أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
المحتويات 1 5 91317212530343842
صرت أشفق على القراء مما أقوم به من \"تعرية المذابح\" بلغة تونس :اي بيان جملة الامراض التي نعاني منها فأقول في نفس أحيانا :هل عندنا فرصة؟سأختم بالإشارة الى أكبر عائقين التغلب عليهما من الخوارق .وقد صغتهما بلغة دور الرمز لتيسير العلاج :رمز الفعل (الكلمة) وفعل الرمز(العملة).والرمز الاول هو أساس كل ثقافة فنية وعلمية والرمز الثاني هو اساس كل اقتصاد مادي ومعرفي .رمزان يحيلان إلى أربعة مجالات يعسر أن تحيا في لحظتنا.فالثقافة الفنية والثقافة العلمية والاقتصاد المادي والاقتصاد المعرفي كلها معطلة ويعسر أن تتحرك بسبب ما عليه الأحياز والنخب شرطي علاجهما.وهذه العوامل الأربعة فاقدة لاستراتيجية الاستئناف في سياسة الأحياز وأخلاق النخب وتفتت المرجعية بسبب ما يدور حولها وعليها من حروب هدامة بلا حدة.والقصد بتفتيت المرجعية هو نتائج الحرب الأهلية بين الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي التي صارت بقصد أو بغير قصد حرب الانتحار والتهديم الذاتي.فقدت الأمة شروط إمكان الإنتاج الثقافي (فنا وعلما) والإنتاج الاقتصادي (مادة ومعرفة) بحيث إن بقاءها صار عمره رهن عمر ما لديها من خام ناضب حتما.فالثروة والتراث اللذين يبدعهما الذوق والعلم العاملين في مستوييهما لا وجود يذكر لهما وأن الثروة الوحيدة الباقية هي بيع الخام واستراد الخردة.وذلك ليس في الاقتصاد المادي والمعرفي فحسب بل وفي الثقافة الفنية والعلمية :القليل الذي بقي منها هو ما ورثناه عن جدودنا وآبائنا وبذرناه بعقوق.نحن أشبه بالورثة الفاسدين الذين لم يعرقوا لتحصيل ما يعيشون منه حياة البذخ والفساد لأرباب الاستبداد دون اعتبار لمستقبل البلاد والعباد.ورغم ذلك كله ليست يائسا من الاستئناف بل إني واثق تمام الوثوق من أن الاستئناف ليس ممكنا فحسب بل هو حتمي لأن النشأة الأولى لم تكن معجزة فحسب. 45 1
فليس الرسول الخاتم الرسول الوحيد في تاريخ البشرية .لكنه هو الوحيد الذي تحقق المشروع في حياته وبمن رباهم من الصحابة واستقطبهم من شباب العرب.وسياسته ما تزال حية في الكثير من شبابنا المسلم من يمثلون أولي العزم من نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة ونخبة الوجود.المشروع قائم منذ أربعة عشر قرن والشباب يعود بالتدريج إلى نفس الطموح الكوني الذي حرك آباءهم وجدودهم أصحاب النشأة الأولى ليكونوا اصحاب الاستئناف.وقصدي أننا لسنا بحاجة لمعجزة جديدة فالإسلام ما يزال حيا وهو المعجزة السماوية الأخيرة لأنه خاتم وانبعاث جذوته في شبابنا هو المعجزة الدائمة.ولولا إيماني بذلك ما نذرت نفسي لإحياء هذا الطموح في الشباب ليس بالخطاب العاطفي وحده بل وكذلك بالتحليل العقلي الرصين لبيان شروط الإمكان.شبابنا تحير بسبب ما يلاحظه من صراع الكاريكاتورين التأصيلي والتحديث وخواء فهمهما وسقم علاجهما :فكلاهما يقلد الدارس من ماضينا ومن ماضي الغرب.كلاهما عقم الفكر خيالا وعلما وأصبح مجرد ماضغ لقشور ماضية أفقدت المسلمين للفاعلية الثقافية والاقتصادية لقيام الأمم بالإبداع الفني والعلمي.فيكون المطلوب النظري قبل الوصول للمطلوب العملي استراتيجية مضاعفة :فهم المعوقات وعللها ثم فهم شروط علاجها والتغلب عليها بالعمل على علم.وسيكون فهم المعوقات متعلقا بفاعلية الرمزين اللذين أرجعت إليهما كل الفاعليات في الحضارة الإنسانية لأن المطوب هو فهم الكوني منها ككل علم.وأول بداية سوية هو أن نعلم أن ما نمر به ليس خصيصة عربية ولا اسلامية وليس عرقيا ولا حتى ثقافيا بل هو من جنس الكبوات التي تحصل للأمم العظيمة.وفضل الله علينا أن حضارتنا صمدت ولم تندثر وأن علامات الشباب واليفاع والعنفوان ما تزال أرضنا بها خصبة فالأمة ولود والإسلام في انتشار دائم.والصمود قد لا يطول فالحرب بين الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي قد تأتي على مقومات الصمود المادية (بتفتيت المكان) والروحية (بتشتيت الزمان). 45 2
وتفتيت المكان يلغي للقوة المادية ثمرة الإنتاج الاقتصادي والثروة وتشتيت الزمان يلغي القوة الروحية ثمرة الإنتاج الثقافي والتراث :فتات محميات.والمحميات فتات لا سيادة لأصحابه لأنها عاجزة عن شروط التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية والتنميتان هما شرط السيادة :القوة المادية والروحية.وبالتدريج تصبح المحميات توابع ليس اقتصاديا فحسب بل وكذلك ثقافيا .والتبعية الثقافية تعدم الجماعة إما بالفناء أو بالذوبان في ثقافة الحامي.والحامي لا يضيره أن يبقى الإسلام الطقوسي في شكل رقص الهنود الحمر وتصوف الطرق الذي يريد الآن بعثه وتذويب المسلمين بوصفهم هنود العصر الحمر.فكاريكاتورا التأصيل والتحديث سيؤديان في الغاية إلى هذه النتيجة .فلا الأول يمثل الإسلام ولا الثاني يمثل الحداثة بل يمثلان صورتهما المنحطة.فكاريكاتورا التأصيل والتحديث سيؤديان في الغاية إلى هذه النتيجة .فلا الأول يمثل الإسلام ولا الثاني يمثل الحداثة بل يمثلان صورتهما المنحطة.وأصحابهما بوعي (لدى خبثاء التحديث) أو بغير وعي (لدة سخفاء التأصيل) يسعون إلى تحقيق هدف الصهيونية المسيحية التي تعتبر الإسلام سرطان العصر.والصهيونية المسيحية العالمية تعلم أن التغيير بالغزو الثقافي اقل كلفة وأكثر حسما في إفناء الجماعات بدنيا وروحيا كما فعلوا للهنود الحمر.فمن ابتلعوه ثقافيا استعملوه حصان طروادة للقضاء على البقية بدنيا وهذه هي الاستراتيجية الجارية حاليا والتي لإيران فيها دور الجرافة الممهدة.ونفس الاستراتيجية استعملها مغول الشرق والصليبيون وفشلوا واليوم يستعملها مغول الغرب (أمريكا) والصليبيون الجدد وسنقضي عليها بإذن الله شر قضاء.ذلك أن سعي أمريكا للسيطرة على دار الإسلام هو الذي سيوهنها إلى حد يجعلها تفلس مهما كانت ثروتها لذلك فهي تسابق الزمان لتخريب صمود الإسلام.وحلفاؤها فضلا عن اسرائيل وإيران كل الانظمة العميلة في المحميات والاستثناء قليل وهم الآن يركزون على قلة عربية وتركية للحسم السريع ضدهم. 45 3
والمعركة الجارية في الهلال والخليج وفي المغرب العربي ليست معركة داخلية فحسب بل هي حرب كونية لعلم أعداء الامة بأن روح الإسلام عربية تركية.لم ينسوا أن ثورة الإسلام بدأت عربية وصمدت تركية .فمنذ نشأة دولته العربية إلى أسقاط دولته التركية ما تزال نظرتهم العدوانية للإسلام واحدة.وليس من الحكمة الاستراتيجية العمل بهذا المنطق :ينبغي أن نستعمل الاستراتيجية الأمضى .الاستيعاب العكسي :علينا نحن أن نبتلعهم بسلاحنا الأمضى.وسلاحنا الأمضى هو ما حددته النساء 1والحجرات 13أعني رسالة الكونية الإسلامية التي تآخي بين البشر وتسوي بينهم بجاذبية نشر الإسلام في دورهم.والمعلوم أن عنفوان الشباب سلاحه بايولوجي وهو أقوى ألف مرة سلاح اعياء العجائز الذي لم يبق له إلا السلاح التكنولوجي .تبريد الصدام هو الحل.وهذا الحل اساسه الخداع الاستراتيجي الذي يحتاج إليه من يستعمل حرب المطاولة لأن الضعيف لا يغلب إلا بها استنزافا للقوي إذ يعال صبره فيستسلم. 45 4
في الفصل الثاني سأحاول تحليل الدلالة الاساسية لمفهوم الاحياز الخارجية والداخلية وصلتها بنهوض الأمم وسقوطها صفة لمقومات الإبداع الإنساني.فالحيز الخارجي هو المحل الذي ينزل فيه الإنسان ككيان حي يستمد مدد حيزه الداخلي ومدته من الآفاق إلى الأنفس (فصلت )53دورة حيوية بدنية وروحية.فالإنسان من تراب مادة (وجه كياننا البدني) وروح (كياننا الروحي) فحياة البدن المدرك هو القدرة العجيبة على استمداد أحيازه من الأحياز الخارجية.فكيانه البدني مستمد من حيز المكان وكيانه الروحي من حيز الزمان :يحل فيهما ويعمل على جعلهما حالين في كيانه البدني والروحي ليس تصوريا بل فعليا.وهذا الاستمداد الفعلي يحدث خلال عمل يختزن في كيان الإنسان من ينتج عن ثمرة تفاعل المكان والزمان المادي (حير الثروة) والروحي (حيز التراث).فالثروة قبل أن تصبح ذات وجود خارجي تكون ما في البدن من طاقة مخزونة تظهر عندما يتوقف الاستمداد من الحيز المكاني فيغتذي الإنسان بما خزن بدنيا.والتراث قبل أن يصبح ذا وجود خارجي يكون ما في الروح من طاقة مخزونة تظهر عندما يتوقف الاستمداد من حيز الزمان فيغتذي الإنسان بما خزن روحيا.والمثال بالنسبة إلى خزن الثروة طاقة مادية تستعمل عند الحاجة بيّن .لكن المثال بالنسبة إلى خزن التراث طاقة روحية يدرك حقيقتها من عاش الغربة.لما هاجرت للدراسة في فرنسا رغم كوني اخذت زوجتي معي ورغم حصولي على الثقافة الفرنسية منذ طفولتي فإني في الغربة اغتذيت روحيا من تراثي الإسلامي.كان ما في ذاتي مغنيا عما حول ذاتي .التراث الخارجي فرنسي والتراث الداخلي إسلامي .كذلك تعيش الاجيال المتوالية من مهاجرينا :طاقة لا حد لها.وما يوحد الأحياز الأربعة الخارجية وما يوحد الأحياز الداخلية المناظرة لها والمرجعية توحد التوحيدين وبها تتميز به الحضارات بعضها عن بعض. 45 5
ففي المثال الذي عشته لما تغربت الموحد للأحياز الخارجية التي ظلت معي رغم بعدي عنها لأن نظائرها كانت في كياني ذاته المرجعية الموحدة :الإسلام.واللحظات التي يشعر فيها المرء بما يشبه الخلود الروحي هي اللحظة التي يتطابق فيها -ولو حالة وجدانية خيالية-كل الاحياز في حدس الجلال الروحي.وسأقتبس هذا النص من رواية وليام سارابند ذروة الفن \"أرض الأحجار المقدسة\" Land der Heiligen Steineقال حفيد الشامان المرشح للشامانة ارث آبائه\" Es gibt Orte auf der Welt, an dennen ein Zauber wohnt, Orte die das Herz ,berühren und erfüllen, bis es vor Velangen nach dem schmerzt \"was ungewöhnlich und wunderbar und nur für den Geist greibar istوقدم الكاتب لوصف هذه الحال بالقول\" Dei Wahrheit, die sich Cha-dwena in.jener Nacht offenbart hatte, drang nun wie ein Gesang durch seinen Geist اخترت هذا النص الذي لم أر أجمل منه لعلتين: .1مثال الأدب الراقي. .2ثم تعريف فاعلية الأحياز لأن الحال التي يصفها النص هي حال هذا الحفيد الذي كان مع جده الذي أراد أن يزور حرما دينيا في قريته قبل أن يموت. فلأترجم النص ثم التعليق:\"توجد احياز (منازل) في العالم يسكنها سحر أحياز تلامس القلب وتملؤه حتى إنه أنه فيحضرة حنينه إلى الألم الغريب والعجيب الذي لا يدركه إلا الروح\" .وهو بهذا يصف جلال مشهد عاشه خلال سعيهما إلى المكان المقدس.وعلق الكاتب \"إن الحقيقة التي تجلت لـ\"شي كوينا في تلك الليلة هجمت الآن هجوم أغنيةفتخللت روحه\" .هذا هو الأدب الراقي الذي تعالى على مبتذلات ظاهر الوجود إلى أعمق أعماقه :تناظر الاحياز.فبمثل هذا الشعور يعيش الغريب عن داره وعن حضارته في عتمة الليل عندما تحضر روحه لذاتها في تأمل هو ما يجعل الإنسان يموت من أجله لأنه عين ذاته. 45 6
وليس هذا الوطن قطعة تراب بل هو وحدة التناظر بين الأحياز الخارجية والأحياز الداخلية بوصفه حالة يتمازج فيها الروحي والمادي المكاني والزماني.وهو في حالة المغترب مؤقتا (في حالتي) أو دائما (في حالة المهاجر الدائم) المرجعية الروحية والحضارية أي الانتساب إلى الإسلام :آصرة لا تنفصم.وذلك هو ما يراد نزعه من شباب المسلمين :والغريب أن أدوات نزعه هي الانظمة بخضوعها للحماة ونخب التأصيل والتحديث الكاركاتوريين بفهمها السقيم.وتلك هي علة سعيي لتدعيم هذه الروح عند الشباب المسلم عامة وعند المهاجرين خاصة حتى يكون الشعور بالجلال بهذه الصورة التي يمثلها هذا المشهد.وأفضل تحقيق لذلك هو بيان حقيقة القيم والمثل العليا التي تمثلها المرجعية الإسلامية. ويكفي النساء 1والحجرات 13حتى نكون مستقبل الإنسانية.فإذا استعاد الشباب طموح البناة الأول فإن الامة تصبح عملاقا لا يمكن أن يهزم أبدا: شرط الاستئناف بجاذبية الإسلام لما يسترد دوره الكوني.ولا يمكن أن يتحقق ذلك ما ظل المسلمون مستضعفين ليس لهم القدرة على تحقيق شروط السيادة أعني القدرة العلى انتاج القوتين المادية والروحية.والمحميات العربية خاصة والإسلامية عامة لن تقدر على انتاج القوتين المادية (الاقتصاد المادي والمعرفي) والروحية (الثقافة الفنية والعلمية).وجودها نفسه وسعي العملاء لتأسيسها على سلب ما يوحد بين الأحياز الخارجية والداخلية المشتركة بين شعوب الأمة الإسلامية هو أخطر أعداء الإسلام.ذلك أن خطة الأعداء واستراتيجيتهم هي تفتيت جغرافية دار الإسلام وتاريخها فتصاب بالقزمية فتحتاج للحماية بخنجر في قلب الأمة أكثر من إسرائيل.وجود إسرائيل بخلاف ما يظن الكثير هو حاليا بلسم يحرك في شباب الأمة روح المقاومة والحنين إلى شروط قوة تحررهم من العجز أمام حربة الأعداء.فكونها حربة أجنبية يعيد إلى الشباب الحنين لعصر العزة الإسلامية فيحررهم روحيا من عصر الذلة التي فرضتها الانظمة العميلة ومعركة الكاريكاتورين. 45 7
لكن الحنين وحده لا يكفي .لابد من تأسيس لضرورة التحرر من قزمية المحميات إلى عملاقية وحدة الجغرافيا والتاريخ العربيين بداية والإسلاميين غاية.ولا ثورة من دون هذا الهدف :فشعوبنا فقدت الحرية والكرامة بسبب قزمية المحميات أولا وأخيرا .وهذا القزمية علتها فساد معاني الإنسانية في النخب.ولهذه العلة كان لا بد من نظرية تحدد معنى النخب وعلل فساد معاني الإنسانية فيها كما عرفها ابن خلدون في المقدمة رادا إياها إلى بعدي السياسة.وبعدا السياسة المفسدان لمعاني الإنسانية هما التربية والحكم العنيفين لخطأ معرفي في نظرية التربية والحكم وأسلوبهما .وبهما يبدأ الإصلاح الجدي.ولهذه العلة كذلك كان مسعاي إلى قراءة القرآن فلسفيا قراءة أوصلتني إلى تعريفه كما يعرف نفسه بكونه استراتيجية توحيد الإنسانية نقدية وبنائية.والاستراتيجية النقدية تتعلق بتحريف المرجعيات ومقومات المعادلة الوجودية الله والإنسان والطبيعة والتاريخ والتواصل بين الله والإنسان بنوعيه.فالتواصل المباشر بين الله والإنسان هو أساس التواصلين العمودي بين البشر والطبيعة والأفقي بينهم والتاريخ وكل هذه التواصلات أساسها الترميز.والقرآن يشير إلى ذلك :ففي كيان الإنسان التسمية هي ما أهله للاستخلاف .وفي الوجود الطبيعي والتاريخي كل الموجودات آيات إلهية كلمات مترامزة.وفصلت 53تصل ذلك بالآفاق والأنفس التي تبين حقيقة القرآن بما نراه فيها من آيات الله .وما نراه هو ما به يحقق الإنسان الخليفة كيانه المضاعف.فهو مستعمر في الارض أي مكلف بتعميرها بما مده الله به من قدرة ذوقية ومعرفية وهو مكلف بجعل التعمير خيرا يؤهله لتمثيل مفهوم الاستخلاف وقيمه. 45 8
ظلت ألمانيا إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر منقسمة إلى إمارات في وضع لا يختلف عن وضع العرب الحالي إلا بصلاح رجالاتها ونخبها الذين وحدوها.وقد وحدها بيسمارك بدهائه وخطته التي استفادت من بروسيا ببعدي السياسة تربية وحكما تجاوزت حروب الثورة الفرنسية التي غيرت أوروبا كلها.فكيف حققت سياسة بيسمارك القوة المادية والروحية .بشروط الرعاية تكوينا وتموينا: .1نظام تربية عالية الاختصاص .2نظام تنمية اقتصادية اجتماعيةوهو ما مكن ألمانيا باللحاق السريع بالقوى الأوروبية الاخرى التي كانت متقدمة كثيرا على ألمانيا .فهي كانت ما تزال زراعية إلى نهاية القرن التاسع عشر.ألمانيا البيسماركية هي التي اكتشفت طريقة التسريع في التنمية :ثورة نظام البحث العلمي والنظام الاقتصادي الاجتماعي .وحالهما علة التخلف العربي.ولو ضربت مثال تونس لوجدت إضافة إلى فساد نظام الحكم فساد نظام التعليم والاقتصاد أي نظام الرعاية بتكوين الإنسان وتموينه ماديا وروحيا.فمرض تونس ليس الاستبداد والفساد السياسي وحدهما بل الاستبداد والفساد النقابي كذلك .وفي الحقيقة فالداء هو تواطؤ السياسي والنقابي في الرعاية.فعندما قامت الثورة وتم انتخاب حكومة بحرية وشفافية لم يكن دور النخبة السياسية في الثورة المضادة هو الحاسم بل النخبة النقابية :قتلت الانتاجين.كانت متغلغلة في التكوين (التربية) والتموين (الثقافة والاقتصاد) حيث كانت مشاركة مع النظام السابق في كل شيء بل ومسيطرة على التربية خاصة.ولما شعرت أن الثورة بدأت تغير الموازين وتفصل بين السياسي والنقابي قررت إيقاف آليات الإنتاج الاقتصادي والتربية بما لا يتناهى من الإضرابات. 45 9
كنت مستشارا لرئيس الحكومة ففهمت أن الإصلاح مستحيل من دون تحرير التربية من سيطرة النقابي على التكويني وما نتج عنها من استبداد وفساد لا يقدر.ومعنى ذلك أن حلول باسمارك الثورية في التربية وسياسة العلاقة بين الاقتصادي والاجتماعي مستحيلة ما لم تتغير الثقافة النقابية في تونس.وطبعا فلست غافلا أن ذلك حتى لو حصل لن يجعل تونس مثل المانيا بسبب الحجم: فتونس مثلها ممثل كل الدول العربية محمية لمستعمر يحكمها عملائه.لكن كل بداية للتغيير تقتضي البدء بمسألة الرعاية :التكوين والتموين وجعل الشباب يدرك شروطهما حتى يعلم أن التقزيم القطري هو علة كوننا محميات.فكم دون الرعاية التكوينية يستحيل حل مشكل الرعاية التموينية وهما شرط الحماية في كل دولة لأن الحماية شرطها البحث العلمي والقوة الاقتصادية.وكون البحث العلمي الأساسي والقوة الاقتصادية المؤثرة مشروطين بالتحرر من القزمية وكان هذا التحرر ممتنعا على المحميات يجعل الثورة بداية حتمية.ولا ثورة من دون شباب واع بترتيب الأمور كما يقتضيها التوالي السببي لذلك كان من الضروري وضع المفهومات والنظريات التي تمكن من تكوين الشباب.وهذا هو الغرض من هذه المحاولات :فالاطلاع عليها والمواظبة في جهد فهم بنى فرضياتها المنطقية هو بحد ذاته تكوين يغير ثقافة الشباب ليصبح مبدعا.ذلك أن من خاصيات أسلوب هذه المحاولات المنهجية السقراطية :المتعلم هو الذي يكتشف بنفسه النسيج المنطقي للإشكالات فيصل لحلولها بجهده الشخصي.والمعلم مجرد دليل يساعد على تبين معالم الطريق بالأسئلة التي يطرحها كلما وصل المتعلم إلى عقدة قد توقفه عن البحث لتشاجن خيوط النسيج النظري.وإذن الأمر كله يعود إلى تكوين الإنسان (تربويا واجتماعيا) وتموينه ماديا (الاقتصاد) وروحيا (الثقافة) بات العلم بفاعلية الإنسان بداية كل علاج.والعلم بالإنسان هو الانثروبولوجيا (=نظرية الإنسان) وهي نظرية تنبني عليها كل فلسفة وكل دين تجاوزت الخصوصية الثقافية إلى الكونية الإنسانية. 45 10
وبهذا التجاوز إلى الكونية تتفاضل الفلسفات والأديان .والإسلام يمثل الكونية الدينية والفلسفة الإسلامية الكونية الفلسفية .فما دليل التجاوز.القرآن دليله هو النساء 1والحجرات .13وبالنسبة إلى الفلسفة يكفي قراءة عنوان مقدمة ابن خلدون ومقارنة نظرية الجماعة الأرسطية والفارابية.فعنوان مقدمة ابن خلدون \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" .لم يقل علم العمران المسلم أو العربي بل العمران البشري والاجتماع الإنساني.وقبله استدرك الفارابي على أرسطو في تصنيف الجماعات :أرسطو يذكر الأسرة والقرية والمدينة .الفارابي يضيف الإنسانية كلها .وهذا تأثير القرآن.ذلك أن الأديان كانت قومية (المسيحية قومية ولم تتجاوز القومية إلا مع أحد الحواريين في رسائله إلى غير اليهود) أو حتى قبلية (دين اليهودية).وحتى عندما فتح بولس المسيحية لغير اليهود بخلاف كلام المسيح (بعثت لنعاج إسرائيل الضالة) فقد أبقى الرسل حصرا في اليهود دون سواهم (باسكال).الإسلام يقول إن كل أمة لها رسول بلسانها (كونية توزيعية) والإسلام رسالة لجميع البشر (كونية نوعية) :وهي كونية بداية (الفطرة) وغاية (الإسلام).ومن ثم فكل ما سنتكلم عليه من مسائل الرعاية والحماية ليس خاصا بحضارة دون حضارة بل هو يتعلق بالكوني في كل حضارة معتبرا الفروق بينها عرضية.والتفسير الوحيد لضياع هذه المعاني من ثقافة المسلمين منذ الفتنة الكبرى هوما وصفته بتعطيل الدستور القرآني وفرض حالة طوارئ بقوانين استثنائية.وكان الأمر مفهوما خلال الحروب الاهلية الاربعة التي نتجت عن الفتنة الكبرى أو الانقلاب الدامي على عثمان .لكن الحروب انتهت واستقرت الدولة.ومحاولة الرجوع الى الدستور لم تدم طويلا وفشلت (عمر بن عبد العزيز) وبناء عليه اسست علوم الملة على لتبرير القوانين الاستثنائية بعكس الدستور.أعلم أن هذا التوصيف المبني على فلسفة القانون الدستوري وعلاقة الدستور بالقوانين الاستثنائية في حالات الطوارئ لن يرضى به فقهاء السلاطين. 45 11
إذا أنهم لو رضوا به لفقدوا وظيفة الوساطة التي تتنافى مع الإسلام :فلا يوجد في الإسلام من يرث النبي فيما لم يدعه :وساطة روحية وسياسية.فالدستور القرآني حرر الإنسان من الوساطة الروحية (الكنسية) والوساطة السياسية (ولي الامر) :علاقة المؤمن الروحية بربه وعلاقته بأمره مباشرة.نعم السنة ما تزال مؤمنة بذلك في الأقوال لكنها تعمل عكسه في الأفعال .أما الشيعة فصريحة :الوساطتان من الدين :الإمام معصوم والحكم حقه الإلهي.والفرق في الأقوال يجعل شرعية السلطة الروحية فوق السلطة السياسية (المرشد فوق رئيس الجمهورية) لكن الحقيقية هي أن ما فوقهما هو الحرس الثوري.لا فرق بين مصر وإيران :كلاهما تحكمهما مافية عسكرية وميليشياوية .أما السعودية فتبدو السلطة للأسرة الحاكمة ودونها سلطة الدين أي عكس إيران.لكن الحقيقة غير ذلك :توجد لوبيات يحركها الحامي ومن يرضى عنه من الأسرة الحاكمة ولذلك فمن يعين الملك مجهول لأنه دولة عميقة بدأت تتجلى الآن.فمن اغتال فيصل سابقا ليس شابا مجنونا إذ أصبح مفضوحا بتعيين ولي العهد الأخير وترشيحه للملك ولإسرائيل وأمريكا الدور الأول بتوسط لوبي ليبرالي.واعتقد أن ذلك سينجح لعلتين :فالنخب الشابة درست في أمريكا وما يعدهم به المترشح بعد حرمان غبي مارسه رجال الدين في أبسط الحقوق يجعله محبوبا.ومن غرائب الدهر أن آخر بلاد العرب اختلاطا بالغرب ستتغرب أكثر من التي سبقتها إلى الاختلاط بالغرب وذلك لعلتين :الثروة والنموذج الأمريكي.بلاد المغرب العربي مثلا اختلطت أكثر بالغرب .لكنه كان منحصرا في قلة قليلة والنموذج كان فرنسيا وإيطاليا واسبانيا وليس واحدا عولميا كالخليج. 45 12
نبدأ الآن دراسة الأمراض التي ينبغي التحرر منها حتى يتم البناء الحضاري على أسس سليمة تمكن من الاستئناف الذي يكون على الأقل بحجم النشأة الأولى.والأدواء نحددها بأمراض النخب الخمس التي هي نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة ونخبة الوجود .وهي موجودة في كل أمة كوظائف.فكل إنسان له هذه الصفات الخمس لكن من غلبت فيهم واحدة منها على البقية ينتسب إلى مجموعة في الامة هي النخبة التي تعرف بتلك الصفة مميزة لها.فنخبة الإرادة ذوو ميل إلى السياسة ونخبة العلم ذوو ميل إلى المعرفة ونخبة القدرة ذوو إلى الاقتصاد ونخبة الحياة ذوو ميل إلى الفن :فروع اربعة.ومن تقاربت فيهم الميول الأربعة ذوو ميل إلى الرؤى الوجودية الشاملية للسياسي والعلمي والاقتصادي والفني .وهم قلة في كل مجتمع كالفلاسفة والانبياء.ويمكن أن نعتبر الاربعة الأول فروعا تمثل قاعدة هرم النخب في أي مجتمع ورأس الهرم هو نخبة الرؤى التي لها إدراك يشملها جميعا برؤاها العامة.لكن كل واحدة من هذه النخب لها شيء من البقية وخاصة من الرؤى الشاملة المرجعية سواء كانت فلسفية أو دينية ودور المرجعية واحد رغم تعدد مضامينها.فدور كل واحدة منها أنها تخدم البقية أو تستخدمها لتحقيق وظيفتها السياسية أو المعرفية أو الاقتصادية أو الفنية أو الرؤيوية :صلتها بوحدة الجماعة.ووحدة الجماعة ليست تصورا ذهنيا فحسب بل هي الأحياز الخارجية ووجودها في كل فرد أيا كان نسبه النخبوي هو الأحياز الداخلية أي حضور الخارجية فيه.والأمراض تصيب علاقة الافراد ومجموعات النخب بالأحياز الخارجية أو بصورة أدق مدى حضورها في الأحياز الداخلية أو تناغم كيان الجماعة وكيانه.والأمراض كلها نفسية أو روحية لأنها تتعلق بالمطابقة بين حقيقة الصفة التي يعتقد أنها حقيقته في تصوره وفي انجازه :ولنسم ذلك العزيمة والطموح. 45 13
ويمكن الرمز إليها بعلاقة القول بالفعل :فعادة ما يكون القول تعبيرا عن التصور والفعل عبارة عن الإنجاز .وهذا ليس من عندي فبه يعرف القرآن الشعر.فمعيار الشعر في القرآن نقيض معياره في نقاده العاديين في الأدب العربي :الشعر قرآنيا ليس أعذبه اكذبه بل أصدقه ولي مطابقته لما يسمونه الواقع.الصدق علاقة بين الخيال والمثال .الخيال تصور يقال والمثال فعل ينجز .فلأن المثال غاية الخيال يكون الشعر إبداع لب الوجود وليس نسخا لظاهره وقشره.ومعيار النقد القرآني هو الذي استثنى الشعر الراقي بمطابقة القول للفعل بهذا المعنى وليس بمعنى المطابقة مع ظاهر الوجود الذي يسمونه واقعا.فجاء الاستثناء تعريفا بالإيمان :وهو علاقة بين تصور متناه وحقيقة لامتناهية .والأول خيال والثاني مثال في منظور القرآن .معان جليلة يعسر فهمها.وطبعا فالمطابقة مستحيلة إلا للمصطفين .وهذا ليس مجال بحثنا .وإذن فالقصد ليس المطابة التامة بل السعي إليها قدر المستطاع لتصدق صفة الموصوف. ما معنى صدق الصفة؟أن يكون صاحب الإرادة فعلا لا قولا والعلم فعلا لا قولا والقدرة فعلا لا قولا والحياة فعلا لا قولا والوجود فعلا لا قولا. والآن فلنسأل :هل السياس العربي سياسي حقا؟ هل العالم العربي عالم حقا؟ هل الاقتصادي العربي اقتصادي حقا؟ هل الفنان العربي فنان حقا؟ بهذا أشخص.والجواب عن هذه الأسئلة يمثل تشخيص امراض الأمة المتعينة في نخبها معبرة عن إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها كما ينبغي أن يكون التعبير.و\"معبرة كما ينبغي التعبير\" ليست تقييما غير موضوعي أو خاص بجماعة دون جماعة بل هو تقييم موضوعي ويصح على كل جماعة لتعلقه: 45 14
.1بالصفات .2بالأحيازفالإرادة لها حقيقة والعلم له حقيقة والقدرة لها حقيقة والحياة لها حقيقة والوجود له حقيقة والتعلق بالأحياز هو تعلق هذه الحقيقة بتمامها بها.ولما كانت الصفات خمسا والاحياز خمسا وكان التعلق هو ما بين الأحياز الخارجية والأحياز الداخلية فحقيقة الصفات هي نسبة تحاضر نوعي الاحياز.وقبل تقدير النسبية الدالة على حقيقة الصفات فلأبين علامة المصطفين فلأبين علامتهم :هم من لا يقول إلا ما يفعل ولا يفعل إلا ما يقول :صادق أمين.المصطفى لا يكذب ولا يخادع ما يقوله يفعله .ولا يغدر أو يخون ما يفعله يقوله .وهذه صفات خاتم الرسل وهو يشهد بها لكل الرسل شهادة باصطفائهم.ويعسر أن نطبق هذه المعايير على الناس العاديين :لذلك نكتفي بالمطابقة النسبية وخاصة بالسعي الجدي نحو المطابقة والأفعال بالنيات في الأخلاق.لكن هذا المعيار \"السعي الجدي لجعل الخيال هادفا للمثال\" ليس خلقيا فحسب بل هو معرفي كذلك :أي إن حقيقة الصفات معلومة وبها يقاس السعي خلقيا.سأقوم بتشخيص الأمراض بأن آخذ هذه النخب الخمس لأقيمها بالاعتماد على حقيقة الصفة وما يترتب عليها ومدى سعيهم لأن تكون افعالهم عاكسة لها.وهو تشخيص عادل ومنصف لأني أجعل كل نخبة (وكل فرد منها) حسيب نفسه ورقيبها: سأقارن أقواله بأفعاله معتبرا الأولى صورته عن نفسه والثانية حقيقته.وهوما يعني أني غني عن أقواله كلها بل سأكتفي بدعواه الانتساب إلى واحدة من هذه النخب فأقاضيه بحقيقتها في ذاتها مقارنة بإنجازه لما يعبر عنها.بقي أن ندرس هذه النخب لتشخيص الداء ووصف الدواء ما أمكن ذلك وسنتبع الخطة التالية اعتمادا على ما سميناه هرم الصفات :بدأ بالقاعدة زوجين زوجين.نعلل مزاوجة الارادة صفة السياسي بالقدرة صفة الاقتصادي ثم العلم صفة المعرفي بالحياة صفة الفني لنصل إلى قمة الهرم صفة الوجود بصفة الرؤى. 45 15
فنخصص الفصل الخامس للمزاوجة الاولى والفصل السادس للمزاوجة الثانية والفصل السابع لقمة الهرم.فنخصص الفصل الخامس للمزاوجة الاولى والفصل السادس للمزاوجة الثانية والفصل السابع لقمة الهرم .ثم نختم البحث بفصل ثامن حول دور الكلمة والعملة.والكلمة هي رمز التواصل بين البشر لتبادل القيم المعنوية جوهر الثقافة والعملة هي رمز التواصل بينهم لتبادل القيم المادية جوهر الاقتصاد.وهما مدار السياسة والاقتصاد سلطتا الفاعلية المباشرة والمادية يليهما العلم والفن مدار الفاعلية غير المباشرة والرمزية وتحكمهما العلاقتان.والعلاقتان هما العمودية بين البشر والطبيعة والأفقية بين البشر والبشر وهما ممتنعتان من دون فاعلية الكلمة رمز الثقافة والعملة رمز الاقتصاد. 45 16
نخصص هذا الفصل الخامس للزوج الذي يبدو بيده الحل والعقد في شروط البناء التي من دونها لا يمكن الكلام على استئناف دور الإسلام في التاريخ الكوني.وكلامنا يتعلق بدوره الفاعل لأن الإسلام والمسلمين منذ بداية الانحطاط إلى الأن اقتصر دوره على رد الفعل والصمود للبقاء لعقم فكر الإمة وعجز فعلها.وهذان الزوجان هما السياسي وصفته الإرادة والاقتصادي وصفته القدرة :علاقة الإرادة بالقدرة في الصفات هي علاقة السياسي بالاقتصادي في النخب.وهذا التناظر ليس نفسيا :صفة الإرادة والقدرة تقال على الفرد نفسيا .فالإرادة تكون دائما أوسع من القدرة وغالبا ما يتصف الفاشل بإرادة دون قدرة.ما يعنينا منه هو الوجه الخلقي .فإذا علمنا أن التطابق التام بين الإرادة والقدرة مقصور على {الفعال لما يريد} أي الله جل جلاله فهمنا القصد.فالخلقي في هذه العلاقة هو الجهد المبذول لتحقيق شروط المقدور عليه من الأفعال وتجنب إرادة غير المقدور عليه بمقتضى طبيعته :وتلك هي الحكمة العملية.والحكمة العملية هي النسبة التي تحقق مفهوم الإرادة التي نصف بها السياسي والقدرة التي نصف بها الاقتصادي في علاقة التصور بالإنجاز في عملهما.ولأكن منصفا فأميز بين السياسي والاقتصادي بالفعل والسياسي بالقوة (المعارض). والناقد لأمراضهما مثل المعارض حكمه :المتفرج فارس (مثل تونسي).وقد قال أحد أدباء فرنسا قولة شهيرة تعبر عما تعنيه \"المتفرج فارس\"La critique : est aisée, l'art est difficileالنقد يسير والفن عسير.لذلك فسأكون قدر المستطاع منصفا لعلمي بان المتفرج فارس وأن النقد يسير والفن عسير .وما يشفع لي هو أني أجعل المنقود صاحب النقد :تصوره وإنجازه.وأول أمر ينبغي البدء به تعريف السياسي بانتسابه إلى النخب التي يتميز أفرادها بغلبة الإرادة على صفاتهم الأربع الأخرى في مزاجهم النفسي وطبعهم. 45 17
وأن الاقتصادي يقبل التعريف بالانتساب إلى النخبة التي يغلب على صفاتها القدرة وليست مريدة فحسب فعلا وتصورا وهو الغالب على مزاجهم وطبعهم.وسأسأل عما يبدو مفارقيا :هل عندنا سياسيين (بالفعل وبالقوة)؟ وهل عندنا اقتصاديين (بالفعل وبالقوة) أم ما عندنا هم أشباه منهما دون خصالهما؟وقبل الجواب فلأذكر بأن غلبة صفة من الصفات لا تعني غياب بقية الصفات بل لا بد من وجود القدر الضروري لتحوز الصفة على دورها في شروط فاعليتها.ولأوضح :فالسياسي تغلب عليه الإرادة لكن الإرادة لا تعمل من دون العلم والقدرة والحياة والوجود أي المعرفي والاقتصادي والفني والرؤيوي.فالإرادة عزم على الفعل القادر وشرط ذلك المعرفة والاقتصاد والفن والرؤية. والسياسي يحتاج لأصحابها ويحتاج لمعرفة من هم اصحابها فله منها بصيص.وكان المسلمون-كما هو بين من الأحكام السلطانية -يعتبرون ذلك من شروط الاهلية للترشح للخلافة بل أحيانا يبالغون فيشترطون شرطي الاجتهاد والجهاد.وذلك لأن السياسي لا يمثل إرادته حتى وإن عرفناه بها بل يمثل دعوى تمثيل إرادته لإرادة الجماعة التي يسوسها فيكون مسؤولا عن رعايتها وحمياتها.والإرادة في حقيقتها هي الطموح الذي لا حد له ليس للغايات وحدها بل لشروطها وأدواتها وارادة الجماعة تطمح لتحقيق شروط الرعاية والحماية القصوى.وشروط الرعاية والحماية القصوى تعني أن كل جماعة بحاجة إليهما في الداخل والخارج .فالتمانع على الأحياز داخلي وخارجي :الطموح تنافس متمانع.والتمانع على الأحياز داخليا وخارجيا يجعل الرهان فيه على ثمرتيها أي الثروة والتراث .فيكون دور الإرادة السياسية الجمعي ارفع طموح وقدر منهما.فدينامية السياسي بما هي سلطة غايتها تحقيق الشروط التي تقرب الإرادة من القدرة. والقدرة هي القوة التي ترعى وتحمي القدرة التنافسية :الاقتصاد.وكما أن السياسي لا يقرب الإرادة من القدرة إلا بالقوة الاقتصادية فإن الاقتصادي لا يقرب القدرة من الإرادة إلا بالسياسي :فيتخادمان لهدف مشترك. 45 18
فإذا تخادما وتوحد الهدف باعتبارهما يمثلان إرادة الجماعة وقدرتها أمكن للجماعة أن تكون ذات سيادة لأنها ترعى ذاتها وتحميها بإرادتها وقدرتها.أعتقد أني قد مهدت بما فيه الكفاية لأشرع في عرض الموجود على المنشود لبيان الهوة بين واقع السياسي والاقتصادي عندنا وواجبهما بمعيار حقيقتهما.ذلك أني أكره ما أكره هو كلام المفكرين على الواقع باسم الواجب دون تحديد حقيقة الأمر الذي يتعلق به النقد دون العلم بأن واجب الشيء هو حقيقته.ولا معنى لواجب آخر غير مطابقة الشيء لحقيقته ما أمكن له وخاصة بالنسبة إلى الإنسان .فحقيقته هي أن منشوده يتجاوز موجوده دائما :وتلك هي حريته.السياسي والاقتصادي موجودهما ومنشودهما إنساني مثل أي إنسان لكنه يتعين في الصفة الغالبة عليهما ككل انسان :فما منشود الإرادة ومنشود القدرة؟يقاس منشود الإرادة ومنشود القردة بقوة الإمكان الناقل من موجودهما في الوضع الداخلي والخارجي إلى منشود الرعاية والحماية بحسب حاجة الجماعة.ولما كانت حاجة الجماعة ليست بمعزل عن التنافس داخليا وخارجيا على ثمرة الأحياز مصدر شرطي سد الحاجات كان الأمر متعلقا بتمانع وتنافس بين الناس.ومن ثم فكلما كانت الجماعة أقوى إرادة وقدرة في لقاء التمانع والتنافس كانت أكثر إرادة وقدرة في مجالي الرعاية والحماية ومن ثم ذات سيادة أكبر.فتكون المحميات فاقدة لشروط السيادة :لأنها جميعا عديمة الإرادة (الطموح) والقدرة (الإنجاز) في مجالي الرعاية والحماية :مشكل سياسي واقتصادي. ما معنى مشكل سياسي واقتصادي؟معناه أن من يتصدرون الفعل السياسي تمثيلا للإرادة والفعل الاقتصادي تمثيلا للقدرةليس لهم حقيقة الإرادة والقدرة ،واتصاف نخبة بصفة غالبة لا يلغي الصفات الاخرى.فما عليه موجود النخبتين السياسية والاقتصادية بالقياس إلى منشودهما لا يقتصر عليهما: أزمة عامة. 45 19
صحيح أن المسؤولية الأولى تقع على عاتقهما خاصة إذا أهملا الاعتماد على النخب الاخرى أي العلماء والفنانين وأصحاب الرؤى .لكن التقصير شامل.ذلك أن بقية النخب أي العلماء والفنانين واصحاب الرؤى إذا كان مسماهم مطابقا لاسمهم لا يمكن أن يسكتوا على سياسي واقتصادي يهمل المنشود الجمعي.صحيح أنهم ليسوا مسؤولين على السياسة والاقتصاد مباشرة لكنهم كنخب وكمواطنين مسؤولون على وجود مثل هؤلاء المسؤولين المباشرين لهذين الدورين.فالمسؤولية السياسية والاقتصادية فرض كفاية لكن كون المسؤولين هم أولئك وليس غيرهم أي اختيارهم أو حتى السكوت عنهم مسؤولية الجميع فرض عين.وهذا هو دور المعارض والناقد .وهو ما أحاول أن أسس له فلسفيا وليس مجرد مناكفات سياسية .فالمعارض سياسي بالقوة والناقد يتجاوزهما بمنطلقه.ومنطلقه سياسي بالمعنى الأعم الذي يجعل السياسة منتسبة إلى حق عام للمواطن حق مساءلة دور من ينوب الأمة باختيارها لأداء ما هو فرض كفاية منها.لكن منطلقه ليس سياسيا بهذا المعنى العام فحسب بل هو أيضا من منطلق علمي :أحاسب السياسي والاقتصادي بمعيار الفرق بين موجود الوظيفة ومنشودها.الموجود دون المنشود والفرق يحدد حرية الإنسان وعمله بالإرادة السياسية وبالقدرة الاقتصادية وبالمعرفة العلمية وبالإبداع الفني أو برؤية الوجود.وسنطبق هذه المعاني على علاقة العلم بالحياة أو المعرفة بالفنون شرطين مكملين للشرطين الاولين للتمانع بالإرادة السياسية والقدرة الاقتصادية.فيتبين دور راس الهرم وقمته :الرؤية الوجودية التي تمثل مرجعية الجماعة ورؤيتها لمنزلتها في الأحياز الخارجية وتجسدها في الأحياز الداخلية. 45 20
لا بد أن القارئ قد لاحظ أني لم اقيم السياسي والاقتصادي العربيين. اكتفيت بتحديد معايير التقييم وتركت للقراء حزر النتيجة وهي شديدة البينونة.فالمسافة بين الموجود والمنشود لا تحتاج لتقدير لأنها بلغت حد التناقض :لا شيء في السياسي والاقتصادي العربيين له صلة بالسياسة والاقتصاد أصلا.ولأستدرك :فبالأقوال هم جميعا أكفأ من كل ساسة العالم واقتصادييه وبمظاهر سلطان السياسة والثروة لهم بهرج يتجاوز حكام القوى العظمى واقتصادييها.وهي من المزايا التي يخولها لهم الحامي حتى تبدو المحميات وكأنها دول ذات سيادة والتبعية في الخردويات وزائف العمران وكأنها قوة اقتصادية فعلية.لكني لن أطيل في التقويم لأن المجال يوجد من أدرى به مني وسأقتصر على الكلام فيما لي به صلة مباشرة وهو الثنائي الثاني :نخبة المعرفة ونخبة الفن. وحتى لا يساء فهمي فلابد ملاحظتين:حكمي على الساسة والاقتصاديين العرب لا يعني الإطلاق بل هو يقتصر على من بيدهم السلطان في المجالين.ويترتب على هذا الملاحظة الأولى أن ظهور المفضول وغياب الافضل ليس ناتجا عن دينامية عادية علتها من برز في المجالين أم للأمر علاقة بالحامي؟ ولأضرب مثالين من تونس والجزائر.ففي الجزائر من حال دون تحقيق رغبة الشعب في التغيير وجعل هذه الرغبة تمثل بداية سنوات الجمر العشر التي عاشتها.وطبعا ما حدث في مصر وفي سوريا واليمن وليبيا من جنسه .لذلك اعتبرت الربيع العربي والحرب عليه بدآ في الجزائر وليس في تونس كما يتوهم الكثير.والمثال من تونس وقد عشته بل وحاولت المساهمة فيه قدر مستطاعي :لما كدنا نقع فيما وقعت فيه مصر بالانقلاب كان الخيار بين رجلين خير وشرير. 45 21
لكن الشرير أبعد الخير وتبعه غالبية المشاركين فيما سمي بالحوار الوطني :من استبعد احمد المستيري هو من كان مستعدا لإغراق تونس بنموذج السيسي.وطبعا لم يكن ذلك لأنه الأفضل ولا لأنه الأقوى لو كانت المعركة محلية أي مقصورة على القوى السياسية في تونس ودون تدخل الحامي ومافياته.لذلك فالمشكل ليس محليا بل هو دولي لمجرد أن بلادنا كلها ما تزال محميات ولن تتحرر من هذا الوضع ما ظلت الأحياز محكومة بما حدده لها الاستعمار.فكل بلد عربي لا يمكن الا يكون محمية لأنه اقتطع من كيان الأمة حتى يكون مستضعفا بالجوهر لأنه بحجم يحول دون القوتين شرطي الحماية والرعاية.قدمت هذين الملاحظتين لأنهما من باب اولى أكثر فاعلية فيما هو الأداتين الأساسيتين لجعل السياسي والاقتصادي قادرين على السعي إلى حقيقتهما.فالسياسي والاقتصادي لم يمكن أن يتجاوزا الموجود إلى المنشود من دون أداتيهما الأساسيتين أعني العلوم والفنون كما بينا في كلامنا على الترميز. فالعلاقة العمودية مع الطبيعة (القوة المادية) مصدرها ابداع العلم.والافقية بين البشر (القوة الروحية) مصدرها ابداع الفن :الأقزام لا يقدرون عليهما.وتلك هي العلة التي جعلتني أقول إن الفاعلية الجوهرية في التاريخ الإنساني هي فاعلية الترميز العلمي والترميز الفني :مصدر قوة الرعاية والحماية.وقوة الحماية والرعاية هما شرط السيادة .فيكون منع القوة القادرة على إبداع أدوات الرعاية والحماية يسبق استبعاد النخب التي مسماهم يطابق اسمهم.وما يصح عن استبعاد السياسي والاقتصادي الحقيقيين يصح من باب أولى على استبعاد العالم والفنان الحقيقيين .هم موجودون والدليل نجاحهم في الهجرة.وما يزيد الطين بلة هو أن العلمي والفني كلاهما أصبح في الدولة الحديثة وخاصة بسبب كلفة البحث العلمي والإبداع الفني لم تعد في متناول الأفراد.فأصبح العلم والفن تحت وصاية السياسة والاقتصاد .فساد النخب التي بيدها سلطة السياسة والاقتصاد التي تعين من يحكم المؤسسات العلمية والفنية. 45 22
فيكون الولاء لهم-وهم الان ما يزاولون نفس الجماعة إما لأن السياسيين هم المسيطرون على الاقل في الظاهر او العكس في الباطن-هو المعيار لا الكفاءة.وبذلك يتمر التردي السياسي والاقتصادي إلى العلمي والفني فيصبح المنطق هو منطق استبعاد من يطابق اسمه مسماه واستقراب من له الاسم دون المسمى.والشهادات ليست كافية للتمييز بين المسميات لأنها مجرد أسماء قد تشترى المال أو بالوسائط .وخراب التعليم العلمي والفني مآله فقدان الابداعين.فيصبح التعليم محو أمية ولا يخرج في الغالب إلا العاطلين والطبالة من أجل الحصول على الرزق الذي صار بيد الساسة والاقتصاديين ممن وصفنا خصالهم.وبذلك نفهم اتجاه المنحنى المشير إلى حصلة التنمية المادية والروحية في بلاد العرب: هي إلى نزول وليست إلى صعود في أي مجال من مجالات البناء.وقد يوهم الكثير أن البلاد التي نرى فيها نموا عمرانيا مبهرا بلاد تنمو كما تصدق نفسها في دعايتها :هكذا كانوا يقولون عن العراق والجزائر.لكن المؤشرات المستعملة كلها زائفة :فمن يعمر ببيع الخام لا يعمر بل يدمر .ذلك أن الثورة التي لا تتجدد لا ثروة .ولا يتجدد إلى ثمرة الابداعين.وما قلته عن العراق والجزائر أقول مثله على كل بلاد الخليج :فيوم ينضب البترول لن يتسوح أحد في صحارى الإمارات ولو جمعوا كل فائعات ...العالم.وما قلته عن العراق والجزائر أولى بالخليج :إذا نضب البترول بات العيش في ناطحات سحاب الصحارى ليس في متناول أصحابها :تبريدا وتصعيدا وتنويرا.والعلة في كل بلاد العرب -من العراق إلى المغرب-هي التحديث المقلوب .بدلا من البدء بالبدايات نبدأ بالغايات .فتستورد بدلا من أن تعمل.وبذلك تكون الجامعات طواحين إيديولوجية وليس معامل إبداعية لما تتقوم به أنشطة إبداع الثروة والتراث شرطي كل قوة مادية وروحية للجماعات السيدة.كلما سمعت عربيا يفاخر بأن بلده قضى على الأمية أفهم أن من أكبر الأميين :فهب كل التونسيين حصلوا على الدكتوراه فلن تصبح تونس دولة :ستبقى محمية. 45 23
فالعلم المبدع والفن المبدع أولهما مفتاح العلاقة مع الطبيعة لإنتاج التنمية المادية والثاني مفتاح العلاقة مع الإنسان لإنتاج التنمية الروحية.وكلفة المفتاحين لا يقدر عليها بلد دخله القومي الخام عاجز عن البحث العلمي والبحث الفني القاطرين للتنمية :وكلاهما اليوم مقطور بالبحث الأساسي.والبحث الأساسي لم يعد يكفي فيه-كما كان في عهد أفلاطون وأرسطو-قلم وورقة بل التجهيز العلمي ثروة تونس كلها لا تكفي لأدنى أدواته في مجال واحد.والمجالان الرئيسيان اليوم في العلوم للعلاقة بالطبيعة وفي الفنون للعلاقة بالإنسان هما نظريات غزو الفضاء وأدواته وغزو المجتمعات وأدواتها.وغزو المجتمعات وأدواتها سلاح للغزو المادي وفن للغزو الروحي .وكلها صناعات عملاقة لا يقدر عليها أي بلد عربي يعتبر نفسه دولة وهو محمية.وإذا لم يفهم أحد هذه الحقائق وأراد أن يعلم ابناءه تعليما حديثا دون أن يفكر في حل هذه المشاكل فهو في الحقيقة يعد كوادر لحامية يستقطبهم.فيكون دوره تمويل تنمية الحامي وليس تنميته :خذ مثال قطر .فهي قادرة على كلفة التعليم الراقي .لكنها لن تقدر على شروط الاستفادة من مخرجاته.فالاستفادة من مخرجاته تقتضي تجهيزات البحوث الأساسية في الفيزياء والكيمياء وتطبيقاتها في غزو الفضاء والأرض ومن عليها :وهو ممكن للعماليق وحدهم.وما ظل العرب لم يفهموا ما فهمته دول أوروبا رغم حجمها وظلت كل قبلية تظن نفسها دولة لكنها مهما أخلص حكامها لن تغير واقع كونها محمية تابعة.وطبعا فلست أقصد أنه على قطر مثلا أن تلغي أفضل ما تفعل لأن مخرجاته ستكون لغيرها .ما أقصده أن السيادة لها شروط يحددها العصر واساس كل تنمية.والعصر اليوم يحدد شروط الحجم وشروط الأدوات :والحجم للأحياز والادوات للإبداع العلمي والفني الاساسيين والمطبقين في الرعاية والحماية :السيادة. 45 24
وصلنا الآن إلى قمة الهرم :الوجود الذي تمثل رؤاه (دينية كانت أو فلسفية) مرجعية الجماعة وأصل الفروع أي السياسة والاقتصاد والعلوم والفنون.أدعي أن العرب اليوم فقدوا كل مرجعية سوية .فما لديهم ليس مرجعية بل كاريكاتور صراع حضاري كحرب أهلية بين كاريكاتور تأصيلي وكاريكاتور تحديثي.أعلم أن وصفي الجامع والمانع للأحوال قد يستفز الكثير من القراء .لكن من أراد أن يعالج الادواء حتى وإن لم يكن له الدواء عليه أن يصدق التشخيص.تعريفي لما يؤدي دور المرجعية في صراعات النخب العربية الحالية أنا نفسي أضيق به. فإن صدقت نفسي قلت :لا داعش التأصيلية ولا داعش التحديثية تمثلني.والداعشان التأصيلية والتحديثة تسيطران على المناخ الروحي في المحميات فجعلتا التدعشن محور إنقلاب مما ألصق به من الاولى يتبرأ بتبني الثانية. وقد حدث ذلك:فبعض الاحزاب الاخوانية تتبرأ الآن منهم بالتقرب من الثانية .السعودية التي سلمت بما تتهم به جعلت العتيبة قدوة فلسفية لتحديثها.فلم يبق مصدرا لمرجعية العرب غير البغدادي (زعيم داعش التأصيلية) والعتيبة (زعيم داعش التحديثية): .1تدعي تمثيل الإسلام .2وتدعي تمثيل الحداثةوكل مسلم بحق وكل حديث بحق لا يجد نفسه لا وراء البغدادي ولا وراء العتيبة .لن يتبع كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث إلا السفهاء والعملاء.وما لم نخرج من الحرب الأهلية التي هي صراع حضارات داخلي فنتحرر من سيطرة الدواعش على المجال السياسي والثقافي لن نستطيع علاج أدواء الامة. 45 25
وقبل الكلام في المرجعية أو رؤى الوجود قمة لهرم الصفات والوظائف علي أن أشير أن وضع الشيعة أسوأ من وضع السنة بخلاف ما يظن من تخدعه العنتريات.فما تعاني من السنة في هذا الصراع ما يزال غير محسوم .والوهم الشيعي يظن أصحابه أنهم حسموه بدولة تجمع بين الكاريكاتورين في دستورها نفسه.فالسلطة الدينية فيها تجمع بين داعشية البغدادي وداعشية العتيبة في جسم واحد: المرشد والحرس .الأول كنسية قروسطية والثاني مليشيا فاشية حديثة.والحكومة مجرد سلطة تسيير الأعمال الشكلية الموجهة إلى الداخل (الخدمات) وإلى العالم (الدبلوماسية) :ووحدة الداعشيتين مآلها كالكاثوليكية. مآل إيران إلى علمانية فرنسية.ولا أستبعد أن يكون مآل السعودية مثلها .والعلامات المتواترة حاضرة :شباب البلدين \"طلعت روحه\" من الدجل الدينيأما بقية السنة فالمآل فيها ما يزال غير بين الاتجاه .والسعودية لن تمثل الإسلام السني مستقبلا .سيمثله من جرب العلمانية وتجاوزها إلى الإسلام.وبهذا المعنى فالمسلمون الصادقون اليوم هم من سيبدع مقومات المرجعية الإسلامية بغوص فلسفي حقيقي في مقومات رسالة الإسلام بمدلولاتها القرآنية.وإذن فالإسلام ليس ماضيا درسه ومستقبله العلمانية بل الماضي هو العلمانية والمستقبل هو الإسلام المستعاد بعد تحريره مما شابه بسبب انحطاط أهله.فنحن في لحظة تاريخية جليلة أشبه ما تكون بلحظة النشأة الأولى :لحظة الاستئناف بإبداع معاني الرسالة وكأن القرآن نزل اليوم ليحررنا من النكوص.وكل حلمي هو أن أسهم ولو ببذرة في إعادة اكتشاف معاني الرسالة ودلالات الاستراتيجية القرآنية في توحيد البشرية حول قيم الاستخلاف القرآنية.ولهذا حاولت أن أعيد النظر في جل علوم الملة لبيان أنها لا تستند إلى القرآن بوصفه المرجعية بحد ذاتها بل بقراءته في حالة الطوارئ بعد الفتنة. 45 26
فالحرب الأهلية التي ولت الفتنة الكبرى فرضت على الأمة حالة طوارئ وعطلت الدستور إلى الآن :فاعتمد الفكر الإسلامي على الاستثناء بدل القاعدة.وتفرع ذلك بين التحريف المطلق قولا وفعلا وهو الحل الشيعي الذي أعاد السلطة الروحية الكنسية والحق الإلهي في الحكم :عصمة الإمام ووصية الحكم.وهما حلان ينفيان ثورتي الإسلام أي الحرية الروحية (لا وساطة) والحرية السياسية (لا وصية) .لكن السنة نفتهما بالفعل وحافظت عليهما بالقول.أي إن الفقه السياسي السني يقول بالاختيار والبيعة الحرة وبعدم الوساطة لكنه في الفعل أضفى الشرعية على المتغلب وجعل رجال الدين وسطاء (الفتوى).ومما ينبغي الإشارة اليه وهو ظاهرة شديد الغرابة وارجج انها ذاتية للحضارة كحضارة وليست بالإسلام :مرجعية الزهد السنية ومرجعية التصوف الشيعية.وهما في البداية مثل الإسلام ظاهرة سلوكية وحادة لتطبيق ما يسميه ابن خلدون بمجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة .ودعوى الكشف واللدنية تحريف شيعي.وقد عين ابن خلدون لحظة هذا التحريف فنسبها إلى اختلاط التصوف بالباطنية في العراق ومحاكاته التنظيم الشيعي للدولة الخفية بمعنى اخوان الصفا.فتكون الظاهرة مثلثة الأبعاد :الأصل هو الزهد ثم تفرعه إلى ما بقي سنيا وما اخترقه التصوف: .1الزهد السني .2التصوف الشيعي. وتداخل الوجهان. فتكون المرجعية ذات خمسة أفرع: .1التشيع انفصل عن وحدة المرجعية قبل أن توجد صفة السنة. .2السنة بوصها غير ما انفصل عنها. .3وفي الخلق الديني. وهنا أيضا: 45 27
.4انفصل التصوف عن الخلق الديني تبعا للانفصال الشيعي المذهبي السياسي. .5فتحدد الخلق الديني كزهد تبعا للأصل السني المذهبي السياسي. فما معنى الخلق الديني ولم هو عين الزهد؟حياة متخلصة من الدنيا مع السلطان عليها بما أوصى به القرآن من شروط :تعمير الأرض بقيم الاستخلافوليس فيه استثمار سياسي للزهد .التصوف يختلف عنه الزهد بترك الدنيا ليكون ذا سلطان على الضمائر استعمالا شيعيا للرمز في الوساطة بالكرامات.تلك هي مستويات المرجعية في الإسلام سابقا :إسلام غير منقسم عقيدة وشريعة يتعين في السلوك السياسي والروحي ثم ينفصل إلى تشيع وتصوف وتسنن وزهد.تلك هي مستويات المرجعية في الإسلام سابقا :إسلام واحد عقيدة وشريعة إيمان وعمل في السلوك السياسي والروحي ثم ينفصل إلى تشيع وتصوف وتسنن وزهد.وهذه التعيينات للمرجعية الإسلامية لم تعد ذات فاعلية مستقلة لأنها بعد عصر الانحطاط والاستعمار صارت صورة تأصيلية في صراع مع صورة تحديثية.وكلتا الصورتين لا تعبران عن حقيقة الاصيل ولا عن حقيقة الحديث لأنهما تعرفان نفسيهما بالتنافي لكأن الأمرين لا يشتركان في قيم كونية حقيقية.فنتجت حرب مرجعيات هي بلغتنا الحديثة صراع حضاري داخلي بين صورتين كاريكاتوريتين من الاصالة والحداثة فآلتا بالصراع إلى البغدادي والعتيبة.ومعلوم أن البغدادي والعتيبي يعلمان أن كلا منهما يحدد موقفه بنفي موقف الثاني لكن لا أحد منعها مدرك بأن مجرد كاريكاتور مما يتكلم باسمه.ولذلك فكلاهما لا يمكن ألا بكون إرهابيا أي ألا يستعمل السياسي بمعناه الحقيقي بل يقصره على العنف والخبث محاكاة لأحد وجهي الغزو الاستعماري.ولذلك فكلاهما يميل إلى الكذب والخداع باستعمال وسائل التواصل الحديثة والعنف الاقصى والفرق الوحيد أن البغدادي يستعرضه والثاني يستعرض عكسه. 45 28
لكن عنف سياسة العتيبيين أشد واقصى من عنف سياسة البغداديين :فمهما فعل البغدادي لن يصل إلى ما رأيناه في أبو غريب ،المتحضر أعنف لأنه أكثر تجهيزا.أشد الإرهابيين في العالم \"المتحضرون\" :إسرائيل وأمريكا وروسيا وقبلهما أوروبا عندما كانت سيدة العالم وقد لحق بهما الصين والهند ومحمياتهم.تلك هي الأمور التي ينبغي درس تحريفاتها لعلاجها ثم البناء على النسبة بين الموجود والمنشود بمقتضى قيم القرآن :منهج الإسلام بالتصديق والهيمنة. 45 29
حددنا في الفصول السبعة الاول حول شروط الاستئناف استراتيجية التحرر والبناء الحضاري معايير التقويم والامور التي تحتاج إليه لتشخص الأدواء.واقتصرنا على إشارات وجيزة حول الوضع المتردي في المجالات التي سيطرت عليها الأمراض التي أجملها ابن خلدون فيما سماه فساد معاني الإنسانية.فلنذكر مفهوم فساد معاني الإنسانية الناتج عن التربية والحكم العنيفين أي بوجهي السياسة التي هي عنده صورة العمران ففيه تشخيص أولا ننطلق منه. نشرع في التشخيص باعتماد التقييم على أساسين: .1ما تحقق من حقيقة الصفات في أحياز الموصوف الذاتية له. .2دوره في تحقيقها في الأحياز الخارجية.ما القدر من حقيقة الصفة في السياسي والعالم والاقتصادي والفنان وصاحب الرؤى المتوفر فيهم بالترتيب الارادة والعلم والقدرة والحياة والوجود؟المعلوم أن السياسة ببعدها عند ابن خلدون هي التربية والحكم أي في المجمل ما عرفناه بوظائف الرعاية ووظائف الحماية في كل دولة ذات سيادة حقيقية.ومعنى ذلك أن ما قدمته في هذه المحاولة إلى حد الآن هو التأسيس النظري للحكم الخلدوني الذي اجمعه في عبارة غريبة في عصره \"فساد معاني الإنسانية\".فهي عبارة تعني المعاني التي بصلاحها يكون الإنسان إنسانا وبفسادها يفقد إنسانيته. وهي جوهر القيم الكونية التي يشترك فيها الإسلام والحداثة. فلنورد النص:\"ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم -1سطا به القهروضيق على النفس في انبساطها -2ذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل -3وحمل على الكذبوالخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط ا لأيدي بالقهر عليه -4وعلمهالمكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا -5وفسدت معاني الإنسانية التي له من 45 30
حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيرهفي ذلك وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعادة في أسفل سافلين\"ونفس التقييم طبقه على أثر الحكم فعمم الحكم على الجماعة بعد كلامه على الفردلكأن الحكم هو تربيتها \"وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسفواعتبره في كل ما يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به .ونجد ذلك فيهماستقراء .وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق ا لسوء حتى إنهم يوصفون فيكل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه\". (المقدمة الباب 6الفصل :)40نتائج التربية والحكم.الأمر المهم في نص ابن خلدون أنه لا يكتفي بالفرد والجماعة نفسيا وخلقيا بل يعدد مجالات التأثير ويصلها بأحياز الفرد وفي علاقته بالخارجي منها.وابن خلدون لا يكتفي بذلك بل يتكلم على الرعاية والحماية عندما بين أن الفرد يصبح عالة على الغير فيهما ويحدد حصيلة فساد هذه المعاني الخمسة.فالحصيلة\" :وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين\"وهذه الحصيلة هي الدافع الأساسي للبحث الذي نقوم به :فنحن نريد فهم علة كون الفرد والجماعة بهذه الحال التي وصفها ابن خلدون في كل بلاد العرب.فحالنا هي حال اليهود عندما كانوا مضطهدي العالم كما يصفهم ابن خلدون مبينا أن ذلك ليس صفة عرقية ولا ثقافية بل هو نتيجة تربوية وسياسية.وفي التعليل الخلدوني أمل كبير :تعليل فساد معاني الإنسانية في الفرد (أسلوب التربية) وفي الجماعة (أسلوب الحكم) بعدي السياسة يحدد طريقة العلاج.فإذا حددنا ما يحتاج إلى الرعاية وما يحتاج إلى الحماية أمكن القول إن فساد معاني الإنسانية يتعلق بالأحياز في كيان الإنسان وبها في محيطه. 45 31
فتكتمل نظرية ابن خلدون على أسس مضمرة في مقدمته لكنها في الحقيقة واردة فيها دون نسقية لأن أفكار المبدع تتدفق بفورات بحاجة إلى الانتظام.نظرية الصفات المعبرة عن الأحياز في الفرد وتصنيف النخب بحسب غلبة واحدة منها على المنتسبين إليها ونظرية الأحياز تساعدان في تنظيم تشخيصه.ولنبدأ بالمبدأ العام :كل نخبة تتحدد بغلبة إحدى الصفات الخمس على الفرد المنتسب إليها لكن الغلبة لا تنفي وجود بقية الصفات لأنها من مقوماته.فهي معاني الإنسانية المقومة لكيان كل فرد وغلبة أحدها المحدد للنخبة يجعل الصفة الغالبة شبه منظور أحيازها الذاتية للعلاقة بالأحياز الخارجية.فكل فرد تغلب فيه صفة الإرادة يميل للفعل السياسي الذي هو إرادة فرد يعتبر نفسه ممثلا لإرادة الجماعة وهكذا بالنسبة لكل فرد تغلب صفة.فمن تغلب عليه صفة العلم يمثل علم الجماعة ومن صفة القدرة قدرة الجماعة ومن صفة الحياة حياة الجماعة ومن صفة الوجود رؤى الجماعة :إذن معياران.وجود الصفة في النخبة وتمثيلها للصفة في الجماعة .ووجود الصفة في النخبة يتعين في أحياز كيانها وتمثيلها للصفة في الجماعة تتعين في أحيازها.ورأينا أن تحديد أحياز الجماعة أيسر من أحياز الفرد :فهي جغرافيتها وتاريخها وتراثها وثروتها ومرجعيتها .لكن أحياز الكيان الفردي أعسر تحديدا.فالجغرافيا غير الطبيعية مكان صورته حضارة .والتاريخ غير الطبيعي زمان صورته حضارة .والتصوير هو التراث والثروة وتوحدها المرجعية أو رؤى الوجود.رؤى الوجود والسياسية المترتبة عليها متعينة في مرجعية الجماعة وإرادتها في تصوير الأحياز أي المكان والزمان لجعلهما جغرافيا وتاريخ حضارة.ويكون فنون الجماعة وعلومها هما الصورة نفسها التي تحققت في الأحياز مكانا وزمانا لإنتاج تراث الجماعة وثروتها بعمل الذوق غاية والعلم أداة.والتراث والثروة هما الإنتاج الثقافي والإنتاج الاقتصادي تبدعهما الجماعة لتحقيق شروط الرعاية تكوينا وتموينا والحماية داخليا وخارجيا :الدولة. 45 32
والإنتاج مادته الأحياز وصورته الأفعال وهي بعدة الصفات :أفعال الإرادة وأفعال العلم وأفعال القدرة وأفعال الحياة (الذوق) وأفعال الوجود (الرؤى).والأفعال التي هي ثمرة الصفات هي تعين الأحياز في كيان الفرد جسده الحي مكان وروح زمان يبدآن طبيعيين فيتم تصويرهما ليصبحا حضاريين مثقفين.وتثقيف البدن والروح (بمعنى التثقيف اللغوي) بالرعاية تكوينا وتموينا .فالجماعة تحل في الفرد ما يستمد من الأحياز الخارجية في كيانه بدنا وروحا.والأفراد كل في نوع من النخب الخمسة هم الذين بصفاتهم ينقلون الأحياز الخارجية من الطبيعية إلى الحضارية بأعمالهم .فيكون الفرد وسطا بينهما.فهو يحول ما يستمد من الأحياز الخارجية إلى الأحياز الداخلية فينتج شروط تواصل الحياة بالتوالد وشروط تواصل الحضارة بالإبداع :حامل حياة وحضارة.لكن ما يضفي المعنى على هذه الوساطة ويعطي للفرد دلالة الخلود فلا يكون مجرد قطعة غيار في آلية الحياة والحضارة هو سر المعادلة الوجودية.فمن دون ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ من تعال لا يمكن أن يكون الفرد أكثر من مجرد قطعة غيار في مجرى الحياة عضويا وفي مجرى الحضارة رمزيا.وهذان الماوراء هما قطبا المعادلة :الله والإنسان .وبهما تنقلب دلالة الطبيعة والتاريخ. فهما يتحولان إلى أداتين وبدون القطبين هما غايتان.فتكون المعادلة مؤلفة من قطبين هما الله والإنسان ومن وسيطين هما الطبيعة والتاريخ ومن قلب هو التواصل بين القطبين مباشرة وبتوسط الوسيطين.وكل معنى حقيقي للصفات الخمس التي تثمر الافعال الخمسة يستمد من هذين القطبين وما بينهما من علاقة :أساس السياسة تربية وحكما لمعاني الإنسانية. 45 33
في الفصل التاسع من بحثنا في شروط الاستئناف نبدأ بتشخيص داء الزوجين الاولين من قاعدة الهرم :نخبة الإرادة السياسية ونخبة الرؤية الوجودية.هل النخبة العربية التي تدعي تمثيل الإرادة السياسية في الحكم وفي المعارضة تتصف بالإرادة حقا وبتمثيل إرادة الجماعة فعلا أم هي اسم بلا مسمى؟قد لا يصدق القارئ أنها لا تتصف بالإرادة ولا تمثل إرادة الجماعة وذلك لأنها تخضع لإرادة من تستمد منه وجودها وبقاءها وممثليه في كل بلد عربي.فلو كانوا حائزين بحق على صفة الإرادة لما خضعوا لحماية سيد يعتبرهم موظفين عنده إذ هو لا يحمي من كان ذا إرادة غير تابعة والتبعية نفي للإرادة.وكونهم تابعين لسيد يحميهم فهذا يعني أنهم لا يمثلون إرادة الجماعة وهو يحميهم فوجودهم وبقاؤهم ليس بإرادة الجماعة إذا ما استثنينا عملاءه فيها.لذلك فلا تصح عليهم صفة الإرادة الذاتية فضلا عن صفة تمثيل الإرادة الجماعية. وهذان النفيان يعنيان أمرين: .1لم تتحقق الصفة في أحيازهم الذاتية .2والامر الثاني لا تعنيهم رعاية الجماعة ولا حمايتها .ورعاية الجماعة وحمايتها هما عين رعاية الأحياز الخارجية وحمايتها فالسياسي العربي عميل لحاميه.والعمالة للحامي تعني إطلاق يديه في الاحياز الخارجية (المكان والزمان والتراث والثروة والمرجعية) يفعل بهاما يناسب مصالحه بتوظيف استبداده وفساده. لكن ذلك قد يعتبر مجدر اتهام مني كناقد غير موضوعي :لذا أقدم المعيار الثاني. فما معنى دور السياسي في رعاية الجماعة وحمايتها بعلاقته بالأحياز؟المعيار الثاني هو حقيقة الإرادة :فخاصيتها أنها كسياسية لا محدودة ولا محدوديتها تعني شمول كل المعمورة .الإرادة السياسية توسعية بلا حد. 45 34
ومثالها هو السياسة المحمدية :كانت الرسالة تعني أن دولة الإسلام ليس لها حدود .إنها في تمدد متواصل لتشمل المعمورة :دولة رسالة شاملة للإنسانية.ما يحدها هو إرادة منافسة .ومن ثم فالإرادة صفة غايتها التوسع الدائم وأدتها تحقيق شروط التوسع لأن جغرافية العالم حصيلة توازن قوة الإرادات.فما يسمي دولة لا يمكن أن تكون محمية إذ هي لسان السيادة وما يسمى سياسي لا يمكن أن يكون عديم الإرادة بحيث يقبل أن يكون طرطورا في محمية.وبهذا المعنى لا توجد دولة عربية كلها محميات ولا يوجد ساسة عرب كلهم طراطير. المحمية تابعة لدولة وليست دولة والمحمي تابع لسياسي وليس سياسيا.وما أظنني بحاجة لأكثر من هذا للدلالة على أن الساسة العرب اسم بلا مسمى وأن الدول العربية اسم بلا مسمى .فهي عديمة السيادة وهم عديمو الإرادة.ولكن لا بد من التنبيه لأمر قد يبدو مكذبا لما أقول :فأحيانا يبدو السياسي العربي وكأنه صاحب إرادة لا تقهر ودولته ليست محمية بل قوة عظمى.وهذه المظاهر من خدع الاستعمار :فهم يحاربون العرب بعضهم بالبعض فيجعلون أكثرهم تبعية لهم يبدو وكأنه صاحب سيادة بما يسمحون له به من عنتريات.كذلك فعلوا بالقذافي وبصدام وبناصر إلخ ..من زعماء الأقوال وعدماء الأفعال بدليل الحصيلة :الخراب التام. مصر اليوم دون مصر الملكية رغم فسادها.والعراق وليبيا وتونس والجزائر وهلم جرا كلهم بعد ثلاثة أرباع القرن ما يزالون مثل الصومال إذا تجاوزت الفترينة التي يخدعون بها شعوبهم.ولن يصدق الكثير من القراء أن إيران لا تختلف عمن ذكرنا :عنتريات يحتاج إليها الحامي الذي يريد أن يضفي المصداقية على محميه ليحقق وظيفة يريدها.فعبد الناصر وصدام والقذافي وبورقيبة وبقية الحكام العرب ومثلهم حكام إيران يؤدون وظيفة في استراتيجية المستعمر نرى الآن نتائجها في حال الأمة. 45 35
حرب أهلية عربية بين من يدعون القومية والحداثة ومن يدعون الإسلام والأصالة نصف قرن .فما الحصيلة :أضاعوا القومية والحداثة والإسلام والاصالة.وتبين الآن أن القومية طائفية وأن الحداثة رذائلها دون فضائلها وأن الإسلام قشوره دون لبه وأن الاصالة تقاليد الجاهلية بغباء قبلي وجهالة بدوية.وأصبح كاريكاتور الإسلام والأصالة يدعي كاريكاتور العلمانية والحداثة وأصبح كاريكاتور القومية والحداثة يدعي الإسلام والأصالة الطائفيتين.ولا يجمع بين الصفين إلا انتسابهم للثورة المضادة التي تحارب التأصيل والتحديث المبدعين لأن أصحابهما ثارا على التبعية لشعب حر يريد دولة سيدة.لكن الثورة التي تعبر عن إرادة الشعب لم تجد قيادات سياسية مدركة لشروط السيادة إذ سرعان ما أصبحوا مثل من قبلهم راضين بنفس المحميات التابعة.لم يفهموا أن الرضا بالأحياز في شكلها الحالي يجعل كل بلاد العرب بالضرورة محميات: فالمستعمر وطد ما يسمونه بالدولة الوطنية حتى تكون محميات.والمثال بين في تقسيم سايكس بيكو وفي تفتيت الخليج الذي صارت فيه كل قبيلة دولة اي محمية بريطانية سابقة وأمريكية لاحقا .وقس عليه المغرب الكبير.ومعنى ذلك أن الثورة هي بدورها من يقودها ليس أهلا لتمثيل إرادة الشعب الذي ثار: يريد الحرية والكرامة وهما مستحيلتان ما ظلت بلادنا مفتتة.السياسي إذا كان بحق متصفا بالإرادة وممثلا بحق لإرادة الجماعة هو الذي يعلم شروط مطالبها فيسعى لتحقيقها وإلا فهو زائف وعميل وطرطور كسابقيه.وهكذا يتبين أن المشكل هو في الرؤى الوجودية :فأصحابها (رجال \"دين\" و\"فلاسفة\" علمانيين) ليسوا أصحاب رؤى وجودية ولا ممثلين لرؤى الجماعة وقيمها.من ذلك أن متفلسفة أردنية نشرت مقالا في جريدة الغد بعوان \"خداع أبو يعرب\" ظنت أن قولي بكونية الإسلام وإرادة حكم العالم ذما .وهو عندي مدح.فهذه حقيقة كل سياسة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية :ماذا تفعل أمريكا غير هذا؟ وما تنوي الصين غير هذا؟ إلخ ..غباوتها تريها المحميات دولا. 45 36
قد يقربها ذلك من الحماة .لكنه لن يجعلها إنسانة حرة بل مجرد عميلة لعملاء ككل من يدعون رأيا فلسفيا أو دينيا لإضفاء الشرعية على الوضع الحالي.فالتفاف جل رجال الدين وجل المثقفين العلمانيين حول الانقلاب أفضل مثال عن إرجاع مصر إلى عقلية القبول بالتخلي عن الحرية والكرامة لشعب ثار.فهل يصح أن نسميهم أصحاب رؤى وجودية أي ساعية لتحقيق حرية الإنسان وكرامته؟ طبعا لا .إنهم عين من وصف ابن خلدون بمفهوم \"فساد معاني الإنسانية\".حصيلة هذا الفساد\" :وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين\" .ليس أسفل منهم.كل هؤلاء لا يمثلون رؤية وجودية تؤمن بحرية الإنسان وكرامته فتمثل إرادة الشعوب التي ثارت بل هم كـ\"الفيلسوفة\" الأردنية :عبيد تبعية المحميات.وإذا صح ما تقوله \"الفيلسوفة\" على الاخوان من أنهم يريدون حكم العالم فمعنى ذلك أن لهم حقيقة الطموح السياسي الكوني في جميع الأمم وهو مدح لا ذم.ليس لي انتساب حزبي لا للإخوان ولا لغيرهم .لكن هذا هو معنى الإرادة السياسية في كل الحضارات .أما رايها فمجرد دفاع عن طراطير الثورة المضادة.والشعب لما ثار طلبا للحرية والكرامة لم يجد بعد في قياداته من يفهم أن الحرية والكرامة ليست ممكنة لما جعلت أحيازه فارضة عليه قزمية المحميات.ما يسمونه دولا هو قطع مشوهة من جغرافية الامة وتاريخها تلغي شروط التنمية المادية والروحية فتجعل شعوبها عبيدا للطراطير وحماتهم و\"فلاسفتهم\". 45 37
نخصص هذا الفصل العاشر للزوجين الثانيين من قاعدة هرم الصفات التي صنفنا بها النخب في كل أمة وحضارة والافعال التي تناظرها فرض كفاية فيهما.فبعد الإرادة والوجود صفتين تميزان نخبة السياسة ونخبة الرؤى الوجودية يأتي دور العلم والحياة صفتين تميزان نخبة العلماء ونخبة الفنانين. نريد أن نقيم هذين النوعين من النخبة في لحظتنا العربية: .1هل لنا نخبة علمية ونخبة فنية تبدعان علوما وفنونا؟ .2أم إن ما لنا منهما مجرد أسمائهما؟وهنا أيضا الجواب يكون بتطبيق نفس المعيارين :حقيقة العلم وحقيقة الفن ثم دورهما في الأحياز الذاتية لأصحابهما وفي الخارج من أحيازهم وجماعتهم.لو اكتفينا بظاهر الأمر وبالأسماء لكانت الامة اليوم في ذروة الإبداعين العلمي والفني. فعدد الطلبة في جامعات العرب اليوم :أكبر من سكان إسرائيل.إسرائيل من قادة العالم في الابداعين والعرب لا ذكر فهم في أي منهما .وطبعا ليس الأمر كله رهن الأفراد والنخب فما تقدم في الزوجين الأولين حاسم.ومع ذلك فلا ينبغي حصر المسؤولية نخبة السياسة ونخبة الرؤى الوجودية دينية كانت أو فلسفية :فأصحاب السلطان على \"محاضن\" العلم والفن مسؤولون كذلك.وغالبا ما يكونون أكثر استبدادا وفسادا لأن من شرط تنصيبهم على المحاضن أن يكون دون سادتهم من الساسة وأصحاب الرؤى خلقيا ومعرفيا لأنهم أدواتهم.وأكاد أجزم أن تسعين في المائة من الشهادات مزورة إما تزويرا كليا لأنها مشتراة أو تزويرا جزئيا لأنها من جنس ما يعطى للأجانب تفضلا واحتقارا لهم.فالكثير من الدارسين في فرنسا-من جيلي -شهاداتهم اسم بلا مسمى :التباكي بدعوى أنهم مقاومون للأنظمة أو احتقار الاساتذة لبلد الطالب (سيضر بلده). 45 38
وكلما كان بلد الطالب أغنى غلب اشتراء الشهادة وكلما كان أفقر غلب التباكي والاحتقار .لكن فحتى الباقي عشرة في المائة أكثر ممن بنوا الغرب الحديث.ففي فرنسا كان عدد الحاصلين على الدكتوراه في فرنسا قبل الحرب الأولى باعتبار النسب مع السكان أقل من عددهم في جل بلاد العرب اليوم. ما الثمرة؟والأدهى أن المستوى في تنازل في كل بلاد العرب حتى صار فيها لا يتجاوز محو الامية .ما عليه التعليم في مصر وتونس من تراجع أمر مرعب ومذهل.أبهة التجهيز المادي في بعض البلاد العربية لا فائدة منها .فالإبداع العلمي والفني ليس مثل استيراد لاعبي الكرة :يشترى صاحبها بالمال والتجنيس.لا بد من شروط ذكرناها في كلامنا على السيادة .إذا لم تكن الجماعة ذات حجم وطموح لتحقيق شروط السيادة فلا يمكن أن تبدع في أي مجال مهما صرفت.ولأضرب مثال تونس :كل دخلها الوطني لا يكفي لبحث علمي قادر على المساهمة الفعلية في الإبداع العلمي والفني بمدى عالمي إلا بندرة الكبريت الأحمر.وهذه مسألة الحجم تسليما بوجود الطموح .وحتى لو وجد الحجم والطموح فإن استبداد نخبة السياسة ونخبة الرؤى وفسادهما لن يجذبا الكفاءات بل يطرداها.لكني أعتقد أن الأمر ما يزال متعلقا بغلبة من لهم صفات العلم والفن اسميا وليس فعليا وسلطانهم على التكوين والتموين من أجل الرعاية والحماية.فهم توابع نخب السياسة والرؤى ومن ثم فالغالب عليهم روح الاستبداد والفساد لأنهم في الحقيقة لا يرون إلا ما يستمدانه منهما من سلطان سياسي.فاستمداد السلطان السياسي من سلطان علمي وفني كاذبين هما السائدان في المحميات العربية :ما المنتظر إذا كان السيسي يعين رؤساء الجامعات؟وإذا كان حاكم أبو ظبي وحاكم السعودية هما اللذين ينتخبان علماء الدين ورؤساء الجامعات فما الحصيلة التي يمكن أن ننتظرها :الارذل بدل الأفضل. 45 39
هذا إذا سلمنا أن النظام التكويني يعطي الأفضل .لكن الأفضل نسبي وهو موجود حتى بمقتضى المواهب الطبيعية التي توجد في أي نظام تعليم مهما تردى.بعد هذه اللمحة العامة فلنعد للتشخيص بالاعتماد على معيارينا :كيف تكون صفة العالم اسما مطابقا لمسماه؟ وهي تحقق في كيانه وأحيازه الذاتية.والمعيار الثاني :كيف يكون العلم ذا ثمرة في الأحياز الخارجية أي مساعدا على سد حاجات الذوق بمستوييه وتحقيق الرعاية والحماية شرطين للسيادة.وحتى نفهم جيدا دلالة هذا المعيار الثاني ينبغي أن ندرك أن الاعداء يفهمونها :مرسي لم يعزل لكونه إخوانيا بل لكلامه على السلاح والغذاء والدواء.فأي سياسي أو عالم له وعي بشروط السيادة وخاصة سعي لتحقيقها رأسه مطلوبة علما وأن ذلك حتى لو وجد ليس كافيا ما ظلت الأحياز مفتتة لمنع شرط الشروط.وشرط الشروط هو حجم الاحياز :الحجم الجغرافي والحجم التاريخ وحجم التراث وحجم الثروة طبيعة المرجعية وديموغرافيا المؤمنين بها والساعين إليها.وشرط الشروط هذا بداية لا تفيد إذا لم يتحقق ما وصفنا في الفصل السابق (السياسة والرؤية :المشروع والإرادة) وما نصف في هذا الفصل والذي يليه. ما حقيقة الفعل العلمي سواء كان مبدعا أو حتى مطبقا لما سبق إبداعه؟ لا بد أن ينتسب إلى المسائل والحلول التي تنتج عن غايات الذوق بمستوييه.وهي أمور أطنبنا في علاجها عند كلامنا على دور الترميز الغائي والأداتي وكلها مسائل وحلول كوينة ومحليتها مقصورة على موادهما دون قوانينهما.لكن ما يلاحظه أي مطلع على \"منتج\" الجامعات العربية هو أنها لم تصل إلى الكونية ولم تفهم دور الترميز العلمي فضلا عن الفني الذي هو إبداع صرف.فالعلم يغلب عليه الاتباع للظن أن كونيته تلغي تعدده فيكون بحوثا شبه متحدة المنهج والغاية لكن الفنون بعكسها لها كونية الذوق المتعدد للإنسان.والجمع بين الكونية الصورية (نظام الترميز) والمحلية المادية (راهن المسائل) من أعسر الابداعات ومن ثم فالفنون العربية لم تصل إلى تحقيق أدنى شروطه. 45 40
وكبار المبدعين يجمعون بين الإبداعين العلمي والفني المباشرين أو حتى غير المباشرين: فأرسطو مثلا في كتاب الشعر مبدع غير مباشر في فن الشعر.وهو في آن مبدع علميا في الفن لأنه وضع نظرية التراجيديا والكوميديا وحدد محاور نقدهما بمقتضى حقيقتهما كما نظر لها .وكان لي شرف تدريس كتابه.فأكبر مبدعي ألمانيا في الأدب لم يخلدوا إلى واقعية الترجمة الذاتية لأقزام الأدب بل كان لهم دور في الإبداع العلمي وعلم الفن ودوره :جوته وشلر.العلم والفن كليان بالصورة والطريقة ومحليان بالمادة الترميز .وبهما معا يكون لهما دور أحياز الفرد الذاتية وأحياز الجماعة :مكانها وزمانها وثمرتهما.فتكوين الإنسان فردا وجماعة وتموينه كلاهما رهن ما يبدعه الإنسان الذي لم تفسد فيه معاني الإنسانية ولم يصبح عالة على إبداع جماعات اخرى.فالعلم شرط العلاقة العمودية لتواصل الجماعة مع الطبيعة فتضمن بقاءها البايولوجي. والفن شرط العلاقة الافقية لتواصل البشر فتضمن بقاءها الثقافي.وتنقل العلاقة العمودية المكان بإبداعات العلم إلى جغرافيا حضارية .والعلاقة الأفقية تنقل الزمان بإبداعات الفن إلى تاريخ حضاري :دور غائب عندنا.فما يجري هو استيراد ثمرات العلوم وثمرات الفنون دون الابداعين العلمي والفني: فالإبداع لا يستورد بل ينتج عن تكوين وتموين متحررين من التقليد.لكننا رأينا أن ما يسيطر على لحظتنا هو حرب الدعشنتني صداما حضاريا بين كاريكاتور التحديث (العتيبية) وكاريكاتور التأصيل (البغدادية) :المأزق. 45 41
وصلنا الآن إلى الفصل الاخير من شروط الاستئناف ونخصصه للقدرة صفة مناظرة للاقتصاد الذي جعلناه هنا قمة الهرم بدل المرجعية في فصل سابق.فيصبح من الواجب أن نشرح هذا التغيير في بنية هرم صفات الأفراد والنخب ووظائفهم هنا بخلاف ما عرضناها عليه في فصل تحديد معير التقييم.ففي تحديد المعايير لتحديد شروط الاستئناف والبناء الحضاري السوي عرضنا هرم الصفات والوظائف بصورة تجعل المرجعية هي ذروة الهرم والبقية قاعدته. لكننا هنا جعلنا ذروة الهرم الاقتصاد .فما العلة يا ترى؟العلة هي أن الامر الآن يتعلق بالهرم الذي هو هرم دين العجل مرجعية العولمة ومحميات سادتها.فشبائه الساسة وأصحاب الرؤى والعلماء والفنانين كلهم يعبدون العجل بمادته أو دور رمز الفعل (الاقتصاد) وخواره التابع لمعدنه فعل الرمز (الثقافة).والاستئناف الذي نطمح إليه هو تحرير البشرية من دين العجل .لذلك فكل ما يجري هو من مفاعيل الحرب على الإسلام بوصفه الأمل الوحيد لتحريرها منه.ليست عبادات الإسلام هي التي تزعجهم بل رسالته التي لا تقتصر عليها بل تشمل السياسة التي هي تربية وحكم يصلحان ما أفسدوه من معاني الإنسانية.فتفهم أن حكام العرب بصنفيهم القبلي والعسكري يحاربون هذا الدور أكثر حتى من حماتهم الذي يحاربونه منذ نشأته إلى حرب الكاريكاتورين الحالية.وهذا الوصف الذي يشبه المعادلات الرياضية لعرض اشكاليات الوضع العربي الراهن وشروط السيادة حماية ورعاية مشروطة بالفرضيات النظرية التي وضعناها.وما لم نؤمن بأن المسائل التي تتعلق بالأدواء تشخيصا وعلاجا لا تدرك بالصدفة فهي ليست تطرأ في الاذهان بمحرد الحدوس العفوية لن نستطيع التقدم. 45 42
فنظرية الأحياز الخارجية لقيام الجماعة والداخلية لقيام الأفراد وتناظرهما ونظرية الصفات المقومة لكيان الفرد والنخب تحددان نسيجها وتفاعلاتها.وأخيرا فهرم الصفات وتناظره مع هرم الوظائف هي التي تجعل التشخيص يصبح شديد الدقة فنرى في الغاية العلاقات بين عناصر وضع الامة وطريقة العلاج.نحن الآن أمام قمة الهرم :نخبة القدرة في أي جماعة هي نخبة الاقتصاد .ومنها يأتي الخير كله أو الشر كله لأنها بدين العجل تتحكم في بقية النخب.وقوة الاقتصاد (رمزها العملة) وقوة الثقافة (رمزها الكلمة) هما وجها كل سلطة :على الإنسان فردا وجماعة بالذوق والعلم بمستوييهما غاية وأداة.فالإنسان تابع لحاجاته المادية والروحية إذا لم يكن وراء الطبيعة والتاريخ مجالي وجوده ما يتعالى عليهما فيعليه معه لئلا يكون مخلدا إلى الأرض.كل أدواء الإنسان فردا وجماعة وجنسا تعود إلى الأخلاد إلى الأرض لأنه هو مصدر اللامتناهي الزائف :فالذوق بمستوييه (الأكل والجنس ورمزاهما) لا يشبع.والعلم بمستوييه سد حاجتهما وحاجة رمزيهما) يهم تطبيقاته إشباع ما لا يشبع فيخرب العالم ويفسده (التلوث والأوزون) :سلطان الاقتصاد على الإنسان.والمجتمعات التي صارت هذه رؤيتها الوجودية (العلج الذهبي) كلها مريضة بالاستهلاكوية المخربة للعالم .ونحن في خراب مضاعف :استهلاكوية دون إنتاج.كمن يعيش بزاد ناضب\" :اجبد ما ترد الاجبال تنهد\" مثل تونسي بمعنى أننا ليس لنا ما يعوض ما نفقده من زادنا الذي هو منتج ناضب هو ثروات الطبيعة.وهذه الحال التي يصبح فيها الاقتصاد ذروة الهرم ليست محلية فحسب بل هي عالمية بل هي جوهر العولمة التي هي عصر العجل الذهبي بمعدنه وخواره. السلطان العالمي بيد مافيات المعدن والخوار: .1البنوك والبورصة والاقتصاد المشتق. .2هي الإعلام والفنون للتخدير السياسي والثقافي :عصر المافية 45 43
ومشكلتنا أننا خاضعون لمستويين من المافية :المافية التابعة وهي محلية في المحميات والمافية المتبوعة وهي دولية في الحاميات :الحرب على الإسلام.وبفضل سلطان معدن العجل (ورمزه العملة) وسلطان خواره (ورمزه الكلمة) يوظف أدنى ما في الإنسان لتأبيد السلطان: .1استعباده ببدنه .2استعباده بروحهوهنا يصبح الغذاء والجنس أهم أداتي العبودية .وغالبا ما يستعبد الفقراء بالغذاء والاغنياء بالجنس :أداتا التجنيد المخابرات والتبشير الإيديولوجي.ويصحب التجنيد المخابرات تخريب كل دولة تحاول التحرر وبالتبشير الإيديولوجي (والديني) يصحبه تخريب كل مرجعية تصمد ضد التحريف :سيطرة مادية وروحية.وبالمستويين المحلي والدولي نفهم ما يحدث في دولنا التي هي محميات لقوى دولية ولأذرعهما في الإقليم (إيران وإسرائيل) :مافيات داخلية وخارجية.وكما بينا في كلامنا على الزوج الأول الإرادة السياسية والرؤية الوجودية سيطرة الاستبداد والفساد بنفس الآليات وارهاب المحميات الرسمي الداخلي.لكنه حاصل على تأييد الإرهاب الرسمي الدولي الذي يمارسه الحماة على الشعوب ويوظف له طراطير العرب أدوات تعذيب وتجويع ونفي لكل حقوق الإنسان.فتصبح النخبة السياسية ونخبة الرؤى و\"العلماء\" والفنانين كلهم في خدمة صاحب العجل: فيحال دون التخلص منه بما يؤدي إلى افساد معاني الإنسانية.ابن خلدون حصر افسادها في علتين هما وجها السياسة :عنف التربية وعنف الحكم .لكن العصر الحديث بين أن هذا العنف ليس مقصورا على العنف المباشر.ذلك أن الجماعات الحديثة صارت تابعة في كل شيء للدولة الحديثة رعاية وحماية. فيكون العنف بهذا السلطان المطلق :فالحماية والرعاية تنعكسان.لا حماية داخلية لعدم وجود قضاء وامن عادلين بل هما أدوات طراطير المحميات .ولا حماية خارجية دبلوماسيتها وجيشها أعداء الامة لا الجماعة منهم. 45 44
ولا رعاية تكوينية لإهمال التربية النظامية والاجتماعية ولا رعاية تموينية لفساد الثقافة روحيا والاقتصاد ماديا مع انعدام شرطي الحماية والرعاية.فلا وجود لنظام استعلام واعلام للحماية الداخلية والخارجية ولا وجود لنظام بحث وإعلام علميين لسد حاجات التكوين والتموين :استبداد وفساد وجهل.النظامان موجودان لكن وظيفتهما في واقع الامر عكس حقيقة وظيفتهما في واجبه :لا حماية يعني عدوان الأقوى على الأضعف داخليا وخارجيا.وكذلك بالنسبة إلى الرعاية :إهمال التكوين التربوي والاجتماعي وإهمال التموين الثقافي والاقتصادي يجعل أحوال الأمة أشبه بما نراه في مصر خاصة.انهيار نظام التكوين تربية واجتماعا وانهيار نظما التموين ثقافة واقتصادا علته أن النخب الحاكمة ليس إلا مافية محلية في خدمة المافية الدولة.بقية العرب مثل مصر .وهم نوعان :من يقرب من حالة مصر فقرا لكن الديموغرافيا أقل خنقا للبلاد ومن يبدو غنيا وازمة في البترول ستلحقه بالبقية.وهكذا فقد تبين أن الهرم في الصفات (إرادة علم قدرة حياة ووجود) وفي الوظائف التي تناظرها (سياسة علم اقتصاد فن ورؤى) هو مفتاح التشخيص والعلاج.آمل أني قد عرضت بأوضح ما يمكن شروط الاستئناف واستراتيجية التحرر والبناء الحضاري لشباب الثورة الذي عليه أن يطلب شروط الحرية والكرامة قبلهما.فمن لا يغير الشروط لا يمكن أن يغير النتائج :تحرير جغرافية العرب وتاريخهم شرط في تحرير ثمرتهما أي التراث والثروة وخاصة المرجعية :الإسلام.وبذلك تصبح ثورة العرب في الاستئناف المطلوب والمنتظر مثل ثورتهم في النشأة الاولى: تحرر الإنسانية من العولمة :عبادة العباد بعبادة رب العباد. 45 45
Search