كيف نقوم أثر الأعلام بالتاريخ المديد؟الأسماء والبيان
أما وقد هدأت الزوبعة التي ثارت حول الرئيس بورقيبة بين مستغليه ومستغلي خصومهسياسيا فإن الكلام عليه يمكن ان يعود إلى معايير تقويم أثره التاريخي .وقد سبق لي أن تكلمت عليه أربع مرات اثنتين بالكتابة واثنتين شفويتين.وقد رأيته عن قرب مع عبد الناصر وبن بلة في بنزرت وتكلمت عن ذلك أول مرة سنة .2004كانت نوازع شعوري الغائم قد اجتمعت فيهم ممثلين للتحديث (بورقيبة) ولثورة التحرير (بن بلة) وللطموح العربي (عبد الناصر) :لم أكن اميز بين ظاهر وباطن.وكانت الثانية بمناسبة جائزة رئاسة الجمهورية في الباكالوريا في ساحة دار المعلمين العلياسنة .1966ومن جنسها مرة أخرى بمناسبة جائزة الإجازة سنة .1969ففي الحقيقة الثانيةوالثالثة من طبيعة واحدة ولذلك تكلمت على مرتين لا على ثلاث .وكان كلامي عليهما شفويا في حصص متلفزة.بقيت المرتان الكتابيتان سابقة وهذه .والسابقة هي التي لخصت فيها طبيعة موقفي منرؤساء تونس الخمسة :من بورقيبة إلى السبسي مرورا بابن علي والمبزع والمرزوقي دون تقويم لأثر البورقيبية في التاريخ.لذلك سأخصص هذه المرة الرابعة في الجملة والثانية كتابيا لهذا الغرض .وطبعا لا ينبغيأن يكون الكلام تعبيرا عن موقف لا يتجاوز أحوال النفس .ولا بد من البدء بتحديدمعايير تقويم أثر الأعلام في التاريخ حتى لا يكون الحكم على نواياهم بل على أفعالهم وعلاقتها بأقوالهم عبارة عنها.ولو كان الكلام مقصورا على تقويم أثر بورقيبة وحده لكانت المسألة محلية ولما كلفتنفسي جهد الكتابة في المسألة .همي يتعدى تونس لأني لا أنشعل بالأقطار بل بالأمة وبالذات تلك اللحظة العربية الإسلامية التي تحدد فيها دور البورقيبية. 71
لذلك كان أول كلام لي على بورقيبة في حادثة عشتها شابا بمناسبة حفل تحرير بنزرتسنة 1963بحضور بورقيبة وابن بلة وعبد الناصر :وهم رموز خاصية اللحظة .والمعلوم أنيلست مؤرخا كما أن كلامي يتجاوز أحوال النفس -وذلك ما لم يتجاوزه من تكلموا له أو عليه في هذه الزوبعة.كلامي يتعلق بفلسفة التاريخ المديد لتحديد دلالة اللحظة التي يمكن بالقياس إليهامعرفة دور البورقيبية وما يجانسها .فهذه اللحظة من التاريخ المديد هي اللحظة التي فتحتبسقوط الخلافة بعيد الحرب العالمية الأولى والشروع في الشكل السياسي الحديث (الاحزاب) وختمت بثورة الشباب والشروع في الشكل الثوري الحديث (الشعوب).وقد عايشت جيلين فشلا في تحقيق الصلح بين التأصيل والتحديث .اللحظة التي أتوجهلأصحابها حاليا -شباب الثورة بجنسيه-تجاوزت التداول بين هذين الجيلين اللذينعايشتهما إلى التساوق بين آثارهما تساوقا آل في المجمل إلى الحرب الاهلية .وهذه الحرببلغت ذروتها في قطري الخلافة الأوسطين وهي تسعى إلى توريط قطري الخلافة الأول والأخير في حرب واضحة الهدف :منع الاستئناف.من ينكر أن العرب خاصة والمسلمين عامة يعيشون حربا أهلية بسبب فشل المصالحة بين التأصيل والتحديث؟من ينكر أن هذا الفشل لا يمكن أن يقتصر تفسيره على رد حقيقة اللحظة إلى تضخيم دور العامل الخارجي.والـمعلوم أن مفهوم التاريخ المديد موضوعا لفلسفة التاريخ مفهوم وضعه ابن خلدونعندما اعتبر التاريخ الكوني مؤلفا من لحظات مديدة يفصل بينها انقلاب كيفي شاملواعتبر المقدمة محاولة في صوغ اللحظة التي يعتبرها نهاية حقبة سابقة وبداية حقبة لاحقة.لا يمكن الكلام على بورقيبة وأمثاله في الإقليم من دون تحديد طبيعة اللحظة التي عملفيها وترك أثرا هو ما ينبغي تقويمه للحكم له أو عليه .وحتى أيسر تعريف اللحظة التي 72
ختمت لحظة بورقيبة وأمثاله-لحظة نتجت عن ثورة الشباب-فيمكن أن أقول إنها لحظة استبطنت فيها الأمة صدام الحضارات وأدركت ضرورة تجاوزه.الحرب الأهلية العربية والإسلامية الحالية حرب اهلية تجمع بين الفتنة الكبرى (سنةشيعة) والفتنة الصغرى (علمانية أصولية) بصدام حضاري داخلي .والصدام الحضاريصدام مع الإسلام ومحاولات التبرؤ من حضارته وتراثه وقيمه :إما بالسعي لإحياء ما تقدمعليه (علة الفتنة الكبرى العميقة) أو لاستنبات ما تأخر عنه (علة الفتنة الصغرى العميقة).فبؤرة صدام الحضارات داخلية بعد أن استبطنت هذين الخروجين على الإسلام إما بماتقدم عليه (علة الفتنة الكبرى) أو بما تأخر عنه (علة الفتنة الصغرى) تأسيسا للدولالقطرية التي هي محميات غربية أنشأها الاستعمار أو لإحياء امبراطوريات متقدمة على الإسلام كسروية أو صهيونية أو أرثودوكسية.لحظة الحرب الأهلية العربية بين نخب الأمة ليست سياسية فحسب بل هي حضاريةكذلك :ليست حربا لخلاف حول برامج سياسية بل حول محددات كيانية أعمق .إنها صدامحضاري إما بين الإسلام وما تقدم عليه (قبل الفتح) أو بينه وبين ما تأخر عنه (بعد الاستعمار) :حرب تهدف لإلغاء ما بين السابق واللاحق.والحرب الأهلية الداخلية بوصفها صداما حضاريا داخليا تجري في مناخ حرب أهلية كونيةهي صدام حضاري مع ما يعتبر أهم عائق للتنميط العالمي :الإسلام .واللحظة التي تحددخصائص البورقيبية تتنزل بين بداية نهاية التأصيل (حركة النهضة والتحرر من الاستعمار) وبداية نهاية التحديث (الموروثة عن الاستعمار) :مشتركة لكل الأقاليم.وخصائص هذه اللحظة تبين أن الكثير مما ينسب إلى البورقيبية ليس خاصا بها بل هومن خصائص اللحظة في مجالات الإرادة (السياسة) والمعرفة (الثقافة النظرية) والقدرة (الاقتصاد) والحياة (الثقافة الفنية) والوجود (رؤى العالم).وقد تعينت صفات هذه اللحظة في النخب ممثلة الإرادة (السياسيون) والمعرفة(العلماء)والقدرة (الاقتصاديون) والحياة (الفنانون) والوجود (الرؤى). 73
فماذا حدث بين سقوط الخلافة وثورة الشباب؟ أثر البورقيبية يتحدد بخصائص اللحظةالتي عرفناها بالتداول بين جيلين التأصيلي الذي قاد حرب التحرير والتحديثي الذي نصبه الاستعمار لإفشال التحرير الحضاري.وقد انتهى الأمر انتهى إلى الحرب الاهلية الحالية .وبخلاف السائد فالبورقيبية أقربمن اليوسفية إلى فكر جيل التأصيل لميله إلى التحديث الغربي التقليدي ورفضه المعسكر الشرقي والقومية العربية.فحركة الثعالبي لا تختلف كثيرا عن حزب الوفد المصري والتحديث في إطار الغربالتقليدي لم يكن يدعي الثورية والقطع معه تربية وحكما وتسييسا .والجامعات المصريةعلى سبيل المثال قبل الناصرية كانت في علاقة وطيدة بجامعات الغرب عامة وفرنسا خاصة وعلى نفس المنوال سعى بورقيبة في تونس.وكذلك واصل المغرب الاقصى وليبيا السنوسية .ومن ثم فالجزائر بسبب ظروف المقاومةكانت خيارا شاذا في تلك اللحظة خيارا تابعا للناصرية والمعسكر شرقي ولا يندرج في حركة التحرير التقليدية كما في مصر وتونس قبل عبد الناصر.فبين سقوط الخلافة وثورة الشباب اتصفت اللحظة بتضاؤل دور خيار التأصيل وسيطرخيار التحديث بنخب ذات حداثة سطحية تخلت عن الأول دون شروط الثاني .والنتيجةهي تحديث مستبد فرض تغييرا سطحيا عنيفا في السياسة والمعرفة والاقتصاد والفنون والرؤى وبقي العمق الثقافي والاجتماعي بطيء التغيير ومديده.وما حدث في الحقيقة هو إنشاء فترينات حداثية في تعابير ثقافية واجتماعية لقلة غيرتالأنظمة التي كانت أقرب لوجدان الشعوب بنزعة ثورية سطحية .فكانت الانقلابات فيتونس ومصر والعراق وسوريا وليبيا إلخ بدعوى بناء أنظمة جمهورية لم تضف إلى عدم الشرعية التقليدية ومن ثم الحاجة إلى العنف.فهذه البلاد كلها كانت ملكية شبه دستورية أي إنها لم تكن مطلقة مثل بدائلها الجمهوريةالمتأثرة بفاشية ما بين الحربين غربية كانت أو شرقية .ولما تضاعف ذلك بسبب التقابل بين 74
النموذجين السوفياتي والرأسمالي والاحتماء بالقوتين العظميتين تضاعفت عناصر التبعية في المجالات الخمسة.وبدأت ارهاصات الحرب الأهلية بين انظمة الإسلام التقليدي والغرب التقليدي من جهةوأنظمة الانقلابات العسكرية التي تدعي الثورية الاشتراكية .ولذلك فالمقابلة بينالبورقيبية واليوسفية ليست مقابلة على أرضية الإسلام بل هي مقابلة على أرضيةالمعسكرين ونموذجي التحديث الغربي الرأسمالي والشرقي الاشتراكي .والدليل القاطعأن بورقيبة كان حليف الإسلام التقليدي ضد الأنظمة التي تدعي القومية الناصرية والبعثية رغم موقفه الأتاتركي من الماضي الإسلامي.لكن المعيار الأوضح هو ما يستنتج من المآلات :فمآل السياسة البورقيبية أنتج ظاهرتينعجيبتين :دور شباب تونس في ظاهرتي رمز التحديث والتأصيل؟ فثورة الشباب انطلقت منتونس ونسبتهم في الحركات الجهادية إلى جميع أقطار الأمة هي الأكبر وهما ظاهرتان تبدوان متناقضتين لكنهما من نفس الطبيعة.ولعل وجه الشبه بين البورقيبية والأتاتركية في هذه المآلات أهم من وجه الشبه فيالبدايات :من ذلك عودة تركيا إلى التأصيل بعد سطحية التحديث .ولولا اختلاف الحجمينلكانت نسبة تونس الحالية إلى اللحظة التي نصف عين نسبة تركيا إليها :ففيهما ستحسم معركة التأصيل والتحديث بسياسة سلمية.كلتاهما تعيد الامة إلى التوازن بين التأصيل والتحديث فتعتبران شبه استثناء حول مابينهما من أقطار تمر بحرب أهلية لها نفس غاية الثورة الشبابية .فالثورة جمعت بينالمطالب الحداثية (الحرية والكرامة) والمطالب التأصيلية (الهوية والسيادة) ومن ثم فهي تحيي في الأمة شرط الطموح الامبراطوري.فبالتحديث يكون المطلوب التحرر من الاستبداد والفساد داخليا وبالتأصيل يكون المطلوبالتحرر من الاستضعاف والاستتباع :وشرطهما هو شرط السيادة .ومن ثم فنحن قد وصلناإلى لحظة الحسم في الفتنتين اللتين لهما نفس الإشكالية :كيف تكون الدولة محققة لشروط الحماية والرعاية نظاما وحجما؟ 75
والجامع بين النظام (لتحقيق الحرية والكرامة) والحجم (لتحقيق السيادة حمايةورعاية) هو التحرر مما بدأت منه المرحلة ومما انتهت به وتجاوز لحظتها .وقد فهمت الثورةالمضادة وسندها الغربي ذلك :فأعلنوا الحرب على السنة العربية والتركية بتجنيد الفرس والكرد وتشويه الإسلام السني وثرة الشباب.وما يسمى البورقيبية المحدثة (النداء والجبهتين والقوميين) ينتسبون إلى الثورةالمضادة وحاميها الاستعماري والاسرائيلي وأداتيهما الفرس والكرد .ولذلك فحربهم هيحرب على الإسلام وعلى ثورة الشباب وتركيا وقلة من سنة العرب يحاول مساعدة ثورة الشباب في الهلال (لأنهم ما زالوا في حرب اهلية)الانقلاب الأخير على تركيا (أمريكا وإسرائيل وإيران والأكراد) فشل لكنه متواصلعسكريا (مع الأكراد) واقتصاديا (مع أوروبا) مثل غاية الحرب الأولى .ذلك أن الغربيعلم أن العرب فقدوا الطموح الامبراطوري من قديم وأن الأتراك هم الذين واصلوا طموح الإسلام الامبراطوري شرط العظمة والمناعة.وتركيا تعلم أن العرب لن يستردوا هذا الطموح حتى تتحالف معهم فيجتمع ما به بدأالإسلام وما به صمد في التاريخ من دون نجاح ثورة الشباب الحالية .فيكون أثر البورقيبيةالإيجابي مثله مثل الأتاتوركية النتيجة السلبية لمشروعهما :فبغلوهما في التحديث السطحي مكنا شعبيهما من الوعي الدقيق بإدراك الحل.التردد بين الغلوين التأصيلي والتحديثي كان ينبغي أن يصل إلى لحظة الحسم لتحقيقالقيم المشتركة بين الحداثة والأصالة :مطالب الثورة وشروطها .وهذه الشروط التيينبغي تحقيقها هي المطالب المباشرة للثورة على الاستبداد والفساد داخليا وغير المباشرة على الاستضعاف والاستتباع خارجيا.والمطالب المباشرة هي جوهر الحكم الديموقراطي والمطالب غير المباشرة هي شر طالسيادة التي شروط القدرة على حماية الأمة ورعايتها الذاتيتين .وهذه الشروط المباشرةوغير المباشرة هي ما يقتضي السياسة الحديثة للجماعة والحكم الكافي لتحقيق المناعة :من هنا ضرورة الخروج من لحظة بورقيبة. 76
لحظة بورقيبة وأمثاله تبينت خصائصها بمآلها :فمآلها تحقق ذروة الاستبداد والفساد(ابن علي مبارك بشار إلخ )...وذروة الاستضعاف والاستتباع .فكانت الثورة على الأولينمباشرة ثم أدرك الثوار شرطهما أعني الثورة على الثانيين وقد شاركتها في ذلك الثورة المضادة وحماتها في الإقليم والعالم.والحماة في الإقليم هم إيران وإسرائيل والثورة المضادة هم ممولوا الانقلابات والتعثيرالذي جعل الثورة تتحول إلى حرب أهلية غايتها استئناف الدور .وإذن فأهم أثر للبورقيبيةوالأتاتركية بالنموذج الغربي التقليدي-ومثلهم كل الانظمة العسكرية بالنموذج الشرقي التقليدي -هو نقيض ما سعيا إليه.ومن ثم فهما -ومثلهما الأنظمة العسكرية والقبلية العربية-يمثلان غاية اللحظة التيحاولت تحديدها بوصفها الإطار المديد والمعيار الدقيق للتقويم .لا يهمني بورقيبة ولاأتاتورك ولا الأنظمة العسكرية والقبلية العربية بل ما يهمني هو الإطار التاريخي العام بلغة ابن خلدون الذي يفهمنا أثرهما.وهذا الإطار هو العلاج السطحي الذي لم يستطع رغم كل جهده القضاء على أعماقثقافة الشعب وسعيه للتحرر من الاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع .إن الاثر لايعود لا إلى بورقيبة ولا إلى أتاتورك ولا إلى الأنظمة العربية العسكرية والقبلية بل غايةمجريات معركة الاستئناف بين التأصيل والتحديث .وهذه الغاية التي لم يكن أحد يقصدهاهي ما تمخض عنه التخاصب التاريخي الكوني بين حضارتين :واحدة تستأنف دورها وأخرى تتلكأ في الاعتراف المتبادل. 77
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 14
Pages: