.2وتطبيق ذلك على الأوضاع العربية الحالية.وكما قال ابن خلدون في غاية المقدمة :ليس المؤسس لمشروع علمي مطالبا ببلوغ الغاية دفعةواحدة بل هو يضع اللبنات الأولى وضعا محددا بصورة تفتح أفقا جديدا يسد ثغرة فيالمعرفة الإنسانية كبداية تليها محاولات تطوير قد تنسف البداية لتستأنف السعي لسد الثغرة بما يكون أقرب إلى الأفق الذي فتح.من المفروض ألا يكون هذا الفصل من المحاولة آخر فصولها لأن مسألة الانتخابينالمضاعفين وأصل فروع الانتخاب هذه لم يعالجا العلاج الشافي إلى حد الآن .لكن ذلك كانسيؤدي إلى الإطالة التي تتجاوز شرط الاستيعاب .لذلك فسيأتي دورهما في محاولة مماثلة لهذه من حيث الحجم لاحقا.فالانتخاب الأول مضاعف وهو الأعم ويشمل فرواع الرعاية الأربعة وأصلها أو البحثوالإعلام العلميين إذ إن مستواه الأول يجري في التربية النظامية والتربية الاجتماعيةكفاءة وأخلاقا في ما يشبه التعلم \"النظري\" ومستوه الثاني في علاقة به كعلاقة التجربة بالنظر عندما ينتقل الخريج إلى الممارسة.والانتخاب الثاني يتعلق بفروع الحماية وأصلها أو الاستعلام والأعلام السياسيين.ومستواه الأول يقع في منظومات القوى السياسية (الاحزاب والقبائل وأي مؤسسات للعملالسياسي والمدني تمثيلا للجماعة) في ما يشبه الأعداد \"النظري\" لكن مستواه الثاني تطبيقي عندما يمارس السياسة فعلا حكما ومعارضة.وهنا أيضا تشبه العلاقة بين المستوى الاول والمستوى الثاني من الانتخاب الثاني العلاقةبين النظرية والتطبيق في المعرفة العلمية لأن المستوى الثاني يناظر التجربة التي تحاكمالنظرية لبيان مدى قدرتها على التفسير وهنا هي لبيان مدى حصول الكفاءة والأخلاق ضامنتي النجاح في العمل على علم.تلك هي المسائل التي سنعود إليها في محاولة بحجم المحاولة التي نختمها الأن ولها صلة بهالأنها تستكمل البحث في طبيعة علم السياسية ونسبة الدولة إلى الجماعة كما حددها ابنأبو يعربالمرزوقي 48 الأسماء والبيان
خلدون بمفهومين يبدوان أرسطيين لكنهما في الحقيقة مختلفان تماما عن دلالتهما الارسطية: الصورة والمادة.أبو يعربالمرزوقي 49 الأسماء والبيان
القسم الثانيأجلت الكلام في الانتخابين المضاعفين في خاتمة القسم الأول من المحاولة حول علمالسياسة إلى قسم ثان آمل أن يكون كافيا لوضع اللبنات الأساسية في المسألة التي لا يمكنفهم \"أمر الجماعة\" بالمعنى القرآني للكلمة في الآية 38من الشورى ورعايته وحمايته بدولة أمة سيدة مواطنوها أحرار بحق.وها أنا أشرع في اتمام العمل بعد أن كانت محاولات الكلام في الأوضاع الراهنة كافيةلإبراز ما عليه وعي النخب العربية في جل أقطار الأمة من غرق في وحل المنازعات التيتعميهم عن تراتب الأوليات في سياسة الجماعات فتكاد تقضي بأن البصيرة شبه منعدمة: اغلبهم صاروا ذبابا بالمعنى التواصلي.ولا يمكن أن يعلل ذلك بأحوال النفس أو بالاستبداد والفساد تعليلا كافيا لأننا لا يمكنأن نفسر عمى البصيرة بهما ونفسرهما به .ففي ذلك دور إما مباشر أو بعد تسلسل وكلاهماخطأ منطقي لا يغتفر في مثل هذه الحالات .لذلك بات من الواجب تعميق البحث في نوعي الانتخاب المضاعفين. وكلمة الانتخاب تقابل معنيين: .1الانتخاب السياسي Electionكما في صندوق الانتخاب أي اختيار من يمثل الامة لفرض كفاية في إدارة أمرها وما يتلوه خلال ممارسة النيابة. .2الانتخاب التربوي Sélectionلفرض عين كما في الامتحانات خلال التعليم والتخرج وممارسة ذلك في تقسيم العمل بكل أصنافه.والمقابلة فرض كفاية وفرض عين لا ينبغي أن تغالطنا فنتصور الأول خاليا من الثانيوالثاني خاليا من الأول .ففرض العين فيه نيابة الجماعة في أداء عمل معين لا يمكن أنأبو يعربالمرزوقي 50 الأسماء والبيان
يتكفل به الجميع لكنه لا يمكن أن يكون سويا من دون مساهمة الجميع فلا شيء يضمن أمانة النائب إذا غاب المنوب.فالكفاية لا تكفي من دون العين .وحضور العين ليس ضرورة في الأعيان بل في الأذهان.وأبلغ مثال علاقة الخليفة بالمستخلف .فالإنسان لا يكون خليفة الله بحق (فرض كفاية)إذا غاب عن ذهنه وقلبه حضور الله معه في كل حركة يقوم بها سواء في السر أو في العلن: الله لا يقوم بعمل الخليفة لكنه حاضر معه.وفرض العين في تقاسم الأعمال لا يكون فرض عين ما لم يكن فرض كفاية .ومعنى ذلكأن الذي يختص في مجال معين من مجالات العمل في الجماعة يقوم بفرض كفاية عنها فيهأي إنه يعوض الجماعة ليس بمعنى نيابتها في إدارة أمرها بل في أمره نفسه .فما يختص فيه جزء من أمر الجماعة وليس من إدارتها أمرها.وهذا المعنى دقيق وشديد اللطافة لكنه ضروري لفهم العلاقة بين الانتخابين الاول وهوالأعم وهو المشاركة في الأمر نفسه والثاني وهو الأخص وهو إدارة الامر .والمعنى الأوليتعلق بكون الإنسان جزء لا يتجزأ من كيان الجماعة والمعنى الثاني يتعلق بكونه جزءا لا يتجزأ من سلطان الجماعة على أمرها.وبعبارة أوضح فالانتخاب الأول يعني العمل الجماعي الذي يحقق التراتب الأمينللحقيقة العادل في احترامها خلال الانتخاب في الجماعة بحسب نظام تربوي يعتمد الكفاءةوالأخلاق صفتين للخريج منه وصفتين يقع بمقتضاهما التغيير النهائي خلال الممارسة بعد التخرج في إنجاز العمل الذي هو المحك الحاسم.والانتخاب الثاني يعني العمل الجماعي الذي يحقق التراتب الامين للحقيقة والعادل فياحترامها خلال الانتخاب في الجماعة بحسب نظام حكم يعتمد الكفاءة والأخلاق صفتينللمنتخب وصفتين يقع بمقتضاهما التعيير النهائي خلال الممارسة بعد الانتخاب في إنجاز الإدارة السياسية التي هي المحك الحاسمولهذه الأمانة والعدل في الانتحاب الاول المضاعف أي خلال التكوين العام لكل أفرادالجماعة جزءا من امر الجماعة نفسها كل في اختصاصه بحسب نظام تقسيم العملأبو يعربالمرزوقي 51 الأسماء والبيان
والانتخاب الثاني المضاعف خلال التكوين الخاص لمن ينوب الجماعة في إدارة أمرها نيابة عنها بمشاركة منها ورقابتها الدائمتين.ما يعني أن الانتخاب الاول العام هو الاصل والانتخاب الثاني الخاص هو الفرع وأنمنظومة التربية شارطة للانتخاب الأول ومنظومة القوى السياسية شارطة للانتخابالثاني .فيكون من واجب أي جماعة أن يكون لها منظومة مماثلة لمنظومة التربية تسمى منظومة الحكم أو منظومة القوى السياسية في الجماعةوهذه المنظومة الثانية تابعة لمنظومة التربية لأن شروطها مضاعفة :فهي جزء من سلطانالجماعة على نفسها وهي خاضعة لكيان الجماعة بوصف الدولة هي إرادة الجماعة وعلمهاوقدرتها وحياتها ورؤيتها ولا يمكن لمن يدير أمر الجماعة ألا يكون جزءا منها بهذه المعاني الخمسة.وغياب الوعي بهذه العلاقة بين نوعي الفرض وبين نوعي الانتخاب هو السبب الأولولأكثر تأثيرا في ما حدث للامة من انحطاط .وأفضل مثال هو تحول إدارة الأمر إلى فرضكفاية لا صلة له بفرع العين وتحول الجهاد إلى فرض كفاية لا صلة له بفرض العين. واجتمع التحولان فأنتج نظام التغلب في الحكم.لما يغيب فرض العين في الحكم تصبح الشعوب رعايا ولما يغيب فرض العين في الجهادتصبح الأمة عيالا ولما يغيب فرض العين في المعرفة تصبح الأمة جهالا :ولذلك كانالانحطاط النتيجة الحتمية لأن ذلك هو حقيقته :اجتماع صفة الرعية وصفة العيال وصفة الجهال وينتج عنها فقدان الرعاية والحماية.صار الاجتهاد حكرا على \"العلماء\" لأن الجهل عم البقية والعلماء أنفسهم عمش في دارالعميان لأن حفظ المحفوظات ليس علما ما دامت لا تعالج العلاقتين العمودية بين الإنسانوالطبيعة والأفقية بين الإنسان والتاريخ بل تقتصر على الكلام في الغيبيات التي ردوها للشاهدات بصراع التأويلات والخزعبلات.وصار الجهاد مقصورا على الحاميات وانقلاب أمراء الحرب وأصحاب المغامرات فيالانقلابات على كل شرعية لأن الحكم صار مصدر الغنائم في شعب جاعلون مؤلفا من البهائمأبو يعربالمرزوقي 52 الأسماء والبيان
والسوائم وبذلك لم تعد الشعوب قادرة على رفع رأسها والدفاع عن أرضها وعرضها وبات ذلك يعتبر من قضاء الله وقدره.وغابت التربية النظامية الحقة التي تعد الناس للأدوار التي تؤديها في قيام الجماعةوتقسيم الأعمال على علم بل كل شيء أصبح مجرد تكرار لعادات بدائية في الإنتاجينالمادي والثقافي حتى باتت الأمة عالة على غيرها من الأمم في كل شيء يستمد منه مقومات الرعاية والحماية ماديا وثقافيا.غابت شروط الاجتهاد المبدع والجهاد الرادع اللذين هما فرض عين دائما حتى وإن كانلا بد فيهما من فرض الكفاية في التخصص الأسمى بوصف المتخصصين معلمين للجميع كل فيمجاله وفقدت الأمة من سميتهم القوابل السقراطية أو القيادات النخبوية التي وظيفتها الحضارية كوظيفة تجديد الأجيال العضوية.وما صرنا نسميه التواصل الذبابي في أنظمة الثورة المضادة وقبلهم في الأنظمة العسكريةطيلة أكثر من نصف قرن من مهاترات وحروب إذاعات وكلام دون الحزام والبذاءات ليسبالأمر الجديد فهو من أمراض علماء الكلام والفقهاء لأن الاستمراق المتبادل بينهم علته أنهم يتكلمون في ما لا يعلم بالطبع.فلا يوجد شرط التأكد من الاقوال إذا غابت الأفعال :كيف يمكن أن أعلم الصدق منالكذب إذا كان مفاد الكلام لا مرجعية خارجية له إذ كل كلامهم على الذات والصفاتوالخرافات والتخويف بجهنم والتجارة بالدرجات في الجنة وكلها من أسرار الغيب التي لا يعلمها إلا صاحب العلم المحيط رب العالمين.عندئذ يغيب معيار الكفاءة والاخلاق في الانتخاب الأول التعليمي والإنجازي فلا يبق إلاالتحيل والتقول وكثرة الحفظ للخرافات ومن الشعر بعض الأبيات ومن الحديث كثرةالموضوعات والكذب على الرسول والمرسل لاستعباد المرسل إليه الذي صار مثل الأنعام يقاد بألاعيب الدعاة المطبلين لدهاة المجرمين.فقدت الدولة كل وظائفها وأصبح دورها الوحيد تمكين المافيات من رقاب الناس كأنهمأنعام أو دجاج وظيفتها البيض للمتحكمين في رقابها والمستغلين للقليل من منتجها لأنها لمأبو يعربالمرزوقي 53 الأسماء والبيان
تتكون لتكون منتجة وعادت إلى المراحل البدائية من العمران البدوي ونحل العيش مما تنتجه الطبيعة والزراعة البدائية.صحيح أن للاستعمار في ذلك دورا مهما .لكن وجوده ليس هو علته بل علته فقدان هذهالوظائف قبل مجيئه لأنها لو كانت موجودة لما استطاع ان يأتي ولحيل دونه بشروط الحمايةالتي تنتج عن شروط الرعاية التي هي وظائف الدولة العشر التي درسناها في القسم الأول من هذه المحاولة.وكل ما تراه اليوم من أمارات التقدم المادي والثقافي في بلاد العرب هو من العارية أيإنه كله أو جله مستورد ومركب تركيبا لأن صانعيه هم إما الاستعمار لما كان مباشرا أو مايستورد من بلاده بعد أن صار غير مباشر وبعد أن اكتشف هو ثروات البلاد الطبيعية التي كانت مهملة أو مجهولة.فلا يغرنك ما تراه من عمران تظنه شبيها في الظاهر بما في أوروبا .إنه مستورد كلهمقابل البيع البخس للثروات الطبيعية عند من لهم منها قدرا وحتى للسيادة عند منيعيشون على مد اليد والتسول وليس ثمرة لتطور طبيعي لقدرات الإبداع والانتاج الذاتية للشعوب العربية التي جعلوها ذيل البريةوعندما يكون \"ولي الأمر\" أميا أو نصف أمي لا يكاد يعلم من شروط البناء الحضاري إلىزخرف القشور والعيش في القصور التي ليس لأبناء بلده أدنى دور في تشييدها ولا حتى فيتسييرها فأنت أمام طلاء وبلاء ولست أمام عمران وحضارة وعندما تنضب ثروات الطبيعة سيهاجرون ويعود الشعب إلى القرون الوسطى.وهم دون شك يعلمون ذلك وإلا لما احتاجوا إلى تهريب ثروات البلاد إلى بنوك أسيادهمحتى إذا جد الجد يأخذون الطائرات ويهاجرون إلى الجنات التي أعدوها في الغرب وملأوابنوكهم حتى يعيشوا هم وأبناؤهم وتركوا الأنعام التي استعبدوها وحلبوها هم وحماتهم فجوعوها وأذلوها.ومع ذلك تجد من أبناء الشعب الذين لا يقلون عنهم إجراما من النوعين دجالي الاصالةالدينية والحداثة الفلسفية يطبلون لهم ويعتبرونهم مصلحين وليس مثال مصر والعراقأبو يعربالمرزوقي 54 الأسماء والبيان
والشام وهلم جرا ببعيد فالحال التي صارت عليها هذه البلدان لا تبعد كثيرا عن الشعوب البدائية في كل أبعاد الحياة الحضارية.أبو يعربالمرزوقي 55 الأسماء والبيان
والآن ما الارضية التي ينطلق منها الانتخاب في مستواه الاول والثاني خلال التكوينوخلال استعمال حصيلته؟ إذا لم يكن في الإنسان انتخاب طبيعي متقدم عليهما فإن الانتخابالحضاري بمستوييه يصبح مستحيلا .ومعنى ذلك أن الانتخاب الحضاري لا يحدث قدرات الإنسان بل هو ينمي الموجود منها عنده.لا بد إذن من التسليم بأنه يوجد لدى الإنسان الذي نكونه ما هو فطري وما يضيفهالتكوين في عملية الانتخاب مكتسب بتنمية الفطري .ومهما كنا نطلب المساواة والعدل بينالناس فإن الاكتساب قد يقرب الناس في المهارات لكنه لن يستطيع إلغاء الاختلاف فيها والمتناسب مع ما في الإنسان من فطري.والفطري نوعان :القدرة والميل .فكل البشر من حيث هم بشر لهم بالنوع نفس القدراتوالميول لكنهم بالعدد يتمايزون بمقدارهما .كل إنسان قادر وميال لكن ليس كل الناسمتساوين في القدرات والميول .ويذهب ابن تيمية إلى أن التفاوت فيهما أكثر من التفاوت في المميزات البدنية بين البشر قوة وضعفا.وتلك هي العلة في تصنيفي النخب أي المبرزين من البشر في المقومات المشتركة بينهم إلىخمسة اصناف بحسب أصناف المقومات بحسب غلبة أحدها على كل صنف وميل المنتسبين إليه: .1صنف الإرادة .2صنف العلم .3صنف القدرة .4صنف الحياة .5صنف الوجود. وهذا التصنيف جامع مانع. ويناظر هذا التصنيف في الجماعات ما يمكن من وضع التوازي التالي: .1صنف الإرادة في الغالب هم الساسةأبو يعربالمرزوقي 56 الأسماء والبيان
.2وصنف العلم في الغالب الباحثون عن الحقيقة .3وصنف القدرة في الغالب الاقتصاديون والثقافيون .4وصنف الحياة في الغالب الفنانون .5وصنف الوجود في الغالب أصحاب الرؤى دينا أو فلسفة.ودون هذه الأصناف توجد المهن التي تبوب بحسبها :المهن السياسية والمهن العلمية المهنالإنتاجية السادة للحاجات المادية والروحية والمهن الفنية والمهن الرؤيوية وهي كلهاتطبيقات للأصناف الأولى في كل جماعة ولا يمكن تصور غيرها لأنها مبنية على مقومات كيان الإنسان وهي موجودة له كإمكان.وإذن فالانتخابان بمستويي كل منهما تعد أربعة فروع لهذا الأصل :الانتخاب الطبيعييتفرع عنه الانتخاب الأول تكوينا واستعمالا والانتخاب الثاني تكوينا واستعمالا وعليهاخمستها تنبني قدرات الجماعة في \"خلق\" ذاتها بوصفها كائنا طبيعيا ثقافيا ذات \"وعي ذاتي\" هو سلطانها على ذاتها بذاتها ولذاتها.لكن المكتسب الذي يضاف إلى الفطري يمكن أن يكون إيجابيا ويمكن أن يكون سلبيا أيإنه قد يكون منميا ومطورا للفطري وقد يكون قاتلا له .وقد اعتبر ابن خلدون التربيةوالحكم العنيفين مفسدين لمعاني الإنسانية التي هي عين الفطرة :حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.وهو يعتبر ذلك اساس كون الإنسان \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"وهو تعريف دقيق لنظرية الإنسان القرآنية أو بصورة أدق لنظرية الفطرة التي فطرعليها الإنسان :أي إنه حر الإرادة حقيقي العلم خير القدرة جميل الحياة وجليل الوجود. وما يخالف ذلك تحريف للفطرة بسبب التربية والحكم.فتكون العبودية والباطل والشر والقبح والذل تحريفات للفطرة علتها العنف في التربيةوفي الحكم أي في فساد وظيفتي الدولة رعاية وحماية .وذلك هو موضوع الانتخابينالمضاعفين اللذين بصلاحهما تصلح الدول وتنمو الأمم وبفسادهما تفسد الدول وتضمر الأمم إلى حد \"الرد أسفل سافلين\" والانقراض.أبو يعربالمرزوقي 57 الأسماء والبيان
والرد أسفل سافلين الذي يفسد معاني الإنسانية في الجماعات يبدأ بالرأس أي بالنخبالتي عندما تكون صالحة تكون ما سميناه القوابل السقراطية في الجماعة .فالقوابلالسقراطية تعد في الإرادة وفي العلم وفي القدرة وفي الحياة وفي الوجود هي العلامة على صلاح الأمم بصلاحها وعلى فسادها بفسادهاوصلاح النخب وفسادها ينتج عن صلاح الانتخابين المضاعفين وفسادهما .ومعنى ذلك أنوجود الكفاءة والخلق لدى النخب هو أساس كل صلاح وانعدامهما هو أساس كل فساد .وفيالحقيقة الجماعة لا يمكن أن تخلو من نخب كفءة وذات خلق لكن الانتخاب ينعكس فيستبعدها ويقرب عدمائهما.وقد أرجع ابن خلدون ذلك إلى علة سياسية هي الاستبداد :فالمستبد يحتاج إلى ما يمكنهمن الاستفراد بالسلطة فيبعد من يمكن أن يكون لهم عليه \"دالة\" من العصبية التي أوصلتهإلى الحكم ويحيط نفسه بـ\"الموالي\" أي بمن يخدمون كعبيد وليس كأنداد أحرار .ويصبح الجميع عبيدا للمستبد فتزول رئاسة الإنسان.وفي هذا التفسير الخلدوني تكذيب لخرافة هيجل حول المستبد الشرقي .فابن خلدونيبين أنها خاصية في كل استبداد دون تمييز بين شرق وغرب .كل حكم فردي ينتهيبالضرورة إلى استبعاد الأفاضل واستقراب الأراذل لأن هؤلاء لا يؤمنون بحرية الإرادة وحقيقة العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.همهم الوحيد الاستفادة المادية الخالصة من سلطان المستبد وما يوزعه عليهم من فتاتموائده ونزواته فيكونوا له خدما طائعين في البداية ثم يصبحون هم أصحاب السلطانالفعلي ولا يبقون له إلا شكليات السلطان .وبهذه الطريقة انهارت الخلافة في كل مراحلها حتى صار كافور الأخشيدي حاكم مصر مثلا.وصار أشعر الرب -المتنبي-متكديا عنده .صحيح أن كافور كان حاكما صالحا بنحو ما وأنالمتنبي على عبقرية كان نذلا وفاقدا للكرامة لكن الظاهرة ذات دلالة من يتجاهلها لا يمكنأن يفهم ما يجري حاليا في بلاد العرب وخاصة في أكبر دولتين عربيتين حاليتين :مصر والسعودية .لكن الظاهرة عامة.أبو يعربالمرزوقي 58 الأسماء والبيان
فهل كان السيسي يصل إلى حكم مصر لو كان الانتخاب الأول بمستوييه والانتخاب الثانيبمستوييه سليمين في مصر؟ وهل كل غر السعودية يصل إلى حكمها لو كان ذلك كذلك فيها؟وقس عليهما غيرهما من بلاد العرب وربما من جل بلاد المسلمين؟ وليس للأمر حروز كما قد يحدث في الغرب فلا يؤثر لوجودها.فقد يمر حاكم في الغرب لا يقل غباء وبلادة من بليد مصر ومن مراهق السعودية لكنالحروز فيها تحول دون ما يؤدي إليه مثيله عندنا .ذلك أن بقية المؤسسات تحد من الضررإلى حد كبير فيكون مجرد قوسين يفتحان ويغلقان بسرعة ويتواصل التقدم والتعمير في بلادهم والتخلف والتدمير في بلادنا.وهكذا يتبين أن ما أبحث فيه ليس مجرد نظرية عامة في علم السياسة بل هو نظرية في\"هندسة\" الأمم والدول على علم .ذلك أن علم السياسة هو في الحقيقة علم استراتيجيابناء الدول والأمم واستراتيجيا تهديم الدول والامم تماما كالطب هو علم الدواء وعلم الداء .علم السياسة هو طب الجماعة دواء وداء.فالعدو يستعمله داء ضدك وأنت تستعمله دواء لذاتك وداء له إن كنت مثله شريرا.لكن الإسلام ينهاك عن ذلك ولا يخول اللجوء إليه إلى رد فعل على من يعاديك ولا ينتهبالتي هي أحسن .ولهذه العلة يطالبك بأن تطبق قاعدة الأنفال 60للردع وليس للعدوان .والردع هدفه منع الحرب بالاستعداد لها.وإذن فأول خطوة في الانتخابين هي اكتشاف \"المؤهلات الطبيعية\" المبكر والعناية بهالتطويرها وتهذيها وتنميتها لأنها هي التي تحقق شرطي السيادة المادية والرئاسة الروحيةللجماعات في مستوى الكفاءة والخلق وهي أصل كل ثروة وكل تراث في كل الحضارات. وقتلها قتلهما فيها جميعا كذلك.وهذه هي وظيفة من سميتهم القوابل السقراطية لاكتشاف من يمكن أن يكون من نخبةالإرادة أو من نخبة العلم أو من نخبة القدرة أو من نخبة الحياة (الذوق) أو من نخبةالوجود (الرؤى) وهذه المعطيات التي هي من جنس الانتخاب الطبيعي تشبه الثروات الطبيعية في الجغرافيا والمكتسبة في التاريخ.أبو يعربالمرزوقي 59 الأسماء والبيان
والهدر في هذه الثروات الطبيعية الإنسانية التي هي أصل الثروات المادية (الثروةالاقتصادية) والتراثية (الثروة الثقافية) لا يقدر في وضعنا .فمن من الله عليه بإحداهامن البشر ولم تقتل في النظامين الانتخابيين لن يبقى في مجتمعاتنا لأنه سينجو بنفسه ويهاجر حيث فيستفاد من مؤهلاته الطبيعية.ومن لم تتح له فرصة الهجرة سيذوى بالتدريج ويفقد كل أمل في أن يبدع بل سيعتبرمن الشواذ ويعاني كامل حياته من سلطان الأنذال الذي يسلطهم عليه الاستبداد والفسادطيلة حياته ولن يستطيع الخروج من مأزقه إلا إذا تحنف وخرج من الحياة العامة وفضل العمل الصامت لعل التاريخ ينصفه لاحقا.ولذلك فغالبا ما تكون القوابل السقراطية مصيرها مصير سقراط .يحاكم باسم إفسادالشباب والمروق من الدين الرسمي فيسقى السم فعليا كما حدث لسقراط أو رمزيا كمايحدث في الغالب لكبار المصلحين والمبدعين إما حسدا من المنتسبين إلى مجاله أو نقمة من سادتهم إذا مس سلطانهم وفسادهم.وصفنا الوضع المتردي في بلادنا باعتباره نتيجة حتمية لفساد الانتخابين المضاعفين الأولالعام والثاني الخاص وبينا بصورة عامة وبحسب التعليل الخلدوني لانحطاط الامة مدخلاضروريا للبحث في آلياتهما وشروط صلاحهما وعلل فسادهما لوضع قواعد هندسة الأمم والدول المحققة للاستئناف بعد الانحطاط.أبو يعربالمرزوقي 60 الأسماء والبيان
أسمى طموح عندي هو المشاركة بقدر ما مهما كان ضئيلا في تحديد شروط الاستئنافوعودة الأمة إلى دورها الكوني في تاريخ الإنسانية كما كان مشروعها في النشأة بمعياريالنساء 1والحجرات 13أو الكونية الإسلامية التي لا تميز بين الاعراق والأديان والأجناس :البشر أخوة متساوون في الحقوق والواجبات.ولن تستأنف الأمة دورها إذا لم تسترد شروط قوتها التي تمكنها من دور الشهادة علىالعالمين بتبليغ هذه الرسالة الكونية التي هي جوهر مضمون القرآن الغاية مع مضمون أداتيهو الاستراتيجية السياسية ببعديها تربية وحكما لجعل الإنسان يكون جديرا بالاستخلاف علة رئاسته بالطبع (ابن خلدون)وما يسميه القرآن فطرة يذكر بها الرسول الخاتم هو القدرات الفطرية التي جهز بهاالإنسان ليحقق مهمتيه أي عمارة الارض بقيم الاستخلاف وهو التربية والحكم اللذينيحققان الانتخابين المضاعفين لتأهيل الإنسان ليكون جديرا بالاستخلاف ومن ثم فالتذكير يتعلق بالقدرة والعلم والقدرة والحياة والوجود.وقد أمر الرسول بتبليغ التذكير دون أن يكون وسيطا بين المؤمن وربه (في التربية بمعنىالتوليد السقراطي) فضلا عن أن يكون وصيا عليه (في الحكم بمعنى نفي الحق الإلهي فيالحكم) وقد جمعت آية واحدة هذين المعنيين \"فذكر إنما أنت مذكر (نفي الوساطة) لست عليهم بمسيطر (نفي الوصاية) :المثال والقدوة.ولو لم يكذب العلماء والأمراء على الرسول في ما ادعوا وراثته عنه الأولون في التربيةوالثانون في الحكم لكانت الأمة بحق أمينة للرسالة وعادلة في الانتخابين المضاعفين ولما حدثللأمة من حدث من انحطاط وتخلف جعلها تحت رحمة الدجالين من العلماء والسفاكين من الحكام منذ قرون.أبو يعربالمرزوقي 61 الأسماء والبيان
وقد آليت على نفسي أن أجهزها بما أستطيع حتى أعيد النظر في دعاوى النخبتين صاحبةالرؤى من أدعياء عولم الدين وأدعياء علوم الفلسفة في ضوء قراءة فلسفية للقرآن تحررهمن كل التأويلات التي استأنفت التحريف لكأن نصف القرآن ليس تصفية حساب مع كل التحريفات الممكنة للرسالة السماوية. فالقرآن يمكن اعتباره مؤلفا من قسمين كلاهما مضاعف:قسم العلاج الفلسفي العميق لنظرية الديني في كل دين ببعدي هذا العلاج النقديللتحريفات والموجب للبديل ليس بتقديم دين جديد بل بالتذكير بالدين الواحد الذي هو دين الله وهو الإسلام المكتوب في ما فطر عليه الإنسان مهمة وتجهيزا لإنجازها.وقسم الاستراتيجية السياسية ببعديها تربية وحكما كذلك بشكل نقدي لعينة منالسياسيات الفاسدة التي تؤدي إلى خراب الدول واستبدال الشعوب وقسم موجب يحددشروط البناء السليم للدول والأمم بقيم تليق بالإنسان المستخلف :حرية الإرادة وحقيقة العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.وأصل هذه الفروع الاربعة هو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه دون وساطة ولا وصايةوالعلاقة غير المباشرة بينهما بتوسط العلاقة العمودية بالطبيعة والعلاقة الافقية بالتاريخوما يوحيان به للإنسان مما وراء هو طلب قوانين الاولى وسنن الثاني ونسبتهما إلى خالق عليم وشارع حكيم.وهكذا فقد بينا التطابق التام بين قراءة القرآن فلسفيا والفلسفة .فالفلسفة هي طلبقوانين الطبيعة وسنن التاريخ والتشوف إلى ما ورائهما وهو ما يسمى البعد الديني منالفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو إلى نهاية الشكل المتعود من الفلسفة بعد كنط وهيجل .كل ما كتب بعدهما جنس آخر من الفكر.وهذا الجنس الآخر أصبح الإنسان يشغل فيه المحل الذي كان يشغله الله .انتقلنا منالفلسفة الثيولوجية إلى الفلسفة الأنثروبولوجية .فعادة وظيفة العلم الرئيس إلى التاريخبدلا من الطبيعة .فأصبح الدين والتاريخ محور الخطاب الفلسفي بدلا من الدين والطبيعة .فتأدلجت الفلسفة وهزلت علاقتها بالعلم.أبو يعربالمرزوقي 62 الأسماء والبيان
وبالتدريج عادت الفلسفة في آخرة تجلياتها -مابعد الحداثة-إلى الميثولوجيا التي يعوضفيها ما كان في شكلها القديم صراع آلهة صراع البشر المتالهين أو القادرين على الحروبالعالمية بأسلحة الدمار الشامل سوءا بالفعل او بالقوة استعدادا للأبوكاليبس الكوني والتهديم الذاتي للإنسان وشروط بقائه.وهو ما يحذر منه القرآن الكريم في الوجه النقدي من قسمه الثاني .لكن ما كان مجردتحذير ديني قد ظنه الكثير لمجرد التخويف صار حقيقة ماثلة للعيان ونحن أولى ضحاياهلأننا لم نعمل بالأنفال 60وليس ذلك خيارا من الأمة بل هو كان نتيجة لفساد الانتخابين بمستوييهما كليهما.وطبعا لا أنفي أن في القرآن مسائل أخرى لكنها كلها متعلقة بهذه المسائل الخمس لأنهاتتعلق إما بترجمة النبي وأهم أحداث حياته من حيث هو رسول أو بترجمة الأمة وأهمأحداث نشأتها ومعاركها أو بالتربية الخلقية والروحية في تأصيل الأمة لمهمة تحقيق الرسالة لنقلها من الأذهان إلى الاعيان.لكن المسألة المركزية هي علاقة المؤمن بربه وهي علاقة محيرة حقا .فمع الفارقوالمقامات تشبه هذه العلاقة ما يعرف بمغامرات الذكاء الصناعي حيث نفترض عالما صنعروبوتا حرا فتنكر الروبوت لصانعه ولم يعد يطيعه في كل شيء تقريبا .لكلأن الأنسان هو هذا الروبوت والله هو هذا الصانع.ويمكن القول دون أدنى تحفظ أن كل الإشكاليات الدينية ترجع إلى هذه المسألة التيطالما حيرتني :ما الذي يجعل الإنسان كما يصفه القرآن مصدرا لكل تلك العيوب التييصفه بها القرآن ثم في نفس الوقت يعطيه الله المنزلة الوجودية التي تعلو حتى على الملائكة ويختاره ليكون خليفته في الارض.لا يوجد لغز أكثر تحييرا من هذا للغز .وقد يجعل الكثير من المتعجلين يستنتجون أنهمجرد لغز ميثولوجي .لكن لا أحد يمكن أن ينكر أنه لغز وجودي حقيقي يجده كل إنسانفي نفسه :فهو يجد في نفسه الإرادة الحرة والعلم الحقيقي والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل ونقائضها في ذاته معا.أبو يعربالمرزوقي 63 الأسماء والبيان
فلا تمر لحظة من لحظات الواعي بالذات-لأن هذه اللحظات قليلة في حياة الإنسانالغارق في وحل الحياة الدنيا ومشاغلها وملاهيها-دون يرى نفسه مشتتا ومفتتا بين هذينالحدين من كيانه المادي والروحي بين الحرية والعبودية وبين الحق والباطل وبين الخير والشر وبين الجمال والقبح وبين الجليل والذليل.وحتى إذا غفل عن ذلك في ذاته فهو لا يغفل عنه في حكمه على غيره .وما أن يعي أنحكمه على غيره يناظره حكم غيره عليه حتى يجد في نفسه ما يجده في غيره فيكون الإنسانمشدودا إلى عالمين فاضل ورذل يناوس بينهما وكأنه ريشة في مهب زوابع لا تتوقف ولو لم يكن رب القرآن رحيما لظن الإنسان أنه لعين.وإنه لذلك بمجرد أن يسهو فينسى ربه يعيش في ذهول وتذاهل وخمول وتخامل وفييقظة وتياقظ محاولا أن يمسك بالعروة الوثقى فلا يتمكن لكأن الشيطان يتلبس بالإنسانبمجرد أن يغفل أو يستغفل فيترك نفسه لما يتجاذبه من تيارات لا تنتهي حتى وهو نائم. ولذلك فالتربية والوزع الذاتي والاجنبي شروط بقاء. واخيرا فالقرآن يتكلم على نفسه بأبعاده الخمسة كرسالة: .1المرسل أو الله .2والمرسل إليه أو الإنسان .3والرسول أو الخاتم .4ومضمون الرسالة .5وطريقة التلقي والتبليغ (الوحي والمشروع السياسي تربية وحكما) لتحقيق الرسالة في الواقع الفعلي .ولن تجد فيه شيئا آخر غير ذلك.ولهذه العلة عرفته في قراءتي الفلسفية بكونه استراتيجية توحيد الإنسانية وعرفتالسنة بوصفها تعليمه (قراءته على الناس على مكث) منطق السياسة التي تحقق منه عينةفي التاريخ الفعلي وسميت ذلك منطق السياسة المحمدية في التربية والحكم بقيم القرآن إعدادا للإنسانية لتكون أهلا للاستخلاف.أبو يعربالمرزوقي 64 الأسماء والبيان
وهذا هو المشروع الذي ينبغي أن يكون مشروع الاستئناف حتى يكون دور المسلمين فيالتاريخ الكوني محققا لطموح يضاهي طموح النشأة الأولى .ذلك أن الاستئناف كمااتصوره هو النشأة الثانية لأمة الإسلام .فكما أن آدم أضاع الفرصة الأولى وأعطي فرصة ثانية فالاستئناف هو فرصة المسلمين الثانية.وفضيلة الفرصة الثانية مضاعفة :فهي لا تكون ثانية إلا إذا تجنبت الوقوع في أخطاءالفرصة الأولى ومن ثم فعملي يتمثل في بيان اخطاء الفرصة الأولى وهي تقريبا الفرعالاول من القسم الاول من موضوع القرآن أو نقد تحريف لرسالات السابقة .وهي لتكون ثانية إذا تداركت ما غفلت عنه الفرصة الأولى.وما غفلت عنه الفرصة الأولى هما علة فساد علوم الملة أو قلبها أمر القرآن لتحقيقالشروط التي تمكن من علاج العلاقتين العمودية والأفقية (فصلت )53ونهيه لتحقيقنفس الغاية (آل عمران .)7فبدلا من علوم الآفاق والأنفس والشاهدات انشغل من توهموا أنفسهم راسخين في العلم بالغيبيات.وقد خصصت لانحرف علوم الملة الكثير من المحاولات .لكن أعمال الملة كذلك انحرفتوذلك منذ تعطيل دستور التربية القرآني ودستور الحكم القرآني بإعادة الوساطة في الأولوالوصاية في الثاني ما أفسد الانتخابين بفرعيهما وحال دون الأمة وتحقيق نظرية الإنسان القرآنية مهمتيه وجهازيه.أبو يعربالمرزوقي 65 الأسماء والبيان
سأبدأ الفصل الرابع بملاحظة أساسها نظرية الغزالي في \"طور ما وراء العقل\" .فهذهالنظرية تعني أن من يسمون بالعقلانيين من المعتزلة إلى عتاة الإلحاد الذي يزايدون حتىعلى المعتزلة في وهم نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة لا يختلفون عن العامة :فلا فرق بين ظن الحواس مطابقة وظن العقل مطابق.ما أنطلق منه هو نظرة الغزالي بقوة اللامتناهي .بمعنى أنه لا يوجد طور واحد وراءالعقل بل وراء كل طورٍ طو ٌر بلا نهاية .فلكما وصلنا إلى طور بحسب ما بلغت إليه مداركنااكتشفنا أن وراء طور كحال من يتقدم فيرى الأفق يتقدم فلا يتمكن من إدراكه .فالوجود لا متناهي الأطوار :وهذا أساس الدين.فهذه الرؤية الغزالي بقوة اللامتناهي متحررة مما وقع فيه عندما تصور أن هذا الطورالذي وضعه وراء العقل يمكن الإحاطة به بالكشف الصوفي .لكن الدين ينفي الإحاطةبالمطلق ومن ثم فهو بقاء الغيب غيبا دائما مهما نفذنا إلى أعماق الوجود بمعايير إدراكنا من الحس فصاعدا إلى غير نهاية.وهذا يقتضي التحرر نهائيا من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة دون الذهاب في الاتجاهالكنطي القائل بأن ما ندركه مجرد مظاهر من الوجود بل إن ما ندركه هو طبقات الوجودأو صفائحه اللامتناهية والتي لو أحاط بها إدراك الإنسان لكان هو بدوره لا متناهيا وهو متناه .العلم المطابق إلهي حصرا.وهذا هو أصل الإيمان الديني وهو لا يتعلق بالعلم وحده بل بالإرادة والقدرة والحياةوالوجود ..فهذه كلها لامتناهية عندما تنسب إلى الله أو لنقل إن الدين هو تصور هذهالصفات الذاتية لله لا تصح إلى عليه وهي في الحقيقة الغيب نفسه الذي لا يمكن أن نحيط به :نؤمن بوجوده دون القدرة على علمه.وهذا المعنى الذي أحاول صوغه لم يشر إليه بوضوح أحد على حد علمي قبل ابن تيميةعندما قال إن كل تصور وراءه تصور أدق دون نهاية وصاغه بصورة أفضل ابن خلدون عندأبو يعربالمرزوقي 66 الأسماء والبيان
رد كل أخطاء الكلام والفلسفة إلى مبدئهم الفاسد :رد الوجود إلى الإدراك .وصحيح أن أفلاطون لمح إلى لا تناهي الاطوار.ففي رسالته السابقة أشار أفلاطون إلى شيء سماه ابن خلدون بما لا ينقال Ineffable -Indicibleويعممه على ما يعتبره من الوجدانيات التي تدرك ولا نستطيع قولها باللسانالطبيعي وليس لنا غيره لقولها ويعتقد أن الأنبياء لهم القدرة على إدراكها بأمر أعجازي. لكني أشك لأن الغيب محجوب عنهم أيضا.إدراك الفرق بين إدراكنا وموضوعه أمر لا يخلو منه عقل سليم .لكني أعتقد أنالحداثيين من العرب ليس لهم عقل سليم لأنهم يتصورون العلم مطابق لموضوعه وهم منثم أكثر تعصبا من الطائفيين المتعصبين لمعتقداتهم ظنا أن ما لهم من تصور على المعاني الدينية مطابق لها لعدم فهم معنى الأيمان.فلو كان العلم مطابقا لموضوعه لتوقف في لحظة المطابقة ولم يبق له ما يطلب .ولو كانالإيمان علما لاستغنينا عنه ولكان متقلبا تقلب علمنا المتدرج دون نهاية والذي مهما تقدملن يحصل التطابق بينهما وإلا لانتهينا إلى وهم القائلين بالوحدة المطلق في تصوف وحدة الوجود :الوجود هو ذات المتصوف.وضع هذا المبدأ ضرورة للشروع في الكلام على الانتخابين .فمن دونه لا يبقى للعلممعنى ولا للإيمان معنى .فالأول يصبح إيديولوجيا سوفسطائية تجعل الإنسان مقياس كلشيء موجوده ومعدومه والثاني يصبح خرافه صوفية تجعل وعي الإنسان أيضا مقياس كل شيء حقه وباطله .كلاهما داء تضخم الذاتية.ولنا مثال في القرآن الكريم أعتقد أن من كانوا يتصورون العالم بالعين الأرسطية كانوايهزؤون منه ولا يصدقونه وصرنا اليوم نعتبره أمرا عاديا جدا بل ونتصور ما هو اغرب:فباعتبار حركة الأرض وحدة قيس ضرب لنا القرآن مثال الملاك الذي يصعد بخبر عملنا في يوم مقداره 50ألفا سنة مما نعد.فالعالم الذي يومه بخمسين ألف سنة من أيامنا لم يقل القرآن إنه آخر العوالم من حيثالحجم بل هو مثال ونحن نعلم اليوم أنه يوجد عوالم أكبر من ذلك بملايين السنوات مماأبو يعربالمرزوقي 67 الأسماء والبيان
نعد حتى لو أخذنا السنة الضوئية كوحدة قيس .وهذا يبين لك \"ضيق الحوصلة\" (مفهوم ثان للغزالي) عند أدعياء العقلانية.ويمكننا فرضيا أن نتصور العالم متسعا إلى اضعاف ذلك وتكون سرعة كائنات أخرىتقطعه في يوم من عالمها ويكون الحد المعلوم اليوم من السرعة الأقصى -سرعة الضوء-مجرد دليل على ما توصل إليه علمنا الحالي ويمكن أن نجد ما هو أسرع .ومن ثم فكل غاية في علمنا يمكن اعتبارها بداية لما يتجاوزه.ومن تضيق حوصلته على تخيل هذه العوالم كيف له أن يدعي الإحاطة فيجزم في أمورتتجاوز ما يتوهمه مقياس كل شيء موجوده ومعدومه سواء اعتمد ما يسميه علما عقليا أوعلما شكليا .كل ذلك من أمراض تضخم الذات الإنسانية وهو من علامات السذاجة المعرفية وليس من علامات العقل.فمن يعلم هذا لا يمكن ألا يعتبر المتكلمين والفلاسفة الذي كانوا يريدون رد الغائب(المجهول) إلى الشاهد (المعلوم) ورد المعاني القرآنية إلى علومهم المزعومة عقلية منالسذاجة لا تخلفت عن سذاجة الإنسان العامي الذي يرى السماء فوقه فيتصور مدى حواسه مقياسا للعالم الطبيعي.ولا يمكنك أن تربي إنسانا انطلاقا من مثل هذه \"المعتقدات\" التي يتصورها \"معلومات\"عقلية وهي في الحقيقة أقل \"تزمتا\" مما يعاب عادة على المخرفين من \"علماء\" الدين.ولذلك فاليوم أكثر الناس تزمتا هم من يزعمون محاربة \"المعتقدات\" الدينية بوصفها عندهم خرافية وهم غارقون \"للعنكوش\" في الخرافة.ولهذه العلة فلا بد من وضع مفهوم \"المابعد\" المطلق للإرادة وللعلم وللقدرة وللحياةوللوجود .فتكون هذه المقومات لكيان الإنسان مقيسه به وليس مقياسا له .فمهما أردناوعلمنا وقدرنا وحيينا ووجدنا نبقى أقرب إلى الصفر بالقياس إلى هذا المابعد الذي يلازم وعينا بذواتنا ومقوماتنا ونعده \"الاهنا\".وسأذكر هنا لطيفة من لطائف ابن سينا .فهو أول من أعاد كتابة مصنف أرسطو فيالميتافيزيقا بترتيب جديد واعتبر اسم ما بعد الطبيعة غير مناسب قائلا إذا قبلنا بهذاأبو يعربالمرزوقي 68 الأسماء والبيان
الاسم فليكن إذن \"ما قبل الطبيعة\" وليس ما بعدها لأنه هو شرطها والاسم الذي اشتهر هو \"الالهيات\" وهو أحد أسمائها الأرسطية.وعندي أن الإنسان من دون شيء من هذا أي \"ما قبل الطبيعة\" أو الإلهيات التي يكونفيها ما بعد الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود ما بعدا مطلقا يكون دون الإنسانيةالتي تصدق نفسها عن منزلتها في الوجود الذي تحاول رده إلى \"حوصلتها\" الضيقة فترد الوجود إلى إدراكها لما يكاد يلامس الصفر منه.وحال من لا يعي هذه العلاقة هي الغفلة الوجودية التي لا يمكن أن تبدأ التربية الحقةمن دون تحرير الإنسان منها حتى يسرح فكره في ملكوت السماوات والأرضين بلاحد لئلايجعل ذاته محور العالم وهي لا تكاد تذكر كما وكيفا في خلق الله ومع ذلك فالقرآن يكرمه ويعده ليكون خليفة بقيم مقوماته.فالوعي بهذه المنزلة كما وكيفا هو العبادة الأصل لأنها اعتراف بإرادة وعلم وقدرةوحياة ووجود كلها مطلقة لا يحيط بها الإنسان علما وإن كان لا يستطيع أن يحيا لحظةواحدة واعية بذاتها من دون أن يكون مضمون وعيه مليئا بها مهما غفل أو استغفل .لكن كل \"حداثي\" العرب جامد الوعي لم يتجاوز الحواس.ويمكن أن نعتبر مقدار الغفلة عن هذا الوعي هو مقدار فقدان معاني الإنسانية وهوأيضا مقدار الغرق في الفاني والمتداني من الوجود الإنساني لأن غاية ما يشرئب إليهصاحبه هو الاكل أكل الأنعام والاخلاد إلى الأرض كالكلب لا يتوقف عن اللهيث سواء حملت عليه أو تركته في وحل لهيثه الكلبي.فإذا كنت نخب الإرادة ونخب العلم ونخب القدرة ونخب الحياة ونخب الوجود تعتبرغايتها هي هذا الوجود المتدني أو \"الرد أسفل سافلين\" (ابن خلدون وصفا لفاسد معانيالإنسانية\" فلا يمكن أن تبني أمة من الاحرار ذات طموح كوني كما حصل في النشأة الاولى فيصبح عندك ما تراه من العرب والمسلمين.وأكبر الأدلة على أنهم كذلك هو موقفهم من الموت .فكم من زعيم من يسار العرب-وقدرأيت أمثلة كثيرة منهم في تونس ورهطهم عام بين علمانيي العرب-يطلب الا يعامل بتقاليدأبو يعربالمرزوقي 69 الأسماء والبيان
شعبه في احترام الميت والموت فيطالب بأن يبال على قبره بدل الصلاة عليه أو قراءة القرآن على قبره.وهو ما يعني أنه في الحقيقة أكثر الناس احتقارا لذاته لفرط ما تضخمت عنده فانقلبتالمعاني كلها في عقله المريض وأصبح يعتبر نفسه مجرد حيوان بل إن البعض اعتبر معاملتهمعاملة الهنود بالحرق بدل الدفن ليعبر عن تأففه من تقدير الميت في العادات التي يؤمن بها شعبه حتى لو تصورنا البعث خرافة.اعتقد أني الآن قد وفيت حق المناخ الروحي منطلقا لكل تربية وحكم لهما الدلالة التيتتحرر من \"فساد معاني الإنسانية\" ليس عند العامي المضطهد فسحب بل عند من يتصورنفسه خاصيا ومتحررا من \"المعتقدات\" التي يظنها خرافية ولا يدري أنه غارق في الخرافة إلى الأذقان رغم تطاوسه \"العقلاني\".أبو يعربالمرزوقي 70 الأسماء والبيان
ميزنا بين نوعين من الانتخاب كلاهما مضاعف: .1يجعل الفرد عضوا من كيان الأمة بوصفه أحد أعضاء الرعاية وتقسيم العمل المدني فيها لسد الحاجات المادية والروحية. .2ويجعل الفرد عضوا من سلطان الأمة على ذاتها بوصفه أحد أعضاء الحماية وتقسيم العمل السياسي فرض كفاية وفرض عين في الانتخابين.والطابع المضاعف في الانتخابين معناه أنه يقع خلال التحصيل وخلال الاستعمال للتكوينالذي يتحقق في التربية وفي الحكم علما وأن التربية والحكم كلاهما فرض كفاية على الفردوفرض عين على الجماعة بمعنى أن تربية الفرد ليست فردية وحكم الفرد ليس فرديا بل كلاهما تتدخل فيه الجماعة كحكم نهائي.ولنشرع الأن في الكلام على الانتخاب الأول والأساسي وهو انتخاب اصطفائي Sélectifللكفاءة والاخلاق المؤسسين لانتساب الفرد لكيان الجماعة ويختلف عن الثاني الذي هوانتخاب اختياري Electifللكفاءة والأخلاق المؤسسين لانتساب الفرد لكيان دولة الجماعة. والأول شرط في الثاني ضروري غير كاف.وبينا أن الانتخابين المؤسس للانتساب لكيان الأمة والمؤسس لدولتها-وهما يشملان جميعأفرادها-يحتاجان إلى من سميناهم القوابل السقراطية المغنية عن الوساطة في الأول بينالمؤمن وربه أو بين المؤمن وحرية الإرادة وحقيقة العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود لأن سقراط يذكر ولا يفرض.والمستوى الأول من كلا الانتخابين يعود إلى القوابل السقراطية لأنها يجري في مؤسساتمختصة في التكوين والاصطفاء انطلاقا من القدرات الفطرية التي ميزنا فيها خمسة يتميزالفرد بغلبة إحداها عليه وبميله إليها دون أن يكون خاليا من الأربعة الباقية :الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود.أبو يعربالمرزوقي 71 الأسماء والبيان
لكن المستوى الثاني منهما الحكم فيه ليس القوابل السقراطية بل الجماعة ككل .ففيالانتخاب الأول الاحتكام عملي وهو يقع في مواقع العمل من تقسيمه الاجتماعي حيث يكونمعيار التقييم هو الكفاءة والأخلاق إذا كان تقييما أمينا وعادلا وعلاقته بالمستوى الأول منهما كعلاقة الممارسة بالنظرية.كلنا نعمل أن الانتخاب الاول مقدم عند أفلاطون وقد خصص له ثلثي الكتاب حول مفهومالعدل وتكوين الإنسان لتكون الجماعة عادلة وخصص الثلث الاخير للانتخاب الثاني وعللفساد الجماعات وانظمة الحكم بمقتضى علم النفس الجماعي والاقتصادي منه على وجه الخصوص وأثرهما في الحكام والمحكومين.ونعلم أن أرسطو قد عكس الترتيب فجعل تكوينية الجماعات والدول عضوية اقتصاديةقبل أن تكون معرفية رغم أنه ضمن كتابه في السياسة مسألة التربية واعتبرها مثلأفلاطون مسألة جذرية دون أن يتطرف لإشكالية الانتخاب بالمعنى الذي ندرسه هنا والذي لم يغب عن بال أفلاطون قديما وابن خلدون وسيطا.وينبغي ألا نغتر بالمقابلة بين افلاطون في الانتخابين ونظرية المجتمع المفتوح لكارل بوبربدعوى الإطلاق الأفلاطوني والنسبة البوبرية ولا نظرية المجتمع المفتوح عند بارجسونعلى أساس الحياة الخلاقة أو التطور اللامحدود بما يشبه التاريخ الطبيعي .فأفلاطون لم يدع الجمود في الطبيعة والتاريخ.كل ما في الأمر أنه يعتبر التطور في الطبيعة والتاريخ لا يتنافى مع الثبات في المثل أو فيالقوانين .فالتطور البايولوجي مثلا لا يلغي قوانين الوراثة مثلا .والتطور الاقتصادي لايلغي البينة المخمسة للإنتاج المادي (الفكرة والاستثمار والتمويل والعمل والاستهلاك) وهلم جرا من علاقة التغير والثبات.ورغم أني لست أفلاطوني النزعة فإن رأيه يبدو لي أقرب إلى الصواب من رأي بوبرورأي برقسن .فالقول بالتطور مشروط بثبات البنى القانونية وتطور المواد التي تخضعلتلك القوانين .وهدفي ليس الكلام في المضامين بل في القوانين التي تحكم كونها تتجلي ذلك النوع من التجلي في الوجود الفعلي بمقتضاها.أبو يعربالمرزوقي 72 الأسماء والبيان
فلننظر الآن في ثوابت التكوين والانتخاب فيه بمستوييه .كل جماعة تكون ناشئتها علىما تراه ضروريا لمستقبلها .فكيف يتم ذلك ولماذا لا يمكن حصوله من دون المستوى الأولمن عملية الانتخاب خلال التحصيل استعداد للمستوى الثاني الذي هو الحاسم خلال استعمال الكفاءة والأخلاق المحصلتين فيه.وحتى يحصل الغرضان من مستويي الانتخاب الأول الذي لضم الناشئة في عمل الجماعة وفي مستقبلها لا بد أن يكون المشرفون على التكوين الأطراف الخمسة: .1منتجة الناشئة (الاسرة) .2ومستعملتها (الأعمال) .3والمتعلم (التلميذ) .4والمعلم (القابلة السقراطية) .5سلطة الدولة الشرعية التي توحدهمومثلما أن أطراف العملية التربوية النظامية مخمسة الأطراف فإن مراحل التعليم مخمسة كذلك: .1ما قبل الابتدائي .2الابتدائي .3الثانوي .4الجامعي .5ما بعد الجامعي أو التكوين المستمر (وهو ضرورة للمستوى الثاني من الانتخاب ولحركية تقسيم العمل والكفاءات في ما يجد فيه من جديد).وفي كل تكوين لا بد من أهداف مناسبة لهذه المراحل ومناسبة لنمو المتعلم نفسه من حيثكائن عضوي وروحي .ولا يقع ذلك في مؤسسات التعليم النظامي وحدها بل في المؤسساتالرئيسية التي لا يخلو منها مجتمع إنساني والتي هي أركان الوجود الجمعي الكونية في كل الحضارات. فلا بد من:أبو يعربالمرزوقي 73 الأسماء والبيان
.1المؤسسة الأسرية .2المؤسسة المدرسية .3المؤسسة المعبدية .4المؤسسة الإنتاجية للتموين (المادي أو الاقتصاد والروحي أو الثقافة) .5الجماعة التي لها مثل جانوس وجهان داخلي هو الأمة وخارجي هو الإنسانية لأن كل أمة محوطة بها ولها التفاتان داخلي لذاتها وخارجي لمن حولها.ومن حولها لها معنيان مكاني ممن يساوقها في الزمان وزماني لمن توالى فيها أو في منتقدم عليها وكان ذا صلة بها لأن الحضارات تتخاصب بين المتعاصرين وبين المتوالين فيالزمان .فحضارة الإسلام مثلا ليست ما نتج منذ مجيء الإسلام بل هي استوعبت وأسلمت كل الكوني من حضارات الشعوب التي اسلمت.من ذلك أننا ندين بالفلسفة وعلومها إلى اليونان ومن تأونن من الشعوب التي دخلتإلى الإسلام ليس بوصفه دينا فحسب بل وكذلك بوصفه حضارة لأن الكثير ممن أسهم فياستيعاب الفلسفة اليونانية في حضارة الإسلام لم يكونوا مسلمين بل كانوا من العرب وغيرهم الذين استوعبوا التراث اليوناني.أما أهداف التكوين الذي يجري خلاله الانتخاب فلتنمية القدرات الطبيعية التي للفردوالتي أولى وظائف التكوين اكتشاف المميز للأفراد بعضهم عن بعض فيها والتي أرجعناهاإلى الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود فإنها للعناية بها وتهذيبها وتحقيق معياري الكفاءة والأخلاق فيها أفضل ما يكون. ثم انطلاقا من هذه الارضية تكون الاهداف كالتالي: .1جعل الطفل يصبح \"إنسانا\" بالتحكم في بدنه وشروط التواصل (اللغة خاصة) .2تعلم العلوم المساعدة أو علوم الآلة قبل العلوم الغائية .كممارسة أولا :علوم الألةللعلاقة العمودية وعلوم الطبيعة (الرياضيات والمنطق) والأفقية (التاريخيات واللسان) وبعد ذلك بوصفه تحصيلا لملكةأبو يعربالمرزوقي 74 الأسماء والبيان
.3تعلمها بوصفها موضوع عودة نظرية على ملكة حاصلة عند النشء .وهنا يبدأالانتقال من ممارسة علوم الألة إلى جعلها مادة للمعرفة النظرية وتلك هي بداية المعرفةالنظرية والمطبقة في علوم الطبيعة وفي علوم الإنسان .لا بد من شرح القصد بالممارسة التي تحقق الملكة. ثم تأتي مرحلة التجريد: .4تصبح علوم الألة المطبقة في علوم الطبيعة وعلوم الإنسان مطلوبة لذاتها وموضوع النظر الاساسي والمجرد وهي أسمى مراحل التكوين. .5والمرحلة الأخيرة هي مرحلة الشروع الفعي في البحث العلمي لإبداع الجديد وليس البحث العلمي لتعلم الحاصل من أدبيات هذه الفنون.وأعود الآن إلى ما سميته التعلم بالممارسة .وهو أول المراحل في كل تعلم :وليكن مثالنامتعلقا بالعلوم الأداتية أو المساعدة وهي الاربعة التي ذكرتها :الرياضيات والمنطق أدواتعلوم الطبيعة خاصة وكل علم عامة والتاريخيات واللغة أدوات للتواصل عامة وفي علوم الإنسان خاصة .فكيف بالممارسة؟فالرياضيات والمنطق تتعلم بأول موضوعاتها بنوعيهما :الرسم والموسيقى يحققان غايتين:السيطرة على المكان وعلى الحركة فيه والسيطرة على الزمان وعلى الحركة فيه .وبهمايتعلم الطفل مبادي الهندسة دون تنظير ومبادئ العدد دون تنظير وبتحكم في يده والكتابة وفي لسانه والنطق.وهذه الأمور الأربعة فسدت تماما في أجيال الامة حتى صار الشباب فاسد النطق وفاسدالخط وعاجز على الرسم والموسيقى ومن ثم فلن يفهم لاحقا معاني البنى المجردة التي هيأداة الأدوات كلها في كل علم .وما قلناه عن الرياضيات والمنطق يقال مثله عن التاريخيات واللغة .وهما مادة الأدب الأسمى.وبهذا التدرج يصبح النشء قادرا على تعلم كل الفنون التقنية والفنون الجمالية بكلتفرعاتها لإنتاج \"الغذاء\" المادي و\"الغذاء\" الروحي للتموين الذاتي في التكوين وفي تقسيمأبو يعربالمرزوقي 75 الأسماء والبيان
العمل في الجماعة .فتكون الجماعة بذلك راعية لنفسها بدءا بسد حاجات المنظومة التربوية وحاجات الجماعة ككل.أبو يعربالمرزوقي 76 الأسماء والبيان
وما ليس منه بد في التربية والانتخاب الاول بمستوييه هو التربية البدنية والتربيةالغذائية والجنسية فالأولى والثانية شبه مفقودة في تقاليدنا التربوية وهي من أساسياتتكوين الإنسان السليم بدنيا والثالثة منها ما يعد من التربية الفقهية لكنها مهملة .وثلاثتها من مقومات الحياة السوية الضرورية.وبعد تكوين الإنسان بما ذكرنا يأتي تكوين الإنسان المختص في عمل من أعمال تقسيمالعمل في الجماعة ثم الإنسان المواطن ثم الإنسان المتمكن من التراث الإنساني من حضارتهمدخلا للكونية وأخيرا اعداده لئلا يعيش على هذا ما وجدنا عليه آباءنا بمعنى الفكر النقدي والقدرة على الإبداع في مجاله.وهذه العناصر ليست متوالية بل هي متساوقة بمعنى أنها تكون بالمعية في كامل مراحلالتكوين وتصبح عادة في كل الحياة وكلها تتعلم في المؤسسات التعليمية خاصة بشرط أنتكون هذه المؤسسات التعليمية ذاتية التسيير وديموقراطيته فيكون المتعلم في نفس الوقت مشاركا في حياة المؤسسة وعاملا فيها.وكل الأنشطة التي ذكرت تجري في المؤسسة التعليمية ذات التسيير الذاتي بمعنى أنالجميع يقوم بدوره فيها لتكون مكتفية بذاتها وكأنها \"دويلة\" كجماعة تقوم بكل الخدماتالضرورية للعناية بها وكسلطة على ذاتها تنظم اعمالها بمن تختارهم الجماعة لنيابة البقية في التسيير بالتداول الديموقراطي.فلا تكون مؤسسات التربية وكأنها خارج الحياة بحيث يكون المتخرج غير حاصل على شروطالحياة الجماعية مجرد خزينة لمعلومات لم تمتحن ولو جزئيا في الامتحان الأكبر والانتخابالفعلي خلال الممارسة خارج المنظومة التعليمية بل هو إنسان وصاحب مهنة ومواطن ومطلع على تراث الإنسان ومبدع في مجاله.أبو يعربالمرزوقي 77 الأسماء والبيان
بل ينبغي أن تكون المنظومة التربوية عينة من الجماعة في كل شيء رغم كونها منظومةمنفصلة عن الحياة العامة لأنها تحاول قدر المستطاع أن تتحرر من سلبيات الحياة الحامةلأن التربية تعتمد على ما يقرب من المثال بخلافها التي يختلط فيها الغث والسمين .مثال ذلك صفاء اللغة والانضباط والجدية.ثم إن المنظومة التربية ينبغي أن يكون ما يسود فيها هو الاعداد والاستعداد للمستقبلأكثر من المساوقة لما هو موجود بمعنى أن الأفكار الجديدة في كل المجالات تجرب فيها بحيثإن دورها هو اكتشاف الثغرات في الحاضر والماضي والاستعداد لسدها في المستقبل .وإذن فتصورها يقتضي استراتيجية لهندسته.ولذلك فالمنظومة التربوية مكلفة جدا وهي اساس كل تنمية مادية وروحية ولا يمكن تصورالبحث العلمي من دونها لأنها شرط ما يحتاجه الاقتصاد والثقافة من إبداع يجرب فيالمنظومة التربوية .ولذلك فهي ليست خاصة بالنظريات والعلوم الاساسية بل هي تجمع بينها وبين التطبيقات والاختراعات الريادية.وما إلحاحي على هذه المسألة بالذات إلا لأن المنظومة التربوية الاسلامية قد كانت أفشل منظومة عرفها تاريخ الحضارات المحيطة بالأبيض المتوسط بدليل علامتين: .1الأولى هي ما حاولت بيانه من عكس أمر فصلت 53ونهي آل عمران 7علتي العقم في علاج العلاقتين العمودية والأفقية. ثم: .2والثانية هي الأبرز كان كل فلاسفة الإسلام دون استثناء عصاميين أي انهم تعلمواالفلسفة والقدر الزهيد من العلوم فيها خارج المنظومة التربوية التي كانت لا تتجاوز \"علومالدين\" لكأن \"علوم الدنيا\" ليست في خدمة الحياة عامة والحياة الروحية خاصة .ولا يزال أسم العلماء خاصا بهم.والأخطر من ذلك كله هو أن المنظومة التربوية العربية الحالية لا تختلف كثيرا عنها لأنهاتكوين لفظي لا يتجاوز حفظ أدنى الموجود .فمؤسساتها خالية من التجهيز العلمي الذيأبو يعربالمرزوقي 78 الأسماء والبيان
يمكن من تجاوز الإعلام بالموجود دون قدرة على إعادة اكتشافه (وهو معنى التعلم الذي يعد للإبداع) والمبادرات الابداعية.والتعليل الاقتصادي مهم لكنه ليس كافيا .فصحيح أن ميزانيات المنظومات التربويةالعربية لا تكفي لعلم مواكب للتطور العلمي ولشروط الإبداع الذي يتأسس على كونقاطرته هي دائما العلوم الأساسية وتطبيقاتها في الاقتصاد والحروب مثل عزو الفضاء وانتاج الأسلحة والهندسات الإنتاجية في الزراعة.لكن العلة الأعمق هي تصور المعرفة محفوظات .لذلك فأنت عند التمحيص لا تجد فرقابين شروح ابن رشد لكتب ارسطو وشروحه للنصوص الفقهية .هو فقيه فيهما .لا يذكرتاريخ العلم نظرية واحدة ذات مصداقية يمكن نسبتها إليه .هو شارح لنص أرسطو معتبرا إياه وكأنه \"قرآن\" وهو أمر مناف للفكر الفلسفي بإطلاق.ونفس هذه العقلية تجدها عند الحداثيين العرب كلهم :لا يعتبرون النظريات التييتبجحون بها فرضيات علمية قابلة للمراجعة وتلك هي حياة العلم بل هي تصبح عندهمدوغمات يتعاملون معها مثل \"الشيوخ\" مع ما يسمونه المعلوم من الدين بالضرورة .كلهم شيوخ العلم عندهم محفوظات تعرض وليس أفعالا تبدع.فعمر الجامعات العربية نيف على القرن ومع ذلك لم نسمع بجامعة عربية واحدة أبدعتنظرية أو صنعت آلة يعتد بها في سد حاجات البشر .فحتى الطب الذي هو أهم شيء فيحياة البشر ما يزال أغنياء العرب وحكامهم ومافياتهم يتعالجون في الخارج ما يعني أن كليات الطب في بلادنا غير كفءة وعقيمة.ولو جمعوا كل ما ينفقونه في علاجهم بالخارج وجهزوا على الأقل كلية واحدة في كل بلدعربي تختص في بعض مجالات الطب لكان ذلك ربما يحقق شيئا يعتد به في مستوى الكفاءةالعلاجية وفي مستوى الإبداع الطبي .لكن القطاع مهمل وهو لا يتعدى مستوى المستشفيات الاستعجالية في حوادث الطرقات.وإذا كان لتونس والأردن بعض التقدم في المجال الصحي والطبابة والاستشفاء فلعلالتفسير هو قرب العهد بالتعامل مع المؤسسات الغربية (فرنسا وانجلترا) وهو أمر بدأأبو يعربالمرزوقي 79 الأسماء والبيان
يتضاءل منذ أن طغى الطابع التجاري على المصحات ولم يبق للبحث العلمي في الكليات الطبية الدور الضروري لتواصل التقاليد الطبية.وختما لهذا الوصف التشاؤمي لحال البحث العلمي في المنظومة التربوية سأكتفي بمثالينمن مجال اختصاصي :نوعان من أعراض هذا المرض .النوع الاول يمثله الماركسيونالعرب .ليسوا إلا ببغاوات متلعثمة وعيية في النطق والفكر .وهم مراهقو السياسة العربية .ثم اللاهثون وراء الموضة المزعومة فلسفية.والمثال الأول لا يحتاج إلى شرح .لكن الثاني لا بد من بيان خطره على الفكر عامة والفكرالفلسفي خاصة .فالتعلق بما يسمى ما بعد الحداثة يحول الفلسفة إلى قضية التنافسالبلاغي الذي لا يتجاوز الثرثرة حول الآراء المتعامقة وهو عندي من جنس الشعر الحديث الذي يخفي الجهل بفنيات الشعر عامة.وكذلك الأمر في الفكر الفلسفي .فمن يجهل الشروط الأولى المتعلقة بالعلوم المساعدة -أو علوم الآلة -الفلسفية وأخلاق الفلسفة حبا للحكمة وتقيدا بطلب الحقيقة بصدق لئلايقع في بريق الموضة لا يمكن أن يضيف شيئا للفكر عامة وللفكر الفلسفي خاصة .ليس كل مهذار هلدرلين وليس كل ثرثار نيتشة.ادعاء التعامق في طلب الحقيقة تحامق .وادعاء المزمارية في العبارة عنها تزميرية.هلدرلين فيلسوف ربي على صرامة المدرسة المثالية لصاحبيه (شلنج وهيجل) ونيتشهفيلولوجي من الدرجة الأولى وربي على صرامة نقاد المدرسة المثالية الألمانية وبالذات الناقدة لصاحبي هلدرلين كما هو معلوم.وهذه الشروط منعدمة في جامعاتنا ولا يمكن تعلمها بقراءة نصا أو نصين أو حتى جلالنصوص المتعلقة بها .فشتان بين الحكامة والعيش الفعلي لما تحكيه .وإذا كانت الفلسفةمن حيث آليات فكرها ومناهجها وخصائص علاجها كونية فإنها من حيث ظرف تكونها وتطورها بنت حضارتها وعرضيات وجودها التاريخية.وفي هذا المجال يمكن القول إن التركيب Greffeيولد رفض التقاليد الحضارية الحواملبالمنظور المميز كما في الظاهرات العضوية التي ترفض ما يقحم فيها من أعضاء من كائنأبو يعربالمرزوقي 80 الأسماء والبيان
آخر .لكن آليات المنطق والرياضيات وكل العلوم التي هي أدواف في العلاج الفلسفي هو الكوني المتحرر من الفروق بين الحضارات.لذلك فأنت لما تقرأ نص من التقاليد الفلسفية الألمانية أو البريطانية أو الأمريكية تلحظالفرق بين التقاليد من حيث المنظور الذي له طابع خاص بحضارة كل واحد منهما لكن آلياتالفكر التي بمقتضاها يسمى فلسفيا واحدة حتى وإن غلبت أحيانا صيغها المختلفة من حيث تغليب التحليل أو التأويل.والخلاف مع اللاهثين وراء الموضة يتعلق بالخلط بين المستويين .فيمكن أن تحاكي المنظوركما هي عادة المستوردين لكن إذا غابت المقومات التي تشترك فيها المناظير المختلفة في اسمالفلسفة فالأمر لا يجعلك فيلسوفا بل ببغاء .الفرق بين السيارتين البيانية والالمانية لا يغير وحدة قوانين الميكانيكا.محاكاة الاسلوبين لن يصنع سيارة .لا بد من علم الميكانيكا لتصنع سيارة يمكن أن تضفيعليها أسلوبا عربيا مثلا .قوانين الميكانيكا كلية وكونية وأساليب المصنوعات بمقتضاهامتغيرة بحسب المناظير التقليدية لكل حضارة .وما لم نميز بين الامرين فنحن لا نعلم ما نفعل بل نكفي بالمحاكاة القردية.أظن أني وفيت مسألة الانتخاب التربوي بمستوييه تكوينا للكفاءات واستعمالا مركزا علىالعيوب والنقائص التي لا بد من تداركها شرطا في الاستئناف لأن علم السياسة عندي ذووجهين :نقدي لبيان العيوب التي تهدد كيان الجماعات ودولها وموجب هو هندسة الجماعات والدول وعلاج عيوبها ونقائصها.أبو يعربالمرزوقي 81 الأسماء والبيان
نبدأ الكلام في النوع الثاني من الانتخاب بكلمة في المستوى الثاني من الانتخاب الأولوتعريف طبيعة دور الانتخابين بمستوييهما .فالأول يتعلق بما يجعل الإنسان عنصرا مقوماللجماعة بوصفها كيان يحقق شروط بقائه بعمله على علم .والثاني بما يجعله جزءا مقوما لتمثيل إرادتها سلطانها على نفسها.ويمكن إذن أن نقول بإيجاز إن الانتخاب الأول بمستوييه يتعلق بشروط الوجود والثانيبمستوييه يتعلق بشروط السهر على شروط الرعاية والحماية أو الانتظام الذاتي للجماعةأو بكون الجماعة تنتقل من كونها كيانا وجوديا يحقق شروط بقائه إلى كونها كيانا سياسيا يسهر على نظام رعاية ذاته وحمايتها.فيكون الانتخاب الثاني بمستوييه متعلقا بوعي الجماعة بذاتها وعيا يؤهلها لأن تكون ذاتإرادة وعلم وقدرة وحياة ووجودا كلها عائدة على ذاتها تسديدا وتوجيها بسلطانها علىذاتها .تلك هي السياسة وهي في نسبة وعي الفرد بذاته بنفس هذه الابعاد وصاحبة سلطان على ذاتها :المعنى الدقيق لموضوع الاخلاق.ومن ثم فالانتخاب الثاني بمستوييه لا يمكن تصوره من دون المرور بالانتخاب الأولوخاصة بمستواه الثاني .ولذلك فكل من يتعاطى السياسة من دون أن يكون قد حصل فيالمستوى الأول من الانتخاب الاول ما يؤهله للنجاح في المستوى الثاني منه الذي يثبت أهليته بنتائجه سلامة تكوينه الفني والخلقي.ومن المفروض أن يكون النجاح في الانتخاب الأول بمستوييه شرطا للترشح والتنافس علىالانتساب للانتخاب الثاني بمستوييه .لكن ما يجري في بلاد العرب خاصة وبلاد الإسلامعامة كلا الانتخابين بمستوييهما مغشوش .فلا نظام التكوين صالح ولا نظام الانتخاب في مستواه الاول عادل ناهيك عن مستواه الثاني.فالانتخاب الأول بمستوييه مبني على الوساطة والجاه .والانتخاب الثاني بمستوييه مبنيعلى أحد امرين :إما على طبيعة الأنظمة العسكرية ودور الوساطة والجاه فيها أو علىأبو يعربالمرزوقي 82 الأسماء والبيان
طبيعة الأنظمة القبلية ودور الوراثة والوساطة والجاه فيها .والعسكر هو نفسه بدأ يميل إلى إضافة الوراثة للوساطة والجاه.ومع ذلك فلا يمكن تصور أي جماعة من دون الانتخابين بمستويي كل منهما .الفرق ليسبالوجود والعدم بل بقيمتي الكفاءة والأخلاق معيارين للمنتخب وبقيمتي الأمانة والعدلمعيارين لمن يقوم بالانتخاب .وبدون هذه الشروط الأربعة تصبح السياسة مناقضة لما ينبغي أن تكون عليه :فبدل التعمير يحل التدمير.والجميع مرشح للانتخاب في المستوى الأول من الانتخاب الأول أي إن الجميع ينبغي أنيخضع للتكوين التربوي وينتخب على اساس التحصيل فيه ومثله في المستوى الثاني .لكنمن يقوم بالانتخاب في المستوى الاول هم من سميناهم بالقوابل السقراطية (سواء كانوا كذلك حقا أو وهما :وهم المكونون والمربون).أما من يقوم بالانتخاب في المستوى الثاني من الانتخاب الاول فهم الجماعة كلها وبالتدقيقأهل المهن والحرف والوظائف والخدمات في الجماعة الذين لهم مسؤولية هذه الاعمالوتقييم نتائج من ينتدب لها في تقسيم العمل في الجماعة .وهذا هو الحكم المطلق سواء كان سويا فنيا وعادلا خلقيا أو لم يكن.ومعنى ذلك أن كل الجماعات دون استثناء تمثل غربال مضاعف سواء كان سويا تقنياوعادلا خلقيا أو لم يكن وبالغربلتين في النوع الأول من الانتخاب بمستوييه تتحدد الصفاتالعامة للجماعة والمنحنى التطوري لكينونتها صعودا في سلم التعمير ومضاعفة القوة أو نزولا في سلم التدمير ومضاعفة الضعف.ولهذه العلة سميت الانتخاب الأول بمستوييه متعلقا بالشروط الوجودية :فالوجود قوةمتنامية للتعمير والعدم قوة متضائلة للتدمير .وكل جماعة تحيا بالأول وتموت بالثاني.ومعنى ذلك أن المجتمعات التي لا يكون فيها الانتخاب الأول بمستوييه أمينا وعادلا مجتمعات انتحارية بوعي أو بغير وعي.ولهذه العلة فما يحدث في الانتخاب الأول بمستوييه رغم أنه وجودي يصبح في المجتمعاتالبشرية بخلاف المنطق المنتظر خاضعا لتأثير الانتخاب الثاني بمستوييه :من هنا اعتبر ابنأبو يعربالمرزوقي 83 الأسماء والبيان
خلدون فساد معاني الإنسانية ناتجا عن بعدي السياسة أي نظام التربية ونظام الحكم المفسدين لقيم الانتخاب الأول.السلطة السياسية ببعديها (سلطة التربية وسلطة الحكم) هي التي تغير المعايير .فلا يبقىمعيار الكفاءة الفنية ومعيار السلامة الخلقية المحددين للانتخاب بل يصبح معيار الوساطةوالجاه هو الأساس في الانتخاب .وبالتدريج يتراكم انعدام الكفاء وسقم الخلق في كيان الجماعة ودولتها :التدمير الذاتي.وقد سبق فشرحت \"عبارة الشخص المناسب في المكان المناسب\" وأضفت المضمر فيها بمعنى: .1من؟ .2ينتخب الشخص المناسب؟ .3لماذا؟ .4وفي ماذا؟ .5وما أهداف الانتخاب ومعايير.وفي هذه الإشكالية دور بالمعنى المنطقي :المنت ِخب والمنت َخب واحد في الحقيقة أي الجماعة نفسها.ففي وضع الفاعل هي المنتخِب وفي وضع المفعول به هي المنت َخب وخاصة في المستوي الثانيمن نوعي الانتخاب أعين أنها هي التي تقيم نتائج المستوى الأول من نوعي الانتخاب .فهيتقيم حصيلة التربية وتقيم حصيلة الحكم .فتكون هي الجانية على نفسها إذا قبلت بتغيير المعايير من صالحها إلى طالحها.وبعبارة وجيزة فكل الجماعات مبنية على الانتخاب حتى لو كانت فاشية أي أن ما يميزجماعة عن جماعة ليس وجود الانتخاب وعدمه بل نوعه وخصائصه التي تحددها معاييره.فإذا كان الانتخاب خاضعا لما بينا من القيم الموجبة كان معمرا وإلا فهو مدمر .الفرق بين الجماعات انتخابيا هو بين المعمر والمدمر.والانتخاب الثاني بمستوييه يأتي إذن في العلاج السوي للتعمير بين النخب بأنواعهاالخمسة بعد أن تكون قد برهنت بالمستوى الثاني من الانتخاب الاول نجاحا يؤهلها لأن تكونأبو يعربالمرزوقي 84 الأسماء والبيان
من المترشحين للانتخاب الثاني مستواه الاول ومن بين هؤلاء يقع المستوى الثاني من الانتخاب الثاني .لكن عندنا هو العكس.لأن من يشغل خانات \"مكنة\" الدولة التي هي ذات الجماعة العائدة على نفسها لتنظيمشروط بقائها رعاية وحماية لا يأتيها بالاعتماد على الانتخاب السوي بنوعيه الأولبمستوييه والثاني بمستوييه .عندنا نوعان من الانتخاب غير السوي :الوراثة في الأنظمة القبلية والغلبة في الانظمة العسكرية.لكن الأدهى من ذلك كله هو أن هذين النوعين من الانتخاب رغم طابعه الهدام لا يجريبمقتضى دينامية القوى الداخلية الذاتية للجماعة بل هو بدوره خاضع لسلطان خارجييفرض من ينتخبه بمقتضى ما يعتبره خادما لمصالحه فلا القبائل ولا العساكر تختار بذاتها بل الحامي يختار بدلا منها من يخدمه أكثر.ولا يمكن أن يكون من يخدمه أكثر حريصا على مصالح شعبه لأن هدف المستعمر هواستعماله لتحقيق مصالحه على حساب مصالح الشعوب .فيكون الانتخاب أكثر تهديما مما لوكان ناتجا عن دينامية القوى الداخلية حتى لو كان بالقيم المقلوبة .هو إذن انتخاب قيمه مقلوبة مرتين خلقيا وسياسيا.فيكون الانتخاب الثاني بمستوييه فاسدا ومفسدا باستراتيجية نسقية وليس بالصدفة لأنالمتحكم فيه يستعمله من أ جل منع الاستئناف بكل الوسائل والخطة هي \"ضرب الراسلتنشف العروق\" كمن يفسد الجهاز العصبي للجماعة (الدولة هي الجهاز العصبي) حتى تصبح فاقدة للمقومات الخمسة.وذلك على النحو التالي :يفسد انتخاب نخبة الإرادة (الساسة) المشرفة على الانتخاب فيالمقومات الأربعة الباقية فتفسد نخبة العلم (الباحثون) ونخبة القدرة (الانتاج الماديوالثقافي) ونخبة الحياة (الفنانون) ونخبة الوجود (نخبة المرجعيات الدينية والفلسفية) لتصبح الجماعة مطلقة التبعيةوالتبعية المطلقة روحية بالأساس :تصبح النخب النافذة والمسيطرة على القرار دورهاالاول والاخير هو التشكيك في الذات ورؤاها الوجودية دينية كانت أو حتى غير دينيةأبو يعربالمرزوقي 85 الأسماء والبيان
وجعل الحامي هو المثال الأعلى في كل شيء فتموت في الحضارة المستقلة كل ينابيع القيام الذاتي الحر في المقومات الخمسة.وقد جمع ابن خلدون ذلك كله في قانون سماه \"تقليد المغلوب للغالب\" في كل شيء ومن ثمقتل كل ما يميزه عنه لكأن دوره يتحول إلى الانتحار التدريجي لبعث الآخر فيه بديلا منه.ولعل عقدة التأصيلي أكبر من عقدة التحديثي :فهذا يريد طي الصفحة وأخذ تراث الغير وذاك يبحث عن تراث الغير في تراثه.بمعنى أن التحديثي يطوي صفحة حضارته بوصفها ماضيا درس والتأصيلي يجعل الماضينفسه خاضعا للغير بوصفه مثالا فلا يبقى ذا قيمة عنده في ماضيه إلى ما يظنه سبقا فيهعلى الغرب الذي صار مثالا يقيم به كل شيء في ماضينا لأن البحث عنه فيه يعني كل ما ليس مثله لا قيمة له عند هذا الباحث.وإذن فكلاهما ينطبق عليه قانون ابن خلدون .والتأصيلي أخطر من التحديثي لأن هذايعتبر الماضي مغايرا لكنه يظنه قد مات فيقلب الصفحة ويتبنى صراحة تراث من صار عندهالمثال الأعلى .لكن التأصيلي يدعي رفض ذلك فيفعل أكثر منه لأنه يجعل الماضي نفسه مغتربا لأن يقيمه بما يتصوره مماثلا لحاضر الغير.أبو يعربالمرزوقي 86 الأسماء والبيان
ولأختم القسم الثاني من المحاولة بالتأويل الفلسفي لما قدمناه في تعريف علم السياسةليس بوصفه أداة تحليل للأحداث السياسية فحسب بل بوصفه هندسة بناء الامم والدولومعرفة قوانين تطورها الموجب والسالب بوصفها كائنات حية ذات وجود مضاعف :كيان حي عائد على نفسه وينظم وظائفه بوعي استراتيجي.ولهذا الكيان بمستويي وجوده ككيان حي وكوعي عائد على الكيان لينظم عمله على علمما يشيه وجها جانوس :فهو مثل الفرد له التفاتان لذاته ولما يحيط بيها بالتساوق في المكانوبالتوالي في الزمان ما يعني أن كل جماعة مهما كان صغيرة وجودها ليس مقصورا عليها بل هو يشمل الإنسانية والعالم كلهما.ومشكل المشاكل في الداخل والخارج هو عسر التمييز بين الكلي والجزئي أو بين الكونيوالخصوصي .ففي الجماعة غالبا ما يخلط ذلك مع التمييز بين إرادة الاقوى وإرادةالأضعف في داخلها وفي خارجها أو في علاقة الأفراد داخل الجماعة وفي علاقة الجماعة داخل المعمورة :فيضيع الفرق بين القيم ونقائضها.ففي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود يصبح ما يريده الأقوى ويعلمه ويقدر عليهويحياه ويوجده هو الكلي والكوني والجزيء هو ما يريده الضعيف ويعلمه ويقدر عليهويحياه ويوجده .وعندئذ نجد أنفسنا أمام قانون الطبيعة (علاقة القوى بعضها بالبعض) وقانون الشريعة (علاقة القيم بعضها بالبعض).ففي موقف التأصيلي والتحديثي من علاقة التراث الذاتي بتراث الغالب الفائدة الضمنيةالتي تستنتج من الموقفين هي حكم خفي بأن الكلي والكوني هو صفات تراث الغالب والجزئيوالخاص تثله صفات تراث المغلوب .فيكون كلاهما قد تخلى نهائيا عن تراث الذات إذ التأصيلي يحتكم إلى تراث الغير في طلب السبق.ويكون كل ما يدعيه سبقا لتراثه بمعيار تراث الغير هو في الحقيقة لتبرير تبنيه تراثالغير وليس سبقا حقيقا وهو نوع من خداع النفس .وبدلا من المنازعة في أيهما اولى بأنأبو يعربالمرزوقي 87 الأسماء والبيان
يعتبر ممثلا للكلي والكوني يسلم بأنهما حتى في تراثه يقاسان كسابق عند الذات بما هو لاحق عند الغير .والعلة غياب الإنساني.والإنساني الكلي قد لا يكون حاصلا عند أي من الفريقين :فلا نحن نمثل الكلي ولا غيرنابل الكلي مثال أعلى كلانا يسعى إليه فيكون المطلوب معرفة من منا سعيه ذو توجه صحيحنحو الكلي والكوني القيمي المناسب لرؤية تنطلق من مفهوم الإنسان وما يناسب تحقق مقوماته الخمسة.وتلك هي علة وضعي لنظرية المقومات أساسا لتصنيف النخب والقيم وهي مستعارة مننظرية الذات والصفات الذاتية في علم الكلام الإسلامي التي هي اسقاط معكوس :فالمقوماتهي صفات إنسانية نسبية والكلام ظنها صفات إلهية مطلقة بمنطق قياس الغائب على الشاهد .لكني عكستها بالصورة التالية.ولم يكن ذلك إلا تعميما لنظرية ديكارت أو دليله على وجود الله :فهو يقول إني أدركأني أعلم وأن علمي نسبي .والنسبي متضايف مع المطلق وإذن فإدراكي لأحد المتضافينيقتضي إدراك الثاني .ولما كان النسبي لا يعلل المطلق فإن المطلق الذي أدرك غيابه في هو علة النسبي في :أنا النسبي والله المطلق.وهو استدلال لا يقيس الغائب على الشاهد بل بالعكس ينفي ذلك لإن الإطلاق متضايفمع النسبي دون أن يكون المضمون في المتضايفين من طبيعة واحدة لأن صفات الله ليس منالغائب بل هي من الغيب والغيب ليس غائبا بمعنى عدم الحضور المؤقت بل هو دائم الحضور ومطلق اللامعلومية المضمونية.أعلم أني مريد وعالم وقادر وحي وموجود وأن ذلك كله في ليس مطلقا ولا متناهيا بلنسبي ومتناهي وأعلم أن علم ذلك متضايف له صفات ليست نسبية وليست متناهية بل هيمطلقة .لكن ما مضمون هذا المطلق ذلك ما لا اعلمه .أومن به ولا أعلمه كما أومن بوجود الحقيقة المطلقة ولا أعلمها.وكل حقيقة ذات وجود قائم بذاته أعلم وجودها دون إحاطة مهما عمقت علمي لانوجودها من حيث هو وجود لامتناهي الفرق بينه من حيث هو قائم بذاته خارج ذهني وبينأبو يعربالمرزوقي 88 الأسماء والبيان
تصوري له في ذهني .تصوراتي مهما تعمقت وتتدققت تبقى دائما رؤية خارجية بالقياس إلى ذات الشيء في الاعيان .وما فيها لا يرد لما في الأذهان.والخلاف بين كنط وهيجل مداره نفي الرد عند الاول والقول به عند الثاني .وكلاهماعلى خطأ .فنفي الرد لا يعني أن المعلوم مجرد ظواهر الشيء بل هو ما يقبل العلم منالوجود والرد مشروط بقول ضمني يعتبر ما لا يرد من الوجود هو الظاهر أو العرضي فينفي تعالي الوجود عن العقل والعلم.فلكأن هيجل يقول إن ما نعلمه من الوجود هو الوجود وما نتصوره غير قابل للعلم منه هومن أوهامنا وهو ما يفهم من المفهوم الكنطي الحد -الشيء في ذاته-ونفي هذا التعالي المميزبين الوجود والعقل عند هيجل يذهب بعيدا لأنه ينفي وجود ماهناك وراء ما هنا أو يعتبر العالم الشاهد هو العالم الوحيد.فتكون فلسفته في الحقيقة ارسطية غالية .ذلك أن أرسطو نفى المثل الافلاطونيةواعتبرها صورا محايثة وهي عند هيجل حقيقة الوجود .لكن ارسطو أبقى على مثالأفلاطوني واحد على الأقل في نظرية الربوبية (المقالة 12أو اللام من الميتافيزيقا) التي لا تحل في العالم بل خارجه محركة بالجاذبية.وكل ما عداها متحرك بالانجذابية الناقلة للصورة الموجودة بالقوة في المادة من القوة إلىالفعل .هيجل جعلها بإطلاق دافعية في المادة غنية عن محرك مفارق وهي كامنة في كلموجود وخاصة في الإنسان .والرؤية القرآنية تجمع بين الرؤيتين الارسطية والهيجلية: جاذبية الرب الواحد ودافعية كل موجود.وهما وجها مفهوم الفطرة والخلقة :فليس بالصدفة أن نسبها القرآن إلى الله الفاطروليس إلى الإنسان المفطور :فطرة الله التي فطر الناس عليها .لكن الرسالة الخاتمةاعتبرت الفطرة في الإنسان قائمة والرسول دوره إزالة النسيان الذي أغفل الإنسان عنها وهو معنى التذكير.فتكون الفطرة في الإنسان دافعة ويكفي إزالة النسيان عنها حتى تلتقي الدافعية معالجاذبية وهو معن الديني في كيان الإنسان .لكن هذه المقارنة بين الرؤية الفلسفيةأبو يعربالمرزوقي 89 الأسماء والبيان
والرؤية الدينية للعلاقة بين المحايث والمفارق هي لتقريب المعاني ولا تعني أن إحدى الرؤيتين متأثرة بالأخرى :هما الكلي بأسلوبين.ما يحصل في نسبة الكلي للغالب ليس تحقق للكلي بل نفي تعدد الأساليب وجعل جزيءالغالب وكأنه كلي ما يضيق آفاق الإنسانية فيؤول إلى الموقف الهيجلي الذي يجعل التاريخالإنساني من جنس التاريخ الطبيعي الحيواني وإن سماه صراع أرواح الشعوب كل روح غالب يلغي غيره من الأرواح.ولا دليل على أن الروح الغالب إن قبلنا بهذه الرؤية هو الأكثر كلية إلا إذا سلمنا بأنالغالب هو الافضل وهو الأسمى .ولكن في هذه الحالة يكون الأفضل والأسمى هو الأغلبوهو بنحو ما أشبه بنظرية داروين بمعنى أن يما يقوله عن الانتخاب الطبيعي قانونا للتطور العضوي يصلح قانونا للتطور الخلقي.فيكون ما نراه من قتل الانواع النباتية والحيوانية والتعدد الثقافي واللساني والتقاليدالحضارية والتنوع العرقي والديني كل ذلك بسبب سبب هذا القانون تطورا خلقيا لكأنالمعيار الخلقي يتطابق مع معيار القوة ولا يكون جديرا بالوجود إلا العنف والاقتتال بين الكائنات وهو جوهر الصراع الجدلي.ولهذه العلة اعتبرت قول الإسلاميين بما يسمونه التدافع هو بدوره من جنس ما وصفت:تبني ما يحصل عند الغالب والاكتفاء بتغيير الاسم كما يحصل في ما يسمونه البنك الإسلاميالذي لا يقل ربوية عن البنك العادي ولا يختلف عنه إلا بالأسماء وبالعائق الاقتصادي بفرض الدمج بين التمويل والاستثمار.لكن القرآن مبدؤه أن التعدد والتنوع من آيات الله وهو يشجع عليه حتى في الأديانوالشرائع والمناهج (المائدة )48بحيث إن الثراء في كل شيء والتسابق في الخيرات شرطهماالتعدد والتسامح بين المتعددات في النوع الواحد من النبات إلى الإنسان وهو يرفض النمطية وقانون الغلبة بين المخلوقات.وهو ما يعني أن الكلي القيمي يمكن أن يتعين في الجزئي الوجودي وهما لا يتطابقان .لكنالخلط بينهما يجعل الأبيض مثلا يتوهم ما يجعله يقضي بأن الاسود متخلف لسواده والمسلمأبو يعربالمرزوقي 90 الأسماء والبيان
إرهابي لإسلامه ويستنتج أنه مكلف بمهمة القضاء عليهما وفرض نمط حياته فتتضاعف العنصرية العضوية بالعنصرية الحضارية.وأساس هذه الامراض الروحية والخلقية هو اعتبار الجزئي الغالب كليا والخلط بينالوجودي والقيمي وهو ما يسماه ابن تيمية برد المنشود إلى الموجود أو اعتبار الموجود ليسممكنا حصل بل هو الواجب فينتهي الأمر إلى نفس الحرية من أصلها ويصبح الامر الواقع هو الامر الواجب دون مسافة بينهما.ولأن الشباب بجنسيه اعتمد في ثورته بيتي الشابي شعارا لثورته فقد قام بثورة روحيةوهي أسمى من مجرد الثورة السياسية أو الغضب من الظلم الاجتماعي .فهو أدرك المكبلالجوهري في حضارتنا :قبول سلطان القوة الذي هو أمر واقع أمرا واجبا بحجة قضاء الله وقدره .وهو أمر مناف تماما لرؤية القرآن.فخاصية الله القرآنية تشبه الجمع بين رؤية أرسطو ورؤية هيجل في آن :فالله واحدومطلق المفارقة دون لا مبالاة إله أرسطو بالعالم لكنه محايث ومطلق المحايثة دون مخالطةهيجل .هذه الخاصية جعلت أصحاب وحدة الوجود يقعون في خطأ المخالطة وأصحاب تعدده في اللامبالاة الخلقية.واللامبالاة الخلقية هي التي لإبرازها رد ابن تيمية على ابن عربي بأنه لا يميز بينالمنشود والموجود أوبين الأكسيولوجي والابستمولوجي فيكون الحاصل هو ما ينبغي أنيحصل ويعتبرون ذلك هو القضاء والقدر فينفون أساس كل القيم أي الحرية ولا يبقى إلى القانون الطبيعي والضرورة.وذلك ما يسميه كل المستسملين للأمر الواقع \"إكراهات سياسية\" .والاستسلام للأمر الواقعرد للأمر الواجب إلى الأمر الواقع فيكون ذلك في الحقيقة تخليا عن الحرية وما ينبني عليهامن قيم هي جوهر الإرادة التي تسعي بالعلم للحصول على القدرة الحرة فتغير الأمر الواقع بمقتضى الأمر الواجب.وهذا الفرق بين الامر الواقع أو الموجود Etreوالأمر الواجب أو المنشود Devoir êtreهوالجهد الخلقي أو الجهاد الخلقي المتمثل في الصمود أمام القوة المادية وذلك هو جوهر القوةأبو يعربالمرزوقي 91 الأسماء والبيان
الروحية التي سرها الحقيقي هو جمال الحياة وجلال الوجود .السياسة من دون هذه القيم خضوع للأمر الواقع وليست تحررا.أبو يعربالمرزوقي 92 الأسماء والبيان
أبو يعربالمرزوقي 93 الأسماء والبيان
Search