أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
المحتويات 1 61117243036
سؤال محير سلبا وإيجابا-1:ما الذي حصل لتعطيل ثورة الإسلام حتى فقدت الأمة دورها الكوني؟ -2فيم تتمثل ثورة الإسلام التي تعطلت ففقدت الدور؟وكيف يمكنني شرح ذلك للشباب الذي يمثل أمل الاستئناف لأنه تمكن من الجمع بين الحلم باستعادة مجد الامة والقدرات التي حصلها من الثقافة الحديثة؟وما أسميه ثورة الإسلام حددته عديد المرات .بل أستطيع القول إن جل عملي مداره هذا التحديد. لكن غرابته تجعله يبقى من جنس التحليق خارج السرب.وإذا كان لي أن أشكر الله على ما يعتبره الكثير حرمانا ،فهو هذا الاستثناء من السرب الذي جعلني أستفيد من البقاء على هامش نجومية النخب الزائفة.من الله علي بالاستغناء عن المشي في ظل أحد ،حزبا أو منظمة أو أميرا أو دولة .بل بقيت سيد نفسي وكأني من صعاليك العرب وذلك من فضل الله علي أحمده.أبدا بثورة الإسلام وأثني بما حال دونها والوصول إلى غايتها التي هي شرط الاستئناف المنتظر أولا لأنها وعد لا يتخلف ولأن قطافها بشروط حان.القصد بالوعد ايماني بأن مفهوم الشهادة على العالمين يعني وعد بمهمة كونية وبأوان القطاف تحقق الشروط المادية والروحية المتدرج للدور الكوني.فبالقياس إلى ما كانت عليه أمة محمد في بداية النشأة الأولى وما تحقق إلى بداية الاستئناف، لوجدنا حصيلة الأربعة عشر قرنا الماضية انجازا عظيما لشروطه.وشروطه بخلاف المحقرين من الحصيلة ليس كميا فحسب-خمس الإنسانية منتشر في المعمورة كلها- بل هو كيفي :فما من أنشطة الإنسان وإلا للإسلام فيه ثورة. 40 1
وسأحصي هذه الثورات بأسلوب برقي ،معتمدا معيار تصنيف الأنشطة الإنسانية الأساسية ،وهو في آن معيار تصنيف النخب القائدة لهذه الأنشطة في كل جماعة.وترد ثورة الإسلام بفروعها الخمسة-بمعيار الأنشطة الإنسانية في التاريخ-التخليص في كلمتين: الرسالة الخاتمة أو حقيقة هذه الأنشطة مقومة للاستخلاف.فما الختم في السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤى ختما جعلها تكون ممثلة لمضمون رسالة الإسلام الجامعة للأسلوبين الديني والفلسفي في آن؟الجواب عن هذا السؤال هو علة تعريف الزمان التاريخي بخمسية الأبعاد بدل ثالوثيتها :فالرسالة الخاتمة هي حدث الماضي وحديثه ،وحديث المستقبل وحدثه.وهي خلال فعلها الدائم حاضر دائم ومن حوله قبله حدث الماضي وحديثه وحديث المستقبل وحدثه، ومن ثم فهي خاتمة .أي إنها نهائية مع صيرورة لا تتوقف.ما معنى جمع أسلوبي الفكر الديني والفلسفي الفلسفي في آن؟ إنها تعتمد أسلوب التحليل الفلسفي تحديدا وتدليلا ،وأسلوب التأويل الديني ترميزا وتمثيلا.والأول سميته الطرد المنطقي ومنهج الفكر الفلسفي ،والثاني السرد التاريخي ومنهج الفكر الديني: الجمع بين البنية المنطقية والصيرورة التاريخية.ولهما قبلتان كالإسلام نفسه :أولى تلتفت إلى ماضي الإنسانية حدثه وحديثه لتفكيكهما النقدي تحريرا لها من تحريف الأديان ومن جاهلية الأخلاق.والقبلة الثانية تلتفت إلى المستقبل بحصيلة النقد التفكيكي لاستئناف تاريخ الإنسانية من رمز التوحيد ،أي بيت الله التي بناها نبي التوحيد المطلق.فيكون محمد إبراهيم الثاني مؤسس الحنفية المحدثة التي هي الدين عند الله ،أو الإسلام المصحح لما شاب الفطرة من تحريف وجاهلية :الرسالة الخاتمة.وقبل بيان الختم في السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤى ،فلأعلل معنى الجمع بين البنية والمنطق من جهة أولى ،والتاريخ والصيرورة من جهة ثانية. 40 2
وهذا التعليل هو بيان لدلالة مفارقات الإسلام الذي ليس هو دينا ككل الأديان ،بل هو الديني فيها جميعا وهو في آن تفسير لعجز هيجل عن فهم منزلته بينها.وقد بينت في تقديمي لترجمة دروسه في فلسفة التاريخ بجزئيها حيرته امام منزلة الإسلام :فهو يذكره في أصنافها الإحدى عشر دون أن يجعله أحد الأصناف.وفي الحقيقة ،فقد اضطر فكر الغرب الحديث بعد التخلص من تعصب الكنيسة إلى اعتبار الإسلام دينا طبيعيا وعقلانيا وليس دينا منزلا وقائلا بالمعجزات.وهيجل نفسه لما اراد أن يصنف \"روحانية\" الإسلام اعتبرها \"تنوير الشرق\" وأقرب إلى \"إيديولوجية\" الثورة الفرنسية منه للأديان التوراتية والانجيلية.والتعصب الكنسي اعتبر الإسلام تحريفا للدين بمعيار النموذج الانجيلي عكسا لموقف الإسلام الذي اعتبر التوراة والإنجيل تحريفا للإسلام الفطري.وليس تبادل التهم هو ما يعنينا ،بل ما يفيده من أن رؤية الإسلام لمفهوم التحريف بالقياس إلى الفطرة هو الذي يؤسس لما سميناه الجمع بين الأسلوبين.وهو ما جعل فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر يعتبرون الإسلام دينا عقلانيا وطبيعيا بالمقارنة مع تخاريف المسيحية التي تركز نقدهم عليها.لكن ينبغي لكل مسلم أن يعترف بأن هذه الصورة المثلى للإسلام والتي يراها الأعمى في القرآن إذا كان ذا بصيرة ،أضاعها المفسرون بالعلوم الزائفة.فالتفسير بالأثر أفسد جل معاني القرآن بالإسرائيليات والخضوع للموجود والتخلي عن المنشود والتفسير \"بالعقل\" أفسدها بـ\"الهلنستيات\" وبنفس الخضوع.وبصورة أوضح ،فالتحريف الديني والتحريف الفلسفي الذين كانا مسيطرين على الشرق ،واللذين اراد القرآن تحرير البشرية منهما ،عادا فسيطرا على التفسير.والتفسير هو العلم الرئيس أو الارشيتاكتونيكي لذلك كان مصدر مصفوفة العلوم الزائفة التي سيطرت على ثورة الإسلام ،فردمتها في متردم الانحطاط. 40 3
ولولا ما في الإسلام من حيوية روحية لا تغلب ،لكانت الرسالة وثوراتها قد ضاعت ولما تمكنت دولة الإسلام وعقيدته من الانتشار والعنفوان الجارف.مفارقات الإسلام كلها ترد إلى هذا الجمع بين الأسلوبين ،ومن ثم إلى عسر مقارنته بالأديان الأخرى بما فيها ما يعتبره منها اسرته :الإبراهيمية.ذلك أنه لا يعتبر إبراهيميا فيها إلا ما أبقاه منها بعد تفكيكها ونقدها ليحررها من التحريف والجاهلية بمنطق التصديق والهيمنة لإظهار الديني فيها.والديني هو بالذات الجمع بين الديني والفلسفي ،أو بين حدي الإنسان من حيث هو المخاطب بالرسالة مستعمرا في الأرض بالعقل ،ومستخلفا فيها بالأخلاق.الديني وغايته الاستخلاف في الأرض ،والفلسفي وغايته الاستعمار في الأرض ،هما قطبا الإسلام نزولا من الله إلى الإنسان وصعودا من الإنسان إلى الله.وهذا هو قلب المعادلة الوجودية أو الوصل بين القطبين الله والإنسان مباشرة أو بتوسط الطبيعة والتاريخ وذلك هو مضمون فصلت 53أساس المعادلة.جوهر كل فروع الثورة الإسلامية هو المعادلة :الله الطبيعة التاريخ والإنسان والوصل بين القطبين الله والإنسان مباشرة أو بتوسط الطبيعة والتاريخ.والوصل هو التراسل بين الله والإنسان :فالنازل من الله رسالتان ،القرآن والوجود الطبيعي. والصاعد من الإنسان رسالتان الفلسفة والوجود التاريخي.فالدين يكون خاتما إذا كان في آن فلسفة صاعدة من الإنسان إلى الله .والفلسفة تكون خاتمة إذا كانت قراءة للنازل من الله إلى الإنسان نصه ووجوده.فالقرآن قراءة فلسفية للنازل من الله إلى الإنسان حديثا وحدثا ،وهو بذلك صاعد من الإنسان إلى الله حدثا وحديثا حوارا دائما بين الله وخليفته.لذلك فهو بالجوهر دين كوني :والكونية فيه ذات صيغتين :لكل أمة رسول بلسانها والرسالة الخاتمة لجميع الأمم بلسان قابل للترجمة لأنه نصي ودرامي. 40 4
فالقرآن ليس مكتوبا بالعربية وحدها قد لا تغني ترجمته ،بل هي مشاهد شبه سينمائية يفهمها الإنسان من حيث هو إنسان لمثول الأحداث في مشاهد درامية.وهذا يغري الجاهل بأساليب القرآن فيظنه تشبيهيا في حين أنه درامي يعرض الأفكار في شكل شخوص كما في المسرح والسينما حية تغني عن تملك العربية.القرآن نص .وهو في آن سيناريو لدراما مسرحية وسينمائية تجعل مضمون القول فعلا فيراه المتلقي في مشاهد قابلة للترجمة الفعلية المغنية عن اللسانية.لذلك فهو يقال بكل الألسن دون خوف من خيانة الترجمة .ذلك أن حضور الحدث في المشهد يغني عن الحديث إلا بالنسبة للمختص الذي يريد شرح الحدث.وتلك هي علة قول بعض المجتهدين -مع تفضيلهم المحافظة على لسان القرآن-أن ترجمته جائزة وأن الشعائر ممكنة بأي لغة بل وحتى المعنى دون المبنى.حيوية القرآن :لغته ثابتة ومنتشرة بين المؤمنين غير العرب ،ربما أكثر منها بين العرب الذين صاروا أميين دون أن تموت موت لغة الكتابين الآخرين.بقيت خمسة فصول لثورة الإسلام في الأنشطة-1:الإرادة أو السياسة -2المعرفة أو العلم -3القدرة أو الاقتصاد -4الحياة أو الفن -5الوجود أو الرؤى وفصل خاتم.وحينئذ سيرى الشباب أن الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي ليس منهم من هو مؤهل للكلام في ثورة الإسلام لأنهم يتصورونه مثل غيره من الأديان. الإسلام ليس دينا بين الأديان ،بل هو الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات .أي شروط الاستخلاف الخلقية وشروط الاستعمار المعرفية بأسلوبيهما. 40 5
نبدأ إذن بالمجال الأشمل في الأعيان (السياسة) ونختم بالمجال الاشمل في الأذهان (الرؤى) والأمل غاية عبارة الإرادة ،والثاني غاية عبارة الوجود.وبينهما نجد المجالات الثلاث الأخرى أي العلم (غاية عبارة النظر) والقدرة (غاية عبارة العمل) والحياة (غاية عبارة الذوق) :تلك هي مجالات الحضارة الخمسة.وقد حددها القرآن الكريم بترتيب آخر في سورة يوسف وعين مجالي تجليها أي الرؤيا (الاحلام) والفعل(التاريخ) :الذوق والرزق والعلم والحكم وبرهان الرب.وجعلها ابن خلدون في ترتيب آخر موضوع إبداعه العلمي وثورته التي تجاوزت الفلسفة العملية اليونانية :فأسس علوم الإنسان تأسيس أرسطو لعلوم الطبيعة.هذا الفصل اخصصه إذن لثورة الإسلام السياسية .لا تصدقوا أعداءه الذين يزعمون أنه ليس فيه نظرية دولة ولا نظرية حكم وما فيه غير مناسب لعصرنا.سأبين-ولست الأول فقبلي الغزالي وابن تيمية وابن خلدون -وما أنا إلا قارئ لما اغفله اصحاب الكاريكاتورين لإبداعهم في مجالات الأنشطة الخمسة.وحتى من كان صادق القصد وبريء النية في الكلام على السياسة في الإسلام بما يقرب من منطق أعدائه ،فإنه يمكن أن يعذر لأنه ينخدع بعلماء السلاطين.فهؤلاء مستعدون لتبرير حتى أفعال الشياطين حتى يرضى عنهما طواغيت السياسة في بلاد الإسلام، فيحللون ويحرمون بأمرهم رغم العلم بجهلهم وعمالتهم.ويكفيني تأليبا للخصوم ،لذلك فلن أطيل في هذا الكلام وأمر إلى المقصود بثورة الإسلام في السياسة باعتبارها تعبيرا عن الإرادة شرعيا كان أو غير شرعي.فحتى السياسي غير الشرعي يدعي أنه يعبر عن إرادة الجماعة التي يستعبدها ويستغلها ويتربب عليها مع تربب حاميه عليه كحال العبد إذ يتسيد على قومه. 40 6
علي أذن قبل التقدم في البحث ،أن أشرح أمرين :ما علاقة السياسة بالإرادة الفردية والجماعية؟ ولماذا يكذب غير الشرعي فيدعي تمثيل إرادة الجماعة؟المعلوم أني صنفت النخب بمعيار الصفة الغالبة على أفرادها :الصفات خمس ،وهي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .وعلم الكلام يعتبرها ذاتية لله.لكن الإنسان-كخليفة -له قبس منها وهو متناه وناقص .في حين أنها من حيث كونها ذاتية لله لا متناهية وتامة .مثلا :حياتنا مائتة .الله حي قيوم.وقس عليها بقية الصفات :علمنا نسبي وناقص .قدرتنا نسبية وناقصة .إرادتنا نسبية وناقصة. ووجودنا آفل وفان ،ولا يوجد إنسان مهما جهل لا يعلم أنه مائت.ولما كنت سأعرض ما اعتبره جوهر فلسفة السياسة القرآنية ،فإن كل تغريدة ستكون من درر القرآن الكريم كما أفهمها باجتهادي ،دون أن ادعي الإحاطة بها.كلنا يعلم أن ابن تيمية قد اعتمد في كلامه على السياسة الشرعية بعض آيات من النساء تتلق بأمرين: .1الحكم أمانة بيد الحاكم الذي هو خادم الأمة .2ثم ان وظيفته تحقيق العدل بشرطين :الأول الفصل في نزاعات الحقوق والمنازل بصورة كونية في الداخل والخارج (وحدة قيمية للقانون الوطني والدولي)وذلك هو الشرط الأول في العيش المشترك الذي يعتمد على التبادل بالتعاوض العادل والتواصي بالصبر ،ويعتمد على التواصل بالتصادق والتواصي بالحق.لكن محاولته ينقصها تحديد المؤسسات التي تحقق ذلك ،رغم أنها تمثل الأسس القيمية والخلقية لكل دولة تحقق وظيفتيها :حماية الجماعة ورعايتها.وتعلمون أن الغزالي قبله في حوار متخيل بين سني وباطني في فضائح الباطنية ،ب ّين أمرين كذلك: الشرعية أساسها الاختيار الحر لا الوصية والحق الإلهي. 40 7
لكن الشرعية لا تكفي ،وأن للشوكة شروطا أخرى وهي غير الغلبة ،لأنها مشروطة بالشرعية. ولذلك سماها المهابة وقاسها على دور الفاروق في حسم الخلاف.وأخيرا ،فإن الذي وصل إلى الجمع بين الغزالي وابن تيمية هو طبعا علامة الإسلام بلا منازع :ابن خلدون رغم تركيزه دور الشوكة أكثر من الشرعية.لكني وبكل تواضع ،اعتبر أنه لا بد من تجاوز محاولاتهم إلى ما تعذر عليهم الوصول إليه بسبب حالة الطوارئ والعلوم الزائفة اللذين سيطرا لقرون.وآمل أن يكون عملي محققا لقفل المخمس :فالقرآن الكريم هو المصدر .وثالوث فلاسفة النقد العرب هم المرجع .أما أنا فمجرد قارئ يفضح أعداء الإسلام.وأول شيء أبدأ به هو أن الدولة لا تعتمد على ثلاث سلط ،بل على خمس في الإسلام :الثلاث التقليدية ،مع السلطتين الأصليتين ،إرادة الجماعة أصلا ورقابة.فالثلاث التقليدية-التشريع والقضاء والتنفيذ-ليست إلا لإدارة الشأن العام ،لكن الدستور يعطي شرعية أعلى لسلطتين تعملان دائما :الاختيار والمراقبة.وهاتان السلطتان كان لهما رمزان يمثلانهما :هيئة الترشيح والانتخاب ،أو أهل الحل والعقد لإضفاء الشرعية .والحسبة على احترام الدستور للمراقبة.صحيح أن هاتين السلطتين ضعفتا بسبب الانحطاط .لكنهما ليستا الوحيدتين اللتين ضعفتا وكادتا تندثران :فالطواغيت حصروا الثلاث في استبداد نزواتهم.وحتى يفهم الجميع قصدي ،فأنا لست بصدد وصف الأمر الواقع ،بل ما يوجد في الدستور القرآني وفي ممارسة الراشدين على الأقل .ويوجد رمز جامع هو المسجد.فالمراقبة الدائمة لإدارة الشأن العام تعتبر نصف الدين كما تبين خطبة الجمعة التي تنقسم إلى جزئين :تعبدي لله ،ومعاملاتي لمناقشة تطبيق شريعته.وأهل الحل والعقد للترشيح ولإدارة الانتخاب أو البيعة-لجنة مستقلة للانتخابات -ليست مؤسسة موسمية ،بل هي دائمة الفعل ومحلها المسجد حيث يلتقون. 40 8
وطبيعي ألا يفهم العلماني اليعقوبي أو الماركسي هذه الشرعية القائمة دائما وغير الظرفية .فمن لا يرى أزمة السياسة الحالية ،لن يفهم ثورة الإسلام.لا يفهمون أن فلاسفة السياسة في الغرب بدأوا يدركون أزمة السياسة لديهم ويحاولون العودة إلى شروط الديموقراطية المباشرة وأساس ممارستها الخلقي.ورغم الاختلاف بين الأمر الواقع في سياسة المسلمين ،فإنه لم يكن مطلق المعارضة مع الامر الواجب ولو شكليا :فما ذكرته بقي على الأقل شكليا.ويكفي القاء نظرة على مصنفات الأحكام السلطانية ،وخاصة على التقسيم النهائي في عهد ابن خلدون لمؤسسات الدولة بين الخلافة والسلطنة :في المقدمة.لكن الأهم من ذلك هو المفهوم الثوري للدولة :فهي ليست مقصورة على الحكم بالمعنى التقليدي ،بل هي تشمل الحماية والرعاية .وقد بينهما ابن خلدون.فهو أولا بين أمرين ثوريين هما شرط العدل في نظره .وكلتاهما ثورة في النظرية الاقتصادية :أولا تعريف القيمة ومعايير العدل ،وثانيا منع تأميم الاقتصاد.فأما الثورة الأولى فتتمثل في-1:قيم البضائع والخدمات تقدر بالعمل الضروري لإنتجاها-2.عدل التعاوض شرطه استقلال صك العملة المكاييل والموازين.وإذن فالسياسة ليست حكما فحسب ،بل هي أيضا سياسة اقتصادية وعدل اجتماعي ومن هنا تحريم السخرة والاحتكار وتدخل الدولة في الاسعار والأسواق.وأكثر من ذلك ،فهو أول من وضع مبدأ ثوري يتمثل في وصل مالية الدولة بالسياسة الجبائية التي تكون الأجدى كلما قل الضغط الجبائي بخلاف بادئ الراي.وكل هذه المبادئ ليست من اختراعه ،بل هو يستوحيها من القرآن الكريم بصريح قوله .إذ هو دائما يردف النظرية السند القرآني كما بين صاحب بدائع السلك.ففي كتابه بدائع السلك في طبائع الملك ،بيّن العالم الأندلسي المهاجر للقدس كيف أن المقدمة تتألف من عشرين قاعدة عقلية مناظرة لمثلها بمرجع نقلي. 40 9
لن أنسب لنفسي أكثر مما أسهمت به في إعادة صوغ التقسيم الخلدوني لوظائف الدولة وتصنيفها المنطقي على أن أعترف بأنه هو المصدر الحقيقي للمضمون.فوظائف الدولة جنسان .لكل منهما خمسة أصناف :الحماية الداخلية وهي القضاء والأمن أو الداخلية والحماية الخارجية وهي الدبلوماسية والدفاع .لها أصل.فأصل هذه الوظائف الاربع أصل معرفي هو الاستعلام والإعلام السياسيين .أي إنها لا تعمل من دون معلومات حول الداخل والخارج تمكن الدولة من تحقيقها.أما وظيفة الرعاية ،فهي مؤلفة من رعاية التكوين اي التربية النظامية في المدرسة والتربية المجتمعية ورعاية التموين أي الثقافة والاقتصاد.والأصل معرفي كذلك .وهو البحث العلمي والإعلام العلمي ،وهما اساس إبداع شروط الرعاية والحماية في آن لأنهما شرط السلطان على الطبيعة والتاريخ.والأهم من ذلك كله هو اكتشاف مفهوم الحصانة وشرط السيادة في كل جماعة مؤلفة من مواطنين أحرار :وهو مفهوم ديني وفلسفي يؤسس لمادة العمران وصورته.فالحصانة روحية ومادية :والدين وعلومه يحقق الروحية للاستخلاف والفلسفة وعلومها تحقق المادية للاستعمار .ولا فصل بينهما أوبين السياسة والدين. فمن لا يعتقد بعد ذلك أن للإسلام نظرية ثورية في الدولة والسياسة وعلاقتها بالدين وعلومه وبالفلسفة وعلومها ،إما غبي أو دني .وتلك حال أعدائه. 40 10
الفصل الثالث يكاد ينحصر في أهم موضوعات رسالتي في الدكتوراه بنظامها الفرنسي القديم .وهي مؤلفة من جزئين :اساسي منزلة الكلي ،وتكميلي إصلاح العقل.ومدار الجزئين المسألة المعرفية والعلم النظري والعملي .لذلك كان دور ابن تيمية وابن خلدون محور الجزء التكميلي بالمقارنة مع أفلاطون وأرسطو.بعبارة وجيزة :مداره ما حدث في تاريخ العقل الإنساني خلال الحقبة الاسلامية من ثورة مكنت من تجاوز كيفي للفكر اليوناني .وهذا موضوع الفصل الثالث.وهو في آن ولكن بصورة غير صريحة ،لأني قمت بعمل أكاديمي دون قصد الدفاع ضد ما قاله هيجل بأن الحقبة الإسلامية لم تضف شيئا للإبداع الفلسفي.لم أرد في الرسالة أن أدخل في نزاع يعسر أن يتقبله الرأي العام الأكاديمي بين العرب :من يكون أبو يعرب حتى يسفه هيجل في رؤيته لتطور الفلسفة؟ورغم \"غرامي\" بهيجل في شبابي ،تبين لي في بداية الكهولة أن الرجل-والامر ليس متعلقا بالتشكيك في أمانته-يجهل الحضارة الإسلامية وتطورها الفلسفي.وفضلا عن \"من أبو يعرب حتى يجادل هيجل\" تأتي إشكالية :كيف له اقحام ابن تيمية حتى لو سلمنا له بقابلية إقحام ابن خلدون في رسالة فلسفية حول الكلي؟لا أنوي الكلام في ذلك ،إذ هو سيزيد متهمي بالتعسير كثيرا من الحجج وخاصة بعد أن أصبحت الجرأة من أرباع المثقفين تتكلم على \"تهافتي\" الفلسفي.ومع ذلك ومهما فعلت ،لن أستطيع تجنب التعقيد والعسر الذي لا ذنب لي فيه إلا لدى من كما أسلفت يتصور طلب الحقيقة يصح عليها قول الجاحظ عن المعاني.لا شيء في نظرية العلم النظري والعملي مرمي على حافة الطرق .بل هي تعالج أهم مغلقات الفكر الإنساني بشكليه الأرقيين :الرياضيات والفلسفيات. 40 11
وذلك هو المعنى الأسمى للشعر :إنه رياضي بأشكاله الموسيقية والرسمية ،وفلسفي بحقائقه المضمونية وجودا ووجدانا .ومن لا يحدس ذلك فلا يدخلن علينا.وإذن فاختياري ابن خلدون وخاصة ابن تيمية يكاد يفيد بأني كنت محاميا غير ذكي للدفاع عن قضية تبدو خاسرة من البداية :بيان تجاوز فلسفة يونان؟أو بعبارة لم أذكرها في الرسالة :بيان خطأ هيجل .إذ قال إن المرحلة الإسلامية لم تضف شيئا يستحق الذكر في تاريخ الفلسفة .تحديان :هيجل وابن تيمية.\"الأذكياء\" من كاريكاتور الحداثة كانوا يتصورون أن أفضل طريقة للدلالة على دور الفلسفة العربية هي التباهي بما ينسبونه لابن رشد .وهذه محسومة.ففي رسالة تشبه الماجستير أعددتها في باريس ،خرجت بنتيجة هي أن المبدع ليس الشارح الأكبر صاحب تهافت التهافت ،بل الإمام الاكبر صاحب التهافت.وكدت أعد \"منبوذ\" \"فلاسفة\" العرب \"انتوشابل\" بالمعنى الهندي ،لولا أن فضحت هذيانهم المعتمد على بلوخ :ابن رشد واليسار الأرسطي قياسا على الهيجلي.ما يهمني هنا :ما الثورة الفلسفية التي تجاوزت اليونان عند ابن تيمية في فلسفة النظر ،وعند ابن خلدون في فلسفة العمل ،ونواتهما عند حجة الإسلام؟اقدمت على هذه المغامرة لأني قبلها بعشر سنوات أثبت في رسالة الحلقة الثالثة (نظيرة البي ايتش دي) دور الرياضيات ومنزلتها في فلسفة ارسطو.ولا معنى للكلام على تجاوز اليونان دون شرطين :التمكن من علومها أكاديميا ،والقدرة على بيان استحالة فهم طفرة الحداثة من دون فلسفتنا النقدية.وكان يكفيني لغايتي فأثبت خياري ،رغم عسره ،دليل نجاح في المغامرة أن ابين أن ابن تيمية في النظر وابن خلدون في العمل تجاوزا رمزي فلسفة يونان.وهذا ما سأبينه بإيجاز في هذه المحاولة ،علاج مسألتين اثنتين لا غير .ما التغير الذي أحدثاه-1:في نظرية المعرفة و-2وفي نظرية الوجود للتجاوز؟ 40 12
هل تحقق تغير كيفي في الابستمولوجيا وفي الأنطولوجيا؟ أم إن هذين بقيا كما كانا عند اليونان، فيصح ما قاله هيجل عن صفرية المرحلة الإسلامية؟وقبل ذلك ،هل يمكن وصل الفهم الجديد في الفلسفة والعلم الطبيعي (ديكارت وجاليلي) مباشرة بالفلسفة اليونانية دون الكثير من الاصطناع لتاريخهما؟رؤية ديكارت للفن المؤسس للفلسفة لا يقبل التسمية بالميتافيزيقا بالمعنى الأرسطي والأفلاطوني. جوابي ينفي ذلك ،بل هو أولى باسم المتاأخلاق.فديكارت يقول صراحة أن إثبات وجود الله أيسر من اثبات وجود العالم .لذلك فهو يؤسس نظامه العلمي كله على الضمانة الإلهية وليس على قوانين الطبيعة.وديكارت على عبقريته لم يكن خالي الذهن بضرورة هذا الاصطناع لتحريف تاريخ الفلسفة والعلم لأنه أعلن عن ضرورة تخليص للرياضيات من مفهوم الجبر.وجاليلي كذلك رغم عبقريته لم يكن أول من قال إن الطبيعة تتكلم لغة رياضية .فالرياضيات لم تكن لغة عند اليونان حتى وإن استعملوها لهذا الغرض.اعتبار الرياضيات لغة العلم تفيد أمرين-1:بنية الطبيعة رياضية -2اكتشاف البنية بحاجة إلى التجريبية وليس معطى كحال العبارة اللغوية عن المعاني.وهذان المعنيان من بديهيات الفهم القرآني للعالم ولمعرفته الإنسانية عن طريق الصوغ الرياضي والعقلي لمعطيات لا ننفذ إليها إلا بالتجربة الحسية.بعبارة وجيزة لا يكفي فيها المنهج الجدلي سواء كان أفلاطونيا أو أرسطيا ،لأن من يتحقق فيه شرط التناسق المنطقي ليس بالضرورة ما تؤيده التجربة.ولا يمكن الوصول إلى هذه القناعة من دون ثورة حققها الفكر المجانس لفكر ابن تيمية في نقد المعرفة المستندة إلى الجدل والمنطق المجردين دون تجريب.والتجريب المقصود ليس الملح التي تأتي من استعراض سطحيات الملاحظة لبعض الظاهرات الحاصلة، بل هو التجربة القصدية لامتحان الفرضيات العلمية. 40 13
وهي مثل محاولات ابن الهيثم في المناظر مجودي تطبيق الرياضيات على معطيات التجربة القصدية في الفلك ومسح الارض والجبر على الفرائض مثلا.صحيح أن التواصل بين الحقبتين موجود .لكن التغير النوعي هو الغالب :وهو التجريب القصدي لامتحان فرضيات علمية بدل تجميع عموميات في جدل كلامي منطقي.فكان المنطلق التساؤل عن دور المنطق في المعرفة العلمية لتجاوز الجدل الكلامي نحو علم يتألف من مقدرات ذهنية مطبقة على معطيات تجريبية :ابن تيمية.ثم إن ديكارت يعتبر القوانين الرياضية والمنطقية ليس لها بذاتها أدنى ضرورة ،بل هي خيارات أو تشريعات إلهية غيرها ممكن عقلا رأينا العلاقة.وهذا مما لا يمكن تصوره في الفكر الفلسفي والعلمي اليوناني .وأقصى ما يمكن افتراضه أنه رؤية دينية لكن صوغها الفلسفي كان غزاليا :تنسيب السببية.وقوله بالعناية المستمرة ،وحتى بالخلق المستمر ،بخلاف لايبنتس (العالم ساعة عدلت مرة واحدة وغنية عن عناية مستمرة) كان الأكازايناليسم الأشعري.وما يعنيني هو تحول هذه الأفكار على مبادئ فلسفية وليست مجرد عقائد دينية :وهذا هو ما اعتبره تحولا فلسفيا كيفيا لم يصغ صراحة قبل الغزالي.أعمال الغزالي الفلسفية الرئيسية ترجمت إلى اللاتينية قبل اعمال ابن رشد لاعتماد رجال الدين المسيحيين عليها في الرد على الرشدية اللاتينية.ترجم منطقه ومقاصده وتهافته فضلا عن أثر الفكر الصوفي المتفلسف في الأفلاطونية المحدثة اللاتينية وهي الطريق إلى الافلاطونية بديلا من الأرسطية.وكان لمن سماه ابن تيمية \"غزالي اليهود\" أعني ابن ميمون وكتابه دليل الحائرين دورا في نشر فكر الغزالي (القرن )12وردوده على الفلاسفة.فالصوغ الفلسفي لبعض المبادئ التي يدين بها إلى الدين إسلامية .ففكر حضارته صار المعيار والنموذج رغم تأخره زمانيا عن الدينين المنزلين الآخرين. 40 14
دور ابن تيمية في ثورة النظر ودور ابن خلدون في فلسفة العمل تشتركان في القفزة النوعية ابستمولوجيا (نظرية العلم) وأنطولوجيا (نظرية الوجود).لكن ينبغي الاعتراف بأنه ليس لدينا من يثبت نقليا -أي النصوص المحددة-أنهما أثرتا فعليا فيما يماثلها في الغرب الحديث بعد النهضة الغربية.لكني مع ذلك أملك بعض العلامات والمؤشرات التي تبين أن تأثير الثقافة الفلسفية العربية من غير تيار الفلاسفة المعروفين قد كان لها وجود مؤثر.وكان هذا التأثير منتسبا إلى ما له صلة بالثورة الدينية في المسيحية ذات علاقة بمدخلي الفكر الإسلامي إليها بتوسط الأندلس بداية والبلقان غاية.هذا فضلا عن الصلة المباشرة بفضل الحضور الصليبي في الشرق .فالثابت أن السوسيانسم له صلة بالاعتزال والأشعرية وبفكرهما الإبستمولوجي والأنطولوجي.والمهم أن فكرا غير فلسفي بالمعنى المدرسي لكنه فلسفي بمعنى ثوري ،تجاوز الفكر اليوناني كما سأبين هنا مثل نقلة نوعية في التحرر من جمود نظرته.وهذا الفكر غير التقليدي حاضر عند ابن تيمية في النظر وابن خلدون في العمل ،بصورة ناضجة ونسقية في مجالي نظرية المعرفة ونظرية الوجود .فما هو؟خصصت عديد الفصول للأمر وخصصت جزاء كاملا ذيلت به ترجمة المثالية الألمانية لبيان دور المدرسة النقدية .فلأوجز ذلك فيما بقي من هذا الفصل الثالث.فابن تيمية غير نظرية المعرفة بأن بين أنها اجتهادية وليس مبنية على المطابقة لأن كل تصور وراءه تصور أدق وأفضل إلى غير غاية ولا علم إلا بالشاهد.وما عداه علم مقدرات ذهنية أو معتقدات .وهما الوحيدان اللذان يمكن القول بأن العلم الكلي فيهما ممكن .أما علم الشاهد فهو تجريبي وتقريبي دائما.والعلة هي أن الوجود لا يحيط به الإدراك لما فيه من الغيب المحجوب .فيكون العلم أحد أدوات الإنسان الاجتهادية ،وهو نسبي للغرض منه :براجماتي. 40 15
والعلم الكلي مقصور على المقدرات الذهنية لأنها ليست علما للموجود ،بل هي إيجاد لمقدر وعلم به من حيث هو مقدر ذهني يستعمل نموذجا لعلم الموجود.فلكأنه بنية منظومة من الخانات الخاوية تملأ بمضمون تجريبي عند التطبيق فتكون صوغا فرضيا للموضوع الموجود في الأعيان دون مطابقة مطلقة معه.والحصيلة أن الرياضيات والمنطق من حيث هما خانات خاوية ،علمان أداتان في علوم الطبيعة والتاريخ لكن هذين النوعين من العلوم إحصائيان دائما.فلا تناهي التقارب بين النموذج الصوري والمضمون المادي للمعرفة يجعل المطابقة التامة ممتنعة ،ومن ثم فكل علم اجتهادي بالجوهر ولا إطلاق فيه.وكل هذه المبادئ يقول بها ابن خلدون ويصوغها في عبارة وجيزة وحيدة هي أن الوجود أوسع من الإدراك ومن ثم فهو لا يحيط به أبدا :نفي للمتافيزيقا.لكن الأهم في ثورة ابن خلدون الذي كان تأسيسه لعلوم الإنسان مجانسا لتأسيس أرسطو لعلوم الطبيعة هو أنه وضع أساسين لهذا التأسيس شرطهما تجاوزه.فأرسطو ينفي إمكانية علم التاريخ لأنه علم الفردي والجزئي ،في حين أنه لا علم إلا للكلي. والحقيقة الفلسفية عند أرسطو لا تاريخية بالجوهر والفعل.والتأسيس الخلدوني لعلوم الإنسان له شرطان-1:التاريخ قابل للعلم بوصفه علم تمحيص الخبر عن العمران والاجتماع -2الحقيقة الفلسفية تاريخية أيضا.فالتاريخ بما هو نقد للخبر عن العمران والاجتماع ،علم فلسفي .والفلسفة بما هي تراكم الخبرة، علم تاريخي نقدي لتاريخية الخبر عن الطبيعة والتاريخ.العلم في الحالتين سواء كان موضوعه الطبائع أو الشرائع نقد للخبر عن الخبرة الحاصلة للإنسان عنهما خلال تعامله معهما في استعماره للأرض والكون. تلك هي الثورة في مجال النشاط المعرفي أو العلم ،سواء كان الموضوع طبيعيا أو تاريخيا بوصفه منتسبا إلى الوصل في المعادلة الوجودية التي حددنا. 40 16
سأترك قلب مخمس الأنشطة ،أعني القدرة التي تتعين في الإنتاج المادي أو الاقتصاد لأعود إليه بعد أن أدرس النشاطين المواليين كما درست المتقدمين.سأدرس الوجود أو الرؤى الدينية والفلسفية المناظرة في الأعيان للإرادة أو السياسة في الأذهان. وكذلك الحياة أو الفنون الناظرة للعقل والعلوم.فالعقل والعلوم هما أداة الإنسان لكشف أسرار الوجود الطبيعي والتاريخي في الأعيان (الآفاق). والحياة والفنون هما أداته لكشف أسرارهما في الأذهان.فما بين ما في الأعيان من الكيان وفي الأذهان من الوجدان هما مقوما كل إنسان بوصفه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها .فهو من الطبيعة والتاريخ وفوقهما.وكيانه البدني هو المعبد الأسمى الذي بناه الرب في الرمزية القرآنية .إنها مرآته ذات وجهين :في أحدهما ينعكس ما في الأعيان ،وفي الثاني ما في الأذهان.وهذه المرآة التي لها وجها جانوس ،تمثل مادة الإنسان الطبيعية المتشكلة بصورته الثقافية ،ومن ثم فهي لا تقوم إلا بالإنتاجين المادي والرمزي.والإنتاج الرمزي شرط إمكان للإنتاج المادي (السياسة والعلوم والفنون والرؤى) .والإنتاج المادي شرط حصول للإنتاج الرمزي :علاقة العمران بالاجتماع.قدمت الإرادة والعقل وسأقدم الأخيرين الحياة والوجود لتكون القدرة موضوع الفصل الأخير، حصيلة معقدة لما قدمت وأخرت :تلك هي منزلة القدرة في القرآن.وفي ذلك جواب عن حيرتين :فاعلية الإسلام ،وتتعلق بحيويته والفاتحة .وتاريخية وكونية الإسلام وتتعلق بشمول البشرية والكون كله مجالا لتمدد دولته.والظاهرتان أدركهما هيجل وظنهما دالين على ميزتين-1:عبادة المجرد وغير المتعين -2الوحدة العضوية بين الديني والسياسي .وابن خلدون يوافقه عليهما. 40 17
ولو عاش هيجل إلى يومنا ،لما أول الخاصيتين التأويل السلبي الذي مال إليه أثرا خافتا لتعصب الكنسية الوسيطة ،ولفهم أنهما عين مستقبل الإنسانية.فالإنسانية بالعولمة المادية مجال واحد يمتد إلى الكون كله وليس مقصورا على المعمورة فضلا عن الدول المتلاصقة .وتحتاج لعولمة خلقية وروحية.هيجل القائل بموت الإله ونهاية التاريخ محكمة الرب الأسمى تعريضا بيوم الدين ونفيا لما وراء العالم ،كذبه التاريخ وكذب زعمه أن الإسلام خرج منه.فالله لم يمت والتاريخ ليس الحكم النهائي واليوم الآخر شرط العدل والإسلام عاد إلى تاريخ عودة لعلها ستكون أحسن خلف لأفضل سلف في نشأته الأولى.ومن تناظر الوظيفة بين العقل والوجدان رغم اختلاف الميدان ،استمددنا تحويرا في خطة الكلام على ثورة الإسلام لنعود من المجال الخامس إلى الرابع.الخامس الوجود أو الرؤى وصيغها الدينية والفلسفية يناظر الأول أو الإرادة وتعينها السياسي وصيغها الدينية والفلسفية في كل حضارة بلغت الكونية.والثاني العقل أو العلوم وتعيناتها الابستمولوجية والتكنولوجية يناظر الرابع الحياة أو الفنون وتعيناتها الذوقية والسلوكية في أي حضارة ذات كونية.وبذلك تتحدد نظرية القدرة التي هي فاعلية القيم بوجهيها المادي والروحي :فالإنتاج المادي ليس هو كفاعلية وسلوك إلا ثمرات الأربع مؤشرها الأدق.ففيه تظهر كل فضائل الإنسان وعيوبه وكل أخياره وشروره .وفيه يعسر تحرير الإنسان من الحيوان الذي يسيطر عليه لعلاقة ذلك بقيامه المادي والرمزي.وأفضل رموز تعبر عن هذا الدور الخطير للقدرة المتعينة في الاقتصاد رمزان قرآنيان :روحي وقانوني .فروحيا عبادة العجل ،وجنائيا عقوبة المس بالملكية.وإذن ،فتغييري خطة العرض قصده بيان جوهر فلسفة القرآن المحددة للعلاقة بين عالمي الشهادة والغيب أو بين الدنيا والآخرة من خلال عمق هذه العلاقة. 40 18
فلسفة الاقتصاد بوصفها ثمرة فلسفة السياسية والعلم والفن والرؤى وعلامة صلاحها أو طلاحها هي مميز المرجعية القرآنية الأساسي في معاني الإنسانية.وهي اليوم أفضل علامة على الانحطاط الذي يعاني منه المسلمون بسبب عدم فهمها أو بسبب عدم العمل بها أو لعله بسببهما معا .وهو قصور غير مفهوم.وإذن فسنعود من آخر مجال إلى المجال قبل الأخير حتى نجمع بين الأول والثاني والرابع والخامس فنتمكن من تحليل الثالث الذي هو قلب المعادلة كلها.بيان الثورة في الوجود أو الرؤى الدينية والفلسفية هو إذن موضوع هذا الفصل الرابع وهو أعسر حتى من فصل الإرادة أو الأنظمة السياسية والدولة.فالإرادة أو الانظمة السياسية والدولة هي صورة كيان الجماعة المادي ،والوجود أو الأنظمة الروحية والمرجعية هي صورة كيان الجماعة الروحي :وجها القيام.وحتى نيسر توضيح العلاقة ،فكيان الجماعة بوجهيه يجانس كيان الفرد بوجهيه :الوجه الأول هو البدن والوجه الثانية هو الروح .ووحدة الوجهين هي الأمة.والقارئ يستطيع أن يتابع التحليل إذا انطلق من هذه التعريفات المستمدة من فلسفة القرآن أو من بيان نسقه العميق الذي عينت فصلت 53الطريق إليه.فالقرآن قد يبدو لمن يقرأه قراءة عوراء يبدو نصا فوضويا يغلب عليه التكرار السطحي بين مشاهده وتحليلاته فلا يرى نظامه الخفي للأنصاف التيمية.لكن فصلت 53دلتنا على المنهج الذي يمكننا من الغوص في أعماقه ،غوصنا في علم الطبيعة التي تبدو لعين الغافلين فوضوية ويغلب على سطحها التكرار.فالآية تدلنا على أن حقيقة القرآن-أي طبيعته العميقة-يرينها الله في آيات الآفاق والأنفس وليس في نصه :النظر في قوانين الآفاق وسنن الأنفس.لكن جل البحوث ابتذلت حكمة القرآن فزيفت معانيه بانتهاج اسلوب القراءات المذهبية التي تجتزئ القرآن ففتته ولم تنفذ لنظاميه الشكلي والمضموني. 40 19
ولهذه العلة ،فأفضل مدخل لهذا الموضوع هو البدء بعلاج هذه المذهبة للنص القرآني الذي جعل كل مذهب يبحث عن تأسيس إيديولوجيته بانتخاب ما يناسبها.ذلك أن القرآن الكريم لا يفيد بما هو رسالة خاتمة بآياته بعد تفتيت وحدته -حتى باعتبار التنجيم- بل بنظامه الكامل أو بوحدته البنيوية التامة.وهذا ما قصده ابن رشد ومن بعده ابن تيمية بالقول إن القرآن يفسر نفسه أو أنه لا يمكن أن يقرأ قراءة مذهبية تنتخب ما يناسب إيديولوجية أصحابها.وبهذا المعنى ،فكل المذاهب لمجرد هذا الموقف الانتخابي والتجزيء إيديولوجية وكلها تكفيرية، ولعل أقلها تكفيرا هو من يتهم بكونه أكثرها تكفيرا.فالمذهب الحنبلي ،وخاصة المحدث أي التيمية ،والذي صار يختصر في الوهابية -وشتان بين الأول والثاني-هو الوحيد الذي يحاول قراءة القرآن كوحدة بنيوية.ولعله هذا النهج هو العنصر المهم الوحيد الذي كان فيه ابن تيمية تلميذ ابن رشد رغم علم قرائي أني لست من المعجبين بابن رشد إلا في هذه المسألة.وهي مسالة منهجية وليست مضمونية :فابن رشد هنا يطبق المنهج الفلسفي الذي لا يفصل الجزء عن الكل فلا يحول القرآن إلى تجريدة من الحكم الشعبية.وكم أمقت عياط الدعاة الجدد وزياطهم وتباكيهم المنافق الذي هو دعوة للتمويل الخفي المهدم للإسلام :جعل القرآن حكم شعبية مبتذلة لتخويف العامة.ولست غافلا عن كون هذا الكلام سيضاعف عدة الخصوم وعديدهم :لكني لا أبالي .ذلك أن طلب الفهم المستقل له كلفة .وأنا أحمد الله وأشكره مستعد لها.فما تحملته وأمامي مقبل العمر لن يخيفني وأنا في مدبره .والنتيجة كما يعلم الكثير ممن لهم دراية بأعمالي ،ليست مما يمكن أن يكون مصدرا للندم.فما الرؤى التي تواصل تحريف القرآن الباطني الذي يدعي التفلسف والخطابي في الدعوات؟ فلأصنفها نسقيا ،لأمر إلى تحديد الثوري في رؤية الإسلام. 40 20
فقديمهم الذي تجدد حدده الغزالي في فضائح الباطنية :حلف عقدي متفلسف ومتصوف ب ّين حقيقته العميقة ويتمثل في رؤية فولتيرية للدين بمعنى حديث.بيّن الغزالي أن الباطنية لا تعتبر القرآن إ ّلا مجدر ظاهر حقيقته هي معتقداتهم المزعومة فلسفية والتي تستعمل الإسلام أداة سياسية لحكم الجاهلين.إنها الباطنية او أساسها كذبة الأئمة المعصومين الذين يدركون باطن النص ويستعملونه لضرب الفهم السني الذي وضع مناهج تحرر من تأويله التحكمي.ورفض المناهج العلمية التي تحرر من التأويل التحكمي يؤسس إرهاب الباطنية الرمز ويسنده إرهاب القرمطية والحشاشية المادي .وقد عادا من جديد.استغلت الصليبية الأولى والمغولية الشرقية هذين المدخلين لضرب السنة سابقا والصليبية الثانية والمغولية الغربية الحديثتين تستغلهما لنفس الغاية.لكن الاستغلال الحالي أضاف عاملين آخرين لم يكن لهما وجود في الماضي :الأنظمة العميلة الممولة لهما ومليشيات السيف والقلم العربية في خدمتهما.وإذن فالإسلام منذ نشأته الأولى إلى اليوم ،ما يزال في مقاومة لبقايا ما تقدم عليه من فنيات استعباد الإنسان في الإمبراطوريتين وما تأخر عن ظهوره.ومجرد صموده وازدياد عنفوانه وانتشاره من علامات انتصاره الحتمي ،لأن أعداءه كلما تكاثروا في الداخل والخارج كلما تبين غثاؤهم وقلة حيلتهم ضده.وكان ينبغي أن أضيف عاملا يبدو جديدا أعني دور إسرائيل والمليشيات العربية التي تخدمها بالقلم والمال .لكن الجدة هي في التعين المادي للدور.فدور بني إسرائيل وميلشياتها العربية بالقلم والمال ليس جديدا إلافي الظاهر :كان التغلغل اليهودي ملازما لحضارة الإسلام ملازمته لكل حضارة سادت.ولفهم هذه الملازمة فلنعلم أن الفيروسات تستمد معاشها وقوتها من قوة الكائنات التي تعيش فيها وتتطفل عليها :من مصر الفرعونية إلى أمريكا حاليا. 40 21
وهنا سأفتح قوسين يتعلقان بهذه الظاهرة وبأثر عدم فهمي إياها بسبب السذاجة القومية في شبابي. كنت أعجب من حضور بني إسرائيل الطاغي في القرآن.لم أفهم في شبابي أنه حضور مقابل تماما لحضورهم في الحضارة الغربية الحالية .فهذا دليل سطوتهم وذاك دليل تحرير الإنسانية من سطوتهم الرمزية.تميز أفاضلهم فتسميهم مسلمين-الانبياء-وتجعل عداوة الباقي منهم رمز التحريف فتقلب فاعلية الفيروس ليهدم نفسه بدلا من أن يمتص دمك في غياب وعيك.وبذلك يكون القرآن قد وجد حلا لعلاج التطفل الفيروسي في الحضارة .فكان أول محاولة ناجحة في تعطيل السلطان الرمزي الذي كان شبه مقصور عليهم.لذلك فحضور بني إسرائيل في القرآن هو حضور \"المثال الضديد\" مما ينبغي أن يكون عليه الوجود الإنساني المتحرر من عبادة العجل وما يسميه ابن خلدون بالخرج.وهما ما به يسيطر بنو إسرائيل على أي حضارة سادت في المعلوم من التاريخ من مصر الفرعونية إلى بابل إلى روسيا إلى ألمانيا إلى أمريكا حاليا.فاطمأنت نفسي لحضور بني إسرائيل في القرآن وتخلصت من القومية لأني أدركت كونية القرآن: فهو لا يعادي لعلة عنصرية بل يقاوم الشر لعلة خلقية.وهذه أولى ثوراته الوجودية :فهو رسالة كونية بمنطق النساء 1والحجرات 13وبمنهج التصديق والهيمنة :يطلب الحقيقة ويصادق من يطلبها من أي قوم.فإذا ميز أفاضل قوم عرفوا بعبادة العجل وبالخرج فذلك أكبر دليل على الكونية المطلقة التي لا تستثني أحدا ممن يطلب الحقيقة وخاصة بين من يعاديها.فيم تتمثل ثورة الرؤى المتفرعة عن النساء 1والحجرات 13علتي كونية رسالة تخاطب جميع الأحرار (المكلفين) دون تمييز عرقي أو طبقي أو جنسي؟الجواب المفصل هو كل ما ورد في كلامنا على الإرادة والعقل وكل ما سيرد في الحياة والقدرة لأنه هو حصيلة جملتها المتعالية عليها .ولنوجزها بسرعة. 40 22
فالنساء 1ثورة كونية تؤسس لباقي فروعها في المرجعية الإسلامية :التمييز بين رحمين كوني وجزئي، وبين مفهومين للكائن الأسمى الرب والله مع الوصل.فالخطاب موجه إلى الناس وليس إلى المسلمين كأمة من بين الأمم ،لأن الرسالة الخاتمة موجهة للإنسان من حيث هو إنسان حر أي قابل للتكليف بالخلافة.وهي تعلمهم أنهم كلهم أخوة :من نفس واحدة .وهو الرحم الكلي ويناظره مفهوم الربوبية لأن الأخوة الإنسانية ليست اختيارية ،بل هي مقوم وجودي أصيل.والرحم الكوني والمربوبية المضطرة رغم كونها من مقومات الكيان في الأخوة الإنسانية ،تأثيرها في التاريخ الفعلي يبقى دون الرحم الجزئي والآلهية.فجمع القرآن بينهما ووضع نظاما روحيا(الرؤى) ونظاما ماديا (السياسات) يمكن من جعل الرحم الجزئي والمألوهية يرتفع فيطابق الرحم الكلي والمربوبية.وتلك هي ثورته الكبرى :فالبشر اخوة ،وتعدد الأديان وتعايشها شرط التسابق في الخيرات لأن الغاية هي الوصول إلى الإسلام الذي هو الدين عند الله.فيتلو عن النساء 1حتما النتيجة المكملة :الحجرات .13الخطاب للناس .دون تمييز عرقي أو طبقي أو ديني أو جنسي :منزلة الإنسان تحددها التقوى لا غير.وشرط هذا الحصر أن تكون غاية الخلق عبادة الله دون سواه (شرط الحرية من الأوثان كلها) وشرط الشرط أن يكون التعدد هادفا للتعارف معرفة ومعروفا.والمعرفة علم وعقل .والمعروف أخلاق ووجدان .وبذلك نجد أن الثورة المرجعية مبنية على العلم والأخلاق وهما شرط التعايش السلمي بين البشر الأحرار. ثورة الإسلام المرجعية أو الرؤيوية التي تتمثل في مستوى الصورة الروحية في الأذهان ما يناظر الصورة المادية في الأعيان أي ثورة الإسلام السياسية. 40 23
المجال الذي يبدو الكلام عليه شبه مستحيل هو التعبير عن الحياة أو الفنون والذوق لفرط ما قيل ضده من فقهاء الانحطاط البعيدين عن ثورة الإسلام فيه.كيف يمكنني أن ادعي أن للإسلام ثورة ذوقية وفنية وجمالية وكل الفنون تقريبا يحرمها فقهاء الانحطاط ،حتى صار الفن من صناعة الأقليات غير المسلمة؟وطبعا ما كان لي أن أصل إلى أعماق ثورة الإسلام في التعبير الذوقي عن الحياة من دون تنزيله في نظام القرآن ككل لتحديد نظرية الذوق القرآنية.وقد كتبت في ذلك كتاب \"الشعر المطلق والإعجاز القرآني\" لأبين علاقة نظرية الذوق بنظريتي العلمين الأسميين :جوهر الرياضي شكلا وجوهر الأخلاقي مضمونا.لكني فيه لم أهتم ببيان مصدر هذا التحديد القرآني لأن همي كان تحقيق وعد لم يف به ابن سينا جاء في شرحه لكتاب الشعر الأرسطي :الشعر المطلق.نظرية الذوق القرآنية هي الشعر المطلق غاية للتعبير بالشكل الرياضي والمضمون الوجداني في علاج الشأن الإنساني بالعلم الرياضي والحرية الوجدانية.لكني هنا أريد أن أبين ذلك بالاستناد إلى سورة الشعراء في علاقتها بسورة هود .وللاسمين علاقة بالذوق الفني والمعنى الخلقي الأسميين إذ ينحرفان.والانحراف ب ّين فيما آلا إليه في ظاهر الوجود الذي لا يغوص إلى حقيقة الثورة القرآنية .فالشعراء قد يحرفون الابداع الذوقي وشرطه الخلقي :الصدق.و\"هاد\" ومشتقاتها الوظيفية والأسمية قد يحرفون الدين فيصبح ذا دلالة \"فولتيرية\" أساسه النفاق والتقية .وهود والشعراء تشتركان في تحديد التحريف. 40 24
وهما تحددانه بوصفه تخليا عن ثمرة الحرية والتكليف والعبارة الذوقية عنهما في الأذهان برمز \"تنزل الشياطين\" وفي الأعيان بمجالات الفعل الخمسة.ومجالات الأفعال الخمسة رمزها أزواج متناظرة -1:موسى ونوح -2وهود وشعيب -3وصالح ولوط -4إبراهيم ومحمد -5لتحديد دور العقل والوجدان في حفظ الكيان.ولن يستطيع متابعة الاستدلال من ليس له علم بدروس شللر في التربية الجمالية وفي علاقة الإبداع عامة بالحرية الابداع الرمزي والمادي في التاريخ.بعبارة وجيزة ثورة القرآن الذوقية جعلت الإبداع مشروطا بالصدق والابداع الفعلي في ترقية الإنسان نحو شروط التحرر مما يحول دون الاستخلاف.وبعبارة أوجز ،هو دحض لنظرية العرب في الشعر :أجمل الشعر أكذبه .فهذا المعيار يوهم الناس بأن الشعر يتكلم في الخيال المخالف للواقع :خطأ مضاعف.فأصحاب هذه النظرية السخيفة يحرفون معنى الخيال ومعنى الواقع .ظنهم أن الواقع هو الأمر الواقع ،وأن الخيال هو ما يخالف المثال العقلي والوجداني.يحرفون مدلول الابداع متصورينه صناعة السكارى اللفظية بدل كونه عصارة العلم الرياضي والوجدان الروحي تعبيرين عن الخلق الرمزي والقيمي التاريخي.نظرية الذوق القرآنية في أسمى الفنون ،قلبت المعايير العربية السطحية :أعذب الشعر ليس أكذبه بل أصدقه .إنه ليس خيال بل إبداع مثال الواقع الخفي.ومثال الواقع الخفي كما تبين سورة يوسف بوضوح إبداع يتجلى في شكل رؤيا أولا تصبح تاريخا ثانيا، وذلك في مجال الحب والرزق والعلم والسلطة والدين.وهذا الابداع الذوقي يكون رياضيا بشكله الموسيقي ووجدانيا بمضمونه الروحي .ثرثرات الذين يهيمون في الحانات (بدل الفيافي) فتزل الشياطين وليس فنا.وجلافة فقهاء الانحطاط ظنهم خلطهم بين الفن وأساليب التكدي عند شعراء الانحطاط الذين اعتبرهم ابن خلدون سبب ابتعاد الأشراف عن تعاطي الشعر. 40 25
واليوم أكثر من تسع وتسعين في المائة من شعراء العرب كداؤون لأنهم لا يصبرون عن التخدير الذاتي ثم يزينون كديتهم بمساحيق ثورية لا تنطلي إلا على السذج.فليس أفسد منهم بل إن جلهم ،خدم لمخابرات بلدانهم أو لمخابرات أسياد حكامهم وحماتهم يفسدون الذوق لجهلهم بمقومي كيان الشعر وقيمه العلمية والخلقية.لست غافلا بأن أدعياء النقد سيتصوروني أخلط بين الشعر والوعظ .وهذا دليل على أنهم هم الذين يخلطون بين الشعر والوعظ المضاد أو ما يتصورونه ثورية.الإبداع الرمزي والفعلي بمعزل عن الوعظ والوعظ المضاد لأنهما يسهمان في الخلق الوجودي علما ووجدانا .ولهذه العلة وصلت بين سورتي الشعراء وهود.وقد أقبل الاعتراض على علاجي مثل هذه القضايا المعقدة وشديدة الدقة في وسائل الاتصال الاجتماعي .لكن ذلك من مقتضيات المرحلة :التواصل مع الشباب.فهم نهبة لهذين الكاريكاتورين من الذوق ونظريته القرآنية التي يشوهها مدعي التأصيل ومدعي التحديث ليس جهلا بها فحسب ،بل بحقيقة الشعر ايضا.ولا يمكنني الكلام على ثورة الإسلام في مجالات الأفعال الإنسانية الخمسة ثم أهمل الكلام في نظرية الذوق الجمالي من حيث عبارة الحياة الأسمى.وما يكاد يقتلني ضحكا طرق إلقاء الشعراء المحدثين لشعرهم ظنا أن \"تعويج\" أشداقهم وزعاقهم وبصاقهم يعوج رياضيات الشعر الموسيقية .وهيهات هيهات.وهم بذلك لا يختلفون عن عياط الوعاظ الجدد أو الدعاة \"المعد\" وزياطهم :كلاهما يجعل ما يبيعه للعامة وللمتحكمين فيهم من بضاعة مجرد ظاهرة صوتية.لما أسمع النواح وكاريكاتور الذاتيات المباح عند الرهطين وما يصبهما من صياح ونباح ،أفهم من الممول ومن المستهدف بهذا التحريف للشعر والدعوة.هما في الحقيقة دعويان ودعوتان :تشتركان في التحريف بهدف التخدير وضرب البندير لمن يدفع أكثير للسكير ومنافقي أدعياء النطق باسم النذير والبشير. 40 26
لا فرق عندي بين تحريف الدين تحريف الشعر :كلاهما ناطق بتنزل الشياطين أو بما يفسد عقل الإنسان ووجدانه بدلا من بنائهما المبدع رياضيا وروحيا.فمن دون التناغم الروحي لا يمكن للأناغيم الموسيقية أن تؤثر :والقرآن الكريم مؤثر بهما لأنه يخاطب مثال الواقع بصادق الخطاب لطالب الصواب.أعلم أن أشباه النقاد سيرون في كلامي أخلاقوية وهي حجتهم المتبذلة بدعوى أن الفن بمعزل عن الأخلاق .دعوى حق يراد بها باطل .فالذوق أصل لا فرع.والأصل أسمى من الفرع .لكنه يصبح أدنى إذا نفى فضائل فروعه لأنها هي ما به يكون أصلا لفروعه :وأعني الحرية شرط الإبداع والكرامة شرط تعبيريته.وكلاهما يتجلى في سلوك أدعيائه :هل بالصدفة انحياز كل من يسمون أنفسهم فنانين ودعاة للاستبداد والفساد سواء كان قبليا أو عسكريا؟ أليس لكديتهم؟فالمقاتل المرتزق لا يمثل الشجاعة والفروسية والشاعر والداعية المرتزق لا يمثلان الإبداع والدين بل يمثلان تحريفهما فضلا عن الجهل بمقوميهما.وما يتنافى مع الارتزاق هو الصدق وابداع مثال الوجود بالشكل الرياضي تعبيرا عن العلم وبالمضمون الوجداني تعبيرا عن الخلق :تعالي جوهر الأصل.ولو كانوا دارين بنظرية الشعر الارسطية وبقيمها الأفلاطونية لعلموا أن مجرد انحصار ما يسمونه شعرا في التعبير عن أحوال نفوسهم يخرجه من الشعرية.ولو عملوا أن غياب البعد الرياضي (الموسيقى) والخلقي (الوجدان الكوني) لا يلغيه من الشعر فحسب ،بل من التعبير عن مثال الواقع الخفي أساس كل إبداع.فالشعر هو قمة ما يطلبه الدين والفلسفة لأنه غاية ما يمكن أن يتحقق فيه مفهوم الإنسان الذي هو الإبداع المحقق للاستعمار والاستخلاف في الأرض.وهذا الإبداع مشاركة في الخلق .خلق مثال الواقع لأن الواقع ليس ما يجري في الأحداث بل ما يجعلها ذات وقع في الكيان والوجدان :إنه جوهر الحضارة. 40 27
لكنهم بالتحريف جعلوه عين الدعارة أي تنزل الشياطين بلغة القرآن فهو بمصطلح ابن خلدون \"يفسد معاني الإنسانية\" بالتربية التحريفية (أفلاطون).فمن يتجاهل رأي أكبر شعراء يونان القائل إن الكلام على أحوال النفس دليل الاستثناء من الشاعرية ورأي شللر أن الإبداع والاخلاق شرطهما الحرية.فهل رأيتم حرا مرتزق؟ أغلب أبواق الدعوة والشعر أبواق لتحريف الدين والإبداع وخدمة شياطين الإنس الذين أفقدوا الإنسان العربي حريته وكرامته.ويكفي أن ترى من كانوا يدعون قيادة ثورة التجديد فإذا بالأحداث بينت أنهم عبيد الطائفية والعنصرية وخدمة الحرب الاستعمارية على شعبهم وأمتهم.وحتى هذه الرذائل فهي عندهم ليست معتقدات صادقة ،بل هي أدوات ترشحهم عند أعداء الإسلام لعلهم يناولون جائزة نوبل بدون نبل ولا شرف ولا كرامة.ولست بحاجة لذكر الأسماء لعلتين -1:لأن التعريف بالوصف يغني عن الأسماء و -2لان هذه الصفات بلغت من العموم ما جعلها تصدق على جلهم أو كلهم.لم يبق إلا أن أبين العلاقة بين سورتي الشعراء وهود فيما يتعلق بتطبيق الوظيفة الابداعية في الأزواج الخمسة الذين يمثلون الأفعال في كل حضارة.سأفترض أن القراء مطلعون على السورتين ووحدة الأزواج فيهما-1 :موسى ونوح -2هود وشعيب -3صالح ولوط -4ابراهيم ومحمد -5مبدأ وحدة الزوجين فيها.فمبدأ وحدة الزوجين فيها جميعا هو عين المرجعية الواحدة في ابراهيم الأول مؤسس الحنيفية الأولى وابراهيم الثاني الذي أسس الحنيفية المحدثة.ابراهيم مؤسس الوحدانية لأنه يرمز لتحرير البشرية من داءين :بتخليصها من عبادة الطبيعة الأسمى (الأفلاك) ومن التضحية بالكائن الأسمى (ذبح ابنه).ومحمد مجدد الحنيفية الأولى ومؤسس الحنيفية الثانية بجعل هذين الثورتين جوهر سياسته فأعاد عبادة الله وحده وحرر الإنسان نهائيا من التضحية به. 40 28
لكن هذين الثورتين اللتين كانتا في الحنيفية المحدثة الأولى (ابراهيم) مجرد مبادئ عامة أصبحتا ذاتي مضمون سياسي خلقي ترمز اليه بقية الأزواج.فموسى ونوح :تحرير بالشرع من سلطان الطبيعة ومن الفرعونية .ثورة علمية وقانونية .العلمية إعادة بناء الطبيعة نفسها (استنبات زوجين أثنين منها).والقانونية يرمز إليها ألواح موسى التي تضيف إلى الثورة العلمية (نوح بإعادة الطبيعة صناعيا) الثورة السياسية والقانونية ضد العبودة بالحقوق.ويأتي دور الزوجين المواليين :هود وشعيب .رسالتهما في السياسة الاقتصادية وشروط التبادل والتعاوض العادلين ورمزها منع التطفيف كيلا واكتيالا.والزوج الأخير أعني صالح ولوط :رسالتهما تدور حول سر الحياة أي الماء والجنس .فمن لم يفهم ذلك فهو إما غبي أو من جنس محرفي الدين والشعر.فالدين هو التعين الفعلي للأخلاق أي للصدق (النفاق نفي له) وللجمع بين القول والفعل (التقية نفي له وهي أكبر مقت عند الله) :والتحريف نقيضهما. وحقيقة الشعر تعين فعلي لإبداع مثال الواقع الخفي وبه يكون الإنسان أهلا للاستخلاف :الحرية والكرامة وشرطهما الصدق والتطابق بين القول والفعل. 40 29
والآن إلى غاية المحاولة للكلام على الثورة الإسلامية أعني الكلام على قلب معادلة الأفعال الخمسة أعني القدرة أي انتاج القيم المادية :الاقتصاد.وقبل الخوض في أعسر فصول المحاولة سأبدأ بملحة البطل الذي تنسب إليه هو الصديق والمرحوم عبد الوهاب المسيري ولعله من أواخر رجال مصر الكبار.يقال إنه قد قال إنه عجز عن فهم ما أكتب .وقد يكون قالها لكنه بذهنية المفكر المصري الذي يعبر عن المحبة النكتة .فقد برهن على محبته قبل أن أراه.كنت في ماليزيا لما شعرت بذلك .فهو أوحى لمسؤولي مكتبة الإسكندرية بدعوتي معقبا على فيلسوف الاعتزال في محاضرته على الوسطية وتدخل لحل مشكلتين.الأولى دبلوماسية ،إذ أن سفير مصرفي كوالالمبور عمل كل ما يستطيع لمنع الزيارة بحجة أن الوقت لا يكفي للحصول على التأشيرة ،فحلها لما علم بالأمر.والثاني اراد جماعة المكتبة أن يقتصدوا في كلفة سفرتي فبعثوا بطاقة درجة اقتصادية .لكن بعد المسافة وسني جعلاني اعتذر ،فحلها كذلك بمساعيه المؤثرة.كل ذلك أعلمني به من أصبح صديقا مشتركا بينه وبيني ولما التقينا في ندوة كبيرة كان موضوعها الانحياز في القاهرة التي صارت لسوء الحظ مقهورة.لماذا هذه القصة؟ ملحة واعتذار للشباب وتشجيع على الصبر .فالفصل بحق صعب ،وقد يوطد خرافة أرباع المثقفين الدرد وفاقدي القدرة على الصبر للفهم.لماذا قلب المعادلة -القدرة أو انتاج القيم المادية أو الاقتصاد-هو أصعب فصول المحاولة؟ لأن القدرة بالجوهر هي القدرة على الخير وعلى الشر في آن.فلا خير ولا شر في أي جماعة إلا وأصله وفصله من انتاج القيم المادية وتوظيفها .فهي توظف في الشر أو توظف في الخير في الأفعال الأربعة الأخرى. 40 30
القيم المادية قلب المعادلة .فمن دونها يستحيل تحقيق ما قبلها (الإرادة السياسة والعقل العلمي) وما بعدها (ذوق الحياة الفن وحدس الوجود الرؤى).وكنت قد بينت في مواضع كثيرة أن رمز هذه الفاعلية في الخير أو في الشر تتعين في رمزها الذي سميته رمز الفعل أو العملة .وغاية شرها عبادة العجل.لكن ما مصدر عسر فهم هذا الدور العجيب لإنتاج القيم المادية الذي يتعين في رمز الفاعلية \"العملة\" وقد أبدع في وصفه حد كبار فلاسفة الألمان.جيورج زمل كتابه الشهير فلسفة المال Philosophie des Geldes-ليصف فاعلية المال وتأثير في السلوك الإنساني ولا أحتاج لبيان منزلتها في الإسلام.العسر الأكبر مصدره هذا الدور في الفكرين الفلسفي والديني ولعله هو المشترك الاساسي بينهما على الأقل في الإسلام ضبطا شرعيا للخير وللشر في آن.صحيح أني أشرت في بحوثي السابقة إلى أن رمز الفعل العملة-له نظير هو فعل الرمز-الكلمة- وصحيح أن تأثيرهما متماثل لكن الغلبة للأول في كل تحد فعلي.فمليشيات القلم تثبت ذلك الغلبة :فهم جميعا أبواق مأجورة من قبل مافيات المال والحكم .وهو في الأنظمة القبلية والعسكرية جزية مفروضة على الشعوب.الكلمة أو فعل الرمز مخدر يحتاجه صاحب العملة أو رمز الفعل ليحقن به الشعوب إيديولوجيا لتكون في خدمة خدمهم أي حكام الأنظمة القبلية والعسكرية.والحكام في هذه الحالة خدم المافيات الداخلية والمافيات الخارجية والسيد المتحكم في مليشيات العملة والكلمة هو الحامي للمستبدين علينا والفاسدين.وهذا هو الشر الأكبر .ويقابله الخير الأكبر عندما يكون المال والكلمة في خدمة الإنسان الحر صاحب السيادة وسيد حكامه المؤمنين بسيادة الأمة.عندئذ يكون انتاج القيم المادية (رمز الفعل أو العملة) وانتاج القيم الرمزية (فعل الرمز أو الكلمة) في خدمة ما قبل القلب وما بعده في المعادلة. 40 31
هذا من حيث التوظيف في الخير أو في الشر .والعلاقة أعقد ذلك أن الأفعال الأربعة الأخرى المتقدمين عليه والمتأخرين عنه هي شرط إمكان القلب ووجوده.فالشعوب التي ليس فيها سياسة رشيدة وعلم مبدع وذوق راق ورؤى عميقة تكون دائما عاجزة عن إنتاج القيم المادية والرمزية وعن حماية ذاتها ورعايتها.أي إنها بلغة ابن خلدون تكون عالة على غيرها حتى لو أمدتها الطبيعة بثروة طبيعية .فهذه الثروة مهما عظمت ناضبة ولا ثروة بحق إلا بالعلم والعمل.ما وظيفة الفعلين المتقدمين والمتأخرين عن القلب؟ المتقدمان :السياسة شرط سداد والعلم شرط قدرة وهما علة فاعلية للثروة الدائمة في أي جماعة.والمتأخران عن القلب :أي الذوق الجمالي والرؤية الوجودية علة غائية أي إن القدرة تكون مدفوعة فاعليا بالسياسة والعلم وغائيا بالذوق والرؤية.وهذا هو ما يغيب عن بال حكام العرب في الأنظمة القبلية والعسكرية والغبي من النخب التي تطبل لاستبدادهم وفسادهم ولقتلهم صاحبة البيض الذهبي.فمن دون سياسة رشيدة وعقل مبدع للعلم يمتنع إبداع القيم المادية (الاقتصاد) والرمزية (الثقافة)علة فاعلة لثروة الأمة :بل هما يصبحان مصدر الشر.ومن دون ذوق جمالي ورؤية وجودية يموت الدافع الغائي في الجماعة ويصبح أصحاب الفعلين مصدر كل الشرور :دعم الفنانين والدعاة للسيسي وبشار مثلا.والظاهرة لا تقف عند السيسي وبشار .فغالبية الحكام وميليشياتهم النخبوية وأجهزتهم القمعية وظيفتهم الأساسية قتل العلتين الفاعلية والغائية.وإذن فالإرادة السياسية والعقل العلمي يمثلان العلة الفاعلة للثروة المادية والرمزية .فالفاعلية السياسية تتعلق بأنظمة التبادل والتواصل الحرين.وتلك هي وظيفة الحماية بالمعنيين القضائي والأمني داخليا والدبلوماسي والدفاعي خارجيا ،وتلك هي شروط التعاون والتعاون بحماية الحقوق والمنازل. 40 32
وبذلك تكون السياسة المتعينة في الحكم والمعارضة والمراقبة الشعبية جهازا فاعلا في خدمة الرعاية التي لا تكون من دون ثروة :سيادة القانون والوطن.أما العلم فدوره علة فاعلية لكنها من جنس ثان :فهو اساس السلطان على الطبيعة وعلى التاريخ. فعلوم الطبيعة والإنسان شارطة لإبداع الثروة بالتراث.الأولى شرط استخراج الثروة من الطبيعة .والثانية لحسن التصرف فيها بالعدل .وما يجعل التنافس عليها إلى مصدر خير وتنمية بدل أن يكون مصدر شر وتخلف.لذلك فكل الجماعات الواعية فهمت أن البحث العلمي هو اساس التنمية والثروة أي إن الإنتاج الرمزي هو الأساس في الإنتاج المادي شرط إمكان وشرط نمو.ومثلما أن الفعلين المتقدمين على القلب يؤديان وظيفة العلة الفاعلة ،فإن الفعلين المتأخرين عنه يؤديان وظيفة العلة الغائية بصورتين متكاملتين.فالوجود أو الرؤى علة غائية تفعل بالنموذج المثالي الذي تعتبره غاية حياة الإنسان وجاذبية سعيه في الوجودين الدنيوي والأخروي :مشترك ديني فلسفي.والحياة بتعبيرها الذوقي الجمالي ذات فاعلية غائية كذلك لكنها ليست بغائية نهائية بل بغائية مساوقة أو مصاحبة للحياة كلها :الأنس بالعشير خلدونيا.وهي مفهوم السعادة التي تعني الاستمتاع بالحياة أو بلغة القرآن النصيب من الدنيا .وأهمها المال والبنون والجنس والخيل المطهمة وكل رموز المتعة.وبعبارة أوجز لو قارنا العملين المتقدمين على القلب المتأخرين عنه لوجدنا الأولين لشروط الاستعمار في الأرض والثانيين لشروط الاستخلاف.فتكون السياسة والعلم شرطين لنجاح الاستعمار في الأرض خاصة ،والوجود والفن والرؤى شرطين لنجاح الاستخلاف فيها :ومجموعهما عين كيان الإنسان.وكلما كان الإنسان متخلفا ،رد كيانه لتعينه المادي لأن ينكص إلى ما فيه من حيواني فيصبح جوهر وجوده معبوده هواه وهمه دنياه ،فيكون أذل مخلق وأحقره. 40 33
وتلك هي العبودية أو عبادة العجل التي جعلت بني إسرائيل ينحطون في غياب موسى عليه السلام فيصنعون من الذهب المسروق ربا يخور لحياة ناكصين تبور.وما للفساد والاستبداد الذي يسيطر على أنظمة القبيلة والعسكر وميليشياتهما وأجهزتهما من علة إلا هذا النكوص لعبادة العجل :أكل أنعام ولهيث كلاب.وهذا هو ما يسميه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية ورمزه النفسي الخلقي الكسل (عدم العمل) والكذب (عدم الصدق) والجبن وقبول العبودية :تلك حالهم.لذلك فهم قد جعلوا دار الإسلام مزقا لتكون محميات يوليهم عليها سادتهم فلم يكفهم استعمار الأرض واستغلال الثروة يريدون قتل المرجعية والتراث.وإذن فالمجال المركزي من الأنشطة الخمسة قلبها المتعلق بالقدرة الشارطة لما تقدم عليها منها وما تأخر والمشروطة بها هو مصدر الخير والشر في آن.ففيم تتمثل ثورة الإسلام في هذا المجال الأوسط بين السياسي والعلمي قبله والفني والرؤيوي بعده؟ أولا بيان شروط خيريتها لتحقيقها وشريتها لتجنبها.وهي بصورة لم تبلغ درجة النسق النظري من أهم موضوعات الفقه لأن \"الملكية\" والالتزامات التعاقدية من أهم مواد تشريعاته وممارساته القضائية.وأتم محاولة فلسفية مثلت نقلة نوعية من التشريع بمقتضى الأحكام السلطانية إلى التشريع بمقتضى طبائع الأشياء هي من إنجاز ابن خلدون دون منازع.وهي بداية جدية لوضع نظرية في الاقتصاد الإسلامي الذي أسس للجمع بين فضائل الفاعلية الاقتصادية الجامعة بين محفزات الإنتاج والتوزيع العادل.فالملكية والتعاوض العادل خلال التبادل مع أهم مشجعات الإنتاج بالتعاون والتعاوض العادل والحد من تدخل الدولة واستقلال العملة مبادئ صريحة.ومنها اقتصاد الدولة وقواعد ماليتها وقواعد الجباية ومنع الاحتكار والسخرة ومنع دور الجاه ومنع الدولة من التدخل في الأسواق والاقطاع عطاء وأخذا. 40 34
لكن أهم مبادئ وضعها ابن خلدون مستمدا إياها من فهمه لثورة الإسلام الاقتصادية ،تمثلت في تقدير القيمة بكمية العمل المنتج للبضاعة أو الخدمة.وثاني أهم مبدأ هو القول باستقلال العملة عن السلطة التنفيذية (السلطان) وضمنها إلى السلطة الرمزية(الخليفة) ومعها المكاييل والموازين ومراقبتها.وثالث مبدأ هو منع الاحتكار وفرض حرية السوق بمنع تدخل الدولة فيه وخاصة المشاركة في التجارة وتحديد الأسعار بقوة الدولة أو إثقال الجباية.وقد وصل إلى جعلها من جنس الزكاة من حيث النسب ،حتى لا يفقد المنتجون والتجار الأمل الذي يجعلهم يعلمون بجد لأن ثمرة عمله لا تؤخذ منهم بالغصب.وهو طبعا يقول بان انتاج الثروة هو المشكل الأول للجماعة ويعتبر عدل التوزيع من مجال الاقتصاد الاجتماعي الديني أو تضامن الجماعة الخلقي الديني.وهو تابع لوظيفة الرعاية التي تكمل وظيفة الحماية :فالاقتصاد بحاجة إلى حماية شروط الإنتاج وهي تقنية (شروط التعاوض) وقضائية (عدل التعاوض).وهو بحاجة إلى الرعاية بتوفير شروط التكوين والتموين ومنع ما يحول التنافس الضروري على تنمية الرزق إلى مصدر تنازع بدلا من أن يكون مصدر تعاون فيتحقق المعنى العميق للاقتصاد السياسي الذي هو في الحقيقة التدبير السياسي لشروط الإنتاج والتوزيع الماديين بصورة تجعله لحمة توحيد وازدهار. 40 35
بينت ثورات الإسلام في الأفعال الخمسة ،أي في الإرادة والسياسة وفي العقل والعلم وفي القدرة والاقتصاد وفي الحياة والذوق وفي الوجود والرؤى :فلم؟لم أفعل من موقف دفاعي ضد اعداء المسلمين أو بدافع عقدي ضد اديان منافسة .فلست أنطلق بدوافع سلبية تحركني بالإضافة إلى ما يحاك ضدنا وضد ديننا.فدافعاي إيجابيان-1 :علمي نظري وهو إظهار ما اعتبره حقيقة يجهلها المسلمون أكثر من أعدائهم و -2خلقي عملي وهو الاسهام في تخليص الشباب من العقد.فلا يكفي أن ينتسب الإنسان إلى الإسلام وحضارته وهو جاهل بفضائلها التي بها حررت الإنسانية كلها من داءين يحولان دون حريته الروحية والسياسية.ولا معنى للاستئناف المنفعل الذي يتحول إلى مرض المعقدين أو ضغينة المحتقرين لأنفسهم الذين يدفعهم حب الانتقام كذراعي الاستعمار في الإقليم.فأحدهما -إيران-يريد استرداد مجد سياسي أفقده إياه الإسلام بعقد أعمته عما أمده به الإسلام ليتحرر من عبادة العباد ،فيصل إلى عبادة رب العباد.والثاني-إسرائيل-وبنفس الضغينة دافع فعله ضد الإسلام القيم الكونية والموجبة ،بل الانتقام من سلطان روحي كان يعتبره حكرا على شعب الله المختار.مشكلهم مع المسلمين والإسلام أنه حرر البشرية من احتكار القوة السياسية والقوة الروحية ،وجعل ذلك تراثا إنسانيا كونيا شرطه أخوة البشر وتساويهم.ولست أخاف من شيء أكثر من أن يصبح شبابنا في وضع من تحركه الضغائن فيفقد المشاعر الموجبة التي هي جوهر الرسالة الخاتمة :النساء 1والحجرات .13فكيف لبيان الثورة الإسلامية في الأفعال الخمسة أن يجعل الأمة قادرة بهاتين الغايتين العلمية النظرية والخلقية العملية على الاستئناف السوي؟ 40 36
كل من يصل هذه الفصول السبعة حول ثورة الإسلام في الأفعال الخمسة بما سبق الكلام عليه في مسألة درس التراث يدرك عسر المهمة ونبلها في آن.ذلك أن عسرها الذي قد يحول دون علاجها قد يغلي رؤية نبلها خاصة وكلا صنفي المثقفين العرب النافذين باسم التأصيل والتحديث يمثلان أكبر العوائق.فنخب التأصيل يخلطون بين ثورة الإسلام ونكوص المسلمين للجاهلية فيحاربون الإسلام بسبب الغفلة والحمية الجاهلية :يشوهونه بدعوى إحيائه قشوره.ونخب التحديث بنفس التشويه لقيم الحداثة التي يشوهونها ،إذ يقدمون أنفسهم ممثلين للحداثة فيحاربونها بمعاملة شعوبهم معاملة الاستعمار لأنديجان.فيكون كلا النوعين من النخب التي لها موقف كاريكاتوري من الإسلام والحداثة في حرب أهلية دونكيخوتية تحول دون الاجتهاد والجهاد المبدعين للحضارة.فثورة الإسلام لم تحرر البشرية بقشوره التي هي الفهم الكاريكاتوري لمرجعيتيه (القرآن والسنة) بل بلبه الذي هو تربية الإنسان وحكمه بالحريتين.فبالحرية الروحية أبدع الإسلام المسلم المريد والعاقل والقادر والحي وصاحب الرؤية الوجودية التي تجعل الأحرار لا يعبدون إلا الله :قيم فقدناها.وفقدها هو ما سماه ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" بسبب فساد النظام السياسي بوجهيه تربية (الأخلاق والعلم) وحكما (القانون والعمل):فصرنا عالة.وما لم نحرر الأمة من \"فساد معاني الإنسانية\" بالإصلاح السياسي بوجهي نظامه التربوي والحكمي، لن يتحقق التحرر الروحي لأفرادها :فيمتنع الاستئناف.لكن غايتي تتجاوز مجرد الاستئناف لأنه قد يكون استئنافا سلبيا هدفه الانتقام من الآخرين تماما كما يفعل ذراعا الاستعمار :أريده استئنافا موجبا.فالإسلام ليس دينا من بين الأديان ،بل الدين في كل الأديان (الستة :الحج )17بمعنى أنه يوحد البشرية انطلاقا من انثروبولوجية ذات بعدين متكاملين. 40 37
فالبشرية واحدة من حيث هي مستعمرة في الأرض (أمهم المرضعة واحدة) ،والبشرية مستخلفة فيها (مطيتهم لما يتعالى عليها) :خلقت لتعبد الله وحده.وعبادة الله هي غاية العلم والعمل على علم ،أي الاجتهاد والجهاد في مدلولهما الذي حددته سورة العصر شرطا في الاستثناء من خسر الاخلاد إلى الأرض.فالحرية الروحية هي التي تتعين في إيمان الفرد وعمله الصالح ،والحرية السياسية تتعين في تواصي الجماعة بالحق وبالصبر :مستويا الاستخلاف الموجب.لذلك فينبغي أن يكون الإسلام كما كان :قائلا بضرورة التعدد الديني شرط التسابق في الخيرات وبضرورة منهج التصديق والهيمنة علامة وحدة الحقيقة.وكان ينبغي أن يكون نهجه المصدق للصادق والمهيمن على غيره نقدا تفكيكيا للتجارب الروحية والسياسية السابقة ومشروعا بديلا لتحقيق قيم الاستخلاف.وهذا التحقيق هو ما به يعرف الإسلام الإنسان تعريفا إنشائيا في آل عمران 104وخبريا فيها 110 فيجعل حقيقته قابليته لتحقيقهما :وتلك هي الخيرية.فتكون حقيقة الإنسان قابليته للتكليف وهو معنى الإرادة الحرة والمسؤولة المجهزة بعقل يفهم، وقدرة تنجز وحياة تذوق ورؤية تختار الشرعة والمنهاج.كان لا بد إذن من إطلاع الشباب عن ثورة الإسلام في مجالات أنشطة الإنسان من حيث هو ذو إرادةوعقل وقدرة وحياة ووجود ثورته التي من حقه أن يفخر بها .وألا يكون فخره بها واعتزازه بداععقدي فحسب ،بل وكذلك لأن التحليل العقلي يثبت أنها فعلا ثورة تحرر وتحرير يخاطب الإنسانية كلها دون عنصرية.فليس لأي دين من الدينين المنزلين أو الدينين الطبيعيين أي ما كان ذا تأثير في عصر نزول القرآن بذي كونية حقيقية لأنها جميعا قومية بل وعنصرية.وحتى استثناء المسيحية من هذين الوصفين فهو متأخر بعد رسائل بولس .فالمسيح نفسه قال في الانجيل ردا على سيدة إنه إنما بعث لنعاج إسرائيل الضالة. 40 38
أما القرآن فهو للإنسانية كلها ،بل ولكل الموجودات وخاصة المكلف منها ويكفي بخصوص الإنسانية الآيتان الأولى من النساء والثالثة عشرة من الحجرات.وثورته الروحية المتعلقة بحرية الإرادة في النشاط الخامس أو الوجود والرؤى هي التي تؤسس ثورته السياسية في النشاط الأول أو السياسة :الشورى .38فعندما تفهم الشورى 38في ضوء النساء 1والحجرات 13تكون قراءتها مفيدة أن من الاستجابة للرب أو الإيمان الصادق له خمسة أركان وردت في الآية.وأولها رمز العلاقة المباشرة بالله (الصلاة) ثم أن يكون الأمر أمر الجماعة وأن تكون رعايته بالشورى بينها وأن يكون ذلك لإنفاق الرزق في وجوهه.وأصل هذه الأركان هو الاستجابة إلى الرب وهي فروعه .فيكون الإسلام كدين خاتم نظاما تربويا رمزه الصلاة ،وسياسيا رمزه رعاية شورية للأمر والرزق.وقد بينت أن تحليل \"أمرهم شورى بينهم\" يثبت أنها تضمر أن الأمر أمر الجماعة وأن الجماعة ترعاه بالشورى .وهي مفهومات ثورية من اليسير بيانها.فيكفي أن نترجم \"أمر الجماعة\" بمصطلح الفلسفة السياسية اللاتيني لكي نجد \"راس+بوبليكا\" أي إن طبيعة النظام جمهورية .فراس تعني أمروبوبلكيا جمهور.وإذا ترجمنا \"شورى بينهم\" بالمصطلح السياسي اليوناني كان المعنى \"ديموقراطية\" أي حكم الشعب. فتكون طبيعة النظام جمهوري وأسلوبه ديموقراطي.وانطلاقا من الحرية الروحية (النشاط الخامس) وتطبيقا في السياسة (النشاط الأول) نستنتج باقي فروع الثورة بنفس التناظر بين العاملين الرابع والثاني.فالنشاط الرابع أو الإبداع الرمزي يؤسس للإبداع العلمي لأن الفنون الجميلة من حيث هي عبارة الذوق تكون جمالية منطلقا للمعرفية :الفن والعلم.وبذلك نصل إلى ما به انتهت الآية 38من الشورى :الانفاق من الرزق أي قلب الأنشطة وأوسطها رمز القدرة أو الانتاج المادي والاقتصاد :وبه يكون الخير. 40 39
وهو لا يكون به إلا بتجنب ما يمكن أن ينتج عنه من شر :فهو مجال التنافس الذي ينقلب بيسر إلى التنازع فالتقاتل من أجل الرزق وخاصة من أجل احتكاره.بإدراك هذه الحقيقة نفهم لماذا كان القانون الجنائي الإسلامي شديد التشدد في مجال حماية الملكية ورعايتها حتى إن الحقوق كلها هي رهن حمياتها.ولإتمام هذا المعنى وفهمه كما ينبغي فليقرأ الإنسان البقرة 177التي تعرف مفهوم البر وتحدد فيم يتمثل فيتحرر من انحطاط حصر الدين في العبادات. فأساسيات السياسة والاقتصاد بل كل فروع الثورة الإسلامية فيها بوصفها رؤية للديني في الأديان: الاستعمار في الأرض علما وعملا بقيم الاستخلاف. 40 40
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 46
Pages: