Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore التواصل والتبادل - الفصل الاول - أبو يعرب المرزوقي

التواصل والتبادل - الفصل الاول - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-04-05 07:46:18

Description: أشرع اليوم في دراسة قد تطول كثيرا حول استأنف فيها الكلام على بعض الحيل العقلية التي وضعتها لتفسير القرآن وهي في الحقيقة لفهم ظاهرات التاريخ وسأبدأ بحيلة الحيل مكتفيا بتسميتها من خلال تعينها الرمزي أداة مطلقة أو أداة كل الأدوات وتتمثل في القدرة الرمزية: قيام الاسم مقام المسمى.

Search

Read the Text Version

‫الأسماء والبيان‬



‫‪1‬‬ ‫مقدمة‪:‬‬ ‫‪1‬‬ ‫شرط التواصل وشرط التبادل‬ ‫‪1‬‬ ‫التمثيل الرمزي للتواصل والتبادل‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫التبادل بين الانسان والطبيعة‬ ‫‪3‬‬ ‫التعامد التواصلي‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬ ‫أسبقية التواصل على التبادل‬ ‫‪5‬‬ ‫التعاوض‬ ‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬ ‫خبرة الاختيار والعلاج‬ ‫‪7‬‬ ‫علاقة التربية بالسياسة‬ ‫‪9‬‬ ‫‪10‬‬ ‫الوجود الادماني‬ ‫‪11‬‬ ‫وظيفة التواصل والتبادل‬ ‫الإسلام سياسة ودين‬ ‫التبادل بالواسطة الرمزية‬ ‫أهمية الصدق في التواصل والتبادل‬



‫أشرع اليوم في دراسة قد تطول كثيرا حول استأنف فيها الكلام على بعض الحيل العقلية‬‫التي وضعتها لتفسير القرآن وهي في الحقيقة لفهم ظاهرات التاريخ وسأبدأ بحيلة الحيل‬‫مكتفيا بتسميتها من خلال تعينها الرمزي أداة مطلقة أو أداة كل الأدوات وتتمثل في القدرة‬ ‫الرمزية‪ :‬قيام الاسم مقام المسمى‪.‬‬‫وقد أرجعت الرمز من حيث أداة الأدوات إلى جنسين كلاهما يتعين في رمز شارط لنوعي‬ ‫الفاعلية الإنسانية التي هي في آن شرط وجود وبقاء للفرد والجماعة‪.‬‬ ‫والجنس الأول هو شرط التواصل بين البشر وبينهم وبين الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫والجنس الثاني هو شرط التبادل بين البشر وبينهم وبين الطبيعة‪ :‬حسية رمزية‪.‬‬‫فلا يمكن للإنسان فردا وجماعة أن يوجد وأن يبقى من دون تواصل وتبادل بين البشر‬ ‫ثم بينهم وبين الطبيعة وهما تواصل وتبادل ممتنعان من دون أداة ناقلة‪.‬‬‫والأداة الناقلة والحاملة لما يتم التواصل حوله أو لما يتم تبادله لها القدرة على تمثيله‬ ‫والرمز إليه بصورة مجرده تفصل فيه بين كيانه والمراد منه‪.‬‬‫وللتواصل والتبادل عدة أنواع من التمثيل الرمزي ولذلك تكلمنا على جنس سنميه‬ ‫بشكله الأرقى دون أن نعني بذلك أنه مقصور عليه بل هو شكله الارقى‪.‬‬ ‫فالشكل الأرقى للتواصل بالرمز هو الكلمة وقد سميتها فعل الرمز‪.‬‬‫والشكل الأرقى للتبادل بالرمز هو العملة وقد سميتها رمز الفعل‪ :‬وتسميتهم أنسبها‬ ‫لنفسي‪.‬‬ ‫وهما موجودان دائما حتى قبل أن يصبحا قائمي الوجود بالفعل‪:‬‬ ‫‪11 1‬‬

‫ففي المقايضة العملة هي القيم النسبية إذ هي لا تتساوى الحاجة إليها عند المتقايضين‪.‬‬‫وإذن فتجسيد العملة حتى وإن تأخر فهو مفروض حتى في المقايضة بسبب اختلاف قيم‬ ‫البضائع والخدمات استعمالا وتبادلا في التبادل الاقتصادي عامة‪.‬‬‫ولولا ذلك لما وجدت مكاييل وموازين لتقدير القيم النسبية بين البضائع والخدمات في‬ ‫جميع الأمم والحضارات ونفس ما قلناه عن العملة يقال عن الكلمة‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن تناظرا ما يوجد بين ما يجري في التبادل وما يجري في التواصل بين البشر‬ ‫وبينهم وبين الطبيعة ما يعني أن كليهما ذو توجهين متعامدين‪.‬‬‫فالتبادل بين البشر معامد لتبادل بينهم وبين الطبيعة التي منها يستمدون مددهم الحيوي‬ ‫لكأن كل إنسان شبيه بهاتف جوال‪ :‬فالإنسان يشحن من الطبيعة‪.‬‬‫وهو يشحن منها بالغذاء والهواء والماء ويرد ذلك لها في شكل سماد ثم هو نفسه يرد‬ ‫إليها عندما يدركه الموت فيدفن فيها ليعود إليها على الأقل بدنه‪.‬‬‫لكن هذا التبادل بين الإنسان والطبيعة لا يكون إلا بتوسط التبادل بين الإنسان والإنسان‬ ‫لأن ما يشجن به المرء لا ينتجه بمفرده بل بتقاسم العمل‪.‬‬‫تناسب التبادلين طردي رغم أن التبادل بين الإنسان والطبيعة أساسه قيمة الاستعمال‬ ‫‪ v.d'usage‬والتبادل بين البشر أساسه قيمة التبادل‪.v.d'échange‬‬ ‫لكن هذا الاختلاف يزول في حالات الضرورة بخلاف حالات السلم والرفاهية‪.‬‬ ‫ففي المجتمعات الفقيرة وفي الحروب قيمة الاستعمال أهم من قيمة التبادل‪.‬‬ ‫ففي الصحراء كأس ماء أهم من أطنان الذهب‪.‬‬ ‫وفي الحرب مال قارون لا يسد الحاجة إلى الغذاء‪.‬‬ ‫وهذا هو أساس لهفة البشر على حيازة ما يتجاوز الحاجة‪.‬‬‫فهاجس الخوف من الندرة هو سر وجودها ووجود الاقتصاد وهذا الخوف وأصل الحروب‬ ‫على اقتسام خيرات الأرض بحيازة المكان والصراع عليه لما فيه منها‬ ‫وما ينبغي فهمه هو أن للتواصل كذلك توجهين متعامدين‪:‬‬ ‫‪11 2‬‬

‫فكيف نفهم أن التواصل ليس بين البشر فحسب بل منه ما هو بينهم وبين الطبيعة في‬ ‫تغذية أهم‪.‬‬‫وهي أهم لأنها مطلوبة لذاتها ومطلوبة لدورها في التغذية التي هي الوجه الثاني من‬ ‫التبادل‪ .‬ولم تتقدم نظرية المعرفة إلا بفضل فهم هذه الظاهرة‪.‬‬‫وكلامي على التعامد في التواصل نظير التعامد في التبادل كلاهما من أساسيات فهم القرآن‬ ‫الكريم ولأجل ذلك وضعت هذه الحيل العقلية أو النظريات‪.‬‬ ‫فالعلوم والفنون مستحيلة من دون هذا التعامد التواصلي‪:‬‬‫لو لم يكن الإنسان قادرا على التواصل مع الطبيعة لكان تواصله مع غيره خاليا من‬ ‫المضمون‪.‬‬‫فالعلوم والفنون ثمرة التراكم الحاصل من التواصل بين البشر حول ثمرة التراكم الحاصل‬ ‫بينهم وبين الطبيعة والتاريخ أي وسيطي المعادلة الوجودية‪.‬‬‫وهذا التواصل مع الطبيعة والتاريخ مشروط دائما بطلب ما ورائهما تأسيسا لما يقرأ فيهما‬ ‫باعتباره لغة معبرة عما يمسك بظواهرهما من شرائع أو نواميس‪.‬‬‫وبفضل هذا التواصل مع الطبيعة والتاريخ ومحاولة تأسيس \"لغتهما\" التي يتواصل‬ ‫الإنسان بها معهما هي التي تتجاوزهما إلى القطبين‪ :‬الله والإنسان‪.‬‬‫ولا يهم أسلوب هذا التجاوز فلسفيا كان أو دينيا لأنه في الحالتين يضفي المعنى والقانونية‬ ‫أو النسبة على تمظهرات الطبيعة والتاريخ فتقبل القراءة‪.‬‬‫ولما كانت هذه القراءة ضرورية للعلاقة التواصلية بين البشر وللعلاقة التبادلية بينهم‬ ‫وبين الطبيعة وفيما بينهم فإن التواصل متقدم على التبادل‪.‬‬ ‫والتقدم مضاعف‪ :‬فهو غائي وأداتي‪.‬‬‫غائي لأن الحوار ما الطبيعة والتاريخ هو السبيل إلى كل عبادة عن طريق المعرفة‬ ‫(العلم) والذوق (الفن) بأسلوبيها‪.‬‬ ‫‪11 3‬‬

‫فللعبادة‪:‬‬‫أسلوب مباشر هو توثين الطبيعة (به تبدأ الأديان والفلسفات) والتاريخ (به تختم‬ ‫الأديان والفلسفات)‪.‬‬ ‫وغير مباشر هو تجاوزهما إلى الدين الخاتم‪.‬‬‫فذروة العبادة يجتمع فيها العلم والفن والفلسفة والدين من حيث وحدة الحقائق الأولية‬ ‫شرط المعنى والغاية المطلوبة لذاتها تحررا من تسلسل الذرائع‪.‬‬ ‫فيكون التواصل قلب المعادلة الوجودية‪:‬‬ ‫قبله القطب الأول منبع الوجود (الله)‬ ‫وبعده القطب الثاني مصب الوجود (الإنسان)‪:‬‬ ‫وبينهما هذان الوسيطان‪.‬‬‫الوسيطان هما التواصل بين البشر والتواصل بينهم وبين الطبيعة وهما لحمة التاريخ‬ ‫وسداه لأنهما شرط التبادل وصورته المؤسسة والمضفية للمعنى عليه‪.‬‬‫وليحاول أي قارئ للقرآن بتدبر وسيرى أن لحمة الرسالة وسداها هو ما أحاول بيانه من‬ ‫فوائد حول التبادل والتواصل من حيث سننهما وشروطهما وحروزهما‪.‬‬‫وحتى ندرك ذلك يكفي أن نعلم أن المفهومين ببعدي كل منهما لهما أصل واحد يحتكم‬ ‫إليه في الفروع الأربعة فرعي التواصل وفرعي التبادل‪ :‬التعاوض‪.‬‬‫فإذا كانت الوحدة مقصورة على الله وكان كل ما عداه مؤلفا من عناصر موصولة بلواحم‬ ‫بمقتضى شرائع أو سنن فإن تلاقيهما مشروط بالتعاوض البنيوي بينها‪.‬‬‫فكل منها يأخذ بقدر ما يعطي ويعطي بقدر ما يأخذ وهذا التعاوض هو اساس البنية‬ ‫وكل انخرام فيه يخل بالبنية فيكون خروجا على شريعة التواصل والتبادل‪.‬‬‫لذلك فيمكنني أن أسمي المنطق البديل من الجدل الذي تصور بديلا من منطق عدم‬ ‫التناقض بمنطق التعاوض العادل الموحد بين مقومات المؤلف من المتعدد‪.‬‬ ‫‪11 4‬‬

‫فتكون البنية الأساسية لكل موجود مؤلف من عناصر هي بنية التواصل والتبادل بصنفيهما‬ ‫وهي جوهر كيان الترامز بين شكلهما الرمزي ومضمونهما الوجودي‪.‬‬‫وهذا هو موضوع بحثي في هذه المحاولة التي لا أدري متى تنتهي لأنها أحد الجداول التي‬ ‫تتفرع عن المحيط القرآني الذي لا ضفاف له ولا حد ولا نهاية‪.‬‬‫فكل من تدبر القرآن يعلم أن من أهم ما يتعلق به التشريع القرآن ببعديه القانوني‬ ‫والخلقي يتعلق بمعايير التبادل والتواصل المعبرة عن أسمى خلق‪.‬‬‫وبهذه المعايير أفهم دلالة \"وإنك لعلى خلق عظيم\" خطابا موجها للخاتم ومحددا المميز‬ ‫الأساسي للرسالة الخاتمة بوصفها نظاما قانونيا وخلقيا على علم‪.‬‬‫لذلك فكل من يزعم الفصل بين الديني والسياسي أمرا ممكنا فضلا عن ادعائه ضروريا‬ ‫لنهوض المسلمين إما لم يقرأ القرآن أو هو يؤمن بسياسة المافيات‪.‬‬‫الديني في القرآن هو ما في السياسي ‪-‬تربية وحكما أي أخلاقا وقانونا‪-‬من تحرير له من‬ ‫تحويله إلى فنيات المافية التي تستعبد الناس بدل تحريرهم‪.‬‬‫وذلك بتحريف التواصل والتبادل تحريفا يخل بشروط التعاوض العادل بجعل الكلمة‬ ‫للخداع والعملة للاستتباع بالسلطتين الروحية والسياسية المافيويتين‪.‬‬‫وبهذا المعنى فهو استراتيجية توحيد تدرس استراتيجيات التفريق بين البشر إما بكنسية‬ ‫الاستعباد الروحي أو بسلطة الاستبعاد المادي للتحرر منهما‪.‬‬‫وتلكما هما ثروتا الإسلام‪ :‬إعادة العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه لتحريره من استبداد‬ ‫الوسطاء دور المؤمن في أمره لتحريره من استبداد الحكام‪.‬‬‫نعود لدراسة التواصل ببعديه المتعامدين‪ :‬فهو تواصل بين البشر المتعاصرين والمتوالين‬ ‫وثمرته كل التراث الإنساني من الابداع العلمي والفني عامة‪.‬‬‫وهذا التواصل بين البشر مداره ذاته والتواصل مع الطبيعة والتاريخ بتوسط مبدعات‬ ‫البشر الأداتية والمنهجية لعلاج علاقتهم بمحيطيهم الطبيعي والثقافي‪.‬‬ ‫‪11 5‬‬

‫وبهذين التواصلين يمكن للتبادل بين البشر وبينهم وبين محيطيهم الطبيعي والتاريخ أن‬ ‫يحصل‪:‬‬ ‫فأدواتهما ومناهجهما حصيلة تراكم خبرة الاختيار والعلاج‪.‬‬ ‫فالخبرة الأولى مثلا في التبادل مع الطبيعة هي اختيار ما يؤكل وما لا يؤكل‪:‬‬ ‫التمييز بين النبات المأكول والنبات السام مثلا يتطلب خبرة تتراكم‪.‬‬‫ومناهج التعامل مع منتجات الطبيعة حتى دون تحويل معقد تتطلب تراكم خبرة لا‬ ‫يحصلها الفرد مهما عمر‪.‬‬ ‫هذا فضلا عن هشاشة النشء البشري وتبعيته‪.‬‬‫وهذا كله يوجب أن تكون وجود الجماعة شرط بقاء الفرد والنظام السياسي شرط بقاء‬ ‫الجماعة وهو في آن تربية وحكم أو رعاية وحماية‪:‬‬ ‫مشروع دولة بالقوة‪.‬‬‫وسلسلة هذه الشروط تجعل الكيان العضوي لا يقوم إلا بالتبادل مع الطبيعة المشروط‬ ‫بالتواصل بين البشر فتكون الثقافة الرمزية شرط الثقافة المادية‪.‬‬‫التواصل بين البشر وبينهم وبين الطبيعة والتاريخ متقدم على التبادل لان ما يفرضه هو‬ ‫فشل التبادل مع الطبيعة الحاصل من دونه‪:‬‬ ‫وتلك بداية السياسة‪.‬‬‫وهي تبدأ تربية وتصبح حكما منظما خارج عملية التربية أو هي تتميز عنها بمجرد أن‬ ‫الوزع الذاتي غير كاف لحفظ العلاقات بين الناس دون وازع أجنبي‪.‬‬‫ولما كان البعد التربوي هو الأغلب على الدين (الوزع الذاتي بالمراقبة الإلهية) أصبح‬ ‫البعد الحكمي يبدو وكأنه هو الممثل للسياسي منفردا به‪.‬‬‫لكن السياسي بحق هو الجمع بين البعدين التربوي والحكمي أو بين الوزعين الذاتي‬ ‫والاجنبي أو الباطن الظاهر فتكون السياسة دولة دنيوية وأخروية‪.‬‬ ‫‪11 6‬‬

‫بغياب البعد الأخروي تتحول الدولة إلى دنيوية خالصة فتصبح خاضعة لمعيارين كلاهما‬ ‫يجعل الوازع الظاهر هو المسيطر وهو قوة الوازع الأجنبي والخداع‪.‬‬‫وهذا البتر ليس هو إلا رد فضاء الروح اللامتناهي إلى فضاء البدن المتناهي وهو رد‬ ‫يتوهم صاحبه أنه يستجيب للعقل فيقع في مستنقع الوجود الإدماني‪.‬‬‫ذلك أن روح الإنسان لا يحده البدن ولا العالم بل هو يسبح في اللامتناهي حتى بأجنحة‬ ‫الخيال ولا ينغلق على المحدود إلا باستكمال إدماني يلهيه‪.‬‬‫فالإنسان لا يمكن أن يهدأ في أي حيز محدود إلا إذا صار غارقا فيما يلهيه عن انحباسه‬ ‫فيه كان يصبح عبد الحاجة وتابعا لغيره فيكون متبوعه معبوده‪.‬‬‫وعدم المكوث في الأحياز ولو بالخيال هو جوهر التواصل عندما يتجاوز أبعاده الوظيفية‬ ‫في التبادل ليصبح مطلوبا لذاته وجدان حياة وما يتعالى عليها‪.‬‬‫فإذا تحرر مما يمسك به في التناهي والفاني والمحدود يدرك أنه في صلة مباشرة مع ما‬ ‫يتعالى عليهما حتى ببدنه لأن قيامه مشروط بالمعمورة وكل العالم‪.‬‬‫فالبدن بالتشبيه مع شحن الهاتف لا يعيش إلا بالشحن المتوالي ما ظل حيا فيكون وكأنه‬ ‫دائم الرضاع من الأرض التي تمده بالطاقة وشرط بقاء الحياة‪.‬‬‫وشروط البقاء ليست تبادلا للطاقة لقيام البدن فحسب بل هي كذلك تواصلا لقيام‬ ‫الروح‪ :‬فالإدراكات محسوسها ومحدوسها تغذي الروح تغذية الأرض للبدن‪.‬‬‫وهذا البعد الثاني من التواصل هو الذي يفقده الإنسان عندما يغرق في الفاني فيرد‬ ‫أسفل سافلين لأنه يصبح آكلا كما تأكل الأنعام‪ :‬الحياة المبتورة‪.‬‬‫تكلمنا على التواصل والتبادل ببعديهما المتعامدين في الوظائف المحققة لشروط مقام‬ ‫الإنسان في الدنيا وهما في هذه الحالة شرطا الاستعمار في الأرض‪.‬‬‫لكن التواصل والتبادل لهما وظيفة أسمى رغم كونها مشروطة بهذا المستوى الأول‪ :‬إنها‬ ‫وظيفة تحقيق شروط الاستخلاف الذي هو غاية الاستعمار في الأرض‬ ‫‪11 7‬‬

‫يتواصل الناس فيما بينهم ومع العالم لتحقيق الشروط العلمية والعملية للتبادل الذي هو‬ ‫أيضا فيما بينهم ومع العالم وتلك هي شروط المقام في الدنيا‪.‬‬‫لكن هذا المقام حتى في الدنيا ليس كافيا لأنه يتضمن بعدا متعاليا على الأداء الوظيفي‬ ‫للمقام العضوي إذ يطلب معناه الأسمى‪ :‬هو ذوق جمالي روحي‪.‬‬‫والذوق الجمالي الذي يشبه وميض روح متلقية لعالم أسمى من الوجود الدنيوي بدني‬ ‫ومتجاوز البدن فيجتمع في الوعي صلة المتناهي باللامتناهي الشاهدة‪.‬‬‫وكل إبداع إنساني اصغاء لهذا الصدى وإبصار لهذا الوميض فيكون هذا التواصل مع‬ ‫العالم وما يسمو عليه هو المستوى الثاني من التواصل المحرر للأرواح‪.‬‬‫وهذا المستوى الثاني من التواصل هو الخالد في كل ابداع علمي وفني وفيهما يكون‬ ‫الإنسان متعاليا على الطبيعة وصلا بين عالمي الفناء والبقاء‪.‬‬‫وما حيرة الشباب إلا لسأمه معركة الديكة بين من قتلوا هذا المستوى الأسمى من التواصل‬ ‫سواء بتجميد الدين أو بتوثين العقل‪ :‬كلا الصفين بلا روح‪.‬‬ ‫والخروج من هذه الحيرة لا يكون بالوجود الإدماني بأي تخدير مادي أو رمزي‪.‬‬ ‫والدجل الصوفي إيهام بأن التواصل السامي ممكن من دون التواصل الوظيفي‪.‬‬‫ذلك أن الأمم التي لا تحقق شروط الاستعمار في الأرض تصبح تابعة للحاجة ولربها‬ ‫الدنيوي فلا تتحرر من الفاني بل هي تغرق فيه كحال الشعوب التابعة‪.‬‬‫ولهذه العلة فالاستخلاف أو التواصل السامي مشروط بالاستعمار في الأرض الذي يحرر‬ ‫الإنسان من التعبية للحاجة ولأرباب ما يسدها‪ :‬وذلك هو الامتحان‪.‬‬‫عبادة التابع في سد حاجاته لا تكون لله خالصة بل تكون لمن يقوم مقامه عنده لسيطرته‬ ‫عليه بسد حاجته‪:‬‬ ‫وذلك هو مفهوم العبودية لغير الله أو الوثنية‪.‬‬‫ولهذه العلة كان الاستعمار في الأرض بداية الاستخلاف وشرطه وهو جزء من العبادة‬ ‫إذا لم يتحقق يصبح هو الشغل الشاغل فيكون وجودا إدمانيا وعبودية‬ ‫‪11 8‬‬

‫‪-81‬فيكون التواصل أصلا له في مستواه الوظيفي لخدمة التبادل المحقق للاستعمار في‬ ‫الأرض بعداه المتعامدان بين البشر ثم بينهم وبين الطبيعة‪.‬‬‫وله في مستواه المتجاوز للوظيفي في التبادل من أجل الاستعمار في الأرض بعدان آخران‬ ‫كذاك متعامدان للاستخلاف أو لتجاوز يضفي عليها معنى العبادة‪.‬‬ ‫والمستوى الأول يحرر من العبودية والثاني يحقق العبادة‪.‬‬‫ولا إمكانية للعبادة من دون تحرر من العبودية التي هي جوهر الشرك‪ :‬الإسلام سياسة‬ ‫ودين‪.‬‬‫فالسياسة نظام يعالج شروط الاستعمار في الأرض بالتربية والحكم والدين يعالج شروط‬ ‫الاستخلاف‪.‬‬ ‫والثاني عبادة ممتنعة من دون الاول تحررا من العبودية‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالسياسة هي منظومة الوسائل التي تحقق منظومة الغايات‪.‬‬ ‫والوسائل للتربية والحكم المحررين للإنسان حتى يكون جديرا بالاستخلاف‪ :‬الدين‪.‬‬‫والمعركة بين كاريكاتور التحديث وكاريكاتور التأصيل علتها تصور الأول الاستعمار في‬ ‫الأرض غنيا عما يتجاوزه والثاني الاستخلاف غنيا عما يعد إليه‪.‬‬‫فإذا أدرك الشباب بجنسيه هذه العلاقة صار مبدعا لشروط الاستعمار في الأرض علميا‬ ‫وفنيا مرحلة غايتها الابداع لشروط الاستخلاف غاية لمعنى وجوده‪.‬‬‫وفي كل الأحوال فمن يتصور الاقتصار على شروط الاستعمار في الأرض ممكنا يخادع نفسه‬ ‫لأنه يقع حتما في الوجود الإدماني حتى يهرب من حبسه الدنيوي‪.‬‬‫فلا يكون قد تحرر من الدين كما توهم بل هو سقط في دين زائف هو الوجود الإدماني‬ ‫ماديا كان أو رمزيا ليعيش في فضاء افتراضي يلهيه عن مأساة وجوده‪.‬‬‫فليس الإنسان مخيرا بين الدين واللادين بل بين دين يضفي المعنى على الوجود ودين‬ ‫يدمن على الهروب من بعدي حياته السوية‪ :‬الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬ ‫‪11 9‬‬

‫والمحير في التواصل والتبادل هو حدوثهما أولا من حيث هما فاعليتان حيويتان تحصلان‬ ‫فعليا بما في كيان المتواصلين والمتبادلين من مشترك حيوي‪.‬‬‫فيحصل بهما شبه التحام مباشر بين الإنسان والإنسان ثم بينه وبين الكون فيكون‬ ‫التواصل والتبادل حينها خاليا من الوسيط الرمزي لكأنه ظاهرة عضوية‪.‬‬‫لكنهما يرتقيان فيحصلان بوسيط رمزي يقوي فاعليتهما وينميها وقد يقضي عليها إذا‬ ‫فقد الصلة بالمستوى شبه العضوي مما يكون الرمز بديل حامل من محمول‪.‬‬‫وتحديدا للمستوى الرمزي وضعت نظرية رمز الفعل (العملة) رمز التبادل المجرد‬ ‫ونظرية فعل الرمز(الكلمة)رمز التواصل المجرد‪ :‬وكلاهما ممثل للحي منهما‪.‬‬‫ولعل أفضل مثال أن الكلام الغزلي له ما للملامسات من تأثير على غرائز الإنسان بحيث‬ ‫تكون الأذن في هذه الحالة وكأنها البشرة الحاملة للأحاسيس‪.‬‬‫فما السر في انتقال التأثير الحي للملامسة في الجنس مثلا إلى كلام التغزل بين المتجاذبين‬ ‫في العلاقة الحميمة بحيث يكون الكلام ذا تأثير عاطفي؟‬‫كيف يمكن للاندماج في قراءة رواية مؤثرا أحيانا أكثر من عيش المشاهد العاطفية الحية‬ ‫من دون واسطة القص في الرواية؟‬ ‫من خالق هذا الأثر في النفس؟‬‫ألا يشعر من يقرأ القرآن وكأنه ليس أمام نص بمضمون معين بل أمام سيناريو هو فيه‬ ‫المخرج الذي يبدع ما يحيل إليه من مشاهد فيسمو إلى عليين؟‬‫ونفس هذا الأثر تشارك فيه العملة الكلمة‪ :‬فالمال أيا كان تعينه المنقول أو غير المنقول‬ ‫يفعل بتعينه الرمزي ‪-‬العملة‪-‬وكأنه سلطان مطلق ورمز الفعل‪.‬‬‫والفعل هنا هو التبادل الحي بغير واسطة أو التبادل بالواسطة الرمزية بمعنى ترجمة‬ ‫المضمون المتبادل إلى أمر يقدر بقيمة ليقبل التبادل اللامباشر‪.‬‬‫والتواصل اللامباشر بالكلمة والتبادل اللامباشر بالعملة سلطان رمزي مطلق للاستعمار في‬ ‫الأرض وللاستخلاف‪ :‬الفرق امتناع الزيف والغش في الثاني‪.‬‬ ‫‪11 10‬‬

‫ومثلما أنه لا سياسية (تربية وحكما) من دون الكلمة والعملة فكذلك لا دين من دونهما‬ ‫ولكن الكلمة والعملة مشروطتان بالصدق المطلق‪ :‬لا غش ولا زيف‪.‬‬‫ومن قرأ القرآن بتدبر يدرك القصد من \"كبر مقتا عند الله\" ومن \"ويل للمطففين\" فهما‬ ‫يثبتان أن الدين يحدد نموذج الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫ذلك أن التواصل من دون صدق هو النفاق والتبادل من دون صدق هو الغش والنفاق‬ ‫والغش لا يمكن أن يقبل بهما من تجاوز حصر الوجود في مستواه الأدنى‬‫ومن فهم هذه العلاقة يفهم حتما العلاقة بين الرسالة الخاتمة وتمام مكارم الأخلاق‪ :‬فمن‬ ‫يصدق في كلامه ويصدق في تبادله يحقق شروط التعاوض العادل‪.‬‬‫وحينئذ يكون المرء الرقيب المطلق على نفسه وهو ما يسميه ابن خلدون بمجاهدة‬ ‫الاستقامة التي تلي مجاهدة التقوى فلا يفارقه الشعور بحضور الله معه‪.‬‬‫إنها الدرجة الأتم من العبادة وهي في آن الدرجة الأسمى من التحرر من العبودية لأن‬ ‫الإنسان يكون طليقا لا رقيب عليه غير شعوره بحضور الله معه‪.‬‬‫ولما كان هذا الشعور هو الوازع الذاتي وكان ذلك ليس في متناول الكثير كانت الحاجة‬ ‫إلى الدولة التي هي الوازع الأجنبي بسلطان القانون مساعدا‪.‬‬‫ذلك أن الوزع الذاتي النابع من الضمير هو شرط اطمئنان الناس بعضهم للبعض وهو‬ ‫المعروف لكنه ليس كافيا بسبب سلطان الغفلة والعجلة وبلادة الوجدان‪.‬‬ ‫ودور السياسة وقائي بالتربية وعلاجي بالحكم‪.‬‬‫فإذا فسدت الدولة فقدت هاتين الوظيفتين فيكون ما نراه في أمتنا من انحطاط علته‬ ‫الاستبداد والفساد‪.‬‬‫وكل من يتكلم على السياسة أو الأدوات بمعزل عن الدين أو الغايات يكون ممن يعتبرون‬ ‫الاستبداد والفساد ذاتي لها وليس عرضيا بسبب أمراض النفس‪.‬‬ ‫‪11 11‬‬



02 01 01 02


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook