Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore يوميات أستاذ مغربي

يوميات أستاذ مغربي

Published by aboutarek17, 2018-01-15 13:28:16

Description: يوميات أستاذ مغربي

Search

Read the Text Version

‫بقلم سعيد ارويف‬

‫‪....‬من هنا نبدأ‪......‬‬ ‫أدرك أني لست وحيدا في هذا الخضم‪...‬هناك ملايين الناس‬ ‫في العالم يتعذبون على نحو أكثر ألما‪ .‬لكن يبقى للمعاناة وقع‬ ‫واحد على الجميع‪ ،‬فهي تفقد المرء‪ ..‬الثقة في النفس وتجعله‬ ‫يتساءل بحسرة عن المصير المجهول الذي ينتظره‪...‬تخمد فيه‬ ‫جذوة الطائر المغرد ‪...‬تسلبه الفرحة وتغتصب أيامه الجميلة‬ ‫ببطء‪ ..‬لكني مع كل هذا سأبقى أردد مع الشاعر حين يقول‪:‬‬‫سأعيش رغم الداء والأعداء *** كالنسر فوق القمة الشمـاء‬

‫الحكاية الأولى‪:‬‬‫لم تكن قبلاتي الكثيرة والحارة لابنتي الصغيرة كافية لتقيني صقيع وبرد هذه القرية التي وصلت‬ ‫اليها صباح اليوم‪.‬تركت اسرتي وقليلا من اصدقائي وركبت اول سيارة ذاهبة الى القرية التي‬ ‫اشتغل بها حيث ينتظرني هنالك العديد من الاطفال بشوق كبير لاعلمهم قليلا مما علمني الله‬‫استقبلني تلامذتي بحرارتهم المعتادة‪،‬تسارعوا جميعهم ليحملوا عني حقيبتي الصغيرة ومحفظتي‬ ‫فأومات برأسي ارفض ذلك‪ ،‬لكنني لم استطع مقاومة اصرارهم وفضولهم‬‫البرد الشديد يلف غرفتي التي اجلس بها الان‪...‬كل شيئ صامت من حولي الا ما يعتمل في قلبي‬ ‫وذاكرتي‪ .‬وحيد الا من ذكرياتي الجميلة وامالي الكبيرة واللامتناهية‪...‬وحدها صورة اطفالي‬ ‫وزوجتي العزيزة تدفع عني وحشة المكان وصمته المخيف والمريع‬ ‫في اطراف الغابة المجاورة وجدتني اجمع كومة من الحطب لاستدفئ به هذا المساء‪ .‬فالجلوس‬ ‫قرب الموقد سيجعلني اسافر بعيدا واحلم كثيرا طالما ان هذا السفر لا يحتاج لمقابل‪ ...‬سارحل‬ ‫الى الاقاصي دون ادني اعتبار للحدود التي رسمها الاستعمار الغاشم‪ ..‬وسابحث في كل مكان‬ ‫عن زاوية أواري فيها الشقاء واعود‬ ‫اعود اليك طبعا يا قريتي الصغيرة فوحدك تمنحينني فرصة ادراك جوهر الانسان‪...‬مع رائحة‬ ‫تربتك الندية اصبح اكثر ممارسة للفطرة التي ولدت عليها‪...‬في القرية بعيدا عن زخم المدينة‬ ‫وضوضائها يمكنني ودون عناء ان اتحسس اداميتي واكون انسانا كما يجب ان اكون‬ ‫ما تزال الغيوم تغطي سمائنا ‪.‬ستنهمر الامطار دون شك‪ .‬وسيسيل الماء جداولا صغيرة في‬ ‫الازقة الضيقة‪...‬ستأوي الفراخ لأعشاشها لاتقاء المطر القادم‪ .‬وساجلس قرب المدفأة لاكتب‬ ‫مذكراتي كعادتي وارتقب بزوغ فجر اكثر جمالا واكثر اشراقة‬ ‫كتب السياب في انشودة المطر فقال‪ :‬مطر مطر ‪..‬أتعلمين اي حزن يبعث المطر‪ ..‬وكيف تنشج‬ ‫المزاريب اذا انهمر ‪..‬وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع‪ ...‬وكتب جبران قبله ليمنح الناس الامل‬ ‫فقال‪ :‬ولكن في قلب كل شتاء ربيعا يختلج ووراء كل ليل صبحا يبتسم‬ ‫اتصلت زوجتي قبل قليل وانا اكتب هذه الكلمات‪.‬وعوض ان اترك لها المجال لتطمئن عن‬ ‫سفري‪ ،‬سبقتني جمل استفسر من خلالها عن حال الصغار‪ .‬الجميع بالف خير ‪.‬طاب يومكم‬ ‫جميعا‬ ‫اعشق بدر شاكر السياب الى حد لا يوصف‪ .‬لقد كتب قصيدة لزوجته وهو بالخليج يصارع‬ ‫الموت بعيدا عنها فقال‪:‬رحل النهار‪..‬ما انه قد انطفأت ذبالته فوق افق توهج دون نار ‪..‬وجلست‬ ‫تنتظرين عودة السندباد من السفار‪ ..‬والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود هو لن‬ ‫يعود‪..‬اوما علمت بأنه أسرته آلهة البحار‪ ...‬في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار‪..‬هو لن‬ ‫يعود فلترحلي رحل النهار‬ ‫في هذه القرية حيث تنعدم الكهرباء‪ ،‬يغب التلفاز والانترنت‪ .‬وحده الجوال والمذياع وسيلتي‬ ‫ارتباطي بالعالم الخارجي‪...‬انها طريقة قديمة ومتجاوزة لكنها لا تزال ذات قيمة وسط هذه‬

‫الجبال الشامخة شموخ الشر في قلب القائمين على احوال الرعية في وطني العزيز‪..‬فحيث لا‬ ‫امل في محاولة زحزحة الجبال عن اماكنها كذلك الامرمع الفساد الذي يستشري طولا وعرضا‬ ‫في هذا البلد‪..‬هنا وطنه وسماؤه‪،‬وسيبقى هنا الى الابد وهذه اذن دعوة ضمنية لمن تبقى من‬ ‫الاوفياء هنا ليبحثوا لهم عن اوطان بديلة‪ ...‬قد يوحي كلامي انني اعيش معاناة هنا ‪،‬لكن حتى‬ ‫وان اسلمنا ان الامر كذلك ‪،‬فسأبقى افتخر بهذه المعاناة امام السنوات المشرقة والقادمة بإذنه‬ ‫تعالى‪.‬فالتجربة لا تولد الا من رحم المعاناة‪.‬والصمود والصبر لا يتعلمهما المرء إلا بعد القهر‬ ‫والمشقة والعذاب‪.‬تماما كالابطال الذين يصنعون الامجاد لكن بعد عرق ومثابرة واجتهاد‬‫قبل ان اغلق خط الهاتف مع زوجتي سألتني هل اشتقت الينا؟وكان جوابي أن الدليل ستجدونه في‬ ‫حرارة العناق القادم‪...‬لكن بعد أن أعود‬ ‫الحكاية الثانية‪:‬‬ ‫كأي انسان مفلس جلست الى المقهى المجاور للمنزل هذا الصباح‪.‬ولسبب ما وجدتني احدق في‬ ‫عيني النادل الذي يسعده قدومي كل يوم‪،‬لكن حظه سيكون متعثرا من دون شك‪.‬ما أقصى أن‬‫تكون سعادة النادل مرتبطة بما في جيبك‪..‬همست وكلي أمل ألا يسمعني أحد‪:‬أريد قهوة لكن ليس‬ ‫معي ثمنها الان‪ ،‬سأسدد لك في المساء ‪.‬وانصرف المسكين دون ان يتردد وعاد بعد لحظات‬ ‫ومعه قهوة وسجارة ايضا‪...‬‬‫هذه أول مرة ألج فيها المقهى وليس معي ثمن قهوتي الصباحة‪.‬وليس غريبا ان يلبي النادل طلبي‬ ‫فغالبا ما كنت أناوله درهما او اثنين اكراما لخدمته الجليلة‪.‬الحقيقة انني اشفق على هذه الطبقة‬ ‫من العمال‪.‬الناس تنظر اليهم بكثر من الحقارة وانا انظر اليهم بالكثير من الاحترام والرضى‪..‬‬ ‫لقد جربت ذلك العمل الصيف الماضي ولازلت أتذكر كيف أعود منه قرابة منتصف الليل‪.‬كان‬ ‫التعب يأخذ مني مأخذه وكثيرا ما عجزت قدماي عن حمل جسدي‪ ..‬الناس لا يقدرون هذا‪.‬أحيانا‬ ‫يطلب منك أحدهم أن تأتيه بقهوة ولما تحضرها يعود فيطلب منك في أحسن الأحوال بلطف أن‬ ‫تأتيه بكأس فارغة لأن أسنانه لا تتحمل السوائل الساخنة ثم يأمرك بعده بمشروب آخر أو أي‬‫شيئ المهم ان تبقى على اتصال دائم به‪...‬كم أكره هذا النوع من الزبناء الذين لا يعرفون حتى ما‬ ‫يريدون شربه‪..‬كنت ألعنهم في قرارة نفسي والواقع انني كنت ألعن حظي التعيس الذي رمى بي‬ ‫اليهم‬ ‫احتسيت قهوتي ممزوجة بالمرارة ‪.‬توقفت سيارة زميلي فاسرعت والقيت بجسدي في المقعد‬ ‫الخلفي‪ ،‬كنت ارى الاشجار تتوارى الى الخلف الواحدة بعد الاخرى‪،‬وفكرت كثيرا في هذه‬ ‫الحكاية التي لا حد لها‪..‬كل عام وأنا هكذا ترى إلى أين؟ لكن توقفنا أمام باب المدرسة خلصني‬‫من هذا الثقل الصباحي‪.‬قلت لزميلي انني لا أحمل ولو درهما واحدا وأنني سأسدد لك ثمن الرحلة‬ ‫في اليوم الموالي‪...‬لمحت الدموع في عينيه‪.‬لقد أوشك ان يبكي‪.‬انه يحب أن نسدد له ما علينا‬ ‫مباشرة بعد ان نزولنا‪.‬هكذا خلقه الله والطابع يغلب على التطبع كما يحكي التاريخ‪ .‬لكنني لم‬

‫انتظر يوم الغد ابدا‪ .‬فقد تدبرت له الثمن اربع ساعات من وصولنا وخلصته من كوابيس قد تفوت‬ ‫عنه النوم لليلة كاملة‬ ‫امامي سبورة سوداء وطاولات خشبية تصلح لكل شيئ إلا الجلوس‪ .‬طاولات بمقاعد خشبية‬ ‫صلبة‪.‬مسطرة صفراء بطول متر واحد طباشير وغبار كثير‪..‬انني فعلا داخل حجرة الدرس ‪.‬لا‬ ‫اعرف أي اسم اختار لها هل أسميها حجرة دراسية ام منزلي الفسيح‬ ‫في النهار يحتل الاطفال القاعة وبالليل يحتلها المعلم‪..‬لقد سألني ولدي الصغير مرارا اين تنام يا‬ ‫ابي ّ؟فاقول له بالحجرة التي ادرس بها‬ ‫كنت اقضي ليالي عندما يتعين علي المبيت بالقرية في منزل تركه الاستعمار الفرنسي‪.‬لا يزال‬ ‫ذلك الجحر يحمل اثار رصاصات المقاومين المغاربة ‪.‬سبع رصاصات بالتحديد‪ .‬لم يبق من‬ ‫المسكن غير اسمه وذكريات الغزاة الذين تناوبوا على كؤوس الخمر بين جدرانه‪...‬تستغل إحدى‬ ‫زميلاتي هذا الجحر منذ تسع سنوات‪.‬وقد سلمتني مفتاحه بعد حصولها على رخصة ولادة لمدة‬ ‫اربعة اشهر تقريبا‪ .‬لكنها عندما استأنفت عملها طلبت مني ان اجمع أغراضي وأبحث لي عن‬ ‫سكن بديل‪.‬لم يكن أمامي بعد تعذر الحصول على سكن بالقرية غير أن قررت ان أنام مع‬ ‫الطباشير جنا الى جنب‪ ،‬وهكذا خصصت لي زاوية بالحجرة الدراسية وضعت فيها امتعتي‬ ‫وقارورة غاز للانارةو أخرى للطبخ وبضع اوان تثير القشعريرة والاسى‪...‬على الأقل انا أسكن‬ ‫بقاعة واسعة ذات أربع نوافذ وليس بها جرذان ولا حشرات‪ ،‬فأحد زملائي يسكن بدوره في‬ ‫غرفة مخصصة للمؤنة التي تقدمها الدولة لأطفال المدرسة‪ .‬غرفة كدست بها أكياس من الدقيق‬ ‫والزيت والعدس والفاصوليا الفاسدة‪...‬يحكي الزميل أن الجرذان تتجول فوق جسده دون حياء‬ ‫كلما آوى الى فراشه‪.‬تتبول وتتبرز طوال الليل لذلك يخرج الأغطية كل يوم ليعرضها لاشعة‬ ‫الشمس أملا في التخلص من رائحتها‪ .‬والواقع أنه لن ينجح أبدا إذ لا يوجد شيئ مقيت أكثر من‬ ‫رائحة بول الفئران‬ ‫أستطيع أن أقول الآن إن هذا يوم طويل ‪.‬طويل وشاق جدا‪.‬لم أتصل بزوجتي التي تركتها‬ ‫بالمدينة ‪.‬فقد نفذ اعتماد بطاقتي ورصيدي وليس معي فلس واحد‪ .‬لا اعرف كيف كان يومها مع‬ ‫الصغار‪...‬كل ما أعرف هو أن قلبها معي وأن الحياة قد علمتها كيف تصنع من الشقاء سعادتها‬ ‫ومن الحزن فرحتها‪...‬كم اقدر هذه المرأة الصغيرة وأقدر حبها للحياة‪..‬تقول لي دائما يجب أن‬ ‫تبحث عن حل حقيقي وجذري‪ .‬حل ماكر وذكي في آن واحد‪...‬ورغم أنها تعرف مسبقا إجابتي‬ ‫إلا أنها لا تزال تردد نفس السؤال‬ ‫الحكاية الثالثة‪:‬‬ ‫عندما توصلت باستدعاء لحضور لقاء ثقافي تعقده احدى الجمعيات بالعاصمة الاسبانية مدريد‬ ‫‪،‬تساءلت اي رجل مهم اكون ليصلني هذا الاستدعاء‪.‬كانت الورقة بيضاء وهي خطاب شخصي‬ ‫الى القنصل الاسباني المقيم بالرباط يسألونه فيها ان يسلمني تأشرة المغادرة‪.‬حددت موعدا مع‬

‫القنصلية وسلمتهم ملفي مشفوعا بالعديد من الوثائق الشخصية التي طلبوها‪.‬لكن قبل ذلك كان‬ ‫علي ان أبيع دراجتي النارية التي اتنقل بها بين القرية والمدينة كي اتمكن من تسديد تكاليف‬ ‫تنقلاتي بين مختلف الادارات‪.‬ومثل اي انسان مستعجل قبلت ببيعها باقل مما تستحقه فعلا‪.‬‬ ‫وضعت تلك الاوراق المالية في جيبي وأبقيت يدي في حذر عليها مخافة ان تضيع مني فينهار‬ ‫كل شيئ‪.‬وعدت راجلا من السوق من دونها‪.‬وفي الطريق كنت أردد بيتا قديما من الشعر يقول‪:‬‬ ‫في ليلة قر يصطلي القوس ربها‪ +++‬وأدرعه اللائي بها يتنبل‬ ‫انه بيت يناسب حالتي الان تماما‪.‬ومعناه انه في ليلة باردة قد لا يجد المحارب الذي لا يملك‬ ‫سوى قوسه وادرعه التي يتقي بها نبال اعدائه من وسيلة للتدفئة غير ان يحرق قوسه تلك‬ ‫وادرعه ليبقى اعزلا من دون سلاح ‪.‬وهذا ما حدث لي الان بالضبط‬‫لقد بعت دراجتي وأصبح تنقلي الى المدرسة مرهونا بوسائل نقل في ملكية أصحابها‪ .‬هذا لا يهم‬ ‫فقد أحصل على التأشرة وأغادر الى قارة اخرى وانسى حكاية المدرسة والطريق‬ ‫لكن هذا الحلم تبخر لتعود تلك الحكاية بإلحاح هذه المرة‪.‬لم احصل على التاشرة لسبب لا‬ ‫اعرفه‪.‬وبعت دراجتي لسبب أعرفه‪ .‬اسبانيا ستضيق بي ربما هكذا فكر موظفو السفارة ربما او‬ ‫قرؤوا نواياي بطريقة ما فرفضوا طلبي وانا فعلا لم يكن في حسباني ان اعود ابدا‪...‬لا اعرف‬ ‫فيما كنت سأضرهم او أسيئ لبلدهم‪.‬؟؟؟ انا لست مجرما ولا لصا ولا متسولا ولا ارهابا‪ ...‬انا‬ ‫ابحث عن لجوء اقتصادي صغير فحسب مثل جراد الصحراء الذي كان يغزو موريتانيا‬ ‫والمغرب قبل عهد قريب فأبادوه بشكل جماعي رشا بالمبيدات‬‫اقترب مني لص بالرباط وادركت انه يتربص بمحفظتي التي بيميني‪ .‬لم يخجل رغم انني أومات‬ ‫اليه براسي اني فضحته‪ .‬وقلت له متحديا ان ليس بها سوى اوراق ومسودات حزينة ليوميات‬‫دأبت على كتابتها‪ .‬والأجدر به ان يسرق مبادئي ليأخذ الجميل منها ويترك السيئ‪ ...‬لكن حتى لو‬ ‫استطاع فعل ذلك فقذ كان سيأخذ منها السيئ فقط ويترك الجميل‪ ...‬شأنه في ذلك شأن باقي‬ ‫اللصوص‬ ‫الحكاية الرابعة‪:‬‬ ‫قال المدير يوما ليس معقولا ان تبيت بالقاعة الدراسية ‪.‬وكذلك قال المفتش‪ .‬وأجبت المدير وهل‬ ‫المعقول ان أبيت في العراء‪ .‬وكذلك أجبت المفتش‪ .‬صمت المدير وصمت المفتش‪.‬وأدركت ان‬ ‫كلاهما يعرف مسبقا انني لن اتنازل عن هذا الحق أبدا‪ ...‬تستطيعان تسميته مخيما مؤقتا او‬ ‫استراحة إجبارية على ضفاف بحر الحياة الممتد الى ما لا نهاية‬ ‫عندما قررت ان اقبل بفكرة الهجرة وترك هذا الوطن في اقرب فرصة قد تبتسم لي‪...‬احسست‬ ‫كمن يتخذ اجمل قرار واقربه الى الحكمة‪ .‬الذين اخترعوا عبارة المغرب اجمل بلد في العالم‬ ‫‪.‬كانوا في حالة سكر طافح‪.‬هكذا طالعني عنون عريض في احدى الصحف الوطنية ‪.‬الذين‬

‫يقررون مصير ابناء هذا الوطن في البرلمان هم أميون في الغالب‪ .‬وهم بالتاكيد أعظم الأاشرار‬ ‫واللصوص‪...‬لا يمكنك أبدا ان تحصل هنا على مقعد بالبرلمان قبل أن تعلق على ظهرك أنك‬ ‫أكبر لص في مدينتك‪ ...‬لتكون برلمانيا يجب أن تدوس كرامة الآلاف من الناس وأن تسرق‬ ‫الآلاف وتغتصب حقوق جيرانك وإخوانك وأهلك وكل من يقع تحت مرمى بصرك وترابك‬ ‫ونفودك‪ ...‬أنذاك سيصوت لك الجميع وسيدفعونك لبرلمان الأمة لتقرر مصيرهم الأسود سواء‬ ‫قلبك ومصيرك إن شاء الله‬‫لماذا لا يفكرون في بناء منازل للمدرسين بجوار المدارس التي بنوها في كل قمة وسفح؟؟؟منزل‬ ‫بغرفة واحدة كيفما كان حجمها لتحفظ كرامتك على الاقل من بول الجرذان ورائحة‬ ‫الطباشير‪...‬وضحت بعدما تذكرت ان الكرامة هي اخر شيئ يعني المسؤولين عندنا‪ ...‬الكرامة‬ ‫بالنسبة لهم هي ان تبقى ضعيفا ومهزوما كي لا تنافسهم على مقعدهم الوثير في‬ ‫البرلمان‪...‬الكرامة التي يريدونها هي ان لا تتحسن احوالك لكي لا تتوفر فرص تعليم جيد‬ ‫لابنائك‪ ....‬يجب ان يبقى الجميع اميا ليحصلوا على تعويضات من صناديق الامم المتحدة‬ ‫ويحولونها بكل برودة دم الى حساباتهم الخاصة‬‫وفكرت ان اهاجر غير آسف إلا على شمس بلادي وليلها الطويل الهادئ‪..‬على البحر الممتد من‬‫طنجة الى الصحراء‪...‬على وجوه البائسين والمحرومين مثلي والذين لفرط حاجتهم يبدو منصبي‬ ‫كبيرا جدا في اعينهم‬ ‫سأسافر اليوم الى المدينة كما طلبت زوجتي قبل قليل عبر رسالة قصيرة‪ ...‬سأعانق الصغيرين‬‫وأقبلهما ومع كل قبلة سأزرع فرحة ونبتة عمر جديدة في انتظار الربيع القادم لتزهر‪ ...‬وسأنسى‬ ‫كل شيئ كالعادة‪ ..‬سأنسى هذه التفاهات التي كتبتها قبل قليل وسأحلم بيوم جديد مشرق وضاحك‬ ‫الحكاية الخامسة‪:‬‬ ‫على رصيف نفس المقهى احسيت قهوتي الصباحية‪ ..‬سددت ثمن قهوتي السابقة وابتسم النادل‬ ‫كعادته‪ .‬نفس الطريق تنتظرني كل يوم‪.‬والأماني هي ذاتها التي تتراءى لي في اليقظة والمنام‪.‬‬‫في الليلة الماضية كنت في حوار مع أحد الاصدقاء في الخليج ‪ ،‬سألني عن أخباري فأجبته قائلا‪:‬‬ ‫لا جديد عندي ‪ .‬الأحلام هي نفسها يا عزيزي‪ .‬وعندما سألته ماذا تفعل الان؟ أجاب انه يشرب‬ ‫الشاي مع احلامي‪ .‬وكتبت له محذرا أن مذاقه سيصبح مرا‪ .‬فرد أنه سيضيف إليه المزيد من‬ ‫قطع السكر‬‫استطيع الآن أن أرتاح من تعبي لأنه على الاقل يوجد من يقاسمك احلامك ولو من بعيد‪ ...‬احيانا‬ ‫افكر انه لو غاب الامل لا نعدمت الحياة‪ .‬لذلك أجر جسدي كل مساء وأفتح بريدي وأشرع في‬ ‫الحديث الى أصدقاء افتراضيين‪ ...‬الحديث يجرنا الى الكلام في أمور عديدة ننساها جميعا‬ ‫بمجرد من نغلق الاميل‪ ...‬كل يوم أتوصل الى قناعة مفادها ان الدردشة لن تفيد في شيئ يذكر‪.‬‬ ‫يجب أن أبحث عن حقيقي وماكر وواقعي كما قالت زوجتي‪ ...‬تعرفت الى العديد من الناس من‬

‫مختلف بقاع العالم‪ .‬أغلبهم للاسف يحمل قذارة ما في نفسه‪ .‬قال لي احدهم يوما‪ :‬يجب ان تصبح‬‫شيعيا وسأفتح عينيك على اوروبا بأكملها‪ .‬والواقع أنه لو فتح عينيه لقرأ الإهانة التي صفعته بها‬‫عندما قلت ‪ :‬إنني لا أفهم هل تبذل جهدا لتكون حقيرا أم هي موهبة فقط‪.‬؟؟؟ لكنه مثل أي مبشر‬‫لم ييأس من المحاوله وعاد ليقول‪ :‬سأفتح عينيك على اوروبا باكملها‪ .‬وعلقت كما يجب أن أعلق‬ ‫ساعتها وقلت‪ :‬حتى لو استطعت أن تفتح عيني على عورة زوجتك فإني لن أفعل‪ ...‬منذ ذلك‬ ‫الحين نسيت هذه الحكاية ونسيت معها ذاك الحقير‬ ‫ليس لدي شيئ لأخسره ولا لأربحه لذلك يجب أن أكون كما أريد أن أكون‪ ...‬عندما أحس أن‬‫احدهم يدور حول فكرة تافهة أخبره ببساطة انني لست الصديق المناسب له‪ .‬لكن هذا لن يمنعني‬ ‫من القول انني اكتسبت صداقات جيدة من خلال الأنترنت‪ .‬رجال يقدرون جيدا كل كلمة‬ ‫يكتبونها‪ .. .‬يحترمون اختفائهم الأبدي في نقطة ما من العالم‪ .. .‬لذلك أحببت صدقهم وأخلاقهم‬‫وكثيرا ما استطعت ان أأنس بالحيدث اليهم ‪.‬فأنسى همومهم اذ يحكون همومهم ‪ ،‬ونرتب للقاء قد‬ ‫يحدث وقد لا يحدث‬ ‫الحكاية السادسة‪:‬‬ ‫اليوم قتل الصهاينة مائة وعشرة فلسطينيا بينهم اطفال هكذا ظلما وعدوانا‪.‬غارات وانقاض‬ ‫ودموع وصراخ ونحيب واصرار رائع على المقاومة‪ .‬يقول نائب وزير دفاعهم ان الغارات لن‬ ‫تتوقف‪ .‬ويعد الفلسطينين بالمحرقة‪ .‬يبدو ان حساية اليهود للمحرقة تجعلهم دائما يفكرون في‬ ‫تصديرها لابناء غزة في تحد سافر للمجتمع الدولي‪،‬هذا ان وجد هذا المجتمع اصلا‪ .. .‬العرب‬ ‫غاضون في نومهم العميق عملا بتوصية شاعرهم العظيم ‪:‬ناموا فما فاز الا النوم‪ .‬وهذا ما هم‬ ‫عليه فعلا‪ .‬انهم نائمون‪...‬‬‫لا أدري أي سحر هذا الذي يكمم افواه المسؤولين عندنا من المحيط الى الخليج‪ .‬وحدها مبادرات‬‫محتشمة من السعودية ومصر‪ .‬ما الذي تحتاجه حكوماتنا لتتحرك وتقول شيئا‪.‬؟ فيماذا ستنفع هذه‬ ‫الجحافل من الجنود الرابضين في ثكناتهم يأكلون لحم الجاموس ويقامرون بمرتباتهم؟؟ الجيوش‬‫العربية لا تتحرك الا لقمع المظاهرات التي ينظمها مواطنوهم نصرة وتضامنا مع اطفال غزة و‬ ‫العراق‪...‬وفكرت ان هذا غير صحيح وقررت ان اخرج للشارع وأصرخ باعلى صوتي‬‫‪:‬فلسطين عربية انقذوها‪.‬لكنني تيقنت ان مصير صرختي لن يكون الا في مخفر الشرطة القريب‬‫جدا من بيتي فعدلت عن الفكرة‪...‬المسؤولون العرب لن يتحركوا حتى ولو وضع احدهم اصبعه‬ ‫وراء مؤخرتهم وقد يقبلوا بهذا الوضع عوض الوقوف والتنديد بهذا الظلم والعدوان‪ ....‬امير‬ ‫بريطاني معتوه سئم حياة البذخ في لندن وقرر الا نضمام لقوات بلاده في افغانستان لمقاتلة‬ ‫الاعداء‪ ،‬وإذا خرج سالما منها فإنه ينوي الالتحاق بقوات بلاده في العراق لنفس المهمة ايضا‪.‬‬ ‫بعده لا اعرف ماذا سيقدم عليه هذا الشاب المغرور‪.‬؟ الغرب يعرف جيدا ان سلوك وزرائه‬ ‫ومسؤوليه المتقدمين في السن لم يعد يستفزنا فقرروا تمرير استفزازهم عن طريق هذا الشاب‬

‫الامير‪.‬؟ لكنهم لن ينجحوا ابدا في إثارة غيضنا‪ .‬نحن امة لا يمكن استفزازها ‪.‬فافعلوا ما شئتم‬ ‫واقتلوا من شئتم واحرقوا انى شئتم‪ .‬نحن دواجن لا تصلح سوى للطاعة‪.‬هذه هي الاجابة التي‬ ‫تقدمها حكوماتنا للغرب مع الاسف‪.‬‬‫‪...‬لا أحد استطاع يوما ان يتنازل عن كبريائه ويتقدم برجله نازلا من عرشه ويحمل لافتة منددة‬ ‫ويرتدي قميصا عاديا مثل الاخرين‪...‬لا أعرف ماذا سيكلفه هذا؟ثم اهتديت لفكرة وانا اطرح‬ ‫السؤال مفادها انهم لا يملكون الوطنية الحقيقية التي نملكها كأناس عاديين لذلك لا ترق قراراتهم‬ ‫لمستوى تطلعات شعوبهم ولن يحدث هذا ابدا‪...‬‬ ‫الهزيمة قدرنا كعرب‪..‬تتناقل القنوات التلفزية صور الجثث وهي تتفحم فتتكرس الهزيمة‬ ‫والانكسار‪ .‬لعنة العروبة تطاردنا اينما كنا حتى في بيوتنا لا اكاد اسمع خبر اعتقال جماعة‬ ‫ارهابية او مخربة أو لصوص أو مجرمين إلا فيهم مغاربة وعرب‪ ..‬هكذا هي صورتنا جميعا‬ ‫في مدارسهم وفي أذهان ناشئتهم لذلك يحاربوننا دونما يأس أو هوادة‪...‬‬ ‫هزيمة أخرى أتجرعها في اليوم الاخير من كل شهر منذ تسع سنوات متتالية‪ ...‬اليوم تقاضيت‬ ‫مرتبي الهزيل‪ .‬سددت ايجار المنزل والكهرباء وبعضا من ديوني للبقال والملبنة ولم يبق معي‬ ‫ولو درهم واحد‪ .‬لكن بقي لي الوقت الكافي لأفكر كيف سنعيش الثلاثين يوما القادمة‪...‬نظرت‬ ‫الى زوجتي فوجدتها تضحك ملء صدرها‪ .‬ضحكت كثيرا كما لو ان الامر عادي جدا فشاركتها‬ ‫الضحك‪ .‬انه فعلا شيئ يتكرر إثنا عشر مرة في السنة لذلك لا يبدو الامر جديدا‪...‬سأمنحك‬ ‫الدفء والدعاء الكافيء طيلة الايام المقبلة فلا تفكر في شيئ علقت زوجتي ‪ ...‬أرعبتني‬ ‫شجاعتها وكادت تخونني دموع بسبب صبرها وتوجهت اليها قائلا‪ :‬لقد جربت كل الحلول‬ ‫الرجالية وأريد حلا نسويا مجديا‪ .‬عودي إلى ذاتك العميقة كامرأة وفكري في حل لا يمتلك‬‫الرجال الطاقة الكافية للاهتداء اليه‪...‬النساء يا عزيزتي غالبا ما قدمن للرجال حلولا ذكية جدا‪....‬‬ ‫فأمسكت بيدي وألقتني على السرير بجانبها وقالت ‪ :‬سأعطيك الآن ساعة تنسيك كل الذي نحن‬ ‫فيه‪.‬فأمسكت بيدي وألقتني على السرير بجانبها‪،‬لكن طرقا لعينا على الباب أخرجنا مما نحن‬ ‫فيه‪...‬‬ ‫الحكاية السابعة‪:‬‬ ‫لا شيئ يكسر صمت هذا الليل الطويل بهذه القاعة الواسعة غير نباح كلاب بساحة‬ ‫المدرسة‪.‬كلاب جائعة لا تفارق الساحة بحثا عن كسرة خبز قد يكون رنين الجرس دفع بأحد‬ ‫التلاميذ للتخلص منها في زاوية ما قبل ان ينتهي من تناولها‪ ...‬للخبز علاقة حميمية مع التلاميذ‬ ‫عندنا‪.‬؟فكلما أعلن عن الاستراحة رأيتهم مغتبطين إذ يخرجون من محافظهم قطعا كبيرة من‬‫الخبز الحافي ‪.‬يعانقونه بشدة ويجرون للساحة لإزدرائه‪...‬كم يمزقني هذا المشهد الذي يكرس لي‬

‫يوما بعد آخر أننا ننتمي فعلا لعصر لم يعد يذكر سوى في كتب التاريخ القديمة‪ ...‬طفل يعانق‬ ‫بحرارة وبحب خبزا يابسا يستجديه أصدقاؤه ليعطيهم كسرة منه فيرفض هذا الاخير ويشعر‬ ‫بنشوة غريبة وعظيمة‪...‬هنا تتحدد الصداقات بين الاطفال وتظهر العداوات منذ الصغر لسبب‬ ‫واحد هو الجوع مع احترامي الشديد لهذا الوباء‪...‬‬‫الكلاب تواصل نباحها‪.‬يبدو أنها لم تظفر بشيئ يسد جوعها هي الاخرى‪ .‬لكنها نجحت في جعلي‬ ‫أتسائل ‪:‬إلى أي عالم انتمي أنا بالضبط‪.‬‬ ‫عندما فكروا في بناء سور لهذه المدرسة تعاملوا مع الوطن ومع أنفسهم بكثير من الغباء‬‫والاهانة‪...‬لا أفهم الحكمة في ان يبنى سور ناقص للمدرسة‪.‬جزء مبني منذ سنوات والاخر معلق‬ ‫الى ما لا يعلم الا الله ‪ .‬هكذا تفقد فلسفة الحرمة والوقاية والسياج مصداقيتها‪ .‬وهكذا تختلط‬ ‫الكلاب بالتلاميذ في الساحة كل يوم‪.‬كلاب بمختلف الاعمار والألوان والاحجام والعاهات‪...‬‬ ‫الحمير ايضا تتجول في الساحة ليلا ونهارا‪....‬الحمير وحدها جعلتنا نقتنع أخيرا أنه من الحماقة‬ ‫محاولة التفكير مجددا في غرس الورود والازهار ككل مدارس العالم‪...‬ففي كل مرة نقيم حفلة‬ ‫صغيرة بمناسبة إنشائنا لبستان داخل المدرسة يأتي حمار جائع فيقرر ان حاجته لتلك النباتات‬ ‫اكبر من حاجة المدرسة لها‪،‬فيأتي على الاخضر واليابس ولا يترك لنا سوى الحسرة‪ ...‬الحمار‬ ‫لا يحتاج لشيئ في تنفيذ قراراته سوى لأسنانه وهي قوية وصلبة بما فيه الكفاية‪ ...‬الابقار ايضا‬ ‫تتجول جنبا الى جنب مع غيرها من الحيوانات والأطفال والمعلمين والحارس الذي لا يستطيع‬ ‫مقاومة هذا المد الحيواني المخيف‪...‬لا تعني هذه الصور بالنسبة لي غير الهزيمة والضياع‬ ‫وكثيرا من الحيرة والقلق‪...‬‬ ‫الحكاية الثامنة‪:‬‬ ‫ذات ليلة خميس من شهر مارس الجاري‪.‬‬‫كتل من الظلام القاتم تجشم على القرية وجبالها الشامخة‪ .‬وحده مصباح غازي يجود بضوء كاف‬ ‫لأبصر هذه الوراق امامي‪...‬الظلام يبعث فيك حزن العالم بأكمله‪.‬؟؟؟ وصرصار بالخارج‬ ‫يواصل عزفه وغناءه دون كسل ولا انقطاع‪.‬أحيانا أكف عن الحركة لأسمع أنينه جيدا‪..‬وفكرت‬ ‫في السبب الذي يدفعه للصفير كل مساء مباشرة بعد غروب الشمس‪ .‬ربما ليأنس بنفسه ويدفع‬ ‫عنه وحشة المكان‪ .‬وربما أيضا ليجعلك تعيش وتتجرع انتمائك للعالم الثالث رغما عنك في هذه‬ ‫القرية البعيدة عن الحضارة‪...‬‬‫الصرصار لا يزال منهمكا في صفيره المخيف ‪،‬وكلمات ذاك الوضيع لا تزال تتردد في دواخلي‬ ‫رغم اني جربت نسيانها دون جدوى‪...‬كان يحدثني بلغة الرجل العاقل الامر الناهي‪.‬إنه يدرك‬ ‫فعلا أن سلطته علي أكبر بكثر من ان احاول ابداء رأيي‪.‬لذلك سولت له نفسه ان يقول كلمات لم‬ ‫يكن ليمتلك القدرة على التلفظ بها لولا انني ميدن له‪...‬هكذا عنما تقبل أن تكون مدينا لاحدهم‬‫بشيئ مهما كانت قيمته فإنك تقبل بأن يمارس سلطة ما عليك‪...‬السلطة هنا تختلف من دائن لآخر‬

‫‪،‬وقد يكون حظك مع دائن مريض مثلي فتكون الاهانة تحية يلاقيك بها كلما التقيته او ارسل في‬ ‫طلبك‪...‬‬ ‫جمال هذا صاحب دكان اتعامل معه اكثر من اثنا عشر سنة‪...‬انه يعرف سلوكي واخلاقي جيدا‬ ‫اكثر مما اعرف عنه‪...‬يصغرني بست سنوات وهو يعرف انه ليس مضطرا ليطالبني بامواله‬ ‫لانني اسددها له عندما يكون ذلك ممكنا ‪.‬لا انتظر حتى يطلب مني ذلك اعرف واجباتي جيدا‬‫تجاه الاخرين ‪.‬لذلك كلما تجمع لدي مبلغ ما أسرع فأقدمه له وأشكره شكرا جزيلا‪ .‬شكر نابع من‬‫قلبي فعلا وليس مجرد كلمات جافة‪ .‬اعترف انه صبر أكثر مما يجب لكن لا املك حلا في الوقت‬ ‫الحالي‪ .‬ما يؤلمني انه يعرف اخلاقي جيدا لكن ذلك لم يمنعه من ممارسة سلطته كدائن فطلب‬ ‫مني بكثير من الاهانة والاحتقار أن أسدد ما علي من ديون‪...‬‬ ‫سأسددها لك يأخي عندما أستطيع‪.‬أنا املك رغبة في أن اعطيك أكثر من رغبتك في أن‬ ‫تأخذ‪،‬فامنحني بعض الوقت فقط‪...‬قلت هذه الجملة بنبرة صادقة اقرب الى الشفقة والبكاء‪.‬لكن‬ ‫ذلك لم يزده الا اصرارا على توجيه المزيد من الاهانة والاحتقار‪...‬‬ ‫عندما حملتني ارجلي لابتعد بضع خطوات عنه‪،‬مرت أمام أعيني ملايين الصور وكثر من‬ ‫الاسئلة الجارحة‪،‬ودموع حجبها ظلام القرية من يراها الاخرون‪...‬‬‫كانت الطريق طويلة الى هذا البيت حيث قادتني ارجلي مباشرة بعدما غادرت محله التجاري‪ .‬لا‬ ‫أذكر إن التقيت بأحد على الطريق ولا إن كنت ارد التحايا على اصحابها‪...‬؟‪.‬شعرت برغبة‬ ‫جارفة لاكتب شيئ ما‪.‬الكتابة وسيلتي الوحيدة التي ارتاح بها من تعبي‪...‬الكتابة بالنسبة لي‬ ‫انتصار لذاتي الضعيفة عن ذاتي الاضعف‪...‬أحضرت شايا ومنفضة سجائر وجلست الى مكتبي‬ ‫اكتب تارة وارهف السمع تارة اخرى لنشيد صرصار بجانب القاعة‪...‬نشيد يمزقني فعلا الى‬ ‫قطع صغيرة اتمنى لو ان رياح رحمة هبت فحملتها الى ارض غير هذه الارض وزمن اخر‬ ‫غير هذا الزمن‪ ...‬لا يوجد شيئ مقيت اشد من العجز‬ ‫انا فعلا اتمنى ان اسدد ديوني لجمال وغير جمال على الاقل لاتحرر من هذا الكابوس الجاثم‬ ‫على صدري‪.‬لكن مشكلتي انني عاجز عن ذلك في الوقت الحالي لانني لا اتقاضى سوى ثلث‬ ‫مرتبي وهو غير كاف مهما اقتصدت في المعيشة‪...‬هذه امور يعرفها جمال جيدا مثلما اعرف‬ ‫انه ليس في أمس الحاجة لامواله على الاقل في هذا الوقت لكي يطالبني بها على هذا النحو‬ ‫المتسرع‪....‬‬ ‫افهم من نشيد الصرصار أن هذه التفاهات لن تفيدني في شيئ‪...‬لن تنفع السطور الطويلة ولا‬‫السهر ولا الاسف‪...‬الرجل يريد رزقه وعلي ان اتدبره له بأي وجه كان‪.‬البنك لن يعطيني قرضا‬ ‫لانه مطالب بالتقيد بقانون يمنعه من اقراض الموظف الذي نزل مرتبه الى سقف الالف‬ ‫درهم‪...‬لو كنت املك شيئا لبعته العام الماضي وليس اليوم‪...‬لكنني في المقابل أملك ايمانا عميقا‬ ‫بأن اليسر لتا يأتي الا بعد العسر‪....‬أمتلك تجربة جديرة بالاحترام في الصبر والتجلد‪...‬املك‬ ‫دعاء زوجتي الغالية ونظرتا طفلايا البريئتين‪...‬‬ ‫اتصلت بزوجتي هذا المساء ‪،‬الصغيرة لا تزال مصابة بنزلة بارد لعينة حادة ‪.‬اوصيتها ان‬

‫تعطيها الدواء بانتظام‪ .‬يبدو ان حالتها تتحسن من يوم لاخر‪ ...‬عندما اكون بعيدا عنهم استرجع‬ ‫اللحظات الاخيرة التي جمعتنا‪...‬ورغم اني بعيد عنهم الان الا اني استطيع ان ارى الصغير ة‬‫وهي في حضن والدتها تبتسم بكرم طفولي فتمنحك الرغبة في الحياة‪ .‬رغبة يحاول الزمن اللعين‬ ‫اغتيالها فيمنحك الصغار اياها في تحد سافر للزمن‪...‬ما أجمل هذا العطاء المتبادل‪...‬عطاء ليس‬ ‫سوى مجرد نظرات وابتسامات لكنها تساوي الشيئ الكثـــيـــــــــــــــــــــر‪....‬‬ ‫اعترف انني اتحمل المسؤولية التامة في كل ما آلت اليه اوضاعي‪ .‬مرت الاحداث بسرعة‬‫خاطفة لم اقو معها على تقدير ما كنت أقدم عليه فعلا‪...‬وأنا الان اسدد ثمن تلك الحماقات ويجب‬ ‫ان اصبر الى حين هدوء العاصفة‪.‬لكن للحياة اكراهات أكبر من تطاق‪.‬‬ ‫قبل اثنا عشر سنة تقريبا قبلت بوضع نهاية حزينة لمستقبلي الذي كان سيكون لامعا‪...‬فكنت‬ ‫اقترض من البنك وأخسر ذلك ارضاء لنزواتي‪.‬وعندما ينفذ مني المال أعود للبنك بكل سذاجة‬ ‫فأقتني دينا آخر وهكذا الى أن وصلت إلى ما وصلت إليه‪...‬لا أعرف أين كنت اخسر كل ذلك‬ ‫في زمن وجيز‪.‬؟؟؟ كأنما يد تسرقه مني ‪ ،‬والواقع أن تلك اليد لم تكن سوى طريقا اخترت ان‬ ‫اسير عليها فكنت اعاشر النساء في كل مكان ‪.‬كل مرة اجدني مع امرأة جديدة‪...‬كنت عازبا‬ ‫وصغير السن ومعجبا بنفسي‪ .‬الان كبرت وعلي أن تحمل نتائج اخطائي‪..‬أخطاء قاتلة فعلا‬ ‫تزوجت بعدها وأرغمت زوجتي وصغيراي على مقاسمتي كل النتائج والعذابات‪...‬‬ ‫الان اصبحت ناضجا اكثر وكل يوم اتعلم درسا جديدا‪...‬أقلعت عن مثل تلك الحماقات منذ زمن‬‫بعيد‪ ..‬ما احتاجه فعلا اليوم هو الصبر والصبر سلاح ذكي وغال جدا‪...‬من رزقه الله الصبر فقد‬ ‫اعطاه اغلى زاد وأذكى سلاح‪...‬سأنتظر خمس سنوات لانتهي من تسديد آخر ديوني للبنك‪،‬‬ ‫وسأتقاضى أجرتي كاملة ‪ ،‬ما أبعد ذلك اليوم يا إلهي ‪...‬سأخطط لحياة مستقبلية رائعة وسأخد‬ ‫اسرتي الصغيرة الى مكان بعيد لنغتسل من ماض لم نربح منه سوى التجربة‪ ،‬وهي وإن كانت‬ ‫قاسية جدا في تفاصيلها إلا انها تعتبر تاجا سنعلقه بكل فخر واعتزار على رؤوسنا ‪...‬المعاناة‬ ‫علمتنا وأجبرتنا على التلاحم وعلى المزيد من الحب المتبادل وهذا هو الأهم‪...‬‬ ‫الحكاية التاسعة‪:‬‬ ‫ليلة الرابع عشر من مارس‬ ‫‪...‬نفس البلدة ونفس المكان‪.‬أجلس الان الى مكتبي بالقاعة الدراسية‪...‬الحرارة مفرطة لا تطاق‬ ‫في الايام الاولى لربيع هذا العام‪...‬تفتحت كل وردة وكل زهرة معلنة بداية فصل الحب‬‫الجميل‪.‬الإعتدال الربيعي يمنح فرصة تساوي ساعات النهار والليل‪...‬إنها ايام جميلة فعلا‪،‬فقد بدأ‬ ‫كاهلنا يستريح من ثقل ملابسنا الشتوية وبدأ السهر يأخذنا إالى ساعات متأخرة من الليل‪...‬‬ ‫مكثت بالقرية يومين كاملين‪.‬اصطحبت معي ولدي ذي الست أعوام منذ صباح يوم أمس ولن‬ ‫نسافر إلا في ظهيرة يوم الغد ان شاء الله‪...‬الصغير كان يملأ المكان قبل قليل بمرحه الطفولي‬‫‪...‬كسر كل الطباشير وبعثر كل شيئ هنا بالقاعة‪.‬منذ أن وصل وهو يحاول الإكتشاف‪ .‬كان أول‬

‫شيئ سألني عنه هو السرير حيث سننام‪.‬أشرت إلى ست طاولات جمعتها في زاوية من القاعة‬ ‫على شكل منصة وقلت هذا هو السرير ‪.‬نظر إلي ولم يعلق لكنه رسم ابتسامة رضى على‬ ‫شفتيه‪....‬هذه امور تسعد الصغار‪.‬لم يترك شيئا إلا وزحزحه عن مكانه‪....‬هكذا هم كل اطفال‬‫العالم‪.‬حتى الاشياء التي قد لا تثير انتباهنا تعتبر بالنسبة لهم جديرة بالملاحظة واللمس والدراسة‬ ‫وكم هائل من الاسئلة‪...‬أسعدني تواجده معي كثيرا‪.‬لكن النوم حمله قبل قليل الى عالمه‬ ‫الخاص‪...‬عالم وردي لا يعرف الحدود ولا المستحيل‪...‬‬‫كان يمرح هنا قبل قليل ‪ ،‬والآن انظر اليه ممدا فوق الطاولات بقميصه الاحمر‪..‬إنها لحظات لن‬ ‫انساها ابدا‪.‬كنا نتناول عشاءنا عندما سألني ‪:‬لماذا يصفر الصرصار هكذا يا أبي ؟قلت ‪ :‬لكي‬ ‫يخيف الناس فلا يقتربوا من بيته وأطفاله‪ .‬وهل له بيت وأطفال؟ نعم مثلي انا وانت واختك‬ ‫وأمك‪...‬وهل تصفر انت ايضا يا أبي؟ أنا لست صرصارا يا حبيبي ‪ ،‬تناول عشائك لتغتسل‬ ‫وتستعد للنوم‪...‬‬ ‫قبل أسابيع توددت لها أن تبيع خاتمها الذهبي الوحيد الذي تضعه في أصبعها لكي نتمكن من‬ ‫تجاوز محنة مرض الصغيرة‪.‬لم تبد أي اعتراض كعادتها‪.‬الصغار أغلى من كل شيئ ‪.‬لكنني‬ ‫شعرت بالمرارة والعجز وحاولت ألا أظهر ذلك‪ .‬عندما تسلمنا ثمنه التفتت إلي زوجتي وقالت‬ ‫مازحة‪:‬الزوج عندما يشتري ذهبا لزوجته يطلب منها تلك الليلة كل شيئ ‪.‬؟؟ قلت نعم ولا يمكن‬ ‫ان ترد له طلبا‪ .‬وأردفت‪:‬لكن الزوجة ايضا عندما تبيع شيئا خاصا بها وتعطيه لزوجها تطلب‬ ‫هي الاخرى منه أي شيئ ‪.‬قلت ‪ :‬وما طلبك الليلة يا عزيزتي؟؟ قالت مازحة ‪ :‬ألا أراك ثانية‪...‬‬ ‫ضحكنا كثيرا ‪.‬اشترينا دواء وفواكها وشربنا قهوة قبل أن نعود لعشنا الدافئ والوديع‪...‬‬‫الان اعترف أنني أغترف قوتي منها ولا شيئ دونها‪ .‬حتى في اللحظات القاسية تتمالك اعصابها‬ ‫وتظهر قوة صبرها وتحملها‪.‬وقد آن الأوان‬ ‫لأعترف بهذا‪...‬لم أكن لأواصل حياتي لولا وقوفها بجانبي بكل الوفاء والحب والاخلاص لي‬ ‫ولبيتها‪...‬هذا يمنحني عزاء كبيرا وأفضلية ساحقة أمام زملائي ومعارفي‪ .‬الكثير يحسدني على‬ ‫هذه النعمة لذلك اتمنى ان تتغير الأحوال لأحقق لها نصف ما تستحقه امرأة من حجمها وبمثل‬ ‫صبرها وسعة صدرها‪...‬‬ ‫‪...‬نم يا صغيري قرير العين فوق الطاولات‪...‬غدا ستجد ذراع والدتك دافئا كعادته‪...‬سآتي بعد‬ ‫قليل لأتممد بجوارك ‪...‬سأتحسس جسدك ليلا لأعيد الغطاء فوق جسدك‪...‬فلا تخش البرد ولا‬‫الأشباح‪...‬يجب أن تتعلم الصلابة والتأقلم‪...‬فإذا استطعت أن امنحك الصلابة والصبر فسأكون قد‬ ‫قدمت لك أغلى هدية‪...‬ستكبر بعدها وستعرف فعلا أنها أغلى هدية‬ ‫**************************************************‬

‫الحكاية العاشرة‪:‬‬‫عندما رأيتها غارقة في صمتها الأبدي حاولت أن أخمن فيماذا يفكر شخص شارد؟؟‪..‬ولم أتوصل‬ ‫لإجابة شافية‪...‬‬ ‫كانت تنظر إلي بفم نصف مفتوح‪،‬عيناها شاخصتان في وجهي كأنما تطرحان سؤالا خفيا أي‬ ‫قدر هذا الذي نعيشه يا عزيزي؟دنوت منها قبلتها وودعتها وكان هذا كل شيء‪...‬‬ ‫إن استسلام زوجتي المؤلم للواقع هو الفعل الوحيد الذي يقف وراء ألمي المستمر‪.‬لا شيء‬ ‫ينسيني هذا غير الظلام الليلي الذي يساعدني في إمكانية خلق سراب ما‪...‬الضياع يملي علي أن‬ ‫أفتش عن وهم ينجينا جميعا‪.‬لكن كل محاولة كانت تفضي بي الى المزيد من المرارة والضحك‬ ‫أحيانا‪...‬‬ ‫عندما لا تجد حلا آنيا لمشكل ما قد تأخذك نوبة ضحك مزور‪.‬الضحك هنا ليس أداة للتعبير عن‬ ‫الغبطة والفرح‪.‬إنه شيئ أعمق وأبلغ من كل هذا‪...‬هو سخرية ‪،‬هو عصيان‪ ،‬هو ثورة ‪،‬وهو‬ ‫انتصار أيضا‪...‬إنتصار لأسرة سعيدة تصر على العيش رغم الموت القادم قبل أوانه‪...‬‬ ‫عندما أعيد قراءة هذه الثرثرة أدرك أني أتجنى على المزاج الهادئ للقارئ‪.‬وقلت إن هذا غير‬ ‫لائق دائما ‪.‬يجب أن أكتب شيئا يبعث الإنشراح في الصدر أكثر من الشقاء والبؤس‪.‬الناس لا‬ ‫تحب المعاناة هكذا ناقشت هذه الحقيقة بيني وبيني‪...‬لكن كل هروب من هذا كان يفضي بي إلى‬ ‫شيء أشد قتامة من هذا‪...‬لو كنت أعيش فرحا لكتبته‪،‬أكتب ما أمارسه يوميا فقط‪.‬لا أستطيع أن‬ ‫أمنح شيئا ليس بيدي‪ ،‬ففاقد الشيء لا يعطيه‪...‬‬ ‫قبل ثلاثة أيام كنا قد أفقنا على الصفر في جيوبنا‪،‬جلسنا نفكر في أي شيئ نستطيع بيعه في‬ ‫السوق دون أن يؤثر ذلك على الهندسة الجميلة لبيتنا‪.‬يجب أن نبيع شيئا لا محالة لكن يجب ألا‬ ‫تكون حاجتنا اليومية إليه أكثر من قيمته المادية‪.‬قالت فاطمة‪:‬إبتعد عن التلفاز وبع ما شئت‪.‬لا‬ ‫تزال تردد على مسامعي كل يوم حكاية خاتمها الذي افتقدته‪ .‬غفرت لك كل شيئ إلا هذا‪...‬لا‬ ‫أعرف أي علاقة تربط النساء بالذهب‪ .‬ماذا يمثل لهن وما الذي يضفيه عليهن‪.‬؟؟ لكني وعدتها‬ ‫أن أشتري لها أكبر خاتم ذهبي لكن في زمن غير هذا اليوم‪...‬‬ ‫أخيرا إهتديت إلى أن نبيع صنارة زرقاء جميلة‪.‬صنارة إستقدمها لي أخي بعد إلحاح شديد ذات‬ ‫صيف قريب‪...‬نحن لا نحتاج صنارة في الوقت الراهن على الأقل ‪.‬ثم إنه لا يوجد سمك هذه‬‫الأيام في بحيرة \"ضاية الرومي\" القريبة من المدينة‪.‬خرجت إليها الشهر الماضي ورجعت بخفي‬‫حنين‪.‬لكن الصيد يعلم الإنسان الصبر والتجلد والإنتظار‪ .‬ما أجمل هذه الكلمة ‪.‬هناك بعض الناس‬‫لا يمارسون أية هواية غير الإنتظار‪ .‬إذا بعت صنارتي سأفتقدها كثيرا دون شك لكن هناك أشياء‬ ‫يجب أن نشتريها اليوم أهم منها‪....‬وهكذا أخرجتها من الدولاب ولمعتها جيدا مثل أي بائع ماكر‬ ‫وخرجت بها إلى وسط المدينة وأنا أقرأ الدعاء‪...‬‬ ‫الكثير من الناس سألتني عن ثمنها‪...‬كنت أطلب ثمنا لا بأس به ولهذا لم يشترها أحد لحد‬ ‫الآن‪.‬أحمد الله أنه لا يزال بإمكاني ممارسة هوايتي ‪ .‬في المساء دلفت إلى بيتنا‪.‬كان دافئا وآمنا‬

‫كعادته‪..‬كانت الصغيرة تملؤه بفرح طفولي عارم لا أجد نظيره إلا لما أكون هنا أمام عيونها‪...‬لم‬ ‫تسألني فاطمة رحمة بأعصابي التي أحرقها الناس وهم يسألونني عن الثمن دون أن يتشجع‬ ‫أحدهم على الأقل فيقترح مبلغا قابلا للتفاوض‪ .‬شربنا قهوة وخرجت لنادي النت القريب من‬ ‫منزلي‪...‬‬ ‫\"الخميسات\" مدينة مقتولة إقتصاديا‪.‬أحب استعمال هذه الصيغة دون غيرها‪...‬رأيت باعة‬ ‫يعرضون سلعا مستعملة رخيصة ولا أحد يرغب في شرائها وإن كان كل من رآها تمنى لو‬ ‫تمكن من أخذها الى منزله‪.‬لذلك يعمد هؤولاء الباعة إلى طريقة يائسة لنسيان كسادهم‬ ‫التجاري‪.‬فصاحب الأحذية المستعملة يشتري من البائع المجاور سلعته برأس مالها ويبادله في‬ ‫ذلك بحذاء برأس ماله‪ .‬إختفت الضريبة والربح إذن‪.‬وهكذا يبيعون لبعضهم البعض بينما يمثل‬ ‫المارون دور زوار المعرض‪ .‬ينظرون ويتأملون ويتحسرون ويستفسرون ويدققون ولا يدخلون‬ ‫أبدا أيديهم في جيوبهم لشراء شيئ ما‪ .‬كل شيئ هنا تافه من الإنسان إلى سلعته‪ .‬هذا لا يهم‪.‬‬ ‫كنت أراقب هذا المشهد الدرامي من وراء سلعتي‪.‬تمنيت كثيرا ألا يمر أحد يعرفني ‪.‬أنا معلم‬ ‫متنكر في زي بائع ظرفي ‪.‬لو بعت صنارتي لأطلقت ساقاي للريح ولاختفيت في أزقة المدينة‬ ‫ومعها ستختفي قصتي لكن لن تختفي أبدا قضيتي‪...‬‬‫تدخل أخي الأكبر بعد حديث معه على المسنجر‪.‬حكيت له المشهد بأسلوب ساخر‪.‬أرسل لي مبلغا‬ ‫كان كافيا لنعيش به الخمسة عشر يوما القادمة‪.‬كانت إلتفاتة جميلة وطيبة وواجبا يؤديه الإخوة‬ ‫عادة تجاه إخوانهم‪.‬هذا يجعلني أفتخر بأواصر العلاقة التي تجمعنا كإخوة وأخوات‪.‬كل شيئ‬ ‫متماسك ومتين وليبحث الشيطان له عن ثنايا أخرى بعيدا عن أضلعنا‪...‬‬ ‫أحيانا وعندما أحتاج للمال أقترضه من أصدقائي‪.‬أغلب أصدقائي عاطلين عن العمل‪.‬لا أحب‬ ‫صداقة الموظفين‪.‬يتعاملون بالرسميات لكأنما هم من يمسك السماء علينا ويمنعونها من الوقوع‬ ‫على رؤوسنا‪.‬أحب صداقة الفقراء والمعطلين فمعهما تصل الأخلاق إلى ذروة روعتها ونقائها‬ ‫وسموها ‪.‬هنالك دائما عطاء متبادل بيننا ‪.‬عطاء لا يحتاج لشيء ملموس بقدر ما يحتاج لنقاء‬ ‫سريرة النفس والرغبة في السماح للابتسامة والكلمة الطيبة كي تسيل على الشفاه‪ .‬هذا هو‬ ‫الأهم‪....‬‬ ‫في المغرب لن تستطيع أبدا خلق أية علاقات إلا مع الطبقة التي تنتمي لها‪.‬هذا قانون وضعي‬‫سنه مجتمع أمي جاهل‪.‬مجتمع يؤمن بكفة الميزان الإجتماعي والرصيد أكثر من إيمانه بموازين‬ ‫الخلق والأخلاق‪...‬إذا كنت فقيرا إذن فلن تكون صديقا سوى للفقراء‪،‬وإذا كنت غنيا تستطيع أن‬ ‫تكون صديقا للملك‪...‬‬‫الواقع أني لا أملك صديقا بالمعنى النبيل للكلمة‪.‬أعرف مسبقا أني لن أنجح لذلك لن أخوض حربا‬ ‫أعرف مسبقا أني سأكون الخاسر فيها‪.‬أو تحديدا لأني أعرف سلفا نتائجها‪.‬‬‫الصديق ليس هو الذي تعطيه لتأخذ منه أو تأخذ منه لأنك تعطيه‪.‬الصديق يسبق هذا بكثير‪..‬أشدد‬‫كثيرا على كلمة \"السبق\"‪...‬الصديق في اعتقادي هو ذاك الذي لا تجد في نفسك حرجا لتفضي له‬ ‫بمكنونات صدرك‪.‬بل هناك شيء مهم يسبق هذا أيضا الصديق هو ذاك الذي تحس في أعماقك‬

‫بنداء ورغبة مطلقة لتحكي له لواعجك وهمومك‪....‬فالرغبة هنا تسبق الحرج‪.‬وهكذا يغيب فعل‬‫الأخذ أو العطاء‪.‬هذا الفعل التافة أو الثانوي على الأصح يذوب ويتبخر أمام نبل وشرف وطهارة‬ ‫النية الكبرى‪...‬صحيح أنه يمكن أن يكون هناك أخذ وعطاء لكن لا يجب بأية حال من الأحوال‬ ‫أن يكون هو الغاية الأولى والأخيرة‪...‬‬ ‫لأجل هذا لازلت متمسكا بعزوفي وغربتي‪.‬لكني مرتاح جدا في هذا‪.‬الإنعزال عبادة كما قال لي‬‫أحدهم ذات زمن بعيد‪.‬وكبرت فتيقنت أن هذه الحكمة‪ -‬التي صدرت على لسان رجل مسن لم يلج‬ ‫المدرسة يوما – لا تزال سارية المفعول وقابلة للإعتنــــــــــــــــــــــاق‪....‬‬ ‫الحكاية ‪11‬‬ ‫إمتداد بشري لا متناهي يذرع الشارع هذا الصباح‪ .‬كل يحمل في دواخله عالما خاصا وأمنيات‬ ‫لا يتحقق منها سوى أن أصحابها يتعلمون يوما بعد يوم كيف يغذون الأمل بالأمل‪...‬فتيات بعمر‬ ‫الزهور وشباب يبتسم بسخاء وهم يدفعون بأجسادهم إلى مدرستهم الثانوية القريبة من منزلي‪.‬‬ ‫اقف على الرصيف منتظرا سيارة ستقلني إلى عملي‪.‬أرمق خطوات هذه الأعداد الغفيرة التي‬ ‫تسرع لتلج المؤسسة في الوقت المحدد‪،.‬وتساءلت بيني وبين نفسي ‪ :‬أي مستقبل ينتظركم يا‬ ‫أحبتي‪.‬؟‪ ..‬لم يسمع أحد سؤالي سوى نفسي التي أعتبرها شاهدا لما حدث وسيحدث‪..‬مئات‬‫الفتيات والفتيان سيلجون الثانوية بعد قليل وسيغادرونها في انتظار العودة إليها مجددا ‪ .‬كل منهم‬‫يحمل صورة لما سيكون عليه في المستقبل ‪.‬لكن لا أحد منهم يتمنى أن يجد نفسه يوما مرميا إلى‬ ‫الشارع دونما عمل ولا أسرة ولا مستقبل‪...‬‬‫عندما كنت أدرس في الثانوية‪ ،‬كان همي الوحيد هو أن أنجح في نهاية السنة الدراسية‪ .‬فالرسوب‬ ‫معناه أن أحرم من حق المبيت والفطور والعشاء في دور الداخلية التي كنت أحد نزلائها‪.‬‬ ‫الرسوب لا يخول لي سوى الحق في وجبة الغذاء‪ .‬ستفقد سريرك بالداخلية تقول والدتي وستأتي‬ ‫للقرية لترعى الغنم عند الآخرين‪.‬كان ذكر الرعي على لسان والدتي كافيا لتشحن همتي‪ .‬لا‬ ‫أتمنى أن أجد نفسي يوما راعيا للغنم أو الماعز‪.‬لذلك كنت أعود للدراسة وأحصد نقطا جيدة ولم‬ ‫أرسب أبدا طوال السبع سنوات التي قضيتها بالداخلية إلى أن ربحت شهادة الباكالوريا‪ ...‬كنت‬ ‫أحظى باحترام أساتذتي وتقديرهم وعلى عطفهم أيضا‪.‬لم يسبق أن حدث ما ينغص هذه العلاقة‬‫الجميلة‪.‬شخصيتي التي لا تميل للشغب ولا لإثارة الفوضى هي التي منحتني هذا الامتياز‪ .‬العديد‬ ‫من أصدقائي غادروا الدراسة عن سن مبكرة لأنهم كانوا ميالين لإثارة المشاكل مع أساتذتهم‬ ‫فاختاروا أن يكونوا هم الضحايا‪ .‬ما أصعب القررات التي يمكنك أن تتخذها في حقك خصوصا‬ ‫عندما تكون صغيرا‪ .‬ليس بمقدورك تصور النتائج‪ .‬ما يهم الطفل في تلك المرحلة هو أن يعيش‬ ‫اللحظة كما أراد أن يعيشها‪...‬‬ ‫تمر هذه السنوات الأن أمامي فأكاد أتذكر كل ألوان الحرمان الذي كنا نعانيه ونحن نزلاء بدور‬ ‫الداخلية في ضيافة الوطن‪ .‬أو على الأرجح في ضيافة أناس أؤتمنوا من طرف الوطن على‬

‫حياتنا ‪.‬وقد أدوا أمانتهم كما يجب أن يكون‪.‬فكانوا يسرقون منا الزيت والخضر والخبز والنصف‬ ‫الأكبر من الإعتمادات المالية المخصصة لنا‪ .‬ويقدمون لنا مربى أسودا فاسدا وأرخص زبدة في‬ ‫العالم وكثيرا من الإهانة ‪...‬ما أقسى ما عانيناه في تلك السنوات ‪ .‬كنا قرابة ثلاث مائة شاب‬ ‫وشابة ولم يكن يفرق بيننا سوى المبيت‪.‬إذ خصص جناحان أحدهما للذكور والآخر للإناث‪،‬وما‬ ‫عدا ذلك فقد كنا مختلطين في كل شيئ‪ ...‬تحدث من حين لآخر حادثة اغتصاب لفتاة فيكون‬‫مصير الفاعل السجن والطرد النهائي ويكون مصير الشهود الضرب المبرح بالعصي دون تمييز‬ ‫أي قطعة من جسده‪.‬كنت قد بلغت السن الحادية عشر أنذاك ولا تزال العديد من الأحداث‬ ‫المروعة ماثلة أمام عيني وكأن ذلك يحدث الأن‪...‬‬ ‫أخيرا تمكنت من الحصول على رقم هاتفي لإحدى صديقاتي التي كانت نزيلة معنا في ذلك‬ ‫المعسكر المدني‪.‬أسميه معسكرا لأنه لا شيئ فيه يختلف عن حياة المعسكرات سوى أننا لم‬‫نتدرب فيه على حمل السلاح‪...‬كنانستيقظ فجرا لنراجع دروسنا ولا ننام إلا قرابة الساعة الحادية‬ ‫عشر ليلا مع العلم أننا كنا صغارا جدا‪.‬كل من تأخر دقيقة في الاستيقاظ والإنضباط يكون‬ ‫مصيره الضرب الذي يفوق طاقة التحمل أضعافا وأضعافا‪...‬كانت هنالك اشجار بجانب الجناح‬ ‫المخصص للمبيت‪.‬أشجار هشة تتدلى أغصانها إلى الأرض‪،‬وقبل أن يصعد الحارس العام إلى‬ ‫جناحنا كان يمر ليقطع خمسة عصي على الأقل منها‪..‬رأيته مرارا يرفع الغطاء عن جسد أحد‬ ‫الأطفال النائمين فيضربه بتلك العصى إلى أن تتكسر جميعها‪...‬يا لها من صور مرعبة لن‬ ‫انساها أبدا ‪..‬لن أنساها ابدا‪.‬‬ ‫في أول اتصال لي ب \"خديجة\" لم تصدق اني أتحدث اليها‪.‬عرفت أني تزوجت ولي طفلين‬ ‫وعرفت أنها لم تتزوج وقد بلغت الخامسة والثلاثين من عمرها‪.‬أنهت دراستها الجامعية وعادت‬ ‫بشهادة وضعتها في ركن ما من بيت والدتها وبقيت بجانبها في قرية \"تيداس \" البعيدة ستين‬ ‫كيلومترا عن مدينة الخميسات‪.‬لا تزال المسكينة تبكي بحرقة حظها العاثر ‪.‬حظ لم يسعفها على‬ ‫الأقل في الحصول على وظيفة تحفظ كرامتها أو أطفال تأنس إليهم وتداعبهم مثل‬ ‫الآخرين‪.‬ذكرتني بأناشيد ثورية كنا نرددها كلما شجعنا أحد الأساتذة لنقوم بإضراب عن الطعام‬ ‫احتجاجا على أوضاعنا المزرية في الداخلية‪.‬تذكرنا هذا بكثير من الحزن والاسى ‪...‬تذكرنا‬ ‫الحارس العام الأسود الذي لم نكن نراه في الظلام إلى أن ينهال علينا بالعصي التي لا تفارق‬ ‫يديه‪...‬إلتقيته الصيف قبل الماضي ‪،‬لا يزال يحمل نفس الملامح القاسية‪ .‬سحنته تنذر أن الرجل‬ ‫غير مستعد سوى للجدية والقمع ‪.‬هكذا تستطيع أنت بدورك أن تأخذ عنه نفس الإنطباع لو قدر‬‫لك أن رأيته‪ ...‬أسنانه بيضاء لماعة ‪،‬عندما يفتح فمه أعتقد أنه يضحك‪.‬لكنه لم يضحك في وجهي‬ ‫أبدا لحد اليوم‪.‬ورغم كل ذلك فإني لست حاقدا عليه ولا ناقم منه شيئا‪...‬أكن له كل الإحترام‬‫والتقدير ولولاه ما كنت لأتعلم أي شيئ في حياتي ‪ .‬كان الوحيد المكلف بفرض النظام أمام ثلاث‬ ‫مائة نزيل ولم يكن أمامه من خيار أمام الشغب الذي يتنامى يوما بعد يوم بيننا سوى أن يكون‬ ‫قاسيا مع الجميع‪.‬لذلك أقدر الآن حجم المسؤولية المنوطة به وأغفر له كل ما اقترفه في حق‬ ‫الأجساد الصغيرة والطفولة البريئة من جرائم‪...‬‬

‫الجريمة التي لن أغفرها أبدا هي تلك التي ارتكبها المسؤل عن الإدارة الإقتصادية ‪.‬ذلك الهرم‬ ‫النحيف أكل ميزانية اليتامى ولم يستطع أن يغير من شكله الذي يثير الشفقة‪...‬كانت سبع سنوات‬ ‫طويلة عشناها محرومين من النوم والطعام إلا ما كان يقدم لنا لنبقى على قيد الحياة‪ .‬سنوات‬ ‫اختصرتها في جمل بسيطة رغم ان الحديث عنها يحتاج لسبع سنوات مماثلة وربما قد لا تف‬ ‫بذكر كل التفاصيل المريرة والمعاناة الشديدة‪...‬‬‫خديجة كانت تعطف علي لسبب لا اعرفه‪.‬لا توجد قرابة بيننا سوى انها كانت شقراء مثلي ‪ ..‬كل‬ ‫يوم ترسل لها والدتها البعيدة عشرة كيلومترات طعاما مع احد ما‪ .‬وكل يوم تترك لي المسكينة‬ ‫شيئا من حصتها‪.‬هكذا نشأت هذه العلاقة الجميلة أنذاك‪ .‬الخبز وحده في ذاك العمر كان كافيا‬ ‫ليحل كل الخلافات‪ .‬كل المشاكل كانت بسبب الخبز وكل الحلول ايضا جاءت بوحي من الخبز‪.‬‬ ‫لكني أشهد لها أيضا أنها غرست في لبي حب الحياة ومعناها‪ .‬غرست في حب القراءة‬ ‫والشعر‪.‬كانت خديجة تعشق الشعر كثيرا ولازلت لحد الان وبعد مرور واحد وعشرين سنة‬ ‫أحفظ أبيات قرأتها على مسامعي يوما ما‪ ...‬فكان لزاما أن أبقى وفيا لإمرأة علمتني وأطعمتني‪.‬‬‫إذ عندما يكون أحد ما ساعدك في طفولتك بالطعام لتنمو نموا سليما فإنك تبقى أبد الدهر مدينا له‬ ‫بهذا الجميل وفعلا أتمنى أن أقدم لها نصف ما أسبغته علي من عطف وحب ومواساة‪...‬‬ ‫طلبت مني أن أعرفها على زوجتي وأطفالي ‪.‬قالت إنها لا تريد أن تصدق أن لي‬ ‫أطفال‪.‬فاقترحت عليها أن تأتي لزيارتنا و المكوث معنا أسبوعا بالمدينة لكني طلبت منها أن‬‫تؤجل الزيارة إلى الصيف القادم لعل ظروفي تتحسن قليلا‪.‬فحاليا لا يمكن لي أن أستقبل أحدا‪.‬فقد‬‫تركت أسرتي هذا الصباح وغادرت للعمل دون أن أترك لهم أي شيئ ‪.‬لكني تركت لهم الله وهو‬ ‫على كل شيئ قدير‪...‬تركت وجه الصغيرة الغالية يؤثث المكان بعيون سوداء أخاذة‪ .‬يكفي أن‬ ‫تبتسم الصغيرة لتزرع الفرحة في جنبات البيت المظلم‪ .‬سافرت إلى القرية وكلي أمل أن أتدبر‬ ‫لهم شيئا ‪.‬لكن حتى لو لم يحدث هذا فهناك شيئ إسمه الرجاء‪...‬‬ ‫سأجمع أوراقي الآن‪ .‬انتصف الليل بقرية \"تيليوين\" وسكنت حركة كل نسمة حية‪ .‬حتى ذاك‬ ‫الصرصار النديم كف الآن عن الصفير‪ .‬الصراصير أيضا تعلن الحداد عندما لا تجد من يفهم‬ ‫لغتها‪ .‬سآوي إلى فراشي الآن كالعادة وسأحاول نسيان هذه المعاناة‪ .‬معاناة لا يبدو في الأفق ما‬‫قد يحد منها‪ .‬الطريق لا تزال طويلة وشاقة‪.‬قالت زوجتي يوما‪ :‬عندما ستتغير أحوالنا سنكون قد‬ ‫ودعنا عالم الشباب ولا يمكن لهذه العواصف أن تمر دون أن تخلف فينا آثارها السيئة‪ .‬كل يوم‬ ‫اعرف أن كلامها صحيح لكن ما العمل‪...‬‬ ‫الناس تعيش الأزمة مرة واحدة والكاتب يعيشها مرتين لأنه يؤرخ لهذه الفترة القاتمة وسيعود‬ ‫يوما لقراءة ذاك التاريخ‪ .‬تاريخ لحسن حظ البشرية أنه غير قار على فرح ولا شقاء‪.‬قال الحسن‬ ‫الثاني يوما‪ \":‬أنا أؤمن بحركية التاريخ\" وهذا ما أتمناه أنا أيضا‪...‬‬ ‫سأوي إلى فراشي الآن ‪.‬يفترض أن أستيقظ قبل أن يأتي التلاميذ‪ ...‬سأفترش الماضي وأتلحف‬ ‫بالغد المجهول ‪ ...‬وبينهما جسد منهك يعانق شديدا إلى صدره أجمل كلمة وأروعها وهي ‪:‬‬ ‫الأمل‪...‬‬

‫الحكاية ‪12‬‬ ‫اخيرا لبس وزير داخلية بلدي ثوب الشجاعة فأمكنه ذلك من الخروج عن صمته المحرج ليعن‬ ‫صراحة أمام مجلس النواب أن الجزائر هي التي تقف سدا منيعا في وجه طي ملف صحرائنا‬ ‫المغربية‪.‬لا أدري ما الذي كان يمنعه طوال هذه السنوات من الإدلاء بتصريح مشرف كهذا‪.‬؟‬ ‫الحكومة محاطة بثلاثين مليون نسمة ورغم ذلك لا تستطيع أن تقوم بمناوشة تحفظ ماء وجه‬‫الوطن أمام أعدائه فبالأحرى أن تقوم بشيء ملموس لتمارس سيادتها على كافة ترابنا الوطني‪...‬‬ ‫ان حل قضية الصحراء يجب أن يأتي من خلال حوار شخصي مع الجزائر وليس مع جبهة‬ ‫البوليساريو‪.‬هكذا أنطق الله وزيرنا بعد صمت طويل وهو محق في ذلك‪.‬فالجزائر تبحث لها عن‬ ‫منفذ على المحيط الأطلسي‪،‬وكان لا بد لها أن تزرع بين أضلع جنوبنا العزيز جرثوما ‪.‬جرثوم‬ ‫يكون حليفا لها لأن طيور الهم والنكد لا تبني أعشاشها إلا في الخراب‪...‬هذا ما حدث فعلا‬‫لجارتنا الشرقية‪.‬الكلاب الضالة لا تقتات إلا في المزابل القريبة‪...‬فلينعموا بطعامهم الشهي إذن‪...‬‬ ‫لكن المخزي في الأمر هو أن يبق المغرب صامتا ومعاقا وخائفا على هذا النحو المهين‪.‬ربما لم‬ ‫يقرؤوا قصيدة يصف فيها الشاعر إصراره على الثورة رغم الإعاقة فيقول‪ :‬أنا لي غد وغدا‬‫سأزحف ثائرا متمردا‪...‬الإنفصاليون هددوا قبل أشهر بالعودة إلى العمل المسلح ولم أسمع قرارا‬ ‫مغربيا يرد الاعتبار على الأقل لمواطنيه المسكونين بحبه‪ .‬إنهم لا يجيدون غير ترديد عبارات‬ ‫التنديد والإستنكار والشجب‪ .‬لا يعرفون أن العالم لم يعد ينفع معه الإستنكار أو التنديد‪ .‬يجب أن‬ ‫تفعلوا شيئا ملموسا أيها السادة الأفاضل جزاكم الله ألف خير‪.‬‬ ‫إسبانيا تستفزنا جهارا بزيارة ملكها الهرم لسبتة ومليلية السليبتين وقبلها بطردها لقوات مغربية‬ ‫من جزيرة ليلى وأشياء أخرى ربما لن أكون على علم بها‪...‬ماذا تعني هذه الأحداث لي؟؟؟ إنها‬ ‫تعني أمرا واحدا فقط ‪.‬هو أن أبقي ذاكرة هزائمنا مفتوحة لأكدس بها المزيد من الهزائم‬ ‫القادمة‪...‬النجاح هو آخر ما نفكر فيه ليس لأننا نعجز عن ذلك ‪،‬ولكن لأننا لم نتعلم أبدا كيف‬ ‫نعمل ونشتغل بشكل جماعي‪.‬فكان أن دبت الأنانية بيننا ولم يعد الفرد منا يفكر إلا في مستقبله‬ ‫وأسرته ‪.‬وليذهب الوطن إلى الجحيم‪...‬‬ ‫أخيرا أيضا قبلت بفكرة أن أصبح رئيس جمعية تهتم برعاية الأشخاص المسنين وتنمية المرأة‬ ‫القروية‪.‬الجمعية ستشتغل بتراب القرية التي أعمل بها‪.‬سنعقد جمعا عاما تأسيسيا يوم الخميس‬ ‫القادم‪،‬تم اختياري رئيسا مسبقا لها كعادة كل الإجتماعات التي تعقد في هذاالبلد‪.‬حيث تكون‬ ‫القرارات الختامية والتوصيات قد اتخذت قبل الإنطلاق الفعلي لتلك الإجتماعات‪.‬أي منطق هذا؟‬ ‫لا أعرف‪....‬‬ ‫لكن أنا لم أختر نفسي لهذا المنصب ولم أسع إليه أبدا‪.‬بل وحاولت التملص والمرواغة شهورا‬ ‫عديدة ‪.‬لكني خجلت أن ألبي طلبا بسيطا كهذا لأصدقائي هنا ‪.‬المعطلين طبعا‪.‬صحيح أني أقدس‬ ‫العمل الجمعوي وأعتبره وسام شرف لكل من أراد أن يضحي بجهده ووقته وأعصابه لخدمة‬

‫المجتمع وبدون مقابل سوى أنه يؤمن بمبادئ تدفع للتضحية من أجلها‪.‬لكني أيضا أخجل عوضا‬‫عن بعض الأشخاص الذين امتطوا ظهر هذا العمل الشريف كي يسرقوا أموال المحسنين والدولة‬ ‫ويضعونها في جيوبهم قبل أن ينصرفوا إلى بيوتهم مغتبطين بهذه الغنيمة القذرة‪....‬الجمعيات‬ ‫والمقاولات والتعاونيات عندنا هي التي أفقرت المغرب‪.‬لقد وزعوا ثروات هذا البلد بكل وحشية‬ ‫وتركوه عاريا كشجرة الصبار‪.‬مجردا إلا من أشواك حادة تمتلك رغبة جامحة في إصابة من‬ ‫اقترب منها‪...‬اعرف هذا جيدا وكل يوم أسمع وأقرأ حكاية من هذا القبيل‪.‬فمؤسسوا جمعية ما‬ ‫مثلا يصبح من حقهم اقتراح مشروع ما على الدولة‪.‬الأمر لا يحتاج سوى لفكرة ذكية وجديدة‬ ‫وكثيرا من المداد ورسومات توضيحية فقط‪.‬وبتواطؤ مع موظفي الولايات والعمالات يتم قبول‬ ‫المشروع وتتم المصادقة على مبلغ خيالي في الغالب ومبالغ فيه إلى حد الجنون‪.‬وهكذا يتوصل‬ ‫موظفوا الولاية بحصتهم المتفق عليها سلفا ويقتسم الرئيس والكاتب والأمين ما تبقى من الكعكة‬ ‫الكبيرة ‪.‬بينما تبقى المبادئ راقدة في الكتب‪....‬‬ ‫أمور عديدة من هذا القبيل تحدث كل يوم هنا ‪.‬كل يوم تسمع حكاية لا ترو للأسف غير‬ ‫التواطؤات ‪.‬؟؟؟حتى وإن كانت نيتك شريفة ‪،‬فكونك تشتغل في إطار جمعية سيفتح باب الشك‬ ‫الواسع عليك‪.‬وقد تهدم دون علم كل ما بنيته طيلة حياتك فتشوه صورتك وتاريخك ‪،‬فتكون‬ ‫بالتالي خائنا لإسمك ويوم ميلادك‪...‬‬‫لكن هذا لن يحدث أبدا إن شاء الله‪.‬لم أربح من الحلال فكيف أربح من الحرام‪.‬؟؟؟إذا استطعت أن‬ ‫أقدم شيئا لهؤولاء الفقراء الذين تخلى عنهم الحظ والفرح فسأكون سعيدا بذلك‪.‬وإن لم أجد ما‬ ‫سأفعله لأجلهم سأقدم استقالتي وأنصرف‪...‬‬‫الإنصراف أحيانا لا يكون بالضرورة انهزاما‪...‬فمثلما يوجد في الحياة خوف مشروع يوجد أيضا‬ ‫تسلل وانصراف مشروع‪.‬وهذا في اعتقادي ما سأصل إليه يوما‪...‬‬ ‫عندما أضع أحزاني على الورق أرتاح لأني تخلصت منها‪...‬أكون كمن انتقم من عدو ما لكن‬ ‫بسذاجة‪...‬أكتب أحزاني لأغدو مطمئنا‪\"...‬الإطمئنان\" يا لسحر هذه الكلمة وروعتها‪.‬منذ زمن‬ ‫بعيد لم أعانق الإطمئنان‪.‬اشتقت كثيرا للسعادة‪...‬هذا اعتراف صريح‪...‬لا أعيش سوى الخوف‬‫وما أقسى هذا الشعور‪...‬أمامي خياران لا ثالث لهما‪.‬إما أن أتجلد وأصبر وأكابر وأداري وأتحمل‬ ‫وإما أن أستسلم لليأس والحياة وينتهي كل شيء‪...‬لا أريد الخيار الأخير‪،‬لكني أيضا تعبت من‬ ‫الخيار الأول‪..‬كل ما أخشاه هو أن أجد نفسي يوما غير قادر على الوقوف والسير إلى‬ ‫الأمام‪...‬كيف ستكون النتائج حينها؟؟؟ لا أريد مجرد التفكير في هكذا احتمال ‪....‬‬ ‫الحكاية‪13‬‬ ‫لم أأكل وجبة ساخنة منذ ثلاثة أيام‪ .‬الليلة قررت الإنتقام لنفسي ثلاثة أيام متتالية بوجبات باردة‬ ‫عبارة عن معلبات سمك رخيص وخبز يابس أمر فضيع حقا‪ .‬أنا الآن بعيد عن أسرتي وقد‬

‫تركتهم ورائي بعد انقضاء أيام الإجازة ورجعت للقرية ‪.‬رجعت لأعرف أيضا أن فئران صغيرة‬ ‫حفرت بشكل غريب ثقبا في الباب وتسللت إلى داخل القاعة ‪.‬الآن أصبحنا ثلاثة مالكين لهذه‬ ‫القطعة الصغيرة ‪.‬الطلبة بالنهار وأنا أحتلها قبل أن يحتلني النوم المتقطع‪،‬والفئران تخرج من‬ ‫جحر لا أعرفه وتظل تقضم أشياء صلبة لحكمة لا أعرفها ‪..‬اليوم بحثت عن هذه المخلوقات‬ ‫المقيتة في كل مكان دون أن أعثر عليها‪.‬هل تتبخر مع طلوع الشمس؟ ربما يكون هذا هو‬ ‫الأقرب إلى العقل…‬ ‫وقررت الإنتقام من الوجبات الباردة فكسرت ثلاث بيضات في مقلاة بها قليل من الزيت‪،‬وهكذا‬ ‫استمتعت بعشاء ساخن‪.‬لكنني في الحقيقة لم أستمتع بأي شيء‪ .‬فأنا عادة عندما أكون بعيدا عن‬‫أطفالي لا أأكل أي شيء أبدا سوى لأعيش…آكل القدر الذي يبقيني على قيد الحياة وكفى…حتى‬ ‫وإن كنت أغنى رجل في العالم فإنني لن أستمتع بوجبة باردة إلا وأنا مع زوجتي‬ ‫وأطفالي‪..‬يحدث كثيرا أن أسافر ويكون وضعي المادي جيد ا ورغم ذلك فالإستمتاع بالطعام‬ ‫الجيد فكرة لا تتبادر إلى ذهني بالمرة…ما أجمل أن تكون شهيتك مرتبطة بتحلق أطفالك حولك‬‫وعلى نفس المائدة‪.‬كيف تؤثر هذه الأخيرة في شهيتك؟؟؟ لا أعرف‪.‬ربما للأمر علاقة بالإبتسامة‬ ‫والضجيج‪،‬بالنظرة ودفء المكان…بكل شيء من هذا القبيل إذن…‬ ‫عندما قرأ أحد أصدقائي بعضا من مذكراتي قال لي‪:‬إنني أصلح لأكون سياسيا محنكا‪..‬؟؟ وأن‬ ‫أعتلي المنصات وأشحن الناس كما يفعل المناضلون الفاشلون طبعا‪.‬لأن المناضل الحقيقي في‬ ‫اعتقادي لا يعتلي المنصات أبدا ولا يخرج لتلفح الشمس بشرته الناعمة…النضال الحقيقي في‬ ‫هذا العصر هو أن تخطط جيدا لحياتك وأن تقرر بشكل جيد مصير حياتك قبل أن تقرر الحياة‬ ‫مصيرك…‬ ‫وقلت إنني يا صديقي حاليا مشغول بمعركة ونضال من نوع آخر‪.‬أنا أناضل من أجل الخبز‬ ‫والحياة الكريمة‪.‬أنا هو أبعد رجل عن السياسة في العالم‪.‬لدي أولويات وملفات عالقة تبحث عن‬ ‫حل لها في عقلي بعدما عجز عقلي عن حلها‪..‬نعم أحيانا أنتقد الوطن والحكومة لأنني مواطن‬ ‫أحب أن أرى وطني مرفوع الرأس كباقي العالم‪.‬لكنني بعيد جدا من أن أستطيع التأثير في‬ ‫العالم‪...‬أنا كائن صغير مهمل على الأرض ولا أكاد أرى ولو من قريب‪...‬نضالي الوحيد يا‬ ‫عزيزي أخوضه منذ سنوات طويلة مع كلمة إسمها \"الوقوف\"‪...‬أنا وقعت على الأرض منذ‬ ‫سنوات ومن ساعتها وأنا أجرب الوقوف والنهوض من جديد فلم أستطع‪....‬‬ ‫الحكاية ‪14‬‬ ‫أسسنا جمعية واخترنا لها إسم \" جمعية النهضة للتنمية المحلية ورعاية الأشخاص المسنين\" لا‬ ‫زلنا بعيدين بضع خطوات على تسجيل الجمعية بوزارة الخارجية‪.‬للأمر علاقة بوضعنا المادي‬ ‫طبعا‪.‬جلسنا ذات مساء وكنا سبعة أشخاص هم أعضاء المكتب هنا بالقرية ودار بيننا حوار‬

‫صريح‪.‬كلنا نعيش وضعا صعبا بدورنا مثل هؤولاء الفقراء الذين لن ندخر جهدا في محاولة‬‫إخراجهم ولو قليلا من الظلام‪ \".‬الظلام\" بالنسبة لي كلمة بليغة ومعبرة جدا‪ .‬عندما أريد أن أعبر‬ ‫عن أقصى درجات القتامة وأبعد حدود البؤس أستعمل كلمة الظلام‪.‬فالظلام هو العمى التام‪.‬هو‬ ‫التعثر والوقوع‪.‬هو الخوف هو الأشباح وهو المجهول‪.‬هو كل شيء تقريبا‪.‬ففي الظلام لا تعرف‬ ‫ماذا يمكنك أن تصادف أمامك‪.‬وإذا أردت أن تكون في الصورة أكثر فالأمر بسيط للغاية‪.‬يكفي‬ ‫أن تغمض عينيك وتحاول الخروج من غرفتك بعدما تطفئ النور‪.‬أنذاك ستعرف إلى أي مدى‬ ‫يبعث الظلام الخوف في النفس‪.‬‬ ‫جلست إلى أعضاء المكتب نتبادل اطراف الحديث‪.‬وفي الصباح قررنا زيارة بعض المسنين‬ ‫المتخلى عنهم هنا بالقرية‪.‬بمجرد ما عرفت السيدة \"رحمة\" أننا نمثل جمعية حتى انفجرت باكية‬ ‫أمامنا‪.‬توسلت إلينا أن نفعل أي شيء لأجلها وزوجها المسن والطريح الفراش منذ سنوات‬ ‫عديدة‪...‬مشاهد قاتمة بكل ما للكلمة من معنى‪.‬توقفت طويلا وأنا أكتب هذه الجملة عن كلمة‬ ‫تستطيع أن تصف المشهد فعرفت أنه لا توجد لحد الآن كلمة عربية تستطيع أن تنوب في‬ ‫التحدث عن هذه الصورة التي عشتها اليوم‪..‬وقفت على الفقر والبؤس في أبشع صوره‪.‬أوان‬ ‫وأغطية لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‪ .‬تمنيت لو كنت أحمل أي شيء ذا قيمة لأعطيه‬ ‫لهما للأسف الشديد دخلت هذا المنزل لأشعر بالعجز للمرة الألف‪ .‬الفقراء يطعنونني في جرحي‬ ‫الكبير‪ .‬أتخيل لو كانت والدتي أو والدي رحمه الله في مكانهم هل كنت لأتصور هذا‪ .‬ما شاء الله‬ ‫ولا حول ولا قوة إلا بالله‪.‬‬ ‫نسيت أن أقول أن هذه القرية التي أشتغل بها هي نفسها القرية التي ولدت بها‪.‬هنا رأيت النور‬ ‫أول مرة وهنا كانت طفولتي ودراستي الإبتدائية‪ .‬القاعة التي أدرس بها الآن هي القاعة التي‬ ‫درست بها عندما كان عمري عشر سنوات‪ .‬هنا كنت أسكن رفقة إخواني وأخواتي ووالدي قبل‬ ‫أن يرحل إلى مثواه الأخير‪ .‬بعدما أنهيت دراستي الإبتدائية رحلت إلى دور الداخلية بالمدينة‬ ‫حيث تابعت دراستي إلى أن تخرجت لأزاول مهمتي كمدرس بمدينة تارودانت جنوب‬ ‫المغرب‪.‬إشتغلت هنالك أربع سنوات قبل أن أطلب الإنتقال إلى قريتي وهذا ما حدث فعلا‪.‬‬‫فرجعت إلى مسقط رأسي ولازلت هنا منذ تسع سنوات‪...‬تزوجت أخواتي الثلاث ورحلت والدتي‬ ‫إلى المدينة وبقي منزلنا الصفيحي هنا بالقرية خاويا إلا مني ‪.‬تزوجت من ابنت عمتي وسكنت‬ ‫معي هنا بالقرية ست سنوات قبل أن ننزل لنستأجر لنا منزلا بالمدينة‪.‬‬ ‫أخي الأكبر يرى أنه من غير المعقول أن يبقى منزلنا الريفي صفيحيا وغير لائق‪.‬فهو رمز‬ ‫الأسرة وإرثها الوحيد‪.‬لذلك قررنا هدمه لإعادة بنائه من جديد‪.‬لكننا لم نستطع للأسف سوى بناء‬ ‫بعض الجدران والأعمدة التي لاتزال عارية لحد الآن تلفحها الشمس وينهشها المطر‪ .‬فعملية‬ ‫البناء مكلفة جدا وهو ما ليس بطاقتنا حاليا‪.‬لذلك توقفت الأشغال منذ العام الماضي ولهذا السبب‬ ‫بقيت من دون مسكن فالتجأت للإحتماء بقاعة الدرس‪..‬‬ ‫لوحدي قمت بالنصف الأكبر من الأشغال التي جرت على منزلنا منذ هدمه إلى بناء الحيطان‬ ‫الخارجية والأعمدة ‪.‬أبي أيضا كان بناء لذلك ورثت عنه هذا العشق الشاق‪.‬لو لم أكن مدرسا‬

‫لكنت بناء من دون شك‪..‬كان الفضوليون هنا بالقرية يتساءلون بغباء لماذا يحمل ذلك المعلم‬ ‫أكياس الإسمنت والحجر والآجور على ظهره ويتسلق السلاليم ليقوم بعملية البناء بنفسه‪.‬؟؟؟لا‬ ‫أحد منهم يعرف أنه حتى لو كنت ملكا فلن أخسر درهما في استأجار رجل ليقوم بأعمال نيابة‬ ‫عني في الوقت الذي أستطيع فيه القيام بذلك العمل‪...‬هذا أمر أسميه تبذيرا حقيقيا والمبذرون‬‫كانوا إخوان الشياطين كما يقول الله تعالى‪ .‬ثم إنني أحس بنشوة عارمة وأنا أقوم بإعادة بناء رمز‬ ‫الأسرة‪.‬أحس أنني أتمم عمل والدي الذي أجبره الموت المبكر على الرحيل قبل أن يحقق حلمه‬‫الكبير‪.‬لكني للأسف لم أستطع إتمام بنائه ‪.‬فأخي الذي يمدني بالمال لأجل هذا الغرض توقف عن‬ ‫هذا لأسباب مادية أيضا‪.‬وفي كل مرة أتحدث إليه أصر على أن يبذل قصارى جهده من أجل أن‬ ‫نشتري الأبواب والسقف على الأقل‪..‬‬‫في كل يوم أقضيه هنا بالقرية أذهب عندما أنهي عملي في المدرسة إلى منزلنا وأجلس في زاوية‬‫منه واحلم كثيرا‪.‬لو استطعت فعلا إتمامه لجلبت أسرتي للعيش هنا وسأوفر عني تكاليف الإيجار‬ ‫والتنقل إلى المدينة كل يوم تقريبا‪.‬سأخسر الكثير من الأشياء الجميلة طبعا لكنني سأربح أيضا‬ ‫‪.‬أنا حاليا لا تهمني الخسارة بل يهمني أن أوفر عني كل تكليف إضافي‪...‬الأمر الذي يحزنني‬ ‫كثيرا هو أن شباب القرية يتغوطون ويتبولون فيه دون أدنى احترام لسكانه الغائبين‪ .‬الإنسان‬‫الناقص في تربيته لا يعترف إلا بشيئ اسمه السياج والأبواب الحديدية‪...‬قالت صديقتي الفرنسية‬ ‫إنها تترك سيارتها بالضاحية الباريزية من دون أن تغلق أبوابها‪،‬نفس الشيء يفعلونه في فرنسا‬ ‫مع منازلهم‪ .‬لا يوجد أمر اسمه الباب أو المفتاح‪ .‬كل يدخل منزله ولا يفكر في دخول منازل‬ ‫الآخرين‪.‬لكن هذا يحدث في فرنسا وليس بالمغرب‪...‬عندما كانت نجاة تحكي لي هذا المستحيل‬ ‫الصيف الماضي كنت أستحضر صورة منزلنا بالقرية‪ .‬لا أدخل إليه مرة إلا وأجد أن أحدهم‬ ‫ترك فضلاته هنا أو هناك ‪..‬‬ ‫المشهد مؤلم فعلا لكن ما العمل؟؟ لا أستطيع أن أربي شخصا تجاوز مرحلة التربية بكثير‪...‬هذا‬ ‫أمر له علاقة بالتحضر والتحضر للأسف لا علاقة له بالعديد من المغاربة‪ .‬يبقى الصبر إذن‬ ‫وسيلتي الوحيدة لتجاوز كل المحن وسأصبر كالعادة‪.‬‬‫‪...‬أتذكر السيدة رحمة وزوجها \"العربي\"يا لها من مشاهد مؤثرة‪.‬وياليتني أستطيع فعل شيء لهما‬‫ولغيرهما من الحالات الأخرى ‪ .‬سأراسل جمعيات خيرية وأمدها بالأفلام والصور‪ .‬سأبحث عن‬ ‫دعم من الدولة لأجلهم‪.‬سأكتب تقريرا مطولا أدعمه بالأفلام والروبورتاجات وسأنتظر فانتظروا‬ ‫معي‪..‬من جهتي لو كان بإمكاني أن أفرش لهم ذراعي وقلبي لفعلت ذلك دون تردد‪.‬لكني لن‬ ‫أصمت عن هذا الواقع أبدا وسأناشد أيا كان‬ ‫الحكاية‪15‬‬‫هذا يدعو للغرابة والدهشة حقا‪ .‬اليوم أصبح لدي توقيع وخاتم أستطيع أن أختم به كل مراسلاتي‬ ‫باسم الجمعية‪.‬أليس مضحكا أن تكون مفلسا ويكون لك خاتم وتوقيع مثلك مثل كل السادة‬‫والوزراء وأصحاب المناصب العليا‪.‬أمضيت ساعات النهار وأنا أحاول التعايش مع هذه المشاهد‬

‫الجديدة‪.‬أكتب في أوراق بيضاء وآخذ توقيعي وأذيل به الورقة فيبدو اسمي بلون المداد الأزرق‬‫رائعا ومثيرا للهيبة‪.‬ناديت زوجتي‪ :‬تعالي عزيزتي ‪.‬اليوم أصبحت رجلا مهما وبإمكاني إرسالك‬‫لفرنسا فقط بهذا التوقيع‪ .‬تذكري جيدا فقط بهذا التوقيع‪ .‬قالت نعم‪.‬لكن هذا لن يجعلك شخصا آخر‬ ‫أبدا‪ .‬ستبقى دائما فقيرا وستبقى وحدك المسؤول عن ضياعنا وأوضاعنا‪.‬لا أعرف ما إذا كنت‬‫سكرانا عندما كنت تقترض من البنك ‪.‬هل كنت مجنونا؟ مختلا؟ نائما؟ منوما؟ مخدرا؟ هل تعتقد‬ ‫أنك ستبقى بريئا للأبد؟ الحياة تقسو يوما بعد آخر ورغم هذا لا تزال مصرا على تأبط محفظتك‬ ‫الماكرة وتتوجه إلى المدرسة كل صباح‪.‬‬ ‫إستمعت لهذه المحاضرة الجميلة بقلب واسع واستمتعت بها أيضا‪.‬إنها محقة وكلامها لا يدعو‬ ‫للغضب أبدا بقدر ما يدعو للتأمل‪ .‬نعم هذا هو الواقع ويجب أن أهضمه رغما عني‪ .‬نعم أنا‬ ‫أتواجد دائما أينما يتواجد الفقر‪.‬أي جاذبية هذه التي تشدنا لبعضنا البعض‪.‬؟أي وفاء هذا؟أحيانا‬ ‫أخالك أيها الفقر ردائي وأخالني عنوانك العريض ‪.‬ألأجل هذا تلازمني وألازمك؟؟؟ لكن للفقر‬ ‫أيضا فضله الذي لا يجب أن أنكره‪.‬لأنه يجعلك تعيش بالأمل‪.‬تعيش لأجل يوم لا تعرف مسبقا‬ ‫هل سيولد أم لا‪...‬لذلك يقال إن الفقراء هم أسعد الناس على وجه الأرض لأنهم يعيشون بهدف‬ ‫وغاية‪.‬في الليل يحلمون كثيرا ‪.‬يحلمون بكل شيء تقريبا‪.‬بالفاكهة بالكرامة بالمنزل بالملابس‬ ‫بالخبز في نهاية وبداية المطاف‪ .‬بكل ما له طعم لذيذ وألوان زاهية‪ .‬لذلك ربما أكون قد اتخذت‬ ‫قراراتي في السابق على هذا الأساس لأبقى فقيرا للأبد‪.‬لأحلم وأنتظر وأفرح وأغتبط كلما تيسر‬ ‫لي أمر في الحياة ‪...‬لا أريد أن أصل للقمة‪...‬يجب أن أكون دوما في حاجة لشيء ما‪ .‬وعندما‬ ‫أظفر بهذا الشيء تتحقق سعادتي‪...‬‬ ‫أوراق كثيرة أمضيتهاغ اليوم وأنا أجرب هذا الخاتم والتوقيع‪.‬كلما لوثت واحدة مزقتها وتناولت‬‫أخرى‪.‬حاولت أيضا تقمص شخصية مسؤول سام‪،‬لكن مكتبي ليس على نفس الدرجة من الفخامة‬‫التي تضاهي مكاتبهم‪.‬لكنني أيضا لي إسم ويوم ميلاد‪.‬أسرة وأطفال ‪.‬رقم وطني ووطن عزيز‪.‬إله‬ ‫أعبده ويوم حساب ينتظرني‪.‬أخطاء وصواب أحلام وأمنيات‪.‬لي حياة بكل اختصار فلماذا‬ ‫أحزن؟؟‬ ‫لأن إبنتك مريضة منذ ثلاثة أيام ولم تستطع أخذها للطبيب أو على الأقل أن تشتري لها الدواء‪.‬‬‫ثم ماذا؟‪ .‬أهذا كل شيء قاطعتها‪ .‬هل تعتقدين أن هذا لن يمنحها فرصة اكتساب المناعة اللازمة؟‬ ‫هل تعتقدين أن استعمال الدواء كلما جاءتها نزلت برد أمر جدير لأن نتباهى به؟بالعكس يا‬‫عزيزتي‪.‬عندما ستخرج الصغيرة من محنتها ستكون قد عودت جسدها على معالجة نفسه بنفسه‪.‬‬ ‫المقاومة من دون طبيب ولا دواء‪ .‬نعم هكذا يكتسب الصغار المناعة وهي ضرورية كما‬ ‫تعلمين‪.‬أنا مثلا يزورني المرض ويستوطنني أسبوعا أو أكثر ثم يغادرني من دون أن أعرف‬ ‫اسمه حتى‪...‬أقسم بالله العظيم أن هذا يحدث لي منذ ولادتي‪.‬أمرض وأتعافى من دون طبيب ولا‬ ‫هم يحزنون‪ .‬لازلت على هذه الحالة لحد اليوم وسأبقى‪.‬المرض ييأس مني ويغادرني في اتجاه‬ ‫جسد آخر‪ .‬نعم‪.‬‬ ‫إسمع قالت زوجتي بنبرتها المعتادة‪:‬لا أريد أن ترث عنك الصغيرة هذا الصبر وهذا الشقاء‪.‬لا‬

‫يجب أن يعاني أطفالك فقط لأنك عانيت قبلهم‪.‬كان ذلك في زمن واليوم زمن آخر‪ .‬يجب أن‬ ‫تتعامل مع الواقع بأفكار وفلسفة أخرى؟‬ ‫الأفكار الأخرى يا عزيزتي ستأتي بوحي من الواقع الذي يجب أن نتأقلم معه عندما سننهي‬ ‫ديوننا للبنك‪.‬‬ ‫ديونك أنت فقط أخرستني زوجتي‪.‬‬ ‫طيب‪.‬لدي اقتراح أرجو أن يعجبك؟‬‫‪-‬منذ متى إقترحت شيئا جميلا‪.‬؟؟؟أنا صراحة تخيفني أفكارك‪.‬أستغرب كونك تملك جمجمة كبيرة‬‫ومخا صغيرا‪ .‬شيئان متناقضان‪.‬كل المتناقضات اجتمعت فيك‪.‬فقير وسعيد‪.‬مريض وفي غنى عن‬ ‫الطبيب‪.‬فقير ورئيس جمعية تعنى بالفقراء‪.‬لم أعد أفهم شيئا ولم أعد أقو على التعايش مع‬ ‫ضبابيتك‪.‬‬ ‫*‪--‬طيب اسمعي اقتراحي فحسب‪.‬أحضري لي قهوة سوداء‪.‬ودعيني أستشير الصغيرة فيما إذا‬ ‫كانت ترغب في زيارة الطبيب‪.‬‬‫أخذت الصغيرة بين ذراعي‪،‬كانت ذابلة مثل وردة عطشى‪.‬بقيت أهدهدها وأقرأ لها ترانيم ميلادية‬ ‫وأناشيد عذبة ورقيقة إلى أن غالبها الكرى‪.‬أخذتها إلى مهدها الوديع ‪.‬قبلتها ووضعتها برفق‬ ‫وتمنيت لها الشفاء العاجل‪.‬‬ ‫في الليل وقبل أن أنام كنت أقرب إلى الإختناق‪.‬لا يوجد شيء أمقت من العجز خصوصا لما‬ ‫يتعلق الأمر بحاجيات الأطفال‪.‬حاجيات بسيطة ورخيصة ومع ذلك يبدو الأمر أشبه بجبل شاهق‬ ‫أمامي‪.‬لكني ورغم كل ذلك أؤمن أن الفرج قادم لا محالة‪ .‬لا يمكن لهذه العواصف أن تهب دون‬‫أن تحمل معها الفرح‪ .‬علمتني الحياة ان الله تعالى لا يغلق بابا إلا بعدما يفتح عشرة أبواب‪.‬كل ما‬ ‫علينا هو الإنحناء للعاصفة إلى أن تمر‪ .‬وهذا ما سنفعله بالتأكيد بغض النظر عن الطريقة‬ ‫والتفاصيل القاسية‪.‬يجب أن ننتظر النتائج لأنها الأهم‪.‬‬ ‫أيها المشتكي وما بك داء ***كيف تغدو إذا غدوت عليلا‬ ‫إن شر النفوس نفس يؤوس ***يتمنى قبل الرحيل الرحيلا‬ ‫كم أحبك يا زوجتي الغالية‪...‬ستقرئين هذه المذكرات يوما ما وستعلمين أي قصر أرسم لك في‬ ‫أعماقي‪.‬قصر ليس ككل القصور‪،‬لا يشبههم ولا يختلف عنهم‪ .‬هو قصر لكن بألوان غير مرئية‪.‬‬ ‫وحده قلبي يستطيع قراءة ألوانه‪.‬أنت أيضا تعيشين ملكة في رحابه ورغم هذا لا تستطيعين‬ ‫إدراك حجمه وفخامته‪...‬سأعود ذات يوم إلى البيت وسآتيك بأخبار سارة‪.‬من يدري ما ذا تخبئ‬ ‫الأيام القادمة لنا‪...‬إن كانت شقاء حملناه على قدر ما يقو كل منا على تحمله‪.‬وإن كانت سعادة‬ ‫عشناها بضمير مطمئن لأننا لم نسرقها من أحد‪ .‬المهم أننا سنكون معا‪ .‬نفس العناق ونفس‬ ‫حرارته‪ .‬سنتذكر بداياتنا الأولى‪ .‬سنشعل شمعة ونحتفل بيوم اللقاء فلا تيأسي ولا تتخلفي عن‬ ‫الموعد‪.‬لازلت أراك عروسا وسأبقى‪...‬سأعود إليك بوردة ‪،‬بعطر‪،‬بدمعة‪،‬بابتسامة‪،‬بجملة بسيطة‬ ‫تزرع فوانيس الضوء في شعاب حياتنا المظلمة‪...‬ثقي بي حبيبتي ‪.‬سأفعل هذا يوما‪.‬أعرف أنني‬ ‫أستطيع مثلما أعلم أنك تستحقين أن أبني لك تمثالا قبل رحيلك ‪.‬وأن قدر لترحلي قبلي أعدك أن‬

‫أبني لك مئات التماثيل ولن تستطيع أبدا إمرأة أن تقتلعك من دواخلي‪...‬نامي هادئة مطمئنة إن‬ ‫الغد لناظره قريب‪...‬‬ ‫الحكاية‪16‬‬ ‫اليوم تلقيت العديد من الإتصالات الهاتفية‪،‬هذا يحدث ناذرا‪.‬إذ قد يمر علي أسبوع دون أن يرن‬‫فيه جرس الهاتف‪.‬لا أحدث يكترث بالسؤال عني وهم محقون في قرارهم‪،‬إذ لم أعد مفيدا في أي‬‫شيء‪.‬لا أملك غير النصيحة والكلمات والناس لم تعد في حاجة لكلماتي‪.‬الجميع يريد شيئا ملموسا‬ ‫وكلماتي غير ملموسة طبعا لذلك لا أحد يسأل عني‪.‬وحدها زوجتي تتصل من يوم لآخر‪.‬نتحدث‬ ‫لربع دقيقة فقط نطمئن عن بعضنا وكفى‪.‬الجمل التي تصدر عن زوجتي تبتدئ جميعها بأدوات‬ ‫استفهام‪.‬هل؟متى؟ كيف ؟ أين؟ لماذا؟لماذا؟ لماذا؟‪.‬أغلب جملها تبتدئ بلماذا‪ .‬لماذا أوصلتنا إلى‬‫هذا؟ متى ستنتهي ديوننا؟ هل تدبرت شيئا؟ متى ستعود للمدينة لاننا اشتقنا لمعاتبتك؟ هذه الجملة‬ ‫تنسيني كل شيء ‪.‬تنسيتي حتى أسماء أولئك الذين لم يتصلوا‪...‬ليذهب الجميع إلى الجحيم‪.‬‬ ‫منذ أسبوعين لم أكتب أي شيء‪.‬الكتابة تفر مني أحيانا‪.‬لكي تكتب لابد من توفر الكثير من‬ ‫الشروط والحوافز والمؤثرات‪.‬الفكرة والموضوع‪.‬وهذا ما افتقدته هذه الأيام‪.‬الكتابة تحتاج‬ ‫للأنصهار والإستلاء التام على العواطف والزمن والمكان‪...‬أن لا تدع حاسة من حواسك تنشغل‬ ‫بأي أمر آخر‪.‬يجب أن تعبئ طاقاتك كلها وتجندها في خدمة فعل الكتابة القاتل‪.‬الكتابة أيضا‬ ‫تصيب باليأس خصوصا لما تجد نفسك متخصصا في كتابة الصفحات الغير الملونة فقط‪.‬لكنها‬ ‫ضرورية الكتابة أقصد‪.‬على الأقل تنمي فينا القدرة على الإستلاء على الجسد‪...‬‬ ‫لكي تكتب شيء رائعا يجب بالضرورة أن تحيا حياة رائعة‪.‬لو كنت مثلا رجل أعمال لاستطعت‬ ‫أن أعبر عن تنقلاتي عبر مطارات العالم بشكل رائع‪.‬وأن أصف تجربتي مع مختلف المقاولات‬‫والشركات ‪.‬أن أعبر عن شوقي لأطفالي وأسرتي وأنا أتركهم كل مرة بسبب سفرياتي الكثيرة‪.‬أن‬ ‫أتحدث في النهاية عن تجربة حياة بكثير من الفلسفة والحكمة ليستفيد منها الآخرون‪.‬لكنني‬ ‫للأسف لست كذلك وبالتالي لن أستطيع الحديث عن أمور من هذا القبيل إلا مما يوحي لي به‬ ‫خيالي فقط‪.‬‬ ‫في القرية أمضي فترة ما بعد الظهيرة في تأمل الطائرات التي تعبر بشكل منتظم سماء‬ ‫القرية‪.‬هنالك مسارات جوية تتبعها الطائرات بانتظام‪.‬أحفظ جيدا هذه المسارات إلى الحد الذي‬ ‫يجعلني أجزم أن طائرة ما تواجه مشاكلا لو انحرفت عن مسارها‪.‬لكن لم يحدث لحد الآن أن‬ ‫انحرفت احداهن عن مسارها‪...‬وحدي من انحرف عن المسار الصحيح لذلك أحاول رصد كل‬ ‫الإنحرافات لأقارن بيننا‪.‬أفكر كثيرا في الفرق بيني وبين ركاب تلك الطائرات‪.‬وعندما استعصى‬ ‫علي الإهتداء الى الإختلافات حاولت من جديد البحث عن أوجه الشبه بيننا‪...‬ملايين المسافرين‬‫يعبرون سماء القرية كل يوم خصوصا أيام الآحاد دون أن ينتبه أحدهم إلى أن هناك أسفل شجرة‬‫ما كائن ما يتساءل بحسرة لماذا يكون قدره الإلتصاق بالأرض بينما يكون قدر الآخرين التحليق‬‫في الأجواء ‪ ...‬لازلت أبحث عن الفرق أو الشبه وسأعلن ذلك لاحقا‪.‬لا يهم‪.‬المهم أن تجد تفسيرا‬ ‫لهذا القدر‪.‬كل مستعملي تلك الطائرات يملكون حواسبا محمولة وإميلات ومفكرة هاتف‪.‬هاتف‬

‫يرن كل لحظة طبعا على غير عادة هاتفي الكسول‪.‬لهم جوازات سفر تحمل تأشرة السفر‪.‬ملابس‬ ‫أنيقة ولغات ولهجات متباينة‪...‬لهم أحلام لهم أحزان‪.‬أهل وماض وحاضر ومستقبل‪.‬لهم أرقام‬ ‫وطنية لهم وقت محدد لاستعمال المرحاض‪.‬للأكل للنوم للبكاء للإسترخاء للترجل للرقص‬ ‫للصلاة‪.‬لكل شيء إذن مثلي تماما‪ .‬أين الفرق إذن؟؟؟‬ ‫أمضي ساعات المساء أراقب تلك الطائرات ‪،‬وكعادتي أحمل كمرتي الصغيرة وأصور‪.‬كلما‬ ‫قدمت طائرة في اتجاهي أصوب كمرتي وأصور‪.‬وعندما تختفي الطائرة وراء السحب أعود‬ ‫فأمسح ما قمت بتصويره‪.‬أعتقد أنه بسلوكي هذا ربما قد أظفر بحظ رائع في تصوير حادثة‬‫جوية‪ .‬كم أتمنى أن أكون الشخص الوحيد الذي يحمل تسجيلا مصورا لحادث جوي قد يحدث في‬ ‫سماء قريتي‪...‬رغم أني لا أحمل سوى الحب للآخر فإنني لا أقاوم رغبتي في حدوث حادث‬ ‫كهذا‪ .‬لكنني أتمنى أن يحدث لطائرة شخصية تقل رجلا مهما مثل بلير أو بوش أو أولمرت‪ .‬كم‬ ‫سأكون سعيدا لو تشرفت بتصوير حادث جوي قد يحدث لطائرة أشرار من حجم هؤولاء ‪ .‬لو‬ ‫كنت محظوظا فعلا ليحدث هذا لسددت ديوني للبنك وتوقفت عن كتابة هذه المذكرات الحزينة‪.‬‬ ‫سأعلن في القنوات الرسمية والتلفزية والأنترنت أنني أحمل تسجيلا للحادثة‪ .‬وستفتح قنوات‬‫الإتصال والتفاوض معي‪.‬سأوعز لمحام مرموق مهمة التفاوض ولن أقبل ببيع الشريط إلا بالثمن‬ ‫الذي أريد‪.‬سأحدد شروطي مسبقا كما يفعل خاطفوا الرهائن وسأهدد بإحراق الشريط إذا لم‬ ‫يستجب لشروطي كاملة ‪.‬سأقطع خط الهاتف معهم وسأتحدث بلغة قاسية ولن أتنازل عن موقفي‬ ‫قيد أنملة كما يفعلون هم أيضا ‪.‬وعندما سأبيع الشريط سأهرول لأعانق زوجتي العزيزة‬ ‫وصغيراي‪...‬‬ ‫يؤذن المؤذن لصلاة المغرب‪.‬أستفيق ألف مرة من أحلامي العريضة‪.‬ألتفت يمنة ويسرة فأجدني‬ ‫أتكئ ؟إلى نفس الشجرة الضخمة في قلب نفس الغابة الموحشة فوق قمة نفس الجبل الشاهق‪.‬‬ ‫أعقاب السجائر متناثرة في كل مكان‪.‬أجمع أغراضي وأسلك نفس المنحدر في اتجاه المدرسة‬ ‫حيث أشتغل وأنام‪.‬أغسل وجهي وأعد نفسي بأحلام جديدة‪.‬أشغل مصباحا غازيا بئيسا ‪.‬يبدأ‬ ‫الصرصار في عزف سمفونيته السابعة والعشرين‪.‬أحضر الشاي‪.‬أجلس إلى مكتبي أكتب وألطخ‬ ‫وأمزق‪.‬أنام وأستيقظ على نفس الصور والمشاهد لكن بحيوية زائدة‪ .‬كل يوم ازداد حيوية‬ ‫وشجاعة وصلابة‪ .‬وهنا سري الكبير‪...‬‬ ‫**********************************************‬ ‫الحكاية‪17‬‬ ‫رغم أني وعدت نفسي بالصمود والتجلد إلى آخر رمق لكني بت اليوم أقرب إلى خيانة وعد‬ ‫قطعته على نفسي مذ بدأت معاناتي‪...‬وعدتها يوما أن أكون كشجرة الصفصاف تنحني أمام‬ ‫العاصفة على نحو نخالها أنها ستنكسر‪،‬لكنها لا تنكسر أبدا‪..‬لكني اليوم بت أسير بخطى ثابتة‬‫نحو الإنهيار‪.‬زوجتي أيضا تسير إلى هذا المصير بسرعة تضاعف سرعتي‪..‬كل يوم أخاف على‬

‫عقلي من الجنون‪..‬لايمكن أن أتحمل هذا الضغط إلى ما لا نهاية‪.‬كثرة الضغط تولد الإنفجار هذا‬ ‫ما تيقنت منه للأسف العميق‪...‬‬ ‫انفجرت زوجتي باكية بين ذراعي الأسبوع الماضي‪.‬حاولت أن أعلمها كيف تمتص غضبها‪ ،‬لم‬ ‫أستطع لسوء حظنا‪..‬حياتنا تسير نحو الهاوية‪..‬فرحة الأسرة بأكملها على أن وشك أن يغتالها‬ ‫الزمن البغيض‪..‬يا لهذا القدر العجيب‪..‬ماذا فعلنا كي نستحق كل هذا العذاب؟؟؟ لم نقتل أحدا ولا‬ ‫اعتدينا على أحد‪.‬نحترم أنفسنا أكثر من اللازم فلماذا يكون قدرنا هو العذاب على هذا النحو‬ ‫المهين‪...‬‬ ‫أسئلة كثيرة طرحناها مرارا وتكرارا‪..‬لا توجد أجوبة مقنعة‪..‬ارتكبت أخطاء لكن العقاب لم يكن‬ ‫منصفا على الإطلاق‪.‬أعرف أناسا إرتكبوا جرائما بشعة وهم الآن ينعمون بحياة كريمة ‪.‬أي‬ ‫منطق هذا؟ لا أفهم أي شيء‪...‬‬ ‫والدتي تخاف علي من لدغات محتملة لثعابين موجودة فعلا‪.‬تنصحني دائما بالتأكد من خلو‬ ‫فراشي من الحشرات والمخلوقات المسمومة قبل أن أسلمه جسدي‪،‬وهكذا وقبل أن أنام بالحجرة‬ ‫الدراسية أقوم بتفتيش كل أغطيتي قطعة قطعة حتى أزيل الشك في إمكانية أن يكون ثعبان ما قد‬ ‫تسلل واختبأ في فراشي‪...‬أعمل هذا بانتظام‪،‬أنا أيضا أخاف من الثعابين وسوى ذلك من‬ ‫الحشرات القاتلة التي يجود بها شهر \"مـــاي\" بسخاء منقطع النظير‪.‬‬ ‫هناك ثعابين من نوع آخر يا أمي ‪.‬ثعابين لا تمتلكين النصيحة العملية لكي تقدمينها لي بكل‬ ‫مجانية كما تفعلين دوما منذ ولادتي‪..‬لكني لست ساذجا إلى حد الخوف الذي تحملينه لي في‬ ‫صدرك دائما وأبدا‪.‬‬ ‫هذا الأسبوع زارتنا لجنة حقيرة من وزارتنا التافهة من وطننا العزيز‪..‬لجنة من ثلاثة مفتشين‬‫يستحقون العمل مع البوليس لأنهم ببساطة لا يمتون للتربية بأية قرابة ولا صلة ولا علاقة‪.‬عندما‬ ‫سألني أحدهم بكل سخافة عن أمور أكثر سخافة‪،‬كنت أقرب إلى أن أقطع عنه المهمة التي جاء‬ ‫من أجلها‪،‬كنت أريد أن أقول له‪ :‬إسمع يا أستاذ‪ ،‬إنه لو طلب مني أن أصفك في جملة واحدة –‬ ‫حتى لو كان الأمر تحت التعذيب‪ -‬فإن أفضل ما يمكن أن أصفك به هو أنك إنسان غير محترم‪.‬‬ ‫هذا طبعا هو الأفضل ‪.‬أما الأسوأ فعليك أن تبحث عنه في ذاكرتك‪.‬في بيتك‪...‬‬‫للأسف لم أقل هذا‪.‬كنت أقرب إليه لولا أن أحدهم طلب مني أن أغادر القاعة برفقته للتحدث على‬ ‫انفراد وبلطافة‪.‬قال ‪:‬تعال يا بني‪،‬وهنا استطاع أن يخرسني لأنه فعلا بعمر والدي رحمه الله‪.‬لهذا‬‫احترمت سنوات عمره وكان هذا هو الخطأ الأكبر الذي ارتكبته‪ .‬كنت محتاجا لأن ألعنهم جميعا‬ ‫وأنصرف إلى حياة أخرى قد تكون أهم وأفضل من حياتي كمدرس‪...‬‬ ‫كان علي أن أشبعهم سبا وإهانة لأنهم في الواقع لم يأتوا إلا لهذا الغرض‪.‬لا أفهم أين اختبأوا‬‫لتسع سنوات خلتـ واليوم يأتون ليتهموننا ببساطة أننا مقصرون في واجبنا‪.‬أي واجب وأي وطن؟‬ ‫هذا بلد يمسك عشرات الأنذال بناصيته وليذهب الشعب للقمامة‪.‬القمامة هي ما ستؤول إليه‬ ‫أوضاعهم إن شاء الله‪.‬‬ ‫كل شيء سخيف في هذا البلد‪.‬التعليم سخيف ‪ ،‬المفتش ‪،‬أنا أيضا ‪،‬الوثائق‪ ،‬التاريخ‪،‬المعتقلات‪،‬‬

‫المطر ‪ ،‬الأحلام‪ ،‬الضمير‪.. ،‬كل شيء سخيف وتافه‪.‬حتى تلك الحدائق الجرداء التي يقيمونها‬‫والزيادة في الأجور التي يقرونها‪.‬مشاريعهم‪ ،‬زوجاتهم ‪ ،‬مقابلاتهم التلفزيونية ـ‪ ،‬كل شيء مغلف‬ ‫بالأصفر كالخريف‪ .‬لهذا يجب أن أهاجر‪...‬‬ ‫كلما طوى اليأس صفحة أحد أيامي ‪،‬أفتح صفحة جديدة حين أتذكر قصيدة الشاعر الهندي‬ ‫\"طاغور\" تلك التي يمهد لها واسمها \" لا تطو جناحيك\" فيقول‪:‬‬ ‫\"مع أن المساء يزحف وئيدا ومتراخيا‪ ،‬ويكاد بإيماءة منه يسكت أغنيتك‪،‬ومع أنك وحيد في‬‫السماء اللامتناهية وجسدك منهكك ‪،‬أراك ترتفع متمتما صلاة صامتة نحو الآفاق المستترة وراء‬ ‫الحجب‪...‬مع أن الظلام مخيم على العالم‪ ،‬أيها الطائر يا طائري لا تطو جناحيك\"‬ ‫الحكاية‪18‬‬ ‫في المغرب تستطيع أن تظفر بلقب \" الأستاذ\" فقط لكونك تحمل محفظة أو تمتلك‬ ‫سيارة‪...‬سينافقك الباعة المتجولون بلقب الأستاذ حتى لو لم تلج المدرسة يوما لتتمزق سراويلك‬ ‫فوق مقاعد خشبية باردة وصلبة‪ .‬ستحظى بهذا التكريم لكونك فقط تتمتع بهذه الأشياء التي‬ ‫ذكرتها‪...‬لكنك تفقد هذا اللقب المؤقت بمجرد ما تترجل ككل الناس أو تضع محفظتك‪.‬؟ هنا لا‬‫يعتبر الفكر شيئا لافتا للنظر‪ .‬لا أحد يهتم بأفكارك أو يبد أدنى حماسة ليعترف بذكاءاتك المختلفة‬ ‫ومواهبك المتعددة‪...‬أعتقد أننا في إفريقيا لا نزال مفتونين بالجسد‪.‬ننظر للمرأة ونحبها على‬ ‫أساس جسدي ‪ ،‬ونحترم الرجال أيضا على نفس الأساس‪...‬‬‫أجلس الآن إلى مقهى بوسط المدينة ‪ ،‬ورغم أني انزويت إلى أقصى كرسي لتفادي الضجيج‪ ،‬إلا‬ ‫أن صوت وصراخ أحد الزبائن الذي يجلس على بعد عشرة أمتار مني يفسد عني الهدوء الذي‬ ‫أنا شده في هذا الركن البعيد‪...‬لا أعرف لماذا يصرخ هكذا وهو يجلس إلى أصدقائه ‪.‬لا يبدو‬ ‫عليهم أي سبب يدعوه للصراخ فهم يتحدثون فقط‪.‬أتساءل كيف سيتصرف هذا المخلوق عندما‬ ‫يدخل في شجار ما‪ .‬أكيد أن السقف سيتطاير ‪...‬الحقيقة أنني ومع تكرار هذه المشاهد أتمنى لو‬ ‫أني استطعت امتلاك قاعة فسيحة وسط حديقة لأوفر لنفسي الأجواء المناسبة للقراءة ومحاولة‬ ‫الكتابة‪.‬كم سيكون الأمر ممتعا لو تمكنت من امتلاك مكتبة شخصية ‪ ،‬على الأقل لأملأ ملايين‬ ‫الصفحات الفارغة من عقلي ليصبح كبيرا كما تتمنى زوجتي‪...‬بالأمس جعلتني إحدى القنوات‬‫التلفزيونية أتساءل بحسرة عن الفرق بيني وبين السنجاب‪.‬كان البرنامج يستعرض العناية الفائقة‬ ‫التي يحظى بها سنجاب صغير ضـــال عثرت عليه فرنسية بينما كانت مارة بطريق جبلية‬‫بإحدى القرى بفرنسا‪.‬نقل السنجاب لمصحة لتشخيص حالته ‪ ،‬بعدها تناسلت الإمتيازات المغرية‬ ‫التي سيحظى بها هذا السنجاب‪ ،‬فكان هناك نظام غذائي متوازن وطبيب وإعلام وبيت لائق‬ ‫واحترام كبير ‪...‬لم يسبق لي أن تمنيت أن أولد سنجابا‪.‬لكنني صراحة أغار من العناية التي‬ ‫يحظى بها‪...‬‬‫في المغرب لا يهم كيف يفكر الناس‪...‬كل ما يهم هو كم تملك ‪.‬لو احتكمنا لقانون من يراعي منا‬

‫الحدائق العامة ويحترم الأزهار والحيوانات ويحس بأنين الضعاف لتغيرت الأمور كليا‪.‬على‬ ‫الأقل سيصبح للبستاني والحرفي وزن ما‪...‬‬ ‫تدخل صديق من السعودية قبل أيام ليحمل عني ثقلا كبيرا كان يرهقني ‪.‬كان يستمع لهمومي‬ ‫بصدر واسع أكثر مما توقعته‪.‬إستلفت منه مبلغا محترما وسددت جزء من ديون عاجلة كان‬‫يطالبني بها أصحابها‪.‬أشعر بعد تجاوزي هذه المحنة بسعادة بالغة‪.‬زوجتي لاحظت هذا‪،‬في إحدى‬ ‫الصباحات استيقظت وأنا أغني مجهدا رئتي إلى أقصى مداهما‪.‬قالت زوجتي‪ :‬ها أنت تغني من‬‫جديد على غير عادتك ككل الصباحات‪ .‬قلت ‪ :‬اليوم مختلف عن السنوات الماضية‪ ،‬لقد استيقظت‬ ‫وكلي حيوية ونشاط‪.‬فقد سددت بعض الديون التي كانت تشغلني وكنت عاجزا عن فعل هذا منذ‬ ‫أشهر‪...‬أنظري عزيزتي كم أنا سعيد جدا هذا الصباح ‪ ،‬لو تمكنا من إنهاء أزمتنا لجعلت كل‬ ‫صباحاتك ضاحكة ومشرقة ومليئة بالأناشيد‪...‬‬ ‫الآن بدأت أكتشف السر الذي يقف وراء إنجاب الفقراء لعدد كبير من الأطفال‪..‬في المغرب تجد‬ ‫أسرة ميسورة تنجب طفلا أو اثنين في أفضل الحالات بينما تجد الفقراء ينجبون ستة أطفال أو‬‫أكثر‪.‬هذا حقائق لا أعرفها كمغربي فقط بل توقفت عليها عندما شاركت في الإحصاء العام الذي‬ ‫نظمه المغرب في العام ‪ .2004‬وسأقف عليها للمرة الثالثة لأنني التحقت رسميا بشعب الفقراء‬ ‫الذي يتعاظم يوما بعد آخر‪...‬‬ ‫عندما تكون فقيرا فإنك مجبر على ملازمة البيت لفترة أطول ‪.‬إذ ليس من حقك التجول ولا‬‫ارتياد المقاهي والأسواق‪.‬هذه الأفعال تتطلب مصاريفا أقلها أن تمتلك ثمن القهوة فيما لو شعرت‬ ‫بالتعب وسط المدينة وارتأيت الجلوس إلى المقهى لترتاح‪.‬لا يمكن إذن أن تتجول وسط المدينة‬‫وأنت لا تحمل معك بضعة دراهم‪ .‬لذلك ألازم البيت لفترة أطول من المستحب ‪...‬يبقى الفقير في‬‫بيته‪ ،‬يلاعب أطفاله‪،‬يداعب زوجته‪،‬يتشاجران‪،‬يتصالحان‪ ،‬ينتقدان بعضهما البعض‪ ،‬يلوم أحدهما‬ ‫الآخر‪ ،‬يقفان يجلسان ‪ ،‬يفتشان عن فاكهة ما وعندما يتعذر الحصول عليها يتبادلان القبل‬ ‫ويواسيان بعضها ‪ ،‬يدخلان الغرفة ‪ ،‬يخرجان ‪.‬لا يمتلكان غير الجسد لذلك يهديانه لبعضهما‬ ‫البعض ‪.‬يستحمان ‪ ،‬يصليان ‪.‬وكل يوم يفعلان نفس الأمر ‪.‬بعد كل تسعة أشهر ينجبان طفلا‬ ‫جديدا ‪.‬يعتقدان أن المولود القادم سيحمل لهما الرزق والبركة‪ .‬وهكذا‪...‬‬‫يسكنني الآن شوق الإنطلاق بشكل صحيح ‪.‬أريد أن أستيقظ فأجدني في عالم آخر غير هذا العالم‬ ‫المظلم الذي يأسرني ويشدني إليه بإحكام‪...‬أريد أن أجدني وسط مكتبة فسيحة ممتلئة الرفوف‬‫بالكتب والمجلدات ‪..‬أريد أن أضع عني هذا الحزن الذي يرفض لسفالته أن يغادرني منذ سنوات‬ ‫طويلة‪...‬أن أجد في نفسي الحيوية اللازمة لمزاولة مهنتي على أحسن وجه‪..‬أن أتخلص من‬ ‫ديوني ببساطة ‪..‬أن أشتري ثلاجة ككل الناس وأغير تلفازي العتـيق‪..‬أن أجدد ملابس أطفالي‬ ‫‪..‬أن أحلق شعري دون أن أفكر في حاجتي لتلك العشرين درهما التي يتوجب علي أن أدفعها‬ ‫للحلاق لذلك أؤجل الحلاقة إلى أن يبدو شعري مثيرا للخوف‪...‬أن أشتري نظارات طبية‬ ‫لزوجتي التي لم تعد تستطيع القراءة أبدا بسبب ضعف البصر‪...‬أن أرد ديوني لأصحابها وأقبل‬ ‫رأسهم وأعتذر منهم‪...‬أن أشتري دراجة فقط لأتمكن من التنقل بين بيتي وعملي دونما حاجة‬

‫لنظرات زميلي القاسية‪...‬أن أجد في جيبي ثمنا قليلا أقدمه للمحتاجين الذين يطرقون بابي بين‬ ‫الفينة والأخرى فأتـألم لأنني لا أستطيع مد يد العون لمن هو أحوج مني‪...‬أن أتمكن من توزيع‬ ‫الفرحة على الآخرين مثلما أتوسمها في الآخرين ‪...‬أن أدفع للبقال عندما أكون مضطرا لشراء‬ ‫الزيت والسكر وأعفـيه من الحرج اليومي الذي تسببه لي الجملة التي رددتها للمرة الألف ‪ :‬من‬ ‫فضلك سجل ثمن البضاعة إلى أن أسددها لك لاحقا‪..‬كلمة \" لاحقا\" هذه رددتها أكثر مما‬‫يجب‪.‬كل شيء مرتبط عندي بالمستقبل لأنني لا أقوى على فعل أي شيء آخر في الحاضر غير‬‫أن أوزع الوعود على الناس وأقسم يمينا أنني سأفي بها‪...‬قال لي أحد الأصدقاء ساخرا ‪ :‬منذ أن‬ ‫عرفتك وأنت تتحدث عن الديون فقط‪.‬أما آن لها أن تنتهي؟‬‫‪--‬إنها تتناسل يا عزيزي ‪.‬هي جرثومة يستحيل التخلص منها بالمرة‪...‬وباء ‪،‬عدوى تنخر الجسد‬ ‫دونما استعداد للتوقف‪...‬‬ ‫عندما أعود لقصيدة ‪ \":‬الشابي\" أدرك أني لست وحيدا في هذا الخضم‪...‬هناك ملايين الناس في‬ ‫العالم يتعذبون على نحو أكثر ألما‪ .‬لكن يبق للمعاناة وقع واحد على الجميع‪ ،‬فهي تفقد المرء‪..‬‬ ‫الثقة في النفس وتجعله يتساءل بحسرة عن المصير المجهول الذي ينتظره‪...‬تخمد فيه جذوة‬‫الطائر المغرد ‪...‬تسلبه الفرحة وتغتصب أيامه الجميلة ببطء ‪..‬لكني مع كل هذا سأبقى أردد مع‬ ‫الشاعر حين يقول‪:‬‬ ‫سأعيش رغم الداء والأعداء *** كالنسر فـــوق القمة الشمـــــاء‬ ‫أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا *** بالسحب والأمطار والانواء‬ ‫لا أرمق الظل الكئيب ولا أرى *** ما في قرار الهوة الســــوداء‬ ‫إلى أن يقول‪:‬‬ ‫وأقول لهذا القدر الذي لا ينثني *** عن حرب آمالي بكـــل بـــــــــــلاء‬ ‫لا يطفئ اللهب المؤجج في دمي *** موج الأسى وعــــواصف الأرزاء‬ ‫فاهدم فؤادي ما استطعت فإنه ***سيكــون مثل الصخرة الصــــمـــــاء‬ ‫لا يعرف الشكوى الذليــــــــــلة***والبكاء وضراعة الأطفال والضعفاء‬ ‫ويعيش \"جبارا\" يحدق دائمــــا ***بالفجر ‪..‬بالفجــر الجميــــــــل النائي‬

‫يوميات أستاذ مغربي بقلم ‪ :‬سعيد ارويف‬ ‫تاريخ النشر ‪23-10-2008 :‬‬ ‫يوميات أستاذ مغربي ‪ .‬بقلم ‪ :‬سعيد ارويف‪.‬‬ ‫البريد الإلكتروني‪:‬‬ ‫‪[email protected]‬‬ ‫‪[email protected]‬‬ ‫هاتف رقم ‪0021267735829 :‬‬‫أدرك أني لست وحيدا في هذا الخضم‪...‬هناك ملايين الناس في العالم يتعذبون على نحو‬‫أكثر ألما‪ .‬لكن يبقى للمعاناة وقع واحد على الجميع‪ ،‬فهي تفقد المرء‪ ..‬الثقة في النفس وتجعله‬ ‫يتساءل بحسرة عن المصير المجهول الذي ينتظره‪...‬تخمد فيه جذوة الطائر المغرد ‪...‬تسلبه‬ ‫الفرحة وتغتصب أيامه الجميلة ببطء ‪..‬لكني مع كل هذا سأبقى أردد مع الشاعر حين يقول‪:‬‬ ‫سأعيش رغم الداء والأعداء *** كالنسر فوق القمة الشمـــــاء‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook