Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore شروط الاستئناف، استراتيجية التحرر والبناء الحضاري - أبو يعرب المرزوقي

شروط الاستئناف، استراتيجية التحرر والبناء الحضاري - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-10-19 18:52:24

Description: شروط الاستئناف، استراتيجية التحرر والبناء الحضاري - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪9‬‬‫‪13‬‬‫‪17‬‬‫‪21‬‬‫‪25‬‬‫‪30‬‬‫‪34‬‬‫‪38‬‬‫‪42‬‬

‫صرت أشفق على القراء مما أقوم به من \"تعرية المذابح\" بلغة تونس‪ :‬اي بيان جملة‬ ‫الامراض التي نعاني منها فأقول في نفس أحيانا‪ :‬هل عندنا فرصة؟‬‫سأختم بالإشارة الى أكبر عائقين التغلب عليهما من الخوارق‪ .‬وقد صغتهما بلغة دور الرمز‬ ‫لتيسير العلاج‪ :‬رمز الفعل (الكلمة) وفعل الرمز(العملة)‪.‬‬‫والرمز الاول هو أساس كل ثقافة فنية وعلمية والرمز الثاني هو اساس كل اقتصاد مادي‬ ‫ومعرفي‪ .‬رمزان يحيلان إلى أربعة مجالات يعسر أن تحيا في لحظتنا‪.‬‬‫فالثقافة الفنية والثقافة العلمية والاقتصاد المادي والاقتصاد المعرفي كلها معطلة ويعسر‬ ‫أن تتحرك بسبب ما عليه الأحياز والنخب شرطي علاجهما‪.‬‬‫وهذه العوامل الأربعة فاقدة لاستراتيجية الاستئناف في سياسة الأحياز وأخلاق النخب‬ ‫وتفتت المرجعية بسبب ما يدور حولها وعليها من حروب هدامة بلا حدة‪.‬‬‫والقصد بتفتيت المرجعية هو نتائج الحرب الأهلية بين الكاريكاتورين التأصيلي‬ ‫والتحديثي التي صارت بقصد أو بغير قصد حرب الانتحار والتهديم الذاتي‪.‬‬‫فقدت الأمة شروط إمكان الإنتاج الثقافي (فنا وعلما) والإنتاج الاقتصادي (مادة‬ ‫ومعرفة) بحيث إن بقاءها صار عمره رهن عمر ما لديها من خام ناضب حتما‪.‬‬‫فالثروة والتراث اللذين يبدعهما الذوق والعلم العاملين في مستوييهما لا وجود يذكر‬ ‫لهما وأن الثروة الوحيدة الباقية هي بيع الخام واستراد الخردة‪.‬‬‫وذلك ليس في الاقتصاد المادي والمعرفي فحسب بل وفي الثقافة الفنية والعلمية‪ :‬القليل‬ ‫الذي بقي منها هو ما ورثناه عن جدودنا وآبائنا وبذرناه بعقوق‪.‬‬‫نحن أشبه بالورثة الفاسدين الذين لم يعرقوا لتحصيل ما يعيشون منه حياة البذخ‬ ‫والفساد لأرباب الاستبداد دون اعتبار لمستقبل البلاد والعباد‪.‬‬‫ورغم ذلك كله ليست يائسا من الاستئناف بل إني واثق تمام الوثوق من أن الاستئناف‬ ‫ليس ممكنا فحسب بل هو حتمي لأن النشأة الأولى لم تكن معجزة فحسب‪.‬‬ ‫‪45 1‬‬

‫فليس الرسول الخاتم الرسول الوحيد في تاريخ البشرية‪ .‬لكنه هو الوحيد الذي تحقق‬ ‫المشروع في حياته وبمن رباهم من الصحابة واستقطبهم من شباب العرب‪.‬‬‫وسياسته ما تزال حية في الكثير من شبابنا المسلم من يمثلون أولي العزم من نخبة الإرادة‬ ‫ونخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة ونخبة الوجود‪.‬‬‫المشروع قائم منذ أربعة عشر قرن والشباب يعود بالتدريج إلى نفس الطموح الكوني‬ ‫الذي حرك آباءهم وجدودهم أصحاب النشأة الأولى ليكونوا اصحاب الاستئناف‪.‬‬‫وقصدي أننا لسنا بحاجة لمعجزة جديدة فالإسلام ما يزال حيا وهو المعجزة السماوية‬ ‫الأخيرة لأنه خاتم وانبعاث جذوته في شبابنا هو المعجزة الدائمة‪.‬‬‫ولولا إيماني بذلك ما نذرت نفسي لإحياء هذا الطموح في الشباب ليس بالخطاب العاطفي‬ ‫وحده بل وكذلك بالتحليل العقلي الرصين لبيان شروط الإمكان‪.‬‬‫شبابنا تحير بسبب ما يلاحظه من صراع الكاريكاتورين التأصيلي والتحديث وخواء‬ ‫فهمهما وسقم علاجهما‪ :‬فكلاهما يقلد الدارس من ماضينا ومن ماضي الغرب‪.‬‬‫كلاهما عقم الفكر خيالا وعلما وأصبح مجرد ماضغ لقشور ماضية أفقدت المسلمين‬ ‫للفاعلية الثقافية والاقتصادية لقيام الأمم بالإبداع الفني والعلمي‪.‬‬‫فيكون المطلوب النظري قبل الوصول للمطلوب العملي استراتيجية مضاعفة‪ :‬فهم المعوقات‬ ‫وعللها ثم فهم شروط علاجها والتغلب عليها بالعمل على علم‪.‬‬‫وسيكون فهم المعوقات متعلقا بفاعلية الرمزين اللذين أرجعت إليهما كل الفاعليات في‬ ‫الحضارة الإنسانية لأن المطوب هو فهم الكوني منها ككل علم‪.‬‬‫وأول بداية سوية هو أن نعلم أن ما نمر به ليس خصيصة عربية ولا اسلامية وليس عرقيا‬ ‫ولا حتى ثقافيا بل هو من جنس الكبوات التي تحصل للأمم العظيمة‪.‬‬‫وفضل الله علينا أن حضارتنا صمدت ولم تندثر وأن علامات الشباب واليفاع والعنفوان‬ ‫ما تزال أرضنا بها خصبة فالأمة ولود والإسلام في انتشار دائم‪.‬‬‫والصمود قد لا يطول فالحرب بين الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي قد تأتي على‬ ‫مقومات الصمود المادية (بتفتيت المكان) والروحية (بتشتيت الزمان)‪.‬‬ ‫‪45 2‬‬

‫وتفتيت المكان يلغي للقوة المادية ثمرة الإنتاج الاقتصادي والثروة وتشتيت الزمان يلغي‬ ‫القوة الروحية ثمرة الإنتاج الثقافي والتراث‪ :‬فتات محميات‪.‬‬‫والمحميات فتات لا سيادة لأصحابه لأنها عاجزة عن شروط التنمية الاقتصادية والتنمية‬ ‫الثقافية والتنميتان هما شرط السيادة‪ :‬القوة المادية والروحية‪.‬‬‫وبالتدريج تصبح المحميات توابع ليس اقتصاديا فحسب بل وكذلك ثقافيا‪ .‬والتبعية‬ ‫الثقافية تعدم الجماعة إما بالفناء أو بالذوبان في ثقافة الحامي‪.‬‬‫والحامي لا يضيره أن يبقى الإسلام الطقوسي في شكل رقص الهنود الحمر وتصوف الطرق‬ ‫الذي يريد الآن بعثه وتذويب المسلمين بوصفهم هنود العصر الحمر‪.‬‬‫فكاريكاتورا التأصيل والتحديث سيؤديان في الغاية إلى هذه النتيجة‪ .‬فلا الأول يمثل‬ ‫الإسلام ولا الثاني يمثل الحداثة بل يمثلان صورتهما المنحطة‪.‬‬‫فكاريكاتورا التأصيل والتحديث سيؤديان في الغاية إلى هذه النتيجة‪ .‬فلا الأول يمثل‬ ‫الإسلام ولا الثاني يمثل الحداثة بل يمثلان صورتهما المنحطة‪.‬‬‫وأصحابهما بوعي (لدى خبثاء التحديث) أو بغير وعي (لدة سخفاء التأصيل) يسعون‬ ‫إلى تحقيق هدف الصهيونية المسيحية التي تعتبر الإسلام سرطان العصر‪.‬‬‫والصهيونية المسيحية العالمية تعلم أن التغيير بالغزو الثقافي اقل كلفة وأكثر حسما في‬ ‫إفناء الجماعات بدنيا وروحيا كما فعلوا للهنود الحمر‪.‬‬‫فمن ابتلعوه ثقافيا استعملوه حصان طروادة للقضاء على البقية بدنيا وهذه هي‬ ‫الاستراتيجية الجارية حاليا والتي لإيران فيها دور الجرافة الممهدة‪.‬‬‫ونفس الاستراتيجية استعملها مغول الشرق والصليبيون وفشلوا واليوم يستعملها مغول‬ ‫الغرب (أمريكا) والصليبيون الجدد وسنقضي عليها بإذن الله شر قضاء‪.‬‬‫ذلك أن سعي أمريكا للسيطرة على دار الإسلام هو الذي سيوهنها إلى حد يجعلها تفلس‬ ‫مهما كانت ثروتها لذلك فهي تسابق الزمان لتخريب صمود الإسلام‪.‬‬‫وحلفاؤها فضلا عن اسرائيل وإيران كل الانظمة العميلة في المحميات والاستثناء قليل‬ ‫وهم الآن يركزون على قلة عربية وتركية للحسم السريع ضدهم‪.‬‬ ‫‪45 3‬‬

‫والمعركة الجارية في الهلال والخليج وفي المغرب العربي ليست معركة داخلية فحسب بل‬ ‫هي حرب كونية لعلم أعداء الامة بأن روح الإسلام عربية تركية‪.‬‬‫لم ينسوا أن ثورة الإسلام بدأت عربية وصمدت تركية‪ .‬فمنذ نشأة دولته العربية إلى‬ ‫أسقاط دولته التركية ما تزال نظرتهم العدوانية للإسلام واحدة‪.‬‬‫وليس من الحكمة الاستراتيجية العمل بهذا المنطق‪ :‬ينبغي أن نستعمل الاستراتيجية‬ ‫الأمضى‪ .‬الاستيعاب العكسي‪ :‬علينا نحن أن نبتلعهم بسلاحنا الأمضى‪.‬‬‫وسلاحنا الأمضى هو ما حددته النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬أعني رسالة الكونية الإسلامية‬ ‫التي تآخي بين البشر وتسوي بينهم بجاذبية نشر الإسلام في دورهم‪.‬‬‫والمعلوم أن عنفوان الشباب سلاحه بايولوجي وهو أقوى ألف مرة سلاح اعياء العجائز‬ ‫الذي لم يبق له إلا السلاح التكنولوجي‪ .‬تبريد الصدام هو الحل‪.‬‬‫وهذا الحل اساسه الخداع الاستراتيجي الذي يحتاج إليه من يستعمل حرب المطاولة لأن‬ ‫الضعيف لا يغلب إلا بها استنزافا للقوي إذ يعال صبره فيستسلم‪.‬‬ ‫‪45 4‬‬

‫في الفصل الثاني سأحاول تحليل الدلالة الاساسية لمفهوم الاحياز الخارجية والداخلية‬ ‫وصلتها بنهوض الأمم وسقوطها صفة لمقومات الإبداع الإنساني‪.‬‬‫فالحيز الخارجي هو المحل الذي ينزل فيه الإنسان ككيان حي يستمد مدد حيزه الداخلي‬ ‫ومدته من الآفاق إلى الأنفس (فصلت ‪ )53‬دورة حيوية بدنية وروحية‪.‬‬‫فالإنسان من تراب مادة (وجه كياننا البدني) وروح (كياننا الروحي) فحياة البدن‬ ‫المدرك هو القدرة العجيبة على استمداد أحيازه من الأحياز الخارجية‪.‬‬‫فكيانه البدني مستمد من حيز المكان وكيانه الروحي من حيز الزمان‪ :‬يحل فيهما ويعمل‬ ‫على جعلهما حالين في كيانه البدني والروحي ليس تصوريا بل فعليا‪.‬‬‫وهذا الاستمداد الفعلي يحدث خلال عمل يختزن في كيان الإنسان من ينتج عن ثمرة‬ ‫تفاعل المكان والزمان المادي (حير الثروة) والروحي (حيز التراث)‪.‬‬‫فالثروة قبل أن تصبح ذات وجود خارجي تكون ما في البدن من طاقة مخزونة تظهر‬ ‫عندما يتوقف الاستمداد من الحيز المكاني فيغتذي الإنسان بما خزن بدنيا‪.‬‬‫والتراث قبل أن يصبح ذا وجود خارجي يكون ما في الروح من طاقة مخزونة تظهر عندما‬ ‫يتوقف الاستمداد من حيز الزمان فيغتذي الإنسان بما خزن روحيا‪.‬‬‫والمثال بالنسبة إلى خزن الثروة طاقة مادية تستعمل عند الحاجة بيّن‪ .‬لكن المثال‬ ‫بالنسبة إلى خزن التراث طاقة روحية يدرك حقيقتها من عاش الغربة‪.‬‬‫لما هاجرت للدراسة في فرنسا رغم كوني اخذت زوجتي معي ورغم حصولي على الثقافة‬ ‫الفرنسية منذ طفولتي فإني في الغربة اغتذيت روحيا من تراثي الإسلامي‪.‬‬‫كان ما في ذاتي مغنيا عما حول ذاتي‪ .‬التراث الخارجي فرنسي والتراث الداخلي‬ ‫إسلامي‪ .‬كذلك تعيش الاجيال المتوالية من مهاجرينا‪ :‬طاقة لا حد لها‪.‬‬‫وما يوحد الأحياز الأربعة الخارجية وما يوحد الأحياز الداخلية المناظرة لها والمرجعية‬ ‫توحد التوحيدين وبها تتميز به الحضارات بعضها عن بعض‪.‬‬ ‫‪45 5‬‬

‫ففي المثال الذي عشته لما تغربت الموحد للأحياز الخارجية التي ظلت معي رغم بعدي‬ ‫عنها لأن نظائرها كانت في كياني ذاته المرجعية الموحدة‪ :‬الإسلام‪.‬‬‫واللحظات التي يشعر فيها المرء بما يشبه الخلود الروحي هي اللحظة التي يتطابق فيها‬ ‫‪-‬ولو حالة وجدانية خيالية‪-‬كل الاحياز في حدس الجلال الروحي‪.‬‬‫وسأقتبس هذا النص من رواية وليام سارابند ذروة الفن \"أرض الأحجار المقدسة\" ‪Land‬‬ ‫‪ der Heiligen Steine‬قال حفيد الشامان المرشح للشامانة ارث آبائه‬‫\" ‪Es gibt Orte auf der Welt, an dennen ein Zauber wohnt, Orte die das Herz‬‬ ‫‪,berühren und erfüllen, bis es vor Velangen nach dem schmerzt‬‬‫‪ \"was ungewöhnlich und wunderbar und nur für den Geist greibar ist‬وقدم‬ ‫الكاتب لوصف هذه الحال بالقول\" ‪Dei Wahrheit, die sich Cha-dwena in‬‬‫‪.jener Nacht offenbart hatte, drang nun wie ein Gesang durch seinen Geist‬‬ ‫اخترت هذا النص الذي لم أر أجمل منه لعلتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬مثال الأدب الراقي‪.‬‬‫‪ .2‬ثم تعريف فاعلية الأحياز لأن الحال التي يصفها النص هي حال هذا الحفيد الذي‬ ‫كان مع جده الذي أراد أن يزور حرما دينيا في قريته قبل أن يموت‪.‬‬ ‫فلأترجم النص ثم التعليق‪:‬‬‫\"توجد احياز (منازل) في العالم يسكنها سحر أحياز تلامس القلب وتملؤه حتى إنه أنه في‬‫حضرة حنينه إلى الألم الغريب والعجيب الذي لا يدركه إلا الروح\"‪ .‬وهو بهذا يصف‬ ‫جلال مشهد عاشه خلال سعيهما إلى المكان المقدس‪.‬‬‫وعلق الكاتب \"إن الحقيقة التي تجلت لـ\"شي كوينا في تلك الليلة هجمت الآن هجوم أغنية‬‫فتخللت روحه\"‪ .‬هذا هو الأدب الراقي الذي تعالى على مبتذلات ظاهر الوجود إلى أعمق‬ ‫أعماقه‪ :‬تناظر الاحياز‪.‬‬‫فبمثل هذا الشعور يعيش الغريب عن داره وعن حضارته في عتمة الليل عندما تحضر‬ ‫روحه لذاتها في تأمل هو ما يجعل الإنسان يموت من أجله لأنه عين ذاته‪.‬‬ ‫‪45 6‬‬

‫وليس هذا الوطن قطعة تراب بل هو وحدة التناظر بين الأحياز الخارجية والأحياز‬ ‫الداخلية بوصفه حالة يتمازج فيها الروحي والمادي المكاني والزماني‪.‬‬‫وهو في حالة المغترب مؤقتا (في حالتي) أو دائما (في حالة المهاجر الدائم) المرجعية‬ ‫الروحية والحضارية أي الانتساب إلى الإسلام‪ :‬آصرة لا تنفصم‪.‬‬‫وذلك هو ما يراد نزعه من شباب المسلمين‪ :‬والغريب أن أدوات نزعه هي الانظمة‬ ‫بخضوعها للحماة ونخب التأصيل والتحديث الكاركاتوريين بفهمها السقيم‪.‬‬‫وتلك هي علة سعيي لتدعيم هذه الروح عند الشباب المسلم عامة وعند المهاجرين خاصة‬ ‫حتى يكون الشعور بالجلال بهذه الصورة التي يمثلها هذا المشهد‪.‬‬‫وأفضل تحقيق لذلك هو بيان حقيقة القيم والمثل العليا التي تمثلها المرجعية الإسلامية‪.‬‬ ‫ويكفي النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬حتى نكون مستقبل الإنسانية‪.‬‬‫فإذا استعاد الشباب طموح البناة الأول فإن الامة تصبح عملاقا لا يمكن أن يهزم أبدا‪:‬‬ ‫شرط الاستئناف بجاذبية الإسلام لما يسترد دوره الكوني‪.‬‬‫ولا يمكن أن يتحقق ذلك ما ظل المسلمون مستضعفين ليس لهم القدرة على تحقيق شروط‬ ‫السيادة أعني القدرة العلى انتاج القوتين المادية والروحية‪.‬‬‫والمحميات العربية خاصة والإسلامية عامة لن تقدر على انتاج القوتين المادية (الاقتصاد‬ ‫المادي والمعرفي) والروحية (الثقافة الفنية والعلمية)‪.‬‬‫وجودها نفسه وسعي العملاء لتأسيسها على سلب ما يوحد بين الأحياز الخارجية‬ ‫والداخلية المشتركة بين شعوب الأمة الإسلامية هو أخطر أعداء الإسلام‪.‬‬‫ذلك أن خطة الأعداء واستراتيجيتهم هي تفتيت جغرافية دار الإسلام وتاريخها فتصاب‬ ‫بالقزمية فتحتاج للحماية بخنجر في قلب الأمة أكثر من إسرائيل‪.‬‬‫وجود إسرائيل بخلاف ما يظن الكثير هو حاليا بلسم يحرك في شباب الأمة روح المقاومة‬ ‫والحنين إلى شروط قوة تحررهم من العجز أمام حربة الأعداء‪.‬‬‫فكونها حربة أجنبية يعيد إلى الشباب الحنين لعصر العزة الإسلامية فيحررهم روحيا من‬ ‫عصر الذلة التي فرضتها الانظمة العميلة ومعركة الكاريكاتورين‪.‬‬ ‫‪45 7‬‬

‫لكن الحنين وحده لا يكفي‪ .‬لابد من تأسيس لضرورة التحرر من قزمية المحميات إلى‬ ‫عملاقية وحدة الجغرافيا والتاريخ العربيين بداية والإسلاميين غاية‪.‬‬‫ولا ثورة من دون هذا الهدف‪ :‬فشعوبنا فقدت الحرية والكرامة بسبب قزمية المحميات‬ ‫أولا وأخيرا‪ .‬وهذا القزمية علتها فساد معاني الإنسانية في النخب‪.‬‬‫ولهذه العلة كان لا بد من نظرية تحدد معنى النخب وعلل فساد معاني الإنسانية فيها‬ ‫كما عرفها ابن خلدون في المقدمة رادا إياها إلى بعدي السياسة‪.‬‬‫وبعدا السياسة المفسدان لمعاني الإنسانية هما التربية والحكم العنيفين لخطأ معرفي في‬ ‫نظرية التربية والحكم وأسلوبهما‪ .‬وبهما يبدأ الإصلاح الجدي‪.‬‬‫ولهذه العلة كذلك كان مسعاي إلى قراءة القرآن فلسفيا قراءة أوصلتني إلى تعريفه‬ ‫كما يعرف نفسه بكونه استراتيجية توحيد الإنسانية نقدية وبنائية‪.‬‬‫والاستراتيجية النقدية تتعلق بتحريف المرجعيات ومقومات المعادلة الوجودية الله‬ ‫والإنسان والطبيعة والتاريخ والتواصل بين الله والإنسان بنوعيه‪.‬‬‫فالتواصل المباشر بين الله والإنسان هو أساس التواصلين العمودي بين البشر والطبيعة‬ ‫والأفقي بينهم والتاريخ وكل هذه التواصلات أساسها الترميز‪.‬‬‫والقرآن يشير إلى ذلك‪ :‬ففي كيان الإنسان التسمية هي ما أهله للاستخلاف‪ .‬وفي‬ ‫الوجود الطبيعي والتاريخي كل الموجودات آيات إلهية كلمات مترامزة‪.‬‬‫وفصلت ‪ 53‬تصل ذلك بالآفاق والأنفس التي تبين حقيقة القرآن بما نراه فيها من آيات‬ ‫الله‪ .‬وما نراه هو ما به يحقق الإنسان الخليفة كيانه المضاعف‪.‬‬‫فهو مستعمر في الارض أي مكلف بتعميرها بما مده الله به من قدرة ذوقية ومعرفية وهو‬ ‫مكلف بجعل التعمير خيرا يؤهله لتمثيل مفهوم الاستخلاف وقيمه‪.‬‬ ‫‪45 8‬‬

‫ظلت ألمانيا إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر منقسمة إلى إمارات في وضع لا يختلف‬ ‫عن وضع العرب الحالي إلا بصلاح رجالاتها ونخبها الذين وحدوها‪.‬‬‫وقد وحدها بيسمارك بدهائه وخطته التي استفادت من بروسيا ببعدي السياسة تربية‬ ‫وحكما تجاوزت حروب الثورة الفرنسية التي غيرت أوروبا كلها‪.‬‬‫فكيف حققت سياسة بيسمارك القوة المادية والروحية‪ .‬بشروط الرعاية تكوينا وتموينا‪:‬‬ ‫‪ .1‬نظام تربية عالية الاختصاص‬ ‫‪ .2‬نظام تنمية اقتصادية اجتماعية‬‫وهو ما مكن ألمانيا باللحاق السريع بالقوى الأوروبية الاخرى التي كانت متقدمة كثيرا‬ ‫على ألمانيا‪ .‬فهي كانت ما تزال زراعية إلى نهاية القرن التاسع عشر‪.‬‬‫ألمانيا البيسماركية هي التي اكتشفت طريقة التسريع في التنمية‪ :‬ثورة نظام البحث‬ ‫العلمي والنظام الاقتصادي الاجتماعي‪ .‬وحالهما علة التخلف العربي‪.‬‬‫ولو ضربت مثال تونس لوجدت إضافة إلى فساد نظام الحكم فساد نظام التعليم‬ ‫والاقتصاد أي نظام الرعاية بتكوين الإنسان وتموينه ماديا وروحيا‪.‬‬‫فمرض تونس ليس الاستبداد والفساد السياسي وحدهما بل الاستبداد والفساد النقابي‬ ‫كذلك‪ .‬وفي الحقيقة فالداء هو تواطؤ السياسي والنقابي في الرعاية‪.‬‬‫فعندما قامت الثورة وتم انتخاب حكومة بحرية وشفافية لم يكن دور النخبة السياسية في‬ ‫الثورة المضادة هو الحاسم بل النخبة النقابية‪ :‬قتلت الانتاجين‪.‬‬‫كانت متغلغلة في التكوين (التربية) والتموين (الثقافة والاقتصاد) حيث كانت مشاركة‬ ‫مع النظام السابق في كل شيء بل ومسيطرة على التربية خاصة‪.‬‬‫ولما شعرت أن الثورة بدأت تغير الموازين وتفصل بين السياسي والنقابي قررت إيقاف‬ ‫آليات الإنتاج الاقتصادي والتربية بما لا يتناهى من الإضرابات‪.‬‬ ‫‪45 9‬‬

‫كنت مستشارا لرئيس الحكومة ففهمت أن الإصلاح مستحيل من دون تحرير التربية من‬ ‫سيطرة النقابي على التكويني وما نتج عنها من استبداد وفساد لا يقدر‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن حلول باسمارك الثورية في التربية وسياسة العلاقة بين الاقتصادي‬ ‫والاجتماعي مستحيلة ما لم تتغير الثقافة النقابية في تونس‪.‬‬‫وطبعا فلست غافلا أن ذلك حتى لو حصل لن يجعل تونس مثل المانيا بسبب الحجم‪:‬‬ ‫فتونس مثلها ممثل كل الدول العربية محمية لمستعمر يحكمها عملائه‪.‬‬‫لكن كل بداية للتغيير تقتضي البدء بمسألة الرعاية‪ :‬التكوين والتموين وجعل الشباب‬ ‫يدرك شروطهما حتى يعلم أن التقزيم القطري هو علة كوننا محميات‪.‬‬‫فكم دون الرعاية التكوينية يستحيل حل مشكل الرعاية التموينية وهما شرط الحماية‬ ‫في كل دولة لأن الحماية شرطها البحث العلمي والقوة الاقتصادية‪.‬‬‫وكون البحث العلمي الأساسي والقوة الاقتصادية المؤثرة مشروطين بالتحرر من القزمية‬ ‫وكان هذا التحرر ممتنعا على المحميات يجعل الثورة بداية حتمية‪.‬‬‫ولا ثورة من دون شباب واع بترتيب الأمور كما يقتضيها التوالي السببي لذلك كان من‬ ‫الضروري وضع المفهومات والنظريات التي تمكن من تكوين الشباب‪.‬‬‫وهذا هو الغرض من هذه المحاولات‪ :‬فالاطلاع عليها والمواظبة في جهد فهم بنى فرضياتها‬ ‫المنطقية هو بحد ذاته تكوين يغير ثقافة الشباب ليصبح مبدعا‪.‬‬‫ذلك أن من خاصيات أسلوب هذه المحاولات المنهجية السقراطية‪ :‬المتعلم هو الذي يكتشف‬ ‫بنفسه النسيج المنطقي للإشكالات فيصل لحلولها بجهده الشخصي‪.‬‬‫والمعلم مجرد دليل يساعد على تبين معالم الطريق بالأسئلة التي يطرحها كلما وصل‬ ‫المتعلم إلى عقدة قد توقفه عن البحث لتشاجن خيوط النسيج النظري‪.‬‬‫وإذن الأمر كله يعود إلى تكوين الإنسان (تربويا واجتماعيا) وتموينه ماديا (الاقتصاد)‬ ‫وروحيا (الثقافة) بات العلم بفاعلية الإنسان بداية كل علاج‪.‬‬‫والعلم بالإنسان هو الانثروبولوجيا (=نظرية الإنسان) وهي نظرية تنبني عليها كل‬ ‫فلسفة وكل دين تجاوزت الخصوصية الثقافية إلى الكونية الإنسانية‪.‬‬ ‫‪45 10‬‬

‫وبهذا التجاوز إلى الكونية تتفاضل الفلسفات والأديان‪ .‬والإسلام يمثل الكونية الدينية‬ ‫والفلسفة الإسلامية الكونية الفلسفية‪ .‬فما دليل التجاوز‪.‬‬‫القرآن دليله هو النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ .13‬وبالنسبة إلى الفلسفة يكفي قراءة عنوان‬ ‫مقدمة ابن خلدون ومقارنة نظرية الجماعة الأرسطية والفارابية‪.‬‬‫فعنوان مقدمة ابن خلدون \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‪ .‬لم يقل علم‬ ‫العمران المسلم أو العربي بل العمران البشري والاجتماع الإنساني‪.‬‬‫وقبله استدرك الفارابي على أرسطو في تصنيف الجماعات‪ :‬أرسطو يذكر الأسرة والقرية‬ ‫والمدينة‪ .‬الفارابي يضيف الإنسانية كلها‪ .‬وهذا تأثير القرآن‪.‬‬‫ذلك أن الأديان كانت قومية (المسيحية قومية ولم تتجاوز القومية إلا مع أحد الحواريين‬ ‫في رسائله إلى غير اليهود) أو حتى قبلية (دين اليهودية)‪.‬‬‫وحتى عندما فتح بولس المسيحية لغير اليهود بخلاف كلام المسيح (بعثت لنعاج إسرائيل‬ ‫الضالة) فقد أبقى الرسل حصرا في اليهود دون سواهم (باسكال)‪.‬‬‫الإسلام يقول إن كل أمة لها رسول بلسانها (كونية توزيعية) والإسلام رسالة لجميع البشر‬ ‫(كونية نوعية)‪ :‬وهي كونية بداية (الفطرة) وغاية (الإسلام)‪.‬‬‫ومن ثم فكل ما سنتكلم عليه من مسائل الرعاية والحماية ليس خاصا بحضارة دون حضارة‬ ‫بل هو يتعلق بالكوني في كل حضارة معتبرا الفروق بينها عرضية‪.‬‬‫والتفسير الوحيد لضياع هذه المعاني من ثقافة المسلمين منذ الفتنة الكبرى هوما وصفته‬ ‫بتعطيل الدستور القرآني وفرض حالة طوارئ بقوانين استثنائية‪.‬‬‫وكان الأمر مفهوما خلال الحروب الاهلية الاربعة التي نتجت عن الفتنة الكبرى أو‬ ‫الانقلاب الدامي على عثمان‪ .‬لكن الحروب انتهت واستقرت الدولة‪.‬‬‫ومحاولة الرجوع الى الدستور لم تدم طويلا وفشلت (عمر بن عبد العزيز) وبناء عليه‬ ‫اسست علوم الملة على لتبرير القوانين الاستثنائية بعكس الدستور‪.‬‬‫أعلم أن هذا التوصيف المبني على فلسفة القانون الدستوري وعلاقة الدستور بالقوانين‬ ‫الاستثنائية في حالات الطوارئ لن يرضى به فقهاء السلاطين‪.‬‬ ‫‪45 11‬‬

‫إذا أنهم لو رضوا به لفقدوا وظيفة الوساطة التي تتنافى مع الإسلام‪ :‬فلا يوجد في‬ ‫الإسلام من يرث النبي فيما لم يدعه‪ :‬وساطة روحية وسياسية‪.‬‬‫فالدستور القرآني حرر الإنسان من الوساطة الروحية (الكنسية) والوساطة السياسية‬ ‫(ولي الامر)‪ :‬علاقة المؤمن الروحية بربه وعلاقته بأمره مباشرة‪.‬‬‫نعم السنة ما تزال مؤمنة بذلك في الأقوال لكنها تعمل عكسه في الأفعال‪ .‬أما الشيعة‬ ‫فصريحة‪ :‬الوساطتان من الدين‪ :‬الإمام معصوم والحكم حقه الإلهي‪.‬‬‫والفرق في الأقوال يجعل شرعية السلطة الروحية فوق السلطة السياسية (المرشد فوق‬ ‫رئيس الجمهورية) لكن الحقيقية هي أن ما فوقهما هو الحرس الثوري‪.‬‬‫لا فرق بين مصر وإيران‪ :‬كلاهما تحكمهما مافية عسكرية وميليشياوية‪ .‬أما السعودية‬ ‫فتبدو السلطة للأسرة الحاكمة ودونها سلطة الدين أي عكس إيران‪.‬‬‫لكن الحقيقة غير ذلك‪ :‬توجد لوبيات يحركها الحامي ومن يرضى عنه من الأسرة الحاكمة‬ ‫ولذلك فمن يعين الملك مجهول لأنه دولة عميقة بدأت تتجلى الآن‪.‬‬‫فمن اغتال فيصل سابقا ليس شابا مجنونا إذ أصبح مفضوحا بتعيين ولي العهد الأخير‬ ‫وترشيحه للملك ولإسرائيل وأمريكا الدور الأول بتوسط لوبي ليبرالي‪.‬‬‫واعتقد أن ذلك سينجح لعلتين‪ :‬فالنخب الشابة درست في أمريكا وما يعدهم به المترشح‬ ‫بعد حرمان غبي مارسه رجال الدين في أبسط الحقوق يجعله محبوبا‪.‬‬‫ومن غرائب الدهر أن آخر بلاد العرب اختلاطا بالغرب ستتغرب أكثر من التي سبقتها‬ ‫إلى الاختلاط بالغرب وذلك لعلتين‪ :‬الثروة والنموذج الأمريكي‪.‬‬‫بلاد المغرب العربي مثلا اختلطت أكثر بالغرب‪ .‬لكنه كان منحصرا في قلة قليلة والنموذج‬ ‫كان فرنسيا وإيطاليا واسبانيا وليس واحدا عولميا كالخليج‪.‬‬ ‫‪45 12‬‬

‫نبدأ الآن دراسة الأمراض التي ينبغي التحرر منها حتى يتم البناء الحضاري على أسس‬ ‫سليمة تمكن من الاستئناف الذي يكون على الأقل بحجم النشأة الأولى‪.‬‬‫والأدواء نحددها بأمراض النخب الخمس التي هي نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة‬ ‫القدرة ونخبة الحياة ونخبة الوجود‪ .‬وهي موجودة في كل أمة كوظائف‪.‬‬‫فكل إنسان له هذه الصفات الخمس لكن من غلبت فيهم واحدة منها على البقية ينتسب‬ ‫إلى مجموعة في الامة هي النخبة التي تعرف بتلك الصفة مميزة لها‪.‬‬‫فنخبة الإرادة ذوو ميل إلى السياسة ونخبة العلم ذوو ميل إلى المعرفة ونخبة القدرة‬ ‫ذوو إلى الاقتصاد ونخبة الحياة ذوو ميل إلى الفن‪ :‬فروع اربعة‪.‬‬‫ومن تقاربت فيهم الميول الأربعة ذوو ميل إلى الرؤى الوجودية الشاملية للسياسي‬ ‫والعلمي والاقتصادي والفني‪ .‬وهم قلة في كل مجتمع كالفلاسفة والانبياء‪.‬‬‫ويمكن أن نعتبر الاربعة الأول فروعا تمثل قاعدة هرم النخب في أي مجتمع ورأس الهرم‬ ‫هو نخبة الرؤى التي لها إدراك يشملها جميعا برؤاها العامة‪.‬‬‫لكن كل واحدة من هذه النخب لها شيء من البقية وخاصة من الرؤى الشاملة المرجعية‬ ‫سواء كانت فلسفية أو دينية ودور المرجعية واحد رغم تعدد مضامينها‪.‬‬‫فدور كل واحدة منها أنها تخدم البقية أو تستخدمها لتحقيق وظيفتها السياسية أو‬ ‫المعرفية أو الاقتصادية أو الفنية أو الرؤيوية‪ :‬صلتها بوحدة الجماعة‪.‬‬‫ووحدة الجماعة ليست تصورا ذهنيا فحسب بل هي الأحياز الخارجية ووجودها في كل‬ ‫فرد أيا كان نسبه النخبوي هو الأحياز الداخلية أي حضور الخارجية فيه‪.‬‬‫والأمراض تصيب علاقة الافراد ومجموعات النخب بالأحياز الخارجية أو بصورة أدق‬ ‫مدى حضورها في الأحياز الداخلية أو تناغم كيان الجماعة وكيانه‪.‬‬‫والأمراض كلها نفسية أو روحية لأنها تتعلق بالمطابقة بين حقيقة الصفة التي يعتقد أنها‬ ‫حقيقته في تصوره وفي انجازه‪ :‬ولنسم ذلك العزيمة والطموح‪.‬‬ ‫‪45 13‬‬

‫ويمكن الرمز إليها بعلاقة القول بالفعل‪ :‬فعادة ما يكون القول تعبيرا عن التصور والفعل‬ ‫عبارة عن الإنجاز‪ .‬وهذا ليس من عندي فبه يعرف القرآن الشعر‪.‬‬‫فمعيار الشعر في القرآن نقيض معياره في نقاده العاديين في الأدب العربي‪ :‬الشعر قرآنيا‬ ‫ليس أعذبه اكذبه بل أصدقه ولي مطابقته لما يسمونه الواقع‪.‬‬‫الصدق علاقة بين الخيال والمثال‪ .‬الخيال تصور يقال والمثال فعل ينجز‪ .‬فلأن المثال‬ ‫غاية الخيال يكون الشعر إبداع لب الوجود وليس نسخا لظاهره وقشره‪.‬‬‫ومعيار النقد القرآني هو الذي استثنى الشعر الراقي بمطابقة القول للفعل بهذا المعنى‬ ‫وليس بمعنى المطابقة مع ظاهر الوجود الذي يسمونه واقعا‪.‬‬‫فجاء الاستثناء تعريفا بالإيمان‪ :‬وهو علاقة بين تصور متناه وحقيقة لامتناهية‪ .‬والأول‬ ‫خيال والثاني مثال في منظور القرآن‪ .‬معان جليلة يعسر فهمها‪.‬‬‫وطبعا فالمطابقة مستحيلة إلا للمصطفين‪ .‬وهذا ليس مجال بحثنا‪ .‬وإذن فالقصد ليس‬ ‫المطابة التامة بل السعي إليها قدر المستطاع لتصدق صفة الموصوف‪.‬‬ ‫ما معنى صدق الصفة؟‬‫أن يكون صاحب الإرادة فعلا لا قولا والعلم فعلا لا قولا والقدرة فعلا لا قولا والحياة‬ ‫فعلا لا قولا والوجود فعلا لا قولا‪.‬‬ ‫والآن فلنسأل‪ :‬هل السياس العربي سياسي حقا؟‬ ‫هل العالم العربي عالم حقا؟‬ ‫هل الاقتصادي العربي اقتصادي حقا؟‬ ‫هل الفنان العربي فنان حقا؟‬ ‫بهذا أشخص‪.‬‬‫والجواب عن هذه الأسئلة يمثل تشخيص امراض الأمة المتعينة في نخبها معبرة عن‬ ‫إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها كما ينبغي أن يكون التعبير‪.‬‬‫و\"معبرة كما ينبغي التعبير\" ليست تقييما غير موضوعي أو خاص بجماعة دون جماعة بل‬ ‫هو تقييم موضوعي ويصح على كل جماعة لتعلقه‪:‬‬ ‫‪45 14‬‬

‫‪ .1‬بالصفات‬ ‫‪ .2‬بالأحياز‬‫فالإرادة لها حقيقة والعلم له حقيقة والقدرة لها حقيقة والحياة لها حقيقة والوجود له‬ ‫حقيقة والتعلق بالأحياز هو تعلق هذه الحقيقة بتمامها بها‪.‬‬‫ولما كانت الصفات خمسا والاحياز خمسا وكان التعلق هو ما بين الأحياز الخارجية والأحياز‬ ‫الداخلية فحقيقة الصفات هي نسبة تحاضر نوعي الاحياز‪.‬‬‫وقبل تقدير النسبية الدالة على حقيقة الصفات فلأبين علامة المصطفين فلأبين‬ ‫علامتهم‪ :‬هم من لا يقول إلا ما يفعل ولا يفعل إلا ما يقول‪ :‬صادق أمين‪.‬‬‫المصطفى لا يكذب ولا يخادع ما يقوله يفعله‪ .‬ولا يغدر أو يخون ما يفعله يقوله‪ .‬وهذه‬ ‫صفات خاتم الرسل وهو يشهد بها لكل الرسل شهادة باصطفائهم‪.‬‬‫ويعسر أن نطبق هذه المعايير على الناس العاديين‪ :‬لذلك نكتفي بالمطابقة النسبية‬ ‫وخاصة بالسعي الجدي نحو المطابقة والأفعال بالنيات في الأخلاق‪.‬‬‫لكن هذا المعيار \"السعي الجدي لجعل الخيال هادفا للمثال\" ليس خلقيا فحسب بل هو‬ ‫معرفي كذلك‪ :‬أي إن حقيقة الصفات معلومة وبها يقاس السعي خلقيا‪.‬‬‫سأقوم بتشخيص الأمراض بأن آخذ هذه النخب الخمس لأقيمها بالاعتماد على حقيقة‬ ‫الصفة وما يترتب عليها ومدى سعيهم لأن تكون افعالهم عاكسة لها‪.‬‬‫وهو تشخيص عادل ومنصف لأني أجعل كل نخبة (وكل فرد منها) حسيب نفسه ورقيبها‪:‬‬ ‫سأقارن أقواله بأفعاله معتبرا الأولى صورته عن نفسه والثانية حقيقته‪.‬‬‫وهوما يعني أني غني عن أقواله كلها بل سأكتفي بدعواه الانتساب إلى واحدة من هذه‬ ‫النخب فأقاضيه بحقيقتها في ذاتها مقارنة بإنجازه لما يعبر عنها‪.‬‬‫بقي أن ندرس هذه النخب لتشخيص الداء ووصف الدواء ما أمكن ذلك وسنتبع الخطة‬ ‫التالية اعتمادا على ما سميناه هرم الصفات‪ :‬بدأ بالقاعدة زوجين زوجين‪.‬‬‫نعلل مزاوجة الارادة صفة السياسي بالقدرة صفة الاقتصادي ثم العلم صفة المعرفي‬ ‫بالحياة صفة الفني لنصل إلى قمة الهرم صفة الوجود بصفة الرؤى‪.‬‬ ‫‪45 15‬‬

‫فنخصص الفصل الخامس للمزاوجة الاولى والفصل السادس للمزاوجة الثانية والفصل‬ ‫السابع لقمة الهرم‪.‬‬‫فنخصص الفصل الخامس للمزاوجة الاولى والفصل السادس للمزاوجة الثانية والفصل‬ ‫السابع لقمة الهرم‪ .‬ثم نختم البحث بفصل ثامن حول دور الكلمة والعملة‪.‬‬‫والكلمة هي رمز التواصل بين البشر لتبادل القيم المعنوية جوهر الثقافة والعملة هي‬ ‫رمز التواصل بينهم لتبادل القيم المادية جوهر الاقتصاد‪.‬‬‫وهما مدار السياسة والاقتصاد سلطتا الفاعلية المباشرة والمادية يليهما العلم والفن مدار‬ ‫الفاعلية غير المباشرة والرمزية وتحكمهما العلاقتان‪.‬‬‫والعلاقتان هما العمودية بين البشر والطبيعة والأفقية بين البشر والبشر وهما ممتنعتان‬ ‫من دون فاعلية الكلمة رمز الثقافة والعملة رمز الاقتصاد‪.‬‬ ‫‪45 16‬‬

‫نخصص هذا الفصل الخامس للزوج الذي يبدو بيده الحل والعقد في شروط البناء التي‬ ‫من دونها لا يمكن الكلام على استئناف دور الإسلام في التاريخ الكوني‪.‬‬‫وكلامنا يتعلق بدوره الفاعل لأن الإسلام والمسلمين منذ بداية الانحطاط إلى الأن اقتصر‬ ‫دوره على رد الفعل والصمود للبقاء لعقم فكر الإمة وعجز فعلها‪.‬‬‫وهذان الزوجان هما السياسي وصفته الإرادة والاقتصادي وصفته القدرة‪ :‬علاقة‬ ‫الإرادة بالقدرة في الصفات هي علاقة السياسي بالاقتصادي في النخب‪.‬‬‫وهذا التناظر ليس نفسيا‪ :‬صفة الإرادة والقدرة تقال على الفرد نفسيا‪ .‬فالإرادة تكون‬ ‫دائما أوسع من القدرة وغالبا ما يتصف الفاشل بإرادة دون قدرة‪.‬‬‫ما يعنينا منه هو الوجه الخلقي‪ .‬فإذا علمنا أن التطابق التام بين الإرادة والقدرة مقصور‬ ‫على {الفعال لما يريد} أي الله جل جلاله فهمنا القصد‪.‬‬‫فالخلقي في هذه العلاقة هو الجهد المبذول لتحقيق شروط المقدور عليه من الأفعال‬ ‫وتجنب إرادة غير المقدور عليه بمقتضى طبيعته‪ :‬وتلك هي الحكمة العملية‪.‬‬‫والحكمة العملية هي النسبة التي تحقق مفهوم الإرادة التي نصف بها السياسي والقدرة‬ ‫التي نصف بها الاقتصادي في علاقة التصور بالإنجاز في عملهما‪.‬‬‫ولأكن منصفا فأميز بين السياسي والاقتصادي بالفعل والسياسي بالقوة (المعارض)‪.‬‬ ‫والناقد لأمراضهما مثل المعارض حكمه‪ :‬المتفرج فارس (مثل تونسي)‪.‬‬‫وقد قال أحد أدباء فرنسا قولة شهيرة تعبر عما تعنيه \"المتفرج فارس\"‪La critique :‬‬ ‫‪ est aisée, l'art est difficile‬النقد يسير والفن عسير‪.‬‬‫لذلك فسأكون قدر المستطاع منصفا لعلمي بان المتفرج فارس وأن النقد يسير والفن‬ ‫عسير‪ .‬وما يشفع لي هو أني أجعل المنقود صاحب النقد‪ :‬تصوره وإنجازه‪.‬‬‫وأول أمر ينبغي البدء به تعريف السياسي بانتسابه إلى النخب التي يتميز أفرادها بغلبة‬ ‫الإرادة على صفاتهم الأربع الأخرى في مزاجهم النفسي وطبعهم‪.‬‬ ‫‪45 17‬‬

‫وأن الاقتصادي يقبل التعريف بالانتساب إلى النخبة التي يغلب على صفاتها القدرة‬ ‫وليست مريدة فحسب فعلا وتصورا وهو الغالب على مزاجهم وطبعهم‪.‬‬‫وسأسأل عما يبدو مفارقيا‪ :‬هل عندنا سياسيين (بالفعل وبالقوة)؟ وهل عندنا اقتصاديين‬ ‫(بالفعل وبالقوة) أم ما عندنا هم أشباه منهما دون خصالهما؟‬‫وقبل الجواب فلأذكر بأن غلبة صفة من الصفات لا تعني غياب بقية الصفات بل لا بد من‬ ‫وجود القدر الضروري لتحوز الصفة على دورها في شروط فاعليتها‪.‬‬‫ولأوضح‪ :‬فالسياسي تغلب عليه الإرادة لكن الإرادة لا تعمل من دون العلم والقدرة‬ ‫والحياة والوجود أي المعرفي والاقتصادي والفني والرؤيوي‪.‬‬‫فالإرادة عزم على الفعل القادر وشرط ذلك المعرفة والاقتصاد والفن والرؤية‪.‬‬ ‫والسياسي يحتاج لأصحابها ويحتاج لمعرفة من هم اصحابها فله منها بصيص‪.‬‬‫وكان المسلمون‪-‬كما هو بين من الأحكام السلطانية‪ -‬يعتبرون ذلك من شروط الاهلية‬ ‫للترشح للخلافة بل أحيانا يبالغون فيشترطون شرطي الاجتهاد والجهاد‪.‬‬‫وذلك لأن السياسي لا يمثل إرادته حتى وإن عرفناه بها بل يمثل دعوى تمثيل إرادته‬ ‫لإرادة الجماعة التي يسوسها فيكون مسؤولا عن رعايتها وحمياتها‪.‬‬‫والإرادة في حقيقتها هي الطموح الذي لا حد له ليس للغايات وحدها بل لشروطها‬ ‫وأدواتها وارادة الجماعة تطمح لتحقيق شروط الرعاية والحماية القصوى‪.‬‬‫وشروط الرعاية والحماية القصوى تعني أن كل جماعة بحاجة إليهما في الداخل‬ ‫والخارج‪ .‬فالتمانع على الأحياز داخلي وخارجي‪ :‬الطموح تنافس متمانع‪.‬‬‫والتمانع على الأحياز داخليا وخارجيا يجعل الرهان فيه على ثمرتيها أي الثروة‬ ‫والتراث‪ .‬فيكون دور الإرادة السياسية الجمعي ارفع طموح وقدر منهما‪.‬‬‫فدينامية السياسي بما هي سلطة غايتها تحقيق الشروط التي تقرب الإرادة من القدرة‪.‬‬ ‫والقدرة هي القوة التي ترعى وتحمي القدرة التنافسية‪ :‬الاقتصاد‪.‬‬‫وكما أن السياسي لا يقرب الإرادة من القدرة إلا بالقوة الاقتصادية فإن الاقتصادي لا‬ ‫يقرب القدرة من الإرادة إلا بالسياسي‪ :‬فيتخادمان لهدف مشترك‪.‬‬ ‫‪45 18‬‬

‫فإذا تخادما وتوحد الهدف باعتبارهما يمثلان إرادة الجماعة وقدرتها أمكن للجماعة أن‬ ‫تكون ذات سيادة لأنها ترعى ذاتها وتحميها بإرادتها وقدرتها‪.‬‬‫أعتقد أني قد مهدت بما فيه الكفاية لأشرع في عرض الموجود على المنشود لبيان الهوة‬ ‫بين واقع السياسي والاقتصادي عندنا وواجبهما بمعيار حقيقتهما‪.‬‬‫ذلك أني أكره ما أكره هو كلام المفكرين على الواقع باسم الواجب دون تحديد حقيقة‬ ‫الأمر الذي يتعلق به النقد دون العلم بأن واجب الشيء هو حقيقته‪.‬‬‫ولا معنى لواجب آخر غير مطابقة الشيء لحقيقته ما أمكن له وخاصة بالنسبة إلى‬ ‫الإنسان‪ .‬فحقيقته هي أن منشوده يتجاوز موجوده دائما‪ :‬وتلك هي حريته‪.‬‬‫السياسي والاقتصادي موجودهما ومنشودهما إنساني مثل أي إنسان لكنه يتعين في الصفة‬ ‫الغالبة عليهما ككل انسان‪ :‬فما منشود الإرادة ومنشود القدرة؟‬‫يقاس منشود الإرادة ومنشود القردة بقوة الإمكان الناقل من موجودهما في الوضع‬ ‫الداخلي والخارجي إلى منشود الرعاية والحماية بحسب حاجة الجماعة‪.‬‬‫ولما كانت حاجة الجماعة ليست بمعزل عن التنافس داخليا وخارجيا على ثمرة الأحياز‬ ‫مصدر شرطي سد الحاجات كان الأمر متعلقا بتمانع وتنافس بين الناس‪.‬‬‫ومن ثم فكلما كانت الجماعة أقوى إرادة وقدرة في لقاء التمانع والتنافس كانت أكثر‬ ‫إرادة وقدرة في مجالي الرعاية والحماية ومن ثم ذات سيادة أكبر‪.‬‬‫فتكون المحميات فاقدة لشروط السيادة‪ :‬لأنها جميعا عديمة الإرادة (الطموح) والقدرة‬ ‫(الإنجاز) في مجالي الرعاية والحماية‪ :‬مشكل سياسي واقتصادي‪.‬‬ ‫ما معنى مشكل سياسي واقتصادي؟‬‫معناه أن من يتصدرون الفعل السياسي تمثيلا للإرادة والفعل الاقتصادي تمثيلا للقدرة‬‫ليس لهم حقيقة الإرادة والقدرة‪ ،‬واتصاف نخبة بصفة غالبة لا يلغي الصفات الاخرى‪.‬‬‫فما عليه موجود النخبتين السياسية والاقتصادية بالقياس إلى منشودهما لا يقتصر عليهما‪:‬‬ ‫أزمة عامة‪.‬‬ ‫‪45 19‬‬

‫صحيح أن المسؤولية الأولى تقع على عاتقهما خاصة إذا أهملا الاعتماد على النخب‬ ‫الاخرى أي العلماء والفنانين وأصحاب الرؤى‪ .‬لكن التقصير شامل‪.‬‬‫ذلك أن بقية النخب أي العلماء والفنانين واصحاب الرؤى إذا كان مسماهم مطابقا‬ ‫لاسمهم لا يمكن أن يسكتوا على سياسي واقتصادي يهمل المنشود الجمعي‪.‬‬‫صحيح أنهم ليسوا مسؤولين على السياسة والاقتصاد مباشرة لكنهم كنخب وكمواطنين‬ ‫مسؤولون على وجود مثل هؤلاء المسؤولين المباشرين لهذين الدورين‪.‬‬‫فالمسؤولية السياسية والاقتصادية فرض كفاية لكن كون المسؤولين هم أولئك وليس‬ ‫غيرهم أي اختيارهم أو حتى السكوت عنهم مسؤولية الجميع فرض عين‪.‬‬‫وهذا هو دور المعارض والناقد‪ .‬وهو ما أحاول أن أسس له فلسفيا وليس مجرد مناكفات‬ ‫سياسية‪ .‬فالمعارض سياسي بالقوة والناقد يتجاوزهما بمنطلقه‪.‬‬‫ومنطلقه سياسي بالمعنى الأعم الذي يجعل السياسة منتسبة إلى حق عام للمواطن حق‬ ‫مساءلة دور من ينوب الأمة باختيارها لأداء ما هو فرض كفاية منها‪.‬‬‫لكن منطلقه ليس سياسيا بهذا المعنى العام فحسب بل هو أيضا من منطلق علمي‪ :‬أحاسب‬ ‫السياسي والاقتصادي بمعيار الفرق بين موجود الوظيفة ومنشودها‪.‬‬‫الموجود دون المنشود والفرق يحدد حرية الإنسان وعمله بالإرادة السياسية وبالقدرة‬ ‫الاقتصادية وبالمعرفة العلمية وبالإبداع الفني أو برؤية الوجود‪.‬‬‫وسنطبق هذه المعاني على علاقة العلم بالحياة أو المعرفة بالفنون شرطين مكملين‬ ‫للشرطين الاولين للتمانع بالإرادة السياسية والقدرة الاقتصادية‪.‬‬‫فيتبين دور راس الهرم وقمته‪ :‬الرؤية الوجودية التي تمثل مرجعية الجماعة ورؤيتها‬ ‫لمنزلتها في الأحياز الخارجية وتجسدها في الأحياز الداخلية‪.‬‬ ‫‪45 20‬‬

‫لا بد أن القارئ قد لاحظ أني لم اقيم السياسي والاقتصادي العربيين‪.‬‬ ‫اكتفيت بتحديد معايير التقييم وتركت للقراء حزر النتيجة وهي شديدة البينونة‪.‬‬‫فالمسافة بين الموجود والمنشود لا تحتاج لتقدير لأنها بلغت حد التناقض‪ :‬لا شيء في‬ ‫السياسي والاقتصادي العربيين له صلة بالسياسة والاقتصاد أصلا‪.‬‬‫ولأستدرك‪ :‬فبالأقوال هم جميعا أكفأ من كل ساسة العالم واقتصادييه وبمظاهر سلطان‬ ‫السياسة والثروة لهم بهرج يتجاوز حكام القوى العظمى واقتصادييها‪.‬‬‫وهي من المزايا التي يخولها لهم الحامي حتى تبدو المحميات وكأنها دول ذات سيادة‬ ‫والتبعية في الخردويات وزائف العمران وكأنها قوة اقتصادية فعلية‪.‬‬‫لكني لن أطيل في التقويم لأن المجال يوجد من أدرى به مني وسأقتصر على الكلام فيما‬ ‫لي به صلة مباشرة وهو الثنائي الثاني‪ :‬نخبة المعرفة ونخبة الفن‪.‬‬ ‫وحتى لا يساء فهمي فلابد ملاحظتين‪:‬‬‫حكمي على الساسة والاقتصاديين العرب لا يعني الإطلاق بل هو يقتصر على من بيدهم‬ ‫السلطان في المجالين‪.‬‬‫ويترتب على هذا الملاحظة الأولى أن ظهور المفضول وغياب الافضل ليس ناتجا عن‬ ‫دينامية عادية علتها من برز في المجالين أم للأمر علاقة بالحامي؟‬ ‫ولأضرب مثالين من تونس والجزائر‪.‬‬‫ففي الجزائر من حال دون تحقيق رغبة الشعب في التغيير وجعل هذه الرغبة تمثل بداية‬ ‫سنوات الجمر العشر التي عاشتها‪.‬‬‫وطبعا ما حدث في مصر وفي سوريا واليمن وليبيا من جنسه‪ .‬لذلك اعتبرت الربيع العربي‬ ‫والحرب عليه بدآ في الجزائر وليس في تونس كما يتوهم الكثير‪.‬‬‫والمثال من تونس وقد عشته بل وحاولت المساهمة فيه قدر مستطاعي‪ :‬لما كدنا نقع فيما‬ ‫وقعت فيه مصر بالانقلاب كان الخيار بين رجلين خير وشرير‪.‬‬ ‫‪45 21‬‬

‫لكن الشرير أبعد الخير وتبعه غالبية المشاركين فيما سمي بالحوار الوطني‪ :‬من استبعد‬ ‫احمد المستيري هو من كان مستعدا لإغراق تونس بنموذج السيسي‪.‬‬‫وطبعا لم يكن ذلك لأنه الأفضل ولا لأنه الأقوى لو كانت المعركة محلية أي مقصورة على‬ ‫القوى السياسية في تونس ودون تدخل الحامي ومافياته‪.‬‬‫لذلك فالمشكل ليس محليا بل هو دولي لمجرد أن بلادنا كلها ما تزال محميات ولن تتحرر‬ ‫من هذا الوضع ما ظلت الأحياز محكومة بما حدده لها الاستعمار‪.‬‬‫فكل بلد عربي لا يمكن الا يكون محمية لأنه اقتطع من كيان الأمة حتى يكون مستضعفا‬ ‫بالجوهر لأنه بحجم يحول دون القوتين شرطي الحماية والرعاية‪.‬‬‫قدمت هذين الملاحظتين لأنهما من باب اولى أكثر فاعلية فيما هو الأداتين الأساسيتين‬ ‫لجعل السياسي والاقتصادي قادرين على السعي إلى حقيقتهما‪.‬‬‫فالسياسي والاقتصادي لم يمكن أن يتجاوزا الموجود إلى المنشود من دون أداتيهما‬ ‫الأساسيتين أعني العلوم والفنون كما بينا في كلامنا على الترميز‪.‬‬ ‫فالعلاقة العمودية مع الطبيعة (القوة المادية) مصدرها ابداع العلم‪.‬‬‫والافقية بين البشر (القوة الروحية) مصدرها ابداع الفن‪ :‬الأقزام لا يقدرون عليهما‪.‬‬‫وتلك هي العلة التي جعلتني أقول إن الفاعلية الجوهرية في التاريخ الإنساني هي فاعلية‬ ‫الترميز العلمي والترميز الفني‪ :‬مصدر قوة الرعاية والحماية‪.‬‬‫وقوة الحماية والرعاية هما شرط السيادة‪ .‬فيكون منع القوة القادرة على إبداع أدوات‬ ‫الرعاية والحماية يسبق استبعاد النخب التي مسماهم يطابق اسمهم‪.‬‬‫وما يصح عن استبعاد السياسي والاقتصادي الحقيقيين يصح من باب أولى على استبعاد‬ ‫العالم والفنان الحقيقيين‪ .‬هم موجودون والدليل نجاحهم في الهجرة‪.‬‬‫وما يزيد الطين بلة هو أن العلمي والفني كلاهما أصبح في الدولة الحديثة وخاصة بسبب‬ ‫كلفة البحث العلمي والإبداع الفني لم تعد في متناول الأفراد‪.‬‬‫فأصبح العلم والفن تحت وصاية السياسة والاقتصاد‪ .‬فساد النخب التي بيدها سلطة‬ ‫السياسة والاقتصاد التي تعين من يحكم المؤسسات العلمية والفنية‪.‬‬ ‫‪45 22‬‬

‫فيكون الولاء لهم‪-‬وهم الان ما يزاولون نفس الجماعة إما لأن السياسيين هم المسيطرون‬ ‫على الاقل في الظاهر او العكس في الباطن‪-‬هو المعيار لا الكفاءة‪.‬‬‫وبذلك يتمر التردي السياسي والاقتصادي إلى العلمي والفني فيصبح المنطق هو منطق‬ ‫استبعاد من يطابق اسمه مسماه واستقراب من له الاسم دون المسمى‪.‬‬‫والشهادات ليست كافية للتمييز بين المسميات لأنها مجرد أسماء قد تشترى المال أو‬ ‫بالوسائط‪ .‬وخراب التعليم العلمي والفني مآله فقدان الابداعين‪.‬‬‫فيصبح التعليم محو أمية ولا يخرج في الغالب إلا العاطلين والطبالة من أجل الحصول‬ ‫على الرزق الذي صار بيد الساسة والاقتصاديين ممن وصفنا خصالهم‪.‬‬‫وبذلك نفهم اتجاه المنحنى المشير إلى حصلة التنمية المادية والروحية في بلاد العرب‪:‬‬ ‫هي إلى نزول وليست إلى صعود في أي مجال من مجالات البناء‪.‬‬‫وقد يوهم الكثير أن البلاد التي نرى فيها نموا عمرانيا مبهرا بلاد تنمو كما تصدق نفسها‬ ‫في دعايتها‪ :‬هكذا كانوا يقولون عن العراق والجزائر‪.‬‬‫لكن المؤشرات المستعملة كلها زائفة‪ :‬فمن يعمر ببيع الخام لا يعمر بل يدمر‪ .‬ذلك أن‬ ‫الثورة التي لا تتجدد لا ثروة‪ .‬ولا يتجدد إلى ثمرة الابداعين‪.‬‬‫وما قلته عن العراق والجزائر أقول مثله على كل بلاد الخليج‪ :‬فيوم ينضب البترول لن‬ ‫يتسوح أحد في صحارى الإمارات ولو جمعوا كل فائعات ‪...‬العالم‪.‬‬‫وما قلته عن العراق والجزائر أولى بالخليج‪ :‬إذا نضب البترول بات العيش في ناطحات‬ ‫سحاب الصحارى ليس في متناول أصحابها‪ :‬تبريدا وتصعيدا وتنويرا‪.‬‬‫والعلة في كل بلاد العرب ‪-‬من العراق إلى المغرب‪-‬هي التحديث المقلوب‪ .‬بدلا من البدء‬ ‫بالبدايات نبدأ بالغايات‪ .‬فتستورد بدلا من أن تعمل‪.‬‬‫وبذلك تكون الجامعات طواحين إيديولوجية وليس معامل إبداعية لما تتقوم به أنشطة‬ ‫إبداع الثروة والتراث شرطي كل قوة مادية وروحية للجماعات السيدة‪.‬‬‫كلما سمعت عربيا يفاخر بأن بلده قضى على الأمية أفهم أن من أكبر الأميين‪ :‬فهب كل‬ ‫التونسيين حصلوا على الدكتوراه فلن تصبح تونس دولة‪ :‬ستبقى محمية‪.‬‬ ‫‪45 23‬‬

‫فالعلم المبدع والفن المبدع أولهما مفتاح العلاقة مع الطبيعة لإنتاج التنمية المادية‬ ‫والثاني مفتاح العلاقة مع الإنسان لإنتاج التنمية الروحية‪.‬‬‫وكلفة المفتاحين لا يقدر عليها بلد دخله القومي الخام عاجز عن البحث العلمي والبحث‬ ‫الفني القاطرين للتنمية‪ :‬وكلاهما اليوم مقطور بالبحث الأساسي‪.‬‬‫والبحث الأساسي لم يعد يكفي فيه‪-‬كما كان في عهد أفلاطون وأرسطو‪-‬قلم وورقة بل‬ ‫التجهيز العلمي ثروة تونس كلها لا تكفي لأدنى أدواته في مجال واحد‪.‬‬‫والمجالان الرئيسيان اليوم في العلوم للعلاقة بالطبيعة وفي الفنون للعلاقة بالإنسان هما‬ ‫نظريات غزو الفضاء وأدواته وغزو المجتمعات وأدواتها‪.‬‬‫وغزو المجتمعات وأدواتها سلاح للغزو المادي وفن للغزو الروحي‪ .‬وكلها صناعات عملاقة‬ ‫لا يقدر عليها أي بلد عربي يعتبر نفسه دولة وهو محمية‪.‬‬‫وإذا لم يفهم أحد هذه الحقائق وأراد أن يعلم ابناءه تعليما حديثا دون أن يفكر في حل‬ ‫هذه المشاكل فهو في الحقيقة يعد كوادر لحامية يستقطبهم‪.‬‬‫فيكون دوره تمويل تنمية الحامي وليس تنميته‪ :‬خذ مثال قطر‪ .‬فهي قادرة على كلفة‬ ‫التعليم الراقي‪ .‬لكنها لن تقدر على شروط الاستفادة من مخرجاته‪.‬‬‫فالاستفادة من مخرجاته تقتضي تجهيزات البحوث الأساسية في الفيزياء والكيمياء‬ ‫وتطبيقاتها في غزو الفضاء والأرض ومن عليها‪ :‬وهو ممكن للعماليق وحدهم‪.‬‬‫وما ظل العرب لم يفهموا ما فهمته دول أوروبا رغم حجمها وظلت كل قبلية تظن نفسها‬ ‫دولة لكنها مهما أخلص حكامها لن تغير واقع كونها محمية تابعة‪.‬‬‫وطبعا فلست أقصد أنه على قطر مثلا أن تلغي أفضل ما تفعل لأن مخرجاته ستكون‬ ‫لغيرها‪ .‬ما أقصده أن السيادة لها شروط يحددها العصر واساس كل تنمية‪.‬‬‫والعصر اليوم يحدد شروط الحجم وشروط الأدوات‪ :‬والحجم للأحياز والادوات للإبداع‬ ‫العلمي والفني الاساسيين والمطبقين في الرعاية والحماية‪ :‬السيادة‪.‬‬ ‫‪45 24‬‬

‫وصلنا الآن إلى قمة الهرم‪ :‬الوجود الذي تمثل رؤاه (دينية كانت أو فلسفية) مرجعية‬ ‫الجماعة وأصل الفروع أي السياسة والاقتصاد والعلوم والفنون‪.‬‬‫أدعي أن العرب اليوم فقدوا كل مرجعية سوية‪ .‬فما لديهم ليس مرجعية بل كاريكاتور‬ ‫صراع حضاري كحرب أهلية بين كاريكاتور تأصيلي وكاريكاتور تحديثي‪.‬‬‫أعلم أن وصفي الجامع والمانع للأحوال قد يستفز الكثير من القراء‪ .‬لكن من أراد أن‬ ‫يعالج الادواء حتى وإن لم يكن له الدواء عليه أن يصدق التشخيص‪.‬‬‫تعريفي لما يؤدي دور المرجعية في صراعات النخب العربية الحالية أنا نفسي أضيق به‪.‬‬ ‫فإن صدقت نفسي قلت‪ :‬لا داعش التأصيلية ولا داعش التحديثية تمثلني‪.‬‬‫والداعشان التأصيلية والتحديثة تسيطران على المناخ الروحي في المحميات فجعلتا‬ ‫التدعشن محور إنقلاب مما ألصق به من الاولى يتبرأ بتبني الثانية‪.‬‬ ‫وقد حدث ذلك‪:‬‬‫فبعض الاحزاب الاخوانية تتبرأ الآن منهم بالتقرب من الثانية‪ .‬السعودية التي سلمت‬ ‫بما تتهم به جعلت العتيبة قدوة فلسفية لتحديثها‪.‬‬‫فلم يبق مصدرا لمرجعية العرب غير البغدادي (زعيم داعش التأصيلية) والعتيبة (زعيم‬ ‫داعش التحديثية)‪:‬‬ ‫‪ .1‬تدعي تمثيل الإسلام‬ ‫‪ .2‬وتدعي تمثيل الحداثة‬‫وكل مسلم بحق وكل حديث بحق لا يجد نفسه لا وراء البغدادي ولا وراء العتيبة‪ .‬لن‬ ‫يتبع كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث إلا السفهاء والعملاء‪.‬‬‫وما لم نخرج من الحرب الأهلية التي هي صراع حضارات داخلي فنتحرر من سيطرة‬ ‫الدواعش على المجال السياسي والثقافي لن نستطيع علاج أدواء الامة‪.‬‬ ‫‪45 25‬‬

‫وقبل الكلام في المرجعية أو رؤى الوجود قمة لهرم الصفات والوظائف علي أن أشير أن‬ ‫وضع الشيعة أسوأ من وضع السنة بخلاف ما يظن من تخدعه العنتريات‪.‬‬‫فما تعاني من السنة في هذا الصراع ما يزال غير محسوم‪ .‬والوهم الشيعي يظن أصحابه‬ ‫أنهم حسموه بدولة تجمع بين الكاريكاتورين في دستورها نفسه‪.‬‬‫فالسلطة الدينية فيها تجمع بين داعشية البغدادي وداعشية العتيبة في جسم واحد‪:‬‬ ‫المرشد والحرس‪ .‬الأول كنسية قروسطية والثاني مليشيا فاشية حديثة‪.‬‬‫والحكومة مجرد سلطة تسيير الأعمال الشكلية الموجهة إلى الداخل (الخدمات) وإلى‬ ‫العالم (الدبلوماسية)‪ :‬ووحدة الداعشيتين مآلها كالكاثوليكية‪.‬‬ ‫مآل إيران إلى علمانية فرنسية‪.‬‬‫ولا أستبعد أن يكون مآل السعودية مثلها‪ .‬والعلامات المتواترة حاضرة‪ :‬شباب البلدين‬ ‫\"طلعت روحه\" من الدجل الديني‬‫أما بقية السنة فالمآل فيها ما يزال غير بين الاتجاه‪ .‬والسعودية لن تمثل الإسلام السني‬ ‫مستقبلا‪ .‬سيمثله من جرب العلمانية وتجاوزها إلى الإسلام‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالمسلمون الصادقون اليوم هم من سيبدع مقومات المرجعية الإسلامية بغوص‬ ‫فلسفي حقيقي في مقومات رسالة الإسلام بمدلولاتها القرآنية‪.‬‬‫وإذن فالإسلام ليس ماضيا درسه ومستقبله العلمانية بل الماضي هو العلمانية والمستقبل‬ ‫هو الإسلام المستعاد بعد تحريره مما شابه بسبب انحطاط أهله‪.‬‬‫فنحن في لحظة تاريخية جليلة أشبه ما تكون بلحظة النشأة الأولى‪ :‬لحظة الاستئناف‬ ‫بإبداع معاني الرسالة وكأن القرآن نزل اليوم ليحررنا من النكوص‪.‬‬‫وكل حلمي هو أن أسهم ولو ببذرة في إعادة اكتشاف معاني الرسالة ودلالات الاستراتيجية‬ ‫القرآنية في توحيد البشرية حول قيم الاستخلاف القرآنية‪.‬‬‫ولهذا حاولت أن أعيد النظر في جل علوم الملة لبيان أنها لا تستند إلى القرآن بوصفه‬ ‫المرجعية بحد ذاتها بل بقراءته في حالة الطوارئ بعد الفتنة‪.‬‬ ‫‪45 26‬‬

‫فالحرب الأهلية التي ولت الفتنة الكبرى فرضت على الأمة حالة طوارئ وعطلت الدستور‬ ‫إلى الآن‪ :‬فاعتمد الفكر الإسلامي على الاستثناء بدل القاعدة‪.‬‬‫وتفرع ذلك بين التحريف المطلق قولا وفعلا وهو الحل الشيعي الذي أعاد السلطة‬ ‫الروحية الكنسية والحق الإلهي في الحكم‪ :‬عصمة الإمام ووصية الحكم‪.‬‬‫وهما حلان ينفيان ثورتي الإسلام أي الحرية الروحية (لا وساطة) والحرية السياسية‬ ‫(لا وصية)‪ .‬لكن السنة نفتهما بالفعل وحافظت عليهما بالقول‪.‬‬‫أي إن الفقه السياسي السني يقول بالاختيار والبيعة الحرة وبعدم الوساطة لكنه في‬ ‫الفعل أضفى الشرعية على المتغلب وجعل رجال الدين وسطاء (الفتوى)‪.‬‬‫ومما ينبغي الإشارة اليه وهو ظاهرة شديد الغرابة وارجج انها ذاتية للحضارة كحضارة‬ ‫وليست بالإسلام‪ :‬مرجعية الزهد السنية ومرجعية التصوف الشيعية‪.‬‬‫وهما في البداية مثل الإسلام ظاهرة سلوكية وحادة لتطبيق ما يسميه ابن خلدون‬ ‫بمجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة‪ .‬ودعوى الكشف واللدنية تحريف شيعي‪.‬‬‫وقد عين ابن خلدون لحظة هذا التحريف فنسبها إلى اختلاط التصوف بالباطنية في‬ ‫العراق ومحاكاته التنظيم الشيعي للدولة الخفية بمعنى اخوان الصفا‪.‬‬‫فتكون الظاهرة مثلثة الأبعاد‪ :‬الأصل هو الزهد ثم تفرعه إلى ما بقي سنيا وما اخترقه‬ ‫التصوف‪:‬‬ ‫‪ .1‬الزهد السني‬ ‫‪ .2‬التصوف الشيعي‪.‬‬ ‫وتداخل الوجهان‪.‬‬ ‫فتكون المرجعية ذات خمسة أفرع‪:‬‬ ‫‪ .1‬التشيع انفصل عن وحدة المرجعية قبل أن توجد صفة السنة‪.‬‬ ‫‪ .2‬السنة بوصها غير ما انفصل عنها‪.‬‬ ‫‪ .3‬وفي الخلق الديني‪.‬‬ ‫وهنا أيضا‪:‬‬ ‫‪45 27‬‬

‫‪ .4‬انفصل التصوف عن الخلق الديني تبعا للانفصال الشيعي المذهبي السياسي‪.‬‬ ‫‪ .5‬فتحدد الخلق الديني كزهد تبعا للأصل السني المذهبي السياسي‪.‬‬ ‫فما معنى الخلق الديني ولم هو عين الزهد؟‬‫حياة متخلصة من الدنيا مع السلطان عليها بما أوصى به القرآن من شروط‪ :‬تعمير الأرض‬ ‫بقيم الاستخلاف‬‫وليس فيه استثمار سياسي للزهد‪ .‬التصوف يختلف عنه الزهد بترك الدنيا ليكون ذا‬ ‫سلطان على الضمائر استعمالا شيعيا للرمز في الوساطة بالكرامات‪.‬‬‫تلك هي مستويات المرجعية في الإسلام سابقا‪ :‬إسلام غير منقسم عقيدة وشريعة يتعين‬ ‫في السلوك السياسي والروحي ثم ينفصل إلى تشيع وتصوف وتسنن وزهد‪.‬‬‫تلك هي مستويات المرجعية في الإسلام سابقا‪ :‬إسلام واحد عقيدة وشريعة إيمان وعمل‬ ‫في السلوك السياسي والروحي ثم ينفصل إلى تشيع وتصوف وتسنن وزهد‪.‬‬‫وهذه التعيينات للمرجعية الإسلامية لم تعد ذات فاعلية مستقلة لأنها بعد عصر‬ ‫الانحطاط والاستعمار صارت صورة تأصيلية في صراع مع صورة تحديثية‪.‬‬‫وكلتا الصورتين لا تعبران عن حقيقة الاصيل ولا عن حقيقة الحديث لأنهما تعرفان‬ ‫نفسيهما بالتنافي لكأن الأمرين لا يشتركان في قيم كونية حقيقية‪.‬‬‫فنتجت حرب مرجعيات هي بلغتنا الحديثة صراع حضاري داخلي بين صورتين‬ ‫كاريكاتوريتين من الاصالة والحداثة فآلتا بالصراع إلى البغدادي والعتيبة‪.‬‬‫ومعلوم أن البغدادي والعتيبي يعلمان أن كلا منهما يحدد موقفه بنفي موقف الثاني لكن‬ ‫لا أحد منعها مدرك بأن مجرد كاريكاتور مما يتكلم باسمه‪.‬‬‫ولذلك فكلاهما لا يمكن ألا بكون إرهابيا أي ألا يستعمل السياسي بمعناه الحقيقي بل‬ ‫يقصره على العنف والخبث محاكاة لأحد وجهي الغزو الاستعماري‪.‬‬‫ولذلك فكلاهما يميل إلى الكذب والخداع باستعمال وسائل التواصل الحديثة والعنف‬ ‫الاقصى والفرق الوحيد أن البغدادي يستعرضه والثاني يستعرض عكسه‪.‬‬ ‫‪45 28‬‬

‫لكن عنف سياسة العتيبيين أشد واقصى من عنف سياسة البغداديين‪ :‬فمهما فعل البغدادي‬ ‫لن يصل إلى ما رأيناه في أبو غريب‪ ،‬المتحضر أعنف لأنه أكثر تجهيزا‪.‬‬‫أشد الإرهابيين في العالم \"المتحضرون\"‪ :‬إسرائيل وأمريكا وروسيا وقبلهما أوروبا عندما‬ ‫كانت سيدة العالم وقد لحق بهما الصين والهند ومحمياتهم‪.‬‬‫تلك هي الأمور التي ينبغي درس تحريفاتها لعلاجها ثم البناء على النسبة بين الموجود‬ ‫والمنشود بمقتضى قيم القرآن‪ :‬منهج الإسلام بالتصديق والهيمنة‪.‬‬ ‫‪45 29‬‬

‫حددنا في الفصول السبعة الاول حول شروط الاستئناف استراتيجية التحرر والبناء‬ ‫الحضاري معايير التقويم والامور التي تحتاج إليه لتشخص الأدواء‪.‬‬‫واقتصرنا على إشارات وجيزة حول الوضع المتردي في المجالات التي سيطرت عليها‬ ‫الأمراض التي أجملها ابن خلدون فيما سماه فساد معاني الإنسانية‪.‬‬‫فلنذكر مفهوم فساد معاني الإنسانية الناتج عن التربية والحكم العنيفين أي بوجهي‬ ‫السياسة التي هي عنده صورة العمران ففيه تشخيص أولا ننطلق منه‪.‬‬ ‫نشرع في التشخيص باعتماد التقييم على أساسين‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما تحقق من حقيقة الصفات في أحياز الموصوف الذاتية له‪.‬‬ ‫‪ .2‬دوره في تحقيقها في الأحياز الخارجية‪.‬‬‫ما القدر من حقيقة الصفة في السياسي والعالم والاقتصادي والفنان وصاحب الرؤى‬ ‫المتوفر فيهم بالترتيب الارادة والعلم والقدرة والحياة والوجود؟‬‫المعلوم أن السياسة ببعدها عند ابن خلدون هي التربية والحكم أي في المجمل ما عرفناه‬ ‫بوظائف الرعاية ووظائف الحماية في كل دولة ذات سيادة حقيقية‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن ما قدمته في هذه المحاولة إلى حد الآن هو التأسيس النظري للحكم‬ ‫الخلدوني الذي اجمعه في عبارة غريبة في عصره \"فساد معاني الإنسانية\"‪.‬‬‫فهي عبارة تعني المعاني التي بصلاحها يكون الإنسان إنسانا وبفسادها يفقد إنسانيته‪.‬‬ ‫وهي جوهر القيم الكونية التي يشترك فيها الإسلام والحداثة‪.‬‬ ‫فلنورد النص‪:‬‬‫\"ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم ‪-1‬سطا به القهر‬‫وضيق على النفس في انبساطها ‪-2‬ذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل ‪-3‬وحمل على الكذب‬‫والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط ا لأيدي بالقهر عليه ‪-4‬وعلمه‬‫المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا ‪-5‬وفسدت معاني الإنسانية التي له من‬ ‫‪45 30‬‬

‫حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره‬‫في ذلك وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى‬ ‫إنسانيتها فارتكس وعادة في أسفل سافلين\"‬‫ونفس التقييم طبقه على أثر الحكم فعمم الحكم على الجماعة بعد كلامه على الفرد‬‫لكأن الحكم هو تربيتها \"وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف‬‫واعتبره في كل ما يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به‪ .‬ونجد ذلك فيهم‬‫استقراء‪ .‬وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق ا لسوء حتى إنهم يوصفون في‬‫كل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه\"‪.‬‬ ‫(المقدمة الباب ‪ 6‬الفصل ‪ :)40‬نتائج التربية والحكم‪.‬‬‫الأمر المهم في نص ابن خلدون أنه لا يكتفي بالفرد والجماعة نفسيا وخلقيا بل يعدد‬ ‫مجالات التأثير ويصلها بأحياز الفرد وفي علاقته بالخارجي منها‪.‬‬‫وابن خلدون لا يكتفي بذلك بل يتكلم على الرعاية والحماية عندما بين أن الفرد يصبح‬ ‫عالة على الغير فيهما ويحدد حصيلة فساد هذه المعاني الخمسة‪.‬‬‫فالحصيلة‪\" :‬وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها‬ ‫ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين\"‬‫وهذه الحصيلة هي الدافع الأساسي للبحث الذي نقوم به‪ :‬فنحن نريد فهم علة كون‬ ‫الفرد والجماعة بهذه الحال التي وصفها ابن خلدون في كل بلاد العرب‪.‬‬‫فحالنا هي حال اليهود عندما كانوا مضطهدي العالم كما يصفهم ابن خلدون مبينا أن‬ ‫ذلك ليس صفة عرقية ولا ثقافية بل هو نتيجة تربوية وسياسية‪.‬‬‫وفي التعليل الخلدوني أمل كبير‪ :‬تعليل فساد معاني الإنسانية في الفرد (أسلوب التربية)‬ ‫وفي الجماعة (أسلوب الحكم) بعدي السياسة يحدد طريقة العلاج‪.‬‬‫فإذا حددنا ما يحتاج إلى الرعاية وما يحتاج إلى الحماية أمكن القول إن فساد معاني‬ ‫الإنسانية يتعلق بالأحياز في كيان الإنسان وبها في محيطه‪.‬‬ ‫‪45 31‬‬

‫فتكتمل نظرية ابن خلدون على أسس مضمرة في مقدمته لكنها في الحقيقة واردة فيها‬ ‫دون نسقية لأن أفكار المبدع تتدفق بفورات بحاجة إلى الانتظام‪.‬‬‫نظرية الصفات المعبرة عن الأحياز في الفرد وتصنيف النخب بحسب غلبة واحدة منها‬ ‫على المنتسبين إليها ونظرية الأحياز تساعدان في تنظيم تشخيصه‪.‬‬‫ولنبدأ بالمبدأ العام‪ :‬كل نخبة تتحدد بغلبة إحدى الصفات الخمس على الفرد المنتسب‬ ‫إليها لكن الغلبة لا تنفي وجود بقية الصفات لأنها من مقوماته‪.‬‬‫فهي معاني الإنسانية المقومة لكيان كل فرد وغلبة أحدها المحدد للنخبة يجعل الصفة‬ ‫الغالبة شبه منظور أحيازها الذاتية للعلاقة بالأحياز الخارجية‪.‬‬‫فكل فرد تغلب فيه صفة الإرادة يميل للفعل السياسي الذي هو إرادة فرد يعتبر نفسه‬ ‫ممثلا لإرادة الجماعة وهكذا بالنسبة لكل فرد تغلب صفة‪.‬‬‫فمن تغلب عليه صفة العلم يمثل علم الجماعة ومن صفة القدرة قدرة الجماعة ومن صفة‬ ‫الحياة حياة الجماعة ومن صفة الوجود رؤى الجماعة‪ :‬إذن معياران‪.‬‬‫وجود الصفة في النخبة وتمثيلها للصفة في الجماعة‪ .‬ووجود الصفة في النخبة يتعين في‬ ‫أحياز كيانها وتمثيلها للصفة في الجماعة تتعين في أحيازها‪.‬‬‫ورأينا أن تحديد أحياز الجماعة أيسر من أحياز الفرد‪ :‬فهي جغرافيتها وتاريخها وتراثها‬ ‫وثروتها ومرجعيتها‪ .‬لكن أحياز الكيان الفردي أعسر تحديدا‪.‬‬‫فالجغرافيا غير الطبيعية مكان صورته حضارة‪ .‬والتاريخ غير الطبيعي زمان صورته‬ ‫حضارة‪ .‬والتصوير هو التراث والثروة وتوحدها المرجعية أو رؤى الوجود‪.‬‬‫رؤى الوجود والسياسية المترتبة عليها متعينة في مرجعية الجماعة وإرادتها في تصوير‬ ‫الأحياز أي المكان والزمان لجعلهما جغرافيا وتاريخ حضارة‪.‬‬‫ويكون فنون الجماعة وعلومها هما الصورة نفسها التي تحققت في الأحياز مكانا وزمانا‬ ‫لإنتاج تراث الجماعة وثروتها بعمل الذوق غاية والعلم أداة‪.‬‬‫والتراث والثروة هما الإنتاج الثقافي والإنتاج الاقتصادي تبدعهما الجماعة لتحقيق‬ ‫شروط الرعاية تكوينا وتموينا والحماية داخليا وخارجيا‪ :‬الدولة‪.‬‬ ‫‪45 32‬‬

‫والإنتاج مادته الأحياز وصورته الأفعال وهي بعدة الصفات‪ :‬أفعال الإرادة وأفعال العلم‬ ‫وأفعال القدرة وأفعال الحياة (الذوق) وأفعال الوجود (الرؤى)‪.‬‬‫والأفعال التي هي ثمرة الصفات هي تعين الأحياز في كيان الفرد جسده الحي مكان وروح‬ ‫زمان يبدآن طبيعيين فيتم تصويرهما ليصبحا حضاريين مثقفين‪.‬‬‫وتثقيف البدن والروح (بمعنى التثقيف اللغوي) بالرعاية تكوينا وتموينا‪ .‬فالجماعة‬ ‫تحل في الفرد ما يستمد من الأحياز الخارجية في كيانه بدنا وروحا‪.‬‬‫والأفراد كل في نوع من النخب الخمسة هم الذين بصفاتهم ينقلون الأحياز الخارجية من‬ ‫الطبيعية إلى الحضارية بأعمالهم‪ .‬فيكون الفرد وسطا بينهما‪.‬‬‫فهو يحول ما يستمد من الأحياز الخارجية إلى الأحياز الداخلية فينتج شروط تواصل‬ ‫الحياة بالتوالد وشروط تواصل الحضارة بالإبداع‪ :‬حامل حياة وحضارة‪.‬‬‫لكن ما يضفي المعنى على هذه الوساطة ويعطي للفرد دلالة الخلود فلا يكون مجرد قطعة‬ ‫غيار في آلية الحياة والحضارة هو سر المعادلة الوجودية‪.‬‬‫فمن دون ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ من تعال لا يمكن أن يكون الفرد أكثر من‬ ‫مجرد قطعة غيار في مجرى الحياة عضويا وفي مجرى الحضارة رمزيا‪.‬‬‫وهذان الماوراء هما قطبا المعادلة‪ :‬الله والإنسان‪ .‬وبهما تنقلب دلالة الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫فهما يتحولان إلى أداتين وبدون القطبين هما غايتان‪.‬‬‫فتكون المعادلة مؤلفة من قطبين هما الله والإنسان ومن وسيطين هما الطبيعة والتاريخ‬ ‫ومن قلب هو التواصل بين القطبين مباشرة وبتوسط الوسيطين‪.‬‬‫وكل معنى حقيقي للصفات الخمس التي تثمر الافعال الخمسة يستمد من هذين القطبين‬ ‫وما بينهما من علاقة‪ :‬أساس السياسة تربية وحكما لمعاني الإنسانية‪.‬‬ ‫‪45 33‬‬

‫في الفصل التاسع من بحثنا في شروط الاستئناف نبدأ بتشخيص داء الزوجين الاولين من‬ ‫قاعدة الهرم‪ :‬نخبة الإرادة السياسية ونخبة الرؤية الوجودية‪.‬‬‫هل النخبة العربية التي تدعي تمثيل الإرادة السياسية في الحكم وفي المعارضة تتصف‬ ‫بالإرادة حقا وبتمثيل إرادة الجماعة فعلا أم هي اسم بلا مسمى؟‬‫قد لا يصدق القارئ أنها لا تتصف بالإرادة ولا تمثل إرادة الجماعة وذلك لأنها تخضع‬ ‫لإرادة من تستمد منه وجودها وبقاءها وممثليه في كل بلد عربي‪.‬‬‫فلو كانوا حائزين بحق على صفة الإرادة لما خضعوا لحماية سيد يعتبرهم موظفين عنده‬ ‫إذ هو لا يحمي من كان ذا إرادة غير تابعة والتبعية نفي للإرادة‪.‬‬‫وكونهم تابعين لسيد يحميهم فهذا يعني أنهم لا يمثلون إرادة الجماعة وهو يحميهم‬ ‫فوجودهم وبقاؤهم ليس بإرادة الجماعة إذا ما استثنينا عملاءه فيها‪.‬‬‫لذلك فلا تصح عليهم صفة الإرادة الذاتية فضلا عن صفة تمثيل الإرادة الجماعية‪.‬‬ ‫وهذان النفيان يعنيان أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬لم تتحقق الصفة في أحيازهم الذاتية‬‫‪ .2‬والامر الثاني لا تعنيهم رعاية الجماعة ولا حمايتها‪ .‬ورعاية الجماعة وحمايتها‬ ‫هما عين رعاية الأحياز الخارجية وحمايتها فالسياسي العربي عميل لحاميه‪.‬‬‫والعمالة للحامي تعني إطلاق يديه في الاحياز الخارجية (المكان والزمان والتراث‬ ‫والثروة والمرجعية) يفعل بهاما يناسب مصالحه بتوظيف استبداده وفساده‪.‬‬ ‫لكن ذلك قد يعتبر مجدر اتهام مني كناقد غير موضوعي‪ :‬لذا أقدم المعيار الثاني‪.‬‬ ‫فما معنى دور السياسي في رعاية الجماعة وحمايتها بعلاقته بالأحياز؟‬‫المعيار الثاني هو حقيقة الإرادة‪ :‬فخاصيتها أنها كسياسية لا محدودة ولا محدوديتها تعني‬ ‫شمول كل المعمورة‪ .‬الإرادة السياسية توسعية بلا حد‪.‬‬ ‫‪45 34‬‬

‫ومثالها هو السياسة المحمدية‪ :‬كانت الرسالة تعني أن دولة الإسلام ليس لها حدود‪ .‬إنها‬ ‫في تمدد متواصل لتشمل المعمورة‪ :‬دولة رسالة شاملة للإنسانية‪.‬‬‫ما يحدها هو إرادة منافسة‪ .‬ومن ثم فالإرادة صفة غايتها التوسع الدائم وأدتها تحقيق‬ ‫شروط التوسع لأن جغرافية العالم حصيلة توازن قوة الإرادات‪.‬‬‫فما يسمي دولة لا يمكن أن تكون محمية إذ هي لسان السيادة وما يسمى سياسي لا يمكن‬ ‫أن يكون عديم الإرادة بحيث يقبل أن يكون طرطورا في محمية‪.‬‬‫وبهذا المعنى لا توجد دولة عربية كلها محميات ولا يوجد ساسة عرب كلهم طراطير‪.‬‬ ‫المحمية تابعة لدولة وليست دولة والمحمي تابع لسياسي وليس سياسيا‪.‬‬‫وما أظنني بحاجة لأكثر من هذا للدلالة على أن الساسة العرب اسم بلا مسمى وأن الدول‬ ‫العربية اسم بلا مسمى‪ .‬فهي عديمة السيادة وهم عديمو الإرادة‪.‬‬‫ولكن لا بد من التنبيه لأمر قد يبدو مكذبا لما أقول‪ :‬فأحيانا يبدو السياسي العربي وكأنه‬ ‫صاحب إرادة لا تقهر ودولته ليست محمية بل قوة عظمى‪.‬‬‫وهذه المظاهر من خدع الاستعمار‪ :‬فهم يحاربون العرب بعضهم بالبعض فيجعلون أكثرهم‬ ‫تبعية لهم يبدو وكأنه صاحب سيادة بما يسمحون له به من عنتريات‪.‬‬‫كذلك فعلوا بالقذافي وبصدام وبناصر إلخ‪ ..‬من زعماء الأقوال وعدماء الأفعال بدليل‬ ‫الحصيلة‪ :‬الخراب التام‪.‬‬ ‫مصر اليوم دون مصر الملكية رغم فسادها‪.‬‬‫والعراق وليبيا وتونس والجزائر وهلم جرا كلهم بعد ثلاثة أرباع القرن ما يزالون مثل‬ ‫الصومال إذا تجاوزت الفترينة التي يخدعون بها شعوبهم‪.‬‬‫ولن يصدق الكثير من القراء أن إيران لا تختلف عمن ذكرنا‪ :‬عنتريات يحتاج إليها‬ ‫الحامي الذي يريد أن يضفي المصداقية على محميه ليحقق وظيفة يريدها‪.‬‬‫فعبد الناصر وصدام والقذافي وبورقيبة وبقية الحكام العرب ومثلهم حكام إيران يؤدون‬ ‫وظيفة في استراتيجية المستعمر نرى الآن نتائجها في حال الأمة‪.‬‬ ‫‪45 35‬‬

‫حرب أهلية عربية بين من يدعون القومية والحداثة ومن يدعون الإسلام والأصالة نصف‬ ‫قرن‪ .‬فما الحصيلة‪ :‬أضاعوا القومية والحداثة والإسلام والاصالة‪.‬‬‫وتبين الآن أن القومية طائفية وأن الحداثة رذائلها دون فضائلها وأن الإسلام قشوره‬ ‫دون لبه وأن الاصالة تقاليد الجاهلية بغباء قبلي وجهالة بدوية‪.‬‬‫وأصبح كاريكاتور الإسلام والأصالة يدعي كاريكاتور العلمانية والحداثة وأصبح‬ ‫كاريكاتور القومية والحداثة يدعي الإسلام والأصالة الطائفيتين‪.‬‬‫ولا يجمع بين الصفين إلا انتسابهم للثورة المضادة التي تحارب التأصيل والتحديث‬ ‫المبدعين لأن أصحابهما ثارا على التبعية لشعب حر يريد دولة سيدة‪.‬‬‫لكن الثورة التي تعبر عن إرادة الشعب لم تجد قيادات سياسية مدركة لشروط السيادة‬ ‫إذ سرعان ما أصبحوا مثل من قبلهم راضين بنفس المحميات التابعة‪.‬‬‫لم يفهموا أن الرضا بالأحياز في شكلها الحالي يجعل كل بلاد العرب بالضرورة محميات‪:‬‬ ‫فالمستعمر وطد ما يسمونه بالدولة الوطنية حتى تكون محميات‪.‬‬‫والمثال بين في تقسيم سايكس بيكو وفي تفتيت الخليج الذي صارت فيه كل قبيلة دولة اي‬ ‫محمية بريطانية سابقة وأمريكية لاحقا‪ .‬وقس عليه المغرب الكبير‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الثورة هي بدورها من يقودها ليس أهلا لتمثيل إرادة الشعب الذي ثار‪:‬‬ ‫يريد الحرية والكرامة وهما مستحيلتان ما ظلت بلادنا مفتتة‪.‬‬‫السياسي إذا كان بحق متصفا بالإرادة وممثلا بحق لإرادة الجماعة هو الذي يعلم شروط‬ ‫مطالبها فيسعى لتحقيقها وإلا فهو زائف وعميل وطرطور كسابقيه‪.‬‬‫وهكذا يتبين أن المشكل هو في الرؤى الوجودية‪ :‬فأصحابها (رجال \"دين\" و\"فلاسفة\"‬ ‫علمانيين) ليسوا أصحاب رؤى وجودية ولا ممثلين لرؤى الجماعة وقيمها‪.‬‬‫من ذلك أن متفلسفة أردنية نشرت مقالا في جريدة الغد بعوان \"خداع أبو يعرب\" ظنت‬ ‫أن قولي بكونية الإسلام وإرادة حكم العالم ذما‪ .‬وهو عندي مدح‪.‬‬‫فهذه حقيقة كل سياسة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية‪ :‬ماذا تفعل أمريكا غير هذا؟‬ ‫وما تنوي الصين غير هذا؟ إلخ‪ ..‬غباوتها تريها المحميات دولا‪.‬‬ ‫‪45 36‬‬

‫قد يقربها ذلك من الحماة‪ .‬لكنه لن يجعلها إنسانة حرة بل مجرد عميلة لعملاء ككل من‬ ‫يدعون رأيا فلسفيا أو دينيا لإضفاء الشرعية على الوضع الحالي‪.‬‬‫فالتفاف جل رجال الدين وجل المثقفين العلمانيين حول الانقلاب أفضل مثال عن إرجاع‬ ‫مصر إلى عقلية القبول بالتخلي عن الحرية والكرامة لشعب ثار‪.‬‬‫فهل يصح أن نسميهم أصحاب رؤى وجودية أي ساعية لتحقيق حرية الإنسان وكرامته؟‬ ‫طبعا لا‪ .‬إنهم عين من وصف ابن خلدون بمفهوم \"فساد معاني الإنسانية\"‪.‬‬‫حصيلة هذا الفساد‪\" :‬وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن‬ ‫غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين\"‪ .‬ليس أسفل منهم‪.‬‬‫كل هؤلاء لا يمثلون رؤية وجودية تؤمن بحرية الإنسان وكرامته فتمثل إرادة الشعوب‬ ‫التي ثارت بل هم كـ\"الفيلسوفة\" الأردنية‪ :‬عبيد تبعية المحميات‪.‬‬‫وإذا صح ما تقوله \"الفيلسوفة\" على الاخوان من أنهم يريدون حكم العالم فمعنى ذلك‬ ‫أن لهم حقيقة الطموح السياسي الكوني في جميع الأمم وهو مدح لا ذم‪.‬‬‫ليس لي انتساب حزبي لا للإخوان ولا لغيرهم‪ .‬لكن هذا هو معنى الإرادة السياسية في‬ ‫كل الحضارات‪ .‬أما رايها فمجرد دفاع عن طراطير الثورة المضادة‪.‬‬‫والشعب لما ثار طلبا للحرية والكرامة لم يجد بعد في قياداته من يفهم أن الحرية‬ ‫والكرامة ليست ممكنة لما جعلت أحيازه فارضة عليه قزمية المحميات‪.‬‬‫ما يسمونه دولا هو قطع مشوهة من جغرافية الامة وتاريخها تلغي شروط التنمية المادية‬ ‫والروحية فتجعل شعوبها عبيدا للطراطير وحماتهم و\"فلاسفتهم\"‪.‬‬ ‫‪45 37‬‬

‫نخصص هذا الفصل العاشر للزوجين الثانيين من قاعدة هرم الصفات التي صنفنا بها‬ ‫النخب في كل أمة وحضارة والافعال التي تناظرها فرض كفاية فيهما‪.‬‬‫فبعد الإرادة والوجود صفتين تميزان نخبة السياسة ونخبة الرؤى الوجودية يأتي دور‬ ‫العلم والحياة صفتين تميزان نخبة العلماء ونخبة الفنانين‪.‬‬ ‫نريد أن نقيم هذين النوعين من النخبة في لحظتنا العربية‪:‬‬ ‫‪ .1‬هل لنا نخبة علمية ونخبة فنية تبدعان علوما وفنونا؟‬ ‫‪ .2‬أم إن ما لنا منهما مجرد أسمائهما؟‬‫وهنا أيضا الجواب يكون بتطبيق نفس المعيارين‪ :‬حقيقة العلم وحقيقة الفن ثم دورهما‬ ‫في الأحياز الذاتية لأصحابهما وفي الخارج من أحيازهم وجماعتهم‪.‬‬‫لو اكتفينا بظاهر الأمر وبالأسماء لكانت الامة اليوم في ذروة الإبداعين العلمي والفني‪.‬‬ ‫فعدد الطلبة في جامعات العرب اليوم‪ :‬أكبر من سكان إسرائيل‪.‬‬‫إسرائيل من قادة العالم في الابداعين والعرب لا ذكر فهم في أي منهما‪ .‬وطبعا ليس الأمر‬ ‫كله رهن الأفراد والنخب فما تقدم في الزوجين الأولين حاسم‪.‬‬‫ومع ذلك فلا ينبغي حصر المسؤولية نخبة السياسة ونخبة الرؤى الوجودية دينية كانت‬ ‫أو فلسفية‪ :‬فأصحاب السلطان على \"محاضن\" العلم والفن مسؤولون كذلك‪.‬‬‫وغالبا ما يكونون أكثر استبدادا وفسادا لأن من شرط تنصيبهم على المحاضن أن يكون‬ ‫دون سادتهم من الساسة وأصحاب الرؤى خلقيا ومعرفيا لأنهم أدواتهم‪.‬‬‫وأكاد أجزم أن تسعين في المائة من الشهادات مزورة إما تزويرا كليا لأنها مشتراة أو‬ ‫تزويرا جزئيا لأنها من جنس ما يعطى للأجانب تفضلا واحتقارا لهم‪.‬‬‫فالكثير من الدارسين في فرنسا‪-‬من جيلي‪ -‬شهاداتهم اسم بلا مسمى‪ :‬التباكي بدعوى‬ ‫أنهم مقاومون للأنظمة أو احتقار الاساتذة لبلد الطالب (سيضر بلده)‪.‬‬ ‫‪45 38‬‬

‫وكلما كان بلد الطالب أغنى غلب اشتراء الشهادة وكلما كان أفقر غلب التباكي‬ ‫والاحتقار‪ .‬لكن فحتى الباقي عشرة في المائة أكثر ممن بنوا الغرب الحديث‪.‬‬‫ففي فرنسا كان عدد الحاصلين على الدكتوراه في فرنسا قبل الحرب الأولى باعتبار النسب‬ ‫مع السكان أقل من عددهم في جل بلاد العرب اليوم‪.‬‬ ‫ما الثمرة؟‬‫والأدهى أن المستوى في تنازل في كل بلاد العرب حتى صار فيها لا يتجاوز محو الامية‪ .‬ما‬ ‫عليه التعليم في مصر وتونس من تراجع أمر مرعب ومذهل‪.‬‬‫أبهة التجهيز المادي في بعض البلاد العربية لا فائدة منها‪ .‬فالإبداع العلمي والفني ليس‬ ‫مثل استيراد لاعبي الكرة‪ :‬يشترى صاحبها بالمال والتجنيس‪.‬‬‫لا بد من شروط ذكرناها في كلامنا على السيادة‪ .‬إذا لم تكن الجماعة ذات حجم وطموح‬ ‫لتحقيق شروط السيادة فلا يمكن أن تبدع في أي مجال مهما صرفت‪.‬‬‫ولأضرب مثال تونس‪ :‬كل دخلها الوطني لا يكفي لبحث علمي قادر على المساهمة الفعلية‬ ‫في الإبداع العلمي والفني بمدى عالمي إلا بندرة الكبريت الأحمر‪.‬‬‫وهذه مسألة الحجم تسليما بوجود الطموح‪ .‬وحتى لو وجد الحجم والطموح فإن استبداد‬ ‫نخبة السياسة ونخبة الرؤى وفسادهما لن يجذبا الكفاءات بل يطرداها‪.‬‬‫لكني أعتقد أن الأمر ما يزال متعلقا بغلبة من لهم صفات العلم والفن اسميا وليس فعليا‬ ‫وسلطانهم على التكوين والتموين من أجل الرعاية والحماية‪.‬‬‫فهم توابع نخب السياسة والرؤى ومن ثم فالغالب عليهم روح الاستبداد والفساد لأنهم في‬ ‫الحقيقة لا يرون إلا ما يستمدانه منهما من سلطان سياسي‪.‬‬‫فاستمداد السلطان السياسي من سلطان علمي وفني كاذبين هما السائدان في المحميات‬ ‫العربية‪ :‬ما المنتظر إذا كان السيسي يعين رؤساء الجامعات؟‬‫وإذا كان حاكم أبو ظبي وحاكم السعودية هما اللذين ينتخبان علماء الدين ورؤساء‬ ‫الجامعات فما الحصيلة التي يمكن أن ننتظرها‪ :‬الارذل بدل الأفضل‪.‬‬ ‫‪45 39‬‬

‫هذا إذا سلمنا أن النظام التكويني يعطي الأفضل‪ .‬لكن الأفضل نسبي وهو موجود حتى‬ ‫بمقتضى المواهب الطبيعية التي توجد في أي نظام تعليم مهما تردى‪.‬‬‫بعد هذه اللمحة العامة فلنعد للتشخيص بالاعتماد على معيارينا‪ :‬كيف تكون صفة العالم‬ ‫اسما مطابقا لمسماه؟ وهي تحقق في كيانه وأحيازه الذاتية‪.‬‬‫والمعيار الثاني‪ :‬كيف يكون العلم ذا ثمرة في الأحياز الخارجية أي مساعدا على سد حاجات‬ ‫الذوق بمستوييه وتحقيق الرعاية والحماية شرطين للسيادة‪.‬‬‫وحتى نفهم جيدا دلالة هذا المعيار الثاني ينبغي أن ندرك أن الاعداء يفهمونها‪ :‬مرسي‬ ‫لم يعزل لكونه إخوانيا بل لكلامه على السلاح والغذاء والدواء‪.‬‬‫فأي سياسي أو عالم له وعي بشروط السيادة وخاصة سعي لتحقيقها رأسه مطلوبة علما‬ ‫وأن ذلك حتى لو وجد ليس كافيا ما ظلت الأحياز مفتتة لمنع شرط الشروط‪.‬‬‫وشرط الشروط هو حجم الاحياز‪ :‬الحجم الجغرافي والحجم التاريخ وحجم التراث وحجم‬ ‫الثروة طبيعة المرجعية وديموغرافيا المؤمنين بها والساعين إليها‪.‬‬‫وشرط الشروط هذا بداية لا تفيد إذا لم يتحقق ما وصفنا في الفصل السابق (السياسة‬ ‫والرؤية‪ :‬المشروع والإرادة) وما نصف في هذا الفصل والذي يليه‪.‬‬ ‫ما حقيقة الفعل العلمي سواء كان مبدعا أو حتى مطبقا لما سبق إبداعه؟‬ ‫لا بد أن ينتسب إلى المسائل والحلول التي تنتج عن غايات الذوق بمستوييه‪.‬‬‫وهي أمور أطنبنا في علاجها عند كلامنا على دور الترميز الغائي والأداتي وكلها مسائل‬ ‫وحلول كوينة ومحليتها مقصورة على موادهما دون قوانينهما‪.‬‬‫لكن ما يلاحظه أي مطلع على \"منتج\" الجامعات العربية هو أنها لم تصل إلى الكونية ولم‬ ‫تفهم دور الترميز العلمي فضلا عن الفني الذي هو إبداع صرف‪.‬‬‫فالعلم يغلب عليه الاتباع للظن أن كونيته تلغي تعدده فيكون بحوثا شبه متحدة المنهج‬ ‫والغاية لكن الفنون بعكسها لها كونية الذوق المتعدد للإنسان‪.‬‬‫والجمع بين الكونية الصورية (نظام الترميز) والمحلية المادية (راهن المسائل) من أعسر‬ ‫الابداعات ومن ثم فالفنون العربية لم تصل إلى تحقيق أدنى شروطه‪.‬‬ ‫‪45 40‬‬

‫وكبار المبدعين يجمعون بين الإبداعين العلمي والفني المباشرين أو حتى غير المباشرين‪:‬‬ ‫فأرسطو مثلا في كتاب الشعر مبدع غير مباشر في فن الشعر‪.‬‬‫وهو في آن مبدع علميا في الفن لأنه وضع نظرية التراجيديا والكوميديا وحدد محاور‬ ‫نقدهما بمقتضى حقيقتهما كما نظر لها‪ .‬وكان لي شرف تدريس كتابه‪.‬‬‫فأكبر مبدعي ألمانيا في الأدب لم يخلدوا إلى واقعية الترجمة الذاتية لأقزام الأدب بل‬ ‫كان لهم دور في الإبداع العلمي وعلم الفن ودوره‪ :‬جوته وشلر‪.‬‬‫العلم والفن كليان بالصورة والطريقة ومحليان بالمادة الترميز‪ .‬وبهما معا يكون لهما دور‬ ‫أحياز الفرد الذاتية وأحياز الجماعة‪ :‬مكانها وزمانها وثمرتهما‪.‬‬‫فتكوين الإنسان فردا وجماعة وتموينه كلاهما رهن ما يبدعه الإنسان الذي لم تفسد‬ ‫فيه معاني الإنسانية ولم يصبح عالة على إبداع جماعات اخرى‪.‬‬‫فالعلم شرط العلاقة العمودية لتواصل الجماعة مع الطبيعة فتضمن بقاءها البايولوجي‪.‬‬ ‫والفن شرط العلاقة الافقية لتواصل البشر فتضمن بقاءها الثقافي‪.‬‬‫وتنقل العلاقة العمودية المكان بإبداعات العلم إلى جغرافيا حضارية‪ .‬والعلاقة الأفقية‬ ‫تنقل الزمان بإبداعات الفن إلى تاريخ حضاري‪ :‬دور غائب عندنا‪.‬‬‫فما يجري هو استيراد ثمرات العلوم وثمرات الفنون دون الابداعين العلمي والفني‪:‬‬ ‫فالإبداع لا يستورد بل ينتج عن تكوين وتموين متحررين من التقليد‪.‬‬‫لكننا رأينا أن ما يسيطر على لحظتنا هو حرب الدعشنتني صداما حضاريا بين كاريكاتور‬ ‫التحديث (العتيبية) وكاريكاتور التأصيل (البغدادية)‪ :‬المأزق‪.‬‬ ‫‪45 41‬‬

‫وصلنا الآن إلى الفصل الاخير من شروط الاستئناف ونخصصه للقدرة صفة مناظرة‬ ‫للاقتصاد الذي جعلناه هنا قمة الهرم بدل المرجعية في فصل سابق‪.‬‬‫فيصبح من الواجب أن نشرح هذا التغيير في بنية هرم صفات الأفراد والنخب ووظائفهم‬ ‫هنا بخلاف ما عرضناها عليه في فصل تحديد معير التقييم‪.‬‬‫ففي تحديد المعايير لتحديد شروط الاستئناف والبناء الحضاري السوي عرضنا هرم‬ ‫الصفات والوظائف بصورة تجعل المرجعية هي ذروة الهرم والبقية قاعدته‪.‬‬ ‫لكننا هنا جعلنا ذروة الهرم الاقتصاد‪ .‬فما العلة يا ترى؟‬‫العلة هي أن الامر الآن يتعلق بالهرم الذي هو هرم دين العجل مرجعية العولمة ومحميات‬ ‫سادتها‪.‬‬‫فشبائه الساسة وأصحاب الرؤى والعلماء والفنانين كلهم يعبدون العجل بمادته أو دور‬ ‫رمز الفعل (الاقتصاد) وخواره التابع لمعدنه فعل الرمز (الثقافة)‪.‬‬‫والاستئناف الذي نطمح إليه هو تحرير البشرية من دين العجل‪ .‬لذلك فكل ما يجري‬ ‫هو من مفاعيل الحرب على الإسلام بوصفه الأمل الوحيد لتحريرها منه‪.‬‬‫ليست عبادات الإسلام هي التي تزعجهم بل رسالته التي لا تقتصر عليها بل تشمل‬ ‫السياسة التي هي تربية وحكم يصلحان ما أفسدوه من معاني الإنسانية‪.‬‬‫فتفهم أن حكام العرب بصنفيهم القبلي والعسكري يحاربون هذا الدور أكثر حتى من‬ ‫حماتهم الذي يحاربونه منذ نشأته إلى حرب الكاريكاتورين الحالية‪.‬‬‫وهذا الوصف الذي يشبه المعادلات الرياضية لعرض اشكاليات الوضع العربي الراهن‬ ‫وشروط السيادة حماية ورعاية مشروطة بالفرضيات النظرية التي وضعناها‪.‬‬‫وما لم نؤمن بأن المسائل التي تتعلق بالأدواء تشخيصا وعلاجا لا تدرك بالصدفة فهي‬ ‫ليست تطرأ في الاذهان بمحرد الحدوس العفوية لن نستطيع التقدم‪.‬‬ ‫‪45 42‬‬

‫فنظرية الأحياز الخارجية لقيام الجماعة والداخلية لقيام الأفراد وتناظرهما ونظرية‬ ‫الصفات المقومة لكيان الفرد والنخب تحددان نسيجها وتفاعلاتها‪.‬‬‫وأخيرا فهرم الصفات وتناظره مع هرم الوظائف هي التي تجعل التشخيص يصبح شديد‬ ‫الدقة فنرى في الغاية العلاقات بين عناصر وضع الامة وطريقة العلاج‪.‬‬‫نحن الآن أمام قمة الهرم‪ :‬نخبة القدرة في أي جماعة هي نخبة الاقتصاد‪ .‬ومنها يأتي‬ ‫الخير كله أو الشر كله لأنها بدين العجل تتحكم في بقية النخب‪.‬‬‫وقوة الاقتصاد (رمزها العملة) وقوة الثقافة (رمزها الكلمة) هما وجها كل سلطة‪ :‬على‬ ‫الإنسان فردا وجماعة بالذوق والعلم بمستوييهما غاية وأداة‪.‬‬‫فالإنسان تابع لحاجاته المادية والروحية إذا لم يكن وراء الطبيعة والتاريخ مجالي‬ ‫وجوده ما يتعالى عليهما فيعليه معه لئلا يكون مخلدا إلى الأرض‪.‬‬‫كل أدواء الإنسان فردا وجماعة وجنسا تعود إلى الأخلاد إلى الأرض لأنه هو مصدر‬ ‫اللامتناهي الزائف‪ :‬فالذوق بمستوييه (الأكل والجنس ورمزاهما) لا يشبع‪.‬‬‫والعلم بمستوييه سد حاجتهما وحاجة رمزيهما) يهم تطبيقاته إشباع ما لا يشبع فيخرب‬ ‫العالم ويفسده (التلوث والأوزون)‪ :‬سلطان الاقتصاد على الإنسان‪.‬‬‫والمجتمعات التي صارت هذه رؤيتها الوجودية (العلج الذهبي) كلها مريضة‬ ‫بالاستهلاكوية المخربة للعالم‪ .‬ونحن في خراب مضاعف‪ :‬استهلاكوية دون إنتاج‪.‬‬‫كمن يعيش بزاد ناضب‪\" :‬اجبد ما ترد الاجبال تنهد\" مثل تونسي بمعنى أننا ليس لنا ما‬ ‫يعوض ما نفقده من زادنا الذي هو منتج ناضب هو ثروات الطبيعة‪.‬‬‫وهذه الحال التي يصبح فيها الاقتصاد ذروة الهرم ليست محلية فحسب بل هي عالمية بل‬ ‫هي جوهر العولمة التي هي عصر العجل الذهبي بمعدنه وخواره‪.‬‬ ‫السلطان العالمي بيد مافيات المعدن والخوار‪:‬‬ ‫‪ .1‬البنوك والبورصة والاقتصاد المشتق‪.‬‬ ‫‪ .2‬هي الإعلام والفنون للتخدير السياسي والثقافي‪ :‬عصر المافية‬ ‫‪45 43‬‬

‫ومشكلتنا أننا خاضعون لمستويين من المافية‪ :‬المافية التابعة وهي محلية في المحميات والمافية‬ ‫المتبوعة وهي دولية في الحاميات‪ :‬الحرب على الإسلام‪.‬‬‫وبفضل سلطان معدن العجل (ورمزه العملة) وسلطان خواره (ورمزه الكلمة) يوظف‬ ‫أدنى ما في الإنسان لتأبيد السلطان‪:‬‬ ‫‪ .1‬استعباده ببدنه‬ ‫‪ .2‬استعباده بروحه‬‫وهنا يصبح الغذاء والجنس أهم أداتي العبودية‪ .‬وغالبا ما يستعبد الفقراء بالغذاء‬ ‫والاغنياء بالجنس‪ :‬أداتا التجنيد المخابرات والتبشير الإيديولوجي‪.‬‬‫ويصحب التجنيد المخابرات تخريب كل دولة تحاول التحرر وبالتبشير الإيديولوجي‬ ‫(والديني) يصحبه تخريب كل مرجعية تصمد ضد التحريف‪ :‬سيطرة مادية وروحية‪.‬‬‫وبالمستويين المحلي والدولي نفهم ما يحدث في دولنا التي هي محميات لقوى دولية‬ ‫ولأذرعهما في الإقليم (إيران وإسرائيل)‪ :‬مافيات داخلية وخارجية‪.‬‬‫وكما بينا في كلامنا على الزوج الأول الإرادة السياسية والرؤية الوجودية سيطرة‬ ‫الاستبداد والفساد بنفس الآليات وارهاب المحميات الرسمي الداخلي‪.‬‬‫لكنه حاصل على تأييد الإرهاب الرسمي الدولي الذي يمارسه الحماة على الشعوب‬ ‫ويوظف له طراطير العرب أدوات تعذيب وتجويع ونفي لكل حقوق الإنسان‪.‬‬‫فتصبح النخبة السياسية ونخبة الرؤى و\"العلماء\" والفنانين كلهم في خدمة صاحب العجل‪:‬‬ ‫فيحال دون التخلص منه بما يؤدي إلى افساد معاني الإنسانية‪.‬‬‫ابن خلدون حصر افسادها في علتين هما وجها السياسة‪ :‬عنف التربية وعنف الحكم‪ .‬لكن‬ ‫العصر الحديث بين أن هذا العنف ليس مقصورا على العنف المباشر‪.‬‬‫ذلك أن الجماعات الحديثة صارت تابعة في كل شيء للدولة الحديثة رعاية وحماية‪.‬‬ ‫فيكون العنف بهذا السلطان المطلق‪ :‬فالحماية والرعاية تنعكسان‪.‬‬‫لا حماية داخلية لعدم وجود قضاء وامن عادلين بل هما أدوات طراطير المحميات‪ .‬ولا‬ ‫حماية خارجية دبلوماسيتها وجيشها أعداء الامة لا الجماعة منهم‪.‬‬ ‫‪45 44‬‬

‫ولا رعاية تكوينية لإهمال التربية النظامية والاجتماعية ولا رعاية تموينية لفساد‬ ‫الثقافة روحيا والاقتصاد ماديا مع انعدام شرطي الحماية والرعاية‪.‬‬‫فلا وجود لنظام استعلام واعلام للحماية الداخلية والخارجية ولا وجود لنظام بحث‬ ‫وإعلام علميين لسد حاجات التكوين والتموين‪ :‬استبداد وفساد وجهل‪.‬‬‫النظامان موجودان لكن وظيفتهما في واقع الامر عكس حقيقة وظيفتهما في واجبه‪ :‬لا‬ ‫حماية يعني عدوان الأقوى على الأضعف داخليا وخارجيا‪.‬‬‫وكذلك بالنسبة إلى الرعاية‪ :‬إهمال التكوين التربوي والاجتماعي وإهمال التموين‬ ‫الثقافي والاقتصادي يجعل أحوال الأمة أشبه بما نراه في مصر خاصة‪.‬‬‫انهيار نظام التكوين تربية واجتماعا وانهيار نظما التموين ثقافة واقتصادا علته أن‬ ‫النخب الحاكمة ليس إلا مافية محلية في خدمة المافية الدولة‪.‬‬‫بقية العرب مثل مصر‪ .‬وهم نوعان‪ :‬من يقرب من حالة مصر فقرا لكن الديموغرافيا‬ ‫أقل خنقا للبلاد ومن يبدو غنيا وازمة في البترول ستلحقه بالبقية‪.‬‬‫وهكذا فقد تبين أن الهرم في الصفات (إرادة علم قدرة حياة ووجود) وفي الوظائف التي‬ ‫تناظرها (سياسة علم اقتصاد فن ورؤى) هو مفتاح التشخيص والعلاج‪.‬‬‫آمل أني قد عرضت بأوضح ما يمكن شروط الاستئناف واستراتيجية التحرر والبناء‬ ‫الحضاري لشباب الثورة الذي عليه أن يطلب شروط الحرية والكرامة قبلهما‪.‬‬‫فمن لا يغير الشروط لا يمكن أن يغير النتائج‪ :‬تحرير جغرافية العرب وتاريخهم شرط‬ ‫في تحرير ثمرتهما أي التراث والثروة وخاصة المرجعية‪ :‬الإسلام‪.‬‬‫وبذلك تصبح ثورة العرب في الاستئناف المطلوب والمنتظر مثل ثورتهم في النشأة الاولى‪:‬‬ ‫تحرر الإنسانية من العولمة‪ :‬عبادة العباد بعبادة رب العباد‪.‬‬ ‫‪45 45‬‬