إلى الأخير رأيت تناقص دور الطبيعة وتزايد دور الثقافة‬ ‫وإذا قرأتها نازلا من الاخير إلى الأول رأيت العكس‪.‬‬‫والباب الأول يحدد طبيعة العلاقة بينهما‪ .‬الثالث من الخمسة الباقية أي باب المدينة نهاية‬ ‫البداوة وذروة الحضارة أوضح لقاء بين الطبيعة والثقافة‪.‬‬ ‫‪24 15‬‬

‫فالمدينة هي كل التاريخ الإنساني من أدنى مراحله إلى أعلاها وهي التي تحيط بالطبيعي والثقافي‬ ‫لأنها عين تثقيف الطبيعة وتطبيع الثقافة في حضارة‪.‬‬‫فقبل المدينة العمران البدوي والدولة وبعدها الاقتصاد والعلم بشروطهما التي لا تكون إلا‬ ‫بفضل الدولة والمدينة الناقلتين من البداوة إلى الحضارة‪.‬‬‫وإذا عكسنا وجدنا أن العلوم (الباب ‪ )6‬والاقتصاد (الباب ‪ )5‬هما أداتا العمران الحضري‬ ‫الفاعل في الطبيعة المتعينة في العمران البدوي لتثقيفه‪.‬‬‫و\"تثقيفه\" ينبغي فهمها بمعناها العربي الأصيل أي إزالة ما فيه مما يتنافى مع سلاسة الحضارة‬ ‫وتهذيبها حتى يصبح لها السلطان على الطبيعة بدل العكس‪.‬‬‫وبهذا المعنى يمكن القول إن الفلسفة القديمة والوسيطة قبل ثورة ابن خلدون كانت خاضعة‬ ‫لرؤية لم تصل إلى سلطان الإنسان على الطبيعة‪ :‬تلك ثورته‪.‬‬‫بقي علي أن أثبت دعويين قدمتهما دون دليل من المقدمة‪ .‬لكن المتفحص للإشارات الخلدونية‬ ‫السريعة والعميقة لا يمكن أن يغفل أصل الدعويين ودليلهما‪.‬‬‫فأما الدعوى الأولى فهي اعتباري ابن خلدون قد حقق الشرط الذي يجعل الفقه يتجاوز مأزقه‬ ‫بتجاوز آخر حلوله رغم مقارنة عمله به‪ :‬مقاصد الشريعة‪.‬‬‫وأما الدعوى الثانية فتتعلق بما اعتبرته تجاوزا للميتافيزيقا وتعويضها بما أطلقت عليه اسم ما‬ ‫بعد الأخلاق أو ما بعد التاريخ بوصفه عمل الإنسان‪.‬‬‫وسأبدأ بهذه لأنها الايسر إثباتا‪ :‬ففي مقدمة المقدمة تكلم ابن خلدون عن علمه الجديد وعن‬ ‫محاولة تأسيسه وتأصيله معتبرا ذلك خروجا على مبدأ أرسطي‪.‬‬‫والمبدأ الارسطي هو أن كل العلوم الجزئية لا تؤسس نفسها بل تتسلم أسسها وتترك مهمة التأسيس‬ ‫لعلم أعلى منها يحيل في النهاية إلى الميتافيزيقا‪.‬‬‫وهو في الحقيقة بوعي أو بغير وعي أدرك امرين‪ :‬هذا العلم لا تؤسسه الميتافيزيقا وهو في‬ ‫الحقيقة بديل منها يؤسس كل العلوم بما فيها الميتافيزيقا‪.‬‬‫وإذن فابن خلدون لم يعتدي على قاعدة من الأبستمولوجيا الأرسطية بل هو تجاوزها لأنها لا‬ ‫تؤسس هذا العلم الجديد كعلم رئيس بديل من الميتافيزيقا‪.‬‬‫ومن يربط الاعتذار الخلدوني عن تأسيس علمه باعتباره يعتدي على مبدأ أرسطي في بداية‬ ‫الكتاب مع دحض \"الفلسفة\" في غايته يفهم أن الاعتذار خطابي‪.‬‬‫أمر الآن إلى المسألة الثانية‪ :‬هل المقدمة تؤسس لعلم الشرائع الذي من دونه كان الفقه متبورا؟‬ ‫‪24 16‬‬

‫هل هي علم للموضوع الذي يعد مجال الشرائع عامة؟‬‫ما القصد بالشرائع؟ هي ما يضيفه الإنسان سواء بإبداعه أو بما ينسبه إلى الله من تشريعات‬ ‫إلى الطبيعة منطلق العمران البشري والاجتماع الإنساني‬‫الفقه المقتصر على استخراج الأحكام عقيم‪ .‬فحتى بمعناه التقليدي لا بد له من تحقيق مناطها‬ ‫وهو مشروط بكل العلوم الإنسانية اي مضمون المقدمة كله‪.‬‬‫إشارة صريحة لوجه شبه بين علم المقاصد (لمعاصره الشاطبي) وعلم العمران البشري والاجتماع‬ ‫الإنساني‪ .‬لكنه يعطيها معنى أعم من مقاصد الشريعة‪.‬‬‫وهذا المعنى الأعم هو مقاصد العمران البشري سواء كانت نابعة من شريعة سماوية أومن عمل‬ ‫الإنسان فكل أعمال الإنسان تشريعات للطبائع نظريا وعمليا‪.‬‬‫ابن خلدون طبق فصلت ‪ 53‬حرفيا لم يبحث في النصوص بل عمل بما أشارت إليه‪ :‬البحث في الآفاق‬ ‫والانفس لحل معضلات العمران البشري والاجتماع الإنساني‪.‬‬‫ويبقى مع ذلك السؤال الجوهري‪ :‬إذا كان ما قام به الغزالي وابن تيمية وابن خلدون بالحال‬ ‫التي وصفت فلم انحطت الحضارة الإسلامية وجف ضرع الإبداع؟‬‫فمن اليسير أن يرد على ما قدمته بأن الثورات بثمراتها وما ذكرته لم يثمر ما ينبغي أن يحصل‬ ‫لو كان صحيحا‪.‬‬ ‫وهو اعتراض وجيه ولم يفت ابن خلدون‪.‬‬‫فقد أشار إلى أن الخراب الذي عم الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط يقابله نشاط حثيث في العلوم‬ ‫في الضفة الشمالية‪.‬‬ ‫ولهذا تكلم على انقلابة كونية‪.‬‬‫بل هو اعتبر كتابه المقدمة ‪-‬وله حسب رأيه ما يجانسه قبله من قصد التأليف‪ -‬رصدا لتحول كيفي‬ ‫في التاريخ المديد يكون اساسا لفهم التاريخ القصير‪.‬‬‫كان ابن خلدون هو نفسه مدركا لما حل بالحضارة الإسلامية من وهن فعلي وهذا الإدراك دليل‬ ‫وعي بعلله وبشروط تجاوزه وهو ما أتكلم عليه في المحاولة‪.‬‬‫والاعتراض على وجاهته بحاجة للتنسيب لأن كل الحضارات قبلنا حصلت لها ظاهرة الومضة‬ ‫الاخيرة التي تمثل غاية إبداعها الذي بقي نظريا ولم يثمر عمليا‪.‬‬‫لكن عدم الإثمار في الحضارة الإسلامية قابل للتفسير بعوامل داخلية وخارجية كلها كانت عوامل‬ ‫تخريب حضاري انضاف إليها في عهد ابن خلدون الطاعون‪.‬‬ ‫‪24 17‬‬

‫فالهمجية أحاطت بالحضارة الإسلامية خارجيا من الشرق (المغول) ومن الغرب(الصليبيات)‬ ‫وتلتها حروب الاسترداد مع الحرب الأهلية بين العصبيات الحاكمة‪.‬‬‫فخربت مؤسسات العلم وأفني العلماء وهدمت المعالم تقريبا من جنس ما يحدث حاليا في عواصم‬ ‫الوطن العربي الواحدة بعد الأخرى‪ :‬فتصوملت دار الإسلام‪.‬‬‫ولولا علاقة ما جرى بما يجري لما خصصت كل هذا الوقت لاطلاع الشباب على أن المستقبل شروط‬ ‫جعله مجيدا متوفرة‪ :‬فمن جدوده هؤلاء يمكن أن يتجاوزهم‪.‬‬ ‫‪24 18‬‬

‫ننهي الكلام في المدخل لإصلاح علوم الملة بعد أن بينا طبيعة الثورة التي تحققت لتجاوز التحريفين‬ ‫الفلسفي والديني بمعيار آل عمران ‪ 7‬وفصلت ‪.53‬‬‫وأجبنا عن الاعتراض الذي يشكك في الثورة النقدية بدعوى عدم حصول نتائج في الواقع الفعلي‬ ‫بعموم الظاهرة فجل الحضارات انهارت لحظة بلوغ الذروة‪.‬‬‫كذلك حصل للمصريين والبابليين واليونان وحتى روما وحتى الاتحاد السوفياتي أخيرا لأنه لم‬ ‫يكن متخلفا علميا ولا تقنيا بل بسبب حيثيات يعسر حصرها‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أن أومن بأن للحضارات عمرا محدودا بل هي مثل الظاهرات الحية تتوالى أجيالها‬ ‫وأحيانا تسبت فتتوقف لوقت وتلك حال حضارتنا الإسلامية‪.‬‬‫وهي الآن في آخر لحظات سباتها لأن حركتها تزداد زخما في كل المناشط ولدى كل شعوبها متعددة‬ ‫الإثنيات والمذاهب والمستويات التنموية والحضارية‪.‬‬‫وما يعنيني في بحثي هو قلب الحضارة الإسلامية أي استئناف دور السنة فيها وخاصة مؤسسي دولة‬ ‫الإسلام والمحافظين عليها إلى حرب التحرير من الاستعمار‬‫والفصل الخامس والاخير أخصصه لغاية عمل المدرسة النقدية في ما يمكن تسميته الصوغ الأخير‬ ‫لتجاوز عصر العلوم الزائفة أو المنعرج الحاسم نحو الحداثة‪.‬‬ ‫والهدف الجواب عن سؤالين‪:‬‬‫‪-1‬ما البديل الذي اقترحه ابن خلدون للتحرر من فساد معاني الإنسانية بإصلاح نظامي التربية‬ ‫والحكم‬ ‫‪-2‬وما شروط الاستئناف؟‬ ‫السؤال الأول‪ :‬يسير وعسير في آن‪.‬‬‫إنه بكل بساطة خطة المقدمة نفسها وفيها محاكاة لأسلوب العلاج القرآني قسم نقدي لطبائع‬ ‫العمران وقسم بنائي لشرائعه‪.‬‬‫بينت في بحث الدراسات القرآنية غفلة الحداثيين عن ثورة الإسلام الروحية والسياسية في القرآن‬ ‫علاجا ينقد الماضي ويقدم مشروع المستقبل البديل‪.‬‬ ‫‪24 19‬‬

‫وتجارب الماضي التي ينقدها كلها تجارب نكوص إلى القانون الطبيعي وابتعاد على القانون الخلقي‬ ‫بمعنى سلطان الطبائع على الشرائع في التاريخ الفعلي‪.‬‬‫ومشروع المستقبل هو بناء نظام سياسي ببعديه التربية والحكم ليستعيد سلطان الشرائع على‬ ‫الطبائع وتمكين الإنسان من تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫نفس هذه الخطة يتبعها ابن خلدون في المقدمة دون أن يكون ذلك نسخا للعلاج القرآني إلا من‬ ‫حيث البنية العلاجية‪ :‬نقد الموجود وتحديد شروط المنشود‪.‬‬ ‫أطلب من القارئ أن يفتح المقدمة ويبدأ بالباب الأول‪.‬‬‫ينقسم الباب الأول إلى خمسة أقسام وأصل‪ :‬الشرط الجغرافي‪-‬المناخي فالثقافي‪-‬الرمزي فالتأثير‬ ‫المتبادل باتجاهيه‪.‬‬‫والأصل هو علاقة بين الإنسان والقوة الإلهية وحيرة المستقبل متعينة في طلب نظام متعال للسكن‬ ‫في العالم باطمئنان أو الدين أصلا للعناصر الأربعة‪.‬‬‫الباب الأول يمثل إذن وضع المقدمات الأساسية لبناء المشروع بوجهيه النقدي والبنائي في الأبواب‬ ‫الخمسة للعلوم الخمسة التي يتألف منها المشروع‪.‬‬‫الباب الثاني لما قبل الدولة والباب الثالث للدولة والباب الرابع للمدينة والباب الخامس للاقتصاد‬ ‫والباب السادس للعلوم والتربية واللغة والفنون‪ :‬علوم الشرائع أو الثقافة‪.‬‬‫فهذه علوم الثقافة أو الشرائع التي أدخلها الإنسان على الطبيعة فيه وخارجه إذ هو القطب‬ ‫الثاني في علاقته بالقطب الاول أو القوة الإلهية الناظمة للكون‪.‬‬‫عناصر المعادلة الوجودية‪ :‬القطب الأول (الله) والوسيطان الطبيعة والتاريخ والقطب الثاني‬ ‫(الإنسان) والتواصل بين المباشر القطبين وغير المباشر بتوسط الوسيطين‪.‬‬‫الباب الأول هو الذي وضع المقدمات والحدين (الطبيعة والثقافة) والإنسان المشرئب لما يتعالى‬ ‫عليهما على تفاعلهما أساسا لانتظام مقامه في العالم‬ ‫أما الابواب الخمسة الباقية فهي تعالج نظرية الشرائع أي‬ ‫‪ -1‬الجماعة‬ ‫‪-2‬فالدولة والحكم‬ ‫‪-3‬فالمدينة‬ ‫‪-4‬فالاقتصاد‬ ‫‪-5‬فالثقافة والتربية‪ :‬موضوع التاريخ‪.‬‬ ‫‪24 20‬‬

‫وإذن فالتاريخ بوصفه ما بعد هذه العلوم يدرس نقديا الأخبار العلمية حول هذه المجالات هو إذن‬ ‫الرئيس البديل من الميتافيزيقا‪ :‬وقد سميته ميتاأخلاق‪.‬‬ ‫فما القصد بالميتاأخلاق؟‬‫الشرائع أي إضافة الثقافي للطبيعي هي أفعال الإنسان في محيطيه الطبيعي والثقافي وفي ذاته‬ ‫حصيلة لعلاقة الطبيعي والثقافي‪.‬‬ ‫وشرط هذه الأفعال خاصية طبيعية للإنسان‪.‬‬‫فكما بين ابن خلدون في الباب الأول فهو كائن طبيعي ومتعال على الطبيعة حوله وفيه بخاصيتي‪:‬‬ ‫الحرية والفكر‪.‬‬‫والحرية هي شرط هذا الاشرئباب إلى تجاوز الحاضر والتشوف للمستقبل ومن ثم فهو يطفو فوق‬ ‫مجرى الأحداث إلى ما يضفي عليها المعنى‪ :‬وهذا أساس الدين‪.‬‬‫ولهذه العلة كان الباب الأول المؤسس لمقدمات علمه مؤلفا من الشروط الطبيعية (الجغرافيا‬ ‫والمناخ) والشروط الرمزية (التعالي على الشروط الطبيعية)‪.‬‬‫وهذا التعالي على الشروط الطبيعية هو أصل الشرائع أي ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة ليصبح‬ ‫العالم قابلا لأن يكون مقاما له يستمد منه معاشه وانسه‪.‬‬‫واستمداد المعاش هو موضوع العمران البشري واستمداد الأنس هو موضوع الاجتماع الإنساني‪.‬‬ ‫وشرطهما الحرية والفكر اساسي التعالي على الغرق في الطبيعي‪.‬‬‫ومن ثم فالطبيعي في الإنسان وفي محيطه مصدر عيشه يتحددان بصورة الإنسان عنهما وبتعامله‬ ‫معها فيكون الأساس ما بعد الأخلاق وليس ما بعد الطبيعة‪.‬‬‫والقصد بما بعد الأخلاق هو ما يجعل الإنسان يعود على كيانه ومحيطه الطبيعيين ليسود عليهما‬ ‫بدلا من أن يكون مسودا بهما وتلك هي الحرية والفكر‪.‬‬‫فيكون ما بعد الأخلاق هو هذه العلاقة بين الإنسان والله أو أي قوة تشغل محله (قوى الطبيعة‬ ‫في الأديان البدائية) وهما قطبا المعادلة الوجودية‪.‬‬‫فيكون العلم الرئيس هو هذه الرؤية للشرائع بوصفها ثمرة تواصل وتبادل بين الإنسان وما بعد‬ ‫بعديه ومحيطيه الطبيعي والثقافي (الطبيعة والتاريخ)‪.‬‬‫وهو ما سميته المعادلة الوجودية‪ :‬الله اولا الإنسان ثانيا وبينهما الطبيعة والتاريخ وسيطين ومحل‬ ‫اللقاء بينهما غير المباشر المشروط بالمباشر‪.‬‬ ‫‪24 21‬‬

‫وبصورة عجيبة نجد أن هذه المعادلة الوجودية هي في آن بنية المقدمة وبينة القرآن الكريم‪ :‬لكأن‬ ‫ابن خلدون يبين دلالة فصلت ‪ :53‬حقيقة القرآن‪.‬‬‫وهو ما أثبته صاحب بدائع السلك في طبائع الملك (ابن الأزرق) عندما استخرج من المقدمة‬ ‫بالتوازي ‪ 20‬قضية مستندة إلى الأدلة العقلية و‪ 20‬إلى الأدلة النقلية‪.‬‬‫العلم الرئيس يتألف من‪ :‬من خمس نظريات‪ :‬في الله وفي الإنسان وفي الطبيعة وفي التاريخ وفي‬ ‫تواصل الله والإنسان مباشرة وبتوسط الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫وكلها تكون محرفة فتنشأ علوم زائفة المقدمة تدحضها وتكون سوية فتنشأ العلوم التي تحقق بعدي‬ ‫الإنسان‪ :‬تعمير الأرض بقيم الاستخلاف أو الفساد فيها‪.‬‬‫والفساد فيها سره العلوم الزائفة التي تؤدي إلى فساد الشرائع (إضافة الإنسان بعلوم زائفة)‬ ‫وفساد الطبائع (لأنها تؤدي إلى حياة بدائية متوحشة)‪.‬‬ ‫ومن هنا يمكن الكلام على شروط الاستئناف‪.‬‬‫وابن خلدون لم يكتب فصولا خاصة بها بل هي واردة ضمنيا في كلامه الذي وصفنا ببعديه النقدي‬ ‫والبنائي‪.‬‬‫ولما كان يعلل فساد معاني الإنسانية بالاستبداد السياسي في التربية والحكم فإن شروط الاستئناف‬ ‫من منظوره قابلة للرد إلى إصلاح هذين البعدين‪.‬‬‫وبعدا السياسة هما التربية شرط الرعاية والحكم شرط الحماية وأصلي السيادة في الجماعة‬ ‫الحرة ذات الكرامة‪ :‬فتعمر الأرض بقيم تؤهل الإنسان للخلافة‪.‬‬‫وللتربية بعدان‪ :‬اعداد الإنسان بوصفه عضوا في العمران البشري (العلم والعمل لسد الحاجات)‬ ‫واعداده بوصفه عضوا في الاجتماع الإنساني (للأنس بالعشير)‪.‬‬‫ولذلك فآخر عناصر البحث في المقدمة تعلق بالفنين المتصلين بالأنس بالعشير أي الأدب والشعر‬ ‫خاصة وهما أسمى من العلم والعمل لسد الحاجات‪.‬‬ ‫ولنختم بالكلام في شروط الاستئناف‪.‬‬‫وأولها التحرر من العلوم الزائفة وهو قسم مهم من الباب السادس الذي يدرس فيه العلوم ويؤرخ‬ ‫لها في حضارتنا‪.‬‬‫وثانيها إصلاح مناهج التربية والتعليم بفلسفة حرية الأطفال واحترام كرامتهم وفكرهم شرطا‬ ‫للأخلاق والإبداع فالشدة عليهم تفسد فيهم معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫أما الحكم فله بعدان كذلك‪:‬‬ ‫‪24 22‬‬

‫الأول هو دور الحماية الداخلية والخارجية‬ ‫والثاني هو دور الرعاية التكوينية والتموينية‪.‬‬ ‫ولكن بوصفها صورة العمران‪.‬‬‫أي إنه لا يحق للحكم أن يتدخل في مادة العمران التي هي من عمل الجماعة بوصفها مجتمعا مدنيا‬ ‫وليس بوصفها مجتمعا سياسيا‪ :‬الحمايتان والانتاجان‪.‬‬‫فالحمايتان (القضاء والامن داخليا والدبلوماسية والدفاع خارجيا) واصلهما الاطلاع على حال‬ ‫الناس والبلاد أساسها أخلاق جماعية وحراستها سياسية‪.‬‬‫والرعايتان (التربية والمجتمع تكوينا والثقافة والاقتصاد تموينا) وأصلها البحث العلمي في‬ ‫الطبيعة والمجتمع أساسها عمل الجماعة وحراستها سياسية‪.‬‬‫الحكم نيابة عن الجماعة وبإرادتها الحرة ومراقبتها يحرس الحمايتين والرعايتين لكنه ليس بديلا‬ ‫من الجماعة فيهما لأنها هي حامية نفسها وراعيتها‪.‬‬ ‫ما معنى عدم تدخل الدولة في مادة العمران؟‬‫قد حذر ابن خلدون من سيطرة الدولة على الاقتصاد لئلا تقتل الأمل عند الخواص لقدرتها على‬ ‫تعطيل قانون السوق‪.‬‬‫وحذر من الغلو في الضرائب لأنها تحول دون المنتجين والإقدام عليه إذا كانت حصيلته تذهب‬ ‫لغيرهم وهي ضارة بمالية الدولة مرتين‪ :‬التهرب أو العزوف‪.‬‬‫فهو يعتبر صك العملة يمكن أن يؤدي إلى تزييفها مثلها مثل المكاييل والموازين وكلها ينبغي أن‬ ‫تكون تابعة للخليفة أو السلطة التشريعية والمعنوية‪.‬‬‫ونفس ما يقوله عن الاقتصاد أو الانتاج المادي صراحة يقوله ضمنا حول الانتاج الرمزي أو‬ ‫الثقافي‪ .‬وقد أتى ذلك حول علل فساد الشعر بسيطرة الكدية‪.‬‬‫ونحن نرى الآن أن الأنظمة المستبدة والفاسدة عممت منطق الكدية على كل الإنتاج الرمزي‬ ‫ففقد الفكر استقلاله وأصبح أصحابه عمالا لدى الحكام‪.‬‬‫ولعل أفضل علامات ذلك تردي حال الفكر في البلاد التي يحكمها الأنظمة العسكرية ثم تلاها‬ ‫حكم الأنظمة القبلية فأصبح الارتزاق حكما بدل الإبداع‪.‬‬‫وإذن فمادة العمران‪-‬مادة بالمعنى الخلدوني وليس الفلسفي التقليدي‪ -‬هي ما يتقوم به الشيء‬ ‫أو جوهره أوعين مدده المقيم لوجوده‪ :‬الاقتصاد والثقافة‬ ‫‪24 23‬‬

‫أما صورة العمران فهي الدولة تعين السياسة في مجالي التربية (أو الفاعلية الخلقية والعلمية)‬ ‫والحكم (أو فاعلية الحماية والرعاية) لمادة العمران‪.‬‬‫وهذه المهام هي شروط الاستئناف وهي تقتضي إصلاح صورة العمران وتحرير مادته من استبداد‬ ‫من نوبتهم الأمة في حراستها ومن الفساد والظلم‪.‬‬ ‫تلك هي ثمرة عمل ثالوث النقد وهي مضاعفة‪:‬‬ ‫تحليل علل الانحطاط النظرية والعملية‬ ‫وتقديم البديل الذي يصلح النظر والعمل‬ ‫شرطين لوجود الأمة السوي‪.‬‬ ‫‪24 24‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook