أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
المحتويات1 تمهيد3 : مجال الدلالة القرآني واللساني 4 4: 6: جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس النظري 9 جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس العملي 17 النتائج في إبداع الأمة الرمزي والفعلي 20 سبل التحرر من صنم العلمانيين والأصلانيين .أو الثورة المعرفية ومشروع الإصلاح العملي25 : الخاتمة 31
أجلت الكلام في القرآن ثم في التراث ،بسبب الأحداث التي تعوق الغوص فيما ورائها من بعائد ،تقتضي تجاوز عاجل الهموم التي تحول دون صفاء الذهن.فما يهدد مستقبل تورة التحرر(الربيع) وثورة التحرير(غزة) برزت فيه علامات الأمل: فالشعوب رفضت بوضوح الصفقة ،وأعداء الثورة سيولون الأدبار. ولما كانت هذه العلامات دالة على ان فاعلية الموجب من التراث تعود ،ولو ببطء ،وكانت ذات صلة بالموضوعين المؤجلين ،فإني منها سأعود إليهما بالتوالي. أعود إلى التراث بداية ،يليه القرآن. ذلك أن القرآن هو المنعرج التاريخي في التراث الحي :فالإيجابية التي عادت في الخليج تتعلق بثقافته القبلية. وأعني اللحمة القبلية التي تجعل دويلات الخليج متداخلة الأنساب ،بصورة تصمد أمام الصراعات السياسية للأنظمة. وهذه من ثقافة العرب حتى قبل الإسلام.لكن ما لاحظته-وهو المؤسف حقا-هو أن دور الإسلام بصفته المصدر الأسمى لقيم الأمة، لم يبرز لعلتين: -سكوت العلماء 33 1
-وحصول الأزمة في أفضل الأيام. صحيح أن سكوت العلماء في أنظمة مستبدة وظالمة ،يفيد عادة أدنى درجات الشجاعة من الرفض .إذ سكوتهم أفضل من كلام الطبالين الذي لا حياء لهم ولا دين. أعذر الساكتين لعلمي بالأوضاع ،حتى وإن كان ذلك يتنافى مع الجهاد في الله .خلق الإنسان ضعيفا والسكوت احتجاج القلب ،لم يصل إلى اللسان ،فضلا عن اليد. بعد هذا التمهيد ،أعود إلى الكلام على التراث.ما تقدم من فصول ،عالج قضايا منهجية وابستمولوجية ع ّرفت فيها مفهوم التراث وإحيائه ودوره التاريخي. لكني لم أصل ذلك بالأحداث عامة دون حصر في أزمة الخليج ،إلى كل أزمات الإقليم، وخاصة أسلحة أعداء الإسلام ومليشيات القلم والسيف والكاريكاتورين.فما علاقة الدراسات التراثية ومقاصد أصحابها بالوضع الحالي إيجابا وسلبا ،في سعي الأمة إلى استئناف دورها ،بصورة تجعلها قطبا عالميا كما كانت؟ وهل لمليشيات القلم والسيف علاقة بهذه العملية؟أم هي ظاهرة عابرة ،نتجت عن التوظيف الاستعماري واستراتيجيات ذراعيه في الإقليم، لا يغذيها التراث؟ أليس في دراسات التراث ما يهدف خاصة إلى استغلاله من أجل تكوين هذه الجيوش التي تحارب شروط الاستئناف ،لمجرد أنها تيسر التجنيد في المليشيات؟وهذه الأسئلة مع الواقع ،صنم النخب العربية الذي كتبته سنة ،2007مدخل الضروري لدرس العلاقة بين مليشيات التهديم الذاتي ودرس التراث. 33 2
تمهيد: لا يكاد يفتح أحد المفكرين العرب فاه أيا كان الاتجاه علمانيا كان صاحبه أو أصلانيا إلاويقرع سمعك بهبل الجديد مع جوقته أو صيغة النظرية والعملية :الواقع ودوره سواء في فكره الوضعي (نقد التراث في ضوء الواقع!) أو في فقهه الشرعي (تطوير الفقه بفقه الواقع المزعوم!) .فكيف نفهم المنزلة التي بات يحظى بها هذا الوثن وهل يدرك المتكلمون باسمه وظائفه الوثنية في خطابهم وفي الوجود؟ ذلك ما أريد أن أدقق معناهفأحدد تصوره وأحصر دلالته قدر المستطاع بعلاج نسقي يبين خواء هذا المعبود الذي بات مطلوب كلا الحزبين المرضعين لجراثيم الحرب الأهلية في البلاد العربية جراثيمها التيتعج بها مزابل الفكر المنحط السائد على معركة نقد التراث المزعومة توظيفا بالسلب عند العلماني أو بالإيجاب عند الأصلاني. فالمعاني المتداولة عند موثني الواقع سواء كانوا من العلمانيين أو من الأصلانيين لا تتجاوز الفهم العامي لتصور الواقع .إنها تدور كلها حول أمور ليس لها علاقة بمعانيه في اللسان العربي ولا بمعانيه في القرآن الكريم كما نبينها لاحقا فضلا عن معانيه العلميةوالفلسفية بل هي مستمدة من تضمين خفي لمعاني الكلمات الأجنبية التي يترجمون بها في لا وعيهم كلمة الواقع فيغلفون المفهومية العامية بظرف اللغة الأجنبية :يغصبون فقه اللغة العربية على أن يرطن إفرنجي دون تمكن حقيقي منهما فضلا عن الجهل بطبيعةالتصور المثالية التي ترد إليها المعاني الفلسفية كما سنرى .ألست ترى بعضهم يكلمك علىفقه الكلمات العربية باثميولوجيا ما يتصوره مقابلا لها في اللسان الفرنسي أو الإنجليزي؟ وحتى في هذه العاهة فإنهم يذهبون إلى أفسد ضروبها وأقلها قربا من الدلالة التي تستمد من العربية .فبدلا من المقابل الألماني Wirklichkeitالذي يمكن أن يقربهم 33 3
من المعنى العربي لكلمة واقع لأنها تفيد الفاعلية الحقة أو الأثر الذي بالفعل تراهم يذهبون إلى الاستمداد من اثميلوجيا كلمة فرنسية ذات أصل لاتيني Resيعني الشيء كلمة فرنسية هي ريال Réelويأخذونها في معناها الغفل بمعنى الشيء المادي الخارجي لا بمعنى \"الأمر\" أو الشيء المجرد جاعلين ما لا يطابق هذا المعنى الغفل وهما في أقصى أحكامهم صرامة على ما ليس بواقعي عندهم وفي أدناها صرامة يقابلون بين ما في الذهن وما في العين اعتمادا على خرافة رد الفكر إلى المرآة المنفعلة التي تعكس الواقع.لذلك فسنقفو أثر هذا الصنم لحصر مقوماته بالمقابل مع الدلالة الخفية والوظيفة المنسية لتصور الواقع في اللسان العربي وفي العلم والفلسفة والدين مقوماته التي تعارض تمام المعارضة ما آل إليه أمره في التمثلات العامية للمعاني العقلية التي جعلتها نخبنا شعارات فافقدتها وظائفها الحقيقية .وأملنا من القارئ أن يعذرنا فلا يتهمنا بالتعسير فيما يتصوره قابلا للتيسير :فالمسألة بذاتها معقدة ولا ذنب لنا في محاولة اقتصاص كلتشاجناتها بالمستطاع من التحرير الذي يقتضيه التحليل العقلي الخبير .وهذه هي مسائل البحث: .1مجال الدلالة ببعديه القرآني الخاص واللساني العام. .2التأسيس النظري في الفكرين الأصلاني والعلماني. .3التأسيس العلمي في الفكرين الأصلاني والعلماني. .4نتائج التأسيسين على إبداع الأمة الرمزي والفعلي. .5سبل التحرر من هذا الوثن وآثار التأسيسين. مجال الدلالة القرآني واللساني : 33 4
بخلاف المعتاد فإننا نبدأ بمجال الدلالة القرآني الخاص لعلتين: فأما العلة الأولى فهي ما يلاحظه أي متصفح لمعجم لسان العرب من تعذر الجمع بين المعاني الكثيرة والمتناقضة لمادة \"و.ق.ع \".في اللسان العربي من دون شواهد متواترة كافية تمكن من حصر الاستعمالات الأساسية للمادة ومشتقاتها شواهد من نصوص موثوق بها من الآداب العربية .فالدلالات التي ينسبها لسان العرب إلى مادة \"و .ق .ع\". المجردة تبدو عديمة الأصل الجامع لأنها أولا لا تكاد تحصى ولأنها ثانيا غير مصحوبة بشواهد استعمال مقنعة تمكن من تحديد المعاني.وأما العلة الثانية فهي أن القرآن يمكن أن يعوض فقدان الشواهد لأنه يعتبر حتى عند من لا يؤمن به ويكتفي بتنزيله منزلة النص الأدبي المجرد بديلا ممكنا من الشواهد المتواترة على استعمالات كثيرة لهذه المادة .فهو النص الوحيد الموثوق به أكثر من أيمصدر آخر خاصة وكل علوم العربية فضلا عن جمع الأدبيات واللسانيات العربية متأخر عنه في الزمان وفضلا عن كونه النص الذي ترد فيه مادة وقع ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة .فمادة \"و.ق.ع \".وردت فعلا أربعا وعشرين مرة في القرآن الكريم منها ثلاث عشرة مرة في صيغة فعلية ( 9في الماضي و 2فعل في المضارع و 2في الأمر)وإحدى عشرة مرة في صيغة مشتقات ( 7اسم فاعل مذكر و 2اسم فاعل مؤنث صار علما على القيامة و 1اسم مرة و 1اسم مكان). والدلالة تراوح بين الوقوع بمعنى السقوط (مثل قعوا أو وقعت السماء عليهم إلخ)..والوقوع بمعنى الحصول المجرد الفعلي أو المنتظر (وقع بهم أو وقعت الواقعة) أو بمعنى وجوب الحصول (وقع عليهم القول من جنس َحق عليهم القول) وينظر إليها ثلاثتها إما 33 5
بذاتها أو بمحلها أو بفاعلها أو بمفعولها أو بموضوع فعلها .وكل هذه المعاني لا تتضمن المقابلة بين ما في الذهن وما في العين فضلا عن المقابلة بين الحقيقة والوهم بل هي تعني وجود علاقة بين حدث وزمان أو بين حدث ومكان بصفات الحصول المجرد أو الحصولالمنتظر بإطلاق أو بتعيين متردد بين الإمكان والوجوب .وبذلك فإن هذا المعنى المتواتر في الورودات القرآنية يؤول إلى خمس دلالات عنصرية هي: .1الحصول المجرد .2والحصول الموجه (الإمكان والوجوب والامتناع) .3وأثر الحصول في موضوعه موجها حسب ظرفيه .4الزماني بتصريف الفعل (وقع يقع سيقع) والزيادة (واقع توقع وقع) .5والمكاني بمشتقات ظرف المكان (موقع). وهذا الحصر شبه النسقي يجعلنا نكتشف المسلك الهادي Der Leitfadenفي الشبكة الدلالية التي يمكن أن تتمحور حولها معاني الواقع فييسر علينا الولوج إلى نظام المجال الدلالي في اللسان العربي الذي يبدو شبه مستحيل لفرط تنوع عناصره واختلافها. : رغم ما ذكرنا من تعدد معاني المادة وتعارضها إلى حد يكاد يلغي كل إمكانية لتحديد نواة دقيقة توحد بينها في مجال معين فإن أغلبها يدور حول فعل محدث للصوت وأثره سواء أخذ من حيث ذاته أو من حيث فاعله أو من حيث مفعوله في متلقيه أو في موضوعه أو من حيث جهة فعله المترددة بين الإمكان والوجوب أو من حيث ظرفيه الزماني والمكاني .لذلك فإن محاولة حصر هذه الدلالات ليست مستحيلة إذا عدنا إليها منالفكرة الأولى التي أوحت بها معانيها في النص القرآني معانيها التي توجهنا إلى مزيدات 33 6
المادة الأبرز في الاستعمال السائد على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الكريم خاصة المزيدات الدالة على مستويات التجريد اللساني لأنها علامات تصوير المادة القصدي. وقد يكون من المفيد أن نستعمل طريقة في الحصر المنهجي لخارطة مجال الدلالة تبدأبحدي المعنى الأقصيين كما يبرزان من أهم مشتقين مزيدين من المادة ثم نرتب ما بينهما كما يفعل الفلاسفة عادة في كل عمليات الحصر الشارط للسبر والتقسيم أو عند تحديد العلاقة بين متعين الصورة ولا متعين المادة :مثل العلاقة بين متصل الصوت والنغمات أو الحروف أو متصل الفضاء ومنفصل الأشكال إلخ..: .1فمعنى الإيقاع الناتج عن إدراك نظام النقر الموقع للحن هو بداية المعنى المركزي الذي نطلبه أو الحد الأدنى الذي يمكن اعتباره جامعا لكل الزيادات التي تحدد معنى مادة وقع. .2ومعنى التوقع الناتج عن مفعول إدراك الموقع في نظام الإيقاع -في معناه المجرد الذي قد يكون جوهر القانونية في الفكر العلمي والفلسفي من حيث هو دالة بين متغيرات الثابت فيها هو علاقة الدالة -على وقوع ما نتوقع مواقعه يمكن اعتباره الحد الأقصى لهذا المعنى المركزي لأنه ينطلق منه إلى مستوى تجريد أرقى. .3وبين الحدين يمكن تعيين وسط هو الوقع الذي هو في نفس الوقت الصوت الذي يحصل عند الوقوع عامة أو النقر خاصة وأثره في المتلقي بمعنى أول أو بمعنى المعنى..4وبذلك نستطيع الوصل بين البداية وهذا الوسط وصلا ينتج عنه معنى وقع الإيقاع في النفس المعينة ومعنى معناه في عالم التصورات المجردة التي نفترض لها محلا عقليا هو في الفكر الديني الإسلامي اللوح المحفوظ وفي الفكر الفلسفي الكلاسيكي عالم المعقولات. 33 7
.5ومن الوصل بين الوسط والغاية وصلا ينتج عنه معنى وقع التوقع في النفس المعينةومعنى معناه في عالم التصورات المجردة بمحله العقلي المشار إليه سواء من المنظور الديني أو من المنظور الفلسفي. فتكون المعاني كالتالي: .1الإيقاع أو نسق النقر الذي يضبط مدد الزمان ويقيسه .2والتوقع أو نسق التنزيل في المحال التي يقع فيها النقر نسقها الذي يضبط المكان ويقيسه .وذانكما هما الحدان الأقصيان لمعنى الواقع أعني نسقي ظرف الزمان وظرف المكان .3أما الوسط بين الحدين على نفس البعد منهما فهو الوقع أو النقرة الناتجة عن السقوط في معناها الأول أو معنى معناها .4وبين الحد الأول وهذا الوسط نجد معنى الوقع الرمزي أو وقع الإيقاع أي معنى المعنى أو التأثير مرموزا إليه بأثر إيقاع الوقع الذي هو مادي ويعني الطرق والصقل والتثقيف والتحديد .5ثم بين الوسط والحد الأخير نجد معنى المعنى الثاني أو وقع التوقع أعني نظام العلامات كما يحصل في توقيع المرء لشيء أو عليه شرطا في كل توقع.وإذن فالوقع هو النواة المركزية للمعاني لكونه يتضمن المعنى (وهو مادي صرف) ومعنى المعنى (وقد يكون ماديا أو معنويا صرفا) في نفس الوقت .وعنه يتفرع معنيان هما الإيقاع ووقعه وكلاهما يمكن أن يكون ماديا كما في الموسيقى ووقعها أو معنويا كما فيالترتيب الذوقي عامة دون تعين في مادة بعينها ووقعه الجمالي .وهما يتفرعان عنه رغم كونهما شرطا في نقله من معناه الأولى إلى معنى معناه .ويتفرع عنه معنيان آخران 33 8
بتوسط المعنيين السابقين هما التوقع ووقعه وكلاهما لا يكون إلا معنويا لأنه فعل عقلي صرف مشروط في كل فاعلية إنسانية نظرية كانت أو عملية لما له من صلة ببعد الزمان المقبل ومن ثم بما لا يمكن أن يوصف بالواقع في معناه العامي عند مفكرينا العلمانيين أوالأصلانيين .لذلك كان المحل الغائي في الحالتين هو محل المعقولات فلسفيا واللوح المحفوظدينيا مرورا بالمحل الأقرب أعني النفس البشرية وليس ما يتوهمه علمانيونا أو أصلانيونا في تخيلاتهم العامية لصنم الواقع الخارج عن العقل والنص والمحتكم إليه بالخروج منالعقل والنص :ليس من خروج منهما إلا بالمعنى المجازي الذي يصف موقفهم بكونه خروجا عن العقل والنص بمعنى فقدان معايير العقل والنقل النقية وضوابطهما السوية. جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس النظري ليس في المعاني المتداولة عند موثني الواقع أي رائحة من كل هذه الدقائق بل هي لا تتجاوز الفهم العامي لتصور الواقع الغفل الذي هو دون خيال الطفل .فهي تقتصر علىالمقابلة بين ما في الذهن وما في العين اعتمادا على خرافة رد الفكر إلى المرآة المنفعلة التي تعكس الواقع حتى وإن حرفت العكس بعض المواقف الإيديولوجية التي يزيحونها بوهم: .1التحليل النفسي أو .2التأويل الاجتماعي أو .3النقد الثقافي. وتلك هي ثلاثية الأدوات التي يزعمون استعمالها دون سلطان حقيقي عليها ولا فقه لشروطها .فهم يدعون أنهم يحتكمون إلى الواقع بواسطتها عند نقد النصوص والمواقف 33 9
احتكاما يصلهم وصلا مباشرا بالواقع الصلب فيحررهم من الأوهام والأحلام التي ينسبوهاإلى غيرهم ممن يجادل في تصورهم للواقع .ورأيي أنهم يجهلون مفروضات هذه الأدوات إذ إنهم لو كانوا يفهمونها بمقتضياتها النظرية حقا لعلموا شروطها التي ترفض تام الرفض المدلول العامي للواقع .فواقعها هو المجرد النظري المحدد لبنية النفس في الأداة الأولى والمحدد لبنية المجتمع في الأداة الثانية والمحدد لبنية المنظومات الجامعة بين محددات البنيتين السابقتين أعني المجرد المطلق المحدد لبنية الترميز في الأداة الأخيرة. فهذه النظريات النقدية جميعا تخلصت مما تردى إليه فكر أنصاف المثقفين من عامية تمثلها نظرية الانعكاس التي تجاوزها حتى الفكر الماركسي البدائي .فلا واحدة منها تعارض نصا بواقع غير نصي بل هي جميعا تعارض نصا (=موضوع) بنص (=ما بعد موضوع) أو نظرية موضوع بنظرية ما بعد موضوع .مراجعة نص بواقع غير نصي أمر ممتنع بالذات إذ لا نخرج من النص المنقود إلا إلى نص بديل هو النص المؤسس لفعل النقد :نص النظرية التحليلية أو نص النظرية التأويلية أو نص النظرية النقدية وجميعها نصوص أكثر تجريدا من الموضوع الذي تنطبق عليه. كل هذه النظريات تحررت من صنم الواقع بالمعنى العامي الذي يحاكم به علمانيونا التراث واختارت الواقع بالمعنى الذي حاولنا تحديد مقوماته من منطلق نص القرآن الأمين وفقه اللسان العربي المبين .لذلك حق لنا أن نقول إن أقل الناس دراية بالعلومالحديثة هم أكثرهم كلاما عليها .وهم دون شك أكثرهم عقما لأن غاية ما يعلمونه هو ما يشبه فعل الميكانيكي الرعواني الذي يطبق وصفات لإصلاح السيارات ولا يرتفع فكره إلى النظريات في الإوالة أو فعل الممرض الذي يطبق الوصفات ولا يرتفع إلى فن الطب فضلا عن علم الأحياء. 33 10
والغريب أن الأمر نفسه هو ما حصل منذ القرن الخامس الهجري الذي اكتمل فيه استقلال الفكر الفلسفي العربي عن مجرد التعلم من اليونان بعد اكتمال مرحلة التقويم النقدي للتراث اليوناني بخلاف ما يلوكه محرفو تاريخ العلوم في الحضارة العربية الإسلامية .فقد كان أكثر الناس إبداعا للعلوم أبعدهم عن اجترار مبتذلات الدروس الفلسفية الرسمية (الفلاسفة بالمعنى المتعارف) وعن كثرة الهذيان بالعقلانية (المعتزلةوالباطنية) .فكل المبدعين في العلوم المنتسبة إلى الفلسفة لم يكونوا من الفلاسفة ولا منالمعتزلة بل من فرق أخرى وأغلبها أشعرية أو قريب من العقلانية النقدية التي أسستها: فالبيروني وابن الهيثم والطوسي والفلكيون والأطباء الكبار بعد سقوط بغداد لا ينتسبون إلى الفلاسفة الذين كانوا شراحا لمدونة أرسطو لا غير ولا من الاعتزال الذي لم يتجاوز دعوى العقلانية إلى العقلانية. أما المحاولات النقدية الجدية للفلسفة التقليدية وتأسيس العلوم التي هي ما اختص المسلمون بإبداعه قبل سواهم من الأمم-حتى إنه يمكن القول إن نسبة دور المسلمين في تأسيس علوم الرمز والتاريخ إلى تطور العقل الإنساني هي عينها نسبة دور اليونان في تأسيس علوم المنطق والطبيعة-فإنها كلها بدون استثناء أشعرية الهوى والموقف النقدي من الفلسفة والاعتزال :فنقد الميتافيزيقا (تهافت الفلاسفة) ونقد المتاتاريخ (فضائحالباطنية) ثورتان غزاليتان وعلوم الرمز والآداب (الجرجاني) والتاريخ (ابن خلدون) وضعها مفكرو الأشعرية الذين هم أقل الناس ثرثرة حول العقلانية بل وأكثرهم نقدا لها لكونهم أدركوا حقيقتها وشروطها فعملوا بها بخلاف المقتصرين على الدعاية لها دون فهم ولا دراية بشروطها وحقيقتها. 33 11
وبين أنه لا علاقة لهذا الوثن بما يفهمه أي عاقل من عبارة القرآن{ :إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع} (الذاريات )6بمعنى توقع يوم الحساب وانتظاره باعتباره أمرا لا شك فيه عند المؤمن به لكونه سيحصل كما يتوقعه بمعنى انتظار المؤمن لما لا ريب فيه إلى حد يفوق توقع العالم لما تقتضيه النظرية العلمية .فبما هو توقع لأمر فيالاستقبال ليس هو بعد واقعا بمعنى الواقع عند هؤلاء العامة الذين يتكلمون في العقلانية بلا عقل فضلا عن كونه مجرد وهم في نظرهم إذ هو يتكلم في البعث الذي يعتبرونهخرافة .كما لا يمكن أن يفهموا من الواقع ما يمكن أن يشتق منه مدلول \"فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم\" (الواقعة )75لأن القرآن عندهم كلام محمد ومحمد أمي لا يمكن أن يكون عالما بدلالة مواقع النجوم وقيمتها في الفلك العلمي .لذلك فلا يكون المقصود في رأيهم إلا المعنى السحري للتنجيم .وذلك عين اللاواقع لأنه من أوهام المنجمين!وهذا \"الواقع\" الصنم هو بهذا الفهم معين المعايير التي يحكمها مؤولو القرآن والسنة وكل التراث مؤولوه من دجالي الزمان:.1فالعلمانيون يؤولون من هذا المنظور العامي وبالسلب المطلق استثمارا للتاريخية التي تحقق عندهم التخلص من المقدس كما يفعلون عندما يرجعون النص إلى ظروف الحصول (بالمعنى الماركسي) وأسباب النزول (بالمعنى التقليدي المردود إلى المعنى السابق) .وقصدهم إلغاؤه لأن مفعوله في زعمهم يزول بزوال ظروف الحصول وأسباب النزول :أمثال ناصر حامد أبي زيد وهم قائلون بقراءة ماركسية في ماضي النص أي الفهم بمؤثر الزمان. .2والأصلانيون يؤولون من نفس هذا المنظور العامي وبالإيجاب المطلق استثمارا للقدسية التي تحقق عندهم التخلص من التاريخ كما يفعلون عندما يتصورون أن 33 12
لهم فقها للواقع يمكنهم من تأويل الأحكام بما يماشي الزمان :أمثال كل الفقهاء المزعومين متنورين وهم في الحقيقة قائلون بقراءة ماركسية في مستقبل النص أو التطوير بمؤثر الزمان . لذلك كان كلا الاستثمارين العلماني والأصلاني العائق الأساسي أمام نشأة الفكر المبدع عند كلا الحزبين النافيين لشروط التعالي الذي يؤسس للإبداع عامة والعلمي والديني على وجه الخصوص فضلا عن كونهم المحرضين على الحرب الأهلية فيما وصفناه سابقا بالدنكيخوتية العربية الحالية وصفا فينومينولوجيا وعللناه تعليلا جينيانولوجيا .وتلك هي علة سعينا إلى محاولة تحليل هذا المفهوم تحليلا فلسفيا يحرر الفكر العربي من وثن الواقع العامي فيعيد إليه حرية الفكر المبدع الذي يمتنع من دون التعالي والمقدس حتىلو اقتصرنا على وظيفة الخيال في الإبداع ولم نذهب إلى تسليم المؤمن بعكس العلاقة بين الطبيعة والتاريخ وما بعدهما نسبة للوجود الحق إلى الثاني والوجود الخلب للمتقدمين عليه.وقد اعتمدنا على مجال الدلالة اللساني الخالص بعد مجال الدلالة القرآني لتحديد هذا المفهوم تمهيدا لطلب البديل مما تعطل من فعاليات حضارتنا في التأسيس الذي لا نختلف في ضرورته مع الحزبين رغم رفضنا لنهجهم الخاطئ .وبذلك تكمل سلسة النصوص التي عالجنا فيها هذه المسألة علاجا: .1يصفها فينومينولوجيا في فينومينولوجيا الدنكيخوتية العربية .2ويحللها تصوريا في مقامة الراء الجاحظية .3ويشخصها رسميا في باطنية الفلسفة وظاهريتها .4ويعللها تاريخيا في جينيانولوجيا الليبرالية العربية 33 13
.5لنصل إلى الغاية فنؤسس المراحل السابقة على تعليل شارح في نص الواقع. تبين إذن من المعاني التي استخرجناها من تحليل الدلالات القرآنية واللسانية أن الواقع ليس هو ما يقابل ما في الذهن فضلا عن أن يكون ما يقابل ما في الوهم منه بل هو شبكةمثالية من البنى المجردة التي تتقدم على هاتين المقابلتين وتعللهما :إنه يقبل التشبيه بما أطلق عليه أفلاطون عالم المثل التي بالقياس إليها يحكم لأمر من الأمور بالوجود أوبالعدم ويرتب في سلم الحقائق من أدناه إلى أقصاه أو بما أطلق عليه القرآن الكريم اسم اللوح المحفوظ الذي بالقياس إليه يتحدد الخلق (العالم الطبيعي والنظر) والأمر (العالم التاريخي والعمل) ليصبح السعي لعلمهما والعمل بسننها ممكنين .وبهذا المعنى فإن الواقع يمكن تعريفه سلبا وإيجابا بالصورة التالية:فليس هو العالم الطبيعي كما يتوهم الحسيون بل هو منظومة قوانينه الرياضية ومنطقها (وذلك هو موضوع العلوم التي نشأت مع مبدعي الفرضيات التحليلية التي تبدو منافية لكل واقع كالخلاء المطلق والزمان والمكان المطلقين أولا ثم كالهندسة الرايمانية لاحقا وهي أمر ذهني بل وأحيانا وهمي من منظرو الواقعيين الأغفال) وليس هو العالم التاريخي كذلك كما يتخيل الماديون الجدليون بل هو منظومة قوانينه التي تحقق التكامل بين محددات تاريخ الإنسان الطبيعي ومحددات تاريخه الثقافيومنطقها (وذلك هو موضوع العلوم الإنسانية التي نشأت مع مبدعي الفرضيات التأويلية التي تبدو منافية لكل واقع كقوانين الإنتاج المادي أو الاقتصاد أو كقوانين الإنتاج 33 14
الرمزي أو الثقافة في مقدمة ابن خلدون وكل ذلك من الأمور الذهنية التي ينفيها أغفال الواقعيين).الواقع هو إذن أمر لا يوجد إلا في النظام الرمزي (أي كل التراث الإنساني) الذي تكون منه صورة تأويليلة في الذهن عند من لا يؤمن بما وراء العالم الطبيعي وما وراء العالم التاريخي .وليس لهذا النظام وجود خارجي في هذين العالمين يمكن للسخفاء أن يخرجوا إليه منه ومن تأويله في عقولهم ليقايسوا به النصوص التي يحاكمونها :فهم أقصى مايمكن أن يفعلوه هو أن يحاكموا نصا بنص في ضوء نظام تصوري ورمزي لا غير .وكنا نقبل أن نخوض معهم لو زعموا أنهم يحاكمون نظام النصوص الدينية بنظام النصوص العلمية أعني نظام الفرضيات الرياضية لعلم الطبيعيات ونظام الفرضيات السياسية لعلم التاريخيات أو يحاكمون النصوص الأدبية بالنصوص الفلسفية التي هي نظام الفرضيات الرمزية لعلم الرموز والفرضيات العقلية لعلم المنطق .لكنهم أبعد الناس عن هذه الأصناف الأربعة من العلوم :الرياضيات والسياسيات والرمزيات والمنطقيات لأن التمكنمنها لا يكفي فيه مضغ الإيديولوجيات إذ هي ولا شيء سواها يؤلف نسيج الواقعيات التي هي عين المثاليات! هم يتصورون الفاعلية في التخبط العملي على غير علم وينسون أن وضع نظرية اقتصادية واحدة يمكن أن تغير كل العالم الاقتصادي أكثر مما تفعل كل النضالات النقابية التي يتصورونها فاعلة للتاريخ دون سواها :فنظرية كايناس مثلا حققت للعمالبتعديل النظام الرأسمالي ألف ضعف ما كان يمكن أن يحققه النضال النقابي الذي يمكنأن يحقق زيادة طفيفة في الأجور لقطاع معين من العمال بدل النظرية المتكاملة للاقتصاد الكايناسي .ونظرية واحدة في الفيزياء يمكن أن تحقق ثورة في الحرب أو في الاقتصاد. 33 15
ونظرية واحدة في الإحياء يمكن أن تحقق ثورة في الطب والصحة تغذية وعلاجا أو في الزراعة تنمية وتطويرا. ومجمل القول ومفصله هو أن العقل لا يؤثر فيما يسمونه الواقع مباشرة بفعل مادي أونضالي واقعي كما يتوهمون بل هو يؤثر في الواقع النظري بالأدوات النظرية التي تمكنمن فهم آليات الواقع المثالية فتستطيع من ثم إبداع أدوات مادية تفعل في الواقع العامي فتغيره بما أبدعته من أدوات الفعل فيه .وبذلك يمكن لمهندس واحد أن يفوق فعله فيالحرب فعل مليون عسكري عامي أغلبهم يكون في الحرب مجرد آلة حاملة لآلة .ويكفي أن نذكر أسطورة تنسب إلى أرخميدس هزيمة جيش كامل في شواطئ صقلية بنظرية المرايا المحرقة! وحتى ما في القلوب من إيمان يجعل العامة أكثر فاعلية من المثقفين فإنه عامل روحي مشترك بين المهندس المبدع والجندي الصامد .فالأول يبدع بدافعه الروحي والثاني يصمد بحرارة الإيمان .ثم إن هذا العامل النفسي هو بدوره ليس من الواقع العامي حتى وإن بدا أكثر تأثيرا في العامة-في ظن العلمانيين الذي يحتقرون المعتقدات لحسبانهم تأثيرها في العامة دالا على عاميتها -بل هو من الواقع الروحي المجرد: المعتقدات التي في القلوب.والمعلوم أن نسبة الإبداع الرياضي (بمعنى السنن المتعلقة بنظام الظاهرات الطبيعية فيتصور نيوتن أو أينشتاين وكل الأنساق التي يضعها الرياضيون نماذج لمجريات الأمور في العالم الطبيعي من منطلق نظام مثالي) إلى الطبيعة هي عينها نسبة الإبداع السياسي (بمعنى السنن المتعلقة بنظام الظاهرات التاريخية في تصور أفلاطون أو ابن خلدون أوكل الشرائع من حيث هي سيناريوهات لمجريات الأمور في العالم التاريخي من منطلق نظام مثالي) .وهم يرفضون أن يفهموا هذه الحقائق أو لا يستطيعون السمو إلى فضائها 33 16
الرحب إذ لو فعلوا لاضطروا في تلك الحالة إلى التخلي النهائي عن صنمهم وأسطورةالاحتكام إليه في تحليل النصوص وتأويلها .ولشرعوا في العمل الجدي للإبداع العلمي بدل مضغ المبتذلات مما أكل عليه الدهر وشرب من النظريات التي شبعت موتا .فالنصوص عامة والنصوص المقدسة على وجه الخصوص هي التي تصنع الإبداع الذي يصنع الواقع المجرد الذي أشرنا إليه فيمكن من الفعل في الواقع العامي الذي يخرفون حوله ويقرأون تعاويذ جهلهم بمعاني التصورات الفلسفية التي يستعملونها. جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس العملي ولكي نثبت النتيجة التي ختمنا بها الفصل السابق أعني دور النصوص عامة والنصوص المقدسة خاصة سننظر في هذا الدور التأسيسي من المنظور العلمي سواء انتسب إلى الفكر الديني أو إلى الفكر الفلسفي .ولنطلب النتائج التي تترتب على منطق أصحاب الصنمالواقعي من انعدام الشروط في التعامل مع واقع يمثل الآخر بالإضافة إلى النصوص التي ستحاكم في ضوئه .فما الذي يمكن أن يكون النسيج اللاحم بين مكونات هذا الواقع وعناصره التي من دون نسيج لاحم تذروها رياح فوضى الواقع فوضاه التي يتخلص منها حتى الفكر العامي بنسيج يحقق التلاحم الضروري ولو بفنيات الخرافة والأدب الشعبي؟ أليس هذا الواقع من دون التلاحم الرمزي كحبات الرمل التي لا يصل بينها واصل منطقي معين عدا عصف الرياح حباته التي تكدس بمفعول خارجي آلي تحكمه ضرورة عمياء تتشكل بمقتضاها الكثبان الزاحفة على الوعي المدرك لها؟ أليس تقدم التصورات التي يمكن أن تكون على الأقل تصورات في نصوص أسطورية هو الذي ينتظم به سلوك الإنسان إزاء الكثبان الزاحفة على ركح وعيه حتى لا يصاب بالجنون أمام إثارات المدركات الحسية التي تهجم عليه كالسيل العرم؟ ثم أليس عمله 33 17
المعرفي والنقدي بعد ذلك هو الإصلاح المتصل لهذه التصورات الأسطورية بعملية نقد منطقية وتجريبية مبتدأها نصوص أخرى يغزلها لتكون دارقته في التعامل مع شلال المعلومات الفوضوية الواردة عليه مما يسمونه الواقع أعني السيلان الأبدي لفوضى المدركات؟هذا بالنسبة إلى التعامل النظري أو المعرفي مع المدركات .فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى التعامل العملي مع العوامل المؤثرة في حياة الإنسان العضوية والخلقية وشروطهما سواء كانت ذات صلة مباشرة بالأفراد أو من حيث صلتهم بالحياة الجماعية؟هل يمكن للإنسان أن يتعامل مع هذه المؤثرات وهو خلو من تصور ما قد يكون محفوظا فينص أو فيما يشبه النص أعني في ذاكرته التي تراكمت فيها تجارب عامة ربي عليها وتكون كالحشية الدارقة بينه وبين السيلان الأبدي لمجهول التدفق \"الخارجي\" للواقع بالمعنى العامي؟وهل موقفه النقدي -في حالة فشل ما عنده من تصورات في التعامل-يمكن تصوره منطلقا من الواقع أم من نص فرضي يبدعه العقل الإنساني حشية دارقة بديلة هي في الحقيقةمنظومة السيناريوهات الشرطية (إذا...إذن) التي يقتضيها التنسيق المخلص من الفشل دون أن يكون للفكر القدرة على الخروج من النص المكتوب أو المفروض للتعامل مع هذا المجهول المسمى في عرف أصحابنا واقعا في حين أنه ليس شيئا آخر غير فشل النص أو البناء المنطقي والرمزي للتعامل مع شلال الإدراك. 33 18
أما وظيفة النصوص المقدسة فهي تأسيس الوجود نفسه وجود الذات ووجود الموضوع فضلا عن تأسيس شروط إمكان قدرة الذات على التعامل مع الموضوع وقابلية الموضوع علىالتعامل معه :تصور الحياة الإنسانية من غير نص مقدس مستحيل فعلا (لا وجود لعمران من دونه في المعلوم من التاريخ) وتصورا (لا يمكن تصور بشر مجتمعين من غير منظومة قواعد يقدسها الجميع شرطا في التعايش والتعاون والتآنس من جنس العقد بينهم ويضمنه ما يؤمنون بأنه سيد الجميع) .لذلك فالنص الديني هو شرط الوجود الإنساني القادر على الأسئلة التي تمثل بمجموعها جوهر الإنسان: .1المسألة الذوقية ولها صلة مباشرة بوظائف قيام النوع أعني اللذة الجنسية (النوع الأول من القيم الجذرية) .2والمسألة الرزقية ولها صلة غير مباشرة بقيام النوع من خلال قيام الأفراد أعني الغذاء (النوع الثاني من القيم الجذرية). .3ومسألة السلطان على الذوق (النوع الأول من القيم التي من القوة الثانية لأنها قيم قيم الذوق :أو سلطان التربية الروحية للإنسان). .4ومسألة السلطان على الرزق (النوع الثاني من القيم التي من القوة الثانية لأنها قيم قيم الرزق :أو سلطان التربية السياسية للإنسان). .5ومطلق السؤال أو مسألة الوجود ومعناها وبها يكون الإنسان قادرا على كل هذه التمييزات ومن ثم فنصها يتقدم على كل واقع خاصة وهو يعيد الإنسان إلىالترتيب السوي بحيث تتقدم المباشرة الكلية على اللامباشرة الكلية تحريرا إياه من تقدم الأدوات على الغايات بسبب المباشرة العينية في الرزق وسلطانه على عدمالمباشرة العينية في الذوق وسلطانه :لذلك فإنه لا تخلو حضارة من النص المقدس أو ما يقوم مقامه لأن مجرد التعامل مع الواقع الصنم ينبغي أن يكون ذا سنن يحددها 33 19
نص ضابط للتعامل وتلك هي الوظيفة الرئيسية للمقدس الدال كليا على كل تعال (عند الجماعات) والشارط له جزئيا (عند الأفراد). النتائج في إبداع الأمة الرمزي والفعلي لا بد إذن من إخراج الأمة من ركام الثرثرة الإيديولوجية لكلا الحزبين الأصلاني والعلماني وثمرته أعني الحرب الأهلية في المجتمع المدني والسياسي لنتحرر من الواقع العامي فيصبح الإبداع المؤثر في الواقع بمعناه الفلسفي والديني ممكنا .فليس المقصود بإبداع الأمة الرمزي والفعلي لذاتها إلا دورها في الإبداعين اللذين يمثلان كيانها الحي وقيامها التاريخي :فذلك هو معنى وجود الأمة الحرة وهو عين فعاليتها التاريخية بمستوييها الرمزي والفعلي .فقيام الأمم يعتمد على الخلق الذاتي المستمر من خلال مقومات الوجود التاريخي المستندة إلى مثاله ما بعد التاريخي .ومن دون ذلك لن تبقى الأمم ذات قيام مختلف عن قيامها العضوي بل حتى هذا القيام فإنها تفقده إذا لم يكن لها ما تلتحم به عناصرها ليحصل المزاج أو الجماعة ذات الذاتية المتعينة التي تشغل أحيازا تخصها في الزمان (تاريخها) والمكان (جغرافيتها) وفي السلم (منزلتها بين الأمم) وفي الدورة (تبادلاتها مع الكون) وفي الوجود (كل العناصر السابقة في قيامها الفعلي والرمزي أي في هويتها وفي تصورها لهويتها). وهذه المقومات اللاحمة تراوح صيغها بين الأسطورة والمعرفة العلمية حدين أقصيين متساوقين وليس متواليين فحسب وهما حدان أقصيان يصلهما وسيطان هما حدث التاريخالفعلي وقبله غزل النسيج الرمزي .ويجمع تلك المستويات كلها أصلاً لها وأساسًا نصُ الأمة المقدس :النص المقدس هو القلب والحدان هما الأسطورة والعلم والوسيطان هما الإبداع الرمزي والإبداع الفعلي في حدث التاريخ .وهو لا يتضمنها من حيث هي حقائق حاصلة 33 20
بل من حيث هي مطالب للتحصيل من دونها لا تقوم الهوية الفاعلة ولا تثبت الهوية المنفعلة في لحظات كبوتها .وقد حاول ابن خلدون تحديد آليات تحقيق هذه المقومات اللاحمة تحديدا سماه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني \".ولعل عمق الثورة الخلدونية وعجلة نجوم الفكر العابدين لصنم الواقع قد حالا دون فهم أبعادها الأساسية التي تؤسس لنظرية اللواحم التي من دونها لا يمكن فهم العلاقة بين مقومات الوجود الإنساني .فهذا الفهم يحول دونه ومفكرينا مقابلتهم بين صنم الواقعوالنظام الرمزي للإدراك الإنساني هذا النظام الذي قتلوه فصار عندهم تراثا بمعنى لا يشبه نظرهم نظر المستشرق إليه إلا من حيث الموقف لكنه دونه من حيث الكفاءةالعلمية .فهم ينظرون إليه بمنطق الاثنولوجي الذي يكون التراث المدروس عنده ظاهرة خارجية يتعامل معها بمحاولة الخروج من تراثه. لكن الإثنولوجي الغربي صادق مرتين وهم كاذبون مرتين :فهو صادق من منطلق تراث الذات وصادق من منطلق محاولة الخروج إلى تراث الموضوع .وهم كاذبون في الحالتين: فلا هم مستوعبون تراث الغرب المحتكم إليه ولا هم متمكنون من فنون الخروج الإثنولوجي .ثم إن الموقف الإثنولوجي هو نفسه مرحلة من مراحل الوعي الحضاري تتجاوز به الحضارات مرحلة الانغلاق على الذات سموا إلى الكلية البشرية :وهو أمر تقدم حصوله في حضارتنا فعليا (تاريخ الشرق الأدنى متعدد الملل والأعراق والحضارات) ومبدئيا (الإسلام يعتبر التعدد سنة إلهية بل هو يعتبر البشر ما خلقوا إلالذلك .لذلك فهو يدعوهم للتعارف ويساوي بينهم) ثم وعيا علميا (فيما يشبه الدراسات الاثنية عند الرحالة العرب والمؤرخين والجغرافيين). 33 21
ولو انطلق مفكرونا العلمانيين والأصلانيين من هذه التجربة لكانوا أكثر توفيقا .لكنهم عكسوها فصار الموقف الإثنولوجي لا يعني عندهم الخروج من ثقافة الذات لفهم ثقافة الموضوع بل الاندماج في ثقافة ذات مستوردة لإدماج الثقافة الموضوع فيها أي تحويل استلابهم إلى معيار لتقويم التراث! لذلك فمحاكمتهم بخلاف الموقف الإثنولوجي السويعند بعض المستشرقين ذوي النزاهة العلمية مشوهة مرتين :فلا الوعي بتراث الذات ولا الوعي بتراث الموضوع بحاصلين وإنما الأمر يقتصر على مقارنة جهولة وجهلاء بينمجهولين (التراثين) بأدوات جاهلية (أي عنيفة رمزيا وماديا) فصار نص الماركسية واقعا يقاس به نص القرآن عند كل مؤول خرفان دون حاجة إلى مزيد بيان. ولما كان التراث لا يفهم إلا بذاته المتجاوزة لذاتها من ماضيها إلى مستقبلها الذي تطلبه من كلي التجربة الإنسانية –التي لا توجد إلا في المثال أعني الواقع بالمعنى الفلسفي الحقيقي المقابل تمام المقابلة للمعنى العامي عند مفكرينا (ولعل من يفهم هيجل يدرك أنه لا يعني بمعادلته بين العقل والواقع شيئا آخر غير ما شرحنا) -وليس من تجربة عينية تحاكيها فإن حاضر التراث إذ يبدع مستقبله بمقتضيات تأويل ماضيه هو الوحيد القادر على الفهم الأصيل :ومعنى ذلك أن كل نقاد التراث لا يمكن أن يسمع لهم ما لم يكونوا مبدعين لمستقبله من تأويل ماضيه من خلال الالتزام بحاضره لا الانمحاء فيحاضر غيره .أما من يتفصى من الحاضر فيستبدل المستقبل الذي ينبغي أن يتمخض عنه الإبداع يستبدله بمحاكاة الماضي سواء كان أهليا (الأصلانيون) أو أجنبيا (العلمانيون) فإنهم أبعد الناس عن الفكر ولا يستحقون الذكر. 33 22
لذلك عدنا إلى الحضارة العربية الإسلامية نفسها لتكون معين المقوم الذاتي (الذات القارئة) الذي تكون عودته على ذاته من حيث هي المقوم الموضوع (الذات المقروءة)عين التواصل الذي يجعل الحضارة ذاتية التطور .وأفضل من يمكن أن يمثل هذا التوجه في مجالنا المتعلق بالواقع النظري للوجود التاريخي للأمم هو ابن خلدون .فعمله النظري في المقدمة يساعد على تحديد هذه اللواحم لأنه هو أول من حاول أن يجيب عن هذهالأسئلة التي اعتبرناها جوهر الإنسان من حيث هو صلة بين التاريخ وما بعده بعد أن مهد له الطريق أعلام المدرسة النقدية بدءا بحجة الإسلام وختما بشيخ الإسلام.ويمكن إجمال المسائل الموصلة إلى تحديد المقومات اللاحمة في نص ابن خلدون إجمالها في النقاط التالية بدءا بما يبدو عرضيا إلى أكثرها جوهرية:.1فما العلة في ازدواج الاسم :علم ( )1العمران البشري و( )2الاجتماع الإنساني؟ .2وما علاقة ذلك بطبيعة الثورة المعرفية التي يسعى إليها ابن خلدون في مشروعه النقدي؟ .3وما علاقة الازدواج بالثورة العملية التي يسعى ابن خلدون إلى تحقيقها في مشروعه الإصلاحي؟.4وما صلة هذا الازدواج بالتطابق الذي يجده ابن خلدون بين الأمر الشرعي والأمر الوجودي في فلسفة التاريخ التي يعتمد عليها؟.5وما العلة في تركيز ابن خلدون على كونية الموضوع وعلمه رغم انطلاقه من البحث في التاريخ الإسلامي؟ يتصور العجلون أن ازدواج الاسم في علم ابن خلدون مجرد ترادف أو إطناب بلاغي فيحين أنه دال على أصل عميق يحدد مستويات الموضوع الذي يدرسه العلم الجديد ومن ثم البنية المجردة التي تحدد الواقع الحقيقي وراء ظاهر التاريخ الإنساني في الكلام الذي 33 23
من جنس إيديولوجيات المتكلمين على الواقع العامي وثنهم الذي تفغر له كل الأفواه بانشداه الغباء لا اندهاش الذكاء! فابن خلدون يعرف موضوع علمه بكونه ينتج في الوجود الإنساني عن \"التساكن لقضاء الحاجات\" وعن \"التساكن للأنس بالعشير\". فالتساكنان في الموضوع يناظران وجهي العلم :التساكن الأول يناظر وجه العمران البشري والتساكن الثاني يناظر وجه الاجتماع الإنساني في اسم العلم .والتعاون يتعلقبأدوات الوجود التاريخي للإنسان أدواته المادية أي بالرزق أو الاقتصاد .والتآنس يتعلق بغايات الوجود التاريخي للإنسان غاياته الرمزية أي بالذوق أو الثقافة .وهذان هما مادة العمران البشري والاجتماع الإنساني :الاقتصاد والثقافة. لكن التساكن من أجل التعاون (أدوات الحياة الإنسانية) والتساكن من أجل التآنس(غايات الحياة الإنسانية) يقتضيان كذلك التنافس المحمود ولا يخلوان من بعض ما ليس بمحمود في التنافس على الأدوات والغايات خلال تحقيقهما .لذلك فالإنسان يحتاج إلى سلطان ينظم التعاون والتآنس فيشجع التنافس المحمود ويعالج نتائج التنافس المذموم: الوازع الزماني والوازع الروحاني .فيصبح التعاون بحاجة إلى سلطة تنظمه وتزع المتنافسين بعضهم عن البعض .وذلك هو جوهر السلطة السياسية أو الدولة .ويصبح التآنس بحاجة إلى سلطة تنظمه وتزع المتنافسين بعضهم عن البعض .وذلك هو جوهر السلطة الروحية أو التربية (التي هي في أغلب مراحل التاريخية لصيقة بالمؤسسة الدينية) .وهذان هما مقوما صورة العمران البشري والاجتماع الإنساني :الدولة والتربية. أما وحدة المستويات الأربعة المقومة لموضوع العلم أعني المادة بفرعيها (الاقتصاد والثقافة) والصورة بفرعيها (الدولة والتربية) فليست هي شيء آخر غير الجماعة 33 24
(سواء كانت الجماعة المعينة في مكان وزمان محددين أو الإنسانية كلها في المعمور من الأرض وخلال كل التاريخ الإنساني) من حيث هي مصدر السلطات وموضوعاتهامصدرهما الذي يتراءى في الوعي الجمعي ترائيا هو جوهر النصوص المرجعية أو المقدسة: فالجماعة هي المشرع الفعلي في مجالات الرزق والذوق والسلطان على الرزق والسلطان على الذوق إذا كانت جماعة حرة وفاعلة في التاريخ بأدواته من أجل غاياته ولكن من خلال وعيها بإرادتها في نصوصها المقدسة وعيا يراوح بين الحدين اللذين وضع ابنخلدون التاريخ بينهما من حيث ظاهره الأدبي وباطنه العلمي .وذلك ما كان ابن خلدون يسعى إلى تحقيقه في مشروعه الإصلاحي بالنسبة إلى المسلمين إصلاحا يعتمد على علاج الآليات اللاحمة بمستوييها المضاعفين أي آليات الصورة وهي الدولة والتربية وآليات المادة وهي الاقتصاد والثقافة مع ربطها جميعا بآلية الآليات المطلقة آلية اللاحم الديني الذي تتأسس عليه في ثورته الدولة والتربية والاقتصاد والثقافة التي لا يمكن إصلاحهاإلا بإصلاحه :لذلك كان الدافع العملي لثورة المقدمة بالإضافة إلى الدافع النظري بيان الحاجة إلى الحرية الاقتصادية والخلقية والسياسية والفكرية في صلتها مع مقاصد الشريعة الخاتمة. سبل التحرر من صنم العلمانيين والأصلانيين. أو الثورة المعرفية ومشروع الإصلاح العملي: ما العلاقة بين نقد ابن خلدون للمؤرخين في بداية المقدمة (نقد النقل الوثوقي الذييغلب على الفكر الأصلاني) ونقده للفلسفة في غايتها (نقل العقل الميتافزيقي الذي يغلب على الفكر العلماني) ؟ مسألة غامضة أهملها نجوم الفكر الخلدوني لفرط واقعيتهم لكأن الأمرين ليس بينهما رابط .فالرجل أراد أن ينقل التاريخ من جنس الأدب (= ظاهر 33 25
التاريخ) إلى جنس العلم (=باطن التاريخ) واعتبر ذلك عملية ستجعل التاريخ من علوم الحكمة أي من العلوم الفلسفية .والسؤال هو هل كان ذلك يكون ممكنا لو بقيت الفلسفة على ما كانت عليه قبله أي على الصورة التي كانت تستثني انتساب التاريخ إلى العلم؟ الجواب السلبي هو الذي يوصلنا إلى طبيعة العلاقة الخفية بين النقدين العلاقة التي لم يفهمها كل من يزعم أن ابن خلدون فيلسوف بالمعنى التقليدي الذي كان سائدا بينمعاصريه أعني من أرسطو إلى ابن رشد إذ أن هذه الفلسفة لم تستثن التاريخ من مجالها فحسب بل هي نفسها صارت غير تاريخية! بل إن بعضهم -لسخفه -يزعم أنه ما كان ابن خلدون ليكتب المقدمة لو لم يكن قد تحرر من الأشعرية فصار يقول بالسببية الفلسفية التي يعتبرونها قانون صنمهم الواقع! لم يفهم هؤلاء أن الفلسفة لو بقيت محصورا علمها في الكلي والضروري بالمعنى التقليدي لامتنع أن يصبح التاريخ من مجال معرفتها .لذلك كان نقد الفلاسفة (وهم علمانيو عصره) في المشروع الخلدوني متقدما على نقد المؤرخين (وهم أصلانيو عصره) رغم أنهذا جاء في مقدمة المقدمة وذاك جاء في بابها الأخير! رفع التاريخ إلى العلمية لتخليصه من الأسطرة الأدبية العقيم كان يقتضي خفض الفلسفة إلى العلمية لتخليصها منالأسطرة الميتافيزيقية العقيم :العلمانيون يعود فكرهم إلى الأسطرة الميتافيزيقية العقيم والأصلانيون يعود فكرهم إلى الأسطرة الأدبية العقيم .وهما أمران متلازمان ومشروطان في استبدالهما بالتنظير العلمي الذي هو الأسطرة الأدبية والعلمية المبدعةبل هما نفس الثورة للتخلص من ضربين من الأسطرة العقيم المعتمدة إما على آليات المجاز التي تسمح بها اللغة العادية أو على آليات المجاز التي تسمح بها اللغة العالمة في ذلك العصر حتى يتمكن من تأسيس التنظير العلمي أو الأسطرة المبدعة التي تحقق ثورة في الثقافة العربية الإسلامية :ومن لم يفهم العلاقة بين العمليتين النقديتين (نقد التاريخ 33 26
ونقد الميتافيزيقا في عصره) لن يدرك أبدا كيف كانت ثورة ابن خلدون ثمرة النقد المتصل من الغزالي إليه مرورا بابن تيمية في بناء ثورة فلسفية تؤسس لثورة في العلوم الإنسانية. فمن دون تحرير علم الطبيعة من أسطرة ميتافيزيقا الضرورة (العزالي :نقد فلسفة عصره) لا يمكن للفكر أن ينتقل من نظرية العلية الضرورية إلى نظرية القوانينالاحتمالية التي هي أساس التنظير العلمي في الطبيعيات .ومن دون تحرير عمل الإنسان من أسطرة ميتافيزيقا الحرية (الغزالي :نقد اعتزال عصره) لا يمكن للفكر أن ينتقلمن نظرية العلية الاختيارية إلى القوانين الاحتمالية التي هي أساس التنظير العلمي في الإنسانيات .ومن ثم فإنه لا يمكن من دون هاتين الثورتين النقديتين رفع التاريخ من الأسطرة الأدبية العقيم إلى التنظير العلمي ولا خفض الفلسفة من الأسطرة الميتافيزيقية العقيم إلى التنظير العلمي لتأسيس علوم الإنسان بفضل زوال الفارق الانطولوجي بين مجالي المعرفة كما تصورتهما الفلسفة التي كانت سائدة :وهذان الشرطان هما جوهر النقد الأشعري لفكر الفلاسفة (نفي السببية في الطبيعة) ولفكر الاعتزال (نفي خلق العباد لأفعالهم في الأخلاق) .فكيف يزعم السخفاء أن ثورة ابن خلدون شرطها القطع مع الأشعرية في حين أنها ثمرة ثورتيها النقديتين المضطرة؟ لكن ما الحيلة إذا بات الفكر بيد الشغيلة؟ لا أنكر تقدم الهم النظري في المقدمة .لكني أعتبر الهم النظري مع ذلك تابعا للهمالعملي أي إن النصوص الفرضية لتأسيس التعامل العملي مع العالم متقدمة على النصوص الفرضية لتأسيس التعامل النظري معه بمقتضى ما يوجبه النص المقدس المؤسس للوجود 33 27
نفسه فضلا عن التعامل معه .لذلك فإنه لم يكن بوسع ابن خلدون أن يقف عند نقد المتكلمين والفلاسفة في تصورهم للعلم وموضوعه التصور الذي ألغى كل إمكانية لتأسيس علم التاريخ على علم ويهمل نقد الفقهاء والمتصوفة في انجازهم للعمل وموضوعه انجازا يلغي كل إمكانية لتأسيس عمل التاريخ على علم .فالثورات التي كان الفقهاء والمتصوفة يقودونها باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخلط بين دور الدين ودور السياسةوشروط فعلهما هي التي فرضت على ابن خلدون أن يدرس العلاقة بين الظاهرتين فيضع المبدأين الأساسيين اللذين يؤسسان لمشروعه الإصلاحي بل هو قد ذهب إلى حد جعلهما عنوانين لفصلين مختلفين :في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وفي أن الدعوة الدينية تزيد العصية قوة. فالتلازم بين الأمرين تلازم يجعل كلا منهما في موضع الأداة والغاية بالتناوب .فيمكن للعصبية أن تكون أداة والدعوة غاية .ويمكن للدعوة أن تكون أداة والعصبية غاية. ومن ثم فهما متلابستان ولا يمكن الفصل بينهما .وكل الأخطاء تأتي من الفصل بينهما والسعي إلى الفعل السياسي بالعصبية وحدها أو بالدعوة وحدها فتفضيان كلتاهما إلى الهرج بسب هذا الفصل بينهما .ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن كل ما قيل عن العصبية ومحوريتها عند ابن خلدون دليل على سوء فهملنظريته الإصلاحية .ذلك أن المؤثر ليس العصبية من حيث هي قوة مادية بل هي مؤثرة بما لها من شرعية أعني من قبول صريح أو ضمني عند الجماعة .فتكون العصبية أحد وجوه الأداة السياسية أعني الأداة المادية وتكون الدعوة الوجه الرمزي أو المعنوي من الأداة السياسة (سواء كانت الدعوة دينية أو عقلية إذ هو يميز بين ضربين من الشرعيةالتي تجعل الحاكم مطاعا :شرعية الدين وهي نوع من العقد ذي الأطراف الثلاثة الحاكم والمحكوم والضامن هو الحكم السماوي حول تبعية المصلحة الدنيوية للمصلحة الأخروية 33 28
وشرعية العقل وهي نوع من العقد ذي الطرفين هما الحاكم والمحكوم حول المصلحة الدنيوية لا غير).لكن تركيز ابن خلدون في نقده للفلاسفة على مبدأ العصبية غلط المؤولين فظنوه يعتبرهاالمبدأ الأهم ونسوا أنها عندما تكون بمعزل عن الشرعية تصبح عنده مفضية للهرج تماماكما يحصل للدعوة عندما تكون خلوا من العصبية :كلتاهما مثل الأخرى تؤدي إلى الهرج أي إلى نفي الحياة الجماعية السوية .فيكون المبدأ المؤثر في الفعل السياسي المتعالي عليهما ليس العصبية وحدها ولا الدعوة وحدها بل هو وحدة الأمرين والتلازم بينهما وذلك لأن موضوع علمه نفسه مزدوج الطبيعة :فالعصبية ترمز إلى التعاون المادي أوالقوة الجمعية وإلى التنافس المعلل للوزع الزماني والدعوة ترمز إلى التآنس الروحي أو الشرعية الجمعية وإلى التنافس المعلل للوزع الروحاني .والجمع بين الأمرين هو المبدأ الذي تنبني عليها الدول والإصلاح عندما تكون الجماعة سوية ليس الواقع العامي وثنا عندها بل هو تابع لواقع متعال يحررها من عرضياته. ولذلك كانت العصبية خمسة أصناف تماما كما هي الشرعية: .1فالعصبية الأولى التي تغلب على العمران البدوي هي عصبية النسب الدنياوشرعيتها هي المساواة في الانتساب إلى النسب المشترك وهي مساواة تجعل الحاكم يطاع ليس لأنه قادر على القهر بل لأنه جزء من المطيع أو لأن المطيع بجد فيه نفسه بمقتضى كون شرعية النسب فوق الجميع. .2لكن ذلك لا يمكن من الانتقال إلى مرحلة أهم في العمران هي التي تحتاج إليهاالدولة من حيث هي جهاز .فإذا كان الناس متساوين في النسب بات النظام الوحيد 33 29
الممكن هو النظام الطوعي والسلطة الأدبية فيخلو مما يشبه آلية الأنظمة التيتحتاج إليها الدولة المعقدة بعد الانتقال من النظام البدائي إلى النظام الحضري. فتصبح عصبية الولاء الدنيا مقدمة على عصبية النسب لأن الموالي يقبلون بأن يكونوا آلات تطيع ربها وتخدمه لمنفعة مادية لا غير .وتلك هي عصبية الولاء وأهمها عصبية النخب التكنوقراطية وتبدأ بالجيوش والإدارة في الدول الامبراطورية القديمة .ومثالها عندنا ولاء البرامكة في دولة بني العباس.والغريب أن العلمانيين لا يمكن أن يكونوا غير هذا النوع من النخب التابعة :لذلك فأنت تراهم يفضلون الاستبداد بالفعل للحفاظ على مصالحهم المادية خوفا مما يتهمونه بالاستبداد بالقوة لكونه يتجاوز المصالح المادية حتى ولو علم الجميع أن ذلك آت لا مرد له وأن قدومه السلمي يحد من غلوائه وييسر تجاوز التنافي بين حزبي الحرب الأهلية العربية. .3لكن هذه العصبية المستندة إلى شرعية الولاء للمنفعة سرعان ما تمتد يد أصحابها إلى ما يتميز به الرب ويريدون استتباعه بدل اتباعه .فيعود الرب إلى عصبيةالنسب ولكن بمعنى أوسع يتعدى القبيلة إلى الأمة بالمعنى الإثني للكلمة أو عصبية النسب العليا فتكون عصبية العرب أمام عصبية العجم مثلا .وتكون الشرعية شرعية إثنية يستند إليها الولاء المطيع واطمئنان المطاع لولائه. .4لكن ذلك يتدرج بسبب بعد الأصل الإثني فيكون مقومات ثقافية بالأساس أعنياللغة والتاريخ والقيم وتنقلب هذه العصبية إلى نوع من الولاء العقدي أو عصبية الولاء العليا .وهو ما حدث عندما باتت الخلافة العربية يخدمها عصبيات إثنيةمتعددة .وعندئذ تكون الأمة قد حققت ما يمكن أن نسميه باللواحم الرمزية التي يمثل نسيجها بؤرة الحصانة الروحية التي لن ينفرط بعد حصولها عقد الأمة مهماحل بها من نكبات! بل إن النكبات تزيدها متانة وصلابة :ويكفي أن ننظر ما يحصل اليوم في دار الإسلام فقرون الانحطاط وقرنا الاستعمار كل ذلك لم يضعف من 33 30
حيوية الأمة بل هو جعلها تبقى على سيادتها الروحية على قلب العالم وتصبح ثورتها على أبواب تحديد قبلة البشرية من جديد لتحريرها من قانون التاريخالطبيعي الذي جعلته العولمة المتوحشة رمزيا (سلطان الإمبريالية الصهيونية على نخب الغرب الثقافية) وماديا (سلطان الإمبريالية الأمريكية على نخب الغرب الاقتصادية) معيارا وحيدا للوجود الإنساني. .5وبذلك نصل إلى المرحلة الأخيرة فتصبح العقيدة القائلة بالمساواة بين البشر فيمرحلة السعي إلى جعل العقيدة حقيقة :كيف يكون الإسلام رحمة للعالمين بما دعا إليه من التعارف بين أبناء آدم والمساواة بينهم والاعتراف بالتعدد الإثنيوالديني؟ فبعد البداية التي هي مجرد دعوة مثالية جاء بها القرآن أعني عصبية جامعة بين وحدة عصبية النسب (=الآدمي) وعصبية الولاء (=دين الفطرة) الأعليين ستسعى أمة الرسالة الخاتمة التي هي رسالة للعالمين وليست رسالة خاصة بأمة واحدة لتحقيقها لأن أساسها هو النسب الآدمي أو الأخوة الإنسانية والدينالفطري الذي يقول إن المستعمر في الأرض والمستخلف عليها هو الإنسان من حيث هو إنسان وليس ملة بعينها. الخاتمة ولما كانت هذه المرحلة الأخيرة يبدو تحقيقها شبه مستحيل فإن ما اكتمل منها هو وجهها السلبي أعني العولمة التي هي وحدة النوع الحربية فيما يشبه حرب الكل على الكلالشاملة للمعمور من الأرض تماما كما توقع ذلك النص المقدس المؤسس للتاريخ الإنساني على مابعد التاريخ التاريخ الإنساني الذي جعله ابن خلدون موضوع علمه من حيث: .1وجهه العمراني (التساكن للتعارف والتآنس) :وذلك هو منطق التارخ الطبيعي للأنسانية لو اقتصر على الحيوانية الصرفة. 33 31
.2وجهه الاجتماعي (التساكن للتآنس والتعارف) :وذلك هو منطق التاريخ الثقافي للإنسانية لو اقتصر على الإنسانية الصرفة. لكن هدف ابن خلدون من علمه الكوني الذي يطابق فيه الأمر الوجودي الأمر الشرعيأو قل أن يخالفه (=وهذا مبدأ مستمد من النص القرآني إذ هو يتعلق باستعمار الإنسان في الأرض واستخلافه فيها اعني مفهومي المقدمة الرئيسيين) هو البحث في العمران البشري والاجتماع الإنساني عامة .وهما لا يكونان إلا حصيلة هذين الوجهين المتلازمين اعترافابمقومات الفطرة التي تقتضي من ثم التلازم بين الوازعين الزماني للسلطان على ما يمكن أن ينكص بالإنسان إلى الحيوانية الصرفة والسلطان الروحي الذي له نفس النتيجة كما بين الأمر في كلامنا على العلاقة بين العصبية والشرعية .لذلك نهى القرآن عن إرهابية السلطة السياسية إذ لا سلطان مادي فوق الجماعة والقرآن ونهى القرآن عن رهبانية السلطة الروحية إذ لا سلطان روحي فوق الجماعة والقرآن .وقد اجتمع ذلك كله في مدلول الآية 38من الشورى حصرا للسلطان الروحي في الاستجابة للرب والسلطان الزماني في الشورى بينهم حول الأمر الذي هو لهم دون سواهم ودوران هذا الأمر على حياتهم الدينية رمزا إليها بالصلاة وحياتهم الدنيوية رمزا إليها بالإنفاق من الأرزاق: {والذين استجابوا لربهم *وأقاموا الصلاة* و\"أمر+هم\" *= شورى \"بين+هم\"* وممارزقناهم ينفقون*} :لا سلطان للأمراء ولا للعلماء بل السلطان كله بيد الخلفاء أي البشر من حيث استجابتهم للرب الواحد. لكن القوة التي يمكن أن تحرر الإنسانية من العولمة التي نكصت بالإنسان إلى منطق التاريخ الطبيعي لم تكن شروطها قد تحققت عند كتابة المقدمة بل كانت مجرد فكرة قرآنية وهي قد صارت اليوم مطلبا ضروريا تحققت شروطه لمجرد اقتضاء لحظة العولمة 33 32
الحالية إياه بما جعلت الأمة التي لها مسؤولية الشهادة على العالمين صارت لحظة استئناففعاليتها مطابقة الحدث التاريخي الكوني وللمبدأ القرآني .ومن ثم فشروط الانتقال من الواقع المثالي من حيث هو مجرد مثال جامد إليه من حيث مثال فاعل قد تحققت إذ أزفأوانها وهي مطلوب الاجتهاد النظري والجهاد العملي أعني تحقيق قيم الرسالة الخاتمة فيالتاريخ الفعلي وإن بالتدريج :ذلك هو الحلم الواقعي الوحيد للاستئناف التاريخي المؤصل فيما قبل التاريخ وما بعده. والمعلوم أن ابن خلدون لم يكن يبحث في عمران بشري أو مجتمع إنساني بعينهما أي في واقع معين بل كان يبحث في الظاهرة العمرانية والاجتماعية بإطلاق من أجل نقلالبشرية كلها من حيث هي المستعمر في الأرض والمستخلف عليها ليرعاها نقلها من الخضوعإلى قانون التاريخ الطبيعي (نظام العولمة المقصور على الأدوات دون الغايات وهو النظام الحاكم للتاريخ الإنساني منذ البداية كما تبين ذلك المقدمة) إلى الخضوع إلى قانون التاريخ الخلقي (نظام الأممية الإسلامية التي تريد للإنسان أن يتعارف أي أن يضيفإلى الأدوات الغايات فيتآنس لئلا يقتصر تاريخه على التنافس المذموم) .ذلك هو الواقع الحقيقي ولا شيء سواه وذلك ما كان علينا بيانه..C.Q.F.D 33 33
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 40
Pages: