أبو يعرب المرزوقي أو شروط التحرر من التحر يف الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 7 - -الفصل الثالث 13 - -الفصل الرابع 19 - -الفصل الخامس 26 -
-- يوجد نوعان ممن يتصورون أنفسهم أصدقاء القرآن الكريم ومعظميه: .1جماعة الإعجاز العلمي في القرآن. .2وجماعة الإعجاز العددي في القرآن. وهم عندي رغم حسن نواياهم من أقوى مساندي أعدائه لأن الثانية هي من الإسرائيليات القبالية والأولى هي من الخرافيات المؤرخنة للقرآن .فالعلم تاريخي بالجوهر .وإذن فالمتكلمون على الإعجاز العلمي هم بين حلين: • إما نفي تاريخية العلم وهذا لا يفعله ذو عقل وإلا لبقي فلك بطليموس مثلا رؤية صحيحة لعلم الفلك. • أو نفي سرمدية عن القرآن لأن القول بعلم فيه يعني أنه يتضمن ما ليس بحقيقة كما يثبت تاريخ العلم المتغير على الدوام. وإذن فما ظنوه تعظيما للقرآن هو في الحقيقة استصغار .ولست أشكك في نوايا كل القائلين بهذين الأمرين-الإعجاز العلمي والإعجاز العددي-لكني أشكك في نوايا البعض ممن لا أصدق أنهم يجهلون ما أشرت إليه من القبالية ومن التاريخية .وهؤلاء طبعا دجالون وجدوا أن ذلك يدر عليهم بعض المال ممن يستعملون الدجل وكأنه خدمة للإسلام وهم ألد أعدائه. ويمكن أن اعتبر المتكلمين على الإعجاز العددي أقل دجلا من المتكلمين على الإعجاز العملي إذا لم يخلطوا بينهما فيضمون الثاني الأول كما يفعل الأستاذ جرار من خلال بحثه حول النحل الذي كتبت فيه فصلا لبيان عدم دلالته على شيء مما تصوره علما لأن العددية قابلة للرد إلى نظام القرآن نفسه ما لم تكن مطردة في حالات أخرى مثل النمل أو أي حيوان آخر أو أي نبات بحيث يكون العددي دالا على العلمي بخصوصها. فتكون النسب العددية من جنس البديع في الأساليب والجماليات وليست مما يدل على إعجاز علمي يتعلق بظاهرات خارج القرآن نفسه من حيث جنسه الأدبي وأساليبه .وفي أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- هذه الحالة لا أرى في ذلك حرجا ولا حطا من القرآن بل هو من جنس الدراسة الأسلوبية لبيان طبيعة النظم القرآني من حيث هو نص ذو جماليات خاصة لا ريب فيها. واليوم أريد ختم محاولات الفصل بين المحكم والمتشابه والتمييز الدقيق بمعايير ذات أساس علمي باللسان أولا وبأساليب القرآن ثانيا .وقد قدمت له بهذا الكلام على نوعي الخلط بين تعظيم القرآن بذاته وبما فيه بوصفه رسالة كونية هدفها تذكير الإنسان بما فطر عليه حتى يكون جديرا بتعمير الأرض والاستخلاف فيها ودعوى تعظيمه بما ليس فيه مما يؤول إلى الحط من شأنه بأرخنته ونفي سرمديته. ولأبدأ فأذكر بمعيار الفصل بين المحكم والمتشابه: .1المحكم هو كلام القرآن على نفسه بوصفه رسالة كونية تذكر بما فطر عليه الإنسان ليكون قادرا على التعمير وأهلا للاستخلاف .وهو إذن كل كلام على مضمون الرسالة بذاتها وبما تشير إليه من شروط هذين المهمتين اللتين كلف بهما الإنسان وكرم من أجلهما. وهذا هو الوحيد المحكم في القرآن والذي لا يحتاج لتأويل لأنه يقبل التعريف بالمسلمات الإيمانية تقبلها أو ترفضها لأنها هي بداية الدخول في الإسلام تماما ككل مسلمات وتعريفات في أي نظام نسقي لمشروع سواء كان علميا أو عمليا .يمكنك رفضه أو قبوله برفض المشروع أو قبوله وهو شبه عقد والتزام. .2بعد ذلك يأتي ما يشير إليه هذا المحكم من مهام على الأنسان القيام بها ليحقق ما ذكرته به الرسالة .وحينها تكون الرسالة إشارية وتوجيهية للإنسان من أجل التعامل مع ما يوجد خارج الرسالة من آيات الآفاق والأنفس التي هي غير آيات نص القرآن. وكل هذه الآيات تشير إلى مجالات وموضوعات متشاجنة وتخليصها يكون بالعلم والعمل. وذلك هو مجال المتشابه بمعنى ما يعسر فهمه من دون الاجتهاد والجهاد بمنطق سورة العصر: .1أي الوعي بعلل الخسر أصلا والسعي للتخلص منها بما يترتب على هذا الوعي من شروط أربعة. .2الإيمان بالمحكم. أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- .3العمل الصالح بمقتضاه. .4التواصي بالحق اجتهادا في طلبه. .5التواصي بالصبر جهادا لتحقيقه. والتعامل بهذا المنطق هو العلم والعمل المحققان للتعمير والاستخلاف .وكل دعوى بأن هذا العلم والعمل يكفي فيهما شرح ألفاظ آيات القرآن النصية هو التأويل المنهي عنه. فيجعل محكم القرآن الكريم متشابها ويؤدي إلى زيغ القلوب وابتغاء الفتنة كما هي حال التحريف في علوم الملة الغائية الخمسة. وهي كلها علوم زائفة لعلها ترد بنحو ما إلى ما بدأت به أي إلى: .1خرافة الإعجاز العلمي. .2وخرافة الاعجاز العددي عندما يضمن الاعجاز العلمي ولا يكتفي بالدراسة الأسلوبية لنص القرآن. فلا التفسير ولا الفقه والتصوف عمليا ولا الكلام والفلسفة نظريا تجاوز أي منها هذا التحريف التأويلي البين .والقرآن صريح صراحة لا جدال فيها عندما يقول إن تبين أنه الحق لا يكون بشرح آيات نصه بل برؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس وهي طبعا خارج نص القرآن من حيث هي مشار إليها حتى وإن كانت منه من حيث ما ورد فيه من إشارة إليها. ولا يوجد نسق معرفي أو قيمي يمكن أن يعمل بصورة أخرى .فما يضعه مقدما يتضمنه نصه .وما يضعه تاليا يتضمنه ما يترتب على إشارات نصه من نظر وعمل في ما تشير إليه. وبهذا المعنى اعتبرت آيات النص \"سبابة\" مشيرة وموجهة وليس في ذلك استصغار لآيات النص عندما سميتها \"سبابة\" كناية عن الإشارة إلى أمرين: .1هو ما في الطبيعة وما في التاريخ من آيات الله التي هي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ. .2وهو ما في أنفس البشر من شروط إدراكها معرفيا وتعييرها قيميا ومناهج البحث فيها. أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- وبذلك فقد توصلت إلى اكتشاف أمر عجيب لست أدري لم غفل عنه المفسرون خاصة وبقية علماء الملة الغائية الأربعة الباقية .فالمقابلة بين المحكم والمتشابه ليست صفات ذاتية للآيات سواء كانت من آيات النص المشير أو من آيات الوجود المشار إليه فيها بل هي صفات إضافية للموقف الإنساني قبولا بوجود الغيب أو نفيا له علما وأن القرآن يخبرنا بوجوده دون أن يعلمنا بمضمونه إذ حتى النبي لا يعلم الغيب .ولا يمكن أن تكون الرسالة متضمنة لحجب الغيب الذي أعلمت بوجوده ونفت علمه على غير الله ثم تتضمن ما هو محجوب وتبقى رسالة. وذلك هو بصورة أدق المفهوم الحد الذي يتمثل في الفرق الجوهري بين العلم المحيط الذي هو علم الله والعلم النسبي الذي هو علم الإنسان .ولذلك فآل عمران 7وصفت من يعترف بهذا الفرق بأنه راسخ في العلم ومن لا يعترف به فيدعي التأويل بكونه يعاني من زيغ القلوب وابتغاء الفتن .لكن العلم الزائف قلب أصحابه دلالة الرسوخ فقالوا بالتأويل مستثنين أنفسهم من حكم الآية. والقول بالتأويل ترتبا على عطفية \"و\" آل عمران 7بدلا من \"استئنافيتها\" هو ما يمكن وصفه اأبستمولوجيا بكونه قولا بنظرية المعرفة المطابقة أي بلغة ابن خلدون رد الوجود إلى الإدراك بسب وهم يترتب عليه \"نفي الغيب\" وتوهم العقل الإنساني مدركا للحقيقة المطلقة ما يؤدي إلى خرافة المنقول والمعقول. وإذ إن خرافة المعقول الذي ليس له منقول دليل الجهل بحقيقة العلم غير الديني الذي لا يوجد علم بدون مضمون تجريبي منقول عن ظاهرات الطبيعة وخرافة المنقول الذي ليس له معقول دليل الجهل بحقيقة العلم الديني الذي لا بد له من شكل عقلي ككل ظاهرات الفكر فإن المقابلة بينهما هي إذن ومن أصلها دليل جهلين مركبين دون شك. فالعلم سواء كان فلسفيا أو دينيا لا بد فيه من البعدين المضموني وهو منقول والشكلي وهو معقول وكل من يزعم مثلا أن القرآن فيه علم بالغيب ينفي عنه كونه رسالة كلف الرسول بتبليغها .فالرسول يعترف بأنه لا يعلم الغيب فيكون قد كلف بتبليغ ما لا يفهم رسالة أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- إلى من لا يفهم فيزول التواصل بالتراسل بين الله والإنسانية .وتصبح الرسالة أمرا لا معنى له .ومضمون الرسالة محدد في آيات نصها وهو ذو خمسة أفرع: .1المرسل (الله). .2والمرسل إليه (الإنسان المكلف). .3والرسول (المذكر بمضمون الرسالة من حيث هو مرسوم في ما فطر عليه الإنسان). .4وطريقة التبليغ التذكيري (إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر). .5ومضمون الرسالة هذا وما يشير إليه خارجه لتحقيق مهمتي الإنسان. وما يشير إليه مضمون الرسالة بالإضافة إلى ذاته هو ما يوجد خارجه وهو صنفان: • صنف الآفاق (الطبيعة والتاريخ وما بعدهما). • وصنف الأنفس (تجهيزها للنظر والعقد في العلوم وللعمل والشرع في القيم). ونوعا الإشارة المضاعفين هما جملة شروط التعمير والاستخلاف وهما مهمة الاجتهاد والجهاد (سورة العصر) .لن أطلب من القارئ إلا أمرا واحدا: هل يستعمل القرآن الكريم شيئا آخر غير ما طلبت فصلت 53أي رؤية آيات الله في الآفاق والانفس وما نهت عنه آل عمران 7أي رفض تأويل المتشابه الدال على زيغ القلوب وابتغاء الفتن؟ بماذا يستدل على موضوعاته الخمسة هذه وبماذا يعلل تحريف الرسالات السابقة؟ فلو وصلنا الكلام على موضوع الرسالة الأول أي المرسل (الله) بموضوعها الأخير في هذا الترتيب (كلام الرسالة عما تذكر به في الفطرة وبما تشير إليه خارج الرسالة) ألا نجد أن الكلام هو على أفعال الله الموجدة والآمرة وأثرهما في الآفاق وفي الأنفس أي مضمون فصلت 53إيجابا ومضمون آل عمران 7سلبا؟ فهل أضفت شيئا من عندي؟ ثم لو قارنا الموضوع الثاني أو المرسل إليه (الإنسان عامة) والموضوع الرابع أو طريقة التذكير المحمدية (إنما أنت مذكر ليست عليهم بمسيطر) أليست هذه الطريقة مطابقة أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- لتعريف الإنسان بوصفه كائنا حرا مكلفا وعليه أن يتحمل المسؤولية لأن الرسول ليس عليه بوكيل ولا وصي؟ والمضمون الأوسط (الرسول) هل نجد فيه شيئا آخر غير كونه ملتفتا إلى ما قبله في منظومة مضامين الرسالة بمعنى أنه ملاحظ جيد لعلاقة الإنسان بما يتعالى عليه إذا كان صادقا مع نفسه فلم يدع ما ليس عنده وهو معنى العبودية لله وحده وملتفتا إلى ما بعده فيها بمعنى أنه يطبق ذلك في التبليغ والاستدلال؟ أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- فلندرس الآن التفاتة الرسول الأولى إلى ما يتقدم عليه في قائمة موضوعات الرسالة أي إلى المرسل (الله) والمرسل إليه (الإنسان) وما بينهما من علاقة مباشرة بمعنى ما يشير إليه القرآن وينبهه إليه بـ{إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر} (الغاشية )23-22مع إضافات أخرى ليست وكيلا ولا حفيظا .فيترتب من ثم صفتان علمية وخلقية: .1العلمية في الملاحظة المحايدة قدر المستطاع إنسانيا إذ وصف القرآن لهذه العلاقة من أعجب ما يمكن للمرء أن يعجب منه. .2والخلقية في اللامبالاة بما قد ينتظره من مخاطبيه رضا أو سخطا -وكثيرا ما ينبهه القرآن للأمر-بمعنى أنه يضيف إلى الحياد المعرفي عدم انتظار مقابل لعمله فلا ينتظر جزاء ولا شكورا طلبا للحقيقة لذاتها. والصفتان هما شرط التكليف الرسالي وعلامة الاصطفاء .والآن فلنسمع إلى وصف القرآن لهذه العلاقة المباشرة بين المرسل والمرسل إليه على لسان الرسول المأمور بـ\"قل\". وحتى لو سلمنا للملحدين أن القائل هو الرسول حتى وإن اعتبرنا نسبة القول إلى رب يأمره أمر أسلوبي فإن ذلك لا يغير من الأمر لأن قصدنا هو وصف ما حصل. وإذا كان الملحد ينفي مصدرا متعاليا على الإنسان فهذا شأنه .وليس يعنيني إقناعه بشيء .فله أن يعتقد ما يريد لكن ليس له حق فرض معتقده على غيره .فليكن كلامنا مقصورا على ما جاء بعد \"قل\" سواء كان بحق ناتجا عن أمر إلهي أو عن إحالة أسلوبية في النص لإضفاء شرعية أقوى عليه .فالأمر قضية عقيدة لا علم. والبداية هي \"وإذ قال ربك\" في قصة الاستخلاف .فالمخاطب هنا هو الرسول يعلمه الله بما حدث في قصة الاستخلاف وبتعليله وما ترتب عليه فرصة أولى قبل العصيان وفرصة ثانية بعد تلقي الكلمات واتمامهن وما ترتب على ذلك من عفو ومن تكليف باختبار أهليته للاستخلاف خلال التعمير ومقاومة الإخلاد إلى الأرض. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- وما يدهشني حقا في هذه القصة هي المقابلة بين بداية العلاقة وغايتها .فالبداية يحكمها علاقة المستخلف بالخليفة أو تبعية الثاني للأول .لكن الغاية فيها شبه مساواة بين طرفي الحوار الجاري في القصة كلها لأن معيارها \"رضي الله عنهم ورضوا عنه\" أي إن من يثبتون جدارتهم بالاستخلاف تقويمهم لفعل الله من جنس تقويمه لفعلهم :الرضا المتبادل. وهذا المعنى عجيب .وهو ربما الفرق الجوهري بين الإسلام وكل الأديان الأخرى .وهو أبرز علامة على أن الحرية والمسؤولية تمد الإنسان بمنزلة تجعل تقييمه عند ربه رهن أفعاله وليس رهن تحكم من جنس \"الجراس ديفين\" بالمعنى المسيحي .وإذا ظهر ما يشكك في ذلك لكان الجزاء ليس على الأعمال فلأن ما وراء الأفعال خفي لأنه من السرائر. وهو المعنى الذي أدى إلى موقفين متقابلين من الإسلام في بداية الحداثة الغربية عند المتكلمين المسيحيين حتى بعد الإصلاح وعند فلاسفة التنوير .فالأولون نفوا أن يكون الإسلام دينا لخلوه من \"خرق العادات\" ولتطبيق معنى العدالة الإنسانية على الله فيكون الجزاء بحسب الأعمال .والثانون وصفوه بكونه دينا طبيعيا أو دين العقل لاقتصاره على الاستدلال بالنظامين الطبيعي والتاريخي ولعدله. فلوثر مصلح المسيحية يعتقد أن أقوى حجة ضد الإسلام هي مفهوم الجزاء العادل على الأعمال\" .»Die Werkgrechtigkeitفهو يقول بنصه كما أورده يوسف كوشل في كتابه \"الأديان من التنازع إلى التنافس Vom Streit zum Wettstreit der Religionenحيث قال» \" Der Koran ist eitel menschliche vernunft von Gottes Wort und Geist un ( \"Vernunft wol leiden kanص.) 69-68. وما يعرفه القرآن بالعدل الإلهي وجزاء الإنسان على أفعاله بعدل بدلا من \"اللطف أو الجراس\" يعتبره لوثر \"كبرا\" من العقل الإنساني الذي يخضع الله لمعاييره .لذلك فالقرآن عنده نص شيطاني وليس نصا دينيا .وقد نصح بترجمته حتى يحرر المسيحيين حسب رأيه من الاغترار به في معركتهم مع الأتراك حينها. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- مفهوم الجزاء على الأفعال أو العدل في تقدير الأعمال Die Werkgerechtigkeit يتعارض حسب لوثر مع \"اللطف\" أو \"الجراس\" الإلهي .ومن ثم فلكأن عقل الأنسان يطبق على إرادة الله مفهوم العدل الإنساني .وهو ما يرفضه لوثر .لكنه هو ما صار يمدحه جل التنويريين والقائلين بالديني الطبيعي أو الروبويين الـ\"تييست\" الإنجليز. وكلاهما يكتفي بنصف الحقيقة في ما يتعلق بمعيار العدل في تقييم الأعمال .فالأعمال في الإسلام لا ترد إلى ظاهرها فحسب .ذلك هو مدلول العدل في الدنيا وعندما يكون القاضي إنسانا يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر .أما لما يحكم الله فهو لا يكتفي بالظاهر بل يعتمد علمه بالسرائر .وهو العدل الإلهي .وله مزيتان: .1الأولى تـحد من الأحكام المعتمدة على الظاهر إذ كم من مخادع يبدو تقيا وهو سفيه .والعكس ممكن. .2والثانية وهي الأهم معرفية وخلقية .فمعرفيا يصبح الحكم الإنساني على الغير فاقدا للإطلاق لأنه اجتهاد بحسب الظاهر .وخلقيا يصبح \"التواصي بالصبر\" بعضنا على البعض قاعدة السلم المدنية في الجماعة. ومن هنا استنتجت أن كل العقوبات الواردة في الحدود هي المقدار الأقصى الذي يطبق إذا ظن الواحد منا أن علمه بالظاهر يغني عن العلم بالسرائر .ومن ثم فعبارة \"تلك حدود الله فلا تقربوها\" ليست مقصورة على نهي مقترفي الجرائم بل هي تشمل من يقاضيهم. فعليه أن يجد مخرجا لعدم تطبيق الحد الأقصى .وهو مبدأ يلغي كلا الموقفين من الشريعة رفضا لها وقولا بها. .1فرافضها بفهمها الذي يعتبر الحكم بالظاهر مغنيا عن السرائر محق نسبيا. .2القائل بها عندما لا يهمل الفرق بين العلم بالظاهر والعلم بالسرائر مـحق تنسيبا. والمبدأ تتضمنه كل مقادير العقوبة في الحدود مثل قتل النفس والزنا والحرابة والسرقة. فلا أحد ينكر أن هذه الأحكام وأقصاها قتل النفس وزنا الأزواج يكاد يكون اثباتهما مستحيلا ولذلك فإنه يوجد من الأول مخرج العفو الذي ينصح به القرآن ومن الثاني أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- التلاعن لترك الحكم ليوم الدين .وحتى الحرابة فإن استسلام المحارب للدولة قبل قدرتها عليه يلغي العقوبة ولا يلغي الحكم مثل ذلك مثل المجاعة التي ألغت عقوبة السرقة دون حكمها. ولهذه العلة فقد اعتبرت القرآن لا يشرع للنوازل مباشرة بل لهو يشرع لتشريع الإنسان للنوازل بالمقارنة بين تشريع مطلق لا يقدر عليه إلا الله لعلمه بالسرائر وتشريع نسبي هدفه تحقيق الممكن إنسانيا من العدل الذي يشرئب لمثال أعلى هو العدل الإلهي .وهذا التشريع اجتهادي ولا يقاس على حكم الله المحدد لأخلاقه. والأمر الثاني العجيب والذي حيرني فعلا هو أن القرآن الذي يتكلم على استخلاف الإنسان وتكريمه وتكليفه بالتعمير لقيامه وبالاستخلاف لتقييم قيامه أو أهليته للاستخلاف لا تكاد تخلو سورة منه من النقد الأكثر جذرية لنظره وعمله وسلوكه وميله الجارف إلى الإخلاد الأرض وحتى إلى التنكيد على ربه محاجته. فما الخلل في خلقة الإنسان يجعله في خلقه على ما يصفه القرآن من الهشاشة والتقلب حتى إن معركته مع رمز الشر (الشيطان) تـكـاد تتحول إلى حلف بينهما على العصيان الدائم رغم لحظات يقظة يعدها القرآن كافية لحصول الفضل الإلهي الذي يخفف من الحيرة الأولـى وهي التمييز بين العدلين الشديد واللطيف. فالعدل الإلهي كله رحمة إذا كان الأمر متعلقا بأفعال الإنسان إزاء الله .وهو كله شدة وحزم إذا تعلق بأفعاله إزاء المخلوقات بشرية كانت أو غير بشرية .فالله مطلق الغفران والرحمة في الأمر الأول شديد العقاب في الأمر الثاني .وهذا الفرق مع العدل الإنسان هو المميز الأساسي للعدالة الإلهية. ففي الأمر الأول يكون الله وكأنه طرف وحكم .لكنه في الثاني هو حكم وليس طرفا. فيكون مبدأ عدم الجمع بين القاضي والمتقاضي هو القاعدة الذهبية في العدل .والمعيار في القرآن عندما يتعلق بالحكم الإنساني هو ما حددته النساء 58أي الأمانة حفظا لمعايير العدل والعدل تطبيقا لها .وهذا ما أعنيه بتشريع التشريع أو بأخلاق التشريع. أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- ومعنى ذلك أن الله في حكمه على أعمال الإنسان التي لها صلة به مباشرة معيارها هو المقارنة بين كمال الله وضعف الإنسان .ولذلك فالجزاء على الموجب من الأعمال يضاعفه الله .والجزاء على السالب منها يقسمه أضعافا .فتغلب رحمته على عقابه .أما في الحالة الثانية فذلك يؤدي إلى مضاعفة ظلم المظلوم من الطرفين في الجريمة. لما فهمت هذه المعادلة الصارمة فهمت الفرق بين معايير عدل السماء وعدل الأرض .فالله \"مسؤول\" على جميع مخلوقاته في مستويين متعامدين: .1فـمن حيث علاقتها به وهي عمودية. .2ومن حيث علاقتهم بعضهم بالبعض وهي أفقية. وفي الأولى الله قاض ومتقاض .وفي الثاني هو قاض وليس متقاضيا .ومن ثم فكل مشاكل العدل الإنساني تعود إلى أن القاضي هو في آن متقاض على الأقل في الأغلب (بسبب الفساد أو التبعية للفاسدين والمستبدين) بل أكثر من ذلك فالمشرع الذي يتوهم القيس على الشرع الإلهي يحرفه وليس القاضي وحده ولا يكون عادلا لأنه يعتبر إرادته أو فهمه هما القانون سواء كان فردا أو حزبا .وتلك هي مشكلة الديموقراطية باعتبارها هي ما يتوهمه الناس أفضل الممكن في الحكم السياسي .فهي دائما إرادة الغالبين بشرعية الأغلبية .ولما كانت هذه \"تشترى\" فهي في الحقيقة تلطيف لحكم الشوكة بإخفاء آليات حكمها مرتين :ا .1خفاء إيديولوجي بمدع ما تبرر به الديموقراطية حكمها بشرعية الأغلبية. .2وإخفاء أعمق هو عدم إظهار أنها في الحقيقة تمثل دين العجل أي سلطان المال (معدن العجل) وسلطان الإيديولوجيا والإعلام (خوار العجل) .ولهذا فقد بينت أن دين العجل هو البنية العميقة لنوعي الحكم في تاريخ البشرية: • الثيوقراطي ومثاله الآن إيران. • والانثروبوقراطي ومثاله الآن إسرائيل. أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- والعرب لا يحكمهم دين العجل فحسب بل حكامهم عجول وابقار يحلبها أصحاب دين العجل أو \"الأبيسيوقراطيا\" (ابيس يعني العجل) سواء كان في ظاهره ثيوقراطيا أو انثروبوقراطيا. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- ننتقل الآن إلى التفاتة الرسول الثانية إلى ما بعده في سلسة مضمون الرسالة أي إلى منهج التبليغ ومضمون الرسالة أو التذكير بشروط مهمتي الإنسان المرسومة في ما فطر عليه كيانه العضوي والروحي والتذكير بشروط التسخير في الآفاق والأنفس أي شروط قدرته على التعمير واهليته للاستخلاف وشروط استعداد العالم لمقامه أنظمة وثمرات. وهذا هو مجال الاستدلال القرآني الثاني والذي تشير إليه آيات النص بوصفه ما يوجد في آيات الله في الآفاق وفي الأنفس موضوعا للنظر والعقد أو الاجتهاد وللعمل والشرع أو الـجهاد اللذين هما فرضا عين على الأفراد كلهم وفيهما ما لا بد فيه من فروض الكفاية شرطا للتعاون في التبادل (الاقتصاد) والتواصل (الثقافة). وكل تحريف في تاريخ الأمم علته تحريف هذين العاملين أي التعليم والحكم. • فالأول هو مجال التكوين للإنسان القادر على التعمير والاستخلاف • والثاني هو مجال تموين الإنسان بشروط قيامه الحر عضويا وروحيا حتى يكون قادرا على شرطي السيادة والعزة أي الرعاية والحماية الذاتيتين في العالم فردا وجماعة. فلنسم الالتفات الثاني مجالا للسياسة ببعديها تربية وحكما .ولنسم مجال الالتفات الأول مجال الأخلاق ببعديها علاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان والإنسان .و\"ووحدة الدينـي-الفلسفي\" هـي وحدة هذه المجالات الأربعة أو وحدة ما يلتفت إليه الرسول تعريفا نموذجـي من رؤية الاسلام للدنيا مطية للأخرى كرؤية فلسفية قرآنية. والانتكاسة السريعة والوقوع في الانحطاط المتدرج إلى أن صرنا لقمة سائغة لكل الأعداء سواء ممن يثأرون للماضي (إيران وإسرائيل) أو ممن يخافون من المستقبل إذا نحن استعدنا طموحنا التاريخي (الاستعمار وخاصة روسيا وأمريكا) علتها عدم تطوير هذه البذرات والنكوص الجاهلي وخاصة عند العرب. وإذا قبلنا هذا التعريف فيمكن أن نعرف علل الانحطاط الذي مرت به الأمة بكونه ما أصابها من عدم نقل هذين الالتفاتين من كونهما حصلا بالأقوال والأفعال في حياة الرسول أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- إلى جعلهما مؤسسات هي أجهزة الدولة التي أسسها لتصبح بنظامها عين كيان الأمة الواعي بذاته والساعي دائما لحفظها بأخلاق القرآن. وليس لمسعاي في قراءة القرآن من هدف آخر غير ترجمة هذين الالتفاتين إلى مؤسسات تجعلها عين كيان الدولة التي هي وعي الجماعة العائدة على ذاتها بمنطق فصلت 53إيجابا وبمنطق آل عمران 7سلبا أي تطبيق البحث العلمي في آيات الآفاق والانفس ورفض التأويل النص وكأن إشاراته مغنية عن العلم والعمل. وذلك ما أوصلني إلى حصر هذه المؤسسات التي هي في نسبتها إلى كيان دولة الإسلام في نسبة الأعضاء إلى كيان الجماعة من حيث هي حصيلة طبيعية تاريخية أو عضوية روحية تعود إلى ذاتها لتكون نظاما ذاتي التعديل الدائم وهو معنى كونها جهازا \"صناعيا\" حيا بما فيه من نظام عضوي روحي حي هو الأمة التي تعود على نفسها لتنظمها بما تشرعه لنفسها من مؤسسات وقوانين تضبط أقوالها وأفعالها. فكان حصرها في عشرة مؤسسات توحدها مؤسسة الحكم الذي تعينه الجماعة توكيلا في ما لا يمكن ألا يكون فرض كفاية تحت مراقبة فروض العين بمقتضى الشورى 38لأن الأمر أمر الجماعة وهي تدير ما فيه من فروض العين بالشورى العام وليس بمشورة أهل الخبرة وحدهم :إنابة ومراقبة وتولية وعزلا عند اللزوم. وينبغي أن أبدي ملاحظتين قبل التحديد الحصري لهذه المؤسسات المقومة لكيان الجماعة عندما تصبح ذات عودة على الذات في شكل دولة ممثلة لذات الجماعة: .1أن ما حصل من نجاح بسرعة البرق للمشروع القرآني في أقل من نصف قرن هو ثمرة بذرات هذه المؤسسات رغم كونها لم تتجاوز شكلها \"البدائي\". .2وما حصل بنفس السرعة من الانحطاط هو ثمرة عدم تطوير هذه المؤسسات التي بقيت في ذلك الشكل البدائي. وكل تخريف يؤسس الاستئناف على العودة إلى ذلك الشكل على أنه مثال أعلى يخلط بين ما فيها من مثال كغاية وما حصل منها في البداية .فليس من شروط المثال أن يتحقق أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- بصورة تامة من البداية وإلا لصار التاريخ جامدا ولا يستأنف إلا بالعودة إلى مراحله السابقة ليس لتجاوزها بل لتكرارها وهو عين توثين المثال. فـما هذه المؤسسات التي بقيت بذرات كما يشير إليها القرآن الكريم -وهنا نفهم القصد بالسبابة المشيرة-تقبل الرد إلى عشر مؤسسات خمس منها للرعاية .وخمس للحماية. والحادية عشرة هي السلطة السياسية التي وظيفتها نيابة الأمة بتأمير منها ومراقبة لها دائمة لأن الأمر أمر الجماعة تديره بأعلى مؤسسة :الشورى .38 وأبدأ بالخمس الأولى الأساسية لأنها شرط الخمس الثانية .فمنها اثنتان للتكوين وهما: .1التربية الاعدادية. .2والتربية الانجازية. والأولى في منظومة التعليم النظامي .والثانية في منظومة العمل المتعلقة بـمجالات التعاون وتقاسم العمل الذي يسد حاجات الجماعة المادية والروحية أو الاقتصاد والثقافة وإدارة الشؤون العامة .فهذه ظلت بدائية .واثنتان للتموين: .1التموين الذي يسد الحاجات العضوية وهو الاقتصاد المادي واللامادي أو الخدمات. .2والتموين الذي يسد الحاجات الروحية وهو الثقافة المادية واللامادية أو ما يسميه ابن خلدون الأنس بالعشير. وهذه المؤسسات بقيت كلها بدائية وجلها منقول عن الاستعمارين الفارسي والبيزنطي للإقليم وخالية من روح الإسلام .وقد بقيت بدائية لعلة وحيدة وهي أنها أربعتها لا تستند إلى أصلها جميعا كما كان ينبغي أن يستنتج من اشارات القرآن. فما هو هذا الأصل؟ إنه الاجتهاد في البحث والإعلام العلميان والجهاد بتطبيقاتهما .فلا معنى لتكوين إعدادي (التربية) وإنجازي (العمل) إذا لم يكن دليله البحث والإعلام العلميين لاكتشاف أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وخاصة قدرات الإنسان النظرية والعملية لتطبيقهما من أجل تحقيق شروط التعمير أو العمران كما يسيمه ابن خلدون بقيم الاستخلاف. فإذا حصل ذلك استحال أن تصبح الأمة كما هي منذ عصر الانحطاط عالة على غيرها في كل شيء تحتاج إليه لسد حاجاتها المادية والروحية بحيث إن كل ما ينسبه العرب اليوم لأنفسهم مما يتحقق على أرضهم ليس هو من إنتاجهم ولا من إبداعهم بل هو مستورد ويكتفي العرب ببيع ثرواتهم بثمن بخس لاستيراد الخردة من الغرب أو من الشرق. وحينئذ لا تفقد الأمة الرعاية وحدها بأبعادها الخمسة التي ذكرت بل هي تفقد ما هو أخطر :الحماية .فالحماية هي بدورها مثل الرعاية ذات أبعاد خمسة .اثنان للحماية الداخلية أعني القضاء والأمن .ثم الحماية الخارجية أعني الدبلوماسية والدفاع. فهل يوجد ما هو أفسد منها أربعتها في بلاد العرب؟ فما العلة؟ نفس العلة في الرعاية :غياب الأصل أو بصورة أدق فساده .فمثلما يكون فساد البحث والإعلام العلميان وتطبيقاتهما علة فشل التكوين ببعديه والتموين ببعديه فكذلك يكون فساد الاستعلام والاعلام السياسيين علة فساد وظائف الحماية الأربع بل هو يصبح بات الاختراق للأعداء لتخريب الحماية والرعاية. تلك هي المؤسسات التي لم أخترعها اختراعا بل استنتجتها مما يشير إليه القرآن ليس بوصفه ما ينبغي فعله لتكون الأمة راعية لذاتها وحامية لها بالدولة التي هي وعيها الساهر على وجودها بل كذلك مما يستدل به القرآن على نظام العالمين الطبيعي والتاريخي ونظام الأنفس وهو ما يرمز إليه بالملائكة. فهل يمكن أن يكون الله بحاجة إلى مساعدين وهو على كل شيء قدير يخلق ويأمر بـ\"كن\"؟ طبعا لا. أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- لكن هو يريد أن يضرب للإنسان أمثلة يكون فيها نظام العالم وإدارته نموذجا للنظام الذي يحتاج إليه الإنسان ليدير عالمه بصورة تحقق مهمتيه :التعمير بقيم الاستخلاف. القرآن يوجه بإشاراته إليه. فلم أر في حياتي نظاما من الاستعلام والإعلام والبحث والتقصي في الاستدلال القرآني بنظام العالم وبنظام المحاكمات يوم الدين وحتى في الدنيا أكثر صرامة مما يوجد في القرآن حتى إن كل فرد يوجد بين كاتبين لكل صغيرة وكبيرة من أقواله وأفعاله وذلك حتى يكون يقظا بأن مجرى الحياة ليس سهلا. وهذا لا يعني أن مثال الدولة بوليسي لأن \"الملائكة\" يرمزون إلى الأمن الخاضع لسلطان القانون وليس إلى نزوات أعضائه وأفراده والمافيات التي تستعملهم لخنق الحريات بل هي لحماية الحريات وصون كرامة الإنسان وتحريره من المحاكمات بالشبهات بل بالتوثيق الصارم والاعتماد على البينات في ا لحكم. والآن ماذا فعل الرسول بذرة أولى لهذه المؤسسات العشر وفوقها المؤسسة العليا التي تديرها أو الحكم السياسي؟ هل بوصفه رسولا ادعى أنه وسيط بين الله والإنسان في التربية أم إن القرآن يقول \"فذكر إنما أنت مذكر\"؟ وهل ادعى أنه وصي في الحكم أم إن القرآن يقول له \"لست عليهم بمسيطر\" ولا وكيل؟ هل استثناه القرآن من واجب الشورى أم أمره بـ\"وشاورهم في الأمر\"؟ فكيف إذن صار العلماء يتصرفون وأنهم وسطاء ويزعمون أنهم ورثة الأنبياء في التربية؟ وكيف صار الأمراء يتصرفون كأن الأمر أمرهم وليس أمر الأمة وهو أوصياء عليها في الحكم؟ ذلك هو التحريف للمؤسسات التي يشير ويوجه القرآن إليها. والقرآن لا يقول أمرا أو نهيا بتحكم بل لأن الرسالة تذكير بما هو مرسوم في ما فطر الله عليه الإنسان ومن ثم فالرسول لا يأتي بجديد يعلمه بل هو يذكر بأمر عند الإنسان والإنسان ناس وليس جاهلا .وقد عجبت ما ينسب إلى أبي حنيفة من قوله \"يحق لأبي حنيفة أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- أن يمد رجله الآن\" ففيه احتقار لطلبته مثل احتقاره لهذا الرجل وهو عيب فيه أكبر من عيبه. فكلامه ردا على سلوك \"الجاهل\" علما و\"المتزين\" هنداما أولى بأن يكون منه عدم فهم لكونه لا يقل عنه جهلا إذا صحت هذه الرواية فاحترام العلم ليس المذكور منه بل المطلوب التذكير به وهو ما فطر عليه الإنسان وخاصة إذا تعلق بما في القرآن من إيقاظ للوجدان والفرقان وليس لحفظ ما يعجل به اللسان. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- بقي في محاولة المحكم والمتشابه والتحريف فصلان .أخصص أولهما لتعريف هذه المجالات الخمسة التي هي مضمون الرسالة أعني: .1المرسل (الله). .2والمرسل إليه (الإنسان). .3والرسول (قلب المعادلة). .4والمنهج النموذجي (تربية لا وساطة وحكما لا وصاية). .5ومضمون المشروع بإشارات للتعمير والاستخلاف. وهذه هي مجالات البحث في المحكم والمتشابه .فهي مجالات المحكم إما بمعنى كلام القرآن على كلامه على ذاته كرسالة أو بمعنى كلام القرآن الإشاري الموجه للإنسان تذكيرا إياه بما عليه القيام به ليكون قادرا على التعمير وأهلا لمنزلة الاستخلاف منزلة وجودية للإنسان من حيث هو حر ومكلف مسؤول. وهذا هو شرط الاستئناف باستكمال بناء المؤسسات التي تجعل الأمة قادرة على تحقيق مشروع ثورة الإسلام الكونية لأن الإسلام لا يتوجه لقوم دون قوم ولا لزمان دون زمان ولا لمكان دون مكان بل هو كما عرفته في محاولة التفسير الفلسفية \"استراتيجية التوحيد ومنطق السياسة المحمدية\" للإنسانية كلها. وهو الشرط الذي سيحرر الأمة من تحريف علوم الملة الغائية الخمسة (التفسير أصلا لعلمي العمل والشرع ولعلمي النظر والعقد) ومن تدعيم البحث في علومها الغائية الخمسة (السيميوتكس أصلا لعلوم اللسان والتاريخ ولعلوم المنطق والرياضيات) لعلم قوانين الطبيعة وسنن التاريخ والأنفس الجامعة بينهما. وهو ما يعني بكل بساطة التحرر مـما أدى إليه قلب دلالة فصلت 53التي كانت أمرا لرؤية آيات الله في الآفاق والأنفس فجعلها التحريف نهيا عن البحث العلمي بخرافة شرح أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- النصوص بديلا منه زعما أن ذلك دليل على الإعجاز العلمي الذي يؤرخن القرآن فيلغي صلاحيته لكل زمان ومكان لأن المعرفة العلمية تاريخية بالطبع. وعندما نتحرر من قلب أمر فصلت إلى نهي يترتب على ذلك التحرر من قلب آل عمران 7من نهي إلى أمر إذ إن البحث عن قوانين الطبيعة وسنن التاريخ ومقومات الأنفس الجامعة بين الأمرين هو وهم استمداد العلوم بآيات الله في الآفاق والأنفس من تأويل آيات النص زيغا في القلوب وابتغاء للفتن :وهدف الإصلاح الذي أسعى إليه هو إعادة فصلت 53 وآل عمران 7إلى مدلولهما الحقيقي أمرا في الأولى ونهيا في الثانية. وإذا تم هذا الإصلاح ستصبح الأمة قادرة على رعاية ذاتها وحمايتها بالصورة التي وصفت في الفصل الثالث فلا تكون عالة على غيرها فيهما محميات يتصرف فيها المستعمر وكأنه أرث أجداده لأن الأحفاد منا تنكروا للأجداد فصاروا كالأوغاد عبيد العباد بدلا من رب العباد .وهو معنى \"فساد معاني الإنسانية\" الخلدوني. وسيكون الفصل الخامس والأخير شرح الثورتين الأبستمولوجية (نظرية المعرفة النافية للمطابقة المعرفية) والأكسيولوجية (نظرية القيم النافية للمطابقة القيمية) اللتين أنسبهما إلى رؤية القرآن والتي اعتقد أن المدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون وما أحاول استكماله من نقدهما) .فقد حاولت هذه المدرسة صوغها حتى وإن حال دونها سد الذرائع من بلوغ الهدف. فتوجه الإشارات القرآنية الإنسان إلى دراسة مضمون الرسالة كما تصفها في النص وخارجه أعني المرسل والمرسل إليه والرسول ومنهج التذكير والأمور الخارجية المشار إليها إما في الآفاق أي الطبيعة والتاريخ أو في الأنفس أي ما جهز به الإنسان للتعامل مع الطبيعة والتاريخ وذاته وما بعد ذلك كله ليكون قادرا على التعمير وأهلا للاستخلاف .ولا يوجد غيرها إلى ما يصل بينها أعني علاقاتها بما بعدها المطلق(المرسل) .وبذلك تكون أهم الفنون التي لا تخلو منها حضارة هي: .1علم الربوبية او ما يتصوره الإنسان ما بعدا مطلقا لكل الموجودات. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- .2علم الإنسان أو ما يتصوره الإنسان ذاته المتلقية لذاتها ولما حولها من الوجود وكأنه رسالة مما بعده. .3التلقي أو التذكير سواء كان رسولا معينا أو كل ما يعبر عما سبق. .4سياسة الإنسان للعالم وعلاقته به في ضوء ما تقدم بتكوين الإنسان وتموينه رعاية وحماية من أجل مهمتيه أي التعمير والاستخلاف. .5وأخيرا الفلسفة أو البحث العلمي الذي يمكن من أمرين :تأهيل الإنسان للنظر والعقد في العلوم وللعمل والشرع في القيم سلطانا للإنسان على الطبيعة والتاريخ وذاته. وهذه الفنون الخمسة هي التي سنخصص لها الفصل الخامس والأخير من هذه المحاولة. وهي التي ينبغي ان تكون البديل المصلح لما طرأ على علوم الملة الغائية الخمسة التي حرفت بتطوير علوم الآلة الخمسة التي أهملت أو لم يراع منها إلى النزر القليل بالقدر الذي تحتاج إليه العبادات وصحة النافذين وحكمهم (أي الفلك والطب). سيقول المعترض :ها أنت تنهى عنى خلق وتأتي مثله .فالكلام على المابعد المطلق أو علم الربوبية -الثيولوجيا-كلام في الغيب وأنت تدعي أن ذلك فضلا عن تحريمه القرآني مستحيل عقلا .وجوابي أن ذلك ليس كذلك لأني بينت العلاقة بين كلام المعنى وكلام معنى المعنى .فالكلام الأول دال وليس مدلولا. ما معنى ذلك؟ لو لم أكن قد بينت أننا لا نستطيع الكلام على ذات الله ولا على صفاته وأن القرآن لا يتكلم على صفات الله بل على صفات أفعاله وأفعاله ليست من الغيب لأنها كما يستعملها القرآن في استدلاله بآثارها في الطبيعة والتاريخ وفي الأنفس هي مجال كلامه على الله وليست خرافات التياسر الكلامي. وبهذا المعنى فما يبدو لغة تشبهية -وكل لغة القرآن تبدو كذلك لو بقينا في نظرية الحقيقة والمجاز اللسانية التي دحضها ابن تيمية-لا علاقة له بالتشبيه بل هو منحى تعبيري أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- يجعل الكلام على المعنى الأول موضوعه أفعال الإنسان رسوما دالة على معنى المعنى الذي ليس بينه وبين المعنى أدنى وجه شبه. وبهذا المعنى فلكأن الإنسان -كيانا وسلوكا -وسبق أن بينت أنه المعبد الأول الذي صنعه الله على عينه -مادة تشكيلية ترسم عليها معاني برسوم مادية فتكون رموزا لمعان لا تقبل الرسم تماما كما نرسم معنى التردد بعبارة \"يقدم رجلا ويؤخر أخرى\" في حين أن التردد ليس له رجل أولى ولا رجل ثانية ولا يتقدم ولا يتأخر وهو معنى مجرد عبرت عنه العربية بهذا الرسم المتحرك الذي لم يعد مفيدا لدلالة ألفاظه بل بما ترسمه في المكان من حركة (ولذلك سميت هذا النوع اسم فعل). ولهذه العلة اضطررت لإضافة البعدين الأصليين للغة-أعنى اسم الصوت واسم الفعل- الأول للصوت من حيث له دلالة الموسيقى في اللسان والثاني للحركة من حيث لها دلالة الرسم في اللسان-حتى تكون اللغة مخمسة الأبعاد وليست مؤلفة حصرا من الاسم والفعل والحرف فحسب بل لها بعدان متقدمان عليها أولهما من الرسم وهو اسم الفعل والثاني من ا لـموسيقى وهو اسم الصوت والثاني هو صوت المتكلم والأول هو رسم حركته. والنحاة اكتفوا بالألفاظ .وأنا أضفت بعدي التلفظ وهما الصوت المموسق لمعنى والحركة المعبرة بالبدن الراسم لمعنى .والقرآن أهم ما في لغته بعدا التلفظ المقدمان على الألفاظ التي هي دون العبارة الحية إذ إن نبرة المتلفظ وإشارات حركته خلال التلفظ أهم ألف مرة مما ينبس به من ألفاظ .فنفس اللفظ يتغير معناه بنوع التلفظ الذي يصدره. والبصيرة بالجوهر تتعلق به. خذ كل ما يقوله القرآن عن المابعد المطلق أو الله ستجده يتكلم عليه وكأنه يصف إنسانا مطلقا بنطقه ملفوظا وتلفظا وبحركته مرسوما ورسما .وقد ظن ابن رشد أن اعتماد يبدو تشبيها لله بالإنسان من أوهام المتكلمين ويقصد الأشاعرة .وهو بنحو ما محق لو كانوا فعلا يعتبرون ذلك كلاما مناسبا للذات الإلهية وليس هو كما بينا هو هنا كلاما في المعنى الذي هو الرسم والصوت الدالان على معنى المعنى مدلولا. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- وهنا تبرز عبقرية ابن تيمية .فالمعاني التي نستعملها للكلام على الموجودات ليست كما يتوهم المتكلمون والفلاسفة مقومات لها بل هي مثل الألفاظ والكتابة رموز تحيل على ما لا ينقال منها مما نعبر عنه بهذه الرموز التي نسقط دلالاتها عليها لكأنها مقوماتها وما هي بمقوماتها بدليل أننا نغيرها كلما تقدمنا في الاطلاع عليها. فشتان مثلا بين تصور اليونان لعناصر المادة الطبيعية مقصورة على خمسة -التراب والماء والهواء والنار والعنصر الخامس-وبين ما قارب المائتين في عصرنا وهي معان نعتقد أنها مقومات للمادة لكنها في الحقيقة في نسبة الرسم الكتابي للألفاظ وفي نسبة الألفاظ المسمية لهذه المعاني بالقياس إلى الأشياء. هل يوجد وجه شبه بين الرسم الكتابي لكلمة \"قال\" وبين لفظ كلمة \"قال\" وبين فعل \"قال\" في التلفظ وبين الشيء \"قال\" كحدث القول وكل ما تقدم من الرموز الدال عليه؟ لا وجود لأي وجه شبه عدى ما تعودنا عليه من الخلط بينها وتوهم أنها لها علاقة وهي في الحقيقة لا شيء غير ما سماه ابن تيمية \"عادة الاستعمال\". فـ\"الجدار يريد أن ينقض\" في قصة الرجل الصالح ليست مجازا لأن المتكلمين يعتقدون أن الإرادة في الحقيقة -لا تقال إلا على الإنسان بل الاستعمال في العربية يجيزها في الكلام على الجدار دون مقابلة المجاز والحقيقة .لذلك فابن تيمية يعتبر ذلك من عادات كلام العرب الذي لا يقابل بين حقيقة ومجاز بل هي عادات استعمالية لا يحدد دلالتها إلى سياق الخطاب اللساني. ومثلها استوى على العرش .فلنتنازل عن عبارة ليس كمثله شيء .ولننس أن الكلام على الله .فهل رأى أحد عرشا يسع السماوات والأرض؟ اليس من السخف توهم الكلام على العرش مجازا لأن الحقيقة هي حسب رأي المتكلمين عرش قزم أرضي يسمى ملكا فيكون المجاز هو الدلالة على سلطان الله .وهل سلطان الله يقاس على سلطان الأقزام حتى مجازا؟ أي سذاجة هذه؟ قبل الكلام على الله فلنتكلم على العرش هنا ولنحاول الفهم. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- هبنا سلمنا بأن العرش هو كرسي الأقزام في الحياة الدنيا .وهبنا سلمنا بأن ذلك هو الحقيقة ألا تكون هذه الحقيقة من جنس \"يقدم رجلا ويؤخر أخرى\" للدلالة على المعنى المجرد \"يتردد\"؟ ألا تكون العبارة \"يقدم رجلا ويؤخر أخرى\" رسما من جنس الكتابة التي هي \"تردد\" والتي ليس لها شبه مع التردد؟ خذ مبدع الكتابة الصوتية في الحضارة الفينيقية .فهو قد أخذ رسم حيوان واعتبره دالا على الحرف الأول من اسمه .ثم جمع رسوم حيوانات الحرف الأول من اسمها هو المعتبر ليكتب الكلمة المؤلفة من هذه الحروف. فهل يوجد وجه شبه بين الحيوانات التي اسماؤها تبدأ بحرف هو المعتبر في إبداعه والكلمة المكتوبة؟ تلك هي المعاني التي حوم حولها ابن تيمية وحاول صوغها بفكرتين هما الاستعمال بديلا من المقابلة حقيقة مجاز والمعاني الرامزة مثل الكتابة واللغة بالمقابل مع المقوم وغير المقوم في رفضه لأساس كل الميتافيزيقا الأرسطية القائلة بالجواهر الثواني والذاتيات المقومة. لكنه لم يكتشف المبدأ. والمبدأ استعمله مكتشفو الكتابة الصينية والهيروغليفية والمسمارية وبلغ الغاية في اكتشاف الكتابة الألفبائية عند الفينيقيين الذين جعلوا رسوم الحيوانات رامزة لحرف اسمها الأول ثم جعلوا مجموعة رسوم حيوانات حرف اسمها الأول هو المقصود للدلالة على حروف الكلمة فكانت الثورة التي تعطينا المبدأ. والمبدأ هو ما علل به الله استئهال آدم للاستخلاف رغم اعتراض الملائكة على أهليته بسبب ما عرف عنه من إفساد في الأرض وسفك للدماء .إنه القدرة على التسمية أو القدرة على الترميز التحكمي لتسمية الأشياء بما يختاره من \"صفات\" .فالعربي الذي يسمي السيف مهندا قد اختار تسميته بمحل صنعه الهند. أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- وقد يسميه البتار وقد يسميه البراق وقد يسميه بأي صفة ترسمه في ذهنه وفي ذهن المخاطب .وكلها مواضعات تبدو وكأنها تشير إلى مقومات الشيء وهي لا تشير إلا إلى تصوره عند المتواصلين حوله بمجرى العادات في هذه اللغة أو تلك .وكلاهما يعلم أنها إشارة إلى ما لا يعلم إلا بالتوجه إلى المشار إليه :فتكون اللغة لا تقول حقيقة الأشياء بل ما اختير من العناصر التي ترسمها في أذهان المتواصلين بذلك النظام الترميزي دون أن يكون بين الرمز والمرموز علاقة لا حقيقة ولا مجازية بل الوسط هو ذهن المتواصلين في تصور ما يتواضع على أنه من علامات الشيء الذي يتواصلون حوله وحول علاقاتهم به. والأمر كله هو تناظر بين نظامين رامز ومرموز كلاهما شيء خارجي بتوسط إدراكين عند المرسل والمرسل إليه في نظام تواصل حول المعاني بمناسبة تواصل حول تبادل يكون في الغالب ذا علاقة بالتعاون على سد الحاجات المادية والروحية وذلك هو جوهر الاقتصاد والثقافة. ولذلك اعتبرت نظام الرموز على نوعين: .1الأول للتواصل ومثاله الكلمة وهي رمز فعل الرمز. .2الثاني للتبادل ومثاله العملة وهي رمز رمز الفعل. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- نختم المحاولة في فصلها الخامس بالكلام في خمس مسائل: .1ما معنى النظر والعقد؟ .2ما معنى العمل والشرع؟ .3ما معنى \"كل شيء خلقناه بقدر\"؟ .4ما معنى \"سنن لا تتغير ولا تتحول\"؟ .5وأخيرا ما معنى \"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى بيتن لهم أنه الحق\" (فصلت 53ونقيضها آل عمران .)7 وذلك هو ما أطلقت عليه اسم فلسفة القرآن التي يمكن أن تخرج الأمة من الأزمة الحضارية التي تعاني منها بسبب تحريف رؤية علومها الغائية الخمسة والآلية الخمسة وما ترتب عليها في سياستها لذاتها وعلاقاتها بالعالمين الطبيعي والتاريخي وما بعدهما ما جعل \"معاني الإنسانية\" تفسد فيها فتنحط. وقبل أن أتكلم في هذه الموضوعات فلأشرح علة تسميتـي إياها بـ «فلسفة القرآن» .فلو صح ما تقوله الأديان الأخرى عن نفسها من دون اعتبار إصلاح الإسلام لتحريفها لصح ألا يكون الإسلام دينا كما يتهمونه بل لصح أيضا اعتباره \"إلحادا\" بمنطق الكلام المسيحي وخاصة على لسان مصلح المسيحية المزعوم لوثر. فبمقتضى منهج \"التصديق والهيمنة\" القرآني ليست الأديان في صورتها الموروثة ممثلة للديني بالمنظور القرآني الذي لا يفصل بين الحقيقة التي تتجلى في الديني غير المحرف والفلسفي والفلسفي غير المحرف :فعلم الإنسان في الحالتين علم نسبي ولا يوجد علم ديني مطلق بل ما يوجد هو إعلام ديني بوجود العلم المطلق وهو لله وحده ومن ثم فالثورة الدينية ابستمولوجيا هي نفي المطابقة والمفهوم الحد الذي يمثله مفهوم الغيب .وبهذا المعنى فالرسول ينفي عن نفسه العلم بالغيب مضمونا مع التأكيد على الإيمان به وجودا. ولذلك فالقرآن ينقسم إلى جزئين: أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- . موجب هو التذكير بما هو مرسوم في ما فطر عليه الإنسان.1 .79 وسالب هو نقد ما أصاب الفطرة من تحريف ذروته حددته آل عمران.2 { َما َكا َن لِ َبشَرٍ َأن يُؤْتِيَهُ ال ّلَهُ ا ْل ِكتَا َب وَالْحُكْمَ وَال َُنّ ُب َّو َة ُث َّم يَ ُقولَ ِلل َّنا ِس ُكو ُنوا:والذروة هي ِع َبادًا لَِّي ِمن دُو ِن ال َّلهِ َو ٰلَ ِكن كُو ُنوا َر ّبَانِ ِيَّي َن ِب َما كُن ُتمْ ُتعَ َِّلمُو َن الْ ِك َتابَ وَ ِبمَا كُن ُت ْم تَ ْدرُسُو َن .)} أي تأليه الإنسان79( وإليك ما يفيد أن هيجل وماركس لم يضيفا شيئا آخر إلى رؤية الفلسفة الحديثة بعد أن فهما ترجما تأليه.انحطت أي بعد رفض ثورة كنط المحررة للإنسان من القول بالمطابقة Aber der Geist, die absolute Idee ist dies :بلغة علمانية- ممثلا بالمسيح- الإنسان هذا \"a) nur als Einheit des Begriffs und der Realität zu sein, und so, dass der Bergriff an ihm selbst als die Totalität ist, und ebenso die Realität (b) diese Realität aber ist, wie vorhin gezeigt, die Offenbarung, die für sich seiende Manifestation; das Selbstbewusstsein, das endliche, jenem Begriff gegenüber- das eindliche Selbstbewusstsein oder was die menschliche Natur heisst, inem wir den absoluten Begriff die göttliche Natur nennen, so ist die Idee des Geistes dies, die Einheit der göttlichen und menschlichen Natur zu sein, zu dieser Anschauung die Menschen gehommen. Aber die göttliche Natur ist nur dies, der absolute Geist zu sein; also eben die Einheit der göttlichen und menschlichen Natur ist selbst der absolute Geist\"(Hegel, Volesungen, Walter .)Jaeschke, 5 Felix Meiner Verlag Hamburg s.5-5 من آل عمران لتبرئة المسيح من التوحيد بين طبيعة79 ذلك بكل وضوح ما تعنيه الآية ولا أعتقد أني بحاجة إلى ترجمة نص هيجل.الله وطبيعة الإنسان وهو أصل كل تحريف فيمكن قراءته بأي لغة أوروبية لعلمي أنه قلما يوجد قارئ عربي ليس متمكنا من إحداها فـما يعنيني هنا هو أن.)(وقد ترجمته في دروس هيجل في فلسفة الدين بجزئيه نشر كلمة أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- هذا التوحيد بين طبيعة الإله وطبيعة الإنسان في مفهوم الروح المطلق قراءة هيجلية لما يعتبره القرآن تحريفا لدين المسيح هو الذي تعاني منه الإنسانية. ودون أن أحمل هيجل مسؤولية أمراض الإنسانية فإني اعتبره قد أجاد وصفها حتى وإن توهم ذلك هو حقيقتها واعتبر المناظير المخالفة من أوهام الإنسان .ومن ثم فمن أراد أن يفهم العلاج القرآني لأمراض الإنسانية فليقارن هذا الوصف الهيجلي وذات التشخيص القرآني في آل عمران .79وحجة القرآن مخمسة :الكتاب والحكم والنبوة وما يصل 1بـ2 و2بـ.3 وهذه الحجج القرآنية الخمس هي نسيج الاستدلال القرآني كله .فالكتاب هو ليس القرآن بل الواحد في الديني عامة لأن الكتاب على العموم يعني \"اللوح المحفوظ\" الذي تعتبر الكتب السماوية نسخا منه ليس فيها ما فيه من مضمون الغيب علما مع وجوده الاخبار بوجوده وبضرورة الإيمان به وبـاستحالة علمه لأنه محجوب على غير صاحب العلم المحيط أي الله وحده. والدليل الثاني هو الوصل بين الكتاب الذي هو نسخة من اللوح المحفوظ بهذا المعنى والحكم الذي هو الفكر المدرك للدلالات الكونية والقادر على تعيينها في الأعيان الوجودية (تعريف كنطي للحكم وهو إدراج الجزئي في الكلي) وبه تكون نسخة الكتاب محيلة على الآفاق والأنفس إحالة إشارة توجيهية. ولأن الإحالة إشارة توجيهية فهي ليست بديلا من البحث العلمي في آيات الآفاق والأنفس لمعرفة قوانين الخلق في الطبيعة وسنن الأمر في التاريخ وتلك هي وظيفة الدليل الثالث أي الحكم أو فاعلية الفكر من حيث هو أصل البحث العلمي والقيمي في الوجود الخارجي أو في آيات الآفاق والأنفس لتبين حقيقة الكتاب. فنصل إلى الدليل الرابع أو الوصل بين الحكم والنبوة .فالوصل هنا يعني أمرا مناقضا تماما لما يدعيه هيجل مترجما لتحريف المسيحية ترجمة فلسفية بتغيير نظرية الهوية (التي تستمد كيانها الصائر من وحدة الوجود والعدم) ورفض مبدأ عدم التناقض انتقالا مما أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- يسميه العقل الحاسب أو المسترئي إلى العقل الفاهم أو النهى الذي يدرك الحقيقة على ما هي عليه بمنطق الجدل. وهذا التطابق بين العلم والوجود هو سر القول بالتطابق بين الروح المتناهي (الإنسان) والروح اللامتناهي أي الله بتوسط العلم المحيط الذي يجعله مطابقا لما يسميه هيجل الواقع وقصده بأنه لا واقع فوقه ولا وجود لغير العالم الدنيوي وهو ما انتهى إليه ماركس بأكثر وضوح تخلصا من \"الأرواح\". وما قمت بهذا محبة في الكلام على هيجل أو ماركس بل القصد بيان سخف الملحدين العرب وأدعياء العلمانية والماركسية .فهم غارقون إلى الأذقان في التحريف الديني الذي آلت إليه المسيحية بقراءتها الهيجلية جعلا لتحريفها عين حقيقتها والتي حاول الإسلام تحريرها منه كما هو بين من الآية 79من آل عمران .لكن لا علاج للحمق خاصة وهو كبر وتضخم ذات. والحجة الأخيرة هي النبوة .فما النبوة؟ أولا النبي إذا ادعى علم الغيب فهو ليس نبيا بل تلك علامة \"مسيلمة\" .النبي علامته نفي العلم بمضمون الغيب والقول بوجوده بوصفه ما ينقص علم الإنسان ليكون علمه محيطا فيدعي الألوهية .وهو إذن الإنسان الذي ينعم الله عليه بأن يدرك هذه الحقيقة التي تنفي القول بالمطابقتين. وقد انتهت الآية بتعريفه بالدعوة إلى الربانية التي تعلم الكتاب ويدرسه .وتعليم الكتاب يتعلق بآياته التي هي الرسالة ودرسه لا يتعلق بآياته بل بالآيات التي يشير إليها ليوجه إليها حكم الإنسان بوصفها قائمة في الآفاق والأنفس والتي كل إنسان مطالب بالبحث فيها ليعلم شروط التعمير والاستخلاف فيحقق شروط القيام والأهلية في الدنيا والآخرة. وهذه الشروط هي عينها التي وصفت أي الكتاب والحكم والنبوة وما بين الكتاب والحكم وما بين الحكم والنبوة بالمعاني التي شرحت وبها يكون الإنسان إنسانا لا يخلط بين ذاته أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- وربه فيكون مؤمنا بأن له إرادة حرة وعلما صادقا وقدرة خيرة وحياة جميلة ووجودا جليلا بقدر ما له وعي بعلاقته بربه. وهذه العلاقة هي ما عرفته الآية في غايتها إذ دعت إلى الربانية تعليما للكتاب بمعنى نظام الوجود الذي هو في متناوله ويدرسه بما جهز به لمعرفته وتقييمه في حدود ما هو قادر عليه مع العلم بأن علمه وتقييمه ليسا محيطين وهو ثمرة الإيمان بما وراء الطبيعة والتاريخ والأنفس من متعاليات (فصلت .)53 فما الشروط؟ .1هذا الفهم الإنساني للإنسان (انثروبولوجيا قرآنية). .2تجهيز الإنسان بالنظر والعقد للعلوم وتطبيقاتها. .3وبالعمل والشرع للقيم وتطبيقاتها. .4الإيمان بأن الخلق بقدر نعلمه بالملاحظة وهو شرط العلوم الطبيعية. .5الإيمان بأن الامر بسنن نعلمها بالملاحظة وهو شرط الأعمال الإنسانية. أما العلاقة بين النظر والعقد فقد شرحتها سابقا :فلا وجود لنظر علمي من دون عقيدتين: .1الأولى أن العالم الطبيعي ذو نظام. .2والثانية أن الإنسان له القدرة على معرفة ما هو ضروري من هذا النظام لبقائه. ومن دون هذين العقيدتين حتى لو كانتا على محمل الافتراض لا يمكن تصور النظر العلمي ممكنا. كما سبق أن شرحت العلاقة بين العمل والشرع .فلا يمكن تصور العمل من دون -1نظام يقتضيه العامل هو شريعة العاملية-2ونظام يقتضيه المعمول هو شرعية المعمولية .فلو لم يكن العامل يتبع نظاما هو شرع أفعاله أو قوانين انتظام أفعاله المتساوقة والمتوالية لاستحال عليه أن يعمل شيئا .وإذا لم يكن المعمول هو بدوره ذا نظام فلا يمكن العمل فيه أو به. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- فإذا جمعت هذه العناصر الأربعة وجدت \"حقيقة الإنسان\" الذي يعلم أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجودها كلها متناهية ونسبية وأن الاعتقاد في تأليه الذات مرض وليس علما ولا فلسفة ولا دينا .ثم وجدت ما بين \"حقيقة\" الإنسان وما في العالم الطبيعي والتاريخي مما هو متناسب معها وهو معنى التسخير .ومن ثم فالتحريف الذي يحررنا منه القرآن الكريم هو ما يخالط الإنسان من وساوس الشيطان حول ذاته وعالمين وما بينهما وبين خالقهما وآمرهما من علاقات لا تنفصم. والله ورسوله أعلم.. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 36
Pages: