أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
لم أطل في تعريف الدولة لتأصيلها وأحلت على كتابات سابقة لعل أهمها فصول خمسة حول مفهومها القانوني (ندوة الكواكبي حول الليبرالية والإسلام).لكن قضيتين ما زالتا بحاجة إلى علاج هما العلاقة بين وظيفتي الدولة أي الحماية والرعاية والوضعية التي ترتبت على نشأة ما يسمى بالدول الوطنية.وسأبدأ بالقضية الثانية لأنها تبدو عرضية بالقياس إلى القضية الأولى التي هي بنيوية لأن الوظيفتين من مقومات الدولة في كل عصور الإنسانية.لكن العلاقة بين القضيتين ليست عرضية :فالدول القطرية في الوضعية الإسلامية الحالية محميات لعجزها عن كلتا الوظيفتين ومن ثم فهي فاقدة للسيادة.ولست مطلق السلبية فأظلم مرحلة الدولة القطرية في تاريخنا .فالاستعمار لم يوجدها بل رسخها بدلالة حديثة للقطرية تنافي ما يتجاوزها دون سيادة.فالقطرية السابقة أشبه بالولايات التابعة لوحدة دار الإسلام .فلم تكن متنافية مع الامة ما يضمن حرية التنقل والعمل والعيش في جغرافية الإسلام.ما أضافه الاستعمار للقطرية هو وهم الدولة الاثنية الحديثة فأصبحت تطلب الشرعية مما يجعلها حربا على المشترك الجامع بما قبل الإسلام وبما بعده. ولكن لا يمكن أن ننفي أمرين: -فشل هذا المشروع لأن رابطة الإسلام والثقافة الإسلامية ما تزال قائمة -وتحقيق أمر إيجابي هو الخروج من سيطرة المركزفكل قطر صار مركز إشعاع ما جعل الأمة متعددة المنارات التي هي ثراء خاصة في ضوء فشل مشروع بناء الشرعية القطرية على نفي المشترك الحضاري للأمة. 61
أمر الآن للقضية الثانية وهي الأهم :ما طبيعة العلاقة بين الوظيفتين الحماية والرعاية؟ كنت دائما أقدم الحماية على الرعاية وهو خطأ عقلي ونقلي.والنقلي قد لا يقنع الكثير لذلك فلا بد من بيان الخطأ العقلي .ولأذكر القصد بالخطأ النقلي :فآية قريش تقدم أطعمهم من جوع على آمنهم من خوف.ولأثبت الآن عقليا أن الرعاية (تناظر أطعمهم من جوع) ينبغي أن تقدم على الحماية (تناظر آمنهم من خوف) .والحجة مضاعفة وقد سبق إليها ابن خلدون.ففي تعليله لضرورة الدولة يقول ابن خلدون \"ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل كما قررناهوتم عمران العالم بهم (التعاون للعيش والاحتماء) فلا بد من وازع بدفع بعضهم عن بعضلما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم\" (مدخل الباب الثالث من المقدمة) .وقد ميز ابن خلدون بين نوعين من الحماية. .1الاجتماع للتعاون من أجل العيش في بيئة لا تخلو من أخطار. .2حماية الناس بعضهم من بعض وهو علة الدولة. وإذن الرعاية مقدمة على الحماية.لكن الحجة الخلدونية غير كافية :فالحماية تقتضي وجود الوازع القادر عليها والقدرة ثمرة الرعاية الكفيلة بكلفة الحماية أمنا ودفاعا :الدولة.وحتى نعود لقريش فإن من يعجز عن الإطعام من جوع لا يمكن أن يؤمن من خوف .ذلك أن الأمن مشروط بالقدرة عليه والقدرة عليه تقتضي جماعة سدت حاجتها.والأمران متلازمان :فالتعاون من اجل الرعاية والحماية بل إن الرعاية نفسها بدأت ولا تزال دافع العدوان الاول بين الجماعات وفي نفس الجماعة. وهنا نعود إلى نظرية الأحياز:سواء في نفس الجماعة أو بين الجماعات الحروب تدور حول المكان والزمان وتفاعلهما انتاجا للثروة والتراث بمرجعية ما. 62
وظاهرة الاستعمار والغزو والحروب كلها تفسر بالتنافس على حيازة الأحياز الخمسة: المكان والزمان والثروة والتراث ومرجعية هذا الصراع الخلقية.خارطة العالم السياسية حصيلة هذا الصراع حول الاحياز بين الجماعات البشرية وخارطة العمران في نفس الجماعة حصيلة هذا الصراع :دور التاريخ الطبيعي.كل فرد في الجماعة وكل جماعة في الأرض تشبه جماعة حيوانية تحدد مجال حياتها بقدر ما لها من قوة منه تستمد شروط عيشها وقوتها أداة لتحسين شروطه.ومثلما تقدمت الإنسانية بإنشاء الدولة (الوازع الأجنبي) للوزع بين الأفراد فالتقدم الخلقي يسعى إلى وضع ما يشبه الدولة الكونية للوزع بين الدول.وإذا كان الوزع الأول ناقصا دائما فالوزع الثاني أشد نقصانا فالحاجة إلى وازع ذاتي (ابن خلدون) من الأحكام الشرعية في مقابل الاحكام السلطانية.الأحكام الشرعية في مقابل الأحكام السلطانية تعني وازع التربية الخلقية والروحية في مقابل الحكم القانوني والسياسي :مرجعية خلقية ضرورية للدولة.وهكذا يتبين أن ما علينا تأصيله في الدولة هو في الحقيقة هذان الوظيفتان :التربية والحكم: .1التربية فاعلية روحية. .2الحكم فاعلية سياسية.وأثر الفاعلية الروحية سلطان روحي هو الأحكام الشرعية بلغة ابن خلدون وأثر الفاعلية السياسية سلطان قانوني هو الاحكام السلطانية بنفس اللغة.وهنا يعترض أهم مشكل في الفلسفة والدين في آن :ما مصدر الفاعلية الروحية أو الأخلاق؟ في الإسلام الأحكام الشرعية هي ما يتمم مكارم الأخلاق. والمشكل في الفلسفة يتعلق بمصدر القيم الخلقية ما هو؟يزعم البعض أن كنط يفصل بينها وبين الدين .ويحاول النفعيون ردها إلى الطبيعة أو التاريخ 63
والرد إلى الطبيعة غير ممكن لأن قانونها مناف لقانونها :الأخلاق شرطها الحرية والطبيعة شرطها الضرورة .وهذه المقابلة سر فلسفة كنط النقدية كلها.فشرط الأخلاق استثناء الإنسان من الضرورة الطبيعية لذلك اضطر إلى ما سماه مسلماته الثلاث وهي جوهر الدين :حرية الإنسان وخلود النفس ووجود الله.وما يعنينا في تأصيل الدولة بمنظور الإسلام هو هذه العلاقة التي يعرف بها الخاتم بعثته بكونها إنما كانت لإتمام مكارم الاخلاق في سياسة الدنيا.لذا سميت القرآن أرشيتاكتونيك ما بعد الأخلاق نظيرا لأرشيتاكتونيك ما بعد الطبيعة في الفلسفة القديمة وأرشيتاكتونيك ما بعد التاريخ في الحديثة.وأرشيتاكتونيك ما بعد الأخلاق القرآنية تجمع الأخريين وتتجاوزهما لأن الاخريين ممتنعتين من دونها ذلك أن الطبيعة والتاريخ يحتاج لجسر بينهما.والجسر هو ما وضعته في المعادلة الوجودية :فالطبيعة والتاريخ وسيطان بين القطبين. والأخلاق هي الجسر :الأخلاق هي الله مثال الأنسان الأعلى.وهذا هو جوهر الاستخلاف :فالخليفة (الإنسان) له مستخلف (الله) هو مثاله الاعلى الناطق بتوسط ضميره وذلك هو الدين الذي ليس هو أشكاله الوضعية.أشكال الدين الوضعية هي تعينات الديني الذي هو الأخلاق بهذا المعنى وهو جوهر الرسالة الخاتمة بوصفها التذكير بالديني في كل دين :الفطرة الخلقية.والفطرة الخلقية عقد بين البشر وربهم (الاعراف )173-172يذكر به القرآن فلا يكون الإسلام دينا من بين الأديان بل هو الدين في كل دين :كونية خاتمة.لكنه لا يقتصر على التذكير بل يجعل الرسالة ذات دولة تحقق التربية الخلقية والحكم السياسي فيكون التذكير نظرا عامل (اجتهاد) وعملا ناظر(جهاد).تأصيل الدولة في الإسلام هو عين قراءة القرآن بوصفه استراتيجية توحيد الإنسانية حول الديني في كل دين أو الخلقي في سياسة الدنيا مطية للأخرى.تأصيل الدولة من منظور الإسلام هو بيان حقيقة الاستخلاف وما يترتب عليه أي إتمام المعادلة الوجودية بتحديد العلاقة بين قطبيها الله والإنسان. 64
فالله حاكم العالم وهو نموذج يقيس عليه الخليفة حكم الأرض بصورة لا تناقض حكم العالم .الدولة الإنسانية لها مثال أعلى هو الدولة الإلهية.والدولة الإلهية لا يمكن أن تكون مستوحاة من الدولة الطبيعية ولا من الدولة التاريخية (والدولة هنا تعني نظام عمل الموضوع) بل العكس هو المعقول. والسؤال هو :من أين يستوحي الإنسان هذا المفهوم؟ ما مثاله؟ هل اليتوبيا الفلسفية هي المثال فتكون الدولة في الدين أيضا يتوبيا دينية؟ فما اليتوبيا؟ديكارت علل يقينه بوجود الله معرفة الإنسان بوعيه بنفص صفاته .يمين هيجل اعتبر ذلك كافيا لاعتبار الله نفسه خليقة سعي الإنسان لاستكمال ذاته.لكن ذلك لا يحل المشكل :فمعنى هذا القول الثاني هو أن الإنسان خالق نفسه وخالق مثاله الاعلى .فيكون في الحقيقة تعديلا بسيطا للمسيحية ودور عيسى.اليمين الهيجلي ترجمة شعبية لفلسفة هيجل الدينية :الله لا يوجد بذاته بل في أسمى صور الموجود أي الإنسان عندما يؤمن بالمسيح ابنه رمزا لتعينه فيه.فيكون التأصيل الهيجلي دينيا أساسه موت الله كذات قائمة بذاتها وانبعاثه في الإنسان كما في رمزية صلب المسيح وانبعاثه في الميثولوجيا المسيحية.والمسلم لا يؤمن بالميت أصلا للحي .فالله حي لا يموت لم يلد ولم يولد والإنسان خليفة الله وهو ليس ملعونا فيحتاج إلى شفيع آدم عفا عنه ربه واجتباه.والسياسة ليست أمرا مدنسا .إنها ذروة المقدس فهي ما به يكون الإنسان مربيا وحاكما لنفسه بنفسه دون حاجة لوسيطين بينه وبين رزقيه الروحي والمادي.لذلك ألغى الإسلام ما اعتبره أصل كل تحريف لهذه المعاني أي الكنسية (وساطة الرزق الروحي) والحكم بالحق الإلهي أو الطبيعي (وساطة الرزق المادي).رغم أن موضوع البحث تأصيل الدولة من منظور الإسلام فإني قدمت التأصيل العقلي (بالطبائع) على التأصيل النقلي(بالشرائع) :والعلة هي طبيعة القرآن. 65
فتوجيه فصلت 53وحد آل عمران 7يؤسسان للاستدلال العلقي وحده في الخطاب القرآني الذي هو ليس نقليا بمعنى الاستناد إلى الغيب المحجوب والمعجزات.صحيح أن القرآن يقص معجزات الأنبياء المتقدمين لكنه يرفض أن يحتج بالمعجزات التي يعتبرها للتخويف وليست للإقناع .ولا تناقض في موقفي القرآن.فقص معجزات الأنبياء قبل الإسلام من آداب الإصلاح بمنطق التصديق والهيمنة ورفض الاعتماد على المعجزات من شروط كونية الدين الخاتم :عقلي بإطلاق.فلا يمكن لدين هو الديني في كل الأديان التي جاء ليذكر به ويحرر الأديان مما شابها من تحريف بمنطق التصدي والهيمنة أن يحتج إلا بالنظام والعقل.والاحتجاج بالنظام والعقل يعني أولا بآيات الله في الآفاق أي النظام الرياضي في الطبيعة والنظام الخلقي في التاريخ وفي الأنفس الجامعة بينهما.فالإنسان يخضع للقانون الطبيعي (بما هو جسد حي) وللقانون الخلقي (بما هو روح واعية) وكل إشكالات وجوده ترد إلى العلاقة المعقدة بين بعديه هذين.ولذلك فالخطاب القرآن موضوعه الديني في كل دين ووظيفته التذكير بالديني الفطري ووضع استراتيجية تحقيق وحدة البشرية بتربية الإنسان وحكمه.تربية الإنسان وحكمه هما بعدا السياسة كاستراتيجية عمل على علم والدولة كآليات أنجاز لهذه الاستراتيجية :وهذا هو تأصيل الدولة في الإسلام.الآن يمكن الانتقال إلى تأصيل وظائف الدولة ببعديها رعاية وحماية .وسنبدأ بفروع الرعاية قبل فروع الحماية إذ برهنا أن الحماية مشروطة بالرعاية. 66
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages: