أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
لذلك فإن البحث في مسائل فلسفة الدين كان من المفروض أن يسبقه تحليل أمرين جوهريننكتفي بتحديد اشكاليتهما دون العلاج العميق لئلا نخرج عن مطلوبنا .وهما أمران كونيان لكننانكتفي بوجههما الذي يعلل أدواء الحضارة العربية الاسلامية الذاتية وخاصة ما نتج منها عن الصراعغير المتكافئ مع حضارة تبدو قد حيدتهما في الداخل لتوجههما إلى الخارج اضافة إلى ما عندها منادواء ذاتية كان من المفروض ان تكون حضارتنا أصل البحث في علاجها لا أن تضيف أدواءها إلىأدوائها بمثل هذا الفهم السطحي للإسلام والغرب معا الفهم الذي يجعل وضعيتنا أشبه بالمهمات المستحيلة:فأما الفرع الأول فيصف حال التجربة الروحية التي فقدت جذوتها الحية عندنا فقدانا أصبحبمقتضاه الفكر الاسلامي الحالي شبه طحن للهواء لأنه فاقد للعلاقة بالممارسة النظرية والعمليةوتطبيقاتهما في المعرفة الانسانية التي بتنا نستورد فضلاتها تماما كما نستورد فضلات الصناعة بدلتعلم الفكر والصنع فضلا عن فقدانه الممارستين الاصلين قصدت عمل التاريخ الفعلي بحياة لا تخلومن المغامرة والتجريب وعمله الرمزي بالإبداع الفني المعبر عن تلك المغامرة والتجريب .ويسعىهذا الوصف إلى تشخيص أدوائها الماضية والحاضرة واقتراح بعض وجوه العلاج الممكن من استئناف فكر الامة التجربة الروحية الحية.وأما الفرع الثاني فيحلل التجربة الروحية الغربية الحديثة والمعاصرة التي حافظت على جذوتهاالحية بفضل حرية الفكر والنقد .ويسعى البحث إلى تحليلها تحليلا يبرز ثمرات صلاتها بالممارستينالنظرية في علوم الطبيعة والتاريخ والعملية في تطبيقاتهما ونقدهما المتصل بطلب ما بعدهما الفلسفي طلبا يبقي الفكر متصل الحياة ودائم الشباب.ولا بد من التنبيه بالإضافة إلى هذين الامرين الجوهريين إلى مسألتين يكثر حولهما اللغط وينتجان عن عدم الوعي بهما: 61
فأما المسألة الأولى فإن مفهوم الاخلاق قد فقد دلالته العميقة في الوعي الاسلامي فأصبح منجنس مفهوم الدين مقصورا على الشكليات التقليدية من مظاهر التقوى المنافقة .لذلك فلا بد منالتذكير بأن الاخلاق ليست قيما لمجال مخصوص بل هي قيم قيم أو بصورة أدق هي أحكام التعاملبين البشر خلال تبادلهم للقيم الأخرى وخاصة القيم المادية فضلا عن صفات التعامل نفسه.ولنوضح الامر .فهي أولا وقبل كل شيء تتعلق بصفات المتعاملين خلال تبادل قيم الخير والشر (أيالقيم الاقتصادية فكلاهما بالمعنى القرآني خاص بالقيم المادية) وما ترمز إليه من مقاصد الشرعالمحققة لقيام الذات مثل المال الذي هو متعلق بالقدرة والعرض أو الكرامة التي هي متعلقة بالحريةوالعقل الذي هو متعلق بالحرية الفكرية والدين الذي هو متعلق بالحرية العقدية والنفس التي هي متعلقة بشروط السعادة النفسية والعضوية.ومن ثم فالأخلاق ليست نظام القيم بل هي أحكام ممارستها وكيفياتها جميعا لتعلقها بشروطالتعامل الصادق والنزيه بين البشر في مجال التعاوض والعدل خلال التنافس على القيم الماديةخاصة وعلى القيم الاخرى عامة .لذلك يركز القرآن الكريم على الميزان والقسط وعدم الغش فيهما حتى إن التطفيف كيلا أو اكتيالا يعد من أكبر العلامات على النفاق الخلقي.لكن هل يقدر أحد أن يثبت لي أن تربية المسلمين اليوم تنمي هذه القيم؟ أليست مبنية كلها على الغش والكذب والنفاق والدجل حتى إن جل المؤسسات الدينية لا تكاد تخرج إلا الانذال؟وهل كان يمكن للأمراء أن يغتصبوا ما اغتصبوه لو لم يكن الفقهاء لهم على ذلك ظهراء؟ فليقرأأي دارس مستقل الفكر والوجدان سورة آل عمران وسيرى أن القرآن الكريم قد نبه إلى ذلك كله.وليكتف من يفهم جيد الفهم لغة القرآن الكريم بالآية 256من البقرة :ألم تقرن الايمان الحرالناتج عن تبين الرشد من الغي بالكفر بالطاغوت \" :لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم\"؟أما المسألة الثانية فكثيرا ما تسمع مفكرينا الإسلاميين وفقهاؤنا يرددون الزعم بأن الغرب ماديوملحد والشرق روحي ومؤمن .وطبعا فهذا دليل على الجهل بالغرب والشرق معا فضلا عن عدم فهمالمقصود بالروحانية والايمان وبالمادية والكفر حتى أكاد أقول إن الاسلام لو كان كما يصوره مفكرو 62
المسلمين وفقهاؤهم لما بقي على دين محمد إلا العامة التي حولوا إليها الامة بالتربية الاستبداديةالتي ركز عليها ابن خلدون في نقده نظام التعليم في عصره .فقد حصروا الدين في الوعي البدائيبالمقدس وذلك لقصرهم إياه على الطقوس الخارجية واستثناء كل الفنون الجميلة تقريبا ليس منطقوسه فحسب بل وكذلك من حياة المسلمين او في الوحشية التعاملية بين المسلمين وبينهم وبينغيرهم من الامم حتى إن الجهاد الذي اعتبره الرسول الكريم رهبانية الاسلام صار مقصورا على القتال وبات الخطاب الموجه إلى الآخرين مقصورا على التلاعن.والغريب أن الداء الاول (داء حصر الدين في ارغام الظاهرية الفقهية) كان داء الفكر السنيالمغالي الذي ثار عليه الغزالي في محاولة نقد الفقه والكلام السنيين بمحاولة احياء علوم الدينبشحنة تجريبية حية تعيد للوجدان الديني عنفوانه وتحرره من الاقتصار على مظاهر التدينالسطحية .والداء الثاني (داء حصر الدين في ارغام الباطنية السياسية) كان داء الفكر الشيعيالمغالي الذي ثار عليه الغزالي كذلك بمحاولة نقد السياسة والكلام الشيعيين واحياء أعمال الدينبشحنة من الاختيار بدل الوصية في باب السلطان تعيد للوجود الديني بعده المقدس وتحرره من الاقتصار على التوظيف السياسي المنافق.لكن الداءين عما كلا الفريقين لم يبقيا مقصورين على الغلاة منهما :السنة كلها والشيعة كلهاصارتا ضحيتين لهذين الداءين .صار الجميع في الهوى سواء .فعمت الطامة وانحطت الأمة :كلاهماحول الدين إلى ارغام فقهي وعسكرة سياسية سواء كان ذلك باسم فهم الامام للباطن بالعلم اللدني أو فهم المفتي للظاهر بالعلم القياسي.كيف يمكن بعد هذا التمهيد أن نجيب صادقين على السؤال الأول مقتصرين عليه لأن السؤالالثاني من مسألة فلسفة الدين ليس من مشاغلنا حتى وإن كان الجواب عن الاول يتضمن بعض الجواب عن الثاني ضرورة لكونية الداء الذي لا ينبغي أن يخفيه مجال انطباقه:ولما كان الداء عند المسلمين منحصرا في مجال محدود (أرض الاسلام) وذا أثر محدود لقلة الحيلةوكان عند الغربيين شاملا للعالم كله وذا أثر غير محدود لأنه يفسد العالم كله ماديا وروحيا باتالامر من منظور اسلامي كوني لا يهتم بإصلاح شأن المسلمين وحدهم بل بإصلاح شأن الانسانية الكون 63
بحاجة إلى ثورة كونية أساسها وأصلها القيم القرآنية كما نبين في تحليلنا لسوء فهمها الهيجلي. 1 ولنذكر بالسؤالين اللذين اعتبرنا متقدما عليهما سؤال حاضر الاسلام ومستقبله: كيف نفهم راهن فلسفة الدين في الدراسات الاسلامية؟ وكيف أن نستشرف مستقبل دراسات فلسفة الدين عامة وفي بلادنا خاصة؟فالجواب هو بكل بساطة :لا توجد فلسفة دين عندنا لأنه ليس للمسلمين اليوم حياة دينيةحقيقية .فلا يمكن أن نتكلم على فلسفة دين في الدراسات الاسلامية التي لم تتجاوز بعد التاريخالخارجي لآثار باقية ليست في علاقة حية مع التاريخ الحاضر بحكم ما وصفنا .فإذا كان الدين قدفصل نهائيا عن الحياة من حيث هي تاريخ فعلي ومن حيث هي تاريخ رمزي إلا في شكله الرسميالذي يقتل كل التجارب الدينية الحية سواء عند النخب الحاكمة به أو بمحاربته أو عند النخبالمعارض به أو بمحاربته فهو لا يحيا في تاريخ الحاضر إلا بهذه السلوب الأربعة :من حيث هو جزء من خطاب الصراع السياسي المقصور على أبعاده الفقهية سلبا وإيجابا في الحكم أو في المعارضة.والقصد هو أن المسلمين لا يعيشون حقا تجارب دينية حية خلال ممارستهم الانشطة الحية فيالعمران البشري إلا في هذه المعاني السلبية الاربعة فيبدو وكأن الدين هو مدار كل حياتنا في حينأنه مبعد عنها كل البعد بمقتضى هذه المعاني بالذات .ولما كانت هذه الممارسات الحية قابلة للحصرالنسقي الجامع المانع فإنه يمكننا حصر الممارسة الدينية التي لا تكون حية إلا بمصاحبتها وتبادلالتأثير المحيي معها وهي الآن في حال غيبوبة يجعلها أقرب إلى الموت منها إلى الحياة .فالممارساتالحية في أي عمران تنقسم بحسب مجالات القيم إلى مجالات الممارسات القيمية التي يدور حولهاالتنافس الانساني في التاريخ الفعلي وفي التاريخ الرمزي المعبر عنه وفي التاريخ الفعلي المحققللتاريخ الرمزي والتاريخ الرمزي المتعالي عليه :ممارسة قيم الذوق فعلا وانفعالا وممارسة قيمالرزق فعلا وانفعالا وممارسة قيم النظر فعلا وانفعالا وممارسة قيم العمل فعلا وانفعالا وممارسة قيم الوجود فعلا وانفعالا.G.W.F. Hegel, Vorlesungen ueber die Philosophie der Weltgeschichte, G.Lasson, PB, Leipzig Verlag von Felix Meiner, 1920, s.112:“ 1Die Religion unterscheidet sich danach wesentlich, ob ihr Prinzip so ist, dass alles, was zum Begriff des Geistes gehoert, im religioesenPrinzip ausgeglichen ist, sein eigenes bestimmtes Prinzip erlangt hat. Wird der Geist nicht in seiner wahrhaften Tiefe gefasst, so gibt es,wie erwaehnt, Seiten im Leben eines Volkers, wo es unvernuenftig, seiner Willkuer preisgegeben ist oder auf irgend eine Weise sichunfrei verhaelt....So auch bei der Mohammedanischen Religion. Der Fanatismus derselben hat ihre Bekenner getrieben, die Welt zuerobern, ist aber dazu unfaehig, dass ein Staat sich zu einem gegliederten, organischen Statsleben, einer gesetzlichen Ordnung fuer die .Freiheit 64
وكل هذه الممارسات لا تكون حية إلا بشرطين متشارطي الفاعلية :أن تكون حرة وأن تكونتنافسية (ما يسميه القرآن بالتنافس في الخيرات) .ومبدأ الحياة وحكم التنافس هو الوجه الدينيمنها والسمو الروحي فيها أعني ممارستها لذاتها من حيث هي وجدان الحياة ذاته أو الشهود الوجودي.فقيم الذوق هي فعلا ابداع الجماليات بكل أصنافها وهي انفعالا تذوقها .وعن تأثير الانفعالبالفعل تنتج ظاهرة مهمة هي الذائقة الجماعية التي يستند إليها كل فكر نقدي للفنون يعبر عنذوق الامة .وعن تأثير الفعل في الانفعال ينتج تطور الذائقة الفنية .ووحدة الكل هي حياةالابداع الجمالي في حضارة من الحضارات :والأمة الحية لا يحيا خيالها (رمزا للإبداع الرمزي) إلابوحدة الفاعل والقابل والانفعال والفعل الذوقي .فهل لهذا وجود عندنا؟ إم إن مبدعينا المزعومينيكتفون بالنقل السطحي فيجعلوننا منفعلين دون فعل وفقهاؤنا يعتبرون الفن كفرا فيدعون الفنانات للتوبة فتبقى تجربة الابداع الروحي مقصورة على الشعائر كما يحددونها هم؟وقيم الرزق هي فعلا ابداع الثروات بكل أصنافها وهي انفعالا الانتفاع بها .وعن تأثير الانفعالفي الفعل تنتج ظاهرة مهمة هي الامل الجماعي أو شهوة الحياة الرقيقة التي من دونها لا يمكنتحسين الوضع المادي للامة الامل الذي يعتبره ابن خلدون مصدر كل ثروة ورزق وهو في نفس الوقتالموجه للتجويد المادي للمنتجات .وعن تأثير الفعل في الانفعال ينتج تطور الذائقة المادية أو زينةالحياة .ووحدة الكل هي حياة ابداع الثروة أو الابداع الاقتصادي في حضارة من الحضارات:والأمة الحية لا تحيا قدرتها (رمزا للإبداع المادي) إلا وحدة الفاعل والقابل والانفعال والفعلالرزقي .فهل لهذا وجود عندنا؟ إم إن رجال أعمالنا المزعومين يكتفون باستيراد فضلات الاسواقفيجعلوننا منفعلين دون فعل وفقهاؤنا يفتون للتحيل على الربا فيربو أكثر لأن تجربة الابداع المادي مقصورة على الاستيراد؟وقيم النظر هي فعلا ابداع النظريات بكل اصنافها وهي انفعالا تعميق الفكر وتمكين الارادة.وعن تأثير الفعل في الانفعال تنتج ظاهرة مهمة هي تصرف الجماعة على علم وهو ما يمكن أنيخرجها من العامية فلا تبقى مواشي تقودها بعض الخاصة المزعومة فتفعل بها أكثر مما يفعله بهاالاعداء .وعن تأثير الانفعال في الفعل ينتج ترقي الفهم أو فعل التنظير إلى حدود يصبح فيهاالانسان قادرا على النفاذ إلى السماوات ماديا ومعنويا .ووحدة الكل هي عين العقل الذي يمكن أنينسب إلى حضارة من الحضارات :والأمة الحية لا يحيا عقلها إلا بوحدة الفاعل والقابل والانفعال والفعل النظري .فأين نحن من هذا؟ 65
وقيم العمل هي فعلا ابداع المؤسسات بكل اصنافها وهي انفعالا الفعل الجماعي المنظم .وعنتأثير الفعل في الانفعال تنتج ظاهرة مهمة هي تقاسم الجماعة العمل عامة وعمل السلطان على كلعمل في العمران خاصة (وهذا هو جوهر السياسة) بحسب الكفاءة لا بحسب الولاء وهو ما يمكن انيضاعف من قدراتها الإبداعية في المجالات السابقة فضلا عن ازالة اسباب العداء المفسد للتنافسفي الخيرات .وعن تأثير الانفعال في الفعل يصبح من اختارته الأمة لتولي الامر أكثر استجابةللإرادة الجماعية فلا يتحول المولى إلى طاغية لأنه يعلم أن من ينفعل قادر على الفعل وأنه ينفعلبإرادته شرطا في توزيع الاعمال والتعاون العمراني لتحقيق أفضل الشروط للمدينة المسلمة.ووحدة الكل هي حياة الجماعة التي تكون قيمها متعينة في افعالها فلا تقول ما لا تفكر ولا تقول مالا تفعل .فأين نحن من هذا؟ ألسنا لا نقول إلا ما لا نفكر ولا نقول إلا ما لا نعمل؟ ألم نصبح أمةالكذب والنفاق والتدليس الدائم لكل القيم وخاصة لقيم العمل أي لقيم انتخاب القيمين على سلطان القيم؟وأخيرا قيم الوجود هي فعلا ابداع المناظير الوجودية بكل أصنافها شعرية أو فلسفية أو صوفيةأو دينية وهي انفعالا نوع فعل التآنس أو العيش الجمعي تعارفا أو تناكرا .وعن تأثير الانفعال فيالفعل ينتج الوعي التاريخي القصصي للامة وعن تأثير الفعل في الانفعال ينتج نقد الوعي التاريخيالقصير أو الوعي التاريخي العلمي للامة .ووحدة الكل هي هوية الامة أو طابع حضارتها المميز.لكن أين نحن من ذلك كله بعد أن كاد المضغ الميت للفكر الديني الذي انحط إلى كلام وفقه وخطبجمعة في التلفزات يحول الاسلام إلى ايديولوجيا سطحية يخدر بها الشعب الذي عمه الجهل والكذب والنفاق واللامبالاة بالتاريخ فضلا عن الوعي به. 66
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages: