القسم الأول :المعرفة حين تكون إسمية الباحث والمهندس بدر محمد أحمد باسعد الأسماء والبيان
القسم الأول :المعرفة حين تكون إسمية2017 02 01 1438 05 04 الأسماء والبيان
1 مقدمة المدخل الأول :المدخل الحواري 1 المدخل الثاني :المدخل الفلسفي 1 المدخل الثالث :المدخل التيمي 7 7 العنصر الأول :سمات الوجودين الذهني والخارجي العنصر الثاني :السمات المحددة لكل من الوجودين الذهني والخارجي: 8 10 السمة الأولى:10 السمة الثانية:1111 السمة الثالثة:12 السمة الرابعة:12 السمة الخامسة:1314 السمة السادسة:14 السمة السابعة: 14 السمة الثامنة:14 العنصر الثالث :الإشكالات التي تم علاجها بناء على مذهب التفريق بين الوجودين15 الإشكال الأول:15 الإشكال الثاني:1516 الإشكال الثالث:16 الإشكال الرابع:17 الإشكال الخامس:1818 الإشكال السادس:18 الإشكال السابع:19 الإشكال الثامن: الإشكال التاسع: الإشكال العاشر: الإشكال الحادي عشر:
19 الإشكال الثاني عشر:20 الإشكال الثالث عشر:20 الإشكال الرابع عشر:21 الإشكال الخامس عشر: 21 خلاصة الفصل
تعتبر الاسمية احدى النظريات التي تبيّن طبيعة المعرفة الإنسانية وقد قامت على أنقاض الاتجاه الواقعي في المعرفة والذي بدوره كان تصحيحا للاتجاه السفسطائي في المعرفة. وسوف أحاول شرح معنى أن تكون المعرفة اسمية من خلال ثلاثة مداخل، ربما يكون في هذا تكرارا ومللا للقارئ ولكن أعتقد أن اختلاف الخلفيات الثقافية لدى القراء ربما تجعل المداخل المتعددة مفيدة. وعلى كل فإن القارئ متى ما رأى استيعابا لأحد هذه المداخل فيكفيه ويمكن أن ينتقل إلى الفصل الثاني مباشرة . والمداخل الثلاثة هي ▪ المدخل الحواري :ويناسب القراء الذين لا يحبون اللغة الفلسفية أو البناءات العلمية المنطقية التي ربما تكون مملة وجافة .وعادة ما يهدفون إلى تكوين اعتقاد معين حول طبيعة المعرفة ويكون جل اهتمامهم هو استثماره وتفعيله والاستفادة منه عمليا . ▪ المدخل الفلسفي:ويهم القراء الذين يسعون إلى إدراك الأسس العلمية بلغة فلسفية وبناء علمي صارم وعادة ما يكون جل همهم منصب على النقد العلمي الجاد واكتشاف الثغرات المنطقية والاحتمالات البديلة . ▪ المدخل التيمي :ويهدف إلى مخاطبة القراء ذوو التكوين الشرعي والذين ينصب جل اهتمامهم على مسألة تأصيل الفكرة وبناء الفروع على الأصول العلمية الشرعية المعروفة سلفا ومعرفة ما إذا كانت الفكرة الجديدة متسقة مع الأصول أم لا . هو حوار متخيل غرضه عرض الاسمية والاعتراضات الشائعة حولها مع بيان الرد العلمي المناسب عل كل اعتراض . سألني صاحبي :ما هو هذا الاتجاه الاسمي في المعرفة؟ قلت :هو الاتجاه الذي يعتبر العلم اختراعا إنسانيا .فردد عبارتي بتمهل وهو يحك ذقنه متفكرا :العلم اختراع إنساني .عبارة ثرية بالمعاني .فالاختراع يختلف عنالاكتشاف لأنه يعني أنه إبداع وابتكار بينما الاكتشاف هو انفعال بما هو موجود في الخارج وليس للإنسان دور فيه إلاالكشف عنه .أليس ذلك؟ !رددت منبهرا باستنتاجه السريع لتلك المسألة العويصة :بلى !العلم اختراع انساني وأما الذينيقولون إنه اكتشاف فهم الواقعيون .أكمل صاحبي استنتاجاته الذكية :والاختراع يكون لهدف معين ...قاطعته فرحابملاحظته وأنه بدأ يدرك أبعاد الموضوع الذي أحدثه عنه :أحسنت والعلم كذلك .فقال :وإذا ما زال الهدف فإنهالاختراع يعد لا قيمة له .قلت :صحيح .قال :والاختراعات تتحسن وتتطور .قلت :كذلك النظريات العلمية .قال :وقد 21 1
يكون لدينا أكثر من اختراع يخدم ذات الهدف .قلت :هي النظريات تتنافس .قال :وأفضلها هو الذي يؤدي الغرض .قلت :وكذلك النظريات العلمية أفضلها أقدرها على تفسير الظاهرة وأقلها شذوذا .تابع قائلا :وما دام الأمر كذلك فإنالاختراع لا يوصف بأنه صادق أو كاذب أو حق أو باطل .وقلنا بصوت واحد متناغم ومنسجم :ولكن يوصف بأنه مجدي أوعديم الجدوى .وقلت :لاحظ أن المخترع لا يكتفي باختراعه بل يطلب ما هو أفضل منه فهو يستمر في البحث العلميوينفتح على التجربة ويتعرف على الاختراعات الشبيهة في نفس المجال ولا يعتبر ما توصل إليه أنه أفضل اختراع .فقال مستنتجا :وكذلك العالم صاحب النظرية العلمية يطلب دوما ما هو أفضل منها . وأردف قائلا :لكن هناك مسألة تبدو عويصة ،إذا كان العلم اختراعا إنسانيا ،فكيف نخترعه؟ !قلت :قد أتيت على المحك ،يخترع المشتغل بالعلم معلومه (نظريته العلمية) من خلال عمليتي التحليل والتركيب .فيالعملية الأولى :يحاول أن يحلل الموضوع الخارجي إلى مقومات أساسية ثم يدرسها دراسة نظرية بعيدة عن الموضوعفيستخلص شروطها وموانعها ويستنتج العلاقات بين المقومات .وفي العملية الثانية التي هي التركيب يقوم بمطابقة مااستخلصه من معارف مع الموضوع الخارجي ليتأكد هل ما استنتجه صحيح أم لا؟ ومن ثم يكون مدخلا لعلاج الواقع أو لتحسين نموذجه النظري (النظرية العلمية). رد متعجبا :ولكن ألا تختلف هذه العملية باختلاف العلوم؟ قلت :لا ،كل العلوم لها ذات التنسيق في الاختراع .فاستنكر ذلك ،وقال :أليست العلوم الطبيعية تختلف عن العلوم الإنسانية ،كيف يمكن لهذه لها جميعا أن تخضع لنفس الأسلوب في التنسيق والبناء العلمي؟قلت مبتسما :لا تختلف لأنها جميعا تخضع لمجرى العادات .دور العالم أن يلاحظ عادة الموجود سواء كان طبيعة أو بشرا .قال بعد أن خفت ح ّدته :ولكن المنهج الم ّتبع في العلوم الإنسانية ليس المنهج التجريبي بل مناهج أخرى كالمنهج التاريخي في دراسة كذا والمنهج السلوكي في علم النفس والمنهج المقارن في المقارنة بين المدارس المختلفة في موضوع واحد .قلت :ما ذكرته لا يتعارض مع كونها هذه المناهج جميعا تؤول إلى المنهج التجريبي ،فالتجريب الذي نعنيه هو ملاحظةعادة الموجودات ،وكلها خاضعة لنفس الأسلوب والاختلاف بينهما كمي وليس كيفي .فالتجربة التاريخية في العلومالإنسانية تقوم مقام التجربة في المعمل للعلوم الطبيعية وكلا التجربتين يقوم العالم بالتحليل والتركيب الذي ذكرناه . وبأخصر عبارة :التجريب المقصود هو التجريب المقابل للتقدير الذهني. إذا كان ما تقوله صحيحا ،فما هو منهج علوم اللغة؟قلت :منهجها ملاحظة عادة واضعها إذا كان المقصود معرفة قواعدها وإذا كان القصد معرفة البلاغة فهي ملاحظة حال السامع . قال متح ّديا :والعلوم الشرعية؟ !قلت :العلوم الشرعية إما أن تكون تفسيرا فهذه تعود إلى علوم اللغة التي ذكرنا أنها عادة العرب أو معرفة مرادالمتكلم وهي تعود إلى عادة المتكلم أو السامع والقرائن التي تحتف بالخطاب أو أنها فقها فهذه تعود بالإضافة إلى ما سبق إلى ملاحظة عادة الشارع في التشريع وهكذا. ولكن كيف يكون العلم بالوحي اختراعا إنسانيا؟ ! قلت :لنفس الأسباب التي تجعل من علم الطبيعة وعلم الانسان اختراعا إنسانيا . قال :ولكن هذا وحي وتشريع من عند الله . 21 2
قلت :ومن قال إن الطبيعة من عند الانسان .السنن الكونية في الطبيعة والسنن الكونية في الانسان والمجتمع هي أيضا من عند الله .قال :أعني أنك حين تقول إن العلم الشرعي اختراعا إنسانيا فكأنك تجعله بلا مضمون ،أو أن الانسان يضع مضمونه من عنده دون أن يكون مرتبطا بالوحي .الآن أقول لك أهم مسألة في النظرية الاسمية في المعرفة وهي أيضا الأساس الذي تنبني عليه ألا وهو :التفريق بينالشيء في ذاته والشيء كما يظهر لنا وندركه وتسمى أيضا مسألة التفريق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي .هذاالتفريق يشرح لك بسهولة مسألة المضمون العلمي عندما يكون العلم اختراعا إنسانيا .وهذا التفريق هو الذي يجعلنا نم ّيزبين الموضوع الخارجي وما أدركناه منه .فما دام ما ندركه من الوحي ومن الطبيعة ومن الانسان يمكن أن يكون صواباويمكن أن يكون خاطئا وإذا كان صوابا فإنه يتفاضل في التصور بين المجتهدين من حيث الأدلة ووجوه الاستدلال وأصولالمسألة ولوازمها وما ينبني عليها فإنه لا يمكن أن يكون وحيّا أو سنة كونية بل هي اجتهادات وسوف تظل اجتهادات ما دامت علما إنسانيا . لا بأس بكل هذا ،ولكن أين الاختراع في الموضوع؟ !الاختراع هو لفظ يطلق على النظرية العلمية التي ينتجها العالم من أجل أن يستخدمها في إنتاج المعرفة .فانظر مثلاإلى تعدد المذاهب الفقهية لتجد أنها بمثابة تعدد النظريات العلمية وتعدد المذاهب العقدية والكلامية هي نظرياتمختلفة ومتفاوتة النجاعة في تفسير النص الشرعي .ولو عدّت لما ذكرناه حول عمليتي التركيب والتحليل ولاحظت عملية التأصيل الشرعي لوجدتها لا تخرج عن هاتين العمليتين. فلتضرب لي مثالا على المقومات تلك التي يستخرجها الفقيه؟!إنها ببساطة مقومات الحكم الشرعي والمقومات هي ما به قيام الشيء أي أنها أركانه .وأركان الحكم معروفة هي الدليل والاستدلال والمستدل والحكم .ومعروف أنها هذه الأربعة هي عماد أصول الفقه. تأمل في نفسه برهة ثم سألني :فما منزلة القطعي في الاسمية وأخص بالذكر القطعيات في العلوم الشرعية؟وصف دلالة معينة أنها قطعية أي واضحة وضوحا لا يتطرق إليه شك هو وصف إضافي بالنسبة إلى المستدل ووصفالدلالة بالقطعية مثل وصفها بأنها بدهية كلاهما وصف إضافي .ومعنى هذا أن القطعي يحتفظ بمكانته ما لم يحل محله اجتهاد آخر . ولكن هذا يفتح الشك في قطعيات الملة؟بل هذا إذا انضاف إليه الحرية العلمية يفتح الباب لتحديها تحديا علميا واحتفاظها بمكانتها القطعية رغم النقدالمستمر الذي يقلب وجهات النظر واحتمالات الاستدلال يدل على استحقاقها هذه المكانة .فتعريف القطعي والبديهي بأنها أوصاف إضافية لا يفتح الشك بل يفتح باب التواضع العلمي فلا يعتقد المجتهد في علمه أنه علما مطلقا.. لا زال في قلبي ريب من هذه المسألة . حسنا ،هل ترى وصفي للقطعي بأنه وصف إضافي صحيح أم لا؟ نعم ،أتفق معك .إذا ،لنأتي الآن إلى وسائل تحقيق القطعي في الشريعة الإسلامية ،ما هي؟ هل رأي عالم ما بأن هذه المسألة قطعية يجعلها قطعية حقا أم أنّ ما يكسب مسألة ما صفة القطعية هو التواتر الاستدلالي على غرار التواتر الحديثي؟ ! نعم ،تكتسب المسألة قطعيتها بالتواتر الاستدلالي كما ذكرت وفي الاصطلاح الشرعي :بإجماع العلماء . ما دام الأمر كذلك ،فهل يعقل أن يخالف أحد إجماع العلماء؟ وإذا خالفهم فهل يعقل أن يكون الحق معه؟ 21 3
لا .لما لا ،وقد تحقق هذا تاريخيا وليس مجرد فكرة نظرية ومثالها مسألة طلاق الثلاث التي خالف فيها ابن تيمية اجماع العلماء عبر قرون وكان أكثر تحقيقا منهم وأجدر بالصواب . نعم حصل هذا ولكن هذا يعني أن الاجماع لم يتحقق بشروطه والتي لو توفرت لما حصل لها هذا الخلاف .الإجماع بشروطه التي تتحدث عنها لا يكاد ينعقد لأنه يسعى إلى تحقيق التطابق بين الشيء في ذاته والشيء فيتصورنا له وهذا التطابق مستحيل .ومن يدّعيه فهي ببساطة يدّعي أنه أصاب حكم الله تعالى وهذا ما لا يمكن أن ي ّدعيه راسخ في العلم . إذا وأركان الإسلام وغيرها من تعاليم الشريعة كيف نثق بها؟هذه من الأخبار وليس فيها اجتهاد سوى فهم النص من خلال فهم معناها اللغوي المتواضع عليه عند العرب وهي واضحةالدلالة متكررة الذكر متعاضدة الأدلة نظرا وعملا عند الرسول والصحابة بما لا يدع مجالا للشك في تفسيرها .وهذا من اهتمام الشارع بالأصول وجعلها بي ّنة لكل طالب حق وأما طالب الزيغ فهذا لا يكاد يهتدي إلا إلى ما وافق هواه . قال صاحبي :ما كنت أظن أن الاسم ّية سوف تج ّرنا إلى هذه الأبعاد من المعرفة؟ قلت :لا زلنا في بداية الطريق وأصدقك القول إني لم أكن أتوقع أن تتصور مسائلها بهذه السهولة .قال :أتدري أن ما أعجبي في كلامك هو قدرة النظرية الاسمية على تفسير طبيعة العلم أيا كان مجاله وهذا وحده ما يدفعني للاستزادة في التعرف على هذا الاتجاه .ثم سألني :حسنا ،أعتقد أننا استفضنا كثيرا حول تبعات هذا الموقف من العلم ولكننا لم نتحدث عن أسسه التي يستند إليها ،فعلى أية أساس قلت إن العلم مجرد اختراع إنساني؟ !جميل ،إذا كنت تتفق معني أن العلم هو ما ندركه من الوجود وليس هو الوجود ذاته فسوف تتفق معي أن العلم اختراع إنساني .يعترض قائلا :أوافقك في المقدمة وأخالفك في لازمها .نعم علمنا هو علم بجزء من الوجود وهو الجزء الذي تدركه حواسنا ولكن هذا لا يعني أننا اخترعنا هذا الإدراك بل هو إدراك حقيقي للوجود . حسنا ،إذا كان إدراك حقيقي ،فلما يقع في الخطأ . الجواب لمحدودية الحواس .إذا أنا لا أقول إننا نخترع الإدراك بل أقول بما أن إدراكنا لا ينقل الوجود كما هو بل صورة مشوهة من الوجود فقدبات لدينا صورتان :الوجود الحقيقي والذي لا قدرة للإنسان بمعرفة معرفة شاملة ومطلقة والوجود الذهني الذي هوتصورنا عن هذا الوجود بناء على إدراكاتنا منه .والعلم هو ترتيب هذه الإدراكات ترتيبا منطقيا متسلسلا من قواعدوأسس وأصول وقضايا استنباطية من هذه الأصول .وهذه الطريقة المنطقية هي ما تفصل ما يسمى علما وما يسمى معرفة عامة وساذجة .كلامك يبدو منطقيا وجميلا ولكني لا زلت أرى رغم هذا أن اعتبار هذا التفاوت بين الوجودين الخارجي والذهني لا يؤسس للقول بأن العلم اختراع إنساني. إذا كنت تعترف بمبدأ الفصل بين الوجودين فلابد لك من القول بأن العلم اختراع إنساني .لسببين :العلم صورة عن الوجود لا يلزم أن تكون مطابقة له .واختراع الإنسان للميكروسكوب وكذا للمناظير الفلكية فتح له صور من الوجود كانت أمام عينيه ولكن خارج قدراته الإدراكية . ومن ثم فلا يمكن للإنسان ادّعاء أن علمه مطابق للوجود حتى لو كان يتحدث عن جزئية بعينها. 21 4
وأيضا اكتشفنا من خلال التقدم العلمي والنظريات التي نقضت بعضها البعض في مجال معرفي معين أنه يمكن للظاهرة الواحدة أن يكون لها أكثر من تفسير وبالرغم من ذلك يكون لكل تفسير نتائج تطبيقية متفاوتة ومتناسبة معه .حسنا ،فهما إذا أن النظرية اختراع مثل أي اختراع مادي وأما النتائج والحقائق التي نتوصل إليها من خلال هذاالاختراع فهي حقائق مؤقتة لأنها يمكن أن تتغير بحسب المستجدات والمراجعات العلمية .وهذا كله منطقي الآن .ولكن ماذا عن المدخلات لهذه العملية هي تعتبر حقائق أم لا؟ تقصد المدركات والملاحظات التي هي محل البحث العلمي؟! نعم .هذه المدركات كما تعلم أنها نسخة باهتة من الواقع لقصور الحواس الإنسانية ولذا هي إما أن تكون إدراك حقيقي أو غير حقيقي أو خليطا بين الحقيقة وعدمها .فالإدراكات تعتبر .... أعتقد أننا ناقشنا هذه النقطة بما فيه الكفاية ،ولتسمح لي أن أحوّل مسار الموضوع لنقطة أخرى لا تقل أهمية . تفضل . هل ينطبق ما تقوله على العلوم الشرعية؟ هل أيضا هي اختراع إنساني ،والحقيقة فيها مؤقتة؟ !جوابي هو نعم .ولكن قبل أن تتعجل بالرد عليّ دعني أوضح لك كيف يكون ذلك :النظرية هنا مثل النظرية في العلومالطبيعية والإنسانية هي الأداة المنهجية .في العلوم الشرعية يعتبر أصول الفقه اختراع إنساني والحقائق التي تنتج عنههي حقائق مؤقتة .مع فارق وحيد هو أن العلم كما قال ابن تيمية نوعان :خبر عن معصوم أو قول عليه دليل معلوموالوحي يتضمن النوعان بعكس العلوم الأخرى فما كان من قبيل الخبر عن المعصوم فهذا يؤخذ تصديقا به أعني ما أخبربه الرسول عليه الصلاة والسلام من الغيب فهذا خبر نؤمن به واجتهادنا فيه هو اجتهاد في فهمه وليس في مضمونه .بعكسالحكم على النوازل الفقهية فهذا يعتبر الحكم حقيقة مؤقتة وأصول الفقه اختراع إنساني .وهذا التفريق مهم لأنهيفصل بين الوحي وبين علم الإنسان المستخرج من الوحي مثلما فصلنا في العلوم الطبيعية بين الطبيعة( الحقيقة الخارجية )وبين علمنا بالطبيعة ( الحقيقة كما تبدو لنا ). لكنك بهذا التفريق تحيل كل الأحكام إلى حقائق مؤقتة وتهدم الدين بهذا الأمر؟لو تجنبنا هذا التجني بأنني أهدم الدين وركزنا على النقاط المعرفية لتكتمل النظرية لكان أولي .إن هذا التفريقموجود عند علماء الإسلام فهم يفرقون بين ما فيه نص وما هو اجتهاد وأنا لم أفعل شيئا غير أن سميت الاجتهاد حقيقة مؤقتة . لكنك لم تسم ما فيه نص حقيقة دائمة.أسمي ما فيه نص حقيقة دائمة إذا كان بمنزلة الخبر عن المعصوم .لأن ما فيه نص هو أيضا خاضع للاجتهاد والعلماءيدركون ذلك .وعلى سبيل المثال يقولون :إن أعلى طرق التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن ولكن عندما نأتي عمليا فإنهليس كل تفسير للقرآن بالقرآن يكون صحيحا وهذا مثلا مثال لمعنى الاجتهاد فيما فيه نص وفي الفقه يكون الاجتهاد فيما فيه نص اجتهاد ربط الحادثة بالنص .وأعتقد أن حديث سعد بن معاذ هو أهم حديث في الدلالة على المعنى المقصود .حسنا أستاذي ،طمعا في مزيد من الاقتناع بكلامك ،لنفترض أنني أخالفك تماما ،وأرى أن العلم ليس اختراعا إنسانيا كما تقول بل هو سعي للوصول إلى الحقيقة في ذاتها .سعيك للوصول إلى الحقيقة في ذاتها هل يعني أنه يمكن أن تصل إليها أم أنك تقول إنه لا يمكن الوصول إليها بل هي مجرد مثال نسعى إليه دون إمكانية الجزم بتحقيقه . أرى أنه يمكن الوصول إليها فعلا . 21 5
جميل ،إذا كنت ترى أن الحقيقة يمكن الوصول إليها ومطابقتها فإن سعيك سيتجه نحو شروط الوصول إلى الحقيقةالخارجية والبحث في الموانع التي تحول دون الوصول على الحقيقة ،ومن ثم سوف تصل إلى نتيجة مثل التي وصل إليهاأرسطو .فهو رأي الحد معبرا عن الماهية ولا يحتاج إلى تدليل ورأى أن الأوليات ..ورأى أن صفات الشيء تنقسم إلىصفات ذاتية لازمة وذاتيه عارضة ،وزعم بعد ذلك كله أن هذا يقود إلى برهان يقيني ولكي يكون هذا البرهان يقيني وجد أنه لابد من البداية بمقدمة كلية ويقينية ..إلخ .حنانيك ،أعتقد أنك أسقطت تجربة أرسطو على موقفي وأنا لا أقول به .وأعتقد أنه يمكن صياغة حلا وسطا بين الموقف الواقعي وبين موقفك الاسمي .كل ح ٍل ينطلق من إمكانية الزعم بمطابقة الحقيقة فهو لابد وأن ينتهي إلى ما انتهى إليه الموقف الأرسطي .وضعشروط لا يمكن تحقيقها وعلوم مستنتجة من هذه الشروط يُظن أنها انطبقت عليها الشروط ،ونتائج يزعم لها منزلةاليقين تصبح معيارا للوجود .وأما من يدرك عدم إمكانية تحقيق الشروط فسيظل عقيما عن انتاج العلم !كالذي يستخدم آلة يظن أنها صحيحة ويستفرغ عمره في استعمالها دون نتيجة . تبالغ في التعميم إذا ،لنكن عمليين وأخبرني ما الحل الذي تراه؟الحل بسيط :أستخدم أصول الفقه في الحكم الشرعي وهي أداة تساعد للوصول إلى الحكم الشرعي المحكم والحقيقي ولكن الحكم الذي أصل إليه هو اجتهاد شرعي يمكن أن يكون يقينا في بعض الأحوال وأحيانا يكون ظ ّنيا . حسنا ،اليقيني هنا هل هو وصف للحقيقة في ذاتها أم أنه وصف لما تعتقده في الحكم . يمكن أن يكون هذا وذاك .دعنا إذا نتحدث عن موطن الخلاف وهو أن تعتقد أن اجتهادا ما هو حقيقة في ذاته .ما هي صفات الحكم الذي له هذه المنزلة؟تضافر النصوص صراحتها وفعل الرسول والصحابة بمقتضى ما جاء في النص واجماع العلماء ومن الأمثلة :وجوب الصلاة .ألم نقل أن العلم قد يكون خبرا معصوم .وبالتالي كل نص شرحه وفسره الرسول عليه الصلاة والسلام أو اجتمع عليهالصحابة من أمور العلمية أو العملية فهو من هذا الجانب الحقيقي في ذاته ولا يحول بيننا وبينه إلا ثبوته .فكل ما كان منهذا القبيل ليس اجتهادا أصوليا في الحقيقة بل هو اجتهاد معياري تحاكم إليه أصول الفقه لا العكس .فهذه النقول كلها بمثابة الطبيعة في العلوم الطبيعية هي الحقائق التي هي محل التأسيس العلمي والأصول العلمية المستمدة منها . ولكنك تنكر القطعي!كما ذكرت لك ،ما أنكره من القطعيات هي القطعيات التي تتناول المجالات الاجتهادية وأما المجالات الإيمانية فهي أمورلا تتحقق إلا بالقطع والجزم بها .يمكن على سبيل التقريب فقط أن أمثل لذلك بعلم العقيدة والفقه .فالعقيدة قائمة على القطعي وأما الفقه فقائم على الاجتهادي . أخيرا :هل هذا كل شيء؟ أعتقد أن الموضوع كبير ولكن ما تناولناه هنا يعين على تصوره بشكل جيد . 21 6
سوف نستعرض في هذا المدخل البناء الفلسفي للنظرية الاسمية كما يعرضه أبو يعرب المرزوقي في كتابه المعروف (إصلاح العقل في الفلسفة العربية)يمكن أن نوجز مفهوم التصور الاسمي للمعرفة في العبارة التالية :يعتقد الاسمي بوجود الحقيقة في الخارج وأن الوصولإلى هذه الحقيقة إما أن يكون خبرا عن معصوم وهنا تمكن المطابقة لأن الجهد الإنساني يتعلق بمعرفة اللغة المتواضععليها وليس اكتشاف كنه الأشياء ومعرفة حقيقتها ،وأما ما كان اجتهادا إنسانيا في الوصول إلى الحقيقة كالحكم علىالنوازل والقضاء واكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع فهذه كلها مقاربات لا يمكن الجزم فيها بمطابقة المعلوم بسببمحدودية الإدراك الإنساني ومن هنا فإن الإسمي يقر بأن للشيء وجودين هما الوجود الخارجي والوجود الذهني .ولكلمن الوجودين خصائص وسمات تختلف عن الآخر وهي سبع خصائص أولها أن الوجود الخارجي يحوي الحقيقة في ذاتها وأماالذهني فيحوي الحقيقة كما تبدو لنا ومن ثم فإن التصورات تتفاضل وأما الشيء الخارجي هو هو لا يتغير ولا يتفاضل .وثانيها أن مفهوم الممكن مختلف في الحالتين فالممكن الذهني يمكن ألا يكون موجودا في الخارج ومن هنا يعتبر التصورالذهني أوسع من الوجود الخارجي .وأما إذا نظرنا إلى الوجود الذهني بأن تصوراته جزء من الوجود الخارجي وأنه لايمكن استيعاب كنه ما هو في الخارج فحينها يبدو أن الوجود الخارجي أكثر ثراء من الوجود الذهني .والعلوم القائمة علىالوجود الذهني هي علوم التقديرات الذهنية وتضم علم الحساب والمنطق وأما العلوم القائمة على الوجود الخارجي فهيعلم المحسوسات أو التجريبيات التي يهدف الإنسان فيها إلى معرفة طبائع ما هو في الخارج لكي يفهمه ويستخرج قوانينه .وبناء على هذه السمات لكلا الوجودين فإن الاسمي يحل الإشكاليات العلمية التي توجهه من خلال هذا الفصل بينالوجودين .فعلى سبيل المثال :مسألة الحد الأرسطي وأنه لا يصور الماهيات استنادا على التفريق بين الوجودين واستبدالهبالحد التيمي وهو الحد الاسمي الذي لا يدّعي تصوير الماهيات وإنما تمييز الأشياء عن بعضها البعض وتسميتها تسميةتلائم هذا التمايز من أجل فصلها في التصور الذهني عن بعضها البعض فصلا يمكن العالم من التعامل مع كل منها علىحدة .ولهذا فالنظريات العلمية عند الاسمي هي أنساق تواضعية يتواضع عليها العلماء ومؤقتة حتى يأتي أفضل منهاوهذه النظرة تختلف عن النظرة الأخرى التي تعتقد أن النظريات العلمية تسعى إلى اليقين وأنها تطابق الموجودات إذاكانت صحيحة .ومن هنا فالحد الفاصل بين العلم واللاعلم عند الاسمي هو صمود النظرية أمام النقد والدحض وأما عندالواقعي فهو اتباع منهجية تبدأ من مقدمات يقينية أو بديهيات لكي نحصل منها على نتائج يقينية تطابق الواقع .وهذا يقودنا إلى أن الأوليات عند الاسمي ليست سوى مواضعات بعكس الأوليات عند الواقعي فهي بديهيات في ذاتها . أعتقد أن هذا المقطع يضم جل المسائل الفاصلة بين التصورين الاسمي والواقعي في المعرفة.إن الدارس للفلسفة القديمة يتضح لديه وجود مذهبين في المعرفة هما الاتجاه السفسطائي أو المذهب الشكي الذي يتخذمن الشك مذهبا لا منهجا في المعرفة وهذا الاتجاه زبدة ومعقد كلامه أنه لا يقول بوجود الحقيقة سواء قال بانعدامها أوانعدام إمكانية الوصول إليها وأما الاتجاه الثاني فهو المذهب الواقعي الذي نشأ ردا على المذهب السفسطائي وهذا المذهبيرى بأن الحقيقة موجودة في الخارج وأنه يمكن الوصول إليها وإليه تنتمي فلسفتي أرسطو وأفلاطون ،ولكن الفلسفة الحديثةأبرزت موقفا ثالثا هو الموقف الاسمي من المعرفة .وهو موقف تبلور مرتين مرة في سياق الفلسفة العربية ومرة أخرى في سياقالفلسفة الغربية لكنه في الفلسفة العربية لم تتكوّن منه إلا أصوله وجذوره دون ساقه وفروعه نظرا لتوقف الحركة العلميةوالتأخر الحضاري الذي تعيشه أمتنا منذ ابن تيمية إلى اليوم ،ولكنه في السياق الغربي تأسّس في القرون الوسطي على يد 21 7
وليم أوف أوكام وأبيلار وغيرهم واستمر الوصل العلمي في القرون الحديثة إلى أن وصل إلى صورته اليوم كما نجده عندويلارد كواين .1وسوف أتناول الحديث عن الموقف الاسمي والفرق بينه وبين الموقف السفسطائي من خلال عرض أصولهالفلسفية في الثقافة الإسلامية كما تعيّنت عند ابن تيمية .ولكني أود أن أعرض عن تسميته بالموقف الاسمي خروجا منالإشكالات الإصطلاحية وسأكتفي بتسمية هذا المذهب بمذهب التفريق بين الوجودين .فمن المعروف أن ابن تيمية يرى أنهناك فرقا بين الوجود الذهني والوجود الخارجي وبناء على ذلك فسوف أستعرض التعريف بهذا المذهب من خلال عنصرين: .1الأول: سمات الوجود الخارجي والوجود الذهني. .2الثاني: تطبيقات ابن تيمية المبنية على مسألة التفريق بين الوجودين (الاسمية)يعد مبحث تقسيمات الوجود واختلاف الفلاسفة فيه من المباحث الفلسفية المعروفة ،يتناول هذا المبحث نوعين من الوجودللأشياء الأول يسمى الوجود الخارجي ،وهو الوجود الذي نراه ونحس به ونعيشه ،والثاني هو الوجود الذهني أي تصوراتناعن هذا الوجود الخارجي .حيث يبحث الفلاسفة في العلاقة بينهما هل هما وجود واحد أم أنهما منفصلان وإذا كان منفصلانفهل يمكن أن يرد أحدهما إلى الآخر أم لا؟! فيصبح الوجود الذهني في حقيقته ليس سوى الوجود الخارجي كما هو معروفعند أرسطو وأفلاطون وهذا هو الموقف الواقعي أو يصبح الوجود الخارجي في حقيقته لا يعدو الوجود الذهني كما هو عند باركلي وهذا هو الموقف السفسطائي من المعرفة.ولكن ثمة موقف فلسفي ثالث يتوسط هذين الموقفين بدأ يبرز مع النقد الإسلامي للفلسفة اليونانية واكتمل مع ابن تيميةوهذا الموقف نابع من اعتبار الوجود الذهني ذو طبيعة مختلفة عن الوجود الخارجي وبالتالي فلكل منهما خصائص مختلفة عن الآخر وهذا هو الموقف الذي اكتمل تأسيسه عند ابن تيمية في النظر وابن خلدون في العمل.2وهذا الأمر أعني أنهما يقولان بالتفريق بين الوجودين ليس تقوّلا عليهما ولا مفهوم كلامهم بل هو نص في كلامهم ولنتأمل أولا قول علامة التاريخ ابن خلدون:\"وإذا تأ ّملت المنطق وجدته كلّه يدور على التركيب العقل ّي ،وإثبات الكلّي الطّبيعيّ في الخارج لينطبق عليه الكلّيّ الذهنيّالمنقسم إلى الك ّل ّيات الخمس ،الّتي هي الجنس وال ّنوع والفصل والخا ّصة والعرض العامّ ،وهذا باطل عند المتك ّلمين .والكلّي والذاتي عندهم إنّما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه.3\"...وأما ابن القيم فيعتبر أن عدم التفريق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي هو أصل الضلال الفلسفي الذي وقعت فيه الفلسفة اليونانية ومن حذا حذوها من الفلاسفة في الثقافة العربية حيث يقول رحمه الله: 1يراجع في ذلك الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط ،ص 190وتاريخ الفلسفة الحديثة ،ص ،9كلاهما ليوسف كرم ،طبعة هنداوي. 2حول هذه الخلاصة يدور عمل أبو يعرب المرزوقي إصلاح العقل في الفلسفة العربية من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى اسمية ابن تيمية وابن خلدون ،الطبعة الأولى ،نوفمبر .1994 3مقدمة ابن خلدون ،ابن خلدون ،ص.648 21 8
\"وإنما أتي للقوم -أي الفلاسفة ومن يقول بقولهم في الكلي -من الكليات .فإنها هي التي خربت دورهم وأفسدت نظرهمومناظرهم ،فإنهم جردوا أمورا كلية لا وجود لها في الخارج ثم حكموا عليها بأحكام الموجودات وجعلوها ميزانا وأصلا للموجودات\".4وهو في هذا يتفق مع شيخه ابن تيمية في أن هذا الخلط عند الفلاسفة بين سمات وخصائص الوجود الذهني والوجودالخارجي أصل ضلالهم حيث يقول في عبارة هي أصرح وأوضح ما يكون في التعبير عن هذا الموقف المعرفي الذي يختلف عن المواقف المعرفية السابقة:\"وإنّما أصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك ،فقالواولو لم يكن ثابتا لما كان كذلك ،كما أ ّنا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج ،فنتخ ّيل الغلط أن هذه الحقائق والماهيات أمور ثابتة في الخارج...والتحقيق أن ذلك كله أمر موجود وثابت في الذهن لا فيالخارج عن الذهن والمقدّر في الأذهان قد يكون أوسع من الموجود في الأعيان ...وحقيقة الفرق الصحيح أن الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيء والوجود هو نفس ما يكون في الخارج منه\".5وبناء على كلام ابن تيمية نقول إذا كان عدم التفريق بين الوجودين هو أصل ضلالهم الفلسفي ،فإن التفريق بينالوجودين وتحديد سمات وخصائص كلا منهما تحديديا دقيقا يعدّ بالمقابل أصلا من أصول الهداية .فلنحاول إذا في هذه المقالة أن نضع أيدينا على أهم الفروق بين الوجودين الذهني (=العلمي) والخارجي.ولأن ابن تيمية رحمه الله هو أحد أهم الذين أثروا الكلام في التفريق بين الوجودين واستخدم هذا التفريق في علاجكثير من الإشكالات الفلسفية العميقة كما سنرى ،فسوف نعتمد عليه كثيرا ،كما أننا سوف نعتمد أيضا على الكتابات المعاصرةعن الاسمية وخاصة ما كتبه الفيلسوف الإسلامي أبو يعرب المرزوقي حول اسمية ابن تيمية وابن خلدون . 6ولكي أتجنبمسألة إسقاط ما أعتقده في التصور الاسمي على ابن تيمية – قدر جهدي-سأضع معيارا واضحا يمكن الرجوع إليه وهذاالمعيار هو الأصل الذي ذكرناه للتو والذي أعتقد أنه لا يختلف عليه أي دارس لابن تيميه :ألا وهو التفريق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي.ومعنى أن يكون هذا الأصل معيارا هو أ ّلا أجعل كل أقوال الاسميين أقوالا اسمية إذا خالفت هذا الأصل كما أضع فيحسباني أن أقوال غير الاسميين يمكن أن تكون أقوالا اسمية إذا وافقت هذا الأصل واطردت معه .فكل مسألة كان عمدةالحل فيها قائما على التفريق بين الوجودين بغض النظر عن قائلها وموقفه المعرفي اعتبرتها سمة من سمات المنهج الاسمي في المعرفة.وأما إن سأل سائل ،فلما كان التفريق بين الوجودين يسمى المذهب الاسمي ،فأقول إن هذ يرجع إلى الاختلاف بينالواقعيين والاسميين في تصور وظيفة الحد .فالحد عند الواقعيين يعبر عن ماهية الموجودات وأما الحد عن الاسميين فلايعبر عن ماهيات الأشياء وإنما وظيفته مثل وظيفة الاسم أي التمييز بين الموجودات ولذا س ّموا بالاسميين وسمي هذا الموقف 4كتاب الروح ،ابن القيم ،ص.204 5الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص .67-64 6من المعروف في الأوساط العلمية أن أبا يعرب المرزوقي هو أول من ن ّبه إلى أمرين بخصوص ابن تيمية فأولا ن ّبه إلى أن ابن تيمية فيلسوفأعماله الفلسفية تتجاوز كل الفلسفة التي قيلت قبله فقد كان ابن تيمية يع ّرف قبل ذلك بأنه شيخ وعالم دين فقط ،والأمرالثاني هو اثباتما تجاوز به ابن تيمية الفلسفة اليونانية وهو الموقف الاسمي من المعرفة بديلا عن الموقف الواقعي المسيطرعلى الفلسفة اليونانية ومن تأثر بها .ا 21 9
من المعرفة بالموقف الاسمي لأنه لا يرى أن المعرفة (متمثلة في الحدود وهي التعريفات) لا تعبر عن ماهيّة الموجودات وإنما أسماء موضوعة للتفريق بين ما يدركه الإنسان من الوجود.وهي في إثبات تمايز الوجودين وطبيعة كل منهما :الوجود الذهني يحوي الكليات والتصورات والمقدرات الذهنية ،وأماالوجود الخارجي فيحوي الأشياء العينية .قال ابن تيمية\" :فَ َينْبَغِي لِلْعَاقِلِ َأ ْن يُ َف ِّر َق بَيْ َن ُثبُو ِت ال َّشيْءِ َووُ ُجو ِد ِه فِي نَ ْفسِ ِهَو َب ْينَ ُث ُبو ِتهِ َووُجُو ِد ِه فِي الْعِ ْلمِ فَ ِإنَّ ذَا َك ُهوَ الْوُجُو ُد الْعَيْنِ ُيّ ا ْلخَارِجِ ُّي ا ْل َح ِقيقِ ُّي وَأَ َّما َه َذا فَ ُيقَالُ لَ ُه الْ ُو ُجو ُد الذِّهْنِيُّ وَا ْل ِع ْلمِيُّ َومَا ِم ْن َش ْيءٍ إ َلّا لَ ُه َه َذانِ الثبوتان\" .7فإذا لم يفرّق الإنسان بين هذين الوجودين فإنه سوف ينساق إلى أحد احتمالين:أ .أن يجعل الوجود الذهني بمثابة الوجود الخارجي فكأنه ألغى الوجود الذهني وهذا هوأصل المذهب الواقعي في المعرفة .ويشرح ابن تيمية المذهب الواقعي باتجاهاتهومذاهبه بقوله\" :وهذا مبتدأ فلسفتهم التي وضعها فيثاغورس وكانوا يسمون أصحابهأصحاب العدد وكانوا يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارج الذهن .ثم تبيّنلأفلاطون وأصحابه غلط ذلك وظنوا أن الماه ّيات المجرّدة كالإنسان المطلق والفرسالمطلق موجودات خارج الذهن وأنها أزلية أبدية .ثم تب ّين لأرسطو وأصحابه غلط ذلكفقالوا بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الأشخاص ومشى منمشى من اتباع أرسطو من المتأخرين على هذا وهو أيضا غلط فان ما في الخارج ليس بكلى أصلا وليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص.8ب .أو أن يجعل الوجود الخارجي بمثابة الوجود الذهني فكأنه ألغى الوجود الخارجي وهذاهو أصل المذهب السفسطائي في المعرفة .ويشرح ابن تيمية اتجاهات هذا المذهب بقوله\" :وهؤلاء من جنس السفسطائية المتجاهلة اللاأدرية الذين يقولون:▪ لا نعلم هل الحقائق ثابتة أو منتفية وهل يمكن العلم أو لا يمكن فإن السفسطة أنواع أحدهما قول هؤلاء.▪ الثاني قول أهل التكذيب والجحود والنفي الذين يجزمون بنفي الحقائق والعلم بها.▪ والثالث الذين يجعلون الحقائق تتبع العقائد فمن اعتقد ثبوت الشيء كان في 7مجموع الفتاوى ،ابن تيمية.158/2 ، 8الرد على المنطقيين ،ابن تيمية135-134 ،21 10
حقه ثابتا ومن نفاه كان في حقه منتفيا ولا يجعلون للحقائق أمرا هي عليه في أنفسها.▪ والصنف الرابع قول من يقول الحقائق موجودة لكن لا سبيل إلى العلم بها إما لكون العالم في السيلان فلا يمكن العلم بحقيقته وإما لغير ذلك\".9وتقسيم ابن تيمية لهم من خلال مواقفهم من الحقيقة وأقوالهم فيها إنما هو نابع من نفيهم للوجود الخارجي الذي هومورد الحقائق وبتعبير أدق أقول أنهم ر ّدوا الوجود الخارجي إلى الوجود الذهني أي عاملوه كما يعاملوا الوجود الذهنيفافترقوا إلى الفرق الأربع المذكورة الفرقة الأولى الشكاكة الذين قالوا لا نعلم هل الحقائق ثابتة أو منتفية وهذا شك فيالوجود الخارجي وشك في الحواس وهذا يعني أن الخارج عندهم مجرد تصورات ذهنية لا يمكن إثباتها ومثلهم الفرقة الثانيةالتي تجزم بنفي الحقيقة وأما الذين يجعلون الحقائق تابعة للعقائد ولا يجعلون للحقيقة أمر هي عليه في نفسها فهؤلاء يمكنوصفهم بأنهم مذهب ذاتي في المعرفة أي ينفون صحة التعميم بناء على أن الشك في الحواس أو الشك في وجود الحقيقةالخارجية وإنما اختلفوا عمن سبقهم في إثبات ما يدركه الفرد ونفي الإدراك الجمعي في حين أن من سبقهم ينفي أيضا صحةإدراك الفرد .والفرقة الرابعة :التي تثبت وجود الحقيقة مع نفي إمكان الوصول إليها فيتضمن إثباتا للوجود الخارجي لكنمع تشكيك في الحواس فيصبح الذهن غير قادر على تلقي الإدراكات من الخارج لأن كل إدراك يمكن أن يكون زائفا أو أنهاتقول أن العالم في صيرورة وسيلان دائم مما يجعل الحقيقة التي ندركها في هذه اللحظة لا يمكن تعميمها على سائر اللحظاتالماضية واللاحقة وكلا الأمرين مما يجعل المرء في نسبية مطلقة .أي أن القول بإثبات الحقيقة في الخارج إذا صاحبه شك في القدرة على الوصول إليها صار مثل القول بنفي الحقائق.ت .وقبل أن أنتهي من هذه النقطة أود أن أشير إلى نجاعة مذهب التفريق بين الوجودين في عملية تفسير الاختلاف الفلسفي بين المذاهب الفلسفية. أن الكليات وهي عقلية مبنية على استقراء الجزئيات وهي خارجية محسوسة. يقول ابن تيمية\" :فمن لم يتصور الشيء الموجود كيف يتصور جنسه ونوعه\".10الوجود الخارجي أوسع من أن يحاط به وأن يستوفى جملة من جهة إدراك الإنسان له ،فما من تصور إلا وفوقه تصور أتممنه .هذا هو موقف (مذهب التفريق) أما الموقف السفسطائي فاعتبر تفاوت التصورات مشككا في وجود الحقيقة أو في إمكانيةالوصول إليها أما الموقف الواقعي فاعتبر ما يصل إليه من تصورات ذهنية أنها هي هي الحقائق الموجودة في الخارج .وبناء على ذلك فإنه لا يمكن الإحاطة بالموجود الخارجي وإنما الإحاطة الممكنة للإنسان هي الإحاطة الجزئية .قال ابن تيمية: 9الصفدية ،ابن تيمية.98/1 ، 10الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص .5921 11
\"ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه ،وإنا لا نتصور شيئا بجميع لوازمه حتى لا يشذ منها شيء ،وأنه كلما كان التصور لصفات المتصوَّر أكثر كان التصور أتم\"بناء على السمة الثالثة :لا يوجد ضامن للإنسان الباحث عن الحقيقة أنه قد أصاب الحق فعلا أي (طابق الوجودالخارجي) .طبعا دون أن يعني هذا أن إصابة الحق ممتنعة بل هي ممكنة .ويلزم من هذا أن الإنسان في اجتهاده الشخصييكون متواضعا ولا يلزم غيره برأيه مهما بلغت وثاقته بصحة رأيه وخطأ رأي غيره ولذا يعبر الفقهاء عن هذا اللازم بقولهم:الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله .ويدعم هذه القاعدة ما رواه الطبري :أ ّن عمرا بن الخطّاب لقي في خلافته رجل ًا له قضيّة نَ َظرَ فيها عليّ بن أبي طالب ،فسأله عمر :ماذا صنعت؟ فقال :قضى عل ٌيّ بكذا .قال عمر :لو كنتُ أنا لقضيت بكذا قال الرجل :فما يمنعك وال َامر إليك؟قال عمر :لو أردّك إلى كتاب الله أو سنّة رسوله لفعلت ،ولك ّني أردّك إلى رأي ،والرأي مشترك ،ولست أدري أيّ الرأيين أحق . 12وجاء في «ال ِاحكام» لابن حزم( :قال أبو محمّد :فقد ثبت أ ّن الصحابة لم يُفتوا برأيهم على سبيل الاِلزام ،ولا على أنّه حقّ ،لكن على أ ّنه ظ ّن يستغفرون الله تعالى منه ،أو على سبيل صلح بين الخصمين).13وفي رأيي أن أبلغ حديث في هذا الأمر هو ما جاء في مقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام لبني قريظة وأنهم \" نَ َزلُوا عَلَىُحكْمِ رَسُو ِل ال َلّ ِه َص َّلى اللَّ ُه عَلَيْ ِه َوسَلَّمَ ،فَ َردَّ رَسُو ُل ال َلّهِ صَ َّلى اللَّ ُه عَ َليْهِ وَ َسلَّ َم ا ْل ُحكْ َم ِفيهِ ْم إِ َلى سَعْ ٍد َ ،قالَ َ :فإِنِّي أَحْكُمُ ِفيهِ ْم َأنْتُقْ َتلَ الْ ُم َقاتِلَ ُة َ ،وأَ ْن ُت ْس َبى ال ُّذرِّ َيّ ُة وَال ِّنسَا ُء َو ُتقْ َس َم أَ ْموَا ُلهُمْ \" ،قال الرواي :فَأُ ْخ ِبرْ ُت أَ ّنَ رَسُو َل اللَّهِ صَ َلّى اللَّهُ َعلَ ْي ِه وَسَلَّمَ قَالَ \" :لَ َق ْد حَ َك ْمتَ فِي ِهمْ ِب ُحكْ ِم ال َّل ِه َع َّز وَ َجلَّ\" والمعني الذي يحمله الحديث أن هناك اجتهاد إنساني في القضاء اعتمادا علىالنصوص والقرائن الشرعية وأن الإنسان يجتهد برأيه ويحكم بحكمه ويمكن أن يصيب حكم الله تعالى ويمكن أن يخطئولكن لا سبيل له لمعرفة هذه الإصابة في الحكم إلا بواسطة معصوم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام فما دام أن الوحي قدختم فلا يمكن لإنسان يجتهد في مسألة ما ثم يزعم أن حكمه فيها هو حكم الله تعالى وهذا هو معنى نفي الحقيقة المطلقةعند أبي يعرب .وهذا هو مقتضى القول بالتفريق بين الوجودين لأن الوجود الخارجي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وأما الوجود الذهني البشري فيتفاضل ويقع فيه الصواب والخطأ.ومن لوازم التفريق بين الوجودين أن معيار الحقيقة لا يصبح مطابقة الوجود بل يصبح مطابقة المعايير التي يضعها الاجتهاد الانساني ،وبعبارة أبي يعرب:\"بدلا من معيار المطابقة في نظرية المعرفة ونظرية العمل ،وضع الاسلام معيار الاجتهاد الاجماعي والجهاد الاجماعيفاعتبر الحقيقة في المعرفة الخلقية والشرعية غير مبنية على المطابقة مع الوجود والقيمة بل على الخضوع لمعيار اجماع 11الرد على المنطقيين ،ص ،8:طبعة دار الكتب العلمية ،تحقيق :محمد حسن اسماعيل. 12الاجتهاد في الشريعة ال ِاسلام ّية ،يوسف القرضاوي ،ص .47ا 13الإحكام في أصول الأحكام ،ابن حزم ،ج ،6ص.54 21 12
القائمين بفعل النظر أو العمل مع الشروط الخلقية للأمانة العلمية والعملية والشروط المنهجية لكليتها بمعنى قابليتها للمتابعة من كل انسان يريد التحقق منها\".14وكلا هذين الأمرين من لوازم المذهب الاسمي أما المذهب الواقعي فيدّعي أنه يمكن أن يطابق الحقيقة الخارجية ولهذا يعتقد أن المنطق آلة تعصم الذهن من الخطأ أي إذا استخدمها بشكل صحيح أصاب الحقيقة أي طابق الواقع.15والوجود الذهني أوسع من الوجود الخارجي من جهة تعدد الممكنات ومن جهة التقديرات الذهنية .قال ابن تيميةَ :ف ِإ َّنَت َص ُوّرَ الذِّ ْهنِيَّةِ َأ ْوسَ ُع مِنْ ا ْل َح َقا ِئقِ الْخَارِ ِجيَّةِ َفإِ ّنَهَا َتشْمَ ُل الْمَ ْو ُجودَ َوالْمَعْ ُدومَ وَالْمُ ْمتَنِ َع َوالْمُقَ َّد َراتِ\" .16وهذا هو التصور الاسميفي المعرفة ويقابله عند الواقعيين اعتقاد الإمكانات العقلية المتعددة أنها موجودة بالخارج ومن ذلك اعتقاد أن العدم شيئاوالصحيح أنه ليس بشيء إلا في الذهن .وأما في الاتجاه السفسطائي فهو يستغل هذا التنوع العقلي في الممكنات من أجل نفيالحقيقة أو نفي الوصول إليها .والإمكان الذهني يختلف عن الإمكان الخارجي .فالإمكان الذهني هو أن يعرض الشيء علىالذهن فلا يعلم امتناعه ،لا لعلمه بامتناعه بل لعلمه بعدم امتناعه ،والامكان الخارجي :يحصل بعلمه بوجوده أو وجود نظيرهأو وجود ما هو أبعد منه .يقول ابن تيمية\" :الإمكان يستعمل على وجهين إمكان ذهني وإمكان خارجي فالإمكان الذهني أنيعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه بل يقول يمكن هذا لا لعلمه بإمكانه بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذاك الشيءقد يكون ممتنعا في الخارج .وأما الإمكان الخارجي فأن يعلم إمكان الشيء في الخارج وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارجأو وجود نظيره أو وجود ما هو ابعد عن الوجود منه فإذا كان الابعد عن قبول الوجود موجودا ممكن الوجود فالأقرب إلىالوجود منه أولى .17ويتبع مفهوم الإمكان الوجودي والذهني مفهوم آخر هو مفهوم التشارك الذهني والوجودي .فالتشاركفي الإمكان الوجودي موضوع الرياضي التطبيقي وأما التشارك في الامكان الذهني فهو موضوع العلم الصوري الخالص مثل الرياضيات الخالصة.18 14النظر والعمل ،أبو يعرب المرزوقي.139 ، 15اعترض الاستاذ رائد باعتراضات شتى على معيار المطابقة وجاء بنصوص كثيرة تدل على أن ابن تيمية يقول بمعيار المطابقة ولكن عندتفحص النصوص والسياقات المختلفة لهذه النصوص نجد أنها أتت بصيغ كثيرة لا تتعارض مع الاسمية ولا علاقة لها بما ينفيه أبي يعربالمرزوقي وينفيه ابن تيمية أيضا .فمن هذه النصوص ما يرجع إلى المطابقة بين الإدراكات الحسية وإدراكاتنا العقلية ومنها ما يرجع إلى العلاقةبين الكلي وأفراده وأنها مثل انطباق العام على أفراده .ومنها المطابقة التابعة لصحة المقدمة المأخوذة من الوحي فهنا المقدمة التي هي أساسالاجتهاد العقلي ليست مقدمة اجتهادية بل مقدمة يقينية .وتارة تأتي بمعنى السعي إلى المطابقة دون الجزم بها .وهذه المعاني كلها يقول بها المرزوقي ولا يخالف فيه وإنما الذي ينفيه هو زعم مطابقة الاجتهاد الانساني الوجود الخارجي. 16مجموع الفتاوى ،ابن تيمية .163/2 ،ا 17مجموع الفتاوى ،ابن تيمية ،ص224: 18إصلاح العقل في الفلسفة العربية ،أبو يعرب المرزوقي ،ص.267 21 13
ويتبع مفهوم الإمكان الوجودي والذهني مفهوم آخر هو مفهوم التشارك الذهني والوجودي .فالتشارك في الإمكانالوجودي موضوع الرياضي التطبيقي وأما التشارك في الامكان الذهني فهو موضوع العلم الصوري الخالص مثل الرياضيات الخالصة.19الوجود الذهني يدخله الخطأ وأما الوجود الخارجي فهو الوجود الحقيقي الذي من خلاله يصحح الانسان تصوراتهومفاهيمه\" .20معلوم أن الحقائق الخارجية المستغنية عنا لا تكون تابعة لتصوراتنا بل تصوراتنا تابعة لها فليس إذا فرضناهذا مقدما وهذا مؤخرا يكون هذا في الخارج كذلك\" وهذا الأمر واضح في التصور الاسمي أما في التصور الواقعي فتصبحالتصورات حاكمة على الوجود لأنهم ألغوا الثراء الوجودي واعتبروا ما وصلوا إليه من معارف حاكمة على الوجود وأما فيالاتجاه السفسطائي فيعتبرون حصول الخطأ في التصور الذهني مدخلا لنفي القدرة على الوصول إلى الحقائق في الوجود الخارجي.لقد استطاع ابن تيمية حل العديد من الإشكالات المعرفية من خلال هذه النظرية النقدية المقابلة للنظريات المعرفية السابقة ومن هذه التطبيقات:حل إشكال العلاقة بين الماهية والوجود من خلال التفريق بين الوجودين\" :الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيءوالوجود هو نفس ما يكون في الخارج منه وهذا فرق صحيح فإن الفرق بين ما في النفس وما في الخارج ثابت معلوم لا ريب فيهوأما تقدير حقيقة لا تكون ثابتة في العلم ولا في الوجود فهذا باطل .ومعلوم أن لفظ الماهية يراد به ما في النفس والموجودفي الخارج ولفظ الوجود يراد به بيان ما في النفس والموجود في الخارج فمتى أريد بهما ما في النفس فالماهية هي الوجود وإنأريد بهما ما في الخارج فالماهية هي الوجود أيضا وأما إذا أريد بأحدهما ما في النفس وبالآخر ما في الوجود الخارج فالماهيةغير الوجود ومعلوم أن الاتجاه الواقعي يجعل الماهية غير الوجود إذا أريد بهما ما في الخارج وأما الاتجاه السفسطائي فما دام يشكك في الحقائق والحواس فهو يشكك في الوجود والماهيات أيضا.َص ِحيح. َفغير يجر لم َف ِإذا استقامة على جرى ِإذا َع َل ْي ِه وبرهان ا ْلعلم يمعجراربيالما ْلر َعزاوَدقاي،ت َتصْصِ7حي6ح.2لاَذ ِلك إيقصولالحالاالمعاقم اللفيشاالطفبلي:سَت ْنف ِزةي اللاعْلرعبليةم،عأبلىو 19 20 بدائع السلك في طبائع الملك ،ابن الأزرق ،ص .76ا 21الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص.71: 22الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص .67:ا 21 14
حل إشكال الصفات اللازمة الذاتية والعرضية\" :ولا ريب أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم إلى ما لزومه ب ّين للإنسانوإلى ما ليس هو بي ّنا بل يفتقر ملزومه إلى دليل وكونه بينّا للإنسان وغير ب ّين ليس هو صفة الشيء في نفسه وإنما هو إخبارعن علم الإنسان به وتنبيه له فهو إخبار عن الوجود الذهني لا الخارجي ولكن الواقعيين لم يكونوا مدركين لذلك وظنواأن الصفات الذاتية والعرضية هي فعلا كذلك في الأشياء الخارجية وليس حسب ما يبدو لنا ورتبوا على كلامهم هذا علمالمنطق وخصوصا مفهوم الحد الذي يدرك الماهيات .وأما الاتجاه السفسطائي فالتشكيك في الوجود الخارجي يمنعه من تقسيم الصفات فربما كان الذاتي عرضي في الحقيقة وربما كان العرضي ذاتي في الحقيقة.ويتبع ذلك أيضا أن ابن تيمية يرى أن الصفات لا تستقل في وجودها عن الذوات ،وبالتالي فإن وجودها لا يسبق وجودالذوات .يقول رحمه الله \" :كَوْ َن ا ْل َوصْفِ ذَاتِ ّيًا لِلْمَوْصُو ِفُ :ه َو َأمْ ٌر َتابِ ٌع لِ َح ِقي َقتِهِ ا َلّتِي ُه َو ِب َها سَوَاءٌ َتصَ َوّرَ ْتهُ أَ ْذهَانُنَا َأ ْو َل ْمَتتَصَ َّو ْر ُه .فَلَا بُدَّ إذَا كَانَ َأ َح ُد الْ َوصْفَيْ ِن َذاتِيًّا دُو َن ا ْلآخَرِ َأنْ َيكُو َن الْ َف ْر ُق بَ ْينَ ُهمَا أَ ْم ًرا َيعُودُ إلَى حَ ِقيقَ ِتهِمَا الْ َخارِجَةِ ال ّثَابِتَةِبِ ُدونِ الذِّ ْهنَِ .و ِإمَّا َأنْ َي ُكونَ َبيْنَ الْحَ َقا ِئ ِق ا ْل َخا ِر َج ِة مَا َلا َح ِقيقَ َة َلهُ إ َلّا ُمجَ َرّ ُد التَّقَدُّمِ َوالتَّ َأخُّ ِر فِي ال ّذِهْنِ َفهَذَا لَا َي ُكونُ إ َّلا أَ ْن َتكُونَ الْ َح ِقيقَ ُة َوا ْلمَاهِ َيّ ُة هِيَ مَا ُي َق َّد ُر ِفي ال ّذِ ْه ِن لَا مَا ُيوجَدُ ِفي ا ْلخَارِ ِجَ .وذَلِ َك َأ ْم ٌر يَتْ َب ُع َتقْدِي َر َصاحِ ِب ال ِّذ ْهنِ\".24ويقول كذلك في سبيل التأكيد على هذه القضية أن تصور الشيء دون تصور صفا ٍت له لا يكون إلا في الذهن ،وأما الموجودفي الخارج فلا بد أن يكون له صفات\" :والواحد الذي قالوا إنه لا يصدر عنه إلا واحد هو الواحد المسلوب عنه الصفات كلهابل هو الوجود المقيد بكل سلب وهذا لا حقيقة له إلا في الذهن وأما الواقعيون فاعتبروا العدم شيئا بناء على ما ذكرناه من إضفائهم البعد الوجودي على الكليات العقلية.ساهم مذهب التفريق بين الوجودين في مسألة تقسيم العلوم تقسيما مختلفا عن التقسيم السائد الذي كان يتبع التفريقبين العلم النظري والعملي أو التفريق بين العلوم القائمة على الضرورة وتلك القائمة على الحرية ،وفي النص التالي يتحدث ابن تيمية عن تقسيم العلوم عند الفلاسفة اليونان فيقول :ولهذا كانت العلوم عندهم ثلاثة -أما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الطبيعي وموضوعه الجسم. -وأما علم مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج وهو الرياضي كالكلام في المقدورات المعدودة والمقدار والعدد. 23الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص 399:ا 24مجموع الفتاوى ،ابن تيمية .100/9 ،ا 25الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص.232 26الرد على المنطقيين ،ابن تيمية153 ،21 15
-وأما ما يتجرد عن المادة فيهما وهو الإلهي وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود كانقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض\" .وإنما تصوروا أمورا مقدرة في أذهانهم لا حقيقة لها في الخارج ولهذا كان منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمتهم هو الوجود المطلق الكلى أو المشروط بسلب جميع الأمور الوجودية\".27حل مسألة الكليات -وهي مسألة فلسفية مشهورة -من خلال التفريق بين الوجودين :والكلي لا يكون كليا إلا في الذهنفإذا عرف تحقق بعض أفراده في الخارج كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليا موجبا فانه إذا أحس الإنسان ببعض الأفرادالخارجية انتزع منه وصفا كليا لا سيما إذا كثرت أفراده فالعلم بثبوت الوصف المشترك لأصل في الخارج هو أصل العلم بالقضيةالكلية وفي نص آخر يتمم المعنى يقول ابن تيمية \" :الكلي الطبيعي في الخارج فمعناه أن ما هو كلي في الذهن هو مطابقللأفراد الموجودة في الخارج مطابقة العام لأفراده والموجود في الخارج معينا مختص ليس بكلي أصلا ولكن فيه حصة من الكلي.وما في الذهن يطلق عليه أنه قد يوجد الخارج كما يقال فعلت ما في نفسي وفي نفسي أمور أريد فعلها ومنه قوله تعالى{ :إلاحاجة في نفس يعقوب قضاها} وقول عمر كنت زورت في نفسي مقالة أحببت أن أقولها ونظائره كثيرة .والكلي إذا وجد في الخارج لا يكون إلا معينا لا يكون كليا فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن .حل أصناف القضايا اليقينة عند الفلاسفة وغيرهم\" :بيان أصناف اليقينيات عندهم التي ليس فيها قضية كلية :فإذا كان لا بد في كل قياس من قضية كلية فنقول المواد اليقينيات قد حصروها في الأصناف المعروفة عندهم. .1أحدها:الحسيات ومعلوم أن الحس لا يدرك أمرا كليا عاما أصلا فليس في الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمةفي البرهان اليقيني وإذا مثلوا ذلك بأن النار تحرق ونحو ذلك لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية وإنما معهم التجربةوالعادة التي هي من جنس قياس التمثيل لما يعلمونه من الحكم الكلى لا فرق بينه وبين قياس الشمول وقياس التمثيل وإنعلم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة فالعلم بأن كل نار لا بد فيها من هذه القوة هو أيضا حكم كلى .ولا أعلم فيالقضايا الحسية كلية لا يمكن نقضها مع أن القضية الكلية ليست حسية وإنما القضية الحسية أن هذه النار تحرق فان الحسلا يدرك إلا شيئا خاصا وأما الحكم العقلي فيقولون إن النفس عند رؤيتها هذه المعينات تستعد لان تفيض عليها قضية كليبالعموم ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل ولا يوثق بعمومه أن لم يعلم أن الحكم العام لازم للقدر للمشترك وهذا إذا علم علم في جميع المعينات فلم يكن العلم بالمعينات موقوفا على هذا. 27الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص.325 28الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص233 29الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص .135ا21 16
.2والثاني:الوجديات الباطنة كإدراك كل أحد جوعه وعطشه وحبه وبغضه وألمه ولذته وهذه كلها جزئيات وإنما يعلم الإنسان حالغيره والقضية الكلية بقياس التمثيل بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئي منها كما قد يشتركون في إدراك بعضالحسيات المنفصلة كالشمس والقمر ففيها من الخصوص في المد ِرك والمد َرك ما ليس في الحسيات المنفصلة وإن اشتركوا في نوعها فهي تشبه العاديات. .3والثالث:المجربات وهي كلها جزئية فان التجربة إنما تقع على أمور معينة وكذلك المتواترات فان المتواترات إنما هو ما علم بالحس من مسموع أو مرئي فالمسموع قول معين والمرئي جسم معين أو لون معين أو عمل معين أو أمر ما معين. .4وأما الحدسيات:أن جعلت يقينية فهي نظير المجربات إذ الفرق بينهما لا يعود إلى العموم والخصوص وإنما يعود إلى أن المجربات تتعلق بما هو من أفعال المجربين والحدسيات تكون عن أفعالهم وبعض الناس يسمى الكل تجربيات. .5فلم يبق معهم إلا الأوليات:التي هي البديهيات العقلية والأوليات الكلية إنما هي قضايا مطلقة في الأعداد والمقادير ونحوها مثل قولهم الواحد نصف الاثنين والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وهذه مقدرات في الذهن ليست في الخارج كلية.فقد تبين أن القضايا الكلية البرهانية التي يجب القطع بكليتها التي يستعملونها في قياسهم لا تستعمل في شيء من الأمورالموجودة المعينة وإنما تستعمل في مقدرات ذهنية فإذا لا يمكنهم معرفة الأمور الموجودة المعينة بالقياس البرهاني وهذا هو المطلوب\"الأوليات وعلاقتها بالوجودين الذهني والخارجي :خلافا للتصور الواقعي فإن مذهب التفريق بين الوجودين يرى أنالأوليات ليست صفة ذاتية في القضية بل هي تابعة لتصور الإنسان لها وترتيبه للقضايا في ذهنه .يقول ابن تيمية \" :فتبينأن الفرق الذي ذكره بين الأوليات والمشهورات من أن الأولي هو الذي يكون حمله على موضوعه في الوجودين حملا أولا ،لا ثانيا ،غلط لا يستقيم ،لا في الوجود الخارجي ،فإنه ليس في اللوازم ترتيب حتى يكون بعضها أولا وبعضها ثانيا ولا فيالذهني .فان الوسط إنما هو الدليل فيعود الفرق إلى أن الأوليات ما لا يفتقر إلى دليل والنظريات ما يفتقر إلى دليل وهذاكلام صحيح متفق عليه لا يحتاج إلى ما ذكروه ولكن هذا يوجب كون القضية أولية ونظرية هو من الأمور الإضافية فقدتكون بديهية لزيد نظرية لعمرو باعتبار تمام التصور فمتى تصور الشيء تصورا أتم من تصور غيره تصور من لوازمه ما لميتصوره ذو التصور الناقص فلم يحتج في معرفته بتلك اللوازم إلى وسط واحتاج صاحب التصور الناقص إلى وسط وأيضا فهذالا يوجب كون المشهورات ليست يقينية كما سنذكره أن شاء الله وفي نص آخر يقول \" :إن الفرق بين القضية البرهانية والبديهية إنما هو بالنسبة والإضافة ،فقد يكون النظري عند شخص بديهيا عند غيره\" 30الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص .303-301مختصرا ا 31الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص .417-416ا 32مجموع الفتاوى ،ابن تيمية ،ج ، 9ص.87 21 17
التفريق بين القطعي والظني بناء على التفريق بين الوجودين ،فالقطعي عند ابن تيمية ليس أمرا موجودا في الخارجوإنما هو قطعي بالنسبة للإنسان لأنه ينتمي إلى عالم الأذهان فليس في الخارج ما يسمى قطعي وإنما ما في الخارج يسمىحقائق وعلمنا بهذه الحقائق هو ما يمكن وصفه بالقطع والظن .وفي هذا المعنى يقول\":كَ ْو ُن ا ْل َمسْأَلَةِ َقطْعِ َيّ ًة َأ ْو ظَنِّيَّ ًة هُوَ أَمْ ٌرإضَافِ ٌّي بِحَسَبِ َحالِ ا ْل ُم ْع َت ِقدِي َن َليْ َس هُ َو وَ ْصفًا لِلْ َق ْولِ ِفي َن ْف ِس ِه؛ َف ِإ ّنَ الْإِنْسَا َن قَ ْد يَ ْقطَعُ ِب َأشْ َياءَ َعلِ َمهَا بِالضَّ ُرو َرةِ؛ أَوْ بِال َّنقْ ِلا ْل َم ْعلُومِ ِص ْد ُقهُ عِ ْن َدهُ وَ َغ ْي ُرهُ لَا َي ْعرِ ُف ذَلِ َك لَا َقطْعًا َو َلا ظَ ًنّاَ .وقَ ْد يَ ُكو ُن ا ْلإِنْسَانُ ذَكِ ًّيا َقوِ َّي ال ّذِهْنِ سَرِيعَ ا ْل ِإ ْد َرا ِك َفيَعْرِ ُف مِنْا ْلحَ ِّق َو َيقْطَ ُع بِهِ مَا لَا يَ َت َصوَّ ُر ُه غَيْرُهُ وَلَا َيعْ ِر ُف ُه لَا عِلْمًا وَ َلا ظَ ًنّاَ .فا ْل َق ْطعُ َوال َظّنُّ يَكُو ُن ِبحَ َسبِ َما وَ َصلَ إ َلى ا ْلإِنْسَا ِن مِ ْن ا ْلأَدِ َلّةِوَبِ َح َسبِ ُق ْد َرتِ ِه عَلَى الِاسْ ِتدْ َلا ِل َوالنَّا ِس يَ ْخ َتلِ ُفونَ ِفي هَذَا وَ َه َذا فَكَ ْو ُن ا ْل َم ْس َأ َل ِة َق ْط ِعيَّةً َأوْ َظ ّنِيَّةً َل ْي َس هُوَ صِفَةً ُم َلا ِز َمةً لِ ْل َق ْو ِل ا ْلمُتَنَا َزعِ فِيهِ\".33حل إشكال العلاقة بين الحقيقة والمجاز :في هذه المسألة نلاحظ امتداد آثار مذهب التفريق بين الوجودين إلى المجالاللغوي .يقول ابن تيمية في نقد التفريق بين الحقيقة والمجاز :إ َنّ الْ َحقِيقَةَ َما َيسْبِقُ إلَى ال ّذِ ْه ِن ِع ْندَ ا ْلإِ ْط َلاقِ؛ َفمِ ْن َأ ْف َسدِا ْل َأ ْقوَا ِل ،فَإِ َنّهُ ُيقَالُ :إذَا َكا َن ال َّل ْفظُ َلمْ ُينْطَقْ ِب ِه إ َّلا ُم َق َّي ًدا؛ فَإِنَّ ُه يَ ْس ِبقُ إلَى ال ّذِهْ ِن فِي كُ ِلّ مَ ْو ِض ٍع مِ ْن ُه َما َدلَّ عَ َليْهِ ذَلِ َكالْمَوْضِ ُع .وَأَ َّما إذَا أُ ْطلِقَ؛ َفهُوَ َلا ُي ْستَ ْعمَ ُل فِي الْ َكلَا ِم ُم ْطلَقًا قَ ُطّ َف َل ْم َيبْقَ َلهُ حَا ُل إ ْط َلا ٍق َم ْحضٍ َح ّتَى يُقَا َل :إنَّ ال ِذّ ْه َن َي ْسبِقُ إ َل ْيهِأَ ْم َلا ...كَ َما أَ َّن مَا َي َّد ِعي ِه الْ َمنْطِ ِقيُّونَ مِنْ الْ َم ْع َنى الْمُ ْطلَ ِق ِم ْن َج ِميعِ الْقُيُو ِد لَا ُيو َج ُد إ َلّا ُمقَ َّدرًا فِي ال ِّذهْ ِن لَا يُوجَدُ فِي ا ْل َخا ِر ِجَش ْيءٌ َم ْو ُجو ٌد َخا ِرجٌ َعنْ كُلِّ قَيْدٍ\"َ \" .34والتَّحْقِيقُ :أَ َّن ُه لَا ُيو َجدُ الْمَ ْع َنى الْ ُكلِّيُّ ا ْل ُمطْلَ ُق فِي ا ْل َخارِجِ إلَّا مُ َع َيّنًا ُمقَيَّ ًدا وَلَا ُيوجَ ُد اللَّفْظُالدَّا ُلّ عَلَيْ ِه فِي ا ِلاسْتِعْمَالِ إ َّلا مُ َقيَّدًا ُمخَصَّصًا وَ ِإذَا قُدِّرَ ا ْلمَعْنَى مُجَ ّرَدًا كَانَ مَحَ ُّل ُه ال ِّذهْنَ وَحِينَ ِئذٍ ُيقَ َّدرُ َل ُه لَفْ ٌظ مُ َجرَّ ٌد غَ ْيرُ مَ ْوجُودٍ فِي الِاسْ ِتعْمَالِ ُمجَ ّرَ ًدا\".35التفريق بين الوضع والاستعمال في اللغة يقوم أيضا على أساس التفريق بين الوجودين يتضح ذلك من خلال تقريرات ابن تيمية المرتبطة بهذا الشأن ومنها: .1لا يمكن تجريد اللفظ من الاستعمال ،فكما انه لا يمكن تجريد الحركة عن المتحرك فكذلك العلاقة بين اللفظ والاستعمال. .2وتجريد اللفظ عن الاستعمال ممكن في الذهن ولكن لا ينبغي تسميته لفظ وإنما لفظا مقدرا. .3أما الذين فصلوا الوضع عن الاستعمال فهؤلاء كالمناطقة جردوا المعاني وعزلوها عن 33مجموع الفتاوى ،ابن تيمية 211/19 ، 34مجموع الفتاوى ،ابن تيمية .106-105/7 ، 35مجموع الفتاوى ،ابن تيمية .216/14 ،21 18
سياقاتها وعندما اكتشفوا أن نتائجهم تناقض المعاني وجدوا أنفسهم في حيرة إما أن ينكروا الوجود الخارجي أو ينكروا ما زعموا أنه مطلق .فأثبتوا إنسانا لا طويلا ولا قصيرا ولا أسود ولا أبيض ..ثم رأوا الانسان الخارجي مختلف عن هذا المجرد فقالوا :هذه عوارض خارجة عن حقيقته. .4ولكي نتجنب خطأ الفلاسفة التقليديين علينا أن ننظر للأشياء كما هي في الواقع أي على أنها ك ّل دون أن نهمل أيا من خصائصها وتطبيق ذلك على المعاني يقتضي اعتبار السياق. التفريق بين المعنى والمراد مرتبط كذلك بالتفريق بين الوجودين حيث يرى ابن تيمية رحمه الله : .1استخدم مصطلح المعنى للدلالة على الصورة الذهنية التي يحيل عليها اللفظ. .2والصورة الذهنية سميت تسميات كثيرة باعتبارات مختلفة فهي المعنى حين تكون مقصودة باللفظ ومن حيث كونها تستدعي اللفظ في الذهن سميت مفهوما ومن حيث هي جواب على سؤال ما هذا ؟ سميت ماهية ،ومن حيث تحققها في العالم الخارجي سميت حقيقة ،ومن حيث تميزها عن الأغيار سميت هوية ،ومن حيث كونها موضوعا للفظ سميت مسمى ،ومن حيث كونها مستنبطة سميت مدلولا. .3والدلالة التي هي (فهم المعنى عند إطلاقه) لا تتحقق أبدا دون الاستعمال .وبهذا المفهوم يصبح المعنى مساويا للمراد .وتحييد الفرق بين المعنى والمراد مترتب على عدم التفريق بين الوضع والاستعمال .ومن نتائج هذا التحييد :التقليل من شأن المعنى الوضعي لصالح المعنى الإصطلاحي.ولعلها أهم المسائل وهي استخدام مبدأ التفريق بين الوجودين في نقد أداة العلم الأرسطي الواقعي ويتضح ذلك من خلال النظر في تقريرات ابن تيمية التي أسس عليها نظريته في نقد الحد المنطقي والتي تقوم على أسس منها: .1التصور مختلف عن الدلالة والإشارة لأنه عملية طبيعية في حين أن كليهما عملية وضعية وسياقية\" .مجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره بدون ذلك\" .36وإنما الاسم يفيد الدلالة عليه والإشارة إليه .فالدلالة علاقة بين اللفظ والمعنى والإشارة علاقة بين 36مجموع الفتاوى ،ابن تيمية ،ج ، 9ص.921 19
اللفظ والمرجع الخارجي وأما التصور فهو علاقة بين المعنى والمرجع. .2ولهذا فإن الأسماء والتعريفات لا تضيف شيئا للسامع إذا لم يكن متصورا للشيء من قبل. فالتصور شرط الأسماء والتعريفات. .3التعريف الصحيح هو ما كشف عن مراد المتكلم .37وهذا هو الحد الاسمي ويقابله الحد الواقعي. .4والحد الاسمي هو الذي يعرف بالمعنى أو بالمرجع أو بالترجمة .ومن هنا فالحد الاسمي ليس أمرا محددا سلفا بل هو أمر إجرائي وآني يختلف باختلاف المقامات التخاطبية الفعلية. .5ابن تيمية وضع الحدود في سياق تخاطبي ولكن إذا وضعناها في سياق علمي فقد يتطرق الشك إليها.التفاضل والاختلاف بين الموجودات وعلاقته بالوجودين\" :ال َّناسَ إ َذا َت َك َّل ُموا فِي ال ّتَ َفا ُضلِ وَالِاخْتِ َلافِ فَإِنَّ َما تَكَ َلّمُوا ِفيتَ َفا ُضلِ الْ ُأ ُمورِ ا ْل َموْجُودَ ِة وَاخْتِلَافِ َها َلا ِفي َتفَاضُلِ أَ ْم ٍر ُم ْط َل ٍق مُجَ ّرَدٍ ِفي الذِّ ْه ِن َلا ُوجُودَ لَ ُه فِي الْخَا ِرجِ َومَ ْعلُومٌ أَنَّ ال َّس َوا َد ُمخْتَ ِلفٌفَبَ ْعضُهُ َأشَ ّدُ ِم ْن بَعْ ٍض وَ َكذَلِكَ الْبَيَا ُض وَغَ ْي ُر ُه مِنْ الْ َأ ْلوَانِ .وَأَ َّما إذَا َق َدّ ْر َنا ال ّسَوَا َد الْ ُمجَرَّدَ الْ ُم ْطلَ َق الَّذِي َيتَصَ ّوَرُهُ الذِّهْنُ فَهَذَاَلا يَقْبَ ُل ا ِلاخْتِ َلافَ وَالتَّفَا ُض َل َل ِك ّنَ َه َذا ُهوَ ِفي ا ْل َأذْهَانِ لَا فِي الْأَ ْعيَانَِ .و ِمثْ ُل َه َذا ا ْل َغلَ ِط وَقَ َع فِيهِ َك ِثيرٌ مِنْ الْخَا ِئضِينَ فِي أُ ُصولِالْ ِف ْق ِه َح ْي ُث َأنْ َكرُوا تَفَاضُ َل ا ْل َع ْق ِل َأوْ الْ ِإي َجا ِب أَوْ ال َتّ ْحرِيمِ َوإِنْكَا ُر التَّفَا ُض ِل فِي ذَ ِلكَ قَ ْو ُل الْ َقاضِي أَبِي بَ ْك ٍر َوابْنِ َع ِقيلٍ َوأَ ْمثَالِ ِهمَا َلكِ َّن ا ْلجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِ ذَ ِل َك\".38حل إشكال وحدة الوجود عند غلاة المتصوفة من خلال التفريق بين الوجودين :يقول ابن تيمية رحمه اللهَ \" :غايَ ُة َحقِيقَ ِةَهؤُ َلاءِ إنْكَارُ \" أُ ُصو ِل الْ ِإيمَانِ \" ِبأَ ْن ُيؤْ ِمنَ ِباَل َّل ِه وَ َملَائِكَتِ ِه َو ُك ُتبِهِ وَ ُر ُسلِ ِه َوالْ َيوْمِ ا ْلآ ِخرِ َوحَقِي َقةُ َأ ْم ِرهِمْ جَحْ ُد ا ْل َخالِ ِق َف ِإ ّنَ ُه ْم جَ َع ُلواوُجُودَ ا ْل َمخْلُوقِ ُه َو ُوجُودُ الْخَالِقِ وَقَالُوا :ا ْلوُجُو ُد َواحِدٌ َو َل ْم يُمَ ِّيزُوا َب ْينَ الْ َوا ِحدِ بِالْعَ ْي ِن َوا ْلوَاحِ ِد ِبال َّنوْ ِع فَ ِإنَّ ا ْل َموْ ُجودَاتَِتشْ َت ِر ُك فِي ُم َس َّمى الْوُ ُجو ِد كَ َما تَشْ َترِكُ الْ َأ َنا ِسيُّ فِي مُسَمَّى الْ ِإنْ َسانِ وَا ْلحَ َي َوا َناتُ فِي مُ َس َمّى ا ْلحَ َي َوا ِن َو َل ِك َّن هَذَا الْمُ ْشتَرَ َك الْكُ ِلّيََّلا َي ُكو ُن مُشْتَ َر ًكا كُ ِّليًّا إلَّا فِي ال ِّذهْ ِن وَ ِإ ّلَا فالحيوانية ا ْلقَائِمَةُ بِهَ َذا ا ْل ِإ ْن َسا ِن لَ ْي َستْ هِيَ الْحَيَ َوانِيَّةُ الْ َقا ِئمَةُ ِبالْ َفرَسِ َووُجُو ُد ال َّسمَوَاتِ لَيْسَ هُ َو بِعَ ْينِ ِه وُجُودُ ا ْلإِنْ َسانِ فَوُ ُجو ُد الْ َخا ِلقِ َج َّل جَ َلالُ ُه لَ ْيسَ هُ َو كَ ُو ُجودِ مَ ْخ ُلوقَا ِت ِه\".39 37الرد على المنطقيين ،ج ، 1ص .133 38مجموع الفتاوى ،ابن تيمية.512-511/7 ، 39مجموع الفتاوى ،ابن تيمية.235/11 ،21 20
حل إشكال التحسين والتقبيح من خلال التفريق بين الوجودين :فكرة ابن تيمية كانت وببساطة هي القول بأن صفاتالقبح والحسن ليست ذاتية للأفعال أي أن عالم الأفعال وهو عالم خارجي لا يحوي القيم والأحكام كالحسن والقبح والخيروالشر ولكن كل هذه الأحكام تأتي من عالم الأذهان أو التصورات التي يرى الانسان من خلالها أن فعلا ما حسنا أو قبيحا.ولذا فمصدرية الحسن والقبح تأتي من العقل ومن الشرع أيضا ومن العادات الاجتماعية والأعراف وغيرها .يقول رحمهالله\" :ومن الناس من يظن أن الحسن والقبح صفة لازمة للموصوف وان معنى كون الحسن صفة ذاتية له هذا معناه وليسالأمر كذلك بل قد يكون الشيء حسنا في حال قبيحا في حال كما يكون نافعا ومحبوبا في حال وضارا وبغيضا في حال والحسن والقبح يرجع إلى هذا وكذلك يكون حسنا في حال وسيئا في حال باعتبار تغير الصفات\".40 نستخلص من هذا الفصل أن المعرفة من منظور اسمي هي ثمرة التفريق بين الوجودين الذهني والخارجي وأن هذا المبدأ الذي قال به ابن تيمية كان له آثار معرفية كثيرة على فكره ولعل أهمها هي تلك الطلاقة العلمية التي كان يتمتع بها في التعامل مع المعرفة. 40الرد على المنطقيين ،ابن تيمية ،ص.42321 21
1983 ▪ مذهب التفريق بين الوجوديين ▪ باااكااالااوريااوس في ▪ مفهوم الفلسفة عند أبي يعرب المرزوقي الشريعة الإسلامية▪ طبيعة الفن والتمثيل ...مدخل قبل الخوض من جاامعاة الإماام محمد بن سعود سنة في الحكم الشرعي ▪ علل تقييم الخطاب الإسلامي 2013▪ الحسبة في ظل الخلافة وفي ظل الدولة الحديثة▪ مدخل إلى محاولة أبي يعرب المرزوقي ▪ باااكااالااوريااوس في الهندسة الميكانيكية الإصلاحية (ينشر قريبا) ا ل ت ط ب ي قياة من جاامعاة الملاك فهاد للبترول والمعاادن سنة 2007 ▪ شاااهاادة الإعتمااد الاادولي في إدارة المشاريعتصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 28
Pages: