Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore كشف حساب القرن الماضي من سراب نخب الأعراب – أبو يعرب المرزوقي

كشف حساب القرن الماضي من سراب نخب الأعراب – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-16 10:11:03

Description: كشف حساب القرن الماضي من سراب نخب الأعراب – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪6 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪11 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪16 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪21 -‬‬

‫‪--‬‬‫جرت العادة أن يقوم الناس بكشف الحساب على رأس كل سنة للعام المنصرم‪ .‬لكني أريد‬‫كشف حساب قرن بدايته وعد بلفور ونهايته وعد ترومب لأفهم علل حال العرب التي يمكن‬‫تلخيصها في جملة واحدة‪ :‬كيف أمكن لأردوغان في عقد ونيف أن يحقق ما عجز عنه اثنان‬ ‫وعشرون طرطورا عربيا‪ .‬فناتج تركيا الخام أكبر من دخل كل العرب‪.‬‬‫لو كان اردوغان تسلم الحكم في تركيا معافاة مما أصابهم هم منذ قرن لقلت إن ما تقدم‬‫عليه هو الذي يفسر الحصيلة وهو ما يميل إليها كاريكاتور التحديث من النخب العربية إذ‬‫لعلهم ينسبون ما حققته تركيا إلى نظامها العلماني‪ :‬لكنه وجدها في وضع لا يقل سوء عما‬ ‫عليه العرب متسوليهم ومحمييهم‪.‬‬‫ولو كان قد واصل العلمنة لقلنا إنه استفاد منها فجنب تركيا ما ينسبه سخفاء الحداثيين‬‫العرب من الهيمنة الإسلامية عامة والإخوانية خاصة‪ :‬لكنهم يجمعون على اتهامه بهما‪ .‬وهو‬‫ما يجعلهم يحصرون الفرق في فضائل القيادة الراشدة ورذائل الطراطير العرب الذين‬ ‫حتى فقراؤهم اصابهم داء الترف المافياوي‪.‬‬‫ولا تهمني فضائل القيادة التركية في العقد ونيف الأخيرين إلا كبداية لكشف الحساب‬‫وشبه مقياس للفروق بين الحالين‪ :‬شعب بعدة ربع العرب حقق بقيادة راشدة في خمس مدة‬‫حكم طراطيرهم وطنا يتجاوز بإمكاناته ألف مرة ما لتركيا وبمساحته عشرين مرة‬ ‫مساحتها‪ .‬همي ليس ما سر نجاحه بل ما سر فشلهم‪.‬‬‫سيقال لي وأنت ما دخلك‪ :‬لماذا لا تهتم بمجالك وتترك الامر لأهله مثلما كان يفعل‬‫الفلاسفة العرب قبلك إن كنت تتوهم أنك منهم؟ وطبعا لا أتوهم أني منهم ولا يشرفني أن‬‫أكون منهم‪ .‬فعندما أعلم أن جلهم كان أكثر خدمة للسلاطين من فقهاء عصر الانحطاط‬ ‫وغير مبالين بأوضاع الامة استحي بديلا منهم‪.‬‬‫لما يعلم الشاب العربي من الجنسين أن ابن رشد الذين يعتبرونه خاتم سلسلة الفلاسفة‬‫على الاقل في بلاد السنة وأنه عاصر أحداث الحروب الصليبية دون أن يكون لذلك أدنى‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أثر في فكره واجتهاده ‪-‬تسليما بأن شرح نصوص أرسطو وكأنها تفسير قرآن يعتبر فكرا‪-‬‬ ‫سيفهم علميا وعمليا لمن عرف عني تفضيلهم‪.‬‬‫فالغزالي وهو اقل الثلاثة الذين أفضلهم ناضل على الأقل بأربع مؤلفات‪ :‬نقد السنة‬‫ونقد الباطنية ونقد الفلسفة ونقد الكلام ولم يكن غير مبال بدور النظر في العمل الآن‬‫وهنا في عصره‪ .‬أما ابن تيمية وابن خلدون فلا حاجة لبيان دورهما في العلم وفي العمل‬ ‫النضالي الاول في المعارضة والثاني في الحكم‪.‬‬‫ولأني اعتبر نفسي من نفس المدرسة احاول قدر المستطاع المشاركة في احداث تاريخنا‬‫الذي هو كوني بالطبيعة ولعل لحظته الراهنة رغم طابعها الانفعالي في الظاهر أكثر‬‫لحظاته إبرازا لهذا الدور على الأقل كما تعين فيما يقدم عليه شباب الأمة بجنسيه من‬ ‫علم وعمل لتحقيق شروط الاستئناف‪.‬‬‫ولا تصدقن من يوهم بأن اللامبالاة بأحداث تاريخ الشعب الذي ينتمي إليه العالم أو‬‫المفكر من شروط إخلاصه لاختصاصه‪ .‬فهذا ليس شرطا ضروريا ولا كافيا لأن يبدع في‬‫اختصاصه وفي مشاركته الفعلية في بناء دور أمته في التاريخ‪ .‬ومن الأمثلة الثلاثة المشار‬ ‫إليهم ثم بناة ألمانيا الحديثة‪ :‬جمع الهمين‪.‬‬‫فكنط وفشت وهيجل وشلنج وهردر وشلاير ماخر وعلى رأسهم جوته كلهم كانوا مثال‬‫الالتزام بمعارك ألمانيا وهي تسرع الخطى لكي تلحق بشعوب أوروبا الذين تقدموا عليها‬‫في مجالات الإصلاح التربوي والبحث العلمي عامة والإصلاح السياسي والبحث الإنساني‬ ‫والدستوري والخلقي خاصة‪.‬‬‫لذلك فكشف الحساب لن يقتصر على النخبة السياسية حكاما ومعارضة بل على أصناف‬‫النخب الخمسة الذين حددت دورهم فيما تقدم من البحث أعني نخبة الإرادة أو الساسة‬‫ونخبة المعرفة أو العلماء ونخبة القدرة أو الاقتصاديون ونخبة الحياة أي الفنانون ونخبة‬ ‫الوجود أو أصحاب الرؤى الدينية والفلسفية‪.‬‬‫فمن الظلم تحميل المسؤولية للنخبة الاولى نخبة الإرادة أي الساسة حكاما ومعارضين‬‫خلقيا ومن الحماقة معرفيا تصور الدول والأمم تفعل بساستها وحدهم‪ .‬فالدول مثل أي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فريق رياضي أو أي جوقة موسيقية لا تفعل إلا بالتناغم بين الموسيقيين والرياضيين في‬ ‫تحقيق النتيجة التي هي موضوع كشف الحساب‪.‬‬‫ولنبدأ بكشف حساب نخبة الإرادة بمعنى النخبة التي تجمع المتنافسين ممن يغلب عليهم‬‫مقوم الإرادة ويدفعهم لتزعم تمثيل إرادة الجماعة‪ .‬فنخبة الإرادة ظاهرة طبيعية في كل‬‫جماعة وهي من اسرار دينامية الجماعات حتى في العاب الاطفال في الاحياء‪ :‬يبرز فيها من‬ ‫له ميل إلى القيادة بانتخاب طبيعي‪.‬‬‫النخبة السياسية حكما ومعارضة هي حصيلة التنافس بين أصحاب الميول القيادية‬‫والاحزاب تمثل ما يشبه تربية خيول السباق في كل أمة لانتخاب القيادات إذا كانت الأمة‬‫مؤلفة من افراد أحرار من الجنسين‪ .‬لكن الشعوب التابعة مستتبعها يختار الأراذل للقيادة‬ ‫ويريدهم من فاقدي الإرادة اصلا‪.‬‬‫هو يريد طراطير يسمعون كلامه ويطيعون أوامره ولا يريد قيادات فعلية‪ .‬وقد ميز‬‫ابن خلدون بين الرئيس والسيد بكون الأول قيادته تأتي من اعتراف غيره به وتقديره‬‫والثاني قيادته تأتي من القوة والعنف الذي يفرض به نفسه على من لا يعترفون بقيادته‬ ‫لعلل خلقية أو نفسية أو حتى عاطفية‪.‬‬‫وتوجد طريقتان لإظهار هؤلاء الطراطير بمظهر القادة‪ :‬الأولى يستعملها الاستعمار‬‫المباشر لتستلهمه القيادة بعده والثانية يستعملونها هم حتى يفرضوا صورة القائد الملهم‪.‬‬‫فالاستعمار يبرزهم كزعماء تحرير وهم يبالغون في \"المقاومة والممانعة\" العنترياتية فتنطلي‬ ‫أكاذيبهم على الشعب سليم الطوية‪.‬‬‫ففي كشف الحساب لا بد من التمييز بين جيلين من النخب السياسية التي حكمت أو‬‫عارضت في بلاد العرب‪ :‬الجيل الذي أعده الاستعمار في مرحلة الكفاح من اجل التحرر (بين‬‫الحربين الكبريين) والجيل الذي ادعى الثورة عليه باسم مقاومة الاستعمار وخاصة (بعد‬ ‫الحرب الثانية) منذ خمسينات القرن الماضي‪.‬‬‫ولا بد من التنبيه أن مرحلة المقاومة للتحرير بدأت بجيل من ثقافة مختلفة تماما عن‬‫هذين الجيلين والاستعمار ساعد في القضاء عليه بإبراز الجيل الذي أعده ليكون قائدا‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لحركات التحرر من عملائه ‪-‬وبعضهم ليس بوعي منه‪-‬الذين حققوا له ما عجز عنه طيلة‬ ‫قرن أو أكثر من الاستعمار المباشر‪.‬‬‫ولعل علامتين تكفيان للدلالة على ما أعني‪ :‬فيكفي أن نعلم أن الابداع الفني العربي‬‫والتعليم العربي لم يكن رافعة لتوحيد لغة الامة وإحيائها بل صار الأول لتشعيبها والثاني‬‫لتغريبها‪ :‬قتل العربية بجعل أهم الفنون عامية (وخاصة بعد الراديو والتلفزة) وبجعل‬ ‫أهم العلوم تدرس بلغة المستعمر‪.‬‬‫لكن العلامة الأهم والشاملة هي محاولات كل هذه النخب اعتبار الدول القطرية‬‫مضطرة لتحويلها إلى أمم تستمد شرعيتها من تحقيق الانفصال بالعودة إلى تراث متقدم‬‫على التراث المشترك أو تال له حتى تجعل من بعض امة أمة تقليدا ما حدث في اوروبا في‬ ‫بداية النهضة والحداثة عندها‪.‬‬‫وفي ذلك خطآن هما سر التخلف الدائم والمتزايد في كل بلاد العرب‪ :‬فما فعلته اوروبا‬‫كان بين شعوب من ثقافات ولغات مختلفة ‪-‬وهو ما حدث عند المسلمين حتى قبل الاستعمار‪-‬‬‫وليس في شعب لأغلبيته الساحقة لغة وثقافة واحدة وليس في عصر العماليق التي تتطلب‬ ‫حجوما مناسبة في التنافس العالمي‪.‬‬‫وهاتان العلتان أو الخطآن هما سر التبعية البنيوية التي تنتج عن استحالة قيام دول‬‫بحجم قزمي في عصر العماليق وقد فهمت أوروبا ذلك رغم أن دولها كبيرة وغنية وكانت‬‫إمبراطورية‪ :‬فهمت أنها أمام العملاقين صارت مستعمرات فسعت لاسترداد شروط الدور‬ ‫بالجمع بين القطرية والقارية‪.‬‬‫فعندما تضع لغتك بين فكي كماشة العامية ولغة المستعمر تقتل أهم مقومات الوحدة‬‫وعندما تبحث لشرعية الاقطار ما تقدم على التاريخ المشترك أو ما تلاه تجعلها شبه‬‫مستحيلة لأنها تحيي أحقاد الماضي كحال الصراع بين القوميات في نفس الجماعة التي لم‬ ‫تكن موجودة اصلا فأنت تنتج محميات لا دولا‪.‬‬‫وفي كل ذلك كان الجرم الأكبر لنخب مصر‪ :‬فهم توهموا بنزعة فرعونية أن اللهجة‬‫المصرية ‪-‬بل القاهرية لأن الكثير من مناطق مصر أقرب إلى العربية من القاهرة‪-‬ينبغي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أن تصبح لغة العرب بفضل سيطرتهم على الإعلام والفنون المحولة بالراديو والتلفزة‬ ‫والسينما حتى صارت في آخر ركب الشعوب وركب العرب‪.‬‬‫ولهذه العلة فأكثر من تسع وتسعين في المائة من سياسي العرب أميون‪ .‬فحتى في عصر‬‫الانحطاط كان الحكام على الاقل لهم بلاط وبطانة من أفضل ما يوجد في عصرهم من‬‫المبدعين في الفنون التي كانت سائدة عندهم الادب عامة والتاريخ والفقه والكلام‪ .‬لكن‬ ‫بطانة حكامنا كلنا يعرف مستواهم وتكوينهم‪.‬‬‫ويكفي أن تسمع حاكما عربيا يخطب‪ .‬فأي مستعرب إسرائيلي أو حتى أمريكي له سلطان‬‫على لسان العرب لن تجد له مثيلا بين من يتلعثم من حكامنا حتى في قراءة السلام أو تحية‬‫الحاضرين فضلا عن التفكير الدال على أنه يفهم ما يقرأ بلغة الخليل وسيبويه والمنطق‬ ‫وذوق التلفظ موسيقى الكلام‪.‬‬‫ولو قارنت بمن عاصرت من رؤساء فرنسا لذكرت أن دوجول من أجود الكتاب وأنه يقرأ‬‫وأنه استراتيجي وأنه مقاوم حقيقي‪ .‬وان بومبيدو مبرز في الثقافة الكلاسيكية يعني‬‫الفرنسية واللاتينية واليونانية وأن جيسكار خريج مدرسة عليا وأن شيراك مثله وذواقة‬ ‫في الآثار وأن ميتران كاتب بليغ وحتى ماكرون‪.‬‬‫اذكروا لي سياسيا عربيا واحدا له هم يتجاوز مناورات الكرسي بمبتذلات المخابرات‬‫والمؤامرات والانقلابات واستعمال اراذل البصاصين والقوادين من حثالة المثقفين الذين لا‬‫يتجاوز فهمهم للحداثة البارات والحانات وما بين السرة والعانات ظنا أن الهندام‬ ‫والكرافات هي الثقافة والحداثة بالعمالة للسفارات‪.‬‬‫وطبعا لو كان ما أعنيه بالأمية السياسية نفي أن لهما شهادات وأن الـ \"د‪ \".‬لا تفارق‬‫أسمائهم وألقابهم وعناوينهم لكن ما اعنيه هو تمثيل إرادة لها وطموحها في استعادة دورها‬‫لئلا تبقى محميات متسولة لدى المستعمر الذي يمتص دمها ويسكتهم بما يبقيه لهم من فتات‬ ‫في شعوب لا تكاد تقتات‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لو اكتفيت بما قلت في الفصل الاول لوصف اجيال النخب السياسية لكان في قولي ظلم‬‫شديد‪ .‬فحتى الجيل الذي قبل لعبة الاستعمار ليكون خليفته في النقلة من شكله المباشر إلى‬‫شكله غير المباشر يمكن أن نجد فيه من كان يعتبر ذلك مرحلة ضرورية ينقلب بعدها على‬ ‫المستعمر‪.‬‬‫لذلك فلست أشكك مبدئا في ولائهم للأوطان إذ قد يكون بعضهم يعتبر ذلك من المناورة‬‫السياسية الضرورية وأعتقد أن جل القيادات الإسلامية التي قبلت بهذه اللعبة تتصور‬‫التذاكي مع الاستعمار في مستطاعها‪ .‬وهم يعتبرون ذلك من مفهوم السياسة هي \"فن الممكن\"‬ ‫بعد أن رأوا فشل \"الجهاديين\"‪.‬‬‫ولهذه العلة فما يحدث في النخب السياسية ليس مقصورا على التنافس بين القوى بمنطق‬‫الصراع الداخلي الذي ليس له سقف يحول دون تجاوزه كليات المصلحة الوطنية بل هو‬‫بمقتضى خطط الاستعمار ونظام العالم يخضع لمنطق الصراع الخارجي الذي يجعل القوى‬ ‫السياسية خيول التنافس الدولي‪.‬‬‫ولعل فشل المرحلة القومية في النصف الثاني من القرن الماضي خطؤها الأساسي كان توهم‬‫لعبة الاستفادة من صراع القطبين لبناء دولة قومية عربية‪ .‬وكان ذلك غاية الجهل بوخيم‬‫هذا السلوك فهو قد أفقدهم عامل الوحدة للغالبية الكبرى بوهم تحقيق الوحدة القومية‬ ‫ولم يروا أنهم قد بعثوا النعرات القومية‪.‬‬‫توهموا أن عرب المشرق لا يفرق بينهم إلا الأديان فضحوا بما يوحد أكثر من ثمانين‬‫بالمائة فيما يسمى بالوطن العربي أو بالأرض التي استعربت ثقافتها (وهذا أصح)‬‫ليتجاوزوا بما يتصورونه علة الاختلاف الوحدة مع عشر في المائة الباقية أعني مسيحيي‬ ‫المشرق‪.‬‬‫تصوروا أن العلمنة الفوقية للأنظمة الفاشية والمستبدة يمكن أن تحقق وحدة عربية‬‫بالانقلابات والعنف‪ .‬ولما كانت الأنظمة القبلية قد اختارت الصف الثاني في اللعبة الدولة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫صار الجميع مجرد بيدق في استراتيجيات تتجاوزهم لأن كلى الصفين كان فاقدا لمشروع‬ ‫يحقق الحجم المناسب للعصر‪.‬‬‫لذلك فالتفتيت لم يكن في البداية استراتيجية العدو إلا بهذا المعنى‪ :‬زرع ما سيصبح‬‫بجهوزه عامل تفتيت‪ .‬ذلك ان زرع العداء بين العرب ووحدة المسلمين الرمزية (الخلافة)‬‫نبتة انجليزية معاصرة لوعد بلفور وكلاهما نبتتان لم تكن النخب السياسية العربية مدركة‬ ‫لأبعادها التي ما زلنا نعاني من ويلاتها‪.‬‬‫ولما كان الانجليز أخبث شعوب أوروبا فإنهم علموا من أين تؤكل الكتف‪ :‬ليس بالصدفة‬‫أن اختاروا لزرع النبتة الأولى الحرمين والنبتة الثانية القبلة الاولى‪ .‬وليس بالصدفة أن‬‫عددوا المحميات التي تسمى الآن دولا والتي كانت مجرد قطع من أرض العرب وضعوا على‬ ‫كل واحدة منها قبيلة لتكون تحت حمايتهم‪.‬‬‫بدأوا بجامعة عربية وضعوا في نظامها ما يجعلها مسخرة في تاريخ العرب‪ :‬اي محمية ولو‬‫كان سكانها بعدد أصابع اليد يمكن ان تعطل أي قرار ولذلك فهي من خدع الوفاء بوعود‬‫إنجلترا لنخب لا تفهم العصر أو لا يعنيها أن تعمل بمقتضياته‪ :‬فأهم شيء في الدولة هو‬ ‫الحجم الذي يمكن من شروط الحماية والرعاية‪.‬‬‫وهم أعطوهم اسم الدول وحقيقة المحميات‪ .‬وكان ذلك بين الحربين أو مرحلة زرع الجيل‬‫الذي قضى على الجيل الاول في حركات التحرير قبل الحرب الأولى وبعده بقليل‪ .‬فالجيل‬‫الذي تم القضاء عليه هو الجيل الذي لم يكن يميز بين هدفين استراتيجيين‪ :‬التحرر من‬ ‫الاستعمار وشروط الاستئناف الفعلي‪.‬‬‫إنه جيل أفقه الاستراتيجي هو اعتبار النهضة لا تحصل إلا للأمة جمعاء وحرب التحرير‬‫من الاستعمار هي فرصة تحقيق ذلك في الأذهان والشروع في تحقيقه في الاعيان من خلال‬‫اعتبار دار الإسلام كلها ساحة حرب التحرير‪ :‬لمن يكن من يحارب في غير قطره حتى لو‬ ‫احترم أخلاق الحرب يعتبر إرهابيا كالآن‪.‬‬‫لم يكن التونسي الذي يذهب للجهاد مع المختار في ليبيا يشعر هو أو الليبي أنه أجنبي بل‬‫كان الجميع يشعر بأنه يدافع عن أرض الامة ولم يكن علماء النهضة وزعماء حرب‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫التحرير يؤمنون بالحدود التي فرضها الاستعمار والتي صارت حدودا حديدية بإرادة من‬ ‫زرعهم في محمياته التي يسمونها دولا‪.‬‬‫وهذا الجيل الذي قضى على الافق المتجاوز للقطريات هو الذي بدأ يفرض على المستوى‬‫الثقافي والروحي نفس العقلية بدعوى التحديث فباتت الثقافة المشتركة والتاريخ المشترك‬‫هدف كل التشويه الممكن حتى صارت النخبة المناظرة للنخبة السياسية في مستوى الأذهان‬ ‫‪-‬نخبة الرؤى الوجودية‪-‬مجرد أداة بيدهم‪.‬‬‫لكنهم صمدوا إلى أن بدأت الهزائم تلحق بالجيل الذي زرعه الاستعمار ولما أنهى المهمة‬‫الأولى ‪-‬الحدود الحديدية بدعوى الدولة القطرية‪-‬وفشل في المهمة الثانية ‪-‬تمزيق‬‫الثقافة الواحدة والتاريخ الواحد كان لابد من جيل آخر باسم الثورة على هذا الجيل المتهم‬ ‫بالخيانة‪ :‬جيل الانقلابات والشعبويات‪.‬‬‫فتم القضاء على مقومي الكيان السياسي القادر على القيام المستقل‪ :‬حكم الأميين من‬‫العسكر وتربية الأميين من المثقفين الذين يدعون التحديث والاشتراكية‪ .‬قضوا على‬‫شروط اقتصاد فعلي وعلى شروط ثقافة فعلية أي على الانتاجين اللذين من دونهما ليست‬ ‫الدولة وحدها هي التي تفسد بل الجماعة عينها‪.‬‬‫جعلوا الاقتصاد بيد مافية العسكر والثقافة بيد من جوعوهم ليصبحوا مجرد أبواق تفتي‬‫لهم‪ .‬وهذا صحيح بالنسبة إلى نوعي الأنظمة القبلية والعسكرية‪ .‬وهو لم يكن ظاهرا‬‫عند الأنظمة القبلية لما كانت مترفهة ترشي شعبها لكنها الأن وقد أصحبت في وضع اقتصادي‬ ‫لا تحسد عليه مآلها مثل الآخرين‪.‬‬‫والآن فلأشرح الخطة الاستعمارية التي تتأسس على الفعل اللامباشر‪ :‬يفعل في شروط‬‫الفعل المنتظر منك ليحول دون نجاحه مهما فعلت‪ .‬وشروط الفعل هي التي حددتها عندما‬‫وضعت نظرية الأحياز‪ :‬هو يفعل في المكان ليجعلك عاجزا عن الشرط المادي لوجود‪ .‬ويفعل‬ ‫في الزمان ليجعلك عاجزا عن الشروط الروحي‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالجيل الأول الذي زرعه الاستعمار كان لتثبيت تفتيت المكان أو الخارطة‬‫التي وضعها الاستعمار قبل أن يرحل‪ :‬نخب هذا الجيل السياسية اعتبرت ما سلمه لها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الاستعمار يستحق اسم الدولة وهي بالجوهر لان يمكن ألا يكون إلا محمية بالاستعمار غير‬ ‫المباشر‪.‬‬‫هو إذن جيل تثبيت ما حققه الاستعمار من تفكيك للوحدة المعنوية لدار الإسلام بيد‬‫المسلمين أنفسهم أعني الجيل الذي استعمله للقضاء على آفق الجيل السابق أعني الجيل‬‫الذي كان يؤمن بأن التحرير شامل للأمة وأنه فرصة تحقيق شروط الاستئناف الذي يعيد‬ ‫للأمة عزتها وقدرتها في عصر العماليق‪.‬‬‫وقد نجح هذا الجيل الذي زرعه الاستعمار في تحقيق تفتيت دار الإسلام بل هو بدا‬‫بمشروع لاورنس وسايكس بيكو وبلفور على الاقل في الأرض التي استعرب جل سكانها ‪-‬لأن‬‫العربي بالعرق لا يكاد يوجد إذ حتى الجزيرة العربية فإنها اختلطت دماؤها مع كل المسلمين‬ ‫إما بالهجرة أو باستجلاب النساء والعبيد‪.‬‬‫لكنه فشل في تحقيق تشتيت التاريخ‪-‬فتت الجغرافيا وفشل في تشتيت التاريخ‪-‬وذلك‬‫بفضل قوة الثقافة الإسلامية وصمود روح التاريخ المشترك على الأقل في الطبقات الشعبية‬‫والفضل الاول والاخير هو للقرآن والعربية والثقافة البعد الثاني من الزمان‪ :‬زمان‬ ‫الحديث مع زمان الحدث‪.‬‬‫والحرب الجارية حاليا هي على هذا الصمود‪ .‬وطبعا هيهات أن تنجح‪ .‬ذلك أن ثورة‬‫الشباب بجنسية لها فضيلة الجمع بين الثورة القيمية والثورة الحضارية‪ .‬فهي تريد تحقيق‬‫الحريتين اللتين هما جوهر الإسلام‪ :‬الحرية الروحية للفرد حتى يؤمن ويعمل صالحا‬ ‫والحرية السياسية للجماعة حتى تتواصى بالحق والصبر‪.‬‬‫ولأنها كذلك فهي تدرك أن شروط السيادة هي التي تضمن شروط الحريتين‪ :‬وإذن‬‫فهي تدرك أن الثورة ينبغي أن تكون مثل التي قضى عليها الجيلان اللذان وصفنا بأن‬‫تصبح حرب التحرر فرصة لتحقيق شروط الحجم المناسب للعصر بالتناسب مع حجم للنشأة‬ ‫الأولى وحجم الاستئناف‪.‬‬‫فلا يمكن لشباب الامة بجنسيه أن يحقق أهداف الثورة المباشرة في الأذهان وغير المباشرة‬‫في الأعيان (الحرية والكرامة) من دون شروطها (وحدة الاحياز الخمسة) التي ينبغي ان‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫تكون مباشرة في الأذهان حتى تتحقق في الاعيان فتكون عين تحقق الأهداف الأولى‪ .‬فهذا‬ ‫هو شرط نقض غزل الاستعمار وعملائه‪.‬‬‫هذا الفصل لم أكن أنوي املاءه لأنه في الحقية مجرد وصل بين الكلام في النخبة‬‫السياسية والنخبة الرؤيوية‪ .‬فمنطق كلامي على النخب يتبع الترتيب التالي‪ :‬أهداف‬‫الإرادة (نخبة السياسة) وعلاقتها بأهداف الوجود (نخبة الرؤى) ثم أدوات الإرادة‬ ‫(المعرفة والعلوم) وأدوات الوجود (الحياة والفنون)‪.‬‬‫وفي الغاية نصل إلى القدرة التي هي ما يحقق السيادة لأنه متعلق بالإنتاجين المادي‬‫(الاقتصاد) والروحي (الثقافة علما وفنا)‪ :‬وتلك هي النخب الخمس التي من دونها لا‬‫يمكن فهم حال أي أمة صعودا أو نزولا‪ .‬فمن دون عمل هذه النخب بتناغم تقتضيه رسالة‬ ‫ذات استراتيجية لا وجود لأمة سيدة وفرد حر‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫في كلامي على الوجود وتناسبه نخبة الرؤى الوجودية التي تتعلق بمنظور التربية مثلما‬‫كان كلامي على الإرادة مناسبا لنخبة السياسة التي تتعلق بمنظور الحكم سأنطلق من أكبر‬‫حدث في لحظتنا الراهنة تحسم نهائيا الحرب بين الكاريكاتورين التحديثي والتأصيلي في‬ ‫رؤى الوجود التي سادت بين الفتنتين‪.‬‬‫سبق أن بينت أن الامة عاشت في حالة طواري وقوانين استثنائية منذ حروب الفتنة‬‫الكبرى (بين القائلين بالوصية والقائلين بالاختيار في الحكم) إلى حروب الفتنة الصغرى‬‫(بين الدين واللادين في نظام حياة البشر الروحي والسياسي)‪ :‬معركة الكاريكاتورين‬ ‫التحديثي والتأصيلي حالت دون التأصيل والتحديث‪.‬‬‫وقبل الخوض في إشكالية نخبة الوجود أو الرؤى التي هي دينية وفلسفية في آن لا بد من‬‫أن اشير إلى أن تحليلاتي اريدها جامعة للنظر المغرق في التجريد (مثل نظرية الأحياز‬‫ونظرية المعادلة الوجودية ونظرية الرمزين ونظرية العلاقتين إلخ‪ )..‬والمغرقة في‬ ‫التعيين‪ :‬ومبدئي أن النظر كلما سما عانق العمل‪.‬‬‫والشرط في هذا العناق هو الإيمان بأن العمل لا يسمى عملا إلا إذا كان على علم‪ .‬ما‬‫عداه ليس عملا بل هو ارتجال كحال كل الساسة العرب‪ .‬ينسون الانفال ‪ 60‬حتى إذا هجم‬‫عليه عدو لجأوا إلى آخر مهرب‪ :‬الاستسلاح لعدو أشرس يدعي حمياتهم‪ .‬هم اليوم يلجؤون‬ ‫لإسرائيل خوفا من إيران‪.‬‬‫أحاول ما استطعت أن اتجنب جعل كلامي يصطبغ بالتجريد الفلسفي لكني في هذه الحالة‬‫لا مفر لي من الكلام على قضية أرهقتني‪ :‬لو كانت المعرفة كلها مكتسبة لاستحال على‬‫الإنسان شرط العلم والعمل في آن‪ .‬فالاكتساب يجعل كل معرفة بعدية ويمنع القول بالقبلي‬ ‫فيها‪ .‬والعمل حينها يكون دائما رد فعل لا فعل‪.‬‬‫وفي هذه الحالة يمتنع أن توجد نخبة الوجود أو الرؤى الوجودية ‪Die‬‬‫‪ Weltanschauung‬أو رؤى العالم المتجاوزة للموجود إلى قبليات أو متعاليات لا تستمد‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫من ماضي التجربة الإنسانية إلا إذا توهمنا أن التاريخ مجرد تكرار لماضيه‪ .‬بدأت بنخبة‬ ‫السياسية دون الإشارة إلى أن لهم رؤى تقودهم‪.‬‬‫فبمقتضى رؤاهم لما يريدون وما يعلمون وما يقدرون عليه وما يذوقون وما يرون يكون‬‫سلوكهم تجاه ما يعترضهم من مناسب أو غير مناسب مصادق أو معادي لعملهم بهذه الرؤية‪.‬‬‫فلكأنهم مترجمون لما في رؤاهم الذهنية إلى ما في أفعالهم العينية مع كل مناورات صراع‬ ‫الإرادات في الحياة‪.‬‬‫بعد تعريف العلاقة بين النخبة التي بدأنا بها والنخبة التي نمر إليها الآن مسعاي هو‬‫فهم دور نخبة الرؤى والتي تتمظهر إما في الخطاب الديني أو في الخطاب الفلسفي في قيام‬‫الامم والحضارات‪ .‬وأول حكم مسبق سخيف ينبغي تجاوزه هو المفاضلة بين النوعين الديني‬ ‫والفلسفي إلا إذا حرفا‪.‬‬‫فمن الأكاذيب دعوى علمية الفلسفة واسطورية الدين‪ .‬كلاهما يراوح بين البعدين‪ :‬فما‬‫فيهما من معرفة بعدية علمي وما فيهما من معرفة قبلية اسطورة بمنطق من لا يؤمن بالقبلي‬‫من المعرفة‪ .‬وهي في الحد الأدنى مقدرات ذهنية بلغة ابن تيمية (سواء كانت من جنس‬ ‫العلم أو من جنس الادب)‪.‬‬‫وكلاهما مبني على إيمان ضمني بأن للوجود نظاما وبأن الإنسان يدرك فطريا هذه‬‫الحقيقة وله فطريا القدرة على استخلاصها بتأمل بسيط حتى في مجرى حياته الشخصية‪.‬‬‫فإدراكه لذاته ولما يعتمل فيها يجعل ذاته وكأنها عينة من الوجود كله وهو يعيش حاضرا‬ ‫التذكر والتوقع والمراجعة الدائمة لذاته‪.‬‬‫وليس من شك في أن تجارب الماضي لها دور في توقع المستقبل لكن التوقع ليس التذكر‪.‬‬‫ومن ثم فللإنسان معرفة قبلية حتى في شكل منظومة فرضيات للامتحان وهو معنى العلاقة‬‫بين الرؤية الوجودية وسياسة الذات أولا وسياسة الجماعة ثانيا وهذا هو فضاء الفعل‬ ‫وتلويناته الخلقية‪.‬‬‫مشكل نخبنا الرؤية أنها عديمة الرؤية وخاصة في مرحلة الصراع بين الكاريكاتورين‬‫التأصيلي والتحديثي‪ :‬كلاهما لا يؤمن بما سميناه الرؤية القبلية أي كلاهما متبع وغير‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مبدع‪ .‬فكاريكاتور التأصيل يتصور الاستئناف تكرار ما يعتقده ماضي الذات وكاريكاتور‬ ‫التحديث يتصوره تكرار ما يعتقده حاضر الغرب‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن التوقع عندهما تذكر سطحيات ما يتصورونه حقيقة مثال الذات المستمد‬‫من ماضيها أو من حاضر غيرها‪ .‬فيكون كلا الكاريكاتورين خالطا بين مفهوم المثال الأعلى‬‫الكوني شرطا في قبلية المعرفة واعتبار أحد تعيناته لدى الذات أو الغير مطابقا له بصورة‬ ‫تجعل البعدي قبليا وتلغي شرط الإبداع‪.‬‬‫وكل أمة مات فيها شرط الإبداع أو المثال الاعلى المؤسس لكل الرؤى القبلية باعتبارها ما‬‫به يتجاوز الإنسان الحاصل في الاعيان من الموجود إلى الحاصل في الأذهان من المنشود‬‫تصبح أمة جامدة كل افعالها بعدية أي إنها تنتظر غيرها لتحاكي ما يسبقه إليها فلا تغامر‬ ‫ابدا لتبدع‪ :‬ببغاوية مطلقة‪.‬‬‫وطبيعي أن يكون الببغاء مقلدا لسيده خاصة إذا كان بيده رزقه‪ .‬لذلك فكاريكاتور‬‫الحداثة وكاريكاتور الأصالة كلاهما تابع للنخبة السياسية التي هي بدورها كاريكاتور‬‫حداثة (الأنظمة العسكرية) وكاريكاتور أصالة (الانظمة القبلية) وفي الحقيقة كلاهما‬ ‫جامع بين النوعين لأن له خطابين للداخل والخارج‪.‬‬‫لماذا قلت \"ما يعتقده\"؟ لأن مدعي التأصيل حصر ما يحاكيه من الماضي في قشوره إذ هو لا‬‫يعلم من الماضي إلا ما آل إليه عندما مات‪ .‬ومدعي التحديث حصر ما يحاكيه من الغرب في‬‫قشوره إذ هو لا يعلم من حاضره إلا ما آل إليه وهو يحتضر‪ .‬الحي من الحضارة واحد‪ :‬إنه‬ ‫علاج العلاقتين والإنتاجين‪.‬‬‫وفي الحقيقة نظرية العلاقتين والانتاجين خلدونية وليس لي من فضل غير صوغهما‬‫النسقي‪ :‬فالجماعة تجتمع لسد الحاجات (العمران البشري) وللأنس بالعشير (الاجتماع‬‫الإنساني) وهذان هما العلاقتان الأولي بين الجماعة والطبيعة مورد رزقها والثانية في‬ ‫الجماعة بين الناس للعيش سعداء وأحرار‪.‬‬‫ولا يتحقق ذلك من دون الإنتاجين‪ :‬المادي لسد الحاجات والروحي للأنس بالعشير ولا‬‫يكون ذلك من دون إبداع الحلول العلمية والعملية أولاهما باكتشاف قوانين الطبيعة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والثانية باكتشاف سنن التاريخ أو سنن تنظيم حياة البشر بصورة تقلل من التناكر وتكثر‬ ‫من التعارف بينهم‪.‬‬‫وفي علاج العلاقتين بالإنتاجين لا يوجد أدنى فرق بين الحضارات والشعوب من حيث‬‫الحقائق حتى وإن اختلفت الأساليب من جنس اختلاف اساليب ديزاين السيارات بين الدول‬‫التي تنتجها‪ :‬قوانين الميكانيكا واحدة لكن استعمالها في شكل السيارة وجمالياتها واكتمال‬ ‫وظائفها أمر أسلوبي لا غير‪.‬‬‫والرؤى إذن نوعان‪ :‬الأسلوبي فيه الكثر من الخصوصيات وهو ثانوي والمقوم الفعلي كوني‬‫لأنها يتعلق بالشروط الضرورية والكافية للقيام المستقل‪ :‬فكل شعب لا يستطيع حماية‬‫ذاته ورعايتها ليس شعب أحرار‪ .‬وما به تتحقق شروط الحماية والرعاية هو السياسة‬ ‫تربية لشروط التكوين وحكما لشروط التموين‪.‬‬‫وكلا النوعين من النخب الرؤيوية دينية كانت أو فلسفية في لحظتنا الحالية تخلط بين‬‫الأسلوبي والخصوصي وبين المقوم الذي لا خصوصية فيه إلا بسبب الجهل بشروط العلاقتين‬‫العمودية بين الجماعة والطبيعة والأفقية بين البشر وبأصل الحلول العلمية والعملية التي‬ ‫هي واحدة في كل الحضارات المبدعة‪.‬‬‫لذلك فكلما سمعت رجل دين أو متفلسف يتكلم على خصوصية دينية أو فلسفية أدركت‬‫أن الاول لم يقرأ القرآن أو على الأقل لم يفهم النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬وأن الثاني يخلط‬‫بين الفلسفة والإيديولوجيات القومية او الطبقية التي سيطرت من منطلق أرواح الشعوب‬ ‫الهيجلية والطبقية الماركسية‪.‬‬‫وقد اجتمع هذان الفهمان العقيمان لدى أصحاب المشروعات الفلسفية العربية في التركيز‬‫على الخصوصية والتطبيل لما يسمونه ما بعد الحداثة الذي هو عودة إلى كل ما ينافي‬‫الكونية الإنسانية سواء في عبارتها الدينية في الإسلام أو الفلسفية منذ أن ميز العقل‬ ‫الإنساني بين الأمر الواقع والامر الواجب‪.‬‬‫فالتمييز بين الامر الواقع والأمر الواجب يجعل المعرفة البعدية ممثلة للأمر الواقع‬‫وسيطرتها تعني أن فكر الإنسان مجرد مرآة لا ترى من الوجود إلى ظلاله (ابستمولوجيا‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الموجود) لكنه ليس مجرد مرآة فكيانه تشريع المنشود باشرئبابه إلى الرب المعبود أو المثال‬ ‫الاعلى‪ :‬وحدة الديني والفلسفي‪.‬‬‫هذا هو جوهر الرؤى الوجودية لدى الأنسان الحر روحيا وسياسيا‪ .‬فبالحرية الروحية‬‫يشرئب إلى المثال الاعلى وبالسياسة يسعى لتحقيق ما يقدر عليه منه‪ .‬وحينها لا يمكن‬‫للسياسي أن يكون خاضعا لما يسمونه فن الممكن لأن الممكن إضافي دائما إلى ما يمكن من‬ ‫تجاوز المضطر إلى الحر‪.‬‬‫وما يمكن من تجاوز المضطر إلى الحر هو هذه الرؤى التي تربي الأجيال التي تصبح‬‫معبرة عن إرادة الجماعة فتعلم ما يحققها وتقدر على اقصى الممكن منها لتكون حياتها بقيم‬‫هي التي تختارها ولا تفرض عليها بسبب اهمالها الأنفال ‪ 60‬والنساء ‪ 1‬والحجرات ‪13‬‬ ‫والنسا ‪ .58‬فتصبح بلا سيادة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫اجتماع الرؤية (لفهم معين للوجود والعالم) والإرادة (عمل يحقق ما يترتب عليها من‬‫مشروع تاريخي لأمة حرة) بات الواحد أن تربى نخبتان الأولى تحقق الشروط العلمية‬‫للعمل على علم والثان تحقق الشرطية الذوقية للعيش بقيم تحددها منزلة الإنسان الذي‬ ‫يؤمن بذلك المشروع‪ :‬عندنا الإسلام‪.‬‬‫وما وصفته في الفصلين السابقين في كلامي على النخبتين العاملة (نخبة الإرادة أو‬‫الساسة) والناظرة (نخبة الوجود أو أصحاب الرؤى) أي المحققة للمشروع الأولى والمحددة‬‫لآفقه وقيمه الثانية لم يكن هو ما يجري بل عكسه تماما لأن النخبتين النافذتين فيهما‬ ‫تابعتان ولا تمثلان إرادة الأمة ولا رؤيتها‪.‬‬‫وتلك هي علة اعتمادهما على العنف المادي (نخبة الإرادة التابعة) والعنف الروحي‬‫(نخبة الوجود التابعة للتابعين) وذلك من ادلة انعدام الشرعية‪ :‬فكل سلطان روحيا كان‬‫أو ماديا لا يقوم إلا بنسب معينة منهما‪ :‬قلما قلت الشرعية زاد العنف إذ السلطان بما هو‬ ‫سلطان شرعية وشوكة في نسب متعاكسة‪.‬‬‫وهذا لا يكفي لوصف هذه الوضعية‪ .‬فهي وضعية فرضها الاستعمار قبل الخروج للانتقال‬‫من المباشر إلى اللامباشر فجعلت من نصبهم على سلطان سياسيي لم يبق له إلا المادي (ممثلو‬‫الإرادة المسلوبة) وسلطان روحي لم يبق إلا وظيفة تبرير الاول واضفاء شرعية مزيفة‬ ‫عليه (أصحاب الروية المستلبة)‪.‬‬‫ومن ثم فالاستعمار سيفرض عليهما ‪-‬بوعي منهما أو بغير وعي‪-‬أن يفسدا شروط علاج‬‫العلاقتين بصورة تشل الإنتاجين بقتل الحريتين‪-‬أي ما يريده من النخبتين المواليتين من‬‫بدائل تقتل مسمى ما تسميان به‪ :‬نخبة المعرفة لن تنتج علما ونخبة الحياة لن تنتج فنا بل‬ ‫الأولى تتأدلج والثانية تتمهزل‪.‬‬‫فغياب المشروع واستلاب الإرادة والرؤية يجعل الاستيراد مغنيا عن الإنتاجين المادي‬‫(الاقتصاد) والروحي (الثقافة)وتقزيم الأحجام (ما وصفنا حول الأحياز) حائلا دون‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫شروط البحث العلمي المبدع والبحث الفني المبدع فلا يبقى إلا إيديولوجية الحداثة في‬ ‫العلم والفن بعلاقة مقلوبة بين الشرط والمشروط‪.‬‬‫ولأشرح معنى قلب العلاقة بين الشرط والمشروط‪ :‬بدلا من أخذ الحداثة بأسبابها التي‬‫حققتها (الثورات الخمس‪ :‬الروحية والفلسفية والعلمية والسياسة والاجتماعية) لا يأخذ‬‫المثقف العربي إلا ثمرات هذه الثورات دون الاجتهاد والجهاد اللذين جعلاها ممكنة‪:‬‬ ‫فتصبح نتائج حائلة دونهما بسبب كلفتها‪.‬‬‫لما تريد أن تعيش مثل الأمريكي وأنت لم تقم بأي من هذه الثورات فأنت تكلف الجهاز‬‫الاقتصادي الهزيل ما لا يستطيع تحمله‪ .‬تخيل مثلا أن البترول انتهى ما زلت لا أفهم كيف‬‫سيسخن الخليجي وسيبرد نظام عيش كلفته ليست في متناول اقتصاده عندما ينفد ما كان‬ ‫يستمد منه رفاهه؟ وقس عليه بقية العرب‪.‬‬‫ولا يغرنك ما يتوهمه من يتصور أن السياحة‪-‬حتى بكل ما فيها من مغريات كلنا يعلم‬‫طبيعتها‪-‬بديلا ممكنا عن ثروة طبيعية ناضبة دون أنتاج مبدع بالمعنى الحديث‪ :‬لن يتسوح‬‫أحد في الصحاري إذا لم يكن مع سياحته ما يستفيد منه جراء تجارة المواد الاولية والمشتقات‬ ‫المالية والمضاربية‪.‬‬‫سترحل هذه الامور طلبا لشروطها خاصة بعد أن ينجز مسار الحرير ويصبح المرور بقنال‬‫السويس غير ضروري والخليج فاقدا لأهميته الاستراتيجية الحالية‪ .‬والأمم التي تبنى‬‫حضارات لا تكتفي بتوقعات السنين بل لا بد من توقعات القرون والاستعداد لها بثورات‬ ‫علمية لا حول لنا فيها ولا قوة‪.‬‬‫ولن يحول دون حصول هذه التوقعات إلا استعادة وحدة الاحياز (المكان والزمان وشروط‬‫الانتاج المادي والإنتاج الرمزي والمرجعية المؤسسة لذلك كله)‪ .‬لكن النخبتين اللتين درسنا‬‫لا تعملان على ذلك بل هي اول المسهمين في تحقيق العكس‪ :‬الكل صار محميات والكل يتصور‬ ‫التحديث معكوس المسار‪.‬‬‫خرافة الصناديق السيادة هي بدروها ريع وليست إبداعا لثروة لأن من تمول‬‫الاستثمارات عنده هو الذي يعتبر مالك الثروة خاصة إذا كان مالكا للقدرة على حمايتها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وانتزاعها منك بمجرد قرار من مجالسه التشريعية‪ .‬فيصبح ما تتصوره عامل قوة مادية هو‬ ‫\"اليد التي توجع\" بلغة المصريين خوفا من تجميده‪.‬‬‫والحصيلة أن النخبتين اللتين درسنا ومآل الأحياز الذي وصفنا يجعلنا نزداد تبعية وتخلفا‬‫مهما بدا من تحضر عمراني مدين لبيع الثروات الطبيعية وليس لإبداع ثروات لا سبيل‬‫إليها إلا بالعلوم وتطبيقاتها وبالمؤسسات التي تشجع على العمل والحكم والتربية الراشدين‬ ‫لا على استبداد العسكر والقبائل‪.‬‬‫وبكلمة واحدة لا يمكن للمحميات أن يكون لها سياسة تربية وحكم تنتج شروط التكوين‬‫المبدع والنظام المشجع على الإبداع لأن رؤاها وإراداتها ليست ملكا لها بل هي مفروضة‬‫عليها وتفتيت جغرافيتها وتشتيت تاريخها يفقدانها شروط البحث العلمي والفني المبدعين‬ ‫في أمة قادرة على الحماية والرعاية‪.‬‬‫ومن ليس قادرا على حماية ونفسه (محتاج لقواعد) ورعايتها (محتاج لمد اليد) يعتبره‬‫ابن خلدون قد فسدت معان الإنسانية فيه فصار عالة على غيره وتابعا لها لا حول له ولا‬‫قوة حتى وإن كان له من الدولة خرقة يسميها علما ونشيدا رسميا يعزف فتنتفخ الاوداج‬ ‫ولا يكبر إلا جهاز المخابرات وعدد السجون‪.‬‬‫والنتيجة هي فساد نظام تكوين الإنسان ويهزل دوره فيزول البحث العلمي شرط علاج‬‫العلاقتين العمودية مع الطبيعة ومع البشر وفساد نظام تموين الإنسان ماديا (الفقر‬‫الاقتصادي والصراع الاجتماعي) وريحا (العقم الثقافي والصراع الإيديولوجي) وهذه‬ ‫حال نظام التكوين ونظام التموين في المحميات العربية‪.‬‬‫فالتعليم الذي هو التكوين النسقي إضافة إلى التكوين غير النسقي التابع لثقافة المجتمع‬‫في الحياة العادية وفي الممارسات التقنية والمهنية كلها لا تحقق الحد الأدنى لجعل الإنسان‬‫قادرا على الإبداع في علاج العلاقة العمودية (قوانين الطبيعة) والأفقية (السنن‬ ‫التاريخية)‪ :‬التكوين محو أمية سطحي‪.‬‬‫ولما كان البحث العلمي وتطبيقاته لا يتقدم من الأدنى إلى الأعلى بل بالعكس فالبحث‬‫الأساسي وهو الاعلى هو الذي قاطرة البحث التطبيقي والعلوم القريبة من الممارسة النفعية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وكان هذا البحث باهض الكلفة فالمحميات الفقيرة لا تقدر عليه فيكون نظام التكوين فيها‬ ‫بالكاد يعلم القراءة والكتابة‪.‬‬‫فلا يكاد يخرج إلا العيي والغبي والدعي‪ .‬كلما كثرت الشهادات والعناوين قلت القائدة‬‫لأنها صارت من جنس التجمل الاجتماعي ولا تعني شيئا فيما يتعلق بالإبداع العلمي‪.‬‬‫وسنرى أن ما يري في الإبداع الفني من الآدب إلى كل مشتقاته التعبيرية سواء ترجمت‬ ‫بالمرئي والمرسوم أو بالمسموع لا يختلف كثيرا‪.‬‬‫وقد يبدو كلامي على الأحياز ودورها وكأني بها اعتبر الامر متجاوز للإرادة والرؤى‬‫باعتبارها من الشروط الموضوعية التي قد يكون فيها عذر للنخبتين السياسية والرؤيوية‪:‬‬‫فيمكن للواحد منهم أن يقول ماذا تريدني أن أفعل ودولتي صغيرة وليس لي على المحددات‬ ‫الكبرى للمصائر سلطان‪.‬‬‫وهذا من أيسر تعلل المتفصين من المسؤولية عن مصير الامة‪ .‬لكن هذه المهارب لا تنطلي‬‫على أحد‪ :‬فدول أوروبا وهي حقا كبيرة ‪-‬فرنسا ألمانيا إلخ‪ - ..‬صارت تشعر بأنها ليست‬‫كبيرة بما يكفي للتناسب مع شروط السيادة في عصر العماليق‪ .‬ولا أحد من حكام المحميات‬ ‫يقبل التنازل الذي يحقق السيادة للجميع‪.‬‬‫وكل ما يقدمونه من حلول يكون في الحقيقة زيادة في المشاكل وليس تقدما في علاجها‪.‬‬‫ولأضرب مثال لغة التعليم‪ :‬يزعمون أن التعليم باللغة الأجنبية يحل المشكل‪ .‬لكنه‬‫يضاعفها‪ .‬فبدلا من تعريب العلوم اعتبروا فرنسة الشعب شرطا في تعليمه‪ .‬فلا هو تفرنس‬ ‫ولا هو تعلم‪ :‬نجحوا في إفساد اللغة‪.‬‬‫والمثال الثاني بدلا من تكوين سوق قبل التصنيع عملت الجزائر ومصر والعراق كل ما‬‫يستطيعون لمنع تكوين سوق عربية بخلافات سخيفة بين الانظمة‪ .‬ولما حاولوا التصنيع صارت‬‫معاملهم عالة عليهم لأنها يمكن أن تنتج في يوم واحد ما تطلبه السوق الضيقة لمنتج فاسد‬ ‫اصلا بسب سوء التكوين‪.‬‬‫والحصيلة هي شبائه من كل شيء ومن ثم فلا شيء يتحقق‪ :‬تكوين بدائي لمحو الامية‬‫إنتاج بدائي لا يباع ولا يشترى وبيع للثروات الطبيعية خاما وتحويل البلاد إلى محميات‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لقواعد عسكرية ومزابل لفضلات التصنيع الذي يعده المستعمر تفضلا على محمياته‬ ‫ويصبح الاستعباد التعاون فيه مشاركة صيغة صرفية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وصلنا الآن إلى غاية البحث‪ :‬كيف نفهم الشلل التام لكل النخب الخمس نخبة الإرادة‬‫ونخبة الوجود ونخبة المعرفة ونخبة الحياة أي النخبة السياسية والنخبة الرؤيوية والنخبة‬‫العلمية والنخبة الفنية بصورة جعلت الامة عاجزة ومشلولة بعد أن تفتت جغرافيتها وتشتت‬ ‫تاريخها فلم تعد قادرة على شيء‪.‬‬‫وهذا هو موضوع النخبة الاخيرة نخبة القدرة التي تمثل وجهيها أي القدرة المادية‬‫(الاقتصاد) والقدرة الروحية (الثقافة) فأصبحت الامة على الحال التي وصف بها ابن‬‫خلدون كل أمة فسدت فيها معاني الإنسانية عالة على غيرها في الحماية (محميات‪:‬‬ ‫القواعد) والرعاية (مستولات‪ :‬انظر حال شعوبها)‪.‬‬‫كيف يعقل أن يكون عدد دويلات العرب اثنان وعشرون وعدد سكانها ما يقرب من أربع‬‫مائة مليون ومساحتها ما يقرب من ‪ 14‬مليون كم‪ ²‬ويكون منتجها الخام دون منتج تركيا‬‫الخام رغم ما لديهم من ثروات طبيعية لا تملك منها تركيا ‪ 1‬في المائة ويكون منتجها العلمي‬ ‫والفني في الحضيض وهم على ما كانت عليه جاهليتهم‪.‬‬‫سبق فدرست مقومات الدولة (المرجعية ‪ -‬والقوى السياسية ‪ -‬والدستور ‪ -‬والهيئة‬‫الحاكمة والمعارضة ‪ -‬ووظائف الدولة العشر) وهي ما يسميه ابن خلدون صورة العمران‬‫لسد الحاجات المادية والروحية والاجتماع للأنس بالعشير للعيش المشترك السلمي‬ ‫والسعيد‪ :‬وفيها يكمن الخلل المشل للقدرة بمعنييها‪.‬‬‫وظهور الشلل والعجز في هذه المقومات لكنه مظهرها وليس علتها‪ :‬علتها هو ما بينا في‬‫الفصول الاربعة السابقة أعني النخبة السياسية عديمة الإرادة الفعلية لأنها خاضعة لوصي‬‫وليس لها رؤية لأن الوصي يفرض عليها رؤاه (حتى في معتقداتهم الدينية) ونظام تكوين‬ ‫الإنسان معرفيا وذوقيا حتى يصبح ممسوخا‪.‬‬‫وهو لا يفرض بالضرورة مباشرة بل هو بتفتيت الجغرافيا يفقدهم الحجم الكافي لإنتاج‬‫الثروة المبدع وبتشتيت التاريخ يقدهم العمق الكافي لإنتاج التراث المبدع ومن ثم فالأحياز‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الأربعة المكان والزمان والثروة والتراث كلها تصبح تحت سلطان المستعمر الذي يمد يده‬ ‫حتى إلى المرجعية الروحية ليغيرها‪.‬‬‫وتجد مع ذلك من نخبهم المؤدلجة القومية واليسارية وحتى التقليدية من خدم الطراطير‬‫العربية يعتبرون ما به خرجت تركيا من الحال التي هو فيها غارقون بنظام لا يحارب ذاته‬‫ومرجعياته بل تصالح معهما في عقد ونيف معتبرين ذلك \"خونجة\" وليس اهتداء للحلول‬ ‫التي تعمل بالأسباب وتحقق مشروعا مستقلا‪.‬‬‫وإذا حدثتهم عن مشروع يجعل الإرادة والرؤية والمعرفة والفن تعمل في تناغم يحقق‬‫مشروع يمكن من مواجهة التحديات التي حصرناها في علاج العلاقتين بالإبداعين الفني‬‫والعملي شرطين لإنتاجين المادي والروحي أي لتحقيق شروط الاستقلال أو مقومي السيادة‬ ‫حماية ورعاية فضلوا استعباد شعوبهم لعمالتهم‪.‬‬‫وصلنا بالبحث إلى مرحلة تقتضي أن أعلل طبيعة الخطاب الذي أقدمه‪ .‬عللته بداية‬‫وأعلله غاية قبل الكلام على فساد معاني الإنسانية وعلتيه أعني العنف الروحي (الوساطة‬‫التي تنفي الحرية الروحية للأفراد) والعنف المادي الذي ينفي الحرية السياسية لجماعات‬ ‫الأفراد الاحرار روحيا‪ :‬عنف التربية والحكم‪.‬‬‫بينت في بداية المحاولة أن المقابلة بين الفلسفة والدين بدعوى علمية الأولى واسطورية‬‫الثاني دليل جهل بحقيقتهما‪ :‬فكلاهما فيه هذا وذاك بقدر ما فيه من معرفة بعدية للموجود‬‫ورؤية قبلية للمنشود‪ .‬كلاهما يميز بين الوجود الحق وظاهره‪ .‬وشرطه أن يكون كيان‬ ‫الإنسان المنشود فيه متقدما على الموجود‪.‬‬‫الإنسان مشروع دائم التحصيل وليس حقيقة حاصلة حتى عضويا فضلا عنه روحيا‪ .‬ولولا‬‫روحه التي هي الوعي بهذه الحقيقة لامتنع عليه أن يكون ذا دين وفلسفة ولكان أقصى ما‬‫يعلمه وما يشرئب إليه لا يتجاوز ما يحصل للمرآة التي تعكس الموجود ولا شيء دونه وهي‬ ‫لا تعكس إلى ظله الذي ينكس عليها‪.‬‬‫فلأسلم جدلا لشقي الهيجلية الشارحين لرؤيته التي تنفي الما هناك ‪Jenseit‬وراء الما‬‫هنا ‪Diesseit‬القائلين بان الماهناك من خيال الإنسان لاستكمال ما يعيه من نقص في وجوده‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وأن المنشود ليس إلا الوعي بنقص الموجود لكن عليهم أن يسلموا كذلك بأن العلم والعمل‬ ‫كلاهما دليل هذا النقص والاستكمال‪.‬‬‫أو عليهم أن يسلموا بما هو ضمني في كلامهم‪ :‬لا شيء يمكن أن يحصل غير ما يحصل ومن‬‫ثم فهو قائلون بالفاتاليسم ومرجعون تاريخ الإنساني الخلقي (أي أفعاله الحرة) وهم‬‫والتاريخ الوحيد الحقيقي هو التاريخ الطبيعي ومن ثم فعلى العرب والمسلمين أن يستسلموا‬ ‫لسلطان الأقوى إيمانا بأنه الافضل‪.‬‬‫كيف أدعي أن العلم حتى للموجود مشروط بما يفيد تقدم المنشود فيه على الموجود‪:‬‬‫ذلك أن العلم شرطه إلا يخلط بين حقيقة ما يعلم وظاهره‪ .‬لذلك فلا شيء في النظريات‬‫يرد إلى عكس الظاهرات بل هو غوص إلى الباطنات وهي كلها مثل رياضية تنطبق تعلل‬ ‫الظهور ولا ترد إلى الظاهر‪.‬‬‫وكل مبدع لنظرية لا ينطلق من ظاهر الوجود بل مما يتخيل أنه المنشود لو كان هو صانعه‬‫فيفترض وراء ظاهر الوجود شبه \"واجب الوجود\" الذي به يمكن تعليل الظاهر للنفاذ إلى‬‫الباطن أو الحقيقة‪ .‬وهذا هو عين كيان الإنسان وهو قد يغفل عنه في المجال الخلقي إذا‬ ‫فاعلا ولا ينساه أبدا عندما يكون منفعلا‪.‬‬‫مثال ذلك أن الإنسان ظلوم‪ .‬لكنه شكاء عندما يظلم‪ .‬وهو إذن يعلم معنى العدل علما‬‫فطريا لكنه ينساه عندما يكون في كبرياء الفعل ويذكره عندما يكون في ذل الانفعال‪ .‬من‬‫دون ذلك يستحيل أن يوجد معنى للقيم الخمس‪ :‬الحرية (للإرادة) والحقيقة (للعلم)‬ ‫والخير(للقدرة) والجمال (للحياة) والتعالي (للمنشود)‪.‬‬‫بعد هذا الاستطراد أعود إلى مسألتي‪ :‬كيف تزول القدرة ويحل محلها العجز في‬‫الإنتاجين المادي والروحي للتموين الضروري للتكوين في جماعة تابعة من شروط بقائها‬‫تابعة الحيلولة دونها وهذه القدرة بعملين أولهما يغير الأحياز أو الشرط العيني للقدرة‬ ‫والثاني يغير الأنسان أو الشرط الذهني للقدرة‪.‬‬‫ولما كان هذان التغييران بشعين لان لا يوجد إنسان يفضل العجز عن القدرة فإن العنف‬‫اللطيف يتمثل في قلب القيم كلها بجعل أسمائها من الأضداد‪ :‬فتكونه الحرية هي النزوات‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والعلم هو الإيديولوجيا والقدرة هي نفي الذات والحياة هي فنون ما دون السرة والرؤى‬ ‫هي ما شرحنا في هذه الاستطراد‪ :‬فكر نخبنا‪.‬‬‫هذا فكر نخبنا التي تدعي الحداثة فما هو فكر نخبنا التي تدعي الأصالة‪ :‬نفس الموقف‬‫لكنه يسمى قضاء وقدرا واستسلاما لفهوم معكوسة تماما تغير ثورتي الإسلام أعني الحرية‬‫الروحية للأفراد (لا وساطة بين الفرد وربه) والحرية السياسية للجماعة المؤلفة منهم (لا‬ ‫وصاية عليهم) فيلغون القيم باسمها‪.‬‬‫لذلك فكل سعيهم منع كل استراتيجية لتحقيق الشرطين‪ :‬جعل الأحياز مناسبة للعصر في‬‫الاعيان وجعل مقومات الإنسان (الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) محققة‬‫لشرطي القيام الحر أعني القدرة على الانتاجين المادي والروحي شرطين للتموين الذي‬ ‫من دونه يمتنع تكوين الإنسان الحر والعزيز‪.‬‬‫فسواء كانوا من الجهاديين أو من التطبيعين الخاضعين لحماتيهم كلاهما يمثل الثورة‬‫المضادة التي ترفض كل الحلول الناجعة لإشكالية الأحياز المفتتة وكيان الإنسان المشتت‪.‬‬‫وهبنا سلمنا لهم أن للأتراك نزعة الهيمنة هل اختيار جماعة الثورة المضادة والممانعة معناه‬ ‫خلو إسرائيل وإيران منها‪.‬‬‫وما تفعلون حتى لا تكونوا محتاجين لا لإسرائيل ولا لإيران ومستغنيين عن تركيا التي‬‫تتهمونها بالعلمانية والفساد والأخونة في آن؟ من حال دون التكامل العربي أليست نفس‬‫الإمارة التي تقود الثورة المضادة؟ من يؤبد تمزيق الجغرافيا وتشتيت التاريخ متصورا أن‬ ‫المائل السائل سريع التبديد ثروة؟‬‫وطبعا في هذه الحالة لا يمكن لمقومات الدولة أن تكون سوية‪ :‬المرجعية تشوه القوى‬‫السياسية في حرب اهلية الهيئة الحاكمة والمعارضة يتنافسان على العمالة ووظائف الدولة‬‫العشر (خمسة للرعاية وخمسة للحماية) ينخرها الاستبداد والفساد‪ :‬وذلك كله تعبير‬ ‫صادق عن شعب نخبه رمز التبعية والعبودية‪.‬‬‫وختاما فوظائف الرعاية تكوينا (التربية النظامية والتنشئة الاجتماعية) وتموينا‬‫(الانتاج المادي والإنتاج الثقافي) وأصلها أو البحث العلمي مثل وظائف الحماية الداخلية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫(القضاء والامن) والخارجية (الدبلوماسية والدفاع) وأصلها جميعا الاستعلام والإعلام‬ ‫السياسي كلها فاسدة ثمرة للاستبداد والفساد‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook