Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ارهاصات ثورة المدرسة النقدية ومحاولاتها تجاوز الفلسفة القديمة - ابو يعرب المرزوقي

ارهاصات ثورة المدرسة النقدية ومحاولاتها تجاوز الفلسفة القديمة - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-08-13 05:37:38

Description: ارهاصات ثورة المدرسة النقدية ومحاولاتها تجاوز الفلسفة القديمة - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬‫‪11‬‬‫‪16‬‬‫‪21‬‬‫‪25‬‬‫‪29‬‬

‫أعتقد أن شباب الثورة بلغ درجة تقتضي أن يلج مستوى أرقى من شروط الثورة الفكرية التي‬ ‫تؤسس للتغيير الثوري الواعي بشروطه وأهدافه عملا على علم‪.‬‬‫وهوما يقتضي أن يفهم علة إبرازي دور المدرسة النقدية في الفلسفة العربية ممثلة بالغزالي وابن‬ ‫تيمية وابن خلدون ومحاولاتهم كشف علل انحطاط الأمة‪.‬‬‫ذلك أنهم ثلاثتهم يعتبرهم أدعياء الحداثة (وخاصة الاولين) علة الانحطاط والتخلف أعني‬ ‫عكس حقيقتهم تماما لخلطهم بين الحداثة وصورتها الاستعمارية‪.‬‬‫ذلك أن أدعياء الحداثة هم دواعش التحديث المستبد مثلما أن أدعياء التأصل هو دواعش‬ ‫التأصيل المستبد‪ .‬كلاهما وثن القيم وردها إلى شكلها الميت‪.‬‬‫وسأبدأ بحثي بما يشبه الملحة‪ :‬فكثيرا ما تسمعون المثقفين يرددون \"الحكم على الشيء فرع عن‬ ‫تصوره\"‪ .‬وهذه الجملة من علامات الفكر المنطقي التقليدي‪.‬‬‫فأولا هذه الجملة تخلط بين دلالتها الإنشائية ودلالتها الخبرية‪ .‬فإنشائيا هي تعني أن الحكم‬ ‫الصحيح على الشيء ينبغي أن يسبقه تصوره الصحيح‪.‬‬‫وإهمال هذا الوجه الإنشائي وتوهم الجملة خبرية يهمل شروط الوصول إلى التصور الصحيح‪.‬‬ ‫وما أن ندرك الفهم الإنشائي حتى نكتشف خطأ الجملة المطلق‪.‬‬‫ذلك أن التصور الصحيح لأي شيء لا نصل إليه إلّا بنقد الأحكام المسبقة المتعلقة به فيكون للحكم‬ ‫دلالتان‪ :‬حكم سابق وحكم لاحق وبينهما التصور الصحيح‪.‬‬‫وبيان ذلك هو دور المدرسة النقدية التي أريد أن نفهم ما حققته من ثورات معرفية بقيت مجهولة‬ ‫بسبب الأحكام المسبقة اعتمادا على نظرية المطابقة‪.‬‬‫فلا وجود لتصور نهائي للشيء يمكن أن يتفرع عنه حكم نهائي على الشيء إلا إذا قلنا بنظرية‬ ‫المعرفة المطابقة‪ :‬العقل مرآة عاكسة للحقيقة الخارجية‪.‬‬‫أولى ثورة غزالية لم يصغها في نهايات حياته ‪-‬المنقذ‪ -‬هي ما يمكن تلخيصه بهذه العبارة‪\" :‬طور‬ ‫يكون للعقل ما العقل للحس \"مفهوما حدا لقدرة العقل‪.‬‬ ‫‪32 1‬‬

‫وهذا الطور نفكر في إمكانه ولا نعلمه وهو مفهوم حد أفضل من مفهوم كنط الحد الذي يسميه‬ ‫الشيء في ذاته‪ :‬لأن في هذا إضافة الحط من منزلة ما نعلم‪.‬‬‫الغزالي حد من وهم المعرفة المطلقة دون أن يحط من منزلة المعرفة الإنسانية‪ .‬فالحد من قدرة‬ ‫العقل في علم الغيب لا ينفي قيمة علمه للشاهد من الوجود‪.‬‬‫فلنعد إلى الجملة الشهيرة حول الحكم والتصور‪ ،‬ففيها رؤية للمعرفة شديدة البدائية تجاوزتها‬ ‫المدرسة النقدية وأسست لرؤية حديثة ظنت معادية للفلسفة‪.‬‬‫وهو ما يدل على أن أدعياء الحداثة ما زالوا يعيشون على نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة‬ ‫وبالعقل المرآة العاكسة لما يسمونه \"الواقع\" الموضوعي‪.‬‬‫وهذا بالذات هو ما سماه ابن تيمية القول بـ\"الإنسان مقياس كل شيء\" مع فهم أدنى من الفهم‬ ‫السوفسطائي الذي ينفي تجاوز العقل دون ادعاء المطابقة‪.‬‬‫ذلك أن السوفسطاية عندما تعتبر الإنسان مقياس كل شيء تحصر ذلك في الحد من قدرات العقل‬ ‫ولا تدعي أن ذلك هو حقيقة الوجود الموضوعي بل هي تنفي علمها‪.‬‬‫هي إذن دغمائية لا عقلانية‪ .‬والدليل أنهم يتصورون المعتزلة وابن رشد عقلانيين رغم أنهما‬ ‫يقولان بالمطابقة بالعقل مرآة عاكسة لحقيقة الوجود‪.‬‬‫وتلك سذاجة نظرية المعرفة القديمة القائلة بالمطابقة وبشفافية الوجود وقدرة العقل المطلقة‬ ‫للنفاذ إلى حقيقته \"على ما هي عليه\" جملة أخرى ساذجة‪.‬‬‫والمدرسة النقدية تعتبر إدراك الوجود \"على ما هو عليه\" إن صح وجوده فلا يمكن أن يكون لغير‬ ‫الله‪ :‬فالنفاذ المطلق للحقيقة يعني الإحاطة بكل شيء‪.‬‬‫ذلك أن اي شيء في العالم حتى المحسوس لا يمكن فصله عن كل أشياء العالم المحسوس ومن ثم‬ ‫فلا يعلم شيء علما مطلقا من دون علم كل شيء في العالم‪.‬‬‫وشرط الإحاطة في المطابقة والعلم باستحالتها لغير الخالق من أهم علامات وجود الغيب في كل‬ ‫موجود‪ :‬ما نشهده منه لا يستوعب كل وجوده ولا يحيط به‪.‬‬ ‫فكيف ينبغي أن نفهم عبارة \"الحكم على الشيء فرع عن تصوره\"؟‬ ‫تصوره هو بدوره حكم‪ .‬فلكأننا قلنا الحكم على الشيء فرع عن الحكم الذي تصورناه به‪.‬‬ ‫فما الفرق بين الحكمين‪ :‬الحكم الشارط للتصور والحكم المشروط به بماذا يختلفان؟‬ ‫قبل أن نجيب فلنعد إلى تحليلات أرسطو الأواخر‪ :‬ألم يقدم التصديق؟‬ ‫وبتقديم التصديق الم يحدد نظرية الحكم قبل نظرية التصور؟‬ ‫‪32 2‬‬

‫وتصور الحدود في القسم الثاني من التحليلات الأواخر جعله حكما حدسيا لا حكما قضويا‪.‬‬‫والحكم الحدسي إدراك لماهيات الذوات وليس حملا للصفات على الذوات‪ .‬من ثم فمقومات الماهية‬ ‫ليست صفات محمولة على موضوع بل هي مقوماته (جواهر ثانية)‪.‬‬‫فالحكم الحدسي أو إدراك الماهيات غير الحكم القضوي أو إدراك الصفات التي تحمل على الذوات‬ ‫أو الماهيات سواء كانت صفات ذاتية للذات أو عرضية لها‪.‬‬‫وهذه النظرية في المعرفة المبنية على العقل المرآة العاكسة للوجود الشفاف هي ما تجاوزته‬ ‫الفلسفة النقدية لكن الغزالي عاد فتبنى الرؤية المشائية‪.‬‬‫وهذا يعني أن الماهيات ليس حقائق الأشياء بل هي تعريفات فرضية مؤقتة في حدود ما توصل‬ ‫إليه علم الإنسان الذي هو تاريخي ومتغير بحسب تدرج المعرفة‪.‬‬‫صحيح أن ذلك لم يكن بهذا الوضوح‪ :‬فأي مكتشف لنظرية جديدة ليس بالضرورة مدركا لكل ما‬ ‫يلزم عنها رغم أن ما يلزم عنها هو ما من دونه لا نفهم نقده‪.‬‬‫ووظيفة الشارح هي استخراج لوازم قول مبدع النظرية ومن دون ذلك لا يتقدم الفكر‪ .‬وابن‬ ‫خلدون مثلا مدرك لكونه يعتبر نفسه مؤسسا لعلم سيطوره غيره‪.‬‬‫المضمر من لوازم نظريات ابن تيمية كثير أولا لأن فكره العميق جاء في شكل ومضات شديدة‬ ‫الوضوح لكنها غير محررة لتبرز نظرية المعرفة التي تؤسسها‪.‬‬‫والثابت عندي أنها لا تقبل الإدراج في الفلسفة القديمة والوسطية بل هي قطيعة جذرية مع‬ ‫نظرية المعرفة بشكليها الأفلاطوني والارسطي‪ :‬ثورة فلسفية‪.‬‬‫وسأحاول في كلامي على ثورته أن أتجنب قدر المستطاع استعمال الاصطلاحات التي قد لا تكون‬ ‫متداولة فتستعصي على الفهم رغم أنها ضرورية لفهم التجدد‪.‬‬‫فالتجدد المتعلق بنظرية المعرفة (ابستمولوجيا) وتحديد العلاقة بين قدرات العقل وحقيقة‬ ‫الوجود (انطولوجيا) هما ما تبرز فيه ثورة النظر التيمية‪.‬‬‫ومن جنسها ما حققه ابن خلدون في فلسفة العمل‪ .‬وابن خلدون أكثر نسقية من ابن تيمية لكن‬ ‫ثورته دون ثورة ابن تيمية جذرية وهذه شارطة لتلك ضمنا‪.‬‬‫وعندما نتم دراسة ما حصل من تغيير في نظرية النظر ونظرية العمل وفي التصور والحكم إلخ‪..‬‬ ‫سنكتشف أن كل ما كان يعتبر بديهيا مبني على وهم المطابقة‪.‬‬‫ولعل أكثر ما يبدو بديهيا كالجواهر الثواني والفرق بين الأعراض أحكام مسبقة وحتى مبادئ‬ ‫العقل إلخ‪ ..‬فالأولى علامات تعريف والثانية فرضيات عمل‪.‬‬ ‫‪32 3‬‬

‫فلا فرق بين الصفات التي تمكن من الرسم والجواهر الثواني التي تمكن من الحد فهي نظام‬ ‫يتأسس على نظرية المطابقة والعقل المرآة للوجود الشفاف‪.‬‬‫وكلها أحكام مسبقة نتجت عن هذه الرؤية التي لا شيء يؤيدها‪ .‬فالإنسان حيوان ناطق والإنسان‬ ‫حيوان كذاب كلاهما يميزه عن غيره من الحيوان‪.‬‬‫وليس صحيح أن كل إنسان ناطق فالكثير من حكامنا بكم‪ :‬مثال السيسي‪ .‬وصحيح أن اغلب البشر‬ ‫كذابون وهذا يصدق كذلك على جل حكامنا كذابون‪ :‬لا حاجة لمثال‪.‬‬‫يبدو المثالان مزاحا‪ .‬لكن النطق والكذب مميزان للإنسان كإمكان يختص به دون غيره من‬ ‫الحيوانات‪ .‬وهما إذن علامتان لا تقدمان العلم ولا تؤخرانه‪.‬‬‫وطبعا المثالان فيهما شيء من المزاح وقد يكون ثقيلا على الفصيلة التي اخترنا منها الأمثلة‪ .‬ولهما‬ ‫علاقة بمقولة\" الحكم على الشيء فرع عن تصوره\"‪.‬‬‫الماهيات أو مقومات الحد التي تسمى جواهر ثوان ‪ -‬حيوان وناطق‪ -‬لا معنى لجوهريتها بل هي‬ ‫علامات اختيرت لتعريف الإنسان وليست حقائق مطابقة‪.‬‬‫وحتى نفهم ذلك جيدا فلنأخذ مفهوم المثلث‪ .‬فلو أبقينا تعريفه التقليدي في الهندسة الإقليدية‬ ‫واعتبرنا ذلك حقيقة المثلث لاستحال تجاوز هندسته‪.‬‬‫فنفهم أن تعريف المثلث منسوب إلى رؤية معنية للفضاء هي الرؤية التي تعتمد عليها رياضيات‬ ‫اقليدس‪ .‬ولما غيرنا الرؤية أبدعنا رياضيات لا إقليدية‪.‬‬‫فهذه الثورة تفتح آفاقا جديدة‪ .‬لم تعد نظرياتنا صورة مطابقة لما نفترضه واقعا بل هي صورة‬ ‫مبدعة لواقع أو لتعدد رؤى \"الواقع\" المفترض موضوعيا‪.‬‬‫فتبدو هذه النقلة مصدقة لـ\"الحكم على الشيء فرع عن تصوره\" لكنها تكذبها لأنها ينبغي أن‬ ‫تكون الحكم على الشيء فرع عن حكم يبدعه سابق أحكام تصفه‪.‬‬‫وهذا هو أساس كل العلوم الفرضية الاستنتاجية‪ :‬تبدع مجالا وتخلقه عن عدم ثم تستنتج مما‬ ‫وضعته فيه بالفرض خصائص تترتب عليها فيكون نموذجا معرفيا‪.‬‬‫والنموذج المعرفي يسميه ابن تيمية \"مقدرات ذهنية\" لا وجود لها خارج الذهن تطابقه بل هي‬ ‫تستعمل نموذجا لوصف أي موضوع قابل للوصف به‪ :‬كالرياضيات‪.‬‬‫وكان واعيا بأن ذلك يفتح أبوابا لا حد لها من العلوم إذ قال ذلك صراحة في نقد المنطق مبينا أن‬ ‫العلم الوحيد البرهاني لا يكون إلا من هذا النوع‪.‬‬ ‫‪32 4‬‬

‫إن الكثير ممن يتصورون المعتزلة وفلسفة ابن رشد عقلانية سيسخرون مما يبدو لهم سفسطة ولن‬ ‫يصدقوا أن نظرية العلم الحديثة تيمية بهذا المعنى‪.‬‬‫وقد قال الغزالي ساخرا من ضيق أفق الفلاسفة‪ :‬ضيق الحوصلة (معدة الدجاج) لأن فلسفتهم‬ ‫مبنية على قيس الغائب على الشاهد المشترك بينهم والمتكلمين‪.‬‬‫وللسخرية قدم احجية‪ :‬شيء من حبة قمح يأكل كل نباتات العالم؟ وهو شاهد وليس غيبا؟ فكل‬ ‫ما اكتشفه العلم الحديث لا نصل إليه بقيس الغائب على الشاهد‪.‬‬‫كل الاكتشافات العلمية إبداعات عقلية ‪-‬مقدرات ذهنية‪ -‬توضع وضعا ويستنتج منها خصائص‬ ‫وتطلب ظاهرات قابلة للتناظر مع النموذج المجرد مجال تطبيق‪.‬‬‫لكن لا أحد يقول بالمطابقة مع \"واقع موضوعي\" بل العلم من جنس الإبداع الأدبي بشروط‬ ‫تجريبية وتبقى مجهولة الطبيعة ونكتفي بتشاكلها مع النموذج‪.‬‬‫الفصل الثاني نعرض فيه نظرية ابن تيمية في علاقة علم المقدرات الذهنية مجال المعرفة‬ ‫البرهانية وعلم الظاهرات الخارجية مجال المعرفة التجريبية‪.‬‬‫وهي علاقة من دونها يمتنع أن يصبح التاريخ جزءا من علوم الفلسفة بخلاف ما كانت تنفيه‬ ‫الفلسفة القديمة التي تستثني التاريخي من العلمية عامة‪.‬‬‫وتلك علة حكمي باستحالة تأسيس محاولة ابن خلدون تأسيس علوم الإنسان على الفلسفة القديمة‬ ‫والوسيطة واستنادها إلى ابستمولوجيا جديدة تجعله ممكنا‪.‬‬ ‫‪32 5‬‬

‫أبدأ الفصل الثاني من كلامي على ثورة النقديين بهذا النص‪ .‬فهو حيرني وأقض مضجعي خلال‬ ‫تحرير رسالتي الجامعية‪ :‬كيف لمثل هذا أن يوجد في عصر صاحبه؟‬‫قال ابن تيمية‪\" :‬فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد‬‫والمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة‪ .‬فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلا‬‫أمورا معينة ليست كلية وهي (ما يدركه) الحس الباطن والظاهر والتواتر والتجربة والحدس و(إذا‬‫كان) الذي يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك أمورا مقدرة ذهنية لم يكن في مبادئ البرهان‬‫ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة في الخارج و(إذا كان) القياس لا‬‫يفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية فامتنع حينئذ أن يكون فيما ذكروه من صورة القياس ومادته‬‫حصول علم يقيني‪ .‬وهذا بين لمن تأمله‪ .‬وبتحريرة وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف‪.‬‬‫وسنبين إن شاء الله من أي وجه وقع عليهم اللبس‪ .‬فتدبر هذا فإنه من أسرار عظائم العلوم التي‬‫يظهر لك به ما يجل عن الوصف من الفرق بين الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية‬ ‫الإيمانية وبين الطريقة القياسية المنطقية الكلامية\"‬ ‫(المنطق ص‪ 73-72 .‬المجموع الجزء التاسع مكتبة المعارف الرباط)‪.‬‬ ‫هذا هو النص المحوري في ثورة مدرسة الفلسفة النقدية‪.‬‬‫وكل من مر على هذا النص ولم يتحير ولم يعجب من وجوده في هذه المرحلة من الفكر الإنساني‬ ‫لا بد وأنه غفل عما فيه من دواعي الحيرة والعجب الأكيدة‪.‬‬ ‫أبدأ بمعلومات عامة حول النص‪:‬‬‫‪-1‬وضعت بين قوسين تكرارا لمدى شرطيته التي وضعها ابن تيمية ليصل إلى تاليها (وإذا) ثم‬ ‫(وإذا)‪ .‬فالشكل شرطية متصلة‪.‬‬‫عناصر المقدم مفروع منها لأنها من مسلمات المنطق الأرسطي إلا عنصر واحد هو المقدمة الأولى‬ ‫التي تحصر العلم اليقيني في المقدرات الذهنية‪.‬‬‫فإذا لم تكن هي سر القطع مع الفلسفة القديمة كان استدلال ابن تيمية مصادرة على المطلوب‬ ‫لأنه يتسلم ما ليس أرسطيا إذ يلغي التحليلات الأواخر‪.‬‬ ‫‪32 6‬‬

‫بصورة دقيقة يمكن أن توجد مقدمة كلية موجبة أو سالبة مثل كل أ هو ب أو لا أحد من أ هو ب‬ ‫فإذ عينت استحال الامر‪ :‬أقول كل إنسان مائت بلا دليل‪.‬‬‫وإذا قلت كل إنسان مائت لم تبق حاجة للقول سقراط إنسان وإذن فهو مائت لأن المقدمة الكبرى‬ ‫تتضمن هذه النتيجة دون حاجة لقياس الكلية الموجبة‪.‬‬‫‪-2‬ثم ينبني كلامه بجمع نوعي التحليلات ليبين أن الممكن شكليا مستحيل مضمونيا من دون تأسيس‬ ‫الكليات المضمونية في ميتافيزيقا أرسطو التي ينفيها‪.‬‬ ‫‪-3‬ثم يميز بين نوعين من المعلومات‪:‬‬ ‫‪ -‬المقدرات الذهنية وفيها كليات ضرورية وبديهية‬ ‫‪ -‬وموجودات عينية ليس فيها إلا الأعيان ولا كلي معلوما فيها‪.‬‬‫‪-4‬ثم يميز بين نوعين من العلوم كلامية قياسية وفطرية عقلية (شكلا)ونقلية (مضمونا)والأول‬ ‫بين استحالته والثاني ممكن بحدود التجريبي غير البرهاني‪.‬‬‫والعقلي الفطري عقليا ونقليا ليس خاليا من المنطق والرياضيات ويكونان علمين مساعدين‬ ‫وأداتين انطباقهما يحافظ على كل خصائصهما الصورية‪.‬‬‫‪-5‬ثم تأتي إشارة إلى الوعي بالنقلة الثورية التي تحصل بفضل هذا التمييز بين نوعي المعرفة‬ ‫للتقدير الذهني وللوجود في الأعيان‪ :‬بروز علوم عظيمة‪.‬‬‫وابن تيمية لم يف بوعده‪ :‬لم يعين العلوم العظيمة‪ .‬فما الشيء الذي \"بتحريرة وجودة تصوره‬ ‫تنفتح علوم عظيمة ومعارف\" ما طبيعة هذه العلوم وما عظمتها؟‬‫نعم اضاف \"فإنه من أسرار عظائم العلوم التي يظهر لك به ما يجل عن الوصف من الفرق بين‬ ‫الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية\"‪.‬‬‫وميز بينها وبين \"القياسية المنطقية الكلامية\"‪ .‬فهل التمييز بين هذين النوعين من العلوم هو الذي‬ ‫سيمدنا بأسرار علوم عظيمة؟ وما هي الأسرار؟‬ ‫من الواضح أن الكلام على \"أسرار\" علوم عظيمة يعني أمرين‪:‬‬ ‫‪ -‬أنها لم تكن معلومة‬ ‫‪ -‬وأن ما كان يخفيها هو هذا الخلط بين نوعي العلوم اللذين ذكرهما‪.‬‬‫إزاحة هذا المانع هو الذي سيظهر الأسرار لكنه لا يحدد العلوم العظيمة التي ستتكون بمعرفة‬ ‫أسرارها‪ .‬ذلك هو ما أريد البحث فيه وما حيرني في رسالتي‪.‬‬ ‫‪32 7‬‬

‫واعترف أن ما قمت به في الرسالة لم يشف غليلي‪ .‬لذلك خصصت ضميمة المثالية الألمانية للمدرسة‬ ‫النقدية عامة ولهذا النص بالذات خاصة‪ .‬فلأوجز الجواب‪.‬‬‫والمحير هو هذا الجمع بين أربع صفات للطريقة الثانية المقابلة لطريقة الكلام \"الطريقة الفطرية‬ ‫العقلية السمعية الشرعية الإيمانية\"‪ .‬فما القصد؟‬‫المقابلة تعني أن طريقة الكلام \"ليست فطرية ولا عقلية ولا سمعية ولا إيمانية\" وقد نقبل بيسر‬ ‫الصفتين الأخيرتين لكن ماذا نقول عن الأوليين؟‬‫كيف ينفي ابن تيمية مزاعم المتكلمين التي يباهون بها‪ :‬العقل بوصفه خاصية طبيعية للإنسان‬ ‫ومن ثم فهو فطري لديه حتى لو صيغ فنيا بالمنطق الأرسطي‪.‬‬‫أن يدعي ابن تيمية أن طريقة الكلام ليست فطرية ولا عقلية فضلا عن نفي كونها سمعية‬ ‫وإيمانية أمر محير‪ .‬هل هو يحاكي الفلاسفة بنفي الصفتين الأوليين‪.‬‬‫فالفلاسفة يتهمون المتكلمين دائما بأنهم لم يتجاوزوا الجدل والخطابة وبقوا دون المعرفة الفلسفية‬ ‫البرهانية بمعيار ابن رشد كما يحكيه الجابري‪.‬‬ ‫وصف طريقة المتكلمين بالقياسية المنطقية يعني خطأين معرفي ووجودي‪:‬‬ ‫‪-1‬الخلط بين نظام القول ونظام الوجود‪.‬‬ ‫‪-2‬وقيس الغائب على الشاهد ونفي الغيب‪.‬‬‫فيعود الأمر إلى نظرية المعرفة المطابقة أي اعتبار الوجود مطلق الشفافية والعقل مرآة عاكسة‬ ‫لما عليه في ذاته فينتج عنه خطآن معرفي ووجودي‪.‬‬‫وفعلا فقيس الغائب على الشاهد يفترض الاطراد في الوجود ولا شيء يدل عليه ويفترض رد‬ ‫الشاهد إلى المعلوم منه فينفي ما لا يرد إلى الشاهد‪.‬‬‫وفي هذه الحالة لم يبق فرق بين المنطق الشكلي والمنطق المضموني وتصبح العملية جدلا قياسيا‬ ‫احتكامه للوجود تحكمي وغفل في تناطح المتجادلين‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن إطلاق أرسطو لضرورة قطع التسلسل والتحرر من الدور لتأسيس التصديق يخلط‬ ‫بين ضرورته للقول عامة وعرضيته لموضوع القول العلمي‪.‬‬‫فكل قول حتى يبدأ لا بد له من حدود أولية يعتبرها مسلمة‪ .‬من دون ذلك لا يمكن البدء في‬ ‫الكلام‪ .‬لكن شتان بين ذلك وبين اعتباره حقائق أولية‪.‬‬‫فيكون مفهوم \"حقيقة أولية\" هو بيت القصيد‪ .‬ولذلك فالأوليات الضرورية لا تصح إلا على‬ ‫المقدرات الذهنية‪ .‬وهي ذريعة في معرفة الموجودات الخارجية‪.‬‬ ‫‪32 8‬‬

‫كيف ذلك؟‬‫أعوض متغيرات القياس أي حدوده الثلاثة بقيم وجودية تملأ خانة الحد ‪( 1‬أ) والحد ‪( 2‬ب)‬ ‫والحد ‪( 3‬ج) افترض أن تعريفي مطابق للموضوع‪.‬‬‫وتعريف الموضوع كما هو بين من التحليلات الأواخر حكم حدسي أو إدراك مباشر لا دليل على‬ ‫مطابقته لحقيقة الموضوع‪ :‬أساسه ميتافيزيقا المطابقة‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الباب الثاني من التحليلات الأواخر يعتبر حقائق الأشياء مدركة مباشرة لأنها‬ ‫تنعكس على مرآة العقل وليست موضوع بحث تجريبي متطور‪.‬‬‫وإذن فالعلم القياسي المنطقي يستثني شروط المعرفة الفعلية بالموجودات الخارجية لافتراضه‬ ‫خضوعها لمنطق القول بدل التجربة مكتفيا بالإدراك الغفل‪.‬‬‫الميتافيزيقا إدراك غفل أساسه اعتبار الوجود شفافا والعقل مرآة والعلم ليس هو شيئا آخر إلا‬ ‫تطبيق المنطق على هذه الصورة الغفلة من الوجود‪.‬‬‫لكن العلم سره يكمن في عملية تحديد القيم التي تعوض المتغيرات فننتقل منها كخانات خالية‬ ‫إليها وقد ملأناها بقيم هي ما نستمده من تجربة الأشياء‪.‬‬‫وهذا هو مدلول الصفتين الأوليين من الكلام على الطريقة المقابلة لطريقة الكلام‪ :‬الفطرة‬ ‫العقلية‪ .‬فهي طلب هذا المضمون التجريبي لمعرفة الأشياء‪.‬‬‫أما الصفتان الأخريان \"السمع والإيمان\" فيتعلقان بما لا يقبل القيس على الوجود الشاهد لأنه‬ ‫ليس من مجال التجربة الحسية‪ :‬مجال المعرفة الدينية‪.‬‬‫فيكون ابن تيمية في الحقيقة يتكلم على ثلاثة طرق جمع بين الاثنتين الأخيرتين وقابلهما‬ ‫بالكلامية لأنهما يقابلانها بكونهما يحتكمان لعدم المطابقة‪.‬‬‫فالأولى تحتكم إلى التجربة ولا تسلم بالمطابقة لأن التجربة مفتوحة إلى غير غاية والثانية تحتكم‬ ‫إلى الإيمان بالغيب فتقبل السمع لتصديق الرسول‪.‬‬‫العلم والإيمان يشتركان في الاحتكام إلى ما يتجاوزهما‪ :‬التجربة للأول والسمع للثاني‪ .‬كلاهما‬ ‫يحتكم إلى موضوع متعال لا يرد إلى إدراك الإنسان له‪.‬‬‫ولا يمكن للإنسان أن يدركه مباشرة بل يحتاج لعلوم أدوات يبدعها مرتين‪ :‬موضوعها وعلمه‪ .‬إنه‬ ‫أداته للعبارة عن التجربة دون ردها إليه بل هو تقديري‪.‬‬‫ومن الإيمانيات أن العالم يخضع للمقدار أو للرياضيات (القرآن‪ :‬كل شيء خلقناه بقدر) فتكون‬ ‫المعرفة عامة إبداعا لشروط النظر ولشروط العمل‪.‬‬ ‫‪32 9‬‬

‫فالعلم إبداع لشروط النظر التي هي المقدرات الذهنية التي تعطينا نماذج لصوغ تجاربنا عن‬ ‫المعطيات الحسية والإيمان إبداع لشروط العمل وهي مثلها‪.‬‬‫المعرفة الدينية رياضيات عملية حول التجربة الروحية أو منظومة من المقدرات الذهنية لا تتعلق‬ ‫بالموجودات الخارجية بل هي ضرورية للتعامل معها‪.‬‬‫فابن تيمية لا يعترف بالكليات والأوليات والضروريات إلا في المقدرات الذهنية في النظر‬ ‫والمعتقدات الدينية الإيمانية في العمل‪ :‬متماثلان بنيويا‪.‬‬‫أما طريقة القياس فهي كلامية بمعنيين‪ :‬تغلب على المتكلمين ولا تتجاوز الكلام إلى الموجودات‬ ‫الخارجية تصادر على المطلوب بقيس الغائب على الشاهد‪.‬‬‫فلو كان الغائب يرد إلى الشاهد لاستغنينا عن البحث العلمي‪ .‬ولو كان كل شيء شاهد لتوقف‬ ‫البحث بل يوجد دائما في الوجود ما لا يصير من الشاهد‪.‬‬‫فتكون النتيجة التخلي نهائيا عن نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة واكتشاف حقيقتين‪ :‬العقل يعلم‬ ‫ويعلم حدوده والوجود شاهد ويتجاوزه إلى الغيب‪.‬‬ ‫‪32 10‬‬

‫أجملت الكلام على المدرسة النقدية الفلسفية‪-‬الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪-‬وتكلمت على‬ ‫الأولين وعلى‬ ‫فلسفة النظر وآن أوان الكلام على فلسفة العمل‪.‬‬‫كان الغزالي ممثلا للفلسفة للنقد الفلسفي عامة فتحا لمنفذ يوسع آفاق العقل والروح ويتجاوز‬ ‫المقابلات السطحية بينهما وبدرسنا فلسفة النظر التيمية‪.‬‬‫والآن نتكلم على ما أصبح ممكنا في فلسفة العمل والتجاوز الصريح للعلوم الزائفة في النظر‬ ‫والعمل والشروع في تأسيس العلوم الإنسانية بخطى ثابتة‪.‬‬‫وبخلاف اسلوب ابن تيمية فكر ابن خلدون نسقي رغم كونه لا يخلو من ومضات لا تقل عبقرية‬ ‫عن ومضات ابن تيمية‪ :‬ولهذه العلة فعرضه إضافته أيسر بكثير‪.‬‬‫وحتى لا نقع في خطأ كبير فالأمر لا يتعلق بما يعرض عادة بحثا عن كونت وماركس في فكره‪ .‬فما‬ ‫نطلبه أعمق غورا وابعد دورا في تجاوز القديم والوسيط‪.‬‬‫كونت ومارس أتيا بعد ثورات تحققت في الغرب دينية وفلسفية وعلمية وسياسية واجتماعية ومن‬ ‫ثم فموضوعات فكرهما تحققت قبله والسعي إليها ليس طفرة‪.‬‬‫وكم أتمنى لو توفرت دراسات عينية للوقائع الدينية والفلسفية والعلمية والسياسية والاجتماعية‬ ‫موضوع فكر المدرسة النقدية لتساعدنا على وصله بها‪.‬‬‫فما تصورناه طفريا لعله ليس كذلك ولعل ما تقدم على ثالوث المدرسة النقدية وما عاصرهم كان‬ ‫متضمنا لإرهاصات جعلت اعتبارهم لها منطلقا لفكرهم‪.‬‬‫والأمر الوحيد الذي أنا واثق منه هو أن تعثر الحضارة الإسلامية والصراع بين الفكرين الفلسفي‬ ‫والديني المعاصرين لهم كان لهما دور الدافع الرئيس‪.‬‬‫فالفكر لا يبدع عن عدم بل إن إشكالات حقيقية تدفعه للعلاج الباحث عن حلول فيكون إبداعه‬ ‫استجابة لتحد لا يقتصر على الجدل والصراع الكلامي‪.‬‬‫وابن خلدون ينطلق من قضية ابستمولوجية‪ :‬طبيعة الظاهرة التاريخية وطبيعة علمها أو بلغة‬ ‫المقابلة مع فلسفة عصره لماذا استثني التاريخ منها؟‬ ‫‪32 11‬‬

‫فلنورد نصه من فاتحة المقدمة‪\" :‬أما بعد فإن فن التاريخ‪-1....‬إذ هو في ظاهره لا يزيد على‬‫إخبار عن الأيام والدول والسوابق في القرون الأول تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف‬‫بها الأندية إذا غصها الاحتفال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال (‪-2 )..‬وفي‬‫باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك‬ ‫اصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق\"‪.‬‬‫تكفي المقابلة بين \"في ظاهره\" و \"في باطنه\"‪ .‬ثم المقابلة بين \"أصيل في الحكمة عريق\" و \"جدير بأن‬ ‫يعد في علومها وخليق\"‪ .‬المقابلتان مفيدتان لغرضنا‪.‬‬‫ولأبدأ بالمقابلة الثانية التي تبدو محتوية على تناقض‪ :‬كيف يكون التاريخ أصيلا في الحكمة‬ ‫وعريق ويحتاج إلى التنويه إلى جدارة هو محروم منها؟‬‫في الحقيقة التنويه يعني أن من تقدم عليه لم ير أنه أصيل في الحكمة وعريق لعدم اعتباره‬ ‫جديرا بأن يعد من علومها وخليق‪ .‬إشارة ذكية لمنزلته قبله‪.‬‬‫وهو انقلاب أول وتغير جذري أعطي للتاريخ منزلة ابستمولوجية لا تعترف بها الفلسفة قبل ابن‬ ‫خلدون فأرسطو ينفي قابلية التاريخ للعلم لعرضية أحداثه‪.‬‬‫وعندما نعلم العلم نصل إلى الانقلاب الثوري الثاني الذي لا بد من حصوله ليصبح للتاريخ هذه‬ ‫المنزلة‪ :‬ويتعلق بما لأجله ينفي ارسطو علمية التاريخ‪.‬‬‫فالعلم في ابستمولوجيا الفلسفة القديمة والوسيطة علم للكلي والضروري وموضوع التاريخ‬ ‫الجزئي والعرضي‪ :‬وقابليتهما للعلم تقتضي تغيير طبيعة موضوعه‪.‬‬‫لا بد أن يكون موضوع العلم لا تاريخي لأنه كلي وضروري كما في علوم الطبيعة عامة أو في‬ ‫الرياضيات والمنطق‪ :‬النتيجة علوم الإنسان غير ممكنة فلسفيا‪.‬‬‫فأقصى ما يمكن فعله في دراسة الموضوعات الثلاثة التي تعتبر بدايات علوم الإنسان أي السياسة‬ ‫والأخلاق والاقتصاد المنزلي هو التدبير العملي‪.‬‬‫لكن ابن خلدون دون أن يكون جاهلا بذلك‪-‬من هنا التنويه الذي يشبه اللوم‪-‬يتجاوزه ويدعي‬ ‫أن التاريخ أصيل في الحكمة وجدير بأن يعد من علومها وخليق‪.‬‬ ‫كيف فعل ليحقق ذلك؟‬‫الجواب هو موضوع هذا الفصل في محاولة فهم ثورة المدرسة النقدية الفلسفية العربية كما أثبتنا‬ ‫في ضميمة المثالية الألمانية‪.‬‬ ‫وللجواب لا بد من المرور للمقابلة الأولى‪ :‬بين ظاهر التاريخ وباطنه‪:‬‬ ‫‪32 12‬‬

‫‪-1‬فن أدبي للأسمار حول الايام (أيام العرب مثلا)‪.‬‬ ‫‪-2‬علم فلسفي يعلل الوقائع‪.‬‬‫وبها بدأ ابن خلدون فاتحة مقدمته بمعنى أنه لم يداور بل مر مباشرة لتحديد طبيعة ثورته‪ :‬من‬ ‫منزلة فن أدبي للأسمار إلى منزلة علم لتفسير للوقائع‪.‬‬‫ولأنها ثورة اضطر للقيام بأمر تحرمه الإبستيمولوجيا القديمة‪ :‬العلم الجزئي لا يؤسس نفسه بل‬ ‫يتسلم مبادئه من علم أعلى إلى الغاية في العلم الرئيس‪.‬‬‫والعلم الرئيس أو الميتافيزيقا هو الذي يؤسس العلوم يؤسس نفسه ويؤسس كل منظومة العلوم بما‬ ‫يشبه التصنيف والترتيب التأسيسي على انطولوجيا عامة‪.‬‬‫ابن خلدون يتحلل من ذلك فيؤسس علمه الجديد ما يعني أمرين‪ :‬أنه خارج الفلسفة التي‬ ‫تستثنيه وأنه بتأسيس ذاته وما يتفرع عنه بديل من علمها الرئيس‪.‬‬‫تلك هي الثورة التي أنسبها إلى ابن خلدون‪ .‬وبسبب هذا الخروج عما تمكن منه فلسفة عصره‬ ‫اضطررت للبحث عن شروط إمكانها خارج إطار الفلسفة السارية‪.‬‬‫فكان علي أن أبحث عنها في مصادر ليست يونانية وليست فلسفية بالمعنى التقليدي‪ :‬وليس عندي‬ ‫إ ّلا حل ذي مرحلتين‪:‬‬ ‫‪-1‬نقد فلسفي للفلسفة‬ ‫‪-2‬برؤية قرآنية‬‫ففي القرآن الكريم منزلة التاريخ متقدمة على منزلة الطبيعة بل إن الطبيعة نفسها ظاهرة‬ ‫تاريخية لأنها مخلوقة ومتغيرة وخاصة في علاقتها بالإنسان‪.‬‬‫ولم يصبح للتاريخ منزلة وجودية ولمعرفته منزلة ابستمولوجية حتى في الغرب إلا بفضل فلسفة‬ ‫الدين أو فلسفة التاريخ الإنساني بأبعادها الدينية‪.‬‬‫لم يول للتاريخ منزلة فلسفية وجوديا (وقائعه) ومعرفيا (علومه)إلا هيجل‪ .‬فقد كان يعتبره‬ ‫جنيس اليوم الآخر وقولا في العدل الإلهي لنفيه يوم الدين‪.‬‬‫وابن خلدون قبله بأربع قرون جعله للتاريخ العلم الرئيس فصار ما بعد التاريخ بديلا مما بعد‬ ‫الطبيعة ولم يجعله حكما نهائيا بديلا من يوم الدين‪.‬‬‫والفضل لما افترضته شرطين‪ :‬نقد فلسفي للفلسفة منطلق من رؤية قرآنية لفهم الوجود كله‬ ‫طبيعية وإنسانيه‪ .‬وهذا أعمق وابعد غورا من كونت وماركس‪.‬‬ ‫‪32 13‬‬

‫فبات فهم ثورة ابن خلدون مشروطا بنقد عام للفلسفة‪-‬نفي السببية دون نفي العلم‪-‬عند الغزالي‬ ‫ونقد معرفي عند ابن تيمية‪ :‬أفعال الإنسان قابلة للعلم‪.‬‬‫فعلم الطبيعة غير مشروط بالسببية وهو يشمل الحرية أو الفعل الإنساني شموله للضرورة أو‬ ‫الفعل الطبيعي‪ .‬علاقة الحرية بالضرورة شرط خلقي لا علمي‪.‬‬‫العلم يكفيه انتظام التجربة أو مجاري العادات وهي احصائية وليست مطلقة وما يقتضيه علم‬ ‫الطبيعة من انتظام موجود في التاريخ‪ :‬الفرق كمي لا كيفي‪.‬‬‫نقد الغزالي لمفهوم السببية كان موضوع أول عمل فلسفي قدمته في السوربون لنيل ما يناظر‬ ‫الماجيستر في النظام الحالي وقد ظنه البعض بي ايتش دي‪.‬‬‫وهو نقد يخلص العقائد من إشكالية أفعال العباد (حول الحرية والجبرية) وهو يعالج قضية‬ ‫فلسفية جوهرية من دونها لا تفهم فلسفة هيوم وكنط النقدية‪.‬‬‫ومثلما أني لست معنيا بالبحث عن كونت وماركس في ابن خلدون فلست معنيا كذلك بالبحث في‬ ‫هيوم وكنط في الغزالي‪ :‬لست أبحث عن سبق العرب للغرب‪ .‬آخر هم‪.‬‬‫ما يعنيني هو ما الجسر الواصل بين نقد الغزالي للفلسفة التي ألغى شرط شروطها (السببية)‬ ‫والتأسيس الخلدوني للعلوم الإنساني‪ :‬فنقد الغزالي لا تكفي‪.‬‬‫في خلال البحث اكتشفت ابن تيمية‪ .‬لم أكن أسمع عنه إلا أحكام نخب الحداثة الكاريكاتورية‬ ‫ولما كانت أسوأ من أحكامهم على الغزالي شرعت في قراءته‪.‬‬‫فكانت دهشتي التي حاولت وصفها في الفصل السابق‪ .‬فهو قد أنهى \"قرآن\" الفلسفة أعني‬ ‫التحليلات الثواني\"‪ .‬فالغزالي نكص إليه وطبقه حتى في المستصفى‪.‬‬‫لما أتممت قراءة ما يعنيني من ابن تيمية تنفست الصعداء‪ :‬وجدت ضالتي وسددت الثغرة في‬ ‫الرسالة وهي من النظام القديم أي د‪ .‬الدولة ذات الجزئين‪.‬‬‫ليست مثل البي أيتش دي‪ .‬فهذه شهادة في بداية البحث وتنجز في الصغر ودكتورا الدولة شهادة‬ ‫غاية البحث وتنجز في الكبر وجزءاها رئيس وتكميلي‪.‬‬‫والرئيس كان منزلة الكلي في الفلسفة والتكميلي كان إصلاح العقل‪ .‬وكلاهما طبع عدة مرات‬ ‫وكلاهما مجلد كبير‪ .‬وقد تطلبا عشر سنوات من العمل المضني‪.‬‬‫ذلك أن الشيخ جوجل لم يكن من المساعدين في جيلي‪ .‬وأعسر شيء في عصرنا كان تحصيل المصادر‬ ‫والمراجع وقراءتها ونقدها منطلقا للبحث فيما يظن جديدا‪.‬‬ ‫‪32 14‬‬

‫وتلك أضافه الغزالي وابن تيمية وابن خلدون للفكر الفلسفي ليس العربي ولا الإسلامي فحسب‬ ‫بل للإنسانية‪ :‬بداية جديدة في الفكرين الفلسفي والديني‪.‬‬‫وما كان ذلك يكون ممكنا لولا تخصيص سبع سنوات بين ‪1972‬و‪ 1979‬لدراسة فلسفة ارسطو‬ ‫ومنطقه لإعداد رسالة الحلقة الثالثة في منزلة الرياضيات في علمه‪.‬‬‫فمن دون نظرية أرسطو في العلم ومنطقه وطبعا ردوده على أفلاطون لا يمكن فهم شيء من‬ ‫الفلسفة العربية لأنها مع شيء من الأفلاطونية مشائية بالجوهر‪.‬‬‫ولا يمكن فهم نقود ابن تيمية المنطقية والميتافيزيقة من دون فهم نظرية المطابقة والعقل المرآة‬ ‫والهيلومورفية وخاصة منزلة الكلي في فلسفة أرسطو‪.‬‬‫أعطانا ابن خلدون مثالا من فرغ فلسفة السياسة في علمه‪ .‬فهو يعتبر الطريقتين السائدتين غير‬ ‫صالحتين‪ :‬طريقة الفلاسفة اليتوبية والفقهاء الشرعية‪.‬‬‫وسمى طريقته التي هي ليست يتوبية مثل المدن الفاضلة ولا شرعية مثل الأحكام السلطانية بل‬ ‫هي درس السياسي من حيث طبيعته في علم العمران البشري‪.‬‬‫يتكلم على طبيعة السياسي في علم العمران البشري والاجتماع الإنساني لكنه يرفض تأسيسه مثل‬ ‫أفلاطون وأرسطو على ظاهرة طبيعية‪ :‬النفس أو المنزل‪.‬‬‫يؤسسه على ظاهرة تاريخية‪ :‬الانتظام الجمعي لسد الحاجات المعيشية (الاقتصاد) والتعايشية‬ ‫(سلطة تنظيم التعاون والتنافس عليها) داخليا وخارجيا‪.‬‬‫لم تعد النفس (أفلاطون‪ :‬القوى الثلاث العقل والغضب والشهوة) ولا الأسرة (الأب والأبناء‬ ‫والزوجة والعبيد) هي النموذج بل نظام العيش والتعايش‪.‬‬‫والنقلة من الفلسفة العملية السابقة إلى علم العمران البشري والاجتماع الإنساني هو الذي‬ ‫يترجم النقلة من الطبيعي وما بعده إلى التاريخي وما بعده‪.‬‬‫والنقلة من الطبيعة وما بعدها إلى التاريخ وما بعده أساس الثورة الفلسفية التي أنسبها إلى‬ ‫الغزالي وابن تيمية وابن خلدون هي بحق بداية الحداثة‪.‬‬‫وقصدي ببداية الحداثة اعتبار كل شيء في حياة البشر تاريخي بما في ذلك ما في الإنسان وحوله‬ ‫من طبيعي‪ .‬كلاهما في صيرورة وتفاعل دايمين لا يتوقفان‪.‬‬ ‫‪32 15‬‬

‫فلنسلم جدلا‪-‬بما حاولت بيانه‪-‬أن انقلابة حصلت في الرؤية الوجودية والمعرفية استمدتها‬ ‫المدرسة النقدية من رؤية القرآن بديلا من الميتافيزيقا‪.‬‬‫وهذا البديل يمكن أن يوصف مثل الميتافيزيقا بكونه علما رئيسا لكنه ليس ميتافيزيقا بل‬ ‫ميتاتاريخ وأفضل تسميته ميتاأخلاق لتعلقه بأفعال الإنسان‪.‬‬‫لكن مكونات المنظومة التي تنتج عن هذا المابعد مختلفة ولم تقترب المنظومة الفلسفية من‬ ‫المنظومة التي اسستها مدرسة النقد إلا في الفلسفة الحديثة‪.‬‬‫فالتاريخ لم يكن من مقومات منظومة العلوم التي يتألف منها العلم الرئيس بل كان يعتبر مستثنى‬ ‫منها رغم أن بعض ما أصبح من علوم الإنسان كان فيها‪.‬‬‫لكنها كانت ثلاثتها (السياسة والأخلاق والاقتصاد المنزلي) تتأسس على الطبيعة وليس على‬ ‫التاريخ (بنية النفس أو بينة الأسرة) وهو ما قلبه ابن خلدون‪.‬‬‫فهذه الموضوعات الثلاثة‪-‬السياسة والأخلاق والاقتصاد‪-‬يؤسسها ابن خلدون على صيرورة‬ ‫تاريخية هي أشكال انتظام العمران وليس على طبيعة ثابتة‪.‬‬‫وطبعا قد يحتج الكثير باستعمال ابن خلدون مفهوم طبائع العمران والاجتماع ويستعمل النموذج‬ ‫الهيلومورفي فيظنون أن يحفظ معانيها الفلسفية القديمة‪.‬‬‫لكنه في الحقيقة لا يؤمن بالضرورة الطبيعي بل بمجاري العادات ويعتبر التاريخية هي المحددة‬ ‫لعلاقة الطبيعية والثقافة أو علاقة الإنسان بالطبيعة‪.‬‬‫وسأختم دراسة ثورة المدرسة النقدية بتحليل تغير العلم الرئيس لأني وضعت انطلاقا منه مفهوم‬ ‫المعادلة الوجودية التي يلتقي فيها الإسلام والحداثة‪.‬‬‫وقصدي أن الفلسفة الحديثة تجاوزت القديمة في الاتجاه الذي حددته المدرسة النقدية ترجمة‬ ‫فلسفية لرؤية العلاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين‪.‬‬‫وهي العلاقة التي يعبر عنها شعبيا وفقهيا بالعلاقة بين الدنيا والدين أو بين الوجودين الشاهد‬ ‫وما بعده في ذاته وفي رؤاه البشرية المتعددة‪.‬‬ ‫‪32 16‬‬

‫وقبل التقدم في التحليل فلأشرح علة تفضيلي \"ميتاأخلاق\" على ميتاتاريخ رغم وحدة المعنى‪.‬‬ ‫العلة هي أن ميتاأخلاق تشير الفرق النوعي مع ميتافيزيقا‪.‬‬‫فـ\"فيزيقا\" في ميتافيزيقا تشير إلى الضرورة في فعل الطبيعة و\"أخلاق\" في ميتاأخلاق تشير إلى‬ ‫الحرية في لفعل الإنسان‪ :‬والتاريخ هو علاقة المميز‪.‬‬‫فيكون الانقلاب الذي حصل هو أن العلم الرئيس أو الرؤية الجامعة لمنظومة العلوم أو المعارف‬ ‫الإنسانية قلب رؤية العلاقة بين الضرورة والحرية‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن المحدد ليس فعل الضرورة في الحرية فيكون الإنسان منفعلا بل فعل الحرية في‬ ‫الضرورة لكون الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‬‫وهذه هي الرؤية القرآنية العميقة التي مكنت بعد فهمها من قلب العلاقة‪ :‬فالطبيعة لم تبق‬ ‫طبيعية بل صارت خاضعة لرؤية إنسانية بمقتضى علاقته بها‪.‬‬‫وعلاقته بها هي رؤية التسخير ورؤية ارتباطه بالعمل على علم‪ :‬فالطبيعة هي بدورها تاريخية‬ ‫خلقت لغاية وذات قوانين رياضية تمكن من السلطان عليها‪.‬‬‫وبصورة أدق من السلطان على ما يستجيب لحاجاته مع حرز عدم الفساد في الأرض أي إن ما‬ ‫للإنسان من قدرات يمكن أن تتجاوز التعمير إلى التدمير‪.‬‬‫ولهذه العلة ربط الاستعمار في الأرض بالاستخلاف فيها أي بشرائع تحول دونه وتوهم الربوبية‬ ‫فلا يتعامل مع الطبيعة وكأنها خالقها ومسخرها دون حد‪.‬‬‫فلأذكر بالمعادلة الوجودية‪ :‬القطب الأول الله القطب الثاني الخليفة أو الإنسان‪ .‬بين القطبين‬ ‫وسطيان الطبيعة والتاريخ وفي قلب المعادلة التواصل‪.‬‬‫والتواصل الذي في القلب أبين بين القطب الأول والطبيعة على يمينه والتاريخ والقطب الثاني‬ ‫على يساره يجري في الاتجاهين وعلى مستويين مختلفين‪.‬‬‫فأما الاتجاهان فهو من القطب الأول إلى القطب الثاني والعكس من القطب الثاني إلى القطب‬ ‫الاول‪ .‬وأما المستويان فهما بالوسيطين أو من دونهما‪.‬‬‫ومن دونهما عبادة بسيطة وهو الفروض الخمسة في الإسلام مثلا وبهما عبادة مركبة لأنها تحقق‬ ‫مقومي الوجود الإنساني‪ :‬تعمير الأرض والاستخلاف‪.‬‬‫والعبادة البسيطة يكفيها علم وعمل بسيطان يمكن أن ينجزهما الفرد كفرد لكن العبادة المركبة‬ ‫تحتاج لعلم وعمل معقدين لا تنجزهما إلا الجماعة المنظمة‪.‬‬ ‫‪32 17‬‬

‫وهذا هو البعد السياسي من الوجود الإنساني أو حاجة الإنسان للدولة‪ :‬الدولة بهذا المعنى من‬ ‫أركان العبادة لأنها شرط عبادة اساسها علم وعمل معقدان‪.‬‬‫وهذه العبادة الثانية هي موضوع التكليف الذي يعير به تحقيق الإنسان لمقومي وجوده (مستعمر‬ ‫في الأرض وخليفة) أما الأولى فهي واجب العرفان للخالق‪.‬‬‫والعلاقة بين العبادتين بينة‪ .‬فالفروض التي تحقق الاعتراف بالجميل للخالق (العبادة البسيطة)‬ ‫لها بعد فاعل في العبادة المعقدة ومنفعل بها‪.‬‬‫فهي فاعلية بتعليها الخلقي ومنفعلة بمؤثراتها الاجتماعية من خلال تفضيل شكلها الجماعي على‬ ‫شكلها الفردي ودورها بعضها في تضامن الجماعة المادي‪.‬‬‫والعبادة البسيطة مشروطة بالعبادة المعقدة لأنها لا تكون من دون تحقيق الإنسان لمقومي وجوده‪:‬‬ ‫فمن دون تعمير الأرض والاستخلاف تنتفي شروطها‪.‬‬‫ذلك أن الفروض الخمسة أربعة منها مشروطة بمستوى معين من سد الحاجات الأولية لما لها من‬ ‫كلفة اقتصادية (النظافة والصحة والزكاة وكلفة الحج)‪.‬‬‫والفرض الخامس أي الشهادة هي شرط الدخول في الإسلام الذي لا يتحقق بها وحدها بل لا بد‬ ‫من الأربعة الأخرى وتحقيق مقومي الوجود الإنساني‪.‬‬‫وهكذا نصل إلى معضلة المعضلات وأهم شيء لم يفهمه هيجل كما تأكدت منه خلال ترجمة دروسه‬ ‫في فلسفة الدين وكلامه على العلاقة بين الإسلام والمسيحية‪.‬‬‫فقد تأكد لدي أن كل فلسفة الدين الهيجلية تقبل الرد إلى ما دحضته الآية ‪ 79‬من آل عمران‬ ‫حول تأليه المسيح عليه السلام والحاجة إلى الوساطتين‪.‬‬‫ولأكن واضحا‪ :‬أليس إلغاء الإسلام للكنسية وللحق الإلهي في الحكم‪-‬الديموقراطية الروحية‬ ‫والديموقراطية السياسية‪-‬علتي ما يعاني منه الإسلام؟‬‫كيف يكون كل فرد ذاتا دينية وذاتا سياسية مباشرة ودون وسيط بينه وبين الشأن الديني والشأن‬ ‫السياسي؟‬ ‫ألا ينفي ذلك سر الاستقرار الروحي والسياسي؟‬‫نتيجة يردها هيجل إلى ما يسميه عبادة المجرد ورفض التعين في روحانية الإسلام الحائلة دون‬ ‫الاستقرار الروحي والسياسي بسبب التعصب للمجرد‪.‬‬‫وبهذين النزعتين الديموقراطيتين في المجال الروحي وفي المجال السياسي أي نفي الوساطة فيهما‬ ‫يفسر عدم الاستقرار والعنف الديني والسياسي‪.‬‬ ‫‪32 18‬‬

‫فالمساواة المطلقة في الديني والدنيوي(السياسي)واعتبارهما متداخلين دون تعيين لمن يتولاهما‬ ‫بصفات مميزة يجعل الصراع والغلبة هو المنطق الوحيد‪.‬‬‫وطبعا سيسارع الكثير‪-‬وهم على خطأ‪-‬لبيان صحة هذه النظرة بما يراه في العالم وبما يراه خاصة‬ ‫بمجرد المقابلة بين الدولة الشيعية والدول السنية‪.‬‬‫ذلك أن التمثيل السياسي والوساطة الدينية يبدوان أكثر استقرارا وأفضل تنظيما تماما كما‬ ‫يبدو الاستبداد أفضل من الحريتين الفكرية والسياسية‪.‬‬‫لكن الديموقراطية الروحية (لا وساطة في الدين) والديموقراطية السياسية (المواطنون هم أصل‬ ‫السلطة) هما الحل الإسلامي وهما مستقبل تنظيم الأحرار‪.‬‬‫فالقرآن يعرف المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران ‪ )104‬وتحقيقهما شرطا في‬ ‫الانتساب للخيرية (آل عمران ‪ :)110‬وهما روحيان وسياسيان‪.‬‬‫فروحيا الإنسان يأتي ربه فردا‪ .‬وسياسيا مسؤولية إدارة الشأن العام \"أمرهم شورى بينهم\" تعني‬ ‫أن الفرد الذي يتخلى عن واجبه فيها مقصر دينيا‪.‬‬‫وعهد الراشدين يوصف بالرشد لهذين العلتين‪ :‬المؤمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر روحيا‬ ‫وسياسيا‪ .‬والحاكم نائب بحضور المنوبين وليس بغيابهم‪.‬‬‫لا يكفي أنهم ينوبونه بحرية بل هم يراقبون دائما بمقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫لأن هذين الفعلين هما جوهر تحقيق مقومي وجود الإنسان‪.‬‬‫فبالسياسي يشارك في تعمير الارض علما وعملا وسلطانا وبالروحي يشارك في الاستخلاف علما‬ ‫وعملا وسلطانا‪ .‬وذلك كله أهمله فقهاء الانحطاط وحكامه‪.‬‬‫ولا يعني عدم القول بالوساطة الروحية وبالحق الإلهي في الحكم أو بحق القوة فيه أن التصور‬ ‫الإسلامي وخاصة في فهمه السني لا يحقق الاستقرار والأمن‪.‬‬‫فما حققه الإسلام في بديل الوساطة يشبه ما حققته التربية التي انتقلت من المعلم الوسيط الذي‬ ‫يلقن المتعلم إلى المعلم محرر المتعلم من التلقين‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الكنسية انتهت في الإسلام دون أن يغني ذلك عن المعلمين الذين يعلمون المتعلم‬ ‫الاستغناء عن وساطتهم فتكون علاقته بالله غنية عنهم‪.‬‬‫والاستغناء عن الحق الإلهي في الحكم (كما عند الشيعة وعند الكاثوليك) لا يلغي وجود الحاكم‬ ‫النائب الخاضع لتعاقد مع الجماعة ومراقبة دائمة منها‪.‬‬ ‫‪32 19‬‬

‫هيجل يؤمن بالطبقية ويؤمن بما يشبه الحق الإلهي في الحكم لأن الأمير الحاكم عنده هو صاحب‬ ‫السيادة حتى وإن قال بالدستور في نظريته السياسية‪.‬‬ ‫‪32 20‬‬

‫تصورت الفصل السابق هو الأخير في قضية ثورة المدرسة النقدية وحاولت الاجابة عن سؤال‬ ‫محير‪ :‬كيف يمكن تحقيق النظام في غياب الوساطة الروحية والسياسية؟‬‫كان السؤال المحير يعبر عن خوف باطن‪ :‬ألا يكون هيجل محقا في دعواه إن الإسلام بمثاليته‬ ‫المطلقة لا يمكن أن يؤسس دولة مستقرة ذات فاعلية ايجابية؟‬‫أيكون الإسلام قد حافظ على فوضى الجاهلية بسبب الثورتين اللتين تنفيان السلطة الروحية‬ ‫الوسيطة بين الله والإنسان والسلطة السياسية فوقهما؟‬‫أيكون الفهم الشيعي القائل بالسلطة الروحية الوسيطة (كنسية المرجعية) وسلطة الحق الإلهي‬ ‫السياسية(الوصية) هي المخرج من فوضى الديموقراطيتين؟‬‫الا يكون ذلك كافيا لفهم تخبط الأنظمة السنية كلها وما يبدو من انتظام وسلطان للدولة الشيعية‬ ‫الوحيدة على الأقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة؟‬‫أليس اصحاب هذه الرؤية القائلة بالوساطتين الروحية والسياسية والمنافية للإسلام النافي لهذين‬ ‫الوساطتين هم من ثارت المدرسة النقدية على فكرهم؟‬‫فالغزالي وابن تيمية وابن خلدون ثاروا على الفلسفة القديمة والكلام والتصوف في أشكالها‬ ‫المتعينة في عصرهم بوصفها تحريفا ذا شكل باطني مناف للقرآن‪.‬‬‫فرفض توظيف الفلسفة القديمة والكلام والتصوف كأدوات لطيفة في المعركة السياسية‪-‬الدينية‬ ‫مثل الدافع الظرفي للنقد كما يتبين من الفضائح والمقدمة‪.‬‬‫وبذلك كان النقد نقلا للمعركة التي كانت إيديولوجية في التوظيف الباطني لهذه الفنون إلى‬ ‫مستوى أرقى هو المستوى الابستيمولوجي تأسيسا لفكر جديد‪.‬‬‫وهذا الفكر الجديد الذي يلغي التحريفين الروحي (السلطة الكنسية للمرجعية) والسياسي‬ ‫(سلطة الوصية المعصومة) يضعنا مباشرة أمام نسبية مخيفة‪.‬‬‫فما يؤسسه الإسلام ليس نكوصا إلى فوضى الجاهلية بل اكتشاف لنسبية المعرفة ولذهنية تقبل‬ ‫التعددية وواجب الاجتهاد والجهاد فرض عين في الجماعة‪.‬‬ ‫‪32 21‬‬

‫وقد وضع ابن خلدون نظرية ثورية صاغت أساس علاج السنة للفتنة الكبرى لئلا تجمد التاريخ‬ ‫مثل الباطنية‪ :‬ما مبدأ عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي‪.‬‬‫وهذا المبدأ يعد في الفلسفة العملية أهم علامات الحداثة لأنه شرط الديموقراطية السياسية‪:‬‬ ‫وضع التعددية اللامؤثمة اساسا لطلب الحلول السياسية‪.‬‬‫غرض هذا الفصل الذي أتمنى أن يكون الأخير في مسالة المدرسة النقدية أن اثبت سوء فهم‬ ‫هيجل ووهم قوة الحل الباطني بالقياس إلى الحل السني‪.‬‬‫فالثيوقراطيا الباطنية (التشيع المعتمد على الوساطتين الروحية والسياسية) تلغي الاجتهاد‬ ‫والجهاد الفردي وتحول الجماعة إلى عبيد عصمتين زائفتين‪.‬‬‫صحيح أن الفاشيات سواء كانت دينية أو وضعية تبدو أقوى من الديموقراطيات‪ .‬لكن ذلك من‬ ‫أوهام من يتصورون النظام الظاهر دليل قوة وهو عين الهشاشة‪.‬‬‫فشتان بين جماعة كل فرد فيها مسؤول وله وازع باطن يحركه في اتجاه الوازع الظاهر ما ظل‬ ‫موافقا للأسس الخلقية وبين جماعة قطيع يقودها مدع للعصمة‪.‬‬‫ولأورد نص ابن خلدون الذي ختم به تحليل الحروب الأهلية الخمسة التي تلت الفتنة الكبرى‬ ‫سعيا لقلب صفحتها بمبدأ عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي‪.‬‬‫ففي فصل ولاية العهد (‪ 30‬من باب المقدمة الثالث) قال \"فاعلم أن اختلافهم (الصحابة‬‫والتابعين) إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عنها الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة‪.‬‬‫والمجتهدون إذا اختلفوا‪-1 :‬فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم‬‫يصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ‬‫منهما والتأثيم مدفوع عن الكل اجماعا‪-2 .‬وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى‬‫بنفي الخطأ والتأثيم‪ .‬وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل‬ ‫دينية ظنية‪ .‬وهذا حكمه\"‪.‬‬‫الحروب اربعة‪ :‬بين علي وأم المؤمنين وبينه وبين معاوية وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن‬ ‫الزبير مع عبد الملك‪ .‬والدمل الذي يبطه‪.‬‬‫وفي الحقيقة فإن رسالتي المفتوحة الأولى لعميل إيران في لبنان كانت بمناسبة موقفه من تعليق‬ ‫ابن خلدون على موقف ابن العربي من مقتل الحسين‪.‬‬‫فقد عرض في خطبته بمناسبة عاشوراء بهما فلم أطق صبرا وأرسلت له ما ينبهه بأنه دون الرجلين‬ ‫إنصافا للحسين‪ :‬فالقاضي نسب مقتله لمقتضيات شرع جده‪.‬‬ ‫‪32 22‬‬

‫وابن خلدون راجعه مبينا أن هذا الحكم فيه تعسف لأن الحسين كان محقا بمنطق الشرع (يزيد‬ ‫لم يكن شرعيا) حتى وإن أخطأ بمنطق السياسية (سوء التقدير)‪.‬‬‫بعبارة أوضح لم يكن الحسين خارجا على حاكم شرعي حتى يقال إنه قتل بشرع جده‪ .‬لم يقدر‬ ‫توازن القوى فكانت ثورته خطأ سياسيا‪ .‬هذا حكم ابن خلدون‪.‬‬‫وحتى يحسم الأمر وضع مبدأ عدم التأثيم وهو ليس من وضعه بل هو قراءته الفلسفية لأصله‬ ‫الإسلامي إذ هو في الحقيقة التطبيق السياسي لمفهوم الاجتهاد‪.‬‬‫لكن الباطنية لا تريد قلب الصفحة ولا تزال بمنقط الوساطتين الروحية والسياسية تطالب بالثأر‬ ‫وتطبيق رؤية آل ساسان‪ :‬عبادة العباد للعباد بدل ربهم‪.‬‬‫صحيح أن السنة لا تطبق الرؤية القرآنية في الواقع الفعلي‪ .‬لكن فكرها يعتبر هذا الواقع أمرا‬ ‫واقعا ينافي الأمر الواجب‪ :‬حكم بالشوكة وليس بالشرعية‪.‬‬‫وذلك هو سر الفوضى وليس المبدأين‪ :‬ليست الفوضى ناتجة عن الحرية الروحية والحرية‬ ‫السياسية القرآنيتين بل عن القوة الحائلة دونهما وتحقيق النظام‪.‬‬‫وبعبارة أوضح‪ :‬ليست الحريتان عودة إلى الجاهلية فهما خروج منها والحائل دونهما والنظام‬ ‫الخلقي الذي وضعه القرآن هو نكوص المسلمين للجاهلية‪.‬‬‫والجاهلية الحالية صنفان‪ :‬صنف قبلي واضح في الأنظمة التي تدعي الأصالة وصنف عسكري‬ ‫واضح في الأنظمة التي تدعي الحداثة‪ .‬كلاهما جاهلي وبربري متوحش‪.‬‬‫لذلك فالثورة كما فهمها الشعب هي هي محاولة شعبية لاخراج الأمة من الجاهلية بصنفيها ومن‬ ‫ثم فانتخاب الأحزاب الإسلامية ذو دلالة عميقة ولطيفة‪.‬‬‫فما يحقق الحريتين الروحية والسياسية أي الديموقراطيتين في مستوى ضمير الفرد الروحي وفي‬ ‫مستوى عمل الفرد السياسي هو الإسلام السياسي الحقيقي‪.‬‬‫ولا أستنكف من استعمال الإسلام السياسي‪ :‬فهو تطبيق صريح لنظرية الحكم كما يحددها القرآن‬ ‫في آل عمران والنساء والمائدة والشورى والبقرة‪.‬‬‫وقد بلغت الوقاحة بأعداء الشعوب من الأنظمة وطبالي نخبها إلى حد جعل عبارة \"إسلام سياسي\"‬ ‫إرهابا ثم يدعون الحكم بقيم الإسلام والحداثة المقلوبة‪.‬‬‫النكوص إلى جاهلية القبائل صار حكما بقيم الإسلام وإلى جاهلية العسكر صار حكما بقيم الحداثة‬ ‫أما الدعوة إلى الحريتين الروحية والسياسية فإرهاب‪.‬‬ ‫‪32 23‬‬

‫وطبيعي أن يكون الأمر كذلك‪ :‬ذلك أن حماتهم يطبقون منطق الاستعمار الذي وصف بالإرهاب‬ ‫كل حركات التحرر ومقاومات التحرير خلال القرون الماضية‪.‬‬‫وإذ هم بصنفيهم القبلي والعسكري مجرد نواب لهذا الاستعمار الذي يحمي كراسيهم واستبدادهم‬ ‫وفسادهم فمن الطبيعي أن يعتبروا ثورة الشعوب إرهابا‪.‬‬‫وطبيعي أن تكون الصفوية والصهيونية ومليشياتهما العربية بالقلم وبالسيف حليفة لهم في الحرب‬ ‫على الإسلام والشعوب رغم مسرحيات العداء القولي‪.‬‬‫لكن الشعوب والإسلام السياسي بهذا المعنى يدركون اللعبة ولا يمكن أن يحالفوا الصفوية ولا‬ ‫الصهيونية وكل لجوء لإحداهما ضد الاخرى خداع ذاتي‪.‬‬‫لا أقبل حلف الإسلام السياسي مع إيران ولا أقبل حلف الأنظمة مع إسرائيل‪ :‬نعيش حربا أهلية‬ ‫وعلينا حسمها بهذه الصفة فلا نتحصن بالعدوين ضد الشقيقين‪.‬‬‫وبحثي في الأصول المعرفية للخلافات العملية هدفه فهم حقيقة المعركة وأنها ليست بنت اليوم بل‬ ‫هي شبه ملازمة لتاريخ الأمة والنصر للإسلام حتما‪.‬‬‫أملي أن يكون البحث قد أسهم في إفهام الشباب بأن الحرب الأهلية التي نتجت عن العلوم الزائفة‬ ‫والتوظيف الشيطاني للدين والفلسفة عولج نظريا‪.‬‬‫ولم يبق إلا أن نعالج الأمر عمليا‪ .‬فثورة الشباب ليست كما يزعم الدجالون ثورية عديمة الخلفية‬ ‫النظرية بل إن عمقها النظري ملازم لتاريخ الأمة‪.‬‬ ‫‪32 24‬‬

‫ما الذي جعل المدرسة النقدية تنتهي إلى رسم فلسفة نظر وعقد (ابن تيمية) وفلسفة عمل وشرع‬ ‫(ابن خلدون)؟‬‫ولماذا بدأت هذه الغاية بنقد للفلسفة والكلام انطلاقا من التوظيف وانتهاء بالغوص في الأسس‬ ‫الوجودية والإبستيمولوجية للفلسفة النظرية والعملية؟‬‫والسؤال هو‪ :‬كيف تم الانتقال من خصومات تبدو في الأصل ايديولوجية إلى إشكالات تبين‬ ‫بالتدريج أنها فلسفية معرفيا ووجوديا‪ :‬نظرية المعرفة والوجود؟‬‫ولا بد هنا من العودة إلى \"المعادلة الوجودية\"‪ :‬فالكلام الايديولوجي أو دوافع الخصومة حول‬ ‫التوظيف يبدو مقصورا على علاقة القطبين الله والإنسان‪.‬‬‫لكنه سرعان ما تبين أنه متجاوز للعلاقة المباشرة بين القطبين والتوظيف إلى الوسيطين بين‬ ‫القطبين الطبيعة والتاريخ أو نظام الضرورة ونظام الحرية‪.‬‬‫فأول مشكل بدأ به كتاب التهافت تعليل النصفية بعدم التمييز بين العلمي (المنطق والرياضيات)‬ ‫والميتافيزيقي (الطبائع والسببية أو علاقة العالم بالله)‪.‬‬‫فالغزالي اعتبر المستهترين بالدين متشبهين بالفلاسفة بناء على استدلال سطحي مفاده أن الدين‬ ‫لو كان صحيحا لكان الفلاسفة أدرى به من \"المتكلمين\"‪.‬‬‫فرد الغزالي بيان أن المسائل الدينية والميتافيزيقية لا تقاس على العلوم وأن الفلاسفة الكبار‬ ‫يعرفون ذلك ولذلك فهم غير مستهترين بالدين مثلهم‪.‬‬‫كتاب التهافت ألف لبيان هذه الأطروحة‪ .‬وأعلن الغزالي صراحة أنه لا ينوي إثبات حقائق بل‬ ‫التشكيك فيما يظن حقائق وأنه لا يلتزم أي مذهب كلامي‪.‬‬‫انتقل من معركة ضد المتشبهين بالفلاسفة إلى معركة بين الكلام عامة والفلاسفة عامة ممثلين‬ ‫الفارابي وابن سينا) حول رؤيتهم لعلاقة العالم بالله‪.‬‬‫فكانت ثورته في نظرية السببية (المقالة ‪ )17‬وقبلها الكلام في الثيولوجيا والكوسمولوجيا وبعدها‬ ‫الكلام في الانثروبولوجيا‪ :‬الله والعالم والإنسان‪.‬‬ ‫‪32 25‬‬

‫وهذه المجالات أو الموضوعات هي ما سماه كريستيان فولف تلميذ لايبنتس لاحقا بالأنطولولجيات‬ ‫الخاصة الثلاث‪ .‬أما الرابعة فهي رهان الثورة كلها‪.‬‬‫فالمطلوب في علاج هذه الانطولوجيات الخاصة بيان فساد الانطولوجيا العامة التي يقول بها‬ ‫الفلاسفة ويحسبونها علما فأدلجوا الفلسفة بتوهمها علما‪.‬‬‫والأنطولوجيا العامة هي في آن نظرية معرفة ونظرية وجود عامة‪ .‬وفيهما حدثت الثورة النقدية‬ ‫حول إشكالية حدود العلم في هذه المجالات الأربعة‪.‬‬‫ما يعنيني هو لماذا لم يتقدم الغزالي وابن تيمية نحو فلسفة إيجابية تؤسس لفلسفة الطبيعة‬ ‫والوحيد الذي فعل هو ابن خلدون فأسس فلسفة التاريخ‪.‬‬‫عندما يؤسس ابن تيمية لفلسفة النظر والعقد لا يتجاوز حل مشكل العلاقة بين العلم والإيمان‬ ‫دون أن يتجاوز ما يمكن أن يؤسس لعلم طبيعة لم يشرع فيه‪.‬‬‫فلازم حله‪ :‬علم المقدرات الذهنية ضروري وبرهاني أما علم الموجود فتطبيق له يخلو من الضرورة‬ ‫وهو نسبي دائما‪ :‬إنه علم تجريبي أو رياضيات تطبيقية‪.‬‬‫لازم لم يقل به صراحة ولم يسع لتحقيقه لكنه الحل الوحيد الممكن إذا سلمنا بما يقوله عن الفرق‬ ‫بين عمل المقدرات الذهنية وعلم الموجودات الخارجية‪.‬‬‫الفرق بينه وبين ابن خلدون‪ :‬لم يكتف بالقول بقابلية التاريخي للعلم خلافا للفلاسفة بل انتقل‬ ‫إثبات تاريخية الفلسفة وفلسفية التاريخ‪ :‬المقدمة‪.‬‬‫وطبعا فهذا القصور هو النقص المخل بالثورة كلها وهو علة فشل استعمار الإنسان المسلم في الأرض‬ ‫بعلم التجربة الرياضي‪.‬‬‫والتوصيف الفلسفي للأمر كله هو أنه يرد إلى أن تقديم \"صورة العمران\" على مادته وهذا من‬ ‫الرؤية القرآنية‪ :‬الشرائع وعلمها مقدمان على الطبائع وعلمها‪.‬‬‫تأسيس علم الطبيعة التجريبي الرياضي شرطه تجاوز الطبائع الميتافيزيقية‪ :‬ثورة ابن تيمية‪.‬‬ ‫وتحقيقه مشروط بشرائع تصور أفعال الجماعة‪ :‬ثورة ابن خلدون‪.‬‬‫لذلك فالغرب لم يستطع تجاوز فيزياء أرسطو إلا بعد أن حصل فيه ما حققه ابن خلدون‪ :‬مفهوم‬ ‫العمران كفعل إنساني روحي وسياسي (فلسفة تاريخ حديثة)‪.‬‬‫كان لا بد من ثورة دينية‪-‬خلقية (ق‪ )16 .‬وفلسفية علمية (ق‪ )17.‬وسياسية (ق‪)18.‬‬ ‫واجتماعية (ق‪ )19.‬وعالمية (ق‪ :)20.‬فعاد الإسلام لركح التاريخ بثورتيه‪.‬‬ ‫‪32 26‬‬

‫فيتبين أن الاستئناف قد آن أوانه وأن ما عليه وضع الإسلام في العالم اليوم ليس وليد الصدف‬ ‫حتى وإن كان دور أهله ما يزال منفعلا لعقم نخبهم‪.‬‬‫نقد الضرورة الطبيعية غير مفهوم الطبائع فقربها من الشرائع ونقد الحرية الخلقية غير مفهوم‬ ‫الشرائع فقربها من الطبائع‪ :‬تحييد معضلة ميتافيزيقية‪.‬‬‫الحتمية السببية ليست ضرورية لعلم الطبيعة‪ .‬فالانتظام كاف‪ .‬والحرية الخلقية لا تعيق علم‬ ‫التاريخ فسلوك الإنسان منتظم‪ :‬وعلم الموجود بطبعه نسبي‪.‬‬‫والعلم في الحالتين هو طلب الانتظام الرياضي أو القوانين لسلوك الطبائع والشرائع فنخرج من‬ ‫المعضلة الميتافيزيقية‪ :‬تنافي الحتمية والحرية‪.‬‬‫ما يعوض الحتمية في العلم هو الانتظام في القانون الرياضي وما يبقي على الحرية هو امتناع‬ ‫المطابقة بين العلم والعلم كمقدر ذهني والوجود الخارجي‪.‬‬‫والعلم المطابق عقيدة في العلم المطلق الذي ننسبه إلى الله‪ :‬فعلم الله بالوجود الخارجي هو عين‬ ‫قيام الوجود الخارجي وهو العلم الوحيد المحيط‪.‬‬‫وهذا عقيدة وليس علما‪ .‬وهو يقين إيماني وليس حقيقة علمية‪ .‬واليقين الإيماني هنا بات قابلا‬ ‫للتصور فلسفيا لأنه لا يتنافى مع علم نسبي بالطبع‪.‬‬‫غاية الثورة التي حققتها المدرسة النقدية العربية‪ :‬حل مشكل العلاقة بين الإيمان والعلم في‬ ‫النظر ومشكل العلاقة بين الأخلاق والقانون في العمل‪.‬‬‫فتكون الحريتان اللتان كانتا مجرد معتقد ديني قد تأسستا فلسفيا‪ :‬تجاوز المطابقة يؤسس للاجتهاد‬ ‫والتعدد المعرفي والعقدي والسياسي وحرية الفكر‪.‬‬‫ولا فاعلية للإنسان من دون الحريات الخمس التي نعوض بها نظرية المقاصد‪ :‬الحرية الخلقية‬ ‫للإرادة والحرية الفكرية للعلم والحرية الفعلية للقدرة=‬ ‫والحرية الذوقية للحياة والحرية الرؤيوية للوجود‪:‬‬ ‫‪-1‬تؤسس التعدد السياسي‬ ‫‪-2‬التعدد المعرفي‬ ‫‪-3‬التعدد الاقتصادي‬ ‫‪-4‬التعدد الفني‬ ‫‪-5‬تعدد الرؤى‬ ‫‪32 27‬‬

‫وهذه الحريات هي مقومات الشخصية أو الذات البشرية التي بفضلها ننتقل من الرعية إلى‬ ‫المواطنة أو واجب المشاركة في إدارة الأمر‪ :‬أمرهم شورى بينهم‪.‬‬‫وهذه الذاتية أو المكلفية هي الشخصية التي تأتي ربها فردا وتحاسب على أعمالها في الدنيا يوم‬ ‫الدين وهي متعلقة بتعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫كل هذه المعاني أضاعها نكوص الأمة بسبب الانحطاط نكوصا أفقدها الحريتين الروحية (تكون‬ ‫كنسية) والسياسية (تكون سلطان فوق إرادة الجماعة)‪.‬‬‫فحصلت الحال التي سماها ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" بسبب استبداد التربية (الحرية‬ ‫الروحية) والحكم (الحرية السياسية) فزالت حقيقة الإنسان‪.‬‬‫وبهذا النكوص أصبحت هذه القيم تهاجم باسم الخصوصية الإسلامية وظنها دخيلة وهي من جوهر‬ ‫قيم القرآن الذي يعتبرها مقومة لذاتية الإنسان مسؤوليته‪.‬‬ ‫‪32 28‬‬

‫نواصل الكلام في ثورة المدرسة النقدية ببيان علاقتها بالرؤية القرآنية التي عللت بها أمرين‪:‬‬ ‫‪-1‬البداية الإيديولوجية للمعركة مع الكلام والباطنية‬‫‪-2‬الانتقال إلى الغاية الفلسفية التي تعلقت بتغيير نظرية المعرفة (نفي القول بالمطابقة)‬ ‫والنظرية الوجودية التخلي عن وهم احاطة الإنسان به‪.‬‬‫والإثبات بالآيات على اهميته لا يكفي لعلتين‪ :‬سيقال هي حمالة اوجه وسيقال أنت تصادر على‬ ‫المطلوب لأنك تثبت الشيء نفسه‪ .‬لذلك لا بد من دليل حاسم‪.‬‬‫وأفضل أدلة الحسم شهادة من لم يعرف عنه حب الإسلام أو نزاهة الدفاع عن الحق‪ :‬ما الأمور‬ ‫التي كان علم الكلام المسيحي يعيبه على الإسلام؟‬‫ولماذا كانت ما يعيبه هيجل على الإسلام هو ما يعيبه على فلسفة التنوير ونقديتها ومنزلة للإنسان‬ ‫ومقف تجريدي يعتبره منافيا لمقوم المسيحية؟‬‫بعبارة أوضح فشهادة الكلام المسيحي وشهادة هيجل بما تبينانه من عيوب منسوبة إلى الإسلام‬ ‫هما نفس ما حاولنا بيانه أصلا لرؤية مدرسة النقد العربية‪.‬‬ ‫وأبدأ بالمسألة الأولى‪ :‬ماذا يعيب الكلام المسيحي وخاصة بعد الإصلاح على الإسلام؟‬ ‫خمسة أمور‪:‬‬ ‫‪-1‬أهمها قول الإسلام بالأ ‪Rechtshaffenheitl‬‬‫وهو أعجب ما يعاب على الإسلام أي القول إن الجزاء بقدر العمل وأن الله يعامل الناس دون‬ ‫تمييز بمقتضى عملهم وليس بما يسمى لطفا منه وتفضلا‪.‬‬ ‫وبعبارة حديثة‪ :‬كيف يعقل أن يكون الله خاضعا للقانون؟‬‫فهو لا يكتب على الإنسان وحده بل يكتب على نفسه ويلتزم بالقانون لأنه حاكم عادل بإطلاق‪.‬‬ ‫وهذا أول عيب يجده المصلح الأول في الإسلام‪.‬‬‫أما الثاني فهو أن الإسلام شديد الالتصاق بالدنيوي والطبيعي وينكر الخطيئة الموروثة ‪Die‬‬ ‫‪Erbsünde‬‬ ‫‪32 29‬‬

‫والعيب الثالث‪ :‬الحرية الروحية أو نفي الوساطة ولا يعتبر عيسى وسيطا بل هو رسول مثل الرسل‬ ‫الباقين يذكر بدين الفطرة أو الديني في كل دين‪ :‬الإسلام‪.‬‬‫العيب الرابع لا يكتفي الإسلام بإصلاح الكنيسة التي تعوص الوسيط والشفيع (المسيح) بل يلغيها‬ ‫تماما فيجعل الدين مسألة شخصية وفرض عين لكل فرد‪.‬‬‫والمسألة الاخيرة وهي الأهم القول بالغيب المطلق الذي هو محجوب حتى على الأنبياء فالعلم كله‬ ‫نسبي لا المسيح ولا محمد يمكنه أن يحيط بالوجود‪.‬‬‫هذه العيوب الخمسة في نظر فكر الإصلاح (بعد لوثر) هي في الحقيقة أهم ثورات الإسلام‪ :‬إلغاء‬ ‫للسلطتين فوق الضمير الخلقي في تعينيه الديني والسياسي‪.‬‬‫وإذن فالإصلاح لم يغير من جوهر المسيحية بل هو حد من فساد الكنيسة وفساد الحكم بالحق‬ ‫الإلهي دون أن يلغيهما كما فعل الإسلام‪ :‬بقيت آل عمران ‪.79‬‬‫فتأليه المسيح الوسيط المطلق أو الشفيع المطلق الذي هو تأنيس الله في قراءة هيجل هو الخلاف‬ ‫الجوهري بين الديني أو الإسلام وتحريفاته كلها‪.‬‬‫ومعنى ذلك أنه انطلاقا من آل عمران ‪ 79‬يمكن اعتبار فلسفة الدين الهيجلية مطابقة للوجه‬ ‫النقدي من فلسفة الدين الإسلامية‪ :‬فلسفة تحريفات الديني‪.‬‬‫فما يعتبره هيجل غاية الدين القصوى أو تأويله للمسيحية بوصفها بلوغ مرحلة تعين الله في‬ ‫الإنسان برمز المسيح هو غاية التحريف القصوى قرآنيا‪.‬‬‫{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونا عبادا لي من دون الله‬ ‫ولكن كونوا ربانيين‪ .....‬وبما كنتم تدرسون} الآية‪.‬‬‫كل علم إنساني اجتهاد‪ .‬وإذا كان صاحبه صادقا في طلب الحق فهو مثاب حتى لو أخطأ‪ .‬والشرط‬ ‫التواصي بالحق وبالصبر بين المؤمنين العاملين صالحا‪.‬‬‫يكون التعدد شرطا في البحث عن الحقيقة وذلك حتى في العقائد والشرائع‪ :‬المائدة ‪ .48‬لكل‬ ‫جعلنا منكم شرعة ومنهاجا حتى تتسابقوا في الخيرات‪.‬‬‫الاعتراف بالتعدد الديني شرط في حرية المعتقد (البقرة ‪ )256‬المشروطة بحرية الفكر (تبين‬ ‫الرشد من الغي) روحيا وبالحرية السياسية (الكفر بالطاغوت)‪.‬‬‫لكن ذلك كله ذهب هباء بسبب الانحطاط والنكوص إلى الجاهلية‪ .‬الغوا الحرية الروحية في الفكر‬ ‫والعقد وألغوا الحرية السياسية في المثال والواقع‪.‬‬ ‫‪32 30‬‬

‫ولما كانت الحداثة فيها ما يشبه هذه القيم القرآنية ‪-‬مثل حرية الضمير وحرية الفكر والحرية‬ ‫السياسية‪ -‬اعتبروها غزوا ثقافيا وابتعادا عن الإسلام‪.‬‬‫وهنا أمر إلى المستوى الثاني من الدليل لنفهم لماذا كان هيجل يعيب على الإسلام ما يعيبه على‬ ‫فكر الحداثة وما يسميه الاسترياء (من الرأي) لا العقل‪.‬‬‫كما في العربية الألمانية تميز في فاعلية بين الحصاة ‪ Verstand‬والنهى ‪ Vernunft‬اي العقل‬ ‫المتجاوز لمجرد الحساب والتقدير إلى مدرك القيم والمطلق‪.‬‬‫وكان ذلك ضروريا عنده لتجاوز الحل الكنطي الذي فصل بين ما يدركه الإنسان وما يتجاوز‬ ‫إدراكه أو حقيقة الشيء في ذاته حتى يوحد بين العقل والواقع‪.‬‬‫فأعاد بذلك نظرية الحقيقة المطابقة وجعل ما يدركه العقل هو عين الحقيقة وكل ما يتجاوز‬ ‫العقل من أوهام الإنسان وليس وراء هذا العالم ما وراء‪.‬‬‫إنه مفهوم التطابق بين الذات والموضوع في غاية التطور الروحي ومن ثم فالعلم اكتمل والتاريخ‬ ‫انتهى كخرافة خاتم الأولياء كان خاتم الفلاسفة‪.‬‬‫وهذا هو منطق العولمة الذي هو التعين التام لفلسفة هيجل والتي لا مخرج منها من دون الفلسفة‬ ‫النقدية بشكليها العربي والغربي مع تفضيل الأولى‪.‬‬‫وليس التفضيل لتعصب للذات بل لعلتين فلسفيتين‪ :‬لا أقبل أن يكون ما يدركه الإنسان مجرد‬ ‫مظاهر الوجود بل هو ما يناسبه من الوجود وهو حقيقة إضافية‪.‬‬‫ولا اقبل أن تكون شروط الأخلاق مجرد مسلمات‪ :‬فشرط الحرية وخلود النفس ووجود الله إذا‬ ‫كانت مجرد مسلمات كانت الأخلاق مجرد \"تقديرات ذهنية\"‪.‬‬‫والجمع بين العلتين يبين أن القول بأن الأخلاق ممكنة من دون دين ‪-‬فكرة مسيطرة على أدعياء‬ ‫التفلسف‪-‬وهم‪ :‬ذلك أنه لا يميزون بين القانون والأخلاق‪.‬‬‫وهو تمييز دقيق عند ابن خلدون‪ :‬الوازع الذاتي ديني خلقي‪ .‬والأجنبي ساسي قانوني‪ .‬والأول‬ ‫نابع من ضمير الإنسان وروحه والثاني نابع الحكم السياسي‪.‬‬‫لكن التربية تحاول الجمع بين الأمرين فيظن الكثير أن الأول حصيلة فعل الثاني‪ .‬وهذا خلف‪:‬‬ ‫ذلك أن الثاني ما كان ليستبطن بدون قابلية الباطن له‪.‬‬‫والقابلية هي الضمير الذي يميز بين القانون العادل فيعمل به بمقتضى فطرته الخلقية التي هي‬ ‫عين الديني والقانون الظالم فيثور عليه بنفس الدافع‪.‬‬ ‫‪32 31‬‬

‫ولولا ذلك لما تغيرت القوانين والنظم السياسية‪ .‬وتلك علة اشتراط القرآن الحرية الروحية في‬ ‫الحرية السياسية فألغى الوساطة والحق الإلهي في الحكم‪.‬‬‫وبذلك نفهم العلاقة بين الثورتين المعرفية والوجودية في المدرسة النقدية والثورتين القرآنيتين‬ ‫أعني الحرية الروحية والحرية السياسية‪.‬‬‫فلكأن الغزالي وابن تيمية وابن خلدون طلبا الفلسفة النظرية والعملية التي تترتب على‬ ‫الحريتين الروحية والسياسية في تنظيم مقومي وجود الإنسان‪.‬‬‫والمقومان هما‪ :‬كونه مستعمرا في الأرض بتوسط الوسيطين الطبيعة والتاريخ‪ .‬لكنه مستعمر بقيم‬ ‫الاستخلاف بعلاقة مباشرة بينه وبين الله خليفة له‪.‬‬ ‫‪32 32‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬