أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
المحتويات 1 61116212529
أعتقد أن شباب الثورة بلغ درجة تقتضي أن يلج مستوى أرقى من شروط الثورة الفكرية التي تؤسس للتغيير الثوري الواعي بشروطه وأهدافه عملا على علم.وهوما يقتضي أن يفهم علة إبرازي دور المدرسة النقدية في الفلسفة العربية ممثلة بالغزالي وابن تيمية وابن خلدون ومحاولاتهم كشف علل انحطاط الأمة.ذلك أنهم ثلاثتهم يعتبرهم أدعياء الحداثة (وخاصة الاولين) علة الانحطاط والتخلف أعني عكس حقيقتهم تماما لخلطهم بين الحداثة وصورتها الاستعمارية.ذلك أن أدعياء الحداثة هم دواعش التحديث المستبد مثلما أن أدعياء التأصل هو دواعش التأصيل المستبد .كلاهما وثن القيم وردها إلى شكلها الميت.وسأبدأ بحثي بما يشبه الملحة :فكثيرا ما تسمعون المثقفين يرددون \"الحكم على الشيء فرع عن تصوره\" .وهذه الجملة من علامات الفكر المنطقي التقليدي.فأولا هذه الجملة تخلط بين دلالتها الإنشائية ودلالتها الخبرية .فإنشائيا هي تعني أن الحكم الصحيح على الشيء ينبغي أن يسبقه تصوره الصحيح.وإهمال هذا الوجه الإنشائي وتوهم الجملة خبرية يهمل شروط الوصول إلى التصور الصحيح. وما أن ندرك الفهم الإنشائي حتى نكتشف خطأ الجملة المطلق.ذلك أن التصور الصحيح لأي شيء لا نصل إليه إلّا بنقد الأحكام المسبقة المتعلقة به فيكون للحكم دلالتان :حكم سابق وحكم لاحق وبينهما التصور الصحيح.وبيان ذلك هو دور المدرسة النقدية التي أريد أن نفهم ما حققته من ثورات معرفية بقيت مجهولة بسبب الأحكام المسبقة اعتمادا على نظرية المطابقة.فلا وجود لتصور نهائي للشيء يمكن أن يتفرع عنه حكم نهائي على الشيء إلا إذا قلنا بنظرية المعرفة المطابقة :العقل مرآة عاكسة للحقيقة الخارجية.أولى ثورة غزالية لم يصغها في نهايات حياته -المنقذ -هي ما يمكن تلخيصه بهذه العبارة\" :طور يكون للعقل ما العقل للحس \"مفهوما حدا لقدرة العقل. 32 1
وهذا الطور نفكر في إمكانه ولا نعلمه وهو مفهوم حد أفضل من مفهوم كنط الحد الذي يسميه الشيء في ذاته :لأن في هذا إضافة الحط من منزلة ما نعلم.الغزالي حد من وهم المعرفة المطلقة دون أن يحط من منزلة المعرفة الإنسانية .فالحد من قدرة العقل في علم الغيب لا ينفي قيمة علمه للشاهد من الوجود.فلنعد إلى الجملة الشهيرة حول الحكم والتصور ،ففيها رؤية للمعرفة شديدة البدائية تجاوزتها المدرسة النقدية وأسست لرؤية حديثة ظنت معادية للفلسفة.وهو ما يدل على أن أدعياء الحداثة ما زالوا يعيشون على نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة وبالعقل المرآة العاكسة لما يسمونه \"الواقع\" الموضوعي.وهذا بالذات هو ما سماه ابن تيمية القول بـ\"الإنسان مقياس كل شيء\" مع فهم أدنى من الفهم السوفسطائي الذي ينفي تجاوز العقل دون ادعاء المطابقة.ذلك أن السوفسطاية عندما تعتبر الإنسان مقياس كل شيء تحصر ذلك في الحد من قدرات العقل ولا تدعي أن ذلك هو حقيقة الوجود الموضوعي بل هي تنفي علمها.هي إذن دغمائية لا عقلانية .والدليل أنهم يتصورون المعتزلة وابن رشد عقلانيين رغم أنهما يقولان بالمطابقة بالعقل مرآة عاكسة لحقيقة الوجود.وتلك سذاجة نظرية المعرفة القديمة القائلة بالمطابقة وبشفافية الوجود وقدرة العقل المطلقة للنفاذ إلى حقيقته \"على ما هي عليه\" جملة أخرى ساذجة.والمدرسة النقدية تعتبر إدراك الوجود \"على ما هو عليه\" إن صح وجوده فلا يمكن أن يكون لغير الله :فالنفاذ المطلق للحقيقة يعني الإحاطة بكل شيء.ذلك أن اي شيء في العالم حتى المحسوس لا يمكن فصله عن كل أشياء العالم المحسوس ومن ثم فلا يعلم شيء علما مطلقا من دون علم كل شيء في العالم.وشرط الإحاطة في المطابقة والعلم باستحالتها لغير الخالق من أهم علامات وجود الغيب في كل موجود :ما نشهده منه لا يستوعب كل وجوده ولا يحيط به. فكيف ينبغي أن نفهم عبارة \"الحكم على الشيء فرع عن تصوره\"؟ تصوره هو بدوره حكم .فلكأننا قلنا الحكم على الشيء فرع عن الحكم الذي تصورناه به. فما الفرق بين الحكمين :الحكم الشارط للتصور والحكم المشروط به بماذا يختلفان؟ قبل أن نجيب فلنعد إلى تحليلات أرسطو الأواخر :ألم يقدم التصديق؟ وبتقديم التصديق الم يحدد نظرية الحكم قبل نظرية التصور؟ 32 2
وتصور الحدود في القسم الثاني من التحليلات الأواخر جعله حكما حدسيا لا حكما قضويا.والحكم الحدسي إدراك لماهيات الذوات وليس حملا للصفات على الذوات .من ثم فمقومات الماهية ليست صفات محمولة على موضوع بل هي مقوماته (جواهر ثانية).فالحكم الحدسي أو إدراك الماهيات غير الحكم القضوي أو إدراك الصفات التي تحمل على الذوات أو الماهيات سواء كانت صفات ذاتية للذات أو عرضية لها.وهذه النظرية في المعرفة المبنية على العقل المرآة العاكسة للوجود الشفاف هي ما تجاوزته الفلسفة النقدية لكن الغزالي عاد فتبنى الرؤية المشائية.وهذا يعني أن الماهيات ليس حقائق الأشياء بل هي تعريفات فرضية مؤقتة في حدود ما توصل إليه علم الإنسان الذي هو تاريخي ومتغير بحسب تدرج المعرفة.صحيح أن ذلك لم يكن بهذا الوضوح :فأي مكتشف لنظرية جديدة ليس بالضرورة مدركا لكل ما يلزم عنها رغم أن ما يلزم عنها هو ما من دونه لا نفهم نقده.ووظيفة الشارح هي استخراج لوازم قول مبدع النظرية ومن دون ذلك لا يتقدم الفكر .وابن خلدون مثلا مدرك لكونه يعتبر نفسه مؤسسا لعلم سيطوره غيره.المضمر من لوازم نظريات ابن تيمية كثير أولا لأن فكره العميق جاء في شكل ومضات شديدة الوضوح لكنها غير محررة لتبرز نظرية المعرفة التي تؤسسها.والثابت عندي أنها لا تقبل الإدراج في الفلسفة القديمة والوسطية بل هي قطيعة جذرية مع نظرية المعرفة بشكليها الأفلاطوني والارسطي :ثورة فلسفية.وسأحاول في كلامي على ثورته أن أتجنب قدر المستطاع استعمال الاصطلاحات التي قد لا تكون متداولة فتستعصي على الفهم رغم أنها ضرورية لفهم التجدد.فالتجدد المتعلق بنظرية المعرفة (ابستمولوجيا) وتحديد العلاقة بين قدرات العقل وحقيقة الوجود (انطولوجيا) هما ما تبرز فيه ثورة النظر التيمية.ومن جنسها ما حققه ابن خلدون في فلسفة العمل .وابن خلدون أكثر نسقية من ابن تيمية لكن ثورته دون ثورة ابن تيمية جذرية وهذه شارطة لتلك ضمنا.وعندما نتم دراسة ما حصل من تغيير في نظرية النظر ونظرية العمل وفي التصور والحكم إلخ.. سنكتشف أن كل ما كان يعتبر بديهيا مبني على وهم المطابقة.ولعل أكثر ما يبدو بديهيا كالجواهر الثواني والفرق بين الأعراض أحكام مسبقة وحتى مبادئ العقل إلخ ..فالأولى علامات تعريف والثانية فرضيات عمل. 32 3
فلا فرق بين الصفات التي تمكن من الرسم والجواهر الثواني التي تمكن من الحد فهي نظام يتأسس على نظرية المطابقة والعقل المرآة للوجود الشفاف.وكلها أحكام مسبقة نتجت عن هذه الرؤية التي لا شيء يؤيدها .فالإنسان حيوان ناطق والإنسان حيوان كذاب كلاهما يميزه عن غيره من الحيوان.وليس صحيح أن كل إنسان ناطق فالكثير من حكامنا بكم :مثال السيسي .وصحيح أن اغلب البشر كذابون وهذا يصدق كذلك على جل حكامنا كذابون :لا حاجة لمثال.يبدو المثالان مزاحا .لكن النطق والكذب مميزان للإنسان كإمكان يختص به دون غيره من الحيوانات .وهما إذن علامتان لا تقدمان العلم ولا تؤخرانه.وطبعا المثالان فيهما شيء من المزاح وقد يكون ثقيلا على الفصيلة التي اخترنا منها الأمثلة .ولهما علاقة بمقولة\" الحكم على الشيء فرع عن تصوره\".الماهيات أو مقومات الحد التي تسمى جواهر ثوان -حيوان وناطق -لا معنى لجوهريتها بل هي علامات اختيرت لتعريف الإنسان وليست حقائق مطابقة.وحتى نفهم ذلك جيدا فلنأخذ مفهوم المثلث .فلو أبقينا تعريفه التقليدي في الهندسة الإقليدية واعتبرنا ذلك حقيقة المثلث لاستحال تجاوز هندسته.فنفهم أن تعريف المثلث منسوب إلى رؤية معنية للفضاء هي الرؤية التي تعتمد عليها رياضيات اقليدس .ولما غيرنا الرؤية أبدعنا رياضيات لا إقليدية.فهذه الثورة تفتح آفاقا جديدة .لم تعد نظرياتنا صورة مطابقة لما نفترضه واقعا بل هي صورة مبدعة لواقع أو لتعدد رؤى \"الواقع\" المفترض موضوعيا.فتبدو هذه النقلة مصدقة لـ\"الحكم على الشيء فرع عن تصوره\" لكنها تكذبها لأنها ينبغي أن تكون الحكم على الشيء فرع عن حكم يبدعه سابق أحكام تصفه.وهذا هو أساس كل العلوم الفرضية الاستنتاجية :تبدع مجالا وتخلقه عن عدم ثم تستنتج مما وضعته فيه بالفرض خصائص تترتب عليها فيكون نموذجا معرفيا.والنموذج المعرفي يسميه ابن تيمية \"مقدرات ذهنية\" لا وجود لها خارج الذهن تطابقه بل هي تستعمل نموذجا لوصف أي موضوع قابل للوصف به :كالرياضيات.وكان واعيا بأن ذلك يفتح أبوابا لا حد لها من العلوم إذ قال ذلك صراحة في نقد المنطق مبينا أن العلم الوحيد البرهاني لا يكون إلا من هذا النوع. 32 4
إن الكثير ممن يتصورون المعتزلة وفلسفة ابن رشد عقلانية سيسخرون مما يبدو لهم سفسطة ولن يصدقوا أن نظرية العلم الحديثة تيمية بهذا المعنى.وقد قال الغزالي ساخرا من ضيق أفق الفلاسفة :ضيق الحوصلة (معدة الدجاج) لأن فلسفتهم مبنية على قيس الغائب على الشاهد المشترك بينهم والمتكلمين.وللسخرية قدم احجية :شيء من حبة قمح يأكل كل نباتات العالم؟ وهو شاهد وليس غيبا؟ فكل ما اكتشفه العلم الحديث لا نصل إليه بقيس الغائب على الشاهد.كل الاكتشافات العلمية إبداعات عقلية -مقدرات ذهنية -توضع وضعا ويستنتج منها خصائص وتطلب ظاهرات قابلة للتناظر مع النموذج المجرد مجال تطبيق.لكن لا أحد يقول بالمطابقة مع \"واقع موضوعي\" بل العلم من جنس الإبداع الأدبي بشروط تجريبية وتبقى مجهولة الطبيعة ونكتفي بتشاكلها مع النموذج.الفصل الثاني نعرض فيه نظرية ابن تيمية في علاقة علم المقدرات الذهنية مجال المعرفة البرهانية وعلم الظاهرات الخارجية مجال المعرفة التجريبية.وهي علاقة من دونها يمتنع أن يصبح التاريخ جزءا من علوم الفلسفة بخلاف ما كانت تنفيه الفلسفة القديمة التي تستثني التاريخي من العلمية عامة.وتلك علة حكمي باستحالة تأسيس محاولة ابن خلدون تأسيس علوم الإنسان على الفلسفة القديمة والوسيطة واستنادها إلى ابستمولوجيا جديدة تجعله ممكنا. 32 5
أبدأ الفصل الثاني من كلامي على ثورة النقديين بهذا النص .فهو حيرني وأقض مضجعي خلال تحرير رسالتي الجامعية :كيف لمثل هذا أن يوجد في عصر صاحبه؟قال ابن تيمية\" :فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعددوالمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة .فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلاأمورا معينة ليست كلية وهي (ما يدركه) الحس الباطن والظاهر والتواتر والتجربة والحدس و(إذاكان) الذي يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك أمورا مقدرة ذهنية لم يكن في مبادئ البرهانومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة في الخارج و(إذا كان) القياس لايفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية فامتنع حينئذ أن يكون فيما ذكروه من صورة القياس ومادتهحصول علم يقيني .وهذا بين لمن تأمله .وبتحريرة وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف.وسنبين إن شاء الله من أي وجه وقع عليهم اللبس .فتدبر هذا فإنه من أسرار عظائم العلوم التييظهر لك به ما يجل عن الوصف من الفرق بين الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية وبين الطريقة القياسية المنطقية الكلامية\" (المنطق ص 73-72 .المجموع الجزء التاسع مكتبة المعارف الرباط). هذا هو النص المحوري في ثورة مدرسة الفلسفة النقدية.وكل من مر على هذا النص ولم يتحير ولم يعجب من وجوده في هذه المرحلة من الفكر الإنساني لا بد وأنه غفل عما فيه من دواعي الحيرة والعجب الأكيدة. أبدأ بمعلومات عامة حول النص:-1وضعت بين قوسين تكرارا لمدى شرطيته التي وضعها ابن تيمية ليصل إلى تاليها (وإذا) ثم (وإذا) .فالشكل شرطية متصلة.عناصر المقدم مفروع منها لأنها من مسلمات المنطق الأرسطي إلا عنصر واحد هو المقدمة الأولى التي تحصر العلم اليقيني في المقدرات الذهنية.فإذا لم تكن هي سر القطع مع الفلسفة القديمة كان استدلال ابن تيمية مصادرة على المطلوب لأنه يتسلم ما ليس أرسطيا إذ يلغي التحليلات الأواخر. 32 6
بصورة دقيقة يمكن أن توجد مقدمة كلية موجبة أو سالبة مثل كل أ هو ب أو لا أحد من أ هو ب فإذ عينت استحال الامر :أقول كل إنسان مائت بلا دليل.وإذا قلت كل إنسان مائت لم تبق حاجة للقول سقراط إنسان وإذن فهو مائت لأن المقدمة الكبرى تتضمن هذه النتيجة دون حاجة لقياس الكلية الموجبة.-2ثم ينبني كلامه بجمع نوعي التحليلات ليبين أن الممكن شكليا مستحيل مضمونيا من دون تأسيس الكليات المضمونية في ميتافيزيقا أرسطو التي ينفيها. -3ثم يميز بين نوعين من المعلومات: -المقدرات الذهنية وفيها كليات ضرورية وبديهية -وموجودات عينية ليس فيها إلا الأعيان ولا كلي معلوما فيها.-4ثم يميز بين نوعين من العلوم كلامية قياسية وفطرية عقلية (شكلا)ونقلية (مضمونا)والأول بين استحالته والثاني ممكن بحدود التجريبي غير البرهاني.والعقلي الفطري عقليا ونقليا ليس خاليا من المنطق والرياضيات ويكونان علمين مساعدين وأداتين انطباقهما يحافظ على كل خصائصهما الصورية.-5ثم تأتي إشارة إلى الوعي بالنقلة الثورية التي تحصل بفضل هذا التمييز بين نوعي المعرفة للتقدير الذهني وللوجود في الأعيان :بروز علوم عظيمة.وابن تيمية لم يف بوعده :لم يعين العلوم العظيمة .فما الشيء الذي \"بتحريرة وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف\" ما طبيعة هذه العلوم وما عظمتها؟نعم اضاف \"فإنه من أسرار عظائم العلوم التي يظهر لك به ما يجل عن الوصف من الفرق بين الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية\".وميز بينها وبين \"القياسية المنطقية الكلامية\" .فهل التمييز بين هذين النوعين من العلوم هو الذي سيمدنا بأسرار علوم عظيمة؟ وما هي الأسرار؟ من الواضح أن الكلام على \"أسرار\" علوم عظيمة يعني أمرين: -أنها لم تكن معلومة -وأن ما كان يخفيها هو هذا الخلط بين نوعي العلوم اللذين ذكرهما.إزاحة هذا المانع هو الذي سيظهر الأسرار لكنه لا يحدد العلوم العظيمة التي ستتكون بمعرفة أسرارها .ذلك هو ما أريد البحث فيه وما حيرني في رسالتي. 32 7
واعترف أن ما قمت به في الرسالة لم يشف غليلي .لذلك خصصت ضميمة المثالية الألمانية للمدرسة النقدية عامة ولهذا النص بالذات خاصة .فلأوجز الجواب.والمحير هو هذا الجمع بين أربع صفات للطريقة الثانية المقابلة لطريقة الكلام \"الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية\" .فما القصد؟المقابلة تعني أن طريقة الكلام \"ليست فطرية ولا عقلية ولا سمعية ولا إيمانية\" وقد نقبل بيسر الصفتين الأخيرتين لكن ماذا نقول عن الأوليين؟كيف ينفي ابن تيمية مزاعم المتكلمين التي يباهون بها :العقل بوصفه خاصية طبيعية للإنسان ومن ثم فهو فطري لديه حتى لو صيغ فنيا بالمنطق الأرسطي.أن يدعي ابن تيمية أن طريقة الكلام ليست فطرية ولا عقلية فضلا عن نفي كونها سمعية وإيمانية أمر محير .هل هو يحاكي الفلاسفة بنفي الصفتين الأوليين.فالفلاسفة يتهمون المتكلمين دائما بأنهم لم يتجاوزوا الجدل والخطابة وبقوا دون المعرفة الفلسفية البرهانية بمعيار ابن رشد كما يحكيه الجابري. وصف طريقة المتكلمين بالقياسية المنطقية يعني خطأين معرفي ووجودي: -1الخلط بين نظام القول ونظام الوجود. -2وقيس الغائب على الشاهد ونفي الغيب.فيعود الأمر إلى نظرية المعرفة المطابقة أي اعتبار الوجود مطلق الشفافية والعقل مرآة عاكسة لما عليه في ذاته فينتج عنه خطآن معرفي ووجودي.وفعلا فقيس الغائب على الشاهد يفترض الاطراد في الوجود ولا شيء يدل عليه ويفترض رد الشاهد إلى المعلوم منه فينفي ما لا يرد إلى الشاهد.وفي هذه الحالة لم يبق فرق بين المنطق الشكلي والمنطق المضموني وتصبح العملية جدلا قياسيا احتكامه للوجود تحكمي وغفل في تناطح المتجادلين.ومعنى ذلك أن إطلاق أرسطو لضرورة قطع التسلسل والتحرر من الدور لتأسيس التصديق يخلط بين ضرورته للقول عامة وعرضيته لموضوع القول العلمي.فكل قول حتى يبدأ لا بد له من حدود أولية يعتبرها مسلمة .من دون ذلك لا يمكن البدء في الكلام .لكن شتان بين ذلك وبين اعتباره حقائق أولية.فيكون مفهوم \"حقيقة أولية\" هو بيت القصيد .ولذلك فالأوليات الضرورية لا تصح إلا على المقدرات الذهنية .وهي ذريعة في معرفة الموجودات الخارجية. 32 8
كيف ذلك؟أعوض متغيرات القياس أي حدوده الثلاثة بقيم وجودية تملأ خانة الحد ( 1أ) والحد ( 2ب) والحد ( 3ج) افترض أن تعريفي مطابق للموضوع.وتعريف الموضوع كما هو بين من التحليلات الأواخر حكم حدسي أو إدراك مباشر لا دليل على مطابقته لحقيقة الموضوع :أساسه ميتافيزيقا المطابقة.ومعنى ذلك أن الباب الثاني من التحليلات الأواخر يعتبر حقائق الأشياء مدركة مباشرة لأنها تنعكس على مرآة العقل وليست موضوع بحث تجريبي متطور.وإذن فالعلم القياسي المنطقي يستثني شروط المعرفة الفعلية بالموجودات الخارجية لافتراضه خضوعها لمنطق القول بدل التجربة مكتفيا بالإدراك الغفل.الميتافيزيقا إدراك غفل أساسه اعتبار الوجود شفافا والعقل مرآة والعلم ليس هو شيئا آخر إلا تطبيق المنطق على هذه الصورة الغفلة من الوجود.لكن العلم سره يكمن في عملية تحديد القيم التي تعوض المتغيرات فننتقل منها كخانات خالية إليها وقد ملأناها بقيم هي ما نستمده من تجربة الأشياء.وهذا هو مدلول الصفتين الأوليين من الكلام على الطريقة المقابلة لطريقة الكلام :الفطرة العقلية .فهي طلب هذا المضمون التجريبي لمعرفة الأشياء.أما الصفتان الأخريان \"السمع والإيمان\" فيتعلقان بما لا يقبل القيس على الوجود الشاهد لأنه ليس من مجال التجربة الحسية :مجال المعرفة الدينية.فيكون ابن تيمية في الحقيقة يتكلم على ثلاثة طرق جمع بين الاثنتين الأخيرتين وقابلهما بالكلامية لأنهما يقابلانها بكونهما يحتكمان لعدم المطابقة.فالأولى تحتكم إلى التجربة ولا تسلم بالمطابقة لأن التجربة مفتوحة إلى غير غاية والثانية تحتكم إلى الإيمان بالغيب فتقبل السمع لتصديق الرسول.العلم والإيمان يشتركان في الاحتكام إلى ما يتجاوزهما :التجربة للأول والسمع للثاني .كلاهما يحتكم إلى موضوع متعال لا يرد إلى إدراك الإنسان له.ولا يمكن للإنسان أن يدركه مباشرة بل يحتاج لعلوم أدوات يبدعها مرتين :موضوعها وعلمه .إنه أداته للعبارة عن التجربة دون ردها إليه بل هو تقديري.ومن الإيمانيات أن العالم يخضع للمقدار أو للرياضيات (القرآن :كل شيء خلقناه بقدر) فتكون المعرفة عامة إبداعا لشروط النظر ولشروط العمل. 32 9
فالعلم إبداع لشروط النظر التي هي المقدرات الذهنية التي تعطينا نماذج لصوغ تجاربنا عن المعطيات الحسية والإيمان إبداع لشروط العمل وهي مثلها.المعرفة الدينية رياضيات عملية حول التجربة الروحية أو منظومة من المقدرات الذهنية لا تتعلق بالموجودات الخارجية بل هي ضرورية للتعامل معها.فابن تيمية لا يعترف بالكليات والأوليات والضروريات إلا في المقدرات الذهنية في النظر والمعتقدات الدينية الإيمانية في العمل :متماثلان بنيويا.أما طريقة القياس فهي كلامية بمعنيين :تغلب على المتكلمين ولا تتجاوز الكلام إلى الموجودات الخارجية تصادر على المطلوب بقيس الغائب على الشاهد.فلو كان الغائب يرد إلى الشاهد لاستغنينا عن البحث العلمي .ولو كان كل شيء شاهد لتوقف البحث بل يوجد دائما في الوجود ما لا يصير من الشاهد.فتكون النتيجة التخلي نهائيا عن نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة واكتشاف حقيقتين :العقل يعلم ويعلم حدوده والوجود شاهد ويتجاوزه إلى الغيب. 32 10
أجملت الكلام على المدرسة النقدية الفلسفية-الغزالي وابن تيمية وابن خلدون-وتكلمت على الأولين وعلى فلسفة النظر وآن أوان الكلام على فلسفة العمل.كان الغزالي ممثلا للفلسفة للنقد الفلسفي عامة فتحا لمنفذ يوسع آفاق العقل والروح ويتجاوز المقابلات السطحية بينهما وبدرسنا فلسفة النظر التيمية.والآن نتكلم على ما أصبح ممكنا في فلسفة العمل والتجاوز الصريح للعلوم الزائفة في النظر والعمل والشروع في تأسيس العلوم الإنسانية بخطى ثابتة.وبخلاف اسلوب ابن تيمية فكر ابن خلدون نسقي رغم كونه لا يخلو من ومضات لا تقل عبقرية عن ومضات ابن تيمية :ولهذه العلة فعرضه إضافته أيسر بكثير.وحتى لا نقع في خطأ كبير فالأمر لا يتعلق بما يعرض عادة بحثا عن كونت وماركس في فكره .فما نطلبه أعمق غورا وابعد دورا في تجاوز القديم والوسيط.كونت ومارس أتيا بعد ثورات تحققت في الغرب دينية وفلسفية وعلمية وسياسية واجتماعية ومن ثم فموضوعات فكرهما تحققت قبله والسعي إليها ليس طفرة.وكم أتمنى لو توفرت دراسات عينية للوقائع الدينية والفلسفية والعلمية والسياسية والاجتماعية موضوع فكر المدرسة النقدية لتساعدنا على وصله بها.فما تصورناه طفريا لعله ليس كذلك ولعل ما تقدم على ثالوث المدرسة النقدية وما عاصرهم كان متضمنا لإرهاصات جعلت اعتبارهم لها منطلقا لفكرهم.والأمر الوحيد الذي أنا واثق منه هو أن تعثر الحضارة الإسلامية والصراع بين الفكرين الفلسفي والديني المعاصرين لهم كان لهما دور الدافع الرئيس.فالفكر لا يبدع عن عدم بل إن إشكالات حقيقية تدفعه للعلاج الباحث عن حلول فيكون إبداعه استجابة لتحد لا يقتصر على الجدل والصراع الكلامي.وابن خلدون ينطلق من قضية ابستمولوجية :طبيعة الظاهرة التاريخية وطبيعة علمها أو بلغة المقابلة مع فلسفة عصره لماذا استثني التاريخ منها؟ 32 11
فلنورد نصه من فاتحة المقدمة\" :أما بعد فإن فن التاريخ-1....إذ هو في ظاهره لا يزيد علىإخبار عن الأيام والدول والسوابق في القرون الأول تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرفبها الأندية إذا غصها الاحتفال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال (-2 )..وفيباطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك اصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق\".تكفي المقابلة بين \"في ظاهره\" و \"في باطنه\" .ثم المقابلة بين \"أصيل في الحكمة عريق\" و \"جدير بأن يعد في علومها وخليق\" .المقابلتان مفيدتان لغرضنا.ولأبدأ بالمقابلة الثانية التي تبدو محتوية على تناقض :كيف يكون التاريخ أصيلا في الحكمة وعريق ويحتاج إلى التنويه إلى جدارة هو محروم منها؟في الحقيقة التنويه يعني أن من تقدم عليه لم ير أنه أصيل في الحكمة وعريق لعدم اعتباره جديرا بأن يعد من علومها وخليق .إشارة ذكية لمنزلته قبله.وهو انقلاب أول وتغير جذري أعطي للتاريخ منزلة ابستمولوجية لا تعترف بها الفلسفة قبل ابن خلدون فأرسطو ينفي قابلية التاريخ للعلم لعرضية أحداثه.وعندما نعلم العلم نصل إلى الانقلاب الثوري الثاني الذي لا بد من حصوله ليصبح للتاريخ هذه المنزلة :ويتعلق بما لأجله ينفي ارسطو علمية التاريخ.فالعلم في ابستمولوجيا الفلسفة القديمة والوسيطة علم للكلي والضروري وموضوع التاريخ الجزئي والعرضي :وقابليتهما للعلم تقتضي تغيير طبيعة موضوعه.لا بد أن يكون موضوع العلم لا تاريخي لأنه كلي وضروري كما في علوم الطبيعة عامة أو في الرياضيات والمنطق :النتيجة علوم الإنسان غير ممكنة فلسفيا.فأقصى ما يمكن فعله في دراسة الموضوعات الثلاثة التي تعتبر بدايات علوم الإنسان أي السياسة والأخلاق والاقتصاد المنزلي هو التدبير العملي.لكن ابن خلدون دون أن يكون جاهلا بذلك-من هنا التنويه الذي يشبه اللوم-يتجاوزه ويدعي أن التاريخ أصيل في الحكمة وجدير بأن يعد من علومها وخليق. كيف فعل ليحقق ذلك؟الجواب هو موضوع هذا الفصل في محاولة فهم ثورة المدرسة النقدية الفلسفية العربية كما أثبتنا في ضميمة المثالية الألمانية. وللجواب لا بد من المرور للمقابلة الأولى :بين ظاهر التاريخ وباطنه: 32 12
-1فن أدبي للأسمار حول الايام (أيام العرب مثلا). -2علم فلسفي يعلل الوقائع.وبها بدأ ابن خلدون فاتحة مقدمته بمعنى أنه لم يداور بل مر مباشرة لتحديد طبيعة ثورته :من منزلة فن أدبي للأسمار إلى منزلة علم لتفسير للوقائع.ولأنها ثورة اضطر للقيام بأمر تحرمه الإبستيمولوجيا القديمة :العلم الجزئي لا يؤسس نفسه بل يتسلم مبادئه من علم أعلى إلى الغاية في العلم الرئيس.والعلم الرئيس أو الميتافيزيقا هو الذي يؤسس العلوم يؤسس نفسه ويؤسس كل منظومة العلوم بما يشبه التصنيف والترتيب التأسيسي على انطولوجيا عامة.ابن خلدون يتحلل من ذلك فيؤسس علمه الجديد ما يعني أمرين :أنه خارج الفلسفة التي تستثنيه وأنه بتأسيس ذاته وما يتفرع عنه بديل من علمها الرئيس.تلك هي الثورة التي أنسبها إلى ابن خلدون .وبسبب هذا الخروج عما تمكن منه فلسفة عصره اضطررت للبحث عن شروط إمكانها خارج إطار الفلسفة السارية.فكان علي أن أبحث عنها في مصادر ليست يونانية وليست فلسفية بالمعنى التقليدي :وليس عندي إ ّلا حل ذي مرحلتين: -1نقد فلسفي للفلسفة -2برؤية قرآنيةففي القرآن الكريم منزلة التاريخ متقدمة على منزلة الطبيعة بل إن الطبيعة نفسها ظاهرة تاريخية لأنها مخلوقة ومتغيرة وخاصة في علاقتها بالإنسان.ولم يصبح للتاريخ منزلة وجودية ولمعرفته منزلة ابستمولوجية حتى في الغرب إلا بفضل فلسفة الدين أو فلسفة التاريخ الإنساني بأبعادها الدينية.لم يول للتاريخ منزلة فلسفية وجوديا (وقائعه) ومعرفيا (علومه)إلا هيجل .فقد كان يعتبره جنيس اليوم الآخر وقولا في العدل الإلهي لنفيه يوم الدين.وابن خلدون قبله بأربع قرون جعله للتاريخ العلم الرئيس فصار ما بعد التاريخ بديلا مما بعد الطبيعة ولم يجعله حكما نهائيا بديلا من يوم الدين.والفضل لما افترضته شرطين :نقد فلسفي للفلسفة منطلق من رؤية قرآنية لفهم الوجود كله طبيعية وإنسانيه .وهذا أعمق وابعد غورا من كونت وماركس. 32 13
فبات فهم ثورة ابن خلدون مشروطا بنقد عام للفلسفة-نفي السببية دون نفي العلم-عند الغزالي ونقد معرفي عند ابن تيمية :أفعال الإنسان قابلة للعلم.فعلم الطبيعة غير مشروط بالسببية وهو يشمل الحرية أو الفعل الإنساني شموله للضرورة أو الفعل الطبيعي .علاقة الحرية بالضرورة شرط خلقي لا علمي.العلم يكفيه انتظام التجربة أو مجاري العادات وهي احصائية وليست مطلقة وما يقتضيه علم الطبيعة من انتظام موجود في التاريخ :الفرق كمي لا كيفي.نقد الغزالي لمفهوم السببية كان موضوع أول عمل فلسفي قدمته في السوربون لنيل ما يناظر الماجيستر في النظام الحالي وقد ظنه البعض بي ايتش دي.وهو نقد يخلص العقائد من إشكالية أفعال العباد (حول الحرية والجبرية) وهو يعالج قضية فلسفية جوهرية من دونها لا تفهم فلسفة هيوم وكنط النقدية.ومثلما أني لست معنيا بالبحث عن كونت وماركس في ابن خلدون فلست معنيا كذلك بالبحث في هيوم وكنط في الغزالي :لست أبحث عن سبق العرب للغرب .آخر هم.ما يعنيني هو ما الجسر الواصل بين نقد الغزالي للفلسفة التي ألغى شرط شروطها (السببية) والتأسيس الخلدوني للعلوم الإنساني :فنقد الغزالي لا تكفي.في خلال البحث اكتشفت ابن تيمية .لم أكن أسمع عنه إلا أحكام نخب الحداثة الكاريكاتورية ولما كانت أسوأ من أحكامهم على الغزالي شرعت في قراءته.فكانت دهشتي التي حاولت وصفها في الفصل السابق .فهو قد أنهى \"قرآن\" الفلسفة أعني التحليلات الثواني\" .فالغزالي نكص إليه وطبقه حتى في المستصفى.لما أتممت قراءة ما يعنيني من ابن تيمية تنفست الصعداء :وجدت ضالتي وسددت الثغرة في الرسالة وهي من النظام القديم أي د .الدولة ذات الجزئين.ليست مثل البي أيتش دي .فهذه شهادة في بداية البحث وتنجز في الصغر ودكتورا الدولة شهادة غاية البحث وتنجز في الكبر وجزءاها رئيس وتكميلي.والرئيس كان منزلة الكلي في الفلسفة والتكميلي كان إصلاح العقل .وكلاهما طبع عدة مرات وكلاهما مجلد كبير .وقد تطلبا عشر سنوات من العمل المضني.ذلك أن الشيخ جوجل لم يكن من المساعدين في جيلي .وأعسر شيء في عصرنا كان تحصيل المصادر والمراجع وقراءتها ونقدها منطلقا للبحث فيما يظن جديدا. 32 14
وتلك أضافه الغزالي وابن تيمية وابن خلدون للفكر الفلسفي ليس العربي ولا الإسلامي فحسب بل للإنسانية :بداية جديدة في الفكرين الفلسفي والديني.وما كان ذلك يكون ممكنا لولا تخصيص سبع سنوات بين 1972و 1979لدراسة فلسفة ارسطو ومنطقه لإعداد رسالة الحلقة الثالثة في منزلة الرياضيات في علمه.فمن دون نظرية أرسطو في العلم ومنطقه وطبعا ردوده على أفلاطون لا يمكن فهم شيء من الفلسفة العربية لأنها مع شيء من الأفلاطونية مشائية بالجوهر.ولا يمكن فهم نقود ابن تيمية المنطقية والميتافيزيقة من دون فهم نظرية المطابقة والعقل المرآة والهيلومورفية وخاصة منزلة الكلي في فلسفة أرسطو.أعطانا ابن خلدون مثالا من فرغ فلسفة السياسة في علمه .فهو يعتبر الطريقتين السائدتين غير صالحتين :طريقة الفلاسفة اليتوبية والفقهاء الشرعية.وسمى طريقته التي هي ليست يتوبية مثل المدن الفاضلة ولا شرعية مثل الأحكام السلطانية بل هي درس السياسي من حيث طبيعته في علم العمران البشري.يتكلم على طبيعة السياسي في علم العمران البشري والاجتماع الإنساني لكنه يرفض تأسيسه مثل أفلاطون وأرسطو على ظاهرة طبيعية :النفس أو المنزل.يؤسسه على ظاهرة تاريخية :الانتظام الجمعي لسد الحاجات المعيشية (الاقتصاد) والتعايشية (سلطة تنظيم التعاون والتنافس عليها) داخليا وخارجيا.لم تعد النفس (أفلاطون :القوى الثلاث العقل والغضب والشهوة) ولا الأسرة (الأب والأبناء والزوجة والعبيد) هي النموذج بل نظام العيش والتعايش.والنقلة من الفلسفة العملية السابقة إلى علم العمران البشري والاجتماع الإنساني هو الذي يترجم النقلة من الطبيعي وما بعده إلى التاريخي وما بعده.والنقلة من الطبيعة وما بعدها إلى التاريخ وما بعده أساس الثورة الفلسفية التي أنسبها إلى الغزالي وابن تيمية وابن خلدون هي بحق بداية الحداثة.وقصدي ببداية الحداثة اعتبار كل شيء في حياة البشر تاريخي بما في ذلك ما في الإنسان وحوله من طبيعي .كلاهما في صيرورة وتفاعل دايمين لا يتوقفان. 32 15
فلنسلم جدلا-بما حاولت بيانه-أن انقلابة حصلت في الرؤية الوجودية والمعرفية استمدتها المدرسة النقدية من رؤية القرآن بديلا من الميتافيزيقا.وهذا البديل يمكن أن يوصف مثل الميتافيزيقا بكونه علما رئيسا لكنه ليس ميتافيزيقا بل ميتاتاريخ وأفضل تسميته ميتاأخلاق لتعلقه بأفعال الإنسان.لكن مكونات المنظومة التي تنتج عن هذا المابعد مختلفة ولم تقترب المنظومة الفلسفية من المنظومة التي اسستها مدرسة النقد إلا في الفلسفة الحديثة.فالتاريخ لم يكن من مقومات منظومة العلوم التي يتألف منها العلم الرئيس بل كان يعتبر مستثنى منها رغم أن بعض ما أصبح من علوم الإنسان كان فيها.لكنها كانت ثلاثتها (السياسة والأخلاق والاقتصاد المنزلي) تتأسس على الطبيعة وليس على التاريخ (بنية النفس أو بينة الأسرة) وهو ما قلبه ابن خلدون.فهذه الموضوعات الثلاثة-السياسة والأخلاق والاقتصاد-يؤسسها ابن خلدون على صيرورة تاريخية هي أشكال انتظام العمران وليس على طبيعة ثابتة.وطبعا قد يحتج الكثير باستعمال ابن خلدون مفهوم طبائع العمران والاجتماع ويستعمل النموذج الهيلومورفي فيظنون أن يحفظ معانيها الفلسفية القديمة.لكنه في الحقيقة لا يؤمن بالضرورة الطبيعي بل بمجاري العادات ويعتبر التاريخية هي المحددة لعلاقة الطبيعية والثقافة أو علاقة الإنسان بالطبيعة.وسأختم دراسة ثورة المدرسة النقدية بتحليل تغير العلم الرئيس لأني وضعت انطلاقا منه مفهوم المعادلة الوجودية التي يلتقي فيها الإسلام والحداثة.وقصدي أن الفلسفة الحديثة تجاوزت القديمة في الاتجاه الذي حددته المدرسة النقدية ترجمة فلسفية لرؤية العلاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين.وهي العلاقة التي يعبر عنها شعبيا وفقهيا بالعلاقة بين الدنيا والدين أو بين الوجودين الشاهد وما بعده في ذاته وفي رؤاه البشرية المتعددة. 32 16
وقبل التقدم في التحليل فلأشرح علة تفضيلي \"ميتاأخلاق\" على ميتاتاريخ رغم وحدة المعنى. العلة هي أن ميتاأخلاق تشير الفرق النوعي مع ميتافيزيقا.فـ\"فيزيقا\" في ميتافيزيقا تشير إلى الضرورة في فعل الطبيعة و\"أخلاق\" في ميتاأخلاق تشير إلى الحرية في لفعل الإنسان :والتاريخ هو علاقة المميز.فيكون الانقلاب الذي حصل هو أن العلم الرئيس أو الرؤية الجامعة لمنظومة العلوم أو المعارف الإنسانية قلب رؤية العلاقة بين الضرورة والحرية.ومعنى ذلك أن المحدد ليس فعل الضرورة في الحرية فيكون الإنسان منفعلا بل فعل الحرية في الضرورة لكون الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيهاوهذه هي الرؤية القرآنية العميقة التي مكنت بعد فهمها من قلب العلاقة :فالطبيعة لم تبق طبيعية بل صارت خاضعة لرؤية إنسانية بمقتضى علاقته بها.وعلاقته بها هي رؤية التسخير ورؤية ارتباطه بالعمل على علم :فالطبيعة هي بدورها تاريخية خلقت لغاية وذات قوانين رياضية تمكن من السلطان عليها.وبصورة أدق من السلطان على ما يستجيب لحاجاته مع حرز عدم الفساد في الأرض أي إن ما للإنسان من قدرات يمكن أن تتجاوز التعمير إلى التدمير.ولهذه العلة ربط الاستعمار في الأرض بالاستخلاف فيها أي بشرائع تحول دونه وتوهم الربوبية فلا يتعامل مع الطبيعة وكأنها خالقها ومسخرها دون حد.فلأذكر بالمعادلة الوجودية :القطب الأول الله القطب الثاني الخليفة أو الإنسان .بين القطبين وسطيان الطبيعة والتاريخ وفي قلب المعادلة التواصل.والتواصل الذي في القلب أبين بين القطب الأول والطبيعة على يمينه والتاريخ والقطب الثاني على يساره يجري في الاتجاهين وعلى مستويين مختلفين.فأما الاتجاهان فهو من القطب الأول إلى القطب الثاني والعكس من القطب الثاني إلى القطب الاول .وأما المستويان فهما بالوسيطين أو من دونهما.ومن دونهما عبادة بسيطة وهو الفروض الخمسة في الإسلام مثلا وبهما عبادة مركبة لأنها تحقق مقومي الوجود الإنساني :تعمير الأرض والاستخلاف.والعبادة البسيطة يكفيها علم وعمل بسيطان يمكن أن ينجزهما الفرد كفرد لكن العبادة المركبة تحتاج لعلم وعمل معقدين لا تنجزهما إلا الجماعة المنظمة. 32 17
وهذا هو البعد السياسي من الوجود الإنساني أو حاجة الإنسان للدولة :الدولة بهذا المعنى من أركان العبادة لأنها شرط عبادة اساسها علم وعمل معقدان.وهذه العبادة الثانية هي موضوع التكليف الذي يعير به تحقيق الإنسان لمقومي وجوده (مستعمر في الأرض وخليفة) أما الأولى فهي واجب العرفان للخالق.والعلاقة بين العبادتين بينة .فالفروض التي تحقق الاعتراف بالجميل للخالق (العبادة البسيطة) لها بعد فاعل في العبادة المعقدة ومنفعل بها.فهي فاعلية بتعليها الخلقي ومنفعلة بمؤثراتها الاجتماعية من خلال تفضيل شكلها الجماعي على شكلها الفردي ودورها بعضها في تضامن الجماعة المادي.والعبادة البسيطة مشروطة بالعبادة المعقدة لأنها لا تكون من دون تحقيق الإنسان لمقومي وجوده: فمن دون تعمير الأرض والاستخلاف تنتفي شروطها.ذلك أن الفروض الخمسة أربعة منها مشروطة بمستوى معين من سد الحاجات الأولية لما لها من كلفة اقتصادية (النظافة والصحة والزكاة وكلفة الحج).والفرض الخامس أي الشهادة هي شرط الدخول في الإسلام الذي لا يتحقق بها وحدها بل لا بد من الأربعة الأخرى وتحقيق مقومي الوجود الإنساني.وهكذا نصل إلى معضلة المعضلات وأهم شيء لم يفهمه هيجل كما تأكدت منه خلال ترجمة دروسه في فلسفة الدين وكلامه على العلاقة بين الإسلام والمسيحية.فقد تأكد لدي أن كل فلسفة الدين الهيجلية تقبل الرد إلى ما دحضته الآية 79من آل عمران حول تأليه المسيح عليه السلام والحاجة إلى الوساطتين.ولأكن واضحا :أليس إلغاء الإسلام للكنسية وللحق الإلهي في الحكم-الديموقراطية الروحية والديموقراطية السياسية-علتي ما يعاني منه الإسلام؟كيف يكون كل فرد ذاتا دينية وذاتا سياسية مباشرة ودون وسيط بينه وبين الشأن الديني والشأن السياسي؟ ألا ينفي ذلك سر الاستقرار الروحي والسياسي؟نتيجة يردها هيجل إلى ما يسميه عبادة المجرد ورفض التعين في روحانية الإسلام الحائلة دون الاستقرار الروحي والسياسي بسبب التعصب للمجرد.وبهذين النزعتين الديموقراطيتين في المجال الروحي وفي المجال السياسي أي نفي الوساطة فيهما يفسر عدم الاستقرار والعنف الديني والسياسي. 32 18
فالمساواة المطلقة في الديني والدنيوي(السياسي)واعتبارهما متداخلين دون تعيين لمن يتولاهما بصفات مميزة يجعل الصراع والغلبة هو المنطق الوحيد.وطبعا سيسارع الكثير-وهم على خطأ-لبيان صحة هذه النظرة بما يراه في العالم وبما يراه خاصة بمجرد المقابلة بين الدولة الشيعية والدول السنية.ذلك أن التمثيل السياسي والوساطة الدينية يبدوان أكثر استقرارا وأفضل تنظيما تماما كما يبدو الاستبداد أفضل من الحريتين الفكرية والسياسية.لكن الديموقراطية الروحية (لا وساطة في الدين) والديموقراطية السياسية (المواطنون هم أصل السلطة) هما الحل الإسلامي وهما مستقبل تنظيم الأحرار.فالقرآن يعرف المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران )104وتحقيقهما شرطا في الانتساب للخيرية (آل عمران :)110وهما روحيان وسياسيان.فروحيا الإنسان يأتي ربه فردا .وسياسيا مسؤولية إدارة الشأن العام \"أمرهم شورى بينهم\" تعني أن الفرد الذي يتخلى عن واجبه فيها مقصر دينيا.وعهد الراشدين يوصف بالرشد لهذين العلتين :المؤمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر روحيا وسياسيا .والحاكم نائب بحضور المنوبين وليس بغيابهم.لا يكفي أنهم ينوبونه بحرية بل هم يراقبون دائما بمقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لأن هذين الفعلين هما جوهر تحقيق مقومي وجود الإنسان.فبالسياسي يشارك في تعمير الارض علما وعملا وسلطانا وبالروحي يشارك في الاستخلاف علما وعملا وسلطانا .وذلك كله أهمله فقهاء الانحطاط وحكامه.ولا يعني عدم القول بالوساطة الروحية وبالحق الإلهي في الحكم أو بحق القوة فيه أن التصور الإسلامي وخاصة في فهمه السني لا يحقق الاستقرار والأمن.فما حققه الإسلام في بديل الوساطة يشبه ما حققته التربية التي انتقلت من المعلم الوسيط الذي يلقن المتعلم إلى المعلم محرر المتعلم من التلقين.ومعنى ذلك أن الكنسية انتهت في الإسلام دون أن يغني ذلك عن المعلمين الذين يعلمون المتعلم الاستغناء عن وساطتهم فتكون علاقته بالله غنية عنهم.والاستغناء عن الحق الإلهي في الحكم (كما عند الشيعة وعند الكاثوليك) لا يلغي وجود الحاكم النائب الخاضع لتعاقد مع الجماعة ومراقبة دائمة منها. 32 19
هيجل يؤمن بالطبقية ويؤمن بما يشبه الحق الإلهي في الحكم لأن الأمير الحاكم عنده هو صاحب السيادة حتى وإن قال بالدستور في نظريته السياسية. 32 20
تصورت الفصل السابق هو الأخير في قضية ثورة المدرسة النقدية وحاولت الاجابة عن سؤال محير :كيف يمكن تحقيق النظام في غياب الوساطة الروحية والسياسية؟كان السؤال المحير يعبر عن خوف باطن :ألا يكون هيجل محقا في دعواه إن الإسلام بمثاليته المطلقة لا يمكن أن يؤسس دولة مستقرة ذات فاعلية ايجابية؟أيكون الإسلام قد حافظ على فوضى الجاهلية بسبب الثورتين اللتين تنفيان السلطة الروحية الوسيطة بين الله والإنسان والسلطة السياسية فوقهما؟أيكون الفهم الشيعي القائل بالسلطة الروحية الوسيطة (كنسية المرجعية) وسلطة الحق الإلهي السياسية(الوصية) هي المخرج من فوضى الديموقراطيتين؟الا يكون ذلك كافيا لفهم تخبط الأنظمة السنية كلها وما يبدو من انتظام وسلطان للدولة الشيعية الوحيدة على الأقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة؟أليس اصحاب هذه الرؤية القائلة بالوساطتين الروحية والسياسية والمنافية للإسلام النافي لهذين الوساطتين هم من ثارت المدرسة النقدية على فكرهم؟فالغزالي وابن تيمية وابن خلدون ثاروا على الفلسفة القديمة والكلام والتصوف في أشكالها المتعينة في عصرهم بوصفها تحريفا ذا شكل باطني مناف للقرآن.فرفض توظيف الفلسفة القديمة والكلام والتصوف كأدوات لطيفة في المعركة السياسية-الدينية مثل الدافع الظرفي للنقد كما يتبين من الفضائح والمقدمة.وبذلك كان النقد نقلا للمعركة التي كانت إيديولوجية في التوظيف الباطني لهذه الفنون إلى مستوى أرقى هو المستوى الابستيمولوجي تأسيسا لفكر جديد.وهذا الفكر الجديد الذي يلغي التحريفين الروحي (السلطة الكنسية للمرجعية) والسياسي (سلطة الوصية المعصومة) يضعنا مباشرة أمام نسبية مخيفة.فما يؤسسه الإسلام ليس نكوصا إلى فوضى الجاهلية بل اكتشاف لنسبية المعرفة ولذهنية تقبل التعددية وواجب الاجتهاد والجهاد فرض عين في الجماعة. 32 21
وقد وضع ابن خلدون نظرية ثورية صاغت أساس علاج السنة للفتنة الكبرى لئلا تجمد التاريخ مثل الباطنية :ما مبدأ عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي.وهذا المبدأ يعد في الفلسفة العملية أهم علامات الحداثة لأنه شرط الديموقراطية السياسية: وضع التعددية اللامؤثمة اساسا لطلب الحلول السياسية.غرض هذا الفصل الذي أتمنى أن يكون الأخير في مسالة المدرسة النقدية أن اثبت سوء فهم هيجل ووهم قوة الحل الباطني بالقياس إلى الحل السني.فالثيوقراطيا الباطنية (التشيع المعتمد على الوساطتين الروحية والسياسية) تلغي الاجتهاد والجهاد الفردي وتحول الجماعة إلى عبيد عصمتين زائفتين.صحيح أن الفاشيات سواء كانت دينية أو وضعية تبدو أقوى من الديموقراطيات .لكن ذلك من أوهام من يتصورون النظام الظاهر دليل قوة وهو عين الهشاشة.فشتان بين جماعة كل فرد فيها مسؤول وله وازع باطن يحركه في اتجاه الوازع الظاهر ما ظل موافقا للأسس الخلقية وبين جماعة قطيع يقودها مدع للعصمة.ولأورد نص ابن خلدون الذي ختم به تحليل الحروب الأهلية الخمسة التي تلت الفتنة الكبرى سعيا لقلب صفحتها بمبدأ عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي.ففي فصل ولاية العهد ( 30من باب المقدمة الثالث) قال \"فاعلم أن اختلافهم (الصحابةوالتابعين) إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عنها الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة.والمجتهدون إذا اختلفوا-1 :فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لميصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئمنهما والتأثيم مدفوع عن الكل اجماعا-2 .وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرىبنفي الخطأ والتأثيم .وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية .وهذا حكمه\".الحروب اربعة :بين علي وأم المؤمنين وبينه وبين معاوية وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزبير مع عبد الملك .والدمل الذي يبطه.وفي الحقيقة فإن رسالتي المفتوحة الأولى لعميل إيران في لبنان كانت بمناسبة موقفه من تعليق ابن خلدون على موقف ابن العربي من مقتل الحسين.فقد عرض في خطبته بمناسبة عاشوراء بهما فلم أطق صبرا وأرسلت له ما ينبهه بأنه دون الرجلين إنصافا للحسين :فالقاضي نسب مقتله لمقتضيات شرع جده. 32 22
وابن خلدون راجعه مبينا أن هذا الحكم فيه تعسف لأن الحسين كان محقا بمنطق الشرع (يزيد لم يكن شرعيا) حتى وإن أخطأ بمنطق السياسية (سوء التقدير).بعبارة أوضح لم يكن الحسين خارجا على حاكم شرعي حتى يقال إنه قتل بشرع جده .لم يقدر توازن القوى فكانت ثورته خطأ سياسيا .هذا حكم ابن خلدون.وحتى يحسم الأمر وضع مبدأ عدم التأثيم وهو ليس من وضعه بل هو قراءته الفلسفية لأصله الإسلامي إذ هو في الحقيقة التطبيق السياسي لمفهوم الاجتهاد.لكن الباطنية لا تريد قلب الصفحة ولا تزال بمنقط الوساطتين الروحية والسياسية تطالب بالثأر وتطبيق رؤية آل ساسان :عبادة العباد للعباد بدل ربهم.صحيح أن السنة لا تطبق الرؤية القرآنية في الواقع الفعلي .لكن فكرها يعتبر هذا الواقع أمرا واقعا ينافي الأمر الواجب :حكم بالشوكة وليس بالشرعية.وذلك هو سر الفوضى وليس المبدأين :ليست الفوضى ناتجة عن الحرية الروحية والحرية السياسية القرآنيتين بل عن القوة الحائلة دونهما وتحقيق النظام.وبعبارة أوضح :ليست الحريتان عودة إلى الجاهلية فهما خروج منها والحائل دونهما والنظام الخلقي الذي وضعه القرآن هو نكوص المسلمين للجاهلية.والجاهلية الحالية صنفان :صنف قبلي واضح في الأنظمة التي تدعي الأصالة وصنف عسكري واضح في الأنظمة التي تدعي الحداثة .كلاهما جاهلي وبربري متوحش.لذلك فالثورة كما فهمها الشعب هي هي محاولة شعبية لاخراج الأمة من الجاهلية بصنفيها ومن ثم فانتخاب الأحزاب الإسلامية ذو دلالة عميقة ولطيفة.فما يحقق الحريتين الروحية والسياسية أي الديموقراطيتين في مستوى ضمير الفرد الروحي وفي مستوى عمل الفرد السياسي هو الإسلام السياسي الحقيقي.ولا أستنكف من استعمال الإسلام السياسي :فهو تطبيق صريح لنظرية الحكم كما يحددها القرآن في آل عمران والنساء والمائدة والشورى والبقرة.وقد بلغت الوقاحة بأعداء الشعوب من الأنظمة وطبالي نخبها إلى حد جعل عبارة \"إسلام سياسي\" إرهابا ثم يدعون الحكم بقيم الإسلام والحداثة المقلوبة.النكوص إلى جاهلية القبائل صار حكما بقيم الإسلام وإلى جاهلية العسكر صار حكما بقيم الحداثة أما الدعوة إلى الحريتين الروحية والسياسية فإرهاب. 32 23
وطبيعي أن يكون الأمر كذلك :ذلك أن حماتهم يطبقون منطق الاستعمار الذي وصف بالإرهاب كل حركات التحرر ومقاومات التحرير خلال القرون الماضية.وإذ هم بصنفيهم القبلي والعسكري مجرد نواب لهذا الاستعمار الذي يحمي كراسيهم واستبدادهم وفسادهم فمن الطبيعي أن يعتبروا ثورة الشعوب إرهابا.وطبيعي أن تكون الصفوية والصهيونية ومليشياتهما العربية بالقلم وبالسيف حليفة لهم في الحرب على الإسلام والشعوب رغم مسرحيات العداء القولي.لكن الشعوب والإسلام السياسي بهذا المعنى يدركون اللعبة ولا يمكن أن يحالفوا الصفوية ولا الصهيونية وكل لجوء لإحداهما ضد الاخرى خداع ذاتي.لا أقبل حلف الإسلام السياسي مع إيران ولا أقبل حلف الأنظمة مع إسرائيل :نعيش حربا أهلية وعلينا حسمها بهذه الصفة فلا نتحصن بالعدوين ضد الشقيقين.وبحثي في الأصول المعرفية للخلافات العملية هدفه فهم حقيقة المعركة وأنها ليست بنت اليوم بل هي شبه ملازمة لتاريخ الأمة والنصر للإسلام حتما.أملي أن يكون البحث قد أسهم في إفهام الشباب بأن الحرب الأهلية التي نتجت عن العلوم الزائفة والتوظيف الشيطاني للدين والفلسفة عولج نظريا.ولم يبق إلا أن نعالج الأمر عمليا .فثورة الشباب ليست كما يزعم الدجالون ثورية عديمة الخلفية النظرية بل إن عمقها النظري ملازم لتاريخ الأمة. 32 24
ما الذي جعل المدرسة النقدية تنتهي إلى رسم فلسفة نظر وعقد (ابن تيمية) وفلسفة عمل وشرع (ابن خلدون)؟ولماذا بدأت هذه الغاية بنقد للفلسفة والكلام انطلاقا من التوظيف وانتهاء بالغوص في الأسس الوجودية والإبستيمولوجية للفلسفة النظرية والعملية؟والسؤال هو :كيف تم الانتقال من خصومات تبدو في الأصل ايديولوجية إلى إشكالات تبين بالتدريج أنها فلسفية معرفيا ووجوديا :نظرية المعرفة والوجود؟ولا بد هنا من العودة إلى \"المعادلة الوجودية\" :فالكلام الايديولوجي أو دوافع الخصومة حول التوظيف يبدو مقصورا على علاقة القطبين الله والإنسان.لكنه سرعان ما تبين أنه متجاوز للعلاقة المباشرة بين القطبين والتوظيف إلى الوسيطين بين القطبين الطبيعة والتاريخ أو نظام الضرورة ونظام الحرية.فأول مشكل بدأ به كتاب التهافت تعليل النصفية بعدم التمييز بين العلمي (المنطق والرياضيات) والميتافيزيقي (الطبائع والسببية أو علاقة العالم بالله).فالغزالي اعتبر المستهترين بالدين متشبهين بالفلاسفة بناء على استدلال سطحي مفاده أن الدين لو كان صحيحا لكان الفلاسفة أدرى به من \"المتكلمين\".فرد الغزالي بيان أن المسائل الدينية والميتافيزيقية لا تقاس على العلوم وأن الفلاسفة الكبار يعرفون ذلك ولذلك فهم غير مستهترين بالدين مثلهم.كتاب التهافت ألف لبيان هذه الأطروحة .وأعلن الغزالي صراحة أنه لا ينوي إثبات حقائق بل التشكيك فيما يظن حقائق وأنه لا يلتزم أي مذهب كلامي.انتقل من معركة ضد المتشبهين بالفلاسفة إلى معركة بين الكلام عامة والفلاسفة عامة ممثلين الفارابي وابن سينا) حول رؤيتهم لعلاقة العالم بالله.فكانت ثورته في نظرية السببية (المقالة )17وقبلها الكلام في الثيولوجيا والكوسمولوجيا وبعدها الكلام في الانثروبولوجيا :الله والعالم والإنسان. 32 25
وهذه المجالات أو الموضوعات هي ما سماه كريستيان فولف تلميذ لايبنتس لاحقا بالأنطولولجيات الخاصة الثلاث .أما الرابعة فهي رهان الثورة كلها.فالمطلوب في علاج هذه الانطولوجيات الخاصة بيان فساد الانطولوجيا العامة التي يقول بها الفلاسفة ويحسبونها علما فأدلجوا الفلسفة بتوهمها علما.والأنطولوجيا العامة هي في آن نظرية معرفة ونظرية وجود عامة .وفيهما حدثت الثورة النقدية حول إشكالية حدود العلم في هذه المجالات الأربعة.ما يعنيني هو لماذا لم يتقدم الغزالي وابن تيمية نحو فلسفة إيجابية تؤسس لفلسفة الطبيعة والوحيد الذي فعل هو ابن خلدون فأسس فلسفة التاريخ.عندما يؤسس ابن تيمية لفلسفة النظر والعقد لا يتجاوز حل مشكل العلاقة بين العلم والإيمان دون أن يتجاوز ما يمكن أن يؤسس لعلم طبيعة لم يشرع فيه.فلازم حله :علم المقدرات الذهنية ضروري وبرهاني أما علم الموجود فتطبيق له يخلو من الضرورة وهو نسبي دائما :إنه علم تجريبي أو رياضيات تطبيقية.لازم لم يقل به صراحة ولم يسع لتحقيقه لكنه الحل الوحيد الممكن إذا سلمنا بما يقوله عن الفرق بين عمل المقدرات الذهنية وعلم الموجودات الخارجية.الفرق بينه وبين ابن خلدون :لم يكتف بالقول بقابلية التاريخي للعلم خلافا للفلاسفة بل انتقل إثبات تاريخية الفلسفة وفلسفية التاريخ :المقدمة.وطبعا فهذا القصور هو النقص المخل بالثورة كلها وهو علة فشل استعمار الإنسان المسلم في الأرض بعلم التجربة الرياضي.والتوصيف الفلسفي للأمر كله هو أنه يرد إلى أن تقديم \"صورة العمران\" على مادته وهذا من الرؤية القرآنية :الشرائع وعلمها مقدمان على الطبائع وعلمها.تأسيس علم الطبيعة التجريبي الرياضي شرطه تجاوز الطبائع الميتافيزيقية :ثورة ابن تيمية. وتحقيقه مشروط بشرائع تصور أفعال الجماعة :ثورة ابن خلدون.لذلك فالغرب لم يستطع تجاوز فيزياء أرسطو إلا بعد أن حصل فيه ما حققه ابن خلدون :مفهوم العمران كفعل إنساني روحي وسياسي (فلسفة تاريخ حديثة).كان لا بد من ثورة دينية-خلقية (ق )16 .وفلسفية علمية (ق )17.وسياسية (ق)18. واجتماعية (ق )19.وعالمية (ق :)20.فعاد الإسلام لركح التاريخ بثورتيه. 32 26
فيتبين أن الاستئناف قد آن أوانه وأن ما عليه وضع الإسلام في العالم اليوم ليس وليد الصدف حتى وإن كان دور أهله ما يزال منفعلا لعقم نخبهم.نقد الضرورة الطبيعية غير مفهوم الطبائع فقربها من الشرائع ونقد الحرية الخلقية غير مفهوم الشرائع فقربها من الطبائع :تحييد معضلة ميتافيزيقية.الحتمية السببية ليست ضرورية لعلم الطبيعة .فالانتظام كاف .والحرية الخلقية لا تعيق علم التاريخ فسلوك الإنسان منتظم :وعلم الموجود بطبعه نسبي.والعلم في الحالتين هو طلب الانتظام الرياضي أو القوانين لسلوك الطبائع والشرائع فنخرج من المعضلة الميتافيزيقية :تنافي الحتمية والحرية.ما يعوض الحتمية في العلم هو الانتظام في القانون الرياضي وما يبقي على الحرية هو امتناع المطابقة بين العلم والعلم كمقدر ذهني والوجود الخارجي.والعلم المطابق عقيدة في العلم المطلق الذي ننسبه إلى الله :فعلم الله بالوجود الخارجي هو عين قيام الوجود الخارجي وهو العلم الوحيد المحيط.وهذا عقيدة وليس علما .وهو يقين إيماني وليس حقيقة علمية .واليقين الإيماني هنا بات قابلا للتصور فلسفيا لأنه لا يتنافى مع علم نسبي بالطبع.غاية الثورة التي حققتها المدرسة النقدية العربية :حل مشكل العلاقة بين الإيمان والعلم في النظر ومشكل العلاقة بين الأخلاق والقانون في العمل.فتكون الحريتان اللتان كانتا مجرد معتقد ديني قد تأسستا فلسفيا :تجاوز المطابقة يؤسس للاجتهاد والتعدد المعرفي والعقدي والسياسي وحرية الفكر.ولا فاعلية للإنسان من دون الحريات الخمس التي نعوض بها نظرية المقاصد :الحرية الخلقية للإرادة والحرية الفكرية للعلم والحرية الفعلية للقدرة= والحرية الذوقية للحياة والحرية الرؤيوية للوجود: -1تؤسس التعدد السياسي -2التعدد المعرفي -3التعدد الاقتصادي -4التعدد الفني -5تعدد الرؤى 32 27
وهذه الحريات هي مقومات الشخصية أو الذات البشرية التي بفضلها ننتقل من الرعية إلى المواطنة أو واجب المشاركة في إدارة الأمر :أمرهم شورى بينهم.وهذه الذاتية أو المكلفية هي الشخصية التي تأتي ربها فردا وتحاسب على أعمالها في الدنيا يوم الدين وهي متعلقة بتعمير الأرض بقيم الاستخلاف.كل هذه المعاني أضاعها نكوص الأمة بسبب الانحطاط نكوصا أفقدها الحريتين الروحية (تكون كنسية) والسياسية (تكون سلطان فوق إرادة الجماعة).فحصلت الحال التي سماها ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" بسبب استبداد التربية (الحرية الروحية) والحكم (الحرية السياسية) فزالت حقيقة الإنسان.وبهذا النكوص أصبحت هذه القيم تهاجم باسم الخصوصية الإسلامية وظنها دخيلة وهي من جوهر قيم القرآن الذي يعتبرها مقومة لذاتية الإنسان مسؤوليته. 32 28
نواصل الكلام في ثورة المدرسة النقدية ببيان علاقتها بالرؤية القرآنية التي عللت بها أمرين: -1البداية الإيديولوجية للمعركة مع الكلام والباطنية-2الانتقال إلى الغاية الفلسفية التي تعلقت بتغيير نظرية المعرفة (نفي القول بالمطابقة) والنظرية الوجودية التخلي عن وهم احاطة الإنسان به.والإثبات بالآيات على اهميته لا يكفي لعلتين :سيقال هي حمالة اوجه وسيقال أنت تصادر على المطلوب لأنك تثبت الشيء نفسه .لذلك لا بد من دليل حاسم.وأفضل أدلة الحسم شهادة من لم يعرف عنه حب الإسلام أو نزاهة الدفاع عن الحق :ما الأمور التي كان علم الكلام المسيحي يعيبه على الإسلام؟ولماذا كانت ما يعيبه هيجل على الإسلام هو ما يعيبه على فلسفة التنوير ونقديتها ومنزلة للإنسان ومقف تجريدي يعتبره منافيا لمقوم المسيحية؟بعبارة أوضح فشهادة الكلام المسيحي وشهادة هيجل بما تبينانه من عيوب منسوبة إلى الإسلام هما نفس ما حاولنا بيانه أصلا لرؤية مدرسة النقد العربية. وأبدأ بالمسألة الأولى :ماذا يعيب الكلام المسيحي وخاصة بعد الإصلاح على الإسلام؟ خمسة أمور: -1أهمها قول الإسلام بالأ Rechtshaffenheitlوهو أعجب ما يعاب على الإسلام أي القول إن الجزاء بقدر العمل وأن الله يعامل الناس دون تمييز بمقتضى عملهم وليس بما يسمى لطفا منه وتفضلا. وبعبارة حديثة :كيف يعقل أن يكون الله خاضعا للقانون؟فهو لا يكتب على الإنسان وحده بل يكتب على نفسه ويلتزم بالقانون لأنه حاكم عادل بإطلاق. وهذا أول عيب يجده المصلح الأول في الإسلام.أما الثاني فهو أن الإسلام شديد الالتصاق بالدنيوي والطبيعي وينكر الخطيئة الموروثة Die Erbsünde 32 29
والعيب الثالث :الحرية الروحية أو نفي الوساطة ولا يعتبر عيسى وسيطا بل هو رسول مثل الرسل الباقين يذكر بدين الفطرة أو الديني في كل دين :الإسلام.العيب الرابع لا يكتفي الإسلام بإصلاح الكنيسة التي تعوص الوسيط والشفيع (المسيح) بل يلغيها تماما فيجعل الدين مسألة شخصية وفرض عين لكل فرد.والمسألة الاخيرة وهي الأهم القول بالغيب المطلق الذي هو محجوب حتى على الأنبياء فالعلم كله نسبي لا المسيح ولا محمد يمكنه أن يحيط بالوجود.هذه العيوب الخمسة في نظر فكر الإصلاح (بعد لوثر) هي في الحقيقة أهم ثورات الإسلام :إلغاء للسلطتين فوق الضمير الخلقي في تعينيه الديني والسياسي.وإذن فالإصلاح لم يغير من جوهر المسيحية بل هو حد من فساد الكنيسة وفساد الحكم بالحق الإلهي دون أن يلغيهما كما فعل الإسلام :بقيت آل عمران .79فتأليه المسيح الوسيط المطلق أو الشفيع المطلق الذي هو تأنيس الله في قراءة هيجل هو الخلاف الجوهري بين الديني أو الإسلام وتحريفاته كلها.ومعنى ذلك أنه انطلاقا من آل عمران 79يمكن اعتبار فلسفة الدين الهيجلية مطابقة للوجه النقدي من فلسفة الدين الإسلامية :فلسفة تحريفات الديني.فما يعتبره هيجل غاية الدين القصوى أو تأويله للمسيحية بوصفها بلوغ مرحلة تعين الله في الإنسان برمز المسيح هو غاية التحريف القصوى قرآنيا.{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين .....وبما كنتم تدرسون} الآية.كل علم إنساني اجتهاد .وإذا كان صاحبه صادقا في طلب الحق فهو مثاب حتى لو أخطأ .والشرط التواصي بالحق وبالصبر بين المؤمنين العاملين صالحا.يكون التعدد شرطا في البحث عن الحقيقة وذلك حتى في العقائد والشرائع :المائدة .48لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا حتى تتسابقوا في الخيرات.الاعتراف بالتعدد الديني شرط في حرية المعتقد (البقرة )256المشروطة بحرية الفكر (تبين الرشد من الغي) روحيا وبالحرية السياسية (الكفر بالطاغوت).لكن ذلك كله ذهب هباء بسبب الانحطاط والنكوص إلى الجاهلية .الغوا الحرية الروحية في الفكر والعقد وألغوا الحرية السياسية في المثال والواقع. 32 30
ولما كانت الحداثة فيها ما يشبه هذه القيم القرآنية -مثل حرية الضمير وحرية الفكر والحرية السياسية -اعتبروها غزوا ثقافيا وابتعادا عن الإسلام.وهنا أمر إلى المستوى الثاني من الدليل لنفهم لماذا كان هيجل يعيب على الإسلام ما يعيبه على فكر الحداثة وما يسميه الاسترياء (من الرأي) لا العقل.كما في العربية الألمانية تميز في فاعلية بين الحصاة Verstandوالنهى Vernunftاي العقل المتجاوز لمجرد الحساب والتقدير إلى مدرك القيم والمطلق.وكان ذلك ضروريا عنده لتجاوز الحل الكنطي الذي فصل بين ما يدركه الإنسان وما يتجاوز إدراكه أو حقيقة الشيء في ذاته حتى يوحد بين العقل والواقع.فأعاد بذلك نظرية الحقيقة المطابقة وجعل ما يدركه العقل هو عين الحقيقة وكل ما يتجاوز العقل من أوهام الإنسان وليس وراء هذا العالم ما وراء.إنه مفهوم التطابق بين الذات والموضوع في غاية التطور الروحي ومن ثم فالعلم اكتمل والتاريخ انتهى كخرافة خاتم الأولياء كان خاتم الفلاسفة.وهذا هو منطق العولمة الذي هو التعين التام لفلسفة هيجل والتي لا مخرج منها من دون الفلسفة النقدية بشكليها العربي والغربي مع تفضيل الأولى.وليس التفضيل لتعصب للذات بل لعلتين فلسفيتين :لا أقبل أن يكون ما يدركه الإنسان مجرد مظاهر الوجود بل هو ما يناسبه من الوجود وهو حقيقة إضافية.ولا اقبل أن تكون شروط الأخلاق مجرد مسلمات :فشرط الحرية وخلود النفس ووجود الله إذا كانت مجرد مسلمات كانت الأخلاق مجرد \"تقديرات ذهنية\".والجمع بين العلتين يبين أن القول بأن الأخلاق ممكنة من دون دين -فكرة مسيطرة على أدعياء التفلسف-وهم :ذلك أنه لا يميزون بين القانون والأخلاق.وهو تمييز دقيق عند ابن خلدون :الوازع الذاتي ديني خلقي .والأجنبي ساسي قانوني .والأول نابع من ضمير الإنسان وروحه والثاني نابع الحكم السياسي.لكن التربية تحاول الجمع بين الأمرين فيظن الكثير أن الأول حصيلة فعل الثاني .وهذا خلف: ذلك أن الثاني ما كان ليستبطن بدون قابلية الباطن له.والقابلية هي الضمير الذي يميز بين القانون العادل فيعمل به بمقتضى فطرته الخلقية التي هي عين الديني والقانون الظالم فيثور عليه بنفس الدافع. 32 31
ولولا ذلك لما تغيرت القوانين والنظم السياسية .وتلك علة اشتراط القرآن الحرية الروحية في الحرية السياسية فألغى الوساطة والحق الإلهي في الحكم.وبذلك نفهم العلاقة بين الثورتين المعرفية والوجودية في المدرسة النقدية والثورتين القرآنيتين أعني الحرية الروحية والحرية السياسية.فلكأن الغزالي وابن تيمية وابن خلدون طلبا الفلسفة النظرية والعملية التي تترتب على الحريتين الروحية والسياسية في تنظيم مقومي وجود الإنسان.والمقومان هما :كونه مستعمرا في الأرض بتوسط الوسيطين الطبيعة والتاريخ .لكنه مستعمر بقيم الاستخلاف بعلاقة مباشرة بينه وبين الله خليفة له. 32 32
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 38
Pages: