Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الاستحالة الممتنعة أو الدولة والاخلاق - الخاتمة | القسم الثاني - ابو يعرب المرزوقي

الاستحالة الممتنعة أو الدولة والاخلاق - الخاتمة | القسم الثاني - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-04-29 05:13:51

Description: في خاتمة الكلام على الدولة المستحيلة اقتصرت على نظرية الدولة عامة والمنظور الإسلامي. فلم نف الدولة الحديثة حقها.
وبالكلام على رمزها نختم.
ورمز الدولة الحديثة التي قد يشكك البعض في خلقيتها، هي دولة الولايات المتحدة بحجم مكبر، ودولة إسرائيل بحجم مصغر: كلتاهما تمثل ذروة الحداثة.
ومن عدم الأمانة التنكر لحقائق الأشياء بدعوى عدم ذكر ما يتميز به العدو، أو من صار بحكم التاريخ يعتبر رمز العداء للإسلام وحضارته وللمسلمين.
فجل الفرحين بنظرية حلاق، بوعي أو بدونه، دافعهم حكم مسبق بغياب الأخلاق في علامات ظهورها الأساسية: سياسة القوة واقتصاد الاستغلال وثقافة الترف.

Search

Read the Text Version

‫ال‬ ‫أو الدولة والاخلاق‬‫الأسماء والبيان‬





‫في خاتمة الكلام على الدولة المستحيلة اقتصرت على نظرية الدولة عامة والمنظور‬ ‫الإسلامي‪ .‬فلم نف الدولة الحديثة حقها‪.‬‬ ‫وبالكلام على رمزها نختم‪.‬‬‫ورمز الدولة الحديثة التي قد يشكك البعض في خلقيتها‪ ،‬هي دولة الولايات المتحدة بحجم‬ ‫مكبر‪ ،‬ودولة إسرائيل بحجم مصغر‪ :‬كلتاهما تمثل ذروة الحداثة‪.‬‬‫ومن عدم الأمانة التنكر لحقائق الأشياء بدعوى عدم ذكر ما يتميز به العدو‪ ،‬أو من صار‬ ‫بحكم التاريخ يعتبر رمز العداء للإسلام وحضارته وللمسلمين‪.‬‬‫فجل الفرحين بنظرية حلاق‪ ،‬بوعي أو بدونه‪ ،‬دافعهم حكم مسبق بغياب الأخلاق في‬ ‫علامات ظهورها الأساسية‪ :‬سياسة القوة واقتصاد الاستغلال وثقافة الترف‪.‬‬‫وهم مثلهم مثل حلاق وطه عبد الرحمن‪ ،‬يقعون في خطأ المقارنة غير العادلة‪ :‬يقارنون‬ ‫واقع الدولة الحديثة بواجب الدولة الإسلامية بدل عدل المقارنة‪.‬‬‫فالمقارنة العادلة هي مقارنة المثالين في الحالتين‪ ،‬أو مقارنة الواقعين في الحالتين‪ ،‬لا مقارنة‬ ‫واقع الدولة الحديثة بمثال الدولة الإسلامية‪.‬‬‫وبمقارنة المثالين لا أكاد أجد فرقا‪ :‬فكلا المثالين يؤمن بقيم كونية كلاهما له أساس ديني‪،‬‬ ‫ويؤمن بان الأرض موعودة للعباد الصالحين دون سواهم‪.‬‬ ‫‪10 1‬‬

‫وقد يكون لحركة الإصلاح المسيحية في بداية القرن السادس عشر بتبنيها الثورتين‬ ‫الإسلاميتين ‪-‬الحرية الروحية والحرية السياسية‪-‬تأثير في التماثل المثالي‪.‬‬‫وعندما نقارن الواقعين نجد تماثلا كذلك‪ :‬فكلتا الامبراطوريتين ذات نزعة لا حد لتوسعها‪،‬‬ ‫وهي على الاقل في الخطاب تدعي حقوق الإنسان بتأسيس ديني‪.‬‬‫أعلم يقينا أن كلامي هذا لن يرضي لا الإسلامي ولا العلماني‪ :‬فهذا يحقر من رؤية الإسلام‪،‬‬ ‫وذاك يحقر من رؤية الحداثة‪ ،‬وكلاهما يرفض الفهم الموضوعي‪.‬‬‫وهنا لابد من الاستناد مرة أخرى على ابن خلدون‪ :‬فهو لا يطابق بين مثال الدولة الإسلامية‬ ‫وواقعها إلا في الفترة التي يعتبرها شذوذا لا يقاس عليه‪.‬‬‫فلحظة الصدر‪-‬ثلاث عقود ونيف‪-‬لا تخضع لمنطق السياسي من حيث هو سياسي وما يتميز‬ ‫به من فصل بين المثال والواقع والتمييز بين الوازعين الذاتي والأجنبي‪.‬‬‫لذلك فالدولة الإسلامية بعد الصدر أصبح واقعها غير مثالها‪ ،‬وصارت ذات سياسة‬ ‫استعمارية واقتصاد استغلالي وثقافة ترف‪ ،‬مثل كل دولة امبراطورية‪.‬‬‫المقارنة السليمة ليست بين مبادئ القرآن والسنة وواقع الدولة الحديثة‪ ،‬بل بين واقع‬ ‫الدولتين الإسلامية والدولة الحديثة في عنفوانهما التاريخي‪.‬‬‫والمطلوب تحديد دور الأخلاق فيهما إذا قورن واقعاهما‪ ،‬أو إذا قورن مثالهما‪ ،‬وليس بالغش‬ ‫الذي يقارن مثال تلك بواقع هذه‪ ،‬أو مثال هذه بواقع تلك‪.‬‬‫ولا يمكن لمسلم يؤمن بشروط الشهادة العادلة ويطلب المعرفة الموضوعية أن يقبل تخريف‬ ‫ممجدي الأصيل أو الحديث على حساب الحقيقة لذاتها وللاستئناف‪.‬‬‫وعلينا أن ندرك علة التباعد بين المثال والواقع عقليا ودينيا‪ .‬والمعرفة الدينية موجودة‬ ‫في القرآن‪ :‬بنو اسرائيل رفضوا حرية الإيمان وعبدوا العجل‪.‬‬ ‫‪10 2‬‬

‫في الخاتمة الاولى تكلمت على الإرادة والعلم والحياة والوجود ودور كل واحد منها‬ ‫بالمزاوجة بين الأولى والأخير وبين الثاني والرابعة‪ ،‬ولم أذكر القدرة‪.‬‬‫ونحن نعلم أن الإرادة تمثل السياسة‪ ،‬والمعرفة تمثل العلم‪ ،‬وأن الحياة تمثل الفن‪ ،‬وأن‬ ‫الوجود يمثل الرؤى‪.‬‬ ‫القدرة تمثل الاقتصاد وتأليهه عبادة للعجل‪.‬‬‫الاقتصاد هو الذي يجعل واقع الدولة غير مثالها في كل جماعة اسلامية كانت أو حديثة‪:‬‬ ‫فالاستعمار والاستغلال والترف علته دور الاقتصاد في الدول‪.‬‬‫هو الذي يغلب القانون الطبيعي على القانون الخلقي في السياسة (الحكم) والاقتصاد‬ ‫(الثروة) والثقافة (الترف)‪ ،‬وهذا من سنن التاريخ الإنساني عامة‪.‬‬‫وهو في تناسب عكسي مع الفضائل الخلقية‪ ،‬بل هو أصل الرذائل الخلقية عندما يصل‬ ‫التقابل بين الواقع والمثال إلى حد التناقض‪ ،‬فيزول كل أثر للمثال‪.‬‬‫وهو لا يزول بإطلاق لأن قدرا منه يبقى على الأقل لأداء وظيفة تبريرية تخفي بالأقوال‬ ‫ما يحصل بالأفعال‪ ،‬وذلك في كل الدول‪ ،‬إسلامية كانت أو غربية‪.‬‬‫دولة الرسل والخلفاء الراشدين ظاهرة شاذة في تاريخ الإنسانية‪ ،‬وهي عينة تقرب من‬ ‫المثال الذي يحقق الأخوة البشرية بعبادة الله بدل العجل الذهبي‪.‬‬‫وهذا الميل للتحرر من العجل الذي يستعبد به العبادُ العبادَ وعبادة رب العباد‪ ،‬هو القدر‬ ‫الذي لا يزول من السياسة لضرورة الجمع بين الشوكة والشرعية‪.‬‬‫وهذه هي النزعة الواقعية لمفهوم السياسة السني الذي تحرر من اليوتوبيا المثالية التي‬ ‫تجعل وسائل تحقيقها بالذات تأسيسا للاستبداد والفساد‪.‬‬ ‫‪10 3‬‬

‫والقول إن دولة الإسلام خلقية وأن الدولة الحديثة غير خلقية يعني تعليق المسلمين‬ ‫بيوتوبيا مستحيلة التحقيق دائما‪ ،‬وليس في المستقبل فحسب‪.‬‬‫والأخلاق ليست حالا حاصلة‪ ،‬بل هي جهد تحصيل هدفه تحرير الإنسان ما استطاع الى‬ ‫ذلك سبيلا من القانون الطبيعي في صراع سلطانه الفعلي العجل الذهبي‪.‬‬‫وهذا يصح على كل دولة من حيث الموجود‪ .‬والجهاد للتحرر منه يصح عليها من حيث‬ ‫المنشود‪ .‬والفرق بين الموجود والمنشود يحرك التحرر من الطبيعي بالخلقي‪.‬‬‫وهذه هي التربية المكملة للحكم في كل دولة‪ :‬تكميل الأخلاق للقانون‪ ،‬أو بلغة ابن خلدون‪،‬‬ ‫الوازع الذاتي(الضمير) للوازع الأجنبي (الأحكام السلطانية)‪.‬‬‫لو احتكمنا إلى المثال في تقييم الواقع التاريخي‪ ،‬والتزمنا بالموضوعية فقارنا الدولتين‬ ‫الإسلامية والحديثة‪ ،‬لوجدنا هذه أقرب إلى مثالها من تلك‪.‬‬‫وإذا كانت الأخلاق هي هذه العلاقة بين المثال والواقع التاريخي‪ ،‬كانت الدولة الحديثة‬ ‫ممثلة بأمريكا وحتى بإسرائيل‪ ،‬ورغم العداوة‪ ،‬أقرب إلى الأخلاق‪.‬‬‫فواقع الدولة في الإسلام بعد الفترة الاستثنائية لا يختلف كثيرا عما نراه اليوم عند من‬ ‫يدعون الحكم بالإسلام‪ :‬إنها في شبه تناقض تام مع القرآن‪.‬‬‫ومن يريد أن يواصل الكذب عن نفسه‪ ،‬فليقارن أي نظام عربي يدعي الإسلام مع أمريكا‬ ‫أو حتى مع إسرائيل‪ :‬حتى صار ما يجري هناك مصدر لما يجري هنا‪.‬‬‫ولست أدعو لمفاضلة بين المثالين‪ ،‬بل بين علاقة النوعين بمثالهما‪ .‬ولما كان القرب من المثال‬ ‫الذاتي هو المعيار‪ ،‬فالمقارنة لصالح الدولة الحديثة‪.‬‬‫والمسافة الفاصلة بين الدولة الحديثة ومثالها‪ ،‬هي تبنيها سلوكا يبرر سياسة القوة واقتصاد‬ ‫الاستغلال وثقافة الترف‪ .‬وهو ملازم لكل دولة امبراطورية‪.‬‬ ‫‪10 4‬‬

‫فهذا ابن خلدون يقول حتى على دولة الصدر‪{ :‬ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم‬‫فغلبهم وأذن للعرب في انتزاع ما بأيديهم من الدنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم}‪.‬‬‫وهذا السلوك الامبراطوري لم يخل منه حتى العهد الراشدي ومن ثم فهو من طبائع الأمور‬‫السياسية في العلاقات الدولية‪ ،‬وعلته الكونية هي ما في السلوك الإنسان من دور للقانون‬‫الطبيعي‪ :‬فالجماعات البشرية مثلها مثل الجماعات الحية‪ ،‬كلها هدف اجتماعها هو تحصيل‬ ‫رزقها‪.‬‬‫وتحصيل الرزق يعتمد التنافس والصراع داخل المجموعة أولا‪ ،‬ثم بينها وبين المحيطين بها‬ ‫المنافسين على شروط القيام الحيوي للجماعة‪ :‬وهذا يحد من ذاك‪.‬‬‫ولما كان ذلك كونيا‪ ،‬فهو لا يكفي للمقارنة بين الدول‪ ،‬والمفاضلة بينها لا تكون به بل بما‬ ‫لدور محاولات التحرر منه قدر الامكان بالاشرئباب للمثال‪.‬‬‫وتقدير اشرئباب الجماعات لمثالها يكون بتقدير دنوها منها‪ .‬وبهذا المعيار فإن الدولة‬ ‫الحديثة أقرب بكثير من الدول الوسيطة بما فيها الإسلامية‪.‬‬‫ولنبدأ الآن المقارنة بين المثالين ثم بين الواقعين لنقدر المسافة بين المثال والواقع التاريخي‬ ‫في الحالتين فنتجنب الحيف ونتحرر من اليوتوبيا‪.‬‬ ‫ومقارنة المثال تتعلق بما يلي‪:‬‬ ‫‪-1‬الأساس كونية القيم‬ ‫‪-2‬الموقف من التعدد الديني‬ ‫‪-3‬منزلة الإنسان الوجودية‬ ‫‪-4‬الحرية الروحية‬ ‫‪-5‬الحرية السياسية‪.‬‬ ‫‪10 5‬‬

‫ومقارنة الواقع‪:‬‬ ‫‪-1‬مدى الكونية‬ ‫‪-2‬مدى احترام التعدد الديني‬ ‫‪-3‬مدى احترام كرامة الإنسان‬ ‫‪-4‬مدى احترام حريته الروحية‬ ‫‪-5‬مدى احترام حريته السياسية‬‫عشرة مؤشرات‪ :‬خمس للمثال‪ ،‬وخمس للواقع‪ ،‬تمكن من مقارنة موضوعية تحررنا من‬ ‫الأحكام المسبقة للمعرفة النظرية ومن الطرق المسدودة لجدوى الاستئناف العملية‪.‬‬ ‫ونبدأ بالتأسيس‪:‬‬‫أساس رسالة الإسلام ودولته حددته النساء ‪ 11‬والحجرات ‪ 2 13‬في عمومه‪ ،‬لكن تحييزه في‬ ‫التاريخ خضع لآل عمران ‪ :3110‬خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬‫لذلك فسوء تأويل مبدأ الخيرية حد من الأساس الكوني للرسالة والدولة لأنه فصل‬ ‫الخيرية عن شرطها فأصبح الاسم بديلا من المسمى ومن حقيقة الإسلام‪.‬‬‫فخيرية الآية ‪ 110‬من آل عمران لم يبق جواب شرط ‪ 4104‬منها بل فصل عنه‪ :‬ذلك أن‬ ‫الانتساب إلى الخيرية الإسلامية مشروطة بتنفيذ امر ‪ 104‬حدا للمسلم‪.‬‬‫‪َ 1‬يا َأ ُّيهَا ال َّنا ُس ا َّتقُوا َر َّبكُ ُم اَّل ِذي خَلَ َقكُ ْم ِم ْن َن ْف ٍس َوا ِح َد ٍة وَخَلَ َق ِمنْ َها زَ ْو َجهَا َوبَ َثّ مِنْهُ َما رِ َجاًلا َكثِيرًا َوِن َسا ًء ۚ وَا َّتقُوا الَلّ َه اَّلذِي‬ ‫َت َساءَُلو َن بِ ِه وَا ْلأَرْحَا َم ۚ ِإ َّن الَّلهَ َكانَ َعَل ْيكُ ْم رَ ِقي ًبا‬‫‪ 2‬يَا َأ ُّي َها ال َّناسُ ِإَّنا َخَل ْقنَاكُم ِّمن َذكَ ٍر َوأُنثَ ٰى َو َجعَلْنَا ُكمْ شُ ُعوبًا وَ َق َبائِلَ لِتَ َعارَ ُفوا ۚ ِإ َّن أَكْرَ َم ُك ْم عِن َد الَلّ ِه َأ ْت َقاكُ ْم ۚ ِإ َنّ الَّلهَ عَِليم‬ ‫خَ ِبير‬‫‪ُ 3‬كن ُتمْ َخيْ َر ُأ َمّةٍ أُ ْخ ِر َج ْت ِلل َّنا ِس َتْأ ُم ُرونَ بِالْمَ ْع ُرو ِف َو َتنْهَ ْونَ َعنِ الْمُنكَ ِر وَ ُتؤْ ِمنُو َن بِالَلّ ِه ۚ وََل ْو آ َمنَ َأهْ ُل ا ْلكِ َتا ِب َل َكا َن َخيْ ًرا َّلهُم‬ ‫ۚ ِّمنْهُمُ ا ْل ُمؤْمِنُونَ َوَأ ْك َث ُر ُه ُم الْفَاسِ ُقو َن‬ ‫‪ 4‬وَ ْل َت ُكن ِمّنكُمْ ُأ َمّة َي ْدعُو َن إَِلى الْ َخ ْي ِر َو َيأْ ُمرُونَ بِا ْلمَ ْع ُرو ِف وَ َي ْن َهوْ َن عَ ِن ا ْلمُن َك ِر ۚ َوُأوَٰل ِئكَ ُه ُم الْ ُم ْفِل ُحو َن‬ ‫‪10 6‬‬

‫فإذا نفذ المسلم أمر ‪ 104‬انتسب إلى خيرية ‪ 110‬وعلامة ذلك تطبيق النساء ‪( 1‬الاخوة‬ ‫البشرية) والحجرات ‪( 13‬حصر المفاضلة بين البشر في التقوى)‪.‬‬ ‫فلننظر في أساس الدولة الحديثة‪.‬‬‫كان أساس الدولة التي تحررت منها الحداثة مبنيا على أساسين تحررت منهما الحداثة مبدئيا‬ ‫وهما مبدآن قرآنيان‪.‬‬ ‫وقد سميتهما‪:‬‬ ‫مبدأ الحرية الروحية (التحرر من الوساطة الكنسية)‬ ‫والحرية السياسية (التحرر من الحكم بالحق الإلهي)‪.‬‬ ‫ثورة الحداثة تبنت حريتي الإسلام‪.‬‬‫لكنها مثل واقع دولة الإسلام‪ ،‬نكصت عنهما في واقعها فانتقلت من كونية القيم الحداثية‬ ‫إلى ثقافة الاستعمار‪ :‬الواقع في الحالتين نكوص عن المثال‪.‬‬ ‫وأصبح المثال والواقع متناقضين في الحالتين الإسلامية والحداثية‪.‬‬ ‫ومن ينفي ذلك فليشرح لنا الفرق بين الصدر وما تلى الفتنة الكبرى إلى اليوم‪.‬‬ ‫المبدأ الثاني‪:‬‬ ‫الاعتراف بالتعدد الديني في المثال ومدى احترامه في الواقع‪.‬‬‫فالقرآن يقول بالتعدد الديني بل ويعتبره شرط التسابق في الخيرات‪ ،‬لكن مفهوم الذمة‪،‬‬‫الذي يعني قرآنيا حماية أهل الأديان الأخرى‪ ،‬صار نقيض ذاته‪ :‬أصبح تمييزا تحقيريا‪،‬‬ ‫وما كان فضيلة مبدئية أصبح رذيلة ممارسية‪.‬‬‫في الدولة الحديثة‪-‬حتى في مبادئ الثورة الفرنسية‪-‬ما كان يعد احتراما للتعدد الديني‬ ‫والمساواة بين البشر‪ ،‬تحول إلى مفاضلة بين الشعوب والحضارات‪.‬‬ ‫‪10 7‬‬

‫وإذن ففي الحالتين ابتعد الواقع عن المثال‪ ،‬وأصبح المثال مجرد غطاء إيديولوجي لممارسة‬ ‫تناقضه‪ :‬الممارسة تنفي الولاء للمثال في الحالتين‪.‬‬‫وفي الجملة‪ ،‬فإن الإسلام ضد العنصرية والطبقية والجنسية‪ ،‬لكن المسلمين بعد الصدر‬ ‫صاروا عنصريين وطبقيين ومميزين بين الجنسين‪ ،‬ومثلهم الغرب‪ .‬لا فرق‪.‬‬‫لكن المسافة بين المسلمين وأساس حضارتهم‪ ،‬أبعد شقة من المسافة بين الغرب وأسس‬ ‫حضارته‪ .‬وتلك هي علة تخلف المسلمين بالقياس إلى الغرب خلقيا‪.‬‬‫وإذا ظل المسلمون يتوهمون أنهم أفضل خلقيا لمجرد كونهم يسمون أنفسهم مسلمين‪ ،‬في حين‬‫أن حقيقتهم الفعلية هي النكوص إلى ما دون أخلاق الجاهلية‪ ،‬فلا أحد له ذرة من عقل‬‫بمقارنة الواقعين‪ ،‬يعتبر طالبان أو شباب الصومال أو داعش أو بوكو حرام ممثلين للإسلام‬ ‫أو أكثر خلقية من مجرمي الاستعمار‪.‬‬‫بل أكثر من ذلك‪ ،‬لا أحد له ذرة من عقل يمكن أن يعتبر أي نظام عربي‪ ،‬حتى لو ادعى‬ ‫تطبيق الشريعة‪ ،‬أقرب إلى قيم القرآن من أي دولة حديثة مواطنها حر‪.‬‬‫وحقيقة الإسلام ليس مجرد معتقدات وعبادات‪ ،‬بل هو قيم تتحقق في التاريخ الفعلي‬ ‫للإنسانية في مستويي وجودها‪ ،‬مستعمرة في الأرض ومستخلفة فيها بقيمه‪.‬‬‫لم أر إلى حد الآن مسلمين يطبقون شروط الاستثناء من الخسر بشروط سورة العصر‬ ‫الخمسة‪ :‬الوعي به‪ ،‬والإيمان‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬والتواصيان بالحق وبالصبر‪.‬‬‫فإيمان يتعلق بالمثال‪ ،‬والعمل الصالح يتعلق بالواقع‪ ،‬والتواصي بالحق يتعلق بطلب الحقيقة‬ ‫والعلم بقوانين الآفاق والأنفس‪ ،‬والتواصي بالصبر العمل بها‪.‬‬‫كل ذلك عكسه من يسمون علماء الإسلام‪ :‬تركوا الآفاق والأنفس التي يقول القرآن إن‬‫حقيقته تعلم من آياتها‪ ،‬أي إن قوانين الشاهد تعلم من ظاهراتها‪ ،‬فأصبحوا أميين عاجزين‬ ‫‪10 8‬‬

‫عن اكتشاف قوانين الطبيعة والتاريخ (الآفاق) وأخلاق التعامل معهما (الأنفس) ومن ثم‬ ‫فاقدين لشروط القيام المستقل‪ :‬عالة‪.‬‬‫نسوا أن الإسلام عزة وحرية وكرامة وسيادة‪ ،‬فجعلوا بلدانهم عالة على الغرب يستجدون‬ ‫الحماية والرعاية ثم يدعون أنهم متخلقون والغرب لا خلاق له‪.‬‬ ‫تلك هي الظاهرة التي يصفها ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية‪.‬‬‫المتكلم‪ ،‬والفيلسوف‪ ،‬والفقيه‪ ،‬والمتصوف‪ ،‬أربعتهم يرجمون بالغيب ويتركون ما يقبل العلم‪.‬‬‫ثم يأتي من يدعي بتاريخانية مقيتة وبما بعد حداثة لقيطة‪ ،‬فيزعم أن دولة المسلمين‬ ‫المتخلقة لا مستقبل لها لضرورة تجنب الحداثة عديمة الأخلاق‪.‬‬‫فيتوهم الناكصون للجاهلية أن نكوصهم هو أخلاق الإسلام‪ ،‬وأنهم هم بهذا الموقف يمكن أن‬ ‫يمثلوا فرصة لإرجاع الاخلاق إلى العالم بنكوصهم عن المثال‪.‬‬‫لذلك اعتبرت هذا الكلام يمكن أن يكون مسموعا من بوكو حرام‪ ،‬فهم يعتقدون أن الدولة‬ ‫الحديثة منافية للأخلاق لأن بعض عادات أهلها تختلف عن عاداتهم‪.‬‬ ‫فالحضارات لا تقيم بالعادات فحسب‪ ،‬بل بما بين مثالها وواقعها من مسافة‪.‬‬ ‫وفي هذا المضمار فإن المسافة لدينا أبعد شقة وأقرب إلى التناقض المرضي‪.‬‬‫فالتشدد في الحكم على الحضارات يكون بهذا المعيار‪ ،‬لذلك فأنا أكثر صرامة في حكمي علينا‬ ‫مني في حكمي على الغرب‪.‬‬ ‫نحن دون القرآن بسنوات ضوئية‪.‬‬‫وليس المشكل في هذه الدونية‪ ،‬بل في الطريق المسدودة التي ينصح بها بعض أدعياء‬‫التفلسف‪ :‬فليس بالهروب الصوفي يمكن أن تتحقق القيم في التاريخ‪ ،‬وليس بتمجيد صورة‬ ‫‪10 9‬‬

‫وهمية من الماضي يمكن أن تترقى الأمم أو أن تسترد شروط كرامتها‪ .‬فمن لم يستطع‬ ‫الاستعمار في الأرض‪ ،‬ليس أهلا للخلافة اصلا‪.‬‬‫ودون أهلية للخلافة لا معنى للأخلاق‪ :‬فالأهلية هنا تتحدد بقدر جهد اوصل الواقع بالمثال‪،‬‬ ‫وتحرير الإرادة العلم‪ ،‬والقدرة والحياة والوجود من الضرورة‪.‬‬‫والتابع هو من فسدت لديه معاني الإنسانية‪ ،‬فصار عالة في الإرادة والعلم والقدرة والحياة‬ ‫والوجود‪ .‬ويكفي دليلا سلطان الاستبداد والفساد الفاحشين‪.‬‬ ‫‪10 10‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬