Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - الفصل الخامس - ابو يعرب المرزوقي

الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - الفصل الخامس - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-05-10 07:47:52

Description: وعدت في نهاية الفصل الرابع:
- فصلان للعلمين الحقيقيين (الفلسفة والفقه)
- وفصلان للعلمين الزائفين (الكلام والتصوف)
- وفصل خامس لأصلها جميعا أي التفسير.
والتحير في بداية الفصل الخامس هو بأيها نبدأ؟
إذا بدأنا بالفلسفة والفقه، فقد لا نرى فيهما أثر العلمين الزائفين وتغييبهما لفلسفة الدين وفلسفة التاريخ.
وإذن، فالبداية ينبغي أن تكون بالعلمين الزائفين، وأثرهما، وأثر تغييب الفلسفتين الدينية والتاريخية على الفلسفة والفقه، اللذين هما رأس علوم الطبيعة وعلوم الإنسان.
الفصل الخامس نخصصه إذن إلى علم الكلام، بوصفه علما زائفا حال دون وصول الفكر الإسلامي إلى فلسفة الدين من حيث هو ظاهرة كونية وليس طائفة مذهبية.

Search

Read the Text Version

‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬

‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬

‫‪1‬‬ ‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬ ‫‪1‬‬ ‫‪3‬‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫‪4‬‬ ‫إشكالية فلسفة الدين‪ :‬الديني في الأديان‬ ‫‪6‬‬ ‫الكلام علم زائف ألغى العلم الحقيقي للديني في الدين‬ ‫‪7‬‬ ‫الديني في الأديان كما ورد في القرآن‬ ‫‪9‬‬ ‫نتائج ما فعله الكلام بعد نتائج ما حال دونه‬ ‫‪9‬‬ ‫الضرر العام لعلم الكلام‬ ‫‪11‬‬ ‫فساد منهج قيس الغائب على الشاهد العقائد‬ ‫فساد منهج التأويل في العقائد‬ ‫خاتمة‬

‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬ ‫وعدت في نهاية الفصل الرابع‪:‬‬ ‫والتحير في بداية الفصل الخامس هو بأيها نبدأ؟‬‫إذا بدأنا بالفلسفة والفقه‪ ،‬فقد لا نرى فيهما أثر العلمين الزائفين وتغييبهما لفلسفة الدين‬ ‫وفلسفة التاريخ‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فالبداية ينبغي أن تكون بالعلمين الزائفين‪ ،‬وأثرهما‪ ،‬وأثر تغييب الفلسفتين‬‫الدينية والتاريخية على الفلسفة والفقه‪ ،‬اللذين هما رأس علوم الطبيعة وعلوم الإنسان‪.‬‬‫الفصل الخامس نخصصه إذن إلى علم الكلام‪ ،‬بوصفه علما زائفا حال دون وصول الفكر‬ ‫الإسلامي إلى فلسفة الدين من حيث هو ظاهرة كونية وليس طائفة مذهبية‪.‬‬‫فأهم ما يتميز به القرآن الكريم‪ ،‬مرجعية الإسلام الأولى‪ ،‬هو اعتبار الدين ظاهرة كونية‬ ‫وحقيقة منغرسة في الفطرة‪ ،‬وهي واحدة عقدا‪ ،‬وإن تعددت شرعا‪.‬‬‫وما كان هذا تصوره للدين ليس دينا من بين الأديان‪ ،‬بل هو الديني في كل دين‪ ،‬ومن ثم‬ ‫فهو من البداية تأسيس لفلسفة الدين بما هو ظاهرة كونية متطورة‪.‬‬‫والمشكل هو‪ ،‬كيف نصل من البحث في الأديان المختلفة طلبا للديني فيها‪ ،‬كما نبحث مثلا في‬ ‫الأحياء طلبا للحي فيها‪ ،‬انتقالا من وصفها وتنوعها إلى قوانين الحياة الواحدة‪.‬‬ ‫‪12 1‬‬

‫ولنضرب مثالا آخر أوضح لأنه من الإنسانيات‪ :‬كيف ننتقل من علوم النحو للغات المختلفة‪،‬‬ ‫إلى علم اللسانيات؟ أي من قواعد لغة معينة إلى قوانين اللساني عامة؟‬‫مشكل علم الكلام هو أنه بدلا من أن ينتقل من الدين إلى الديني عامة‪ ،‬عاد منه إلى‬‫الطائفي في نفس الدين‪ .‬وبدلا من الصعود إلى وحدة الجنس‪ ،‬نزل إلى ما دون الوحدة‬ ‫العددية‪.‬‬‫فعندما يكون القصد البحث في الديني في الأديان‪ ،‬نصعد إلى درجة ليس المطلوب فيها طلب‬ ‫المفاضلة بينها‪ ،‬كما لا نفاضل بين الأحياء من حيث هي منتسبة إلى الحي‪.‬‬‫المفاضلة حينها لا تكون بينها من حيث الديني فيها‪ ،‬بل من حيث أداؤها لوظائفه‪ ،‬فيكون‬ ‫الأمر متعلقا بما يشبه اختلاف الأعضاء في تطور الحيوانات‪ ،‬وليس بوحدة الوظائف‪.‬‬‫ومثلما أن علم اللسان لا يفاضل بين الألسن من حيث الوظائف‪ ،‬ولكن يمكن أن يفاضل بين‬‫أعضائها‪ ،‬التي هي ما ينتج عن استعمال متكلميها لوظائفها‪ ،‬الاستعمال الذي ينمي‬ ‫الأعضاء‪.‬‬‫وفي مثالنا‪ ،‬فالوظائف هي للديني من حيث هو ديني‪ ،‬أما الأعضاء فهي لهذه العلوم الخمسة‬ ‫التي يستمدها المتدينون بالدين لسد حاجاتهم بمقتضى وظائف الديني في دينهم‪.‬‬ ‫لعل الفكرة شديدة التجريد‪ .‬لكنها من أهم أسس الإسلام‪.‬‬‫ولنضرب مثال الحريتين اللتين هما شرطا التكليف‪ .‬فالحرية الروحية والحرية السياسية‪.‬‬ ‫كيف صنع لهما المسلمون أعضاء تحققهما كوظيفتين للديني؟‬‫ماذا صنع المسلمون خلال التعامل مع هذين الوظيفتين من الأعضاء‪ ،‬التي تقوم بهما حتى‬ ‫يتحقق الديني في دينهم بحسب الحاجة‪ ،‬تكيفا للوظيفي بالعضوي؟‬‫المثال الثاني‪ ،‬اللغة العربية بما هي لسان‪ ،‬لها ككل اللغات نفس الوظائف‪ .‬فكيف أمكن لأمة‬ ‫لم تكد تخرج من البداوة‪ ،‬أن تجعلها تعبر عن علوم اليونان مثلا؟‬‫مشكل علم الكلام هو هذا‪ :‬لم ينتقل من الدين إلى الديني في الدين‪ ،‬كما انتقل علماء‬‫العربية من اللسان العربي إلى اللساني في العربية‪ ،‬ليبدعوا جملة من الأعضاء تجلها تصبح‬ ‫لغة العلم‪.‬‬ ‫‪12 2‬‬

‫لا أنفي أن بعض المتكلمين اقترب من مقارنة الأديان وتقدم فيها‪ ،‬إلى ما يمكن اعتباره‬ ‫وعيا بما يشبه الديني في الأديان‪ ،‬كما فعل البيروني في درسه أديان الهند‪.‬‬‫لكن فكرة الديني كديني بقيت غائـمة رغم كونها قرآنية‪ .‬فلم يقع التمييز بين الإسلام من‬ ‫حيث هو الديني في الأديان‪ ،‬والإسلام من حيث دين المسلمين الفعليين‪.‬‬‫والمعلوم أن القرآن يطبق المعنى الأول للإسلام على ماضي الإنسانية ومستقبلها‪ .‬فما الذي‬‫نتج عن هذا الأمر الذي ألغى كل إمكانية لتأسيس فلسفة الدين‪ ،‬التي هي جوهر القرآن‪،‬‬ ‫والتي بغيابها تحول علم الكلام على علم زائف فجر الأمة‪.‬‬ ‫الكلام علم زائف لأنه يدعي علم ما لا يعلم بالجوهر‪ ،‬ويهمل ما يعلم بالجوهر‪.‬‬‫ولذلك فكل ما يصل إليه المتكلمون هو إما اقوال سلبية‪ ،‬مثل التعطيل‪ ،‬أو مجازفات‬ ‫وخرافات ترجم بالغيب‪.‬‬‫وبلغ الأمر إلى أن أصبح لكل مدرسة عقيدة خاصة بها وادعاء أنها عقيدة الفرقة الناجية‪،‬‬‫واتهام المذاهب الأخرى بانها فرق ضالة‪ .‬وذلك هو القصد بابتغاء الفتنة‪ :‬آل عمران ‪.7‬‬‫فكتاب الأشعري على الإسلاميين مثلا‪ ،‬كان عرضا يحصي للفرق دون أن يبدع أو يمرق أو‬‫يكفر أحدا‪ .‬كان هدفه الحصر والاستقراء الذي كان يمكن أن يكون بداية لتجريد لاحق‪.‬‬‫لكن الكلام سرعان ما أصبح عملا يؤسس لـمنظومات عقدية متنافية فيما بينها‪ ،‬حول ما لا‬ ‫يمكن أن تكون معرفته علمية بمقتضى الحد‪ :‬الذات والصفات وأحوال الآخرة‪.‬‬‫ما سنبينه من أضرار العلم الزائف‪ ،‬لم ينتظرنا لتعلمه السنة بصنفيها التي استعملت الكلام‪،‬‬ ‫وانتهت في الغاية إلى التبرؤ منه‪ ،‬والتي رفضته من البداية‪.‬‬‫وهذه الأضرار صنفان‪ :‬صنف يعود إلى ما فعله‪ ،‬وصنف يعود إلى ما حال دون وجوده‪ ،‬أي‬ ‫إمكانية الكلام التاريخي‪ ،‬الذي هو جزء لا يتجزأ من فلسفة الدين‪.‬‬‫وعلم الأديان التاريخي مقدمة لفلسفة الدين أو لعلم الديني الكلي‪ ،‬وكلام القرآن مليء‬ ‫به مثلما أن علم اللغات التاريخي مقدمة لعلم اللسان الكلي‪.‬‬ ‫‪12 3‬‬

‫ولو تم ذلك‪ ،‬لكانت الآيات القرآنية التي تحدد الديني في الأديان‪ ،‬ولا تلتفت لاختلافاتها‬ ‫العرضية‪ ،‬هي التي تحتل الصدارة في علم الكلام النصي والتاريخي‪.‬‬‫وهذه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم‪ ،‬والمحددة للديني في كل الأديان التي يستعرضها‪،‬‬ ‫تلخصها سورة العصر بالمقومات الخمسة للديني في كل الأديان‪.‬‬‫فهي تتكلم على الإنسان عامة‪ ،‬وليس على المسلم بالمعنى الجزئي‪ ،‬أي على المسلم بالمعنى‬ ‫الكوني وهو الإنسان‪ ،‬فتحدد عناصره الخمسة‪ ،‬وأصلها الاستثناء من الخسر‪.‬‬‫وإرادة الاستثناء من الخسر‪ ،‬تنتج عن شعور الإنسان بأمرين متعارضين‪ ،‬هما التقويم‬ ‫الأحسن‪ ،‬والرد إلى أسفل سافلين‪ ،‬وشروط العودة من الثاني إلى الأول‪.‬‬‫والشروط أربعة‪ ،‬هي مقومات فرعية عن هذا الشعور بما يوصل إلى الديني في كل دين‪،‬‬‫وهي تتفرع عنه أصلا لها‪ ،‬بوصفه الوعي بالمقابلة بين الأمر الواقع والأمر الواجب في حياة‬ ‫الإنسان وإرادة التدارك‪ :‬وتلك هي الفطرة‪.‬‬ ‫وهذه الفروع هي‪:‬‬‫وهي مفهومات تتعين في فعل‪ ،‬هو الحد الأول والأخير لمفهوم المؤمن الخلقي‪ :‬الآمر بالمعروف‬ ‫والناهي عن المنكر المعروف‪.‬‬‫فلسفة الدين‪ ،‬أو الديني في كل الأديان‪ ،‬هي علم ظاهرة الوعي الخلقي بالعلاقة بين‬‫الكمال والخسر‪ ،‬الوعي الذي تترتب عليه إرادة التحرر من الثاني والعودة إلى الأول‬ ‫بهذه الأفعال الأربعة‪.‬‬‫لذلك عرف القرآن المؤمن بتعين هذه الإرادة وأفعالها الأربعة‪ ،‬في فعل الأمر بالمعروف‬‫والنهي عن المنكر إنشاء (آل عمران ‪ )104‬الفعل الذي يحقق الانتساب إلى الأمة الخيرة‬ ‫خبرا (آل عمران ‪.)110‬‬ ‫‪12 4‬‬

‫فكان شرط الإيمان‪ ،‬الحرية أو الإرادة العاقلة الي تتبين الرشد من الغي (البقرة ‪)256‬‬ ‫واعترف بدينين منزلين‪ ،‬وبدينين طبيعيين إيجابا‪ ،‬وبالشرك سلبا‪.‬‬‫فالبقرة ‪ ،62‬والمائدة ‪ ،69‬والحج ‪ ،17‬تؤجل الحكم بين الأديان إلى يوم الدين‪ ،‬وتعد‬ ‫بعضها خيرا {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} إذا توفرت المقومات الـخمسة‪.‬‬‫وتكتمل الصورة في المائدة ‪ ،48‬حيث تعدد الشرعات والمنهاجات أمر مقصود‪ ،‬فالله يريده‬ ‫من أجل تحقيق غاية التدين الحر والصادق‪ ،‬أي استباق الخيرات‪.‬‬‫أصبح الآن بوسعنا أن نحدد الديني في كل الأديان‪ ،‬وأن نعتبره جوهر الرسالة الكونية التي‬ ‫تمثل وظائفه‪ ،‬والتي تتعدد بدرجات التعضي الذي يحقق الوظائف‪.‬‬ ‫والوظائف هي مضمون سورة العصر‪:‬‬‫الوعي بالعلاقة بين الكمال والنقص‪ ،‬وإرادة العودة من الثاني إلى الأول هذا هو الأصل‪،‬‬ ‫وهو أصل خلقي ومعرفي للفرد والجماعة‪.‬‬‫ولما كان التعضي اجتهاديا‪ ،‬وبحسب التطور المدني تربية وسياسة‪ ،‬فإن الديني في كل الأديان‬ ‫يتعلق بوجود الوظائف أولا‪ ،‬والقصد الحسن لتحقيقها بحرية‪.‬‬ ‫ويبقى مجال تحقيقها هو المشكل‪:‬‬ ‫فهل يمكن أن يعتبر ذلك مقوما من مقومات الديني في كل دين؟‬ ‫نعم‪ :‬تعريف الإنسان‪ ،‬أو القصد بإرادة العودة إلى الكمال‪.‬‬‫وهذه الإرادة تتعين في مستويين‪ ،‬هما مستويا التكليف في كل دين‪ ،‬لأنهما من مقومات‬ ‫الديني فيه‪ :‬إرادة الكمال بالأفعال الأربعة في الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬‫كل ما ذكرناه من مقومات‪ ،‬موجود في جميع الأديان‪ ،‬طبيعية كانت أو منزلة‪ ،‬بوصفه وظائف‬ ‫الديني من حيث هو ديني‪ ،‬حتى وإن اختلفت تعضياته التاريخية‪.‬‬‫والقرآن حدد أساس الوظائف في الأعراف ‪ 173- 172‬وهما جوهر الديني الفطري بما هو‬ ‫عهد بين الله وأبناء آدم‪ :‬الشهادة على النفس والمسؤولية الشخصية‪.‬‬‫ذلك هو المشترك بين كل الأديان‪ ،‬وهو الديني في الأديان‪ ،‬ونجده فيها مهما كانت بدائية‬ ‫ومهما بلغت الذروة‪ ،‬تماما كما نجد وحدة البيولوجي في كل حي‪ ،‬من أبسطه إلى أعقده‪.‬‬ ‫‪12 5‬‬

‫وكما نجد وحدة اللساني في كل لسان مهما اختلفت الأعضاء‪ :‬الوحدة الوظيفية بالقوة‬ ‫وبالفعل‪ ،‬وتتحقق بدرجات التعضي‪ ،‬وهي اجتهادات أصحابها التكيفية‪.‬‬‫هذا ما حال علم الكلام دون وجوده‪ ،‬فلم يبق الإسلام الديني في كل الأديان كما يعرف‬ ‫نفسه‪ ،‬رغم تسميته مسلمين كل المنتسبين إلى الأديان السابقة عليه‪.‬‬‫وهو لا يعتبرها سابقة عليه‪ ،‬إذ هو منظومة مقومات الديني فيها‪ ،‬كما وصفنا‪ ،‬أي الديني‬ ‫الفطري الذي من المفروض ان يكون موضوع فلسفة الدين الكوني‪.‬‬ ‫تلك نتيجة ما لم يفعله الكلام‪.‬‬ ‫لكن نتيجة ما فعله أدهى وأمر‪.‬‬‫فبدلا من السمو إلى الكلي الجامع بين الأديان‪ ،‬والممثل للديني‪ ،‬نزل إلى تفتيت الدين‬ ‫والملة‪.‬‬‫هو لم ينزل إلى الدفاع عن دين معين فحسب‪ ،‬بل هو نزل دون ذلك‪ ،‬لأنه صار يدافع عن‬ ‫تصور إحدى المدارس المتعددة لنفس الدين الذي يدعي الدفاع عنه‪.‬‬‫وفي الحقيقة هو لا يدافع عن الدين‪ ،‬بل عن رؤية معينة يستثني ما عداها من الرؤى‬ ‫للدين الواحد‪ ،‬الذي يدعي حصره في رؤيته معتبرا ما عداها مروقا منه‪.‬‬ ‫وهو بمقومي منهجه‪ ،‬نفي للدين من أصله بمستوييه‪ :‬الغيبي والوحيي‪.‬‬ ‫فقيس الغيب على الشاهد‪ ،‬ينفي الغيب‪ ،‬ورد النقلي إلى العقلي بالتأويل‪ ،‬ينفي الوحي‪.‬‬‫فيتبين أن ما لم يفعله سببه ما فعله‪ :‬فعدم الصعود إلى الديني في الأديان‪ ،‬جعله في الحقيقة‬ ‫ينفي الديني من أصله‪ ،‬لأنه لا معنى للديني من دونهما‪.‬‬‫الديني في كل الأديان لا بد فيه من الغيب ومن الوحي‪-‬إذ حتى الأديان الشرقية التي ليس‬ ‫لها أنبياء ورسل‪ -‬فهي تستند إلى هذين المبدئين حتما‪.‬‬‫فمؤسس أي دين لا بد أن يكون ذا صلة بقوة متعالية يترجم عنها‪ ،‬هي عادة عالم آلهة‪،‬‬‫وإلا لكان واضع فلسفة وليس واضع دين‪ .‬ولا بد أن يكون هذا العالم من طبيعة مختلفة‬ ‫عن العالم الدنيوي‪.‬‬ ‫‪12 6‬‬

‫ومضمون سورة العصر مقومات لا يخلو منها دين‪ ،‬بل هي الديني فيه‪ ،‬أعني الإيمان والعمل‬ ‫الصالح (فرديا) والتواصي بالحق والتواصي بالصبر (جماعيا)‪.‬‬‫والاختلاف في فهم هذه المقومات وتأويلاتها‪ ،‬ليست من مقومات الديني ووظائفه‪ ،‬بل هي‬ ‫من مقومات التعضية والتكيف المتطور خلال تاريخ الجماعة الدينية‪.‬‬‫والاختلاف بين المدارس التأويلية بالتعضية التكيفية‪ ،‬لا تعد أديانا‪ ،‬بل هي اجتهادات‬ ‫لتعليم الدين وتفهيمه للجماعة المؤمنة به‪ ،‬لا طوائف متحاربة‪.‬‬‫الطوائف المتحاربة هي التي يصف القرآن الكريم في الآية السابعة من آل عمران علة‬ ‫وجودها‪ ،‬أعني تأويل المتشابه والمتعلق بالمبدأين‪ :‬الوحي والغيب‪.‬‬‫فلا معنى لدين من دون أسرار \"ميستار\"‪ ،‬لأنه في معتقد من يؤمنون به رسالة من عالم‬ ‫مختلف عن العالم الأرضي بالجوهر‪ ،‬فهو علة وجوده ومثل قيمه الأعلى‪.‬‬ ‫فلنثبت الضررين الناتجين عن علم الكلام‪:‬‬ ‫أولا الضرر العام‪ ،‬وقد بينت الآية السابقة طبيعته‪.‬‬ ‫وثانيا كلا منهجي الكلام ينفيان مقومي الديني‪ :‬الوحي والغيب‪.‬‬‫آل عمران‪ 7‬المسألة الأولى‪{ :‬فَأَ ّمَا الَّ ِذينَ فِي قُلُو ِبهِمْ َز ْيغٌ فَ َيتَّبِعُونَ مَا َتشَا َب َه ِمنْهُ ا ْبتِغَاءَ ا ْل ِفتْ َن ِة‬ ‫َوابْتِ َغاءَ َتأْوِيلِهِ}‪.‬‬‫المسألة الثانية‪{ :‬وَ َما يَ ْع َلمُ َت ْأ ِويلَهُ ِإلَّا ال َّل ُه ۗ َوالرَّا ِس ُخو َن فِي ا ْلعِلْ ِم يَ ُقو ُلو َن آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌلَّ ِم ْن‬ ‫عِ ْندِ َربَِّ َنا}‪.‬‬‫فهاتان المسألتان من الآية‪ ،‬كان ينبغي أن يحولا دون وجود هذا العلم الزائف‪ ،‬لأنهما يبينان‬ ‫علتي ضرره على الأمة وما يجعله يحول دون فلسفة الدين‪.‬‬ ‫فعلتا الكلام الذي هو تأويل المتشابه‪ ،‬هما \"زيغ القلوب\" و \"ابتغاء الفتنة\"‪.‬‬ ‫‪-1‬علة فاعلة في نفس المتكلم‪،‬‬ ‫‪-2‬علة غائية في نفسه وأثرها في الجماعة‪.‬‬ ‫وهذا وصف أمين للمتكلمين ولأثر الكلام في الجماعات‪.‬‬ ‫‪12 7‬‬

‫فما من متكلم إلا ويعاني من مرض الزعامة‪ ،‬وما من مدرسة كلامية إلا في فتنة مع المدارس‬ ‫الأخرى‪.‬‬ ‫وما كان ذلك يكون كذلك لو لم يقع التعدي على دلالة القسم الثاني من الآية‪.‬‬ ‫فخلافا للعربية‪ ،‬جعلوا الواو للعطف بدلا من أن تكون كما هي للاستئناف‪.‬‬‫وما هو أخطر من ذلك‪ ،‬جعلوا العطف وكأنه يعني التساوي بين علم التأويل الإلهي‪ ،‬وعلم‬ ‫التأويل الذي ينسب إلى من يتصورون أنفسهم راسخين في العلم‪.‬‬‫فصار الرسوخ في العلم عكس ما حددته الآية التي اعتبرته التسليم بغيب المتشابه قدرة‬ ‫على علم الغيب‪ :‬ذلك أن الكلام في المتشابه ممتنع من دونها‪.‬‬‫فالاعتراض الذي يبدو وجيها‪ ،‬هو كيف نحدد المتشابه الذي ينبغي تجنب تأويله لأنه من‬ ‫الغيب؟‬ ‫وهذا الاعتراض على وجاهته‪ ،‬فيه الكثير من التحيل الكلامي‪.‬‬‫ذلك أن القرآن الكريم استعمل التشابه بمعنيين‪ :‬تشابه المبنى وبهذا المعنى‪ ،‬فالقرآن كله‬ ‫متشابه بمعنى أنه متماثل من حيث سمو فن التعبير والتبليغ‪.‬‬ ‫وتشابه المعنى وهو المنهي عن تأويله‪.‬‬‫وهذا المعنى الثاني هو موضوع الإشكال في علم الكلام‪ :‬فهو المتشابه الذي ينتج عن‬ ‫الخطاب‪ ،‬الذي يوحي بـمماثلة بين عالم الشهادة وعالم الغيب‪.‬‬ ‫بذلك يسقط التحيل الكلامي‪ :‬والآية واضحة في وجوب تفويضه‪.‬‬‫وعبقرية ابن خلدون هي التي دلتني إلى هذا الحل الحاسم‪ :‬ذلك أنه هو‪ ،‬على حد علمي‪،‬‬ ‫من سلم جدلا بأن الواو للعطف وليست للاستئناف‪ ،‬ليميز بين العلمين‪.‬‬ ‫علم التأويل الإلهي هو الوحيد الذي يعلم الغيب‪.‬‬‫علم الراسخين في العلم يعلم أن الغيب لا يعلم‪ ،‬فيفوضه‪ .‬فيصبح علم الكلام ممتنعا إلا في‬ ‫أمرين ثانويين لا علاقة لهما بالعلم‪ ،‬بل هما خطابة وجدل‪.‬‬ ‫‪12 8‬‬

‫الأول للرد على أعداء الدين‪ ،‬والثاني للتدرب على الجدل‪ .‬فهو أولا يعتبر وظيفة الرد‬‫لم تعد ضرورية‪ ،‬لأن الدين استقر‪ ،‬وهو ثانيا يقصر فائدته على التدرب على الجدل‪ ،‬لكن‬ ‫هذه الفائدة تتحقق أكثر بالعلوم الحقيقية‪.‬‬ ‫نمر الآن إلى منهجي علم الكلام لبيان عقمهما‪.‬‬‫الأول هو قيس الغائب على الشاهد‪ .‬هذا المنهج لا يخلو منه علم‪ .‬لكنه في كل العلوم يكون‬ ‫فرضيا للبحث‪.‬‬‫عندما يريد عالم أن يوسع شمول معرفة سابقة على موضوع جديد‪ ،‬يفترض أن هذا‬ ‫الموضوع يخضع لقانون سابق العلم‪ ،‬فيقيسه قيس غائب على شاهد فرضيا ومؤقتا‪.‬‬‫لكن ذلك ليس بعد علما‪ .‬لا بد أن يتحقق من صحة فرضيته بأن يختبر قيسه‪ ،‬ليتأكد من‬ ‫وجود وجه الشبه الذي اعتمد عليه ليوسع علمه‪ .‬وهذا ممتنع في الغيب‪.‬‬‫قيس الغائب على الشاهد مشروط بما يمتنع في الغيب‪ ،‬ومن ثم فهو فاسد في العقائد‪ .‬إنه‬‫غير صالح للكلام في الدينيات المتعلقة بالغيبيات‪ ،‬ويقبل في الفقه لأنه اجتهاد في الشاهد‪.‬‬‫ولذلك قلنا إن استعمال منهج قيس الغائب على الشاهد في الغيبيات‪ ،‬ينتهي في الحقيقة إلى‬ ‫نفي الغيب ورده إلى الشاهد‪ ،‬أو الاحتكام فيه إلى قوانين عالم الشهادة‪.‬‬‫أما المنهج الثاني أعني منهج التأويل‪ ،‬فهو أخطر لأن أصحابه يعترفون‪ ،‬وإن بغير وعي بما‬ ‫وصفتهم به الآية ‪ 7‬من آل عمران‪ :‬التأويل هو رد النقل إلى العقل‪.‬‬‫فإذا كان مفاد هذا المنهج رد النقل إلى العقل عند التعارض‪ ،‬فالقصد أحد أمرين‪ :‬إما أن‬ ‫العقل كاف ولا حاجة إلى النقل‪ ،‬أو أن ما يفضل به ظاهر لفظ‪.‬‬‫والقول إن ما يفضل به نص النقل عن العقل ظاهر لفظا‪ ،‬هو جوهر الموقف الباطني‪ :‬وبهذا‬ ‫المعنى فكل فلاسفة العرب في العصر الوسيط‪ ،‬ومعهم المتكلمون‪ ،‬باطنيون‪.‬‬‫والباطنية‪-‬كما بين الغزالي في الفضائح‪-‬لا يقولون بذلك إلا بتأسيس على الفلسفة‪ ،‬التي‬ ‫تعتبر النقل مجرد أسلوب تبليغ للعامة لحقائق فلسفية هي الباطن‪.‬‬ ‫‪12 9‬‬

‫وحقائق العقل التي يرد إليها النقل في التأويل‪ ،‬تعني أن الوحي ليس إلا مجرد قدرة‬ ‫تبليغية عند الأنبياء لحقائق يعلمها العقل أفضل منه‪ ،‬فترد إليه عند التعارض‪.‬‬ ‫وهذا كله مبني على وهمين‪:‬‬‫وهمان جمعهما ابن خلدون في مفهوم واحد‪ ،‬هو أساس الفلسفة اليونانية منذ بارمينيدس‬ ‫(الشذرة الخامسة)‪ :‬الوجود يتطابق مع العقل‪ .‬وسماه رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬‫ثورة ابن تيمية وابن خلدون هي رفض هذه المسلمة البارميندية والقول بأن الوجود كثيف‬ ‫وليس شفيفا‪ ،‬وأن العقل لا يدرك منه إلا القليل‪ ،‬وذلك اساس الدين‪.‬‬‫ومن هنا تتغير نظرية المعرفة‪ :‬لم يعد القول بالتطابق بين العلم وموضوع العلم أمرا مسلما‪،‬‬ ‫بل العلم محاولة لإدراك ما يشف من الوجود وهو ضئيل‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أن العقل المحدود ليس له معايير التمييز بين الديني والخرافي‪ .‬فالعقل‬ ‫الإنساني بمنهج الأولى‪ ،‬يمكن أن ينزه العقل الإلهي عن اللاعقل‪.‬‬‫ما يتجاوز به العقل المطلق العقل النسبي ليس اللاعقل‪ ،‬بل سر العقل نفسه‪ :‬فلو كان العقل‬ ‫المطلق يختلف عن العقل النسبي باللاعقل‪ ،‬لامتنع خطابه له‪.‬‬‫الدين هو خطاب المطلق للنسبي‪ .‬ومن ثم فهو العقلي الأكمل يتوجه للعقل الأقل كمالا‬ ‫بخطاب جاسر بينهما‪ ،‬ولا يمكن أن يكون خرافيا ليكون للرسالة معنى‪.‬‬‫ولهذا كان القرآن خطابا عقلانيا‪ ،‬ومن أهم علامات عقلانيته الآية السابعة من آل عمران‪:‬‬ ‫جعل العقل يدرك حدوده ليعلم مفهوم الاجتهاد النسبي لعلمه‪.‬‬‫أما الكلام على العلم الحقيقي الذي أفقدنا إياه علم الكلام‪ ،‬الذي عمل زائف أي فلسفة‬ ‫الدين فقد حاولت محاولة أولية علاجها في كتاب بهذا الاسم‪.‬‬‫ولأنها محاولة أولية نسبتها إلى منظور إسلامي‪ ،‬وطبعا فالقصد بالإسلامي هنا هو الإسلام‬ ‫الكوني الذي يعني الفطرة الدينية التي هي الديني في كل دين‪.‬‬ ‫‪12 10‬‬

‫فلنختم ببيان ما وراء طبيعة ضرر العلم الزائف‪ :‬فالأمر كله في موقف باطني من القرآن‪.‬‬ ‫موقف يرى أن له ظاهرا للعامة وباطنا للخاصة‪ .‬وذلك يؤسس لنهاية حريتي الإسلام‪.‬‬ ‫كيف يؤول علم الكلام إلى الموقف الباطني؟‬‫فإذا كان القرآن ظاهره غير باطنه‪ ،‬فمعنى ذلك أنه لا بد له من كنيسة تتوسط بين المرسل‬ ‫والمرسل إليه‪ ،‬فتزول الحرية الروحية وتتبعها الحرية السياسية‪.‬‬ ‫كيف؟‬‫لا بد أن يكون المؤول الناقل من الظاهر إلى الباطن معصوما لا يرد له تأويل‪ :‬فيصبح‬ ‫الحاكم بالحق الإلهي وسيطا سياسيا ضروريا‪ ،‬كالوسيط الروحي‪.‬‬‫علم الكلام من مراحل الانتداب الباطني‪ ،‬وهي جزء مما يسميه الغزالي الخلع‪ .‬وهذا من‬‫فنيات التبشير المسيحي والشيعي اليوم‪ :‬شككه في الإسلام‪ ،‬ثم بشره بأي شيء يملأ الفراغ‬ ‫الحاصل‪.‬‬‫وأهمية هذا الفن مناسبته للفطرة‪ :‬فكل مؤمن يطرأ عليه الشك فيما تسلمه بالعادة‪،‬‬ ‫ويشرع في التفكير الذاتي‪ ،‬وهو مستوى الشك الأول المؤدي للكلام‪.‬‬ ‫والعقل السوي سرعان ما يدرك أن الكلام علم زائف‪ ،‬فيشرع في التفلسف‪.‬‬ ‫وسرعان ما يدرك أنها كلام كذلك‪ .‬فيصل إلى مستوى الشك الثاني‪ :‬غاية الباطنية‪.‬‬ ‫لماذا هي غاية الباطنية؟‬‫كما بين الغزالي في المنقذ‪ :‬الشك الثاني مآله اليأس‪ ،‬ولا مخرج منه إلا بالتعليمية أو‬ ‫بالتصوف (نفي الحريتين جوهر الإسلام)‪.‬‬‫أزمة الغزالي ليست حالة شخصية أو ترجمة ذاتية للغزالي‪ ،‬هي مأساة أي إنسان يعالج‬ ‫القضية الوجودية الناتجة عن علاقة الإيمان بالعلم‪ ،‬فيسعد أو يشقى‪.‬‬‫وهو يشقى إذا كان كما وصفته الآية السابعة في قلبه زيغ ويبتغي الفتنة‪ ،‬فيتوهم أن الوجود‬ ‫شفاف وأن عقله نافذ إلى أسراره بإطلاق‪ :‬فيأخذ طريق إبليس‪.‬‬ ‫‪12 11‬‬

‫وابليس ادغام لـ «أبو ليس\" أي صاحب العدم‪ ،‬ويقابل \"أبو أيس\" أو صاحب الوجود‪.‬‬‫فالأيس والليس كلمتان عربيتان تفيدان الوجود والعدم‪ :‬فليس هي \"لا أيس\" مدغمة‬ ‫(الكندي)‪.‬‬‫لكنه يسعد عندما يدرك بعقله أن الوجود ليس مطلق الشفيف‪ ،‬وأن عقله يعلم‪ ،‬ولكنه‬ ‫يعلم أن علمه نسبي فيكون بذلك حذرا في حريتيه الروحية والسياسية‪.‬‬ ‫والحريتان الروحية والسياسية عين كيانه‪:‬‬ ‫‪-1‬مستخلف = وعي خلقي وحرية روحية صلة مباشرة بالآخرة‬ ‫‪-2‬مستعمر وعي مدني وحرية سياسية صلة مباشرة بالدنيا‪.‬‬‫وهذا هو طريق السعادة الدينية أو الإسلام‪ :‬طريق الإيمان أو التكليف باستعمار الدنيا‬ ‫ليحقق حرية الإنسان وكرامته‪ ،‬فيستأهل الاستخلاف بقيم القرآن‪.‬‬‫وهكذا فقد فرغنا من الكلام في علم الكلام بوصفه علما زائفا يحول دون فلسفة الدين‪،‬‬ ‫التي هي علم الديني في كل ديني‪ ،‬وذلك هو جوهر الإسلام الفطري‪.‬‬ ‫‪12 12‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬