Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – أبو يعرب المرزوقي

علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-18 07:05:36

Description: علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪.2‬وتطبيق ذلك على الأوضاع العربية الحالية‪.‬‬‫وكما قال ابن خلدون في غاية المقدمة‪ :‬ليس المؤسس لمشروع علمي مطالبا ببلوغ الغاية دفعة‬‫واحدة بل هو يضع اللبنات الأولى وضعا محددا بصورة تفتح أفقا جديدا يسد ثغرة في‬‫المعرفة الإنسانية كبداية تليها محاولات تطوير قد تنسف البداية لتستأنف السعي لسد‬ ‫الثغرة بما يكون أقرب إلى الأفق الذي فتح‪.‬‬‫من المفروض ألا يكون هذا الفصل من المحاولة آخر فصولها لأن مسألة الانتخابين‬‫المضاعفين وأصل فروع الانتخاب هذه لم يعالجا العلاج الشافي إلى حد الآن‪ .‬لكن ذلك كان‬‫سيؤدي إلى الإطالة التي تتجاوز شرط الاستيعاب‪ .‬لذلك فسيأتي دورهما في محاولة مماثلة‬ ‫لهذه من حيث الحجم لاحقا‪.‬‬‫فالانتخاب الأول مضاعف وهو الأعم ويشمل فرواع الرعاية الأربعة وأصلها أو البحث‬‫والإعلام العلميين إذ إن مستواه الأول يجري في التربية النظامية والتربية الاجتماعية‬‫كفاءة وأخلاقا في ما يشبه التعلم \"النظري\" ومستوه الثاني في علاقة به كعلاقة التجربة‬ ‫بالنظر عندما ينتقل الخريج إلى الممارسة‪.‬‬‫والانتخاب الثاني يتعلق بفروع الحماية وأصلها أو الاستعلام والأعلام السياسيين‪.‬‬‫ومستواه الأول يقع في منظومات القوى السياسية (الاحزاب والقبائل وأي مؤسسات للعمل‬‫السياسي والمدني تمثيلا للجماعة) في ما يشبه الأعداد \"النظري\" لكن مستواه الثاني‬ ‫تطبيقي عندما يمارس السياسة فعلا حكما ومعارضة‪.‬‬‫وهنا أيضا تشبه العلاقة بين المستوى الاول والمستوى الثاني من الانتخاب الثاني العلاقة‬‫بين النظرية والتطبيق في المعرفة العلمية لأن المستوى الثاني يناظر التجربة التي تحاكم‬‫النظرية لبيان مدى قدرتها على التفسير وهنا هي لبيان مدى حصول الكفاءة والأخلاق‬ ‫ضامنتي النجاح في العمل على علم‪.‬‬‫تلك هي المسائل التي سنعود إليها في محاولة بحجم المحاولة التي نختمها الأن ولها صلة بها‬‫لأنها تستكمل البحث في طبيعة علم السياسية ونسبة الدولة إلى الجماعة كما حددها ابن‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫خلدون بمفهومين يبدوان أرسطيين لكنهما في الحقيقة مختلفان تماما عن دلالتهما الارسطية‪:‬‬ ‫الصورة والمادة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫القسم الثاني‬‫أجلت الكلام في الانتخابين المضاعفين في خاتمة القسم الأول من المحاولة حول علم‬‫السياسة إلى قسم ثان آمل أن يكون كافيا لوضع اللبنات الأساسية في المسألة التي لا يمكن‬‫فهم \"أمر الجماعة\" بالمعنى القرآني للكلمة في الآية ‪ 38‬من الشورى ورعايته وحمايته بدولة‬ ‫أمة سيدة مواطنوها أحرار بحق‪.‬‬‫وها أنا أشرع في اتمام العمل بعد أن كانت محاولات الكلام في الأوضاع الراهنة كافية‬‫لإبراز ما عليه وعي النخب العربية في جل أقطار الأمة من غرق في وحل المنازعات التي‬‫تعميهم عن تراتب الأوليات في سياسة الجماعات فتكاد تقضي بأن البصيرة شبه منعدمة‪:‬‬ ‫اغلبهم صاروا ذبابا بالمعنى التواصلي‪.‬‬‫ولا يمكن أن يعلل ذلك بأحوال النفس أو بالاستبداد والفساد تعليلا كافيا لأننا لا يمكن‬‫أن نفسر عمى البصيرة بهما ونفسرهما به‪ .‬ففي ذلك دور إما مباشر أو بعد تسلسل وكلاهما‬‫خطأ منطقي لا يغتفر في مثل هذه الحالات‪ .‬لذلك بات من الواجب تعميق البحث في نوعي‬ ‫الانتخاب المضاعفين‪.‬‬ ‫وكلمة الانتخاب تقابل معنيين‪:‬‬‫‪ .1‬الانتخاب السياسي ‪ Election‬كما في صندوق الانتخاب أي اختيار من يمثل الامة‬ ‫لفرض كفاية في إدارة أمرها وما يتلوه خلال ممارسة النيابة‪.‬‬‫‪ .2‬الانتخاب التربوي ‪ Sélection‬لفرض عين كما في الامتحانات خلال التعليم‬ ‫والتخرج وممارسة ذلك في تقسيم العمل بكل أصنافه‪.‬‬‫والمقابلة فرض كفاية وفرض عين لا ينبغي أن تغالطنا فنتصور الأول خاليا من الثاني‬‫والثاني خاليا من الأول‪ .‬ففرض العين فيه نيابة الجماعة في أداء عمل معين لا يمكن أن‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يتكفل به الجميع لكنه لا يمكن أن يكون سويا من دون مساهمة الجميع فلا شيء يضمن‬ ‫أمانة النائب إذا غاب المنوب‪.‬‬‫فالكفاية لا تكفي من دون العين‪ .‬وحضور العين ليس ضرورة في الأعيان بل في الأذهان‪.‬‬‫وأبلغ مثال علاقة الخليفة بالمستخلف‪ .‬فالإنسان لا يكون خليفة الله بحق (فرض كفاية)‬‫إذا غاب عن ذهنه وقلبه حضور الله معه في كل حركة يقوم بها سواء في السر أو في العلن‪:‬‬ ‫الله لا يقوم بعمل الخليفة لكنه حاضر معه‪.‬‬‫وفرض العين في تقاسم الأعمال لا يكون فرض عين ما لم يكن فرض كفاية‪ .‬ومعنى ذلك‬‫أن الذي يختص في مجال معين من مجالات العمل في الجماعة يقوم بفرض كفاية عنها فيه‬‫أي إنه يعوض الجماعة ليس بمعنى نيابتها في إدارة أمرها بل في أمره نفسه‪ .‬فما يختص فيه‬ ‫جزء من أمر الجماعة وليس من إدارتها أمرها‪.‬‬‫وهذا المعنى دقيق وشديد اللطافة لكنه ضروري لفهم العلاقة بين الانتخابين الاول وهو‬‫الأعم وهو المشاركة في الأمر نفسه والثاني وهو الأخص وهو إدارة الامر‪ .‬والمعنى الأول‬‫يتعلق بكون الإنسان جزء لا يتجزأ من كيان الجماعة والمعنى الثاني يتعلق بكونه جزءا لا‬ ‫يتجزأ من سلطان الجماعة على أمرها‪.‬‬‫وبعبارة أوضح فالانتخاب الأول يعني العمل الجماعي الذي يحقق التراتب الأمين‬‫للحقيقة العادل في احترامها خلال الانتخاب في الجماعة بحسب نظام تربوي يعتمد الكفاءة‬‫والأخلاق صفتين للخريج منه وصفتين يقع بمقتضاهما التغيير النهائي خلال الممارسة بعد‬ ‫التخرج في إنجاز العمل الذي هو المحك الحاسم‪.‬‬‫والانتخاب الثاني يعني العمل الجماعي الذي يحقق التراتب الامين للحقيقة والعادل في‬‫احترامها خلال الانتخاب في الجماعة بحسب نظام حكم يعتمد الكفاءة والأخلاق صفتين‬‫للمنتخب وصفتين يقع بمقتضاهما التعيير النهائي خلال الممارسة بعد الانتخاب في إنجاز‬ ‫الإدارة السياسية التي هي المحك الحاسم‬‫ولهذه الأمانة والعدل في الانتحاب الاول المضاعف أي خلال التكوين العام لكل أفراد‬‫الجماعة جزءا من امر الجماعة نفسها كل في اختصاصه بحسب نظام تقسيم العمل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والانتخاب الثاني المضاعف خلال التكوين الخاص لمن ينوب الجماعة في إدارة أمرها نيابة‬ ‫عنها بمشاركة منها ورقابتها الدائمتين‪.‬‬‫ما يعني أن الانتخاب الاول العام هو الاصل والانتخاب الثاني الخاص هو الفرع وأن‬‫منظومة التربية شارطة للانتخاب الأول ومنظومة القوى السياسية شارطة للانتخاب‬‫الثاني‪ .‬فيكون من واجب أي جماعة أن يكون لها منظومة مماثلة لمنظومة التربية تسمى‬ ‫منظومة الحكم أو منظومة القوى السياسية في الجماعة‬‫وهذه المنظومة الثانية تابعة لمنظومة التربية لأن شروطها مضاعفة‪ :‬فهي جزء من سلطان‬‫الجماعة على نفسها وهي خاضعة لكيان الجماعة بوصف الدولة هي إرادة الجماعة وعلمها‬‫وقدرتها وحياتها ورؤيتها ولا يمكن لمن يدير أمر الجماعة ألا يكون جزءا منها بهذه المعاني‬ ‫الخمسة‪.‬‬‫وغياب الوعي بهذه العلاقة بين نوعي الفرض وبين نوعي الانتخاب هو السبب الأول‬‫ولأكثر تأثيرا في ما حدث للامة من انحطاط‪ .‬وأفضل مثال هو تحول إدارة الأمر إلى فرض‬‫كفاية لا صلة له بفرع العين وتحول الجهاد إلى فرض كفاية لا صلة له بفرض العين‪.‬‬ ‫واجتمع التحولان فأنتج نظام التغلب في الحكم‪.‬‬‫لما يغيب فرض العين في الحكم تصبح الشعوب رعايا ولما يغيب فرض العين في الجهاد‬‫تصبح الأمة عيالا ولما يغيب فرض العين في المعرفة تصبح الأمة جهالا‪ :‬ولذلك كان‬‫الانحطاط النتيجة الحتمية لأن ذلك هو حقيقته‪ :‬اجتماع صفة الرعية وصفة العيال وصفة‬ ‫الجهال وينتج عنها فقدان الرعاية والحماية‪.‬‬‫صار الاجتهاد حكرا على \"العلماء\" لأن الجهل عم البقية والعلماء أنفسهم عمش في دار‬‫العميان لأن حفظ المحفوظات ليس علما ما دامت لا تعالج العلاقتين العمودية بين الإنسان‬‫والطبيعة والأفقية بين الإنسان والتاريخ بل تقتصر على الكلام في الغيبيات التي ردوها‬ ‫للشاهدات بصراع التأويلات والخزعبلات‪.‬‬‫وصار الجهاد مقصورا على الحاميات وانقلاب أمراء الحرب وأصحاب المغامرات في‬‫الانقلابات على كل شرعية لأن الحكم صار مصدر الغنائم في شعب جاعلون مؤلفا من البهائم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والسوائم وبذلك لم تعد الشعوب قادرة على رفع رأسها والدفاع عن أرضها وعرضها وبات‬ ‫ذلك يعتبر من قضاء الله وقدره‪.‬‬‫وغابت التربية النظامية الحقة التي تعد الناس للأدوار التي تؤديها في قيام الجماعة‬‫وتقسيم الأعمال على علم بل كل شيء أصبح مجرد تكرار لعادات بدائية في الإنتاجين‬‫المادي والثقافي حتى باتت الأمة عالة على غيرها من الأمم في كل شيء يستمد منه مقومات‬ ‫الرعاية والحماية ماديا وثقافيا‪.‬‬‫غابت شروط الاجتهاد المبدع والجهاد الرادع اللذين هما فرض عين دائما حتى وإن كان‬‫لا بد فيهما من فرض الكفاية في التخصص الأسمى بوصف المتخصصين معلمين للجميع كل في‬‫مجاله وفقدت الأمة من سميتهم القوابل السقراطية أو القيادات النخبوية التي وظيفتها‬ ‫الحضارية كوظيفة تجديد الأجيال العضوية‪.‬‬‫وما صرنا نسميه التواصل الذبابي في أنظمة الثورة المضادة وقبلهم في الأنظمة العسكرية‬‫طيلة أكثر من نصف قرن من مهاترات وحروب إذاعات وكلام دون الحزام والبذاءات ليس‬‫بالأمر الجديد فهو من أمراض علماء الكلام والفقهاء لأن الاستمراق المتبادل بينهم علته‬ ‫أنهم يتكلمون في ما لا يعلم بالطبع‪.‬‬‫فلا يوجد شرط التأكد من الاقوال إذا غابت الأفعال‪ :‬كيف يمكن أن أعلم الصدق من‬‫الكذب إذا كان مفاد الكلام لا مرجعية خارجية له إذ كل كلامهم على الذات والصفات‬‫والخرافات والتخويف بجهنم والتجارة بالدرجات في الجنة وكلها من أسرار الغيب التي لا‬ ‫يعلمها إلا صاحب العلم المحيط رب العالمين‪.‬‬‫عندئذ يغيب معيار الكفاءة والاخلاق في الانتخاب الأول التعليمي والإنجازي فلا يبق إلا‬‫التحيل والتقول وكثرة الحفظ للخرافات ومن الشعر بعض الأبيات ومن الحديث كثرة‬‫الموضوعات والكذب على الرسول والمرسل لاستعباد المرسل إليه الذي صار مثل الأنعام يقاد‬ ‫بألاعيب الدعاة المطبلين لدهاة المجرمين‪.‬‬‫فقدت الدولة كل وظائفها وأصبح دورها الوحيد تمكين المافيات من رقاب الناس كأنهم‬‫أنعام أو دجاج وظيفتها البيض للمتحكمين في رقابها والمستغلين للقليل من منتجها لأنها لم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫تتكون لتكون منتجة وعادت إلى المراحل البدائية من العمران البدوي ونحل العيش مما‬ ‫تنتجه الطبيعة والزراعة البدائية‪.‬‬‫صحيح أن للاستعمار في ذلك دورا مهما‪ .‬لكن وجوده ليس هو علته بل علته فقدان هذه‬‫الوظائف قبل مجيئه لأنها لو كانت موجودة لما استطاع ان يأتي ولحيل دونه بشروط الحماية‬‫التي تنتج عن شروط الرعاية التي هي وظائف الدولة العشر التي درسناها في القسم الأول‬ ‫من هذه المحاولة‪.‬‬‫وكل ما تراه اليوم من أمارات التقدم المادي والثقافي في بلاد العرب هو من العارية أي‬‫إنه كله أو جله مستورد ومركب تركيبا لأن صانعيه هم إما الاستعمار لما كان مباشرا أو ما‬‫يستورد من بلاده بعد أن صار غير مباشر وبعد أن اكتشف هو ثروات البلاد الطبيعية التي‬ ‫كانت مهملة أو مجهولة‪.‬‬‫فلا يغرنك ما تراه من عمران تظنه شبيها في الظاهر بما في أوروبا‪ .‬إنه مستورد كله‬‫مقابل البيع البخس للثروات الطبيعية عند من لهم منها قدرا وحتى للسيادة عند من‬‫يعيشون على مد اليد والتسول وليس ثمرة لتطور طبيعي لقدرات الإبداع والانتاج الذاتية‬ ‫للشعوب العربية التي جعلوها ذيل البرية‬‫وعندما يكون \"ولي الأمر\" أميا أو نصف أمي لا يكاد يعلم من شروط البناء الحضاري إلى‬‫زخرف القشور والعيش في القصور التي ليس لأبناء بلده أدنى دور في تشييدها ولا حتى في‬‫تسييرها فأنت أمام طلاء وبلاء ولست أمام عمران وحضارة وعندما تنضب ثروات الطبيعة‬ ‫سيهاجرون ويعود الشعب إلى القرون الوسطى‪.‬‬‫وهم دون شك يعلمون ذلك وإلا لما احتاجوا إلى تهريب ثروات البلاد إلى بنوك أسيادهم‬‫حتى إذا جد الجد يأخذون الطائرات ويهاجرون إلى الجنات التي أعدوها في الغرب وملأوا‬‫بنوكهم حتى يعيشوا هم وأبناؤهم وتركوا الأنعام التي استعبدوها وحلبوها هم وحماتهم‬ ‫فجوعوها وأذلوها‪.‬‬‫ومع ذلك تجد من أبناء الشعب الذين لا يقلون عنهم إجراما من النوعين دجالي الاصالة‬‫الدينية والحداثة الفلسفية يطبلون لهم ويعتبرونهم مصلحين وليس مثال مصر والعراق‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والشام وهلم جرا ببعيد فالحال التي صارت عليها هذه البلدان لا تبعد كثيرا عن الشعوب‬ ‫البدائية في كل أبعاد الحياة الحضارية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والآن ما الارضية التي ينطلق منها الانتخاب في مستواه الاول والثاني خلال التكوين‬‫وخلال استعمال حصيلته؟ إذا لم يكن في الإنسان انتخاب طبيعي متقدم عليهما فإن الانتخاب‬‫الحضاري بمستوييه يصبح مستحيلا‪ .‬ومعنى ذلك أن الانتخاب الحضاري لا يحدث قدرات‬ ‫الإنسان بل هو ينمي الموجود منها عنده‪.‬‬‫لا بد إذن من التسليم بأنه يوجد لدى الإنسان الذي نكونه ما هو فطري وما يضيفه‬‫التكوين في عملية الانتخاب مكتسب بتنمية الفطري‪ .‬ومهما كنا نطلب المساواة والعدل بين‬‫الناس فإن الاكتساب قد يقرب الناس في المهارات لكنه لن يستطيع إلغاء الاختلاف فيها‬ ‫والمتناسب مع ما في الإنسان من فطري‪.‬‬‫والفطري نوعان‪ :‬القدرة والميل‪ .‬فكل البشر من حيث هم بشر لهم بالنوع نفس القدرات‬‫والميول لكنهم بالعدد يتمايزون بمقدارهما‪ .‬كل إنسان قادر وميال لكن ليس كل الناس‬‫متساوين في القدرات والميول‪ .‬ويذهب ابن تيمية إلى أن التفاوت فيهما أكثر من التفاوت‬ ‫في المميزات البدنية بين البشر قوة وضعفا‪.‬‬‫وتلك هي العلة في تصنيفي النخب أي المبرزين من البشر في المقومات المشتركة بينهم إلى‬‫خمسة اصناف بحسب أصناف المقومات بحسب غلبة أحدها على كل صنف وميل المنتسبين إليه‪:‬‬ ‫‪ .1‬صنف الإرادة‬ ‫‪ .2‬صنف العلم‬ ‫‪ .3‬صنف القدرة‬ ‫‪ .4‬صنف الحياة‬ ‫‪ .5‬صنف الوجود‪.‬‬ ‫وهذا التصنيف جامع مانع‪.‬‬ ‫ويناظر هذا التصنيف في الجماعات ما يمكن من وضع التوازي التالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬صنف الإرادة في الغالب هم الساسة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .2‬وصنف العلم في الغالب الباحثون عن الحقيقة‬ ‫‪ .3‬وصنف القدرة في الغالب الاقتصاديون والثقافيون‬ ‫‪ .4‬وصنف الحياة في الغالب الفنانون‬ ‫‪ .5‬وصنف الوجود في الغالب أصحاب الرؤى دينا أو فلسفة‪.‬‬‫ودون هذه الأصناف توجد المهن التي تبوب بحسبها‪ :‬المهن السياسية والمهن العلمية المهن‬‫الإنتاجية السادة للحاجات المادية والروحية والمهن الفنية والمهن الرؤيوية وهي كلها‬‫تطبيقات للأصناف الأولى في كل جماعة ولا يمكن تصور غيرها لأنها مبنية على مقومات‬ ‫كيان الإنسان وهي موجودة له كإمكان‪.‬‬‫وإذن فالانتخابان بمستويي كل منهما تعد أربعة فروع لهذا الأصل‪ :‬الانتخاب الطبيعي‬‫يتفرع عنه الانتخاب الأول تكوينا واستعمالا والانتخاب الثاني تكوينا واستعمالا وعليها‬‫خمستها تنبني قدرات الجماعة في \"خلق\" ذاتها بوصفها كائنا طبيعيا ثقافيا ذات \"وعي ذاتي\"‬ ‫هو سلطانها على ذاتها بذاتها ولذاتها‪.‬‬‫لكن المكتسب الذي يضاف إلى الفطري يمكن أن يكون إيجابيا ويمكن أن يكون سلبيا أي‬‫إنه قد يكون منميا ومطورا للفطري وقد يكون قاتلا له‪ .‬وقد اعتبر ابن خلدون التربية‬‫والحكم العنيفين مفسدين لمعاني الإنسانية التي هي عين الفطرة‪ :‬حرية الإرادة وحقيقة‬ ‫العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬‫وهو يعتبر ذلك اساس كون الإنسان \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‬‫وهو تعريف دقيق لنظرية الإنسان القرآنية أو بصورة أدق لنظرية الفطرة التي فطر‬‫عليها الإنسان‪ :‬أي إنه حر الإرادة حقيقي العلم خير القدرة جميل الحياة وجليل الوجود‪.‬‬ ‫وما يخالف ذلك تحريف للفطرة بسبب التربية والحكم‪.‬‬‫فتكون العبودية والباطل والشر والقبح والذل تحريفات للفطرة علتها العنف في التربية‬‫وفي الحكم أي في فساد وظيفتي الدولة رعاية وحماية‪ .‬وذلك هو موضوع الانتخابين‬‫المضاعفين اللذين بصلاحهما تصلح الدول وتنمو الأمم وبفسادهما تفسد الدول وتضمر‬ ‫الأمم إلى حد \"الرد أسفل سافلين\" والانقراض‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والرد أسفل سافلين الذي يفسد معاني الإنسانية في الجماعات يبدأ بالرأس أي بالنخب‬‫التي عندما تكون صالحة تكون ما سميناه القوابل السقراطية في الجماعة‪ .‬فالقوابل‬‫السقراطية تعد في الإرادة وفي العلم وفي القدرة وفي الحياة وفي الوجود هي العلامة على‬ ‫صلاح الأمم بصلاحها وعلى فسادها بفسادها‬‫وصلاح النخب وفسادها ينتج عن صلاح الانتخابين المضاعفين وفسادهما‪ .‬ومعنى ذلك أن‬‫وجود الكفاءة والخلق لدى النخب هو أساس كل صلاح وانعدامهما هو أساس كل فساد‪ .‬وفي‬‫الحقيقة الجماعة لا يمكن أن تخلو من نخب كفءة وذات خلق لكن الانتخاب ينعكس‬ ‫فيستبعدها ويقرب عدمائهما‪.‬‬‫وقد أرجع ابن خلدون ذلك إلى علة سياسية هي الاستبداد‪ :‬فالمستبد يحتاج إلى ما يمكنه‬‫من الاستفراد بالسلطة فيبعد من يمكن أن يكون لهم عليه \"دالة\" من العصبية التي أوصلته‬‫إلى الحكم ويحيط نفسه بـ\"الموالي\" أي بمن يخدمون كعبيد وليس كأنداد أحرار‪ .‬ويصبح‬ ‫الجميع عبيدا للمستبد فتزول رئاسة الإنسان‪.‬‬‫وفي هذا التفسير الخلدوني تكذيب لخرافة هيجل حول المستبد الشرقي‪ .‬فابن خلدون‬‫يبين أنها خاصية في كل استبداد دون تمييز بين شرق وغرب‪ .‬كل حكم فردي ينتهي‬‫بالضرورة إلى استبعاد الأفاضل واستقراب الأراذل لأن هؤلاء لا يؤمنون بحرية الإرادة‬ ‫وحقيقة العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬‫همهم الوحيد الاستفادة المادية الخالصة من سلطان المستبد وما يوزعه عليهم من فتات‬‫موائده ونزواته فيكونوا له خدما طائعين في البداية ثم يصبحون هم أصحاب السلطان‬‫الفعلي ولا يبقون له إلا شكليات السلطان‪ .‬وبهذه الطريقة انهارت الخلافة في كل مراحلها‬ ‫حتى صار كافور الأخشيدي حاكم مصر مثلا‪.‬‬‫وصار أشعر الرب ‪-‬المتنبي‪-‬متكديا عنده‪ .‬صحيح أن كافور كان حاكما صالحا بنحو ما وأن‬‫المتنبي على عبقرية كان نذلا وفاقدا للكرامة لكن الظاهرة ذات دلالة من يتجاهلها لا يمكن‬‫أن يفهم ما يجري حاليا في بلاد العرب وخاصة في أكبر دولتين عربيتين حاليتين‪ :‬مصر‬ ‫والسعودية‪ .‬لكن الظاهرة عامة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فهل كان السيسي يصل إلى حكم مصر لو كان الانتخاب الأول بمستوييه والانتخاب الثاني‬‫بمستوييه سليمين في مصر؟ وهل كل غر السعودية يصل إلى حكمها لو كان ذلك كذلك فيها؟‬‫وقس عليهما غيرهما من بلاد العرب وربما من جل بلاد المسلمين؟ وليس للأمر حروز كما قد‬ ‫يحدث في الغرب فلا يؤثر لوجودها‪.‬‬‫فقد يمر حاكم في الغرب لا يقل غباء وبلادة من بليد مصر ومن مراهق السعودية لكن‬‫الحروز فيها تحول دون ما يؤدي إليه مثيله عندنا‪ .‬ذلك أن بقية المؤسسات تحد من الضرر‬‫إلى حد كبير فيكون مجرد قوسين يفتحان ويغلقان بسرعة ويتواصل التقدم والتعمير في‬ ‫بلادهم والتخلف والتدمير في بلادنا‪.‬‬‫وهكذا يتبين أن ما أبحث فيه ليس مجرد نظرية عامة في علم السياسة بل هو نظرية في‬‫\"هندسة\" الأمم والدول على علم‪ .‬ذلك أن علم السياسة هو في الحقيقة علم استراتيجيا‬‫بناء الدول والأمم واستراتيجيا تهديم الدول والامم تماما كالطب هو علم الدواء وعلم‬ ‫الداء‪ .‬علم السياسة هو طب الجماعة دواء وداء‪.‬‬‫فالعدو يستعمله داء ضدك وأنت تستعمله دواء لذاتك وداء له إن كنت مثله شريرا‪.‬‬‫لكن الإسلام ينهاك عن ذلك ولا يخول اللجوء إليه إلى رد فعل على من يعاديك ولا ينته‬‫بالتي هي أحسن‪ .‬ولهذه العلة يطالبك بأن تطبق قاعدة الأنفال ‪ 60‬للردع وليس‬ ‫للعدوان‪ .‬والردع هدفه منع الحرب بالاستعداد لها‪.‬‬‫وإذن فأول خطوة في الانتخابين هي اكتشاف \"المؤهلات الطبيعية\" المبكر والعناية بها‬‫لتطويرها وتهذيها وتنميتها لأنها هي التي تحقق شرطي السيادة المادية والرئاسة الروحية‬‫للجماعات في مستوى الكفاءة والخلق وهي أصل كل ثروة وكل تراث في كل الحضارات‪.‬‬ ‫وقتلها قتلهما فيها جميعا كذلك‪.‬‬‫وهذه هي وظيفة من سميتهم القوابل السقراطية لاكتشاف من يمكن أن يكون من نخبة‬‫الإرادة أو من نخبة العلم أو من نخبة القدرة أو من نخبة الحياة (الذوق) أو من نخبة‬‫الوجود (الرؤى) وهذه المعطيات التي هي من جنس الانتخاب الطبيعي تشبه الثروات‬ ‫الطبيعية في الجغرافيا والمكتسبة في التاريخ‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والهدر في هذه الثروات الطبيعية الإنسانية التي هي أصل الثروات المادية (الثروة‬‫الاقتصادية) والتراثية (الثروة الثقافية) لا يقدر في وضعنا‪ .‬فمن من الله عليه بإحداها‬‫من البشر ولم تقتل في النظامين الانتخابيين لن يبقى في مجتمعاتنا لأنه سينجو بنفسه‬ ‫ويهاجر حيث فيستفاد من مؤهلاته الطبيعية‪.‬‬‫ومن لم تتح له فرصة الهجرة سيذوى بالتدريج ويفقد كل أمل في أن يبدع بل سيعتبر‬‫من الشواذ ويعاني كامل حياته من سلطان الأنذال الذي يسلطهم عليه الاستبداد والفساد‬‫طيلة حياته ولن يستطيع الخروج من مأزقه إلا إذا تحنف وخرج من الحياة العامة وفضل‬ ‫العمل الصامت لعل التاريخ ينصفه لاحقا‪.‬‬‫ولذلك فغالبا ما تكون القوابل السقراطية مصيرها مصير سقراط‪ .‬يحاكم باسم إفساد‬‫الشباب والمروق من الدين الرسمي فيسقى السم فعليا كما حدث لسقراط أو رمزيا كما‬‫يحدث في الغالب لكبار المصلحين والمبدعين إما حسدا من المنتسبين إلى مجاله أو نقمة من‬ ‫سادتهم إذا مس سلطانهم وفسادهم‪.‬‬‫وصفنا الوضع المتردي في بلادنا باعتباره نتيجة حتمية لفساد الانتخابين المضاعفين الأول‬‫العام والثاني الخاص وبينا بصورة عامة وبحسب التعليل الخلدوني لانحطاط الامة مدخلا‬‫ضروريا للبحث في آلياتهما وشروط صلاحهما وعلل فسادهما لوضع قواعد هندسة الأمم‬ ‫والدول المحققة للاستئناف بعد الانحطاط‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أسمى طموح عندي هو المشاركة بقدر ما مهما كان ضئيلا في تحديد شروط الاستئناف‬‫وعودة الأمة إلى دورها الكوني في تاريخ الإنسانية كما كان مشروعها في النشأة بمعياري‬‫النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬أو الكونية الإسلامية التي لا تميز بين الاعراق والأديان‬ ‫والأجناس‪ :‬البشر أخوة متساوون في الحقوق والواجبات‪.‬‬‫ولن تستأنف الأمة دورها إذا لم تسترد شروط قوتها التي تمكنها من دور الشهادة على‬‫العالمين بتبليغ هذه الرسالة الكونية التي هي جوهر مضمون القرآن الغاية مع مضمون أداتي‬‫هو الاستراتيجية السياسية ببعديها تربية وحكما لجعل الإنسان يكون جديرا بالاستخلاف‬ ‫علة رئاسته بالطبع (ابن خلدون)‬‫وما يسميه القرآن فطرة يذكر بها الرسول الخاتم هو القدرات الفطرية التي جهز بها‬‫الإنسان ليحقق مهمتيه أي عمارة الارض بقيم الاستخلاف وهو التربية والحكم اللذين‬‫يحققان الانتخابين المضاعفين لتأهيل الإنسان ليكون جديرا بالاستخلاف ومن ثم فالتذكير‬ ‫يتعلق بالقدرة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪.‬‬‫وقد أمر الرسول بتبليغ التذكير دون أن يكون وسيطا بين المؤمن وربه (في التربية بمعنى‬‫التوليد السقراطي) فضلا عن أن يكون وصيا عليه (في الحكم بمعنى نفي الحق الإلهي في‬‫الحكم) وقد جمعت آية واحدة هذين المعنيين \"فذكر إنما أنت مذكر (نفي الوساطة) لست‬ ‫عليهم بمسيطر (نفي الوصاية)‪ :‬المثال والقدوة‪.‬‬‫ولو لم يكذب العلماء والأمراء على الرسول في ما ادعوا وراثته عنه الأولون في التربية‬‫والثانون في الحكم لكانت الأمة بحق أمينة للرسالة وعادلة في الانتخابين المضاعفين ولما حدث‬‫للأمة من حدث من انحطاط وتخلف جعلها تحت رحمة الدجالين من العلماء والسفاكين من‬ ‫الحكام منذ قرون‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وقد آليت على نفسي أن أجهزها بما أستطيع حتى أعيد النظر في دعاوى النخبتين صاحبة‬‫الرؤى من أدعياء عولم الدين وأدعياء علوم الفلسفة في ضوء قراءة فلسفية للقرآن تحرره‬‫من كل التأويلات التي استأنفت التحريف لكأن نصف القرآن ليس تصفية حساب مع كل‬ ‫التحريفات الممكنة للرسالة السماوية‪.‬‬ ‫فالقرآن يمكن اعتباره مؤلفا من قسمين كلاهما مضاعف‪:‬‬‫قسم العلاج الفلسفي العميق لنظرية الديني في كل دين ببعدي هذا العلاج النقدي‬‫للتحريفات والموجب للبديل ليس بتقديم دين جديد بل بالتذكير بالدين الواحد الذي هو‬ ‫دين الله وهو الإسلام المكتوب في ما فطر عليه الإنسان مهمة وتجهيزا لإنجازها‪.‬‬‫وقسم الاستراتيجية السياسية ببعديها تربية وحكما كذلك بشكل نقدي لعينة من‬‫السياسيات الفاسدة التي تؤدي إلى خراب الدول واستبدال الشعوب وقسم موجب يحدد‬‫شروط البناء السليم للدول والأمم بقيم تليق بالإنسان المستخلف‪ :‬حرية الإرادة وحقيقة‬ ‫العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬‫وأصل هذه الفروع الاربعة هو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه دون وساطة ولا وصاية‬‫والعلاقة غير المباشرة بينهما بتوسط العلاقة العمودية بالطبيعة والعلاقة الافقية بالتاريخ‬‫وما يوحيان به للإنسان مما وراء هو طلب قوانين الاولى وسنن الثاني ونسبتهما إلى خالق‬ ‫عليم وشارع حكيم‪.‬‬‫وهكذا فقد بينا التطابق التام بين قراءة القرآن فلسفيا والفلسفة‪ .‬فالفلسفة هي طلب‬‫قوانين الطبيعة وسنن التاريخ والتشوف إلى ما ورائهما وهو ما يسمى البعد الديني من‬‫الفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو إلى نهاية الشكل المتعود من الفلسفة بعد كنط وهيجل‪ .‬كل‬ ‫ما كتب بعدهما جنس آخر من الفكر‪.‬‬‫وهذا الجنس الآخر أصبح الإنسان يشغل فيه المحل الذي كان يشغله الله‪ .‬انتقلنا من‬‫الفلسفة الثيولوجية إلى الفلسفة الأنثروبولوجية‪ .‬فعادة وظيفة العلم الرئيس إلى التاريخ‬‫بدلا من الطبيعة‪ .‬فأصبح الدين والتاريخ محور الخطاب الفلسفي بدلا من الدين‬ ‫والطبيعة‪ .‬فتأدلجت الفلسفة وهزلت علاقتها بالعلم‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وبالتدريج عادت الفلسفة في آخرة تجلياتها ‪-‬مابعد الحداثة‪-‬إلى الميثولوجيا التي يعوض‬‫فيها ما كان في شكلها القديم صراع آلهة صراع البشر المتالهين أو القادرين على الحروب‬‫العالمية بأسلحة الدمار الشامل سوءا بالفعل او بالقوة استعدادا للأبوكاليبس الكوني‬ ‫والتهديم الذاتي للإنسان وشروط بقائه‪.‬‬‫وهو ما يحذر منه القرآن الكريم في الوجه النقدي من قسمه الثاني‪ .‬لكن ما كان مجرد‬‫تحذير ديني قد ظنه الكثير لمجرد التخويف صار حقيقة ماثلة للعيان ونحن أولى ضحاياه‬‫لأننا لم نعمل بالأنفال ‪ 60‬وليس ذلك خيارا من الأمة بل هو كان نتيجة لفساد الانتخابين‬ ‫بمستوييهما كليهما‪.‬‬‫وطبعا لا أنفي أن في القرآن مسائل أخرى لكنها كلها متعلقة بهذه المسائل الخمس لأنها‬‫تتعلق إما بترجمة النبي وأهم أحداث حياته من حيث هو رسول أو بترجمة الأمة وأهم‬‫أحداث نشأتها ومعاركها أو بالتربية الخلقية والروحية في تأصيل الأمة لمهمة تحقيق الرسالة‬ ‫لنقلها من الأذهان إلى الاعيان‪.‬‬‫لكن المسألة المركزية هي علاقة المؤمن بربه وهي علاقة محيرة حقا‪ .‬فمع الفارق‬‫والمقامات تشبه هذه العلاقة ما يعرف بمغامرات الذكاء الصناعي حيث نفترض عالما صنع‬‫روبوتا حرا فتنكر الروبوت لصانعه ولم يعد يطيعه في كل شيء تقريبا‪ .‬لكلأن الأنسان هو‬ ‫هذا الروبوت والله هو هذا الصانع‪.‬‬‫ويمكن القول دون أدنى تحفظ أن كل الإشكاليات الدينية ترجع إلى هذه المسألة التي‬‫طالما حيرتني‪ :‬ما الذي يجعل الإنسان كما يصفه القرآن مصدرا لكل تلك العيوب التي‬‫يصفه بها القرآن ثم في نفس الوقت يعطيه الله المنزلة الوجودية التي تعلو حتى على‬ ‫الملائكة ويختاره ليكون خليفته في الارض‪.‬‬‫لا يوجد لغز أكثر تحييرا من هذا للغز‪ .‬وقد يجعل الكثير من المتعجلين يستنتجون أنه‬‫مجرد لغز ميثولوجي‪ .‬لكن لا أحد يمكن أن ينكر أنه لغز وجودي حقيقي يجده كل إنسان‬‫في نفسه‪ :‬فهو يجد في نفسه الإرادة الحرة والعلم الحقيقي والقدرة الخيرة والحياة الجميلة‬ ‫والوجود الجليل ونقائضها في ذاته معا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فلا تمر لحظة من لحظات الواعي بالذات‪-‬لأن هذه اللحظات قليلة في حياة الإنسان‬‫الغارق في وحل الحياة الدنيا ومشاغلها وملاهيها‪-‬دون يرى نفسه مشتتا ومفتتا بين هذين‬‫الحدين من كيانه المادي والروحي بين الحرية والعبودية وبين الحق والباطل وبين الخير‬ ‫والشر وبين الجمال والقبح وبين الجليل والذليل‪.‬‬‫وحتى إذا غفل عن ذلك في ذاته فهو لا يغفل عنه في حكمه على غيره‪ .‬وما أن يعي أن‬‫حكمه على غيره يناظره حكم غيره عليه حتى يجد في نفسه ما يجده في غيره فيكون الإنسان‬‫مشدودا إلى عالمين فاضل ورذل يناوس بينهما وكأنه ريشة في مهب زوابع لا تتوقف ولو لم‬ ‫يكن رب القرآن رحيما لظن الإنسان أنه لعين‪.‬‬‫وإنه لذلك بمجرد أن يسهو فينسى ربه يعيش في ذهول وتذاهل وخمول وتخامل وفي‬‫يقظة وتياقظ محاولا أن يمسك بالعروة الوثقى فلا يتمكن لكأن الشيطان يتلبس بالإنسان‬‫بمجرد أن يغفل أو يستغفل فيترك نفسه لما يتجاذبه من تيارات لا تنتهي حتى وهو نائم‪.‬‬ ‫ولذلك فالتربية والوزع الذاتي والاجنبي شروط بقاء‪.‬‬ ‫واخيرا فالقرآن يتكلم على نفسه بأبعاده الخمسة كرسالة‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل أو الله‬ ‫‪ .2‬والمرسل إليه أو الإنسان‬ ‫‪ .3‬والرسول أو الخاتم‬ ‫‪ .4‬ومضمون الرسالة‬‫‪ .5‬وطريقة التلقي والتبليغ (الوحي والمشروع السياسي تربية وحكما) لتحقيق‬ ‫الرسالة في الواقع الفعلي‪ .‬ولن تجد فيه شيئا آخر غير ذلك‪.‬‬‫ولهذه العلة عرفته في قراءتي الفلسفية بكونه استراتيجية توحيد الإنسانية وعرفت‬‫السنة بوصفها تعليمه (قراءته على الناس على مكث) منطق السياسة التي تحقق منه عينة‬‫في التاريخ الفعلي وسميت ذلك منطق السياسة المحمدية في التربية والحكم بقيم القرآن‬ ‫إعدادا للإنسانية لتكون أهلا للاستخلاف‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهذا هو المشروع الذي ينبغي أن يكون مشروع الاستئناف حتى يكون دور المسلمين في‬‫التاريخ الكوني محققا لطموح يضاهي طموح النشأة الأولى‪ .‬ذلك أن الاستئناف كما‬‫اتصوره هو النشأة الثانية لأمة الإسلام‪ .‬فكما أن آدم أضاع الفرصة الأولى وأعطي فرصة‬ ‫ثانية فالاستئناف هو فرصة المسلمين الثانية‪.‬‬‫وفضيلة الفرصة الثانية مضاعفة‪ :‬فهي لا تكون ثانية إلا إذا تجنبت الوقوع في أخطاء‬‫الفرصة الأولى ومن ثم فعملي يتمثل في بيان اخطاء الفرصة الأولى وهي تقريبا الفرع‬‫الاول من القسم الاول من موضوع القرآن أو نقد تحريف لرسالات السابقة‪ .‬وهي لتكون‬ ‫ثانية إذا تداركت ما غفلت عنه الفرصة الأولى‪.‬‬‫وما غفلت عنه الفرصة الأولى هما علة فساد علوم الملة أو قلبها أمر القرآن لتحقيق‬‫الشروط التي تمكن من علاج العلاقتين العمودية والأفقية (فصلت ‪ )53‬ونهيه لتحقيق‬‫نفس الغاية (آل عمران ‪ .)7‬فبدلا من علوم الآفاق والأنفس والشاهدات انشغل من‬ ‫توهموا أنفسهم راسخين في العلم بالغيبيات‪.‬‬‫وقد خصصت لانحرف علوم الملة الكثير من المحاولات‪ .‬لكن أعمال الملة كذلك انحرفت‬‫وذلك منذ تعطيل دستور التربية القرآني ودستور الحكم القرآني بإعادة الوساطة في الأول‬‫والوصاية في الثاني ما أفسد الانتخابين بفرعيهما وحال دون الأمة وتحقيق نظرية الإنسان‬ ‫القرآنية مهمتيه وجهازيه‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫سأبدأ الفصل الرابع بملاحظة أساسها نظرية الغزالي في \"طور ما وراء العقل\"‪ .‬فهذه‬‫النظرية تعني أن من يسمون بالعقلانيين من المعتزلة إلى عتاة الإلحاد الذي يزايدون حتى‬‫على المعتزلة في وهم نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة لا يختلفون عن العامة‪ :‬فلا فرق بين‬ ‫ظن الحواس مطابقة وظن العقل مطابق‪.‬‬‫ما أنطلق منه هو نظرة الغزالي بقوة اللامتناهي‪ .‬بمعنى أنه لا يوجد طور واحد وراء‬‫العقل بل وراء كل طورٍ طو ٌر بلا نهاية‪ .‬فلكما وصلنا إلى طور بحسب ما بلغت إليه مداركنا‬‫اكتشفنا أن وراء طور كحال من يتقدم فيرى الأفق يتقدم فلا يتمكن من إدراكه‪ .‬فالوجود‬ ‫لا متناهي الأطوار‪ :‬وهذا أساس الدين‪.‬‬‫فهذه الرؤية الغزالي بقوة اللامتناهي متحررة مما وقع فيه عندما تصور أن هذا الطور‬‫الذي وضعه وراء العقل يمكن الإحاطة به بالكشف الصوفي‪ .‬لكن الدين ينفي الإحاطة‬‫بالمطلق ومن ثم فهو بقاء الغيب غيبا دائما مهما نفذنا إلى أعماق الوجود بمعايير إدراكنا‬ ‫من الحس فصاعدا إلى غير نهاية‪.‬‬‫وهذا يقتضي التحرر نهائيا من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة دون الذهاب في الاتجاه‬‫الكنطي القائل بأن ما ندركه مجرد مظاهر من الوجود بل إن ما ندركه هو طبقات الوجود‬‫أو صفائحه اللامتناهية والتي لو أحاط بها إدراك الإنسان لكان هو بدوره لا متناهيا وهو‬ ‫متناه‪ .‬العلم المطابق إلهي حصرا‪.‬‬‫وهذا هو أصل الإيمان الديني وهو لا يتعلق بالعلم وحده بل بالإرادة والقدرة والحياة‬‫والوجود‪ ..‬فهذه كلها لامتناهية عندما تنسب إلى الله أو لنقل إن الدين هو تصور هذه‬‫الصفات الذاتية لله لا تصح إلى عليه وهي في الحقيقة الغيب نفسه الذي لا يمكن أن نحيط‬ ‫به‪ :‬نؤمن بوجوده دون القدرة على علمه‪.‬‬‫وهذا المعنى الذي أحاول صوغه لم يشر إليه بوضوح أحد على حد علمي قبل ابن تيمية‬‫عندما قال إن كل تصور وراءه تصور أدق دون نهاية وصاغه بصورة أفضل ابن خلدون عند‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫رد كل أخطاء الكلام والفلسفة إلى مبدئهم الفاسد‪ :‬رد الوجود إلى الإدراك‪ .‬وصحيح أن‬ ‫أفلاطون لمح إلى لا تناهي الاطوار‪.‬‬‫ففي رسالته السابقة أشار أفلاطون إلى شيء سماه ابن خلدون بما لا ينقال ‪Ineffable‬‬‫‪ -Indicible‬ويعممه على ما يعتبره من الوجدانيات التي تدرك ولا نستطيع قولها باللسان‬‫الطبيعي وليس لنا غيره لقولها ويعتقد أن الأنبياء لهم القدرة على إدراكها بأمر أعجازي‪.‬‬ ‫لكني أشك لأن الغيب محجوب عنهم أيضا‪.‬‬‫إدراك الفرق بين إدراكنا وموضوعه أمر لا يخلو منه عقل سليم‪ .‬لكني أعتقد أن‬‫الحداثيين من العرب ليس لهم عقل سليم لأنهم يتصورون العلم مطابق لموضوعه وهم من‬‫ثم أكثر تعصبا من الطائفيين المتعصبين لمعتقداتهم ظنا أن ما لهم من تصور على المعاني‬ ‫الدينية مطابق لها لعدم فهم معنى الأيمان‪.‬‬‫فلو كان العلم مطابقا لموضوعه لتوقف في لحظة المطابقة ولم يبق له ما يطلب‪ .‬ولو كان‬‫الإيمان علما لاستغنينا عنه ولكان متقلبا تقلب علمنا المتدرج دون نهاية والذي مهما تقدم‬‫لن يحصل التطابق بينهما وإلا لانتهينا إلى وهم القائلين بالوحدة المطلق في تصوف وحدة‬ ‫الوجود‪ :‬الوجود هو ذات المتصوف‪.‬‬‫وضع هذا المبدأ ضرورة للشروع في الكلام على الانتخابين‪ .‬فمن دونه لا يبقى للعلم‬‫معنى ولا للإيمان معنى‪ .‬فالأول يصبح إيديولوجيا سوفسطائية تجعل الإنسان مقياس كل‬‫شيء موجوده ومعدومه والثاني يصبح خرافه صوفية تجعل وعي الإنسان أيضا مقياس كل‬ ‫شيء حقه وباطله‪ .‬كلاهما داء تضخم الذاتية‪.‬‬‫ولنا مثال في القرآن الكريم أعتقد أن من كانوا يتصورون العالم بالعين الأرسطية كانوا‬‫يهزؤون منه ولا يصدقونه وصرنا اليوم نعتبره أمرا عاديا جدا بل ونتصور ما هو اغرب‪:‬‬‫فباعتبار حركة الأرض وحدة قيس ضرب لنا القرآن مثال الملاك الذي يصعد بخبر عملنا‬ ‫في يوم مقداره‪ 50‬ألفا سنة مما نعد‪.‬‬‫فالعالم الذي يومه بخمسين ألف سنة من أيامنا لم يقل القرآن إنه آخر العوالم من حيث‬‫الحجم بل هو مثال ونحن نعلم اليوم أنه يوجد عوالم أكبر من ذلك بملايين السنوات مما‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫نعد حتى لو أخذنا السنة الضوئية كوحدة قيس‪ .‬وهذا يبين لك \"ضيق الحوصلة\" (مفهوم‬ ‫ثان للغزالي) عند أدعياء العقلانية‪.‬‬‫ويمكننا فرضيا أن نتصور العالم متسعا إلى اضعاف ذلك وتكون سرعة كائنات أخرى‬‫تقطعه في يوم من عالمها ويكون الحد المعلوم اليوم من السرعة الأقصى ‪-‬سرعة الضوء‪-‬‬‫مجرد دليل على ما توصل إليه علمنا الحالي ويمكن أن نجد ما هو أسرع‪ .‬ومن ثم فكل غاية‬ ‫في علمنا يمكن اعتبارها بداية لما يتجاوزه‪.‬‬‫ومن تضيق حوصلته على تخيل هذه العوالم كيف له أن يدعي الإحاطة فيجزم في أمور‬‫تتجاوز ما يتوهمه مقياس كل شيء موجوده ومعدومه سواء اعتمد ما يسميه علما عقليا أو‬‫علما شكليا‪ .‬كل ذلك من أمراض تضخم الذات الإنسانية وهو من علامات السذاجة‬ ‫المعرفية وليس من علامات العقل‪.‬‬‫فمن يعلم هذا لا يمكن ألا يعتبر المتكلمين والفلاسفة الذي كانوا يريدون رد الغائب‬‫(المجهول) إلى الشاهد (المعلوم) ورد المعاني القرآنية إلى علومهم المزعومة عقلية من‬‫السذاجة لا تخلفت عن سذاجة الإنسان العامي الذي يرى السماء فوقه فيتصور مدى حواسه‬ ‫مقياسا للعالم الطبيعي‪.‬‬‫ولا يمكنك أن تربي إنسانا انطلاقا من مثل هذه \"المعتقدات\" التي يتصورها \"معلومات\"‬‫عقلية وهي في الحقيقة أقل \"تزمتا\" مما يعاب عادة على المخرفين من \"علماء\" الدين‪.‬‬‫ولذلك فاليوم أكثر الناس تزمتا هم من يزعمون محاربة \"المعتقدات\" الدينية بوصفها‬ ‫عندهم خرافية وهم غارقون \"للعنكوش\" في الخرافة‪.‬‬‫ولهذه العلة فلا بد من وضع مفهوم \"المابعد\" المطلق للإرادة وللعلم وللقدرة وللحياة‬‫وللوجود‪ .‬فتكون هذه المقومات لكيان الإنسان مقيسه به وليس مقياسا له‪ .‬فمهما أردنا‬‫وعلمنا وقدرنا وحيينا ووجدنا نبقى أقرب إلى الصفر بالقياس إلى هذا المابعد الذي يلازم‬ ‫وعينا بذواتنا ومقوماتنا ونعده \"الاهنا\"‪.‬‬‫وسأذكر هنا لطيفة من لطائف ابن سينا‪ .‬فهو أول من أعاد كتابة مصنف أرسطو في‬‫الميتافيزيقا بترتيب جديد واعتبر اسم ما بعد الطبيعة غير مناسب قائلا إذا قبلنا بهذا‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الاسم فليكن إذن \"ما قبل الطبيعة\" وليس ما بعدها لأنه هو شرطها والاسم الذي اشتهر هو‬ ‫\"الالهيات\" وهو أحد أسمائها الأرسطية‪.‬‬‫وعندي أن الإنسان من دون شيء من هذا أي \"ما قبل الطبيعة\" أو الإلهيات التي يكون‬‫فيها ما بعد الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود ما بعدا مطلقا يكون دون الإنسانية‬‫التي تصدق نفسها عن منزلتها في الوجود الذي تحاول رده إلى \"حوصلتها\" الضيقة فترد‬ ‫الوجود إلى إدراكها لما يكاد يلامس الصفر منه‪.‬‬‫وحال من لا يعي هذه العلاقة هي الغفلة الوجودية التي لا يمكن أن تبدأ التربية الحقة‬‫من دون تحرير الإنسان منها حتى يسرح فكره في ملكوت السماوات والأرضين بلاحد لئلا‬‫يجعل ذاته محور العالم وهي لا تكاد تذكر كما وكيفا في خلق الله ومع ذلك فالقرآن يكرمه‬ ‫ويعده ليكون خليفة بقيم مقوماته‪.‬‬‫فالوعي بهذه المنزلة كما وكيفا هو العبادة الأصل لأنها اعتراف بإرادة وعلم وقدرة‬‫وحياة ووجود كلها مطلقة لا يحيط بها الإنسان علما وإن كان لا يستطيع أن يحيا لحظة‬‫واحدة واعية بذاتها من دون أن يكون مضمون وعيه مليئا بها مهما غفل أو استغفل‪ .‬لكن‬ ‫كل \"حداثي\" العرب جامد الوعي لم يتجاوز الحواس‪.‬‬‫ويمكن أن نعتبر مقدار الغفلة عن هذا الوعي هو مقدار فقدان معاني الإنسانية وهو‬‫أيضا مقدار الغرق في الفاني والمتداني من الوجود الإنساني لأن غاية ما يشرئب إليه‬‫صاحبه هو الاكل أكل الأنعام والاخلاد إلى الأرض كالكلب لا يتوقف عن اللهيث سواء حملت‬ ‫عليه أو تركته في وحل لهيثه الكلبي‪.‬‬‫فإذا كنت نخب الإرادة ونخب العلم ونخب القدرة ونخب الحياة ونخب الوجود تعتبر‬‫غايتها هي هذا الوجود المتدني أو \"الرد أسفل سافلين\" (ابن خلدون وصفا لفاسد معاني‬‫الإنسانية\" فلا يمكن أن تبني أمة من الاحرار ذات طموح كوني كما حصل في النشأة الاولى‬ ‫فيصبح عندك ما تراه من العرب والمسلمين‪.‬‬‫وأكبر الأدلة على أنهم كذلك هو موقفهم من الموت‪ .‬فكم من زعيم من يسار العرب‪-‬وقد‬‫رأيت أمثلة كثيرة منهم في تونس ورهطهم عام بين علمانيي العرب‪-‬يطلب الا يعامل بتقاليد‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫شعبه في احترام الميت والموت فيطالب بأن يبال على قبره بدل الصلاة عليه أو قراءة القرآن‬ ‫على قبره‪.‬‬‫وهو ما يعني أنه في الحقيقة أكثر الناس احتقارا لذاته لفرط ما تضخمت عنده فانقلبت‬‫المعاني كلها في عقله المريض وأصبح يعتبر نفسه مجرد حيوان بل إن البعض اعتبر معاملته‬‫معاملة الهنود بالحرق بدل الدفن ليعبر عن تأففه من تقدير الميت في العادات التي يؤمن‬ ‫بها شعبه حتى لو تصورنا البعث خرافة‪.‬‬‫اعتقد أني الآن قد وفيت حق المناخ الروحي منطلقا لكل تربية وحكم لهما الدلالة التي‬‫تتحرر من \"فساد معاني الإنسانية\" ليس عند العامي المضطهد فسحب بل عند من يتصور‬‫نفسه خاصيا ومتحررا من \"المعتقدات\" التي يظنها خرافية ولا يدري أنه غارق في الخرافة‬ ‫إلى الأذقان رغم تطاوسه \"العقلاني\"‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ميزنا بين نوعين من الانتخاب كلاهما مضاعف‪:‬‬‫‪ .1‬يجعل الفرد عضوا من كيان الأمة بوصفه أحد أعضاء الرعاية وتقسيم العمل‬ ‫المدني فيها لسد الحاجات المادية والروحية‪.‬‬‫‪ .2‬ويجعل الفرد عضوا من سلطان الأمة على ذاتها بوصفه أحد أعضاء الحماية‬ ‫وتقسيم العمل السياسي فرض كفاية وفرض عين في الانتخابين‪.‬‬‫والطابع المضاعف في الانتخابين معناه أنه يقع خلال التحصيل وخلال الاستعمال للتكوين‬‫الذي يتحقق في التربية وفي الحكم علما وأن التربية والحكم كلاهما فرض كفاية على الفرد‬‫وفرض عين على الجماعة بمعنى أن تربية الفرد ليست فردية وحكم الفرد ليس فرديا بل‬ ‫كلاهما تتدخل فيه الجماعة كحكم نهائي‪.‬‬‫ولنشرع الأن في الكلام على الانتخاب الأول والأساسي وهو انتخاب اصطفائي ‪Sélectif‬‬‫للكفاءة والاخلاق المؤسسين لانتساب الفرد لكيان الجماعة ويختلف عن الثاني الذي هو‬‫انتخاب اختياري ‪ Electif‬للكفاءة والأخلاق المؤسسين لانتساب الفرد لكيان دولة الجماعة‪.‬‬ ‫والأول شرط في الثاني ضروري غير كاف‪.‬‬‫وبينا أن الانتخابين المؤسس للانتساب لكيان الأمة والمؤسس لدولتها‪-‬وهما يشملان جميع‬‫أفرادها‪-‬يحتاجان إلى من سميناهم القوابل السقراطية المغنية عن الوساطة في الأول بين‬‫المؤمن وربه أو بين المؤمن وحرية الإرادة وحقيقة العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة‬ ‫وجلال الوجود لأن سقراط يذكر ولا يفرض‪.‬‬‫والمستوى الأول من كلا الانتخابين يعود إلى القوابل السقراطية لأنها يجري في مؤسسات‬‫مختصة في التكوين والاصطفاء انطلاقا من القدرات الفطرية التي ميزنا فيها خمسة يتميز‬‫الفرد بغلبة إحداها عليه وبميله إليها دون أن يكون خاليا من الأربعة الباقية‪ :‬الإرادة‬ ‫والعلم والقدرة والحياة والوجود‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لكن المستوى الثاني منهما الحكم فيه ليس القوابل السقراطية بل الجماعة ككل‪ .‬ففي‬‫الانتخاب الأول الاحتكام عملي وهو يقع في مواقع العمل من تقسيمه الاجتماعي حيث يكون‬‫معيار التقييم هو الكفاءة والأخلاق إذا كان تقييما أمينا وعادلا وعلاقته بالمستوى الأول‬ ‫منهما كعلاقة الممارسة بالنظرية‪.‬‬‫كلنا نعمل أن الانتخاب الاول مقدم عند أفلاطون وقد خصص له ثلثي الكتاب حول مفهوم‬‫العدل وتكوين الإنسان لتكون الجماعة عادلة وخصص الثلث الاخير للانتخاب الثاني وعلل‬‫فساد الجماعات وانظمة الحكم بمقتضى علم النفس الجماعي والاقتصادي منه على وجه‬ ‫الخصوص وأثرهما في الحكام والمحكومين‪.‬‬‫ونعلم أن أرسطو قد عكس الترتيب فجعل تكوينية الجماعات والدول عضوية اقتصادية‬‫قبل أن تكون معرفية رغم أنه ضمن كتابه في السياسة مسألة التربية واعتبرها مثل‬‫أفلاطون مسألة جذرية دون أن يتطرف لإشكالية الانتخاب بالمعنى الذي ندرسه هنا والذي‬ ‫لم يغب عن بال أفلاطون قديما وابن خلدون وسيطا‪.‬‬‫وينبغي ألا نغتر بالمقابلة بين افلاطون في الانتخابين ونظرية المجتمع المفتوح لكارل بوبر‬‫بدعوى الإطلاق الأفلاطوني والنسبة البوبرية ولا نظرية المجتمع المفتوح عند بارجسون‬‫على أساس الحياة الخلاقة أو التطور اللامحدود بما يشبه التاريخ الطبيعي‪ .‬فأفلاطون لم‬ ‫يدع الجمود في الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫كل ما في الأمر أنه يعتبر التطور في الطبيعة والتاريخ لا يتنافى مع الثبات في المثل أو في‬‫القوانين‪ .‬فالتطور البايولوجي مثلا لا يلغي قوانين الوراثة مثلا‪ .‬والتطور الاقتصادي لا‬‫يلغي البينة المخمسة للإنتاج المادي (الفكرة والاستثمار والتمويل والعمل والاستهلاك)‬ ‫وهلم جرا من علاقة التغير والثبات‪.‬‬‫ورغم أني لست أفلاطوني النزعة فإن رأيه يبدو لي أقرب إلى الصواب من رأي بوبر‬‫ورأي برقسن‪ .‬فالقول بالتطور مشروط بثبات البنى القانونية وتطور المواد التي تخضع‬‫لتلك القوانين‪ .‬وهدفي ليس الكلام في المضامين بل في القوانين التي تحكم كونها تتجلي ذلك‬ ‫النوع من التجلي في الوجود الفعلي بمقتضاها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فلننظر الآن في ثوابت التكوين والانتخاب فيه بمستوييه‪ .‬كل جماعة تكون ناشئتها على‬‫ما تراه ضروريا لمستقبلها‪ .‬فكيف يتم ذلك ولماذا لا يمكن حصوله من دون المستوى الأول‬‫من عملية الانتخاب خلال التحصيل استعداد للمستوى الثاني الذي هو الحاسم خلال‬ ‫استعمال الكفاءة والأخلاق المحصلتين فيه‪.‬‬‫وحتى يحصل الغرضان من مستويي الانتخاب الأول الذي لضم الناشئة في عمل الجماعة‬ ‫وفي مستقبلها لا بد أن يكون المشرفون على التكوين الأطراف الخمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬منتجة الناشئة (الاسرة)‬ ‫‪ .2‬ومستعملتها (الأعمال)‬ ‫‪ .3‬والمتعلم (التلميذ)‬ ‫‪ .4‬والمعلم (القابلة السقراطية)‬ ‫‪ .5‬سلطة الدولة الشرعية التي توحدهم‬‫ومثلما أن أطراف العملية التربوية النظامية مخمسة الأطراف فإن مراحل التعليم‬ ‫مخمسة كذلك‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما قبل الابتدائي‬ ‫‪ .2‬الابتدائي‬ ‫‪ .3‬الثانوي‬ ‫‪ .4‬الجامعي‬‫‪ .5‬ما بعد الجامعي أو التكوين المستمر (وهو ضرورة للمستوى الثاني من الانتخاب‬ ‫ولحركية تقسيم العمل والكفاءات في ما يجد فيه من جديد)‪.‬‬‫وفي كل تكوين لا بد من أهداف مناسبة لهذه المراحل ومناسبة لنمو المتعلم نفسه من حيث‬‫كائن عضوي وروحي‪ .‬ولا يقع ذلك في مؤسسات التعليم النظامي وحدها بل في المؤسسات‬‫الرئيسية التي لا يخلو منها مجتمع إنساني والتي هي أركان الوجود الجمعي الكونية في كل‬ ‫الحضارات‪.‬‬ ‫فلا بد من‪:‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .1‬المؤسسة الأسرية‬ ‫‪ .2‬المؤسسة المدرسية‬ ‫‪ .3‬المؤسسة المعبدية‬ ‫‪ .4‬المؤسسة الإنتاجية للتموين (المادي أو الاقتصاد والروحي أو الثقافة)‬‫‪ .5‬الجماعة التي لها مثل جانوس وجهان داخلي هو الأمة وخارجي هو الإنسانية لأن‬ ‫كل أمة محوطة بها ولها التفاتان داخلي لذاتها وخارجي لمن حولها‪.‬‬‫ومن حولها لها معنيان مكاني ممن يساوقها في الزمان وزماني لمن توالى فيها أو في من‬‫تقدم عليها وكان ذا صلة بها لأن الحضارات تتخاصب بين المتعاصرين وبين المتوالين في‬‫الزمان‪ .‬فحضارة الإسلام مثلا ليست ما نتج منذ مجيء الإسلام بل هي استوعبت وأسلمت‬ ‫كل الكوني من حضارات الشعوب التي اسلمت‪.‬‬‫من ذلك أننا ندين بالفلسفة وعلومها إلى اليونان ومن تأونن من الشعوب التي دخلت‬‫إلى الإسلام ليس بوصفه دينا فحسب بل وكذلك بوصفه حضارة لأن الكثير ممن أسهم في‬‫استيعاب الفلسفة اليونانية في حضارة الإسلام لم يكونوا مسلمين بل كانوا من العرب‬ ‫وغيرهم الذين استوعبوا التراث اليوناني‪.‬‬‫أما أهداف التكوين الذي يجري خلاله الانتخاب فلتنمية القدرات الطبيعية التي للفرد‬‫والتي أولى وظائف التكوين اكتشاف المميز للأفراد بعضهم عن بعض فيها والتي أرجعناها‬‫إلى الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود فإنها للعناية بها وتهذيبها وتحقيق معياري‬ ‫الكفاءة والأخلاق فيها أفضل ما يكون‪.‬‬ ‫ثم انطلاقا من هذه الارضية تكون الاهداف كالتالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬جعل الطفل يصبح \"إنسانا\" بالتحكم في بدنه وشروط التواصل (اللغة خاصة)‬‫‪ .2‬تعلم العلوم المساعدة أو علوم الآلة قبل العلوم الغائية‪ .‬كممارسة أولا‪ :‬علوم الألة‬‫للعلاقة العمودية وعلوم الطبيعة (الرياضيات والمنطق) والأفقية (التاريخيات واللسان)‬ ‫وبعد ذلك بوصفه تحصيلا لملكة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪74‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .3‬تعلمها بوصفها موضوع عودة نظرية على ملكة حاصلة عند النشء‪ .‬وهنا يبدأ‬‫الانتقال من ممارسة علوم الألة إلى جعلها مادة للمعرفة النظرية وتلك هي بداية المعرفة‬‫النظرية والمطبقة في علوم الطبيعة وفي علوم الإنسان‪ .‬لا بد من شرح القصد بالممارسة التي‬ ‫تحقق الملكة‪.‬‬ ‫ثم تأتي مرحلة التجريد‪:‬‬‫‪ .4‬تصبح علوم الألة المطبقة في علوم الطبيعة وعلوم الإنسان مطلوبة لذاتها وموضوع‬ ‫النظر الاساسي والمجرد وهي أسمى مراحل التكوين‪.‬‬‫‪ .5‬والمرحلة الأخيرة هي مرحلة الشروع الفعي في البحث العلمي لإبداع الجديد‬ ‫وليس البحث العلمي لتعلم الحاصل من أدبيات هذه الفنون‪.‬‬‫وأعود الآن إلى ما سميته التعلم بالممارسة‪ .‬وهو أول المراحل في كل تعلم‪ :‬وليكن مثالنا‬‫متعلقا بالعلوم الأداتية أو المساعدة وهي الاربعة التي ذكرتها‪ :‬الرياضيات والمنطق أدوات‬‫علوم الطبيعة خاصة وكل علم عامة والتاريخيات واللغة أدوات للتواصل عامة وفي علوم‬ ‫الإنسان خاصة‪ .‬فكيف بالممارسة؟‬‫فالرياضيات والمنطق تتعلم بأول موضوعاتها بنوعيهما‪ :‬الرسم والموسيقى يحققان غايتين‪:‬‬‫السيطرة على المكان وعلى الحركة فيه والسيطرة على الزمان وعلى الحركة فيه‪ .‬وبهما‬‫يتعلم الطفل مبادي الهندسة دون تنظير ومبادئ العدد دون تنظير وبتحكم في يده والكتابة‬ ‫وفي لسانه والنطق‪.‬‬‫وهذه الأمور الأربعة فسدت تماما في أجيال الامة حتى صار الشباب فاسد النطق وفاسد‬‫الخط وعاجز على الرسم والموسيقى ومن ثم فلن يفهم لاحقا معاني البنى المجردة التي هي‬‫أداة الأدوات كلها في كل علم‪ .‬وما قلناه عن الرياضيات والمنطق يقال مثله عن التاريخيات‬ ‫واللغة‪ .‬وهما مادة الأدب الأسمى‪.‬‬‫وبهذا التدرج يصبح النشء قادرا على تعلم كل الفنون التقنية والفنون الجمالية بكل‬‫تفرعاتها لإنتاج \"الغذاء\" المادي و\"الغذاء\" الروحي للتموين الذاتي في التكوين وفي تقسيم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪75‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫العمل في الجماعة‪ .‬فتكون الجماعة بذلك راعية لنفسها بدءا بسد حاجات المنظومة‬ ‫التربوية وحاجات الجماعة ككل‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪76‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وما ليس منه بد في التربية والانتخاب الاول بمستوييه هو التربية البدنية والتربية‬‫الغذائية والجنسية فالأولى والثانية شبه مفقودة في تقاليدنا التربوية وهي من أساسيات‬‫تكوين الإنسان السليم بدنيا والثالثة منها ما يعد من التربية الفقهية لكنها مهملة‪ .‬وثلاثتها‬ ‫من مقومات الحياة السوية الضرورية‪.‬‬‫وبعد تكوين الإنسان بما ذكرنا يأتي تكوين الإنسان المختص في عمل من أعمال تقسيم‬‫العمل في الجماعة ثم الإنسان المواطن ثم الإنسان المتمكن من التراث الإنساني من حضارته‬‫مدخلا للكونية وأخيرا اعداده لئلا يعيش على هذا ما وجدنا عليه آباءنا بمعنى الفكر‬ ‫النقدي والقدرة على الإبداع في مجاله‪.‬‬‫وهذه العناصر ليست متوالية بل هي متساوقة بمعنى أنها تكون بالمعية في كامل مراحل‬‫التكوين وتصبح عادة في كل الحياة وكلها تتعلم في المؤسسات التعليمية خاصة بشرط أن‬‫تكون هذه المؤسسات التعليمية ذاتية التسيير وديموقراطيته فيكون المتعلم في نفس الوقت‬ ‫مشاركا في حياة المؤسسة وعاملا فيها‪.‬‬‫وكل الأنشطة التي ذكرت تجري في المؤسسة التعليمية ذات التسيير الذاتي بمعنى أن‬‫الجميع يقوم بدوره فيها لتكون مكتفية بذاتها وكأنها \"دويلة\" كجماعة تقوم بكل الخدمات‬‫الضرورية للعناية بها وكسلطة على ذاتها تنظم اعمالها بمن تختارهم الجماعة لنيابة البقية‬ ‫في التسيير بالتداول الديموقراطي‪.‬‬‫فلا تكون مؤسسات التربية وكأنها خارج الحياة بحيث يكون المتخرج غير حاصل على شروط‬‫الحياة الجماعية مجرد خزينة لمعلومات لم تمتحن ولو جزئيا في الامتحان الأكبر والانتخاب‬‫الفعلي خلال الممارسة خارج المنظومة التعليمية بل هو إنسان وصاحب مهنة ومواطن ومطلع‬ ‫على تراث الإنسان ومبدع في مجاله‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪77‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بل ينبغي أن تكون المنظومة التربوية عينة من الجماعة في كل شيء رغم كونها منظومة‬‫منفصلة عن الحياة العامة لأنها تحاول قدر المستطاع أن تتحرر من سلبيات الحياة الحامة‬‫لأن التربية تعتمد على ما يقرب من المثال بخلافها التي يختلط فيها الغث والسمين‪ .‬مثال‬ ‫ذلك صفاء اللغة والانضباط والجدية‪.‬‬‫ثم إن المنظومة التربية ينبغي أن يكون ما يسود فيها هو الاعداد والاستعداد للمستقبل‬‫أكثر من المساوقة لما هو موجود بمعنى أن الأفكار الجديدة في كل المجالات تجرب فيها بحيث‬‫إن دورها هو اكتشاف الثغرات في الحاضر والماضي والاستعداد لسدها في المستقبل‪ .‬وإذن‬ ‫فتصورها يقتضي استراتيجية لهندسته‪.‬‬‫ولذلك فالمنظومة التربوية مكلفة جدا وهي اساس كل تنمية مادية وروحية ولا يمكن تصور‬‫البحث العلمي من دونها لأنها شرط ما يحتاجه الاقتصاد والثقافة من إبداع يجرب في‬‫المنظومة التربوية‪ .‬ولذلك فهي ليست خاصة بالنظريات والعلوم الاساسية بل هي تجمع‬ ‫بينها وبين التطبيقات والاختراعات الريادية‪.‬‬‫وما إلحاحي على هذه المسألة بالذات إلا لأن المنظومة التربوية الاسلامية قد كانت أفشل‬ ‫منظومة عرفها تاريخ الحضارات المحيطة بالأبيض المتوسط بدليل علامتين‪:‬‬‫‪ .1‬الأولى هي ما حاولت بيانه من عكس أمر فصلت ‪ 53‬ونهي آل عمران ‪ 7‬علتي العقم في‬ ‫علاج العلاقتين العمودية والأفقية‪.‬‬ ‫ثم‪:‬‬‫‪ .2‬والثانية هي الأبرز كان كل فلاسفة الإسلام دون استثناء عصاميين أي انهم تعلموا‬‫الفلسفة والقدر الزهيد من العلوم فيها خارج المنظومة التربوية التي كانت لا تتجاوز \"علوم‬‫الدين\" لكأن \"علوم الدنيا\" ليست في خدمة الحياة عامة والحياة الروحية خاصة‪ .‬ولا يزال‬ ‫أسم العلماء خاصا بهم‪.‬‬‫والأخطر من ذلك كله هو أن المنظومة التربوية العربية الحالية لا تختلف كثيرا عنها لأنها‬‫تكوين لفظي لا يتجاوز حفظ أدنى الموجود‪ .‬فمؤسساتها خالية من التجهيز العلمي الذي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪78‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يمكن من تجاوز الإعلام بالموجود دون قدرة على إعادة اكتشافه (وهو معنى التعلم الذي‬ ‫يعد للإبداع) والمبادرات الابداعية‪.‬‬‫والتعليل الاقتصادي مهم لكنه ليس كافيا‪ .‬فصحيح أن ميزانيات المنظومات التربوية‬‫العربية لا تكفي لعلم مواكب للتطور العلمي ولشروط الإبداع الذي يتأسس على كون‬‫قاطرته هي دائما العلوم الأساسية وتطبيقاتها في الاقتصاد والحروب مثل عزو الفضاء‬ ‫وانتاج الأسلحة والهندسات الإنتاجية في الزراعة‪.‬‬‫لكن العلة الأعمق هي تصور المعرفة محفوظات‪ .‬لذلك فأنت عند التمحيص لا تجد فرقا‬‫بين شروح ابن رشد لكتب ارسطو وشروحه للنصوص الفقهية‪ .‬هو فقيه فيهما‪ .‬لا يذكر‬‫تاريخ العلم نظرية واحدة ذات مصداقية يمكن نسبتها إليه‪ .‬هو شارح لنص أرسطو معتبرا‬ ‫إياه وكأنه \"قرآن\" وهو أمر مناف للفكر الفلسفي بإطلاق‪.‬‬‫ونفس هذه العقلية تجدها عند الحداثيين العرب كلهم‪ :‬لا يعتبرون النظريات التي‬‫يتبجحون بها فرضيات علمية قابلة للمراجعة وتلك هي حياة العلم بل هي تصبح عندهم‬‫دوغمات يتعاملون معها مثل \"الشيوخ\" مع ما يسمونه المعلوم من الدين بالضرورة‪ .‬كلهم‬ ‫شيوخ العلم عندهم محفوظات تعرض وليس أفعالا تبدع‪.‬‬‫فعمر الجامعات العربية نيف على القرن ومع ذلك لم نسمع بجامعة عربية واحدة أبدعت‬‫نظرية أو صنعت آلة يعتد بها في سد حاجات البشر‪ .‬فحتى الطب الذي هو أهم شيء في‬‫حياة البشر ما يزال أغنياء العرب وحكامهم ومافياتهم يتعالجون في الخارج ما يعني أن‬ ‫كليات الطب في بلادنا غير كفءة وعقيمة‪.‬‬‫ولو جمعوا كل ما ينفقونه في علاجهم بالخارج وجهزوا على الأقل كلية واحدة في كل بلد‬‫عربي تختص في بعض مجالات الطب لكان ذلك ربما يحقق شيئا يعتد به في مستوى الكفاءة‬‫العلاجية وفي مستوى الإبداع الطبي‪ .‬لكن القطاع مهمل وهو لا يتعدى مستوى المستشفيات‬ ‫الاستعجالية في حوادث الطرقات‪.‬‬‫وإذا كان لتونس والأردن بعض التقدم في المجال الصحي والطبابة والاستشفاء فلعل‬‫التفسير هو قرب العهد بالتعامل مع المؤسسات الغربية (فرنسا وانجلترا) وهو أمر بدأ‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪79‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يتضاءل منذ أن طغى الطابع التجاري على المصحات ولم يبق للبحث العلمي في الكليات‬ ‫الطبية الدور الضروري لتواصل التقاليد الطبية‪.‬‬‫وختما لهذا الوصف التشاؤمي لحال البحث العلمي في المنظومة التربوية سأكتفي بمثالين‬‫من مجال اختصاصي‪ :‬نوعان من أعراض هذا المرض‪ .‬النوع الاول يمثله الماركسيون‬‫العرب‪ .‬ليسوا إلا ببغاوات متلعثمة وعيية في النطق والفكر‪ .‬وهم مراهقو السياسة‬ ‫العربية‪ .‬ثم اللاهثون وراء الموضة المزعومة فلسفية‪.‬‬‫والمثال الأول لا يحتاج إلى شرح‪ .‬لكن الثاني لا بد من بيان خطره على الفكر عامة والفكر‬‫الفلسفي خاصة‪ .‬فالتعلق بما يسمى ما بعد الحداثة يحول الفلسفة إلى قضية التنافس‬‫البلاغي الذي لا يتجاوز الثرثرة حول الآراء المتعامقة وهو عندي من جنس الشعر الحديث‬ ‫الذي يخفي الجهل بفنيات الشعر عامة‪.‬‬‫وكذلك الأمر في الفكر الفلسفي‪ .‬فمن يجهل الشروط الأولى المتعلقة بالعلوم المساعدة ‪-‬‬‫أو علوم الآلة‪ -‬الفلسفية وأخلاق الفلسفة حبا للحكمة وتقيدا بطلب الحقيقة بصدق لئلا‬‫يقع في بريق الموضة لا يمكن أن يضيف شيئا للفكر عامة وللفكر الفلسفي خاصة‪ .‬ليس كل‬ ‫مهذار هلدرلين وليس كل ثرثار نيتشة‪.‬‬‫ادعاء التعامق في طلب الحقيقة تحامق‪ .‬وادعاء المزمارية في العبارة عنها تزميرية‪.‬‬‫هلدرلين فيلسوف ربي على صرامة المدرسة المثالية لصاحبيه (شلنج وهيجل) ونيتشه‬‫فيلولوجي من الدرجة الأولى وربي على صرامة نقاد المدرسة المثالية الألمانية وبالذات‬ ‫الناقدة لصاحبي هلدرلين كما هو معلوم‪.‬‬‫وهذه الشروط منعدمة في جامعاتنا ولا يمكن تعلمها بقراءة نصا أو نصين أو حتى جل‬‫النصوص المتعلقة بها‪ .‬فشتان بين الحكامة والعيش الفعلي لما تحكيه‪ .‬وإذا كانت الفلسفة‬‫من حيث آليات فكرها ومناهجها وخصائص علاجها كونية فإنها من حيث ظرف تكونها‬ ‫وتطورها بنت حضارتها وعرضيات وجودها التاريخية‪.‬‬‫وفي هذا المجال يمكن القول إن التركيب ‪ Greffe‬يولد رفض التقاليد الحضارية الحوامل‬‫بالمنظور المميز كما في الظاهرات العضوية التي ترفض ما يقحم فيها من أعضاء من كائن‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪80‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫آخر‪ .‬لكن آليات المنطق والرياضيات وكل العلوم التي هي أدواف في العلاج الفلسفي هو‬ ‫الكوني المتحرر من الفروق بين الحضارات‪.‬‬‫لذلك فأنت لما تقرأ نص من التقاليد الفلسفية الألمانية أو البريطانية أو الأمريكية تلحظ‬‫الفرق بين التقاليد من حيث المنظور الذي له طابع خاص بحضارة كل واحد منهما لكن آليات‬‫الفكر التي بمقتضاها يسمى فلسفيا واحدة حتى وإن غلبت أحيانا صيغها المختلفة من حيث‬ ‫تغليب التحليل أو التأويل‪.‬‬‫والخلاف مع اللاهثين وراء الموضة يتعلق بالخلط بين المستويين‪ .‬فيمكن أن تحاكي المنظور‬‫كما هي عادة المستوردين لكن إذا غابت المقومات التي تشترك فيها المناظير المختلفة في اسم‬‫الفلسفة فالأمر لا يجعلك فيلسوفا بل ببغاء‪ .‬الفرق بين السيارتين البيانية والالمانية لا يغير‬ ‫وحدة قوانين الميكانيكا‪.‬‬‫محاكاة الاسلوبين لن يصنع سيارة‪ .‬لا بد من علم الميكانيكا لتصنع سيارة يمكن أن تضفي‬‫عليها أسلوبا عربيا مثلا‪ .‬قوانين الميكانيكا كلية وكونية وأساليب المصنوعات بمقتضاها‬‫متغيرة بحسب المناظير التقليدية لكل حضارة‪ .‬وما لم نميز بين الامرين فنحن لا نعلم ما‬ ‫نفعل بل نكفي بالمحاكاة القردية‪.‬‬‫أظن أني وفيت مسألة الانتخاب التربوي بمستوييه تكوينا للكفاءات واستعمالا مركزا على‬‫العيوب والنقائص التي لا بد من تداركها شرطا في الاستئناف لأن علم السياسة عندي ذو‬‫وجهين‪ :‬نقدي لبيان العيوب التي تهدد كيان الجماعات ودولها وموجب هو هندسة الجماعات‬ ‫والدول وعلاج عيوبها ونقائصها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪81‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫نبدأ الكلام في النوع الثاني من الانتخاب بكلمة في المستوى الثاني من الانتخاب الأول‬‫وتعريف طبيعة دور الانتخابين بمستوييهما‪ .‬فالأول يتعلق بما يجعل الإنسان عنصرا مقوما‬‫للجماعة بوصفها كيان يحقق شروط بقائه بعمله على علم‪ .‬والثاني بما يجعله جزءا مقوما‬ ‫لتمثيل إرادتها سلطانها على نفسها‪.‬‬‫ويمكن إذن أن نقول بإيجاز إن الانتخاب الأول بمستوييه يتعلق بشروط الوجود والثاني‬‫بمستوييه يتعلق بشروط السهر على شروط الرعاية والحماية أو الانتظام الذاتي للجماعة‬‫أو بكون الجماعة تنتقل من كونها كيانا وجوديا يحقق شروط بقائه إلى كونها كيانا سياسيا‬ ‫يسهر على نظام رعاية ذاته وحمايتها‪.‬‬‫فيكون الانتخاب الثاني بمستوييه متعلقا بوعي الجماعة بذاتها وعيا يؤهلها لأن تكون ذات‬‫إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجودا كلها عائدة على ذاتها تسديدا وتوجيها بسلطانها على‬‫ذاتها‪ .‬تلك هي السياسة وهي في نسبة وعي الفرد بذاته بنفس هذه الابعاد وصاحبة سلطان‬ ‫على ذاتها‪ :‬المعنى الدقيق لموضوع الاخلاق‪.‬‬‫ومن ثم فالانتخاب الثاني بمستوييه لا يمكن تصوره من دون المرور بالانتخاب الأول‬‫وخاصة بمستواه الثاني‪ .‬ولذلك فكل من يتعاطى السياسة من دون أن يكون قد حصل في‬‫المستوى الأول من الانتخاب الاول ما يؤهله للنجاح في المستوى الثاني منه الذي يثبت أهليته‬ ‫بنتائجه سلامة تكوينه الفني والخلقي‪.‬‬‫ومن المفروض أن يكون النجاح في الانتخاب الأول بمستوييه شرطا للترشح والتنافس على‬‫الانتساب للانتخاب الثاني بمستوييه‪ .‬لكن ما يجري في بلاد العرب خاصة وبلاد الإسلام‬‫عامة كلا الانتخابين بمستوييهما مغشوش‪ .‬فلا نظام التكوين صالح ولا نظام الانتخاب في‬ ‫مستواه الاول عادل ناهيك عن مستواه الثاني‪.‬‬‫فالانتخاب الأول بمستوييه مبني على الوساطة والجاه‪ .‬والانتخاب الثاني بمستوييه مبني‬‫على أحد امرين‪ :‬إما على طبيعة الأنظمة العسكرية ودور الوساطة والجاه فيها أو على‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪82‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫طبيعة الأنظمة القبلية ودور الوراثة والوساطة والجاه فيها‪ .‬والعسكر هو نفسه بدأ يميل‬ ‫إلى إضافة الوراثة للوساطة والجاه‪.‬‬‫ومع ذلك فلا يمكن تصور أي جماعة من دون الانتخابين بمستويي كل منهما‪ .‬الفرق ليس‬‫بالوجود والعدم بل بقيمتي الكفاءة والأخلاق معيارين للمنتخب وبقيمتي الأمانة والعدل‬‫معيارين لمن يقوم بالانتخاب‪ .‬وبدون هذه الشروط الأربعة تصبح السياسة مناقضة لما‬ ‫ينبغي أن تكون عليه‪ :‬فبدل التعمير يحل التدمير‪.‬‬‫والجميع مرشح للانتخاب في المستوى الأول من الانتخاب الأول أي إن الجميع ينبغي أن‬‫يخضع للتكوين التربوي وينتخب على اساس التحصيل فيه ومثله في المستوى الثاني‪ .‬لكن‬‫من يقوم بالانتخاب في المستوى الاول هم من سميناهم بالقوابل السقراطية (سواء كانوا‬ ‫كذلك حقا أو وهما‪ :‬وهم المكونون والمربون)‪.‬‬‫أما من يقوم بالانتخاب في المستوى الثاني من الانتخاب الاول فهم الجماعة كلها وبالتدقيق‬‫أهل المهن والحرف والوظائف والخدمات في الجماعة الذين لهم مسؤولية هذه الاعمال‬‫وتقييم نتائج من ينتدب لها في تقسيم العمل في الجماعة‪ .‬وهذا هو الحكم المطلق سواء كان‬ ‫سويا فنيا وعادلا خلقيا أو لم يكن‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن كل الجماعات دون استثناء تمثل غربال مضاعف سواء كان سويا تقنيا‬‫وعادلا خلقيا أو لم يكن وبالغربلتين في النوع الأول من الانتخاب بمستوييه تتحدد الصفات‬‫العامة للجماعة والمنحنى التطوري لكينونتها صعودا في سلم التعمير ومضاعفة القوة أو نزولا‬ ‫في سلم التدمير ومضاعفة الضعف‪.‬‬‫ولهذه العلة سميت الانتخاب الأول بمستوييه متعلقا بالشروط الوجودية‪ :‬فالوجود قوة‬‫متنامية للتعمير والعدم قوة متضائلة للتدمير‪ .‬وكل جماعة تحيا بالأول وتموت بالثاني‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن المجتمعات التي لا يكون فيها الانتخاب الأول بمستوييه أمينا وعادلا‬ ‫مجتمعات انتحارية بوعي أو بغير وعي‪.‬‬‫ولهذه العلة فما يحدث في الانتخاب الأول بمستوييه رغم أنه وجودي يصبح في المجتمعات‬‫البشرية بخلاف المنطق المنتظر خاضعا لتأثير الانتخاب الثاني بمستوييه‪ :‬من هنا اعتبر ابن‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪83‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫خلدون فساد معاني الإنسانية ناتجا عن بعدي السياسة أي نظام التربية ونظام الحكم‬ ‫المفسدين لقيم الانتخاب الأول‪.‬‬‫السلطة السياسية ببعديها (سلطة التربية وسلطة الحكم) هي التي تغير المعايير‪ .‬فلا يبقى‬‫معيار الكفاءة الفنية ومعيار السلامة الخلقية المحددين للانتخاب بل يصبح معيار الوساطة‬‫والجاه هو الأساس في الانتخاب‪ .‬وبالتدريج يتراكم انعدام الكفاء وسقم الخلق في كيان‬ ‫الجماعة ودولتها‪ :‬التدمير الذاتي‪.‬‬‫وقد سبق فشرحت \"عبارة الشخص المناسب في المكان المناسب\" وأضفت المضمر فيها بمعنى‪:‬‬ ‫‪ .1‬من؟‬ ‫‪ .2‬ينتخب الشخص المناسب؟‬ ‫‪ .3‬لماذا؟‬ ‫‪ .4‬وفي ماذا؟‬ ‫‪ .5‬وما أهداف الانتخاب ومعايير‪.‬‬‫وفي هذه الإشكالية دور بالمعنى المنطقي‪ :‬المنت ِخب والمنت َخب واحد في الحقيقة أي الجماعة‬ ‫نفسها‪.‬‬‫ففي وضع الفاعل هي المنتخِب وفي وضع المفعول به هي المنت َخب وخاصة في المستوي الثاني‬‫من نوعي الانتخاب أعين أنها هي التي تقيم نتائج المستوى الأول من نوعي الانتخاب‪ .‬فهي‬‫تقيم حصيلة التربية وتقيم حصيلة الحكم‪ .‬فتكون هي الجانية على نفسها إذا قبلت بتغيير‬ ‫المعايير من صالحها إلى طالحها‪.‬‬‫وبعبارة وجيزة فكل الجماعات مبنية على الانتخاب حتى لو كانت فاشية أي أن ما يميز‬‫جماعة عن جماعة ليس وجود الانتخاب وعدمه بل نوعه وخصائصه التي تحددها معاييره‪.‬‬‫فإذا كان الانتخاب خاضعا لما بينا من القيم الموجبة كان معمرا وإلا فهو مدمر‪ .‬الفرق بين‬ ‫الجماعات انتخابيا هو بين المعمر والمدمر‪.‬‬‫والانتخاب الثاني بمستوييه يأتي إذن في العلاج السوي للتعمير بين النخب بأنواعها‬‫الخمسة بعد أن تكون قد برهنت بالمستوى الثاني من الانتخاب الاول نجاحا يؤهلها لأن تكون‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪84‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫من المترشحين للانتخاب الثاني مستواه الاول ومن بين هؤلاء يقع المستوى الثاني من‬ ‫الانتخاب الثاني‪ .‬لكن عندنا هو العكس‪.‬‬‫لأن من يشغل خانات \"مكنة\" الدولة التي هي ذات الجماعة العائدة على نفسها لتنظيم‬‫شروط بقائها رعاية وحماية لا يأتيها بالاعتماد على الانتخاب السوي بنوعيه الأول‬‫بمستوييه والثاني بمستوييه‪ .‬عندنا نوعان من الانتخاب غير السوي‪ :‬الوراثة في الأنظمة‬ ‫القبلية والغلبة في الانظمة العسكرية‪.‬‬‫لكن الأدهى من ذلك كله هو أن هذين النوعين من الانتخاب رغم طابعه الهدام لا يجري‬‫بمقتضى دينامية القوى الداخلية الذاتية للجماعة بل هو بدوره خاضع لسلطان خارجي‬‫يفرض من ينتخبه بمقتضى ما يعتبره خادما لمصالحه فلا القبائل ولا العساكر تختار بذاتها‬ ‫بل الحامي يختار بدلا منها من يخدمه أكثر‪.‬‬‫ولا يمكن أن يكون من يخدمه أكثر حريصا على مصالح شعبه لأن هدف المستعمر هو‬‫استعماله لتحقيق مصالحه على حساب مصالح الشعوب‪ .‬فيكون الانتخاب أكثر تهديما مما لو‬‫كان ناتجا عن دينامية القوى الداخلية حتى لو كان بالقيم المقلوبة‪ .‬هو إذن انتخاب قيمه‬ ‫مقلوبة مرتين خلقيا وسياسيا‪.‬‬‫فيكون الانتخاب الثاني بمستوييه فاسدا ومفسدا باستراتيجية نسقية وليس بالصدفة لأن‬‫المتحكم فيه يستعمله من أ جل منع الاستئناف بكل الوسائل والخطة هي \"ضرب الراس‬‫لتنشف العروق\" كمن يفسد الجهاز العصبي للجماعة (الدولة هي الجهاز العصبي) حتى‬ ‫تصبح فاقدة للمقومات الخمسة‪.‬‬‫وذلك على النحو التالي‪ :‬يفسد انتخاب نخبة الإرادة (الساسة) المشرفة على الانتخاب في‬‫المقومات الأربعة الباقية فتفسد نخبة العلم (الباحثون) ونخبة القدرة (الانتاج المادي‬‫والثقافي) ونخبة الحياة (الفنانون) ونخبة الوجود (نخبة المرجعيات الدينية والفلسفية)‬ ‫لتصبح الجماعة مطلقة التبعية‬‫والتبعية المطلقة روحية بالأساس‪ :‬تصبح النخب النافذة والمسيطرة على القرار دورها‬‫الاول والاخير هو التشكيك في الذات ورؤاها الوجودية دينية كانت أو حتى غير دينية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪85‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وجعل الحامي هو المثال الأعلى في كل شيء فتموت في الحضارة المستقلة كل ينابيع القيام‬ ‫الذاتي الحر في المقومات الخمسة‪.‬‬‫وقد جمع ابن خلدون ذلك كله في قانون سماه \"تقليد المغلوب للغالب\" في كل شيء ومن ثم‬‫قتل كل ما يميزه عنه لكأن دوره يتحول إلى الانتحار التدريجي لبعث الآخر فيه بديلا منه‪.‬‬‫ولعل عقدة التأصيلي أكبر من عقدة التحديثي‪ :‬فهذا يريد طي الصفحة وأخذ تراث الغير‬ ‫وذاك يبحث عن تراث الغير في تراثه‪.‬‬‫بمعنى أن التحديثي يطوي صفحة حضارته بوصفها ماضيا درس والتأصيلي يجعل الماضي‬‫نفسه خاضعا للغير بوصفه مثالا فلا يبقى ذا قيمة عنده في ماضيه إلى ما يظنه سبقا فيه‬‫على الغرب الذي صار مثالا يقيم به كل شيء في ماضينا لأن البحث عنه فيه يعني كل ما‬ ‫ليس مثله لا قيمة له عند هذا الباحث‪.‬‬‫وإذن فكلاهما ينطبق عليه قانون ابن خلدون‪ .‬والتأصيلي أخطر من التحديثي لأن هذا‬‫يعتبر الماضي مغايرا لكنه يظنه قد مات فيقلب الصفحة ويتبنى صراحة تراث من صار عنده‬‫المثال الأعلى‪ .‬لكن التأصيلي يدعي رفض ذلك فيفعل أكثر منه لأنه يجعل الماضي نفسه‬ ‫مغتربا لأن يقيمه بما يتصوره مماثلا لحاضر الغير‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪86‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولأختم القسم الثاني من المحاولة بالتأويل الفلسفي لما قدمناه في تعريف علم السياسة‬‫ليس بوصفه أداة تحليل للأحداث السياسية فحسب بل بوصفه هندسة بناء الامم والدول‬‫ومعرفة قوانين تطورها الموجب والسالب بوصفها كائنات حية ذات وجود مضاعف‪ :‬كيان حي‬ ‫عائد على نفسه وينظم وظائفه بوعي استراتيجي‪.‬‬‫ولهذا الكيان بمستويي وجوده ككيان حي وكوعي عائد على الكيان لينظم عمله على علم‬‫ما يشيه وجها جانوس‪ :‬فهو مثل الفرد له التفاتان لذاته ولما يحيط بيها بالتساوق في المكان‬‫وبالتوالي في الزمان ما يعني أن كل جماعة مهما كان صغيرة وجودها ليس مقصورا عليها بل‬ ‫هو يشمل الإنسانية والعالم كلهما‪.‬‬‫ومشكل المشاكل في الداخل والخارج هو عسر التمييز بين الكلي والجزئي أو بين الكوني‬‫والخصوصي‪ .‬ففي الجماعة غالبا ما يخلط ذلك مع التمييز بين إرادة الاقوى وإرادة‬‫الأضعف في داخلها وفي خارجها أو في علاقة الأفراد داخل الجماعة وفي علاقة الجماعة‬ ‫داخل المعمورة‪ :‬فيضيع الفرق بين القيم ونقائضها‪.‬‬‫ففي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود يصبح ما يريده الأقوى ويعلمه ويقدر عليه‬‫ويحياه ويوجده هو الكلي والكوني والجزيء هو ما يريده الضعيف ويعلمه ويقدر عليه‬‫ويحياه ويوجده‪ .‬وعندئذ نجد أنفسنا أمام قانون الطبيعة (علاقة القوى بعضها بالبعض)‬ ‫وقانون الشريعة (علاقة القيم بعضها بالبعض)‪.‬‬‫ففي موقف التأصيلي والتحديثي من علاقة التراث الذاتي بتراث الغالب الفائدة الضمنية‬‫التي تستنتج من الموقفين هي حكم خفي بأن الكلي والكوني هو صفات تراث الغالب والجزئي‬‫والخاص تثله صفات تراث المغلوب‪ .‬فيكون كلاهما قد تخلى نهائيا عن تراث الذات إذ‬ ‫التأصيلي يحتكم إلى تراث الغير في طلب السبق‪.‬‬‫ويكون كل ما يدعيه سبقا لتراثه بمعيار تراث الغير هو في الحقيقة لتبرير تبنيه تراث‬‫الغير وليس سبقا حقيقا وهو نوع من خداع النفس‪ .‬وبدلا من المنازعة في أيهما اولى بأن‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪87‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يعتبر ممثلا للكلي والكوني يسلم بأنهما حتى في تراثه يقاسان كسابق عند الذات بما هو‬ ‫لاحق عند الغير‪ .‬والعلة غياب الإنساني‪.‬‬‫والإنساني الكلي قد لا يكون حاصلا عند أي من الفريقين‪ :‬فلا نحن نمثل الكلي ولا غيرنا‬‫بل الكلي مثال أعلى كلانا يسعى إليه فيكون المطلوب معرفة من منا سعيه ذو توجه صحيح‬‫نحو الكلي والكوني القيمي المناسب لرؤية تنطلق من مفهوم الإنسان وما يناسب تحقق‬ ‫مقوماته الخمسة‪.‬‬‫وتلك هي علة وضعي لنظرية المقومات أساسا لتصنيف النخب والقيم وهي مستعارة من‬‫نظرية الذات والصفات الذاتية في علم الكلام الإسلامي التي هي اسقاط معكوس‪ :‬فالمقومات‬‫هي صفات إنسانية نسبية والكلام ظنها صفات إلهية مطلقة بمنطق قياس الغائب على‬ ‫الشاهد‪ .‬لكني عكستها بالصورة التالية‪.‬‬‫ولم يكن ذلك إلا تعميما لنظرية ديكارت أو دليله على وجود الله‪ :‬فهو يقول إني أدرك‬‫أني أعلم وأن علمي نسبي‪ .‬والنسبي متضايف مع المطلق وإذن فإدراكي لأحد المتضافين‬‫يقتضي إدراك الثاني‪ .‬ولما كان النسبي لا يعلل المطلق فإن المطلق الذي أدرك غيابه في هو‬ ‫علة النسبي في‪ :‬أنا النسبي والله المطلق‪.‬‬‫وهو استدلال لا يقيس الغائب على الشاهد بل بالعكس ينفي ذلك لإن الإطلاق متضايف‬‫مع النسبي دون أن يكون المضمون في المتضايفين من طبيعة واحدة لأن صفات الله ليس من‬‫الغائب بل هي من الغيب والغيب ليس غائبا بمعنى عدم الحضور المؤقت بل هو دائم الحضور‬ ‫ومطلق اللامعلومية المضمونية‪.‬‬‫أعلم أني مريد وعالم وقادر وحي وموجود وأن ذلك كله في ليس مطلقا ولا متناهيا بل‬‫نسبي ومتناهي وأعلم أن علم ذلك متضايف له صفات ليست نسبية وليست متناهية بل هي‬‫مطلقة‪ .‬لكن ما مضمون هذا المطلق ذلك ما لا اعلمه‪ .‬أومن به ولا أعلمه كما أومن بوجود‬ ‫الحقيقة المطلقة ولا أعلمها‪.‬‬‫وكل حقيقة ذات وجود قائم بذاته أعلم وجودها دون إحاطة مهما عمقت علمي لان‬‫وجودها من حيث هو وجود لامتناهي الفرق بينه من حيث هو قائم بذاته خارج ذهني وبين‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪88‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫تصوري له في ذهني‪ .‬تصوراتي مهما تعمقت وتتدققت تبقى دائما رؤية خارجية بالقياس‬ ‫إلى ذات الشيء في الاعيان‪ .‬وما فيها لا يرد لما في الأذهان‪.‬‬‫والخلاف بين كنط وهيجل مداره نفي الرد عند الاول والقول به عند الثاني‪ .‬وكلاهما‬‫على خطأ‪ .‬فنفي الرد لا يعني أن المعلوم مجرد ظواهر الشيء بل هو ما يقبل العلم من‬‫الوجود والرد مشروط بقول ضمني يعتبر ما لا يرد من الوجود هو الظاهر أو العرضي‬ ‫فينفي تعالي الوجود عن العقل والعلم‪.‬‬‫فلكأن هيجل يقول إن ما نعلمه من الوجود هو الوجود وما نتصوره غير قابل للعلم منه هو‬‫من أوهامنا وهو ما يفهم من المفهوم الكنطي الحد ‪-‬الشيء في ذاته‪-‬ونفي هذا التعالي المميز‬‫بين الوجود والعقل عند هيجل يذهب بعيدا لأنه ينفي وجود ماهناك وراء ما هنا أو يعتبر‬ ‫العالم الشاهد هو العالم الوحيد‪.‬‬‫فتكون فلسفته في الحقيقة ارسطية غالية‪ .‬ذلك أن أرسطو نفى المثل الافلاطونية‬‫واعتبرها صورا محايثة وهي عند هيجل حقيقة الوجود‪ .‬لكن ارسطو أبقى على مثال‬‫أفلاطوني واحد على الأقل في نظرية الربوبية (المقالة ‪ 12‬أو اللام من الميتافيزيقا) التي‬ ‫لا تحل في العالم بل خارجه محركة بالجاذبية‪.‬‬‫وكل ما عداها متحرك بالانجذابية الناقلة للصورة الموجودة بالقوة في المادة من القوة إلى‬‫الفعل‪ .‬هيجل جعلها بإطلاق دافعية في المادة غنية عن محرك مفارق وهي كامنة في كل‬‫موجود وخاصة في الإنسان‪ .‬والرؤية القرآنية تجمع بين الرؤيتين الارسطية والهيجلية‪:‬‬ ‫جاذبية الرب الواحد ودافعية كل موجود‪.‬‬‫وهما وجها مفهوم الفطرة والخلقة‪ :‬فليس بالصدفة أن نسبها القرآن إلى الله الفاطر‬‫وليس إلى الإنسان المفطور‪ :‬فطرة الله التي فطر الناس عليها‪ .‬لكن الرسالة الخاتمة‬‫اعتبرت الفطرة في الإنسان قائمة والرسول دوره إزالة النسيان الذي أغفل الإنسان عنها‬ ‫وهو معنى التذكير‪.‬‬‫فتكون الفطرة في الإنسان دافعة ويكفي إزالة النسيان عنها حتى تلتقي الدافعية مع‬‫الجاذبية وهو معن الديني في كيان الإنسان‪ .‬لكن هذه المقارنة بين الرؤية الفلسفية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪89‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والرؤية الدينية للعلاقة بين المحايث والمفارق هي لتقريب المعاني ولا تعني أن إحدى‬ ‫الرؤيتين متأثرة بالأخرى‪ :‬هما الكلي بأسلوبين‪.‬‬‫ما يحصل في نسبة الكلي للغالب ليس تحقق للكلي بل نفي تعدد الأساليب وجعل جزيء‬‫الغالب وكأنه كلي ما يضيق آفاق الإنسانية فيؤول إلى الموقف الهيجلي الذي يجعل التاريخ‬‫الإنساني من جنس التاريخ الطبيعي الحيواني وإن سماه صراع أرواح الشعوب كل روح‬ ‫غالب يلغي غيره من الأرواح‪.‬‬‫ولا دليل على أن الروح الغالب إن قبلنا بهذه الرؤية هو الأكثر كلية إلا إذا سلمنا بأن‬‫الغالب هو الافضل وهو الأسمى‪ .‬ولكن في هذه الحالة يكون الأفضل والأسمى هو الأغلب‬‫وهو بنحو ما أشبه بنظرية داروين بمعنى أن يما يقوله عن الانتخاب الطبيعي قانونا للتطور‬ ‫العضوي يصلح قانونا للتطور الخلقي‪.‬‬‫فيكون ما نراه من قتل الانواع النباتية والحيوانية والتعدد الثقافي واللساني والتقاليد‬‫الحضارية والتنوع العرقي والديني كل ذلك بسبب سبب هذا القانون تطورا خلقيا لكأن‬‫المعيار الخلقي يتطابق مع معيار القوة ولا يكون جديرا بالوجود إلا العنف والاقتتال بين‬ ‫الكائنات وهو جوهر الصراع الجدلي‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت قول الإسلاميين بما يسمونه التدافع هو بدوره من جنس ما وصفت‪:‬‬‫تبني ما يحصل عند الغالب والاكتفاء بتغيير الاسم كما يحصل في ما يسمونه البنك الإسلامي‬‫الذي لا يقل ربوية عن البنك العادي ولا يختلف عنه إلا بالأسماء وبالعائق الاقتصادي‬ ‫بفرض الدمج بين التمويل والاستثمار‪.‬‬‫لكن القرآن مبدؤه أن التعدد والتنوع من آيات الله وهو يشجع عليه حتى في الأديان‬‫والشرائع والمناهج (المائدة ‪ )48‬بحيث إن الثراء في كل شيء والتسابق في الخيرات شرطهما‬‫التعدد والتسامح بين المتعددات في النوع الواحد من النبات إلى الإنسان وهو يرفض‬ ‫النمطية وقانون الغلبة بين المخلوقات‪.‬‬‫وهو ما يعني أن الكلي القيمي يمكن أن يتعين في الجزئي الوجودي وهما لا يتطابقان‪ .‬لكن‬‫الخلط بينهما يجعل الأبيض مثلا يتوهم ما يجعله يقضي بأن الاسود متخلف لسواده والمسلم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪90‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫إرهابي لإسلامه ويستنتج أنه مكلف بمهمة القضاء عليهما وفرض نمط حياته فتتضاعف‬ ‫العنصرية العضوية بالعنصرية الحضارية‪.‬‬‫وأساس هذه الامراض الروحية والخلقية هو اعتبار الجزئي الغالب كليا والخلط بين‬‫الوجودي والقيمي وهو ما يسماه ابن تيمية برد المنشود إلى الموجود أو اعتبار الموجود ليس‬‫ممكنا حصل بل هو الواجب فينتهي الأمر إلى نفس الحرية من أصلها ويصبح الامر الواقع‬ ‫هو الامر الواجب دون مسافة بينهما‪.‬‬‫ولأن الشباب بجنسيه اعتمد في ثورته بيتي الشابي شعارا لثورته فقد قام بثورة روحية‬‫وهي أسمى من مجرد الثورة السياسية أو الغضب من الظلم الاجتماعي‪ .‬فهو أدرك المكبل‬‫الجوهري في حضارتنا‪ :‬قبول سلطان القوة الذي هو أمر واقع أمرا واجبا بحجة قضاء الله‬ ‫وقدره‪ .‬وهو أمر مناف تماما لرؤية القرآن‪.‬‬‫فخاصية الله القرآنية تشبه الجمع بين رؤية أرسطو ورؤية هيجل في آن‪ :‬فالله واحد‬‫ومطلق المفارقة دون لا مبالاة إله أرسطو بالعالم لكنه محايث ومطلق المحايثة دون مخالطة‬‫هيجل‪ .‬هذه الخاصية جعلت أصحاب وحدة الوجود يقعون في خطأ المخالطة وأصحاب تعدده‬ ‫في اللامبالاة الخلقية‪.‬‬‫واللامبالاة الخلقية هي التي لإبرازها رد ابن تيمية على ابن عربي بأنه لا يميز بين‬‫المنشود والموجود أوبين الأكسيولوجي والابستمولوجي فيكون الحاصل هو ما ينبغي أن‬‫يحصل ويعتبرون ذلك هو القضاء والقدر فينفون أساس كل القيم أي الحرية ولا يبقى إلى‬ ‫القانون الطبيعي والضرورة‪.‬‬‫وذلك ما يسميه كل المستسملين للأمر الواقع \"إكراهات سياسية\"‪ .‬والاستسلام للأمر الواقع‬‫رد للأمر الواجب إلى الأمر الواقع فيكون ذلك في الحقيقة تخليا عن الحرية وما ينبني عليها‬‫من قيم هي جوهر الإرادة التي تسعي بالعلم للحصول على القدرة الحرة فتغير الأمر الواقع‬ ‫بمقتضى الأمر الواجب‪.‬‬‫وهذا الفرق بين الامر الواقع أو الموجود ‪ Etre‬والأمر الواجب أو المنشود ‪ Devoir être‬هو‬‫الجهد الخلقي أو الجهاد الخلقي المتمثل في الصمود أمام القوة المادية وذلك هو جوهر القوة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪91‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الروحية التي سرها الحقيقي هو جمال الحياة وجلال الوجود‪ .‬السياسة من دون هذه القيم‬ ‫خضوع للأمر الواقع وليست تحررا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪92‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪93‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook