Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore قانون ابن خلدون في الانحطاط - في التاله او في استبداد السياسي والمثقف - الفصل الثالث - ابو يعرب المرزوقي

قانون ابن خلدون في الانحطاط - في التاله او في استبداد السياسي والمثقف - الفصل الثالث - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-05-14 09:37:12

Description: ما زال لدي فسحة من الوقت لأواصل الكلام في قانون ابن خلدون: فلنحسم في قضية المنطق الجدلي، ورده التاريخ الحضاري الإنساني إلى التاريخ الطبيعي.
سبق أن رأينا أن الإسلاميين هم بدورهم وقعوا في فخه عندما أصبحوا يقولون بما ليس إلا ترجمة شبه دينية لأساس المنطق الجدلي: التدافع المزعوم، وسبق أن بينت أن القرآن لا يقول بالتدافع، بل بدفع الله الناس بعضهم ببعض. ومعنى ذلك أن التدافع هو ظاهر من الأمر لأن وراءه مبدأ متعال ودفع أسمى.

Search

Read the Text Version

‫في \"التأله\" أو في استبداد السياسي والمثقف‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫في \"التأله\" أو في استبداد السياسي والمثقف‬



‫ما زال لدي فسحة من الوقت لأواصل الكلام في قانون ابن خلدون‪ :‬فلنحسم في قضية المنطق‬ ‫الجدلي‪ ،‬ورده التاريخ الحضاري الإنساني إلى التاريخ الطبيعي‪.‬‬‫سبق أن رأينا أن الإسلاميين هم بدورهم وقعوا في فخه عندما أصبحوا يقولون بما ليس إلا‬‫ترجمة شبه دينية لأساس المنطق الجدلي‪ :‬التدافع المزعوم‪ ،‬وسبق أن بينت أن القرآن لا‬‫يقول بالتدافع‪ ،‬بل بدفع الله الناس بعضهم ببعض‪ .‬ومعنى ذلك أن التدافع هو ظاهر من‬ ‫الأمر لأن وراءه مبدأ متعال ودفع أسمى‪.‬‬‫وهذا الدفع الأسمى حاضر في الوجدان الإنساني‪ ،‬وهو ما حاولنا وصفه في الفصل السابق‪.‬‬‫لكننا لم نصل إلى صوغ نسقي يبين طبيعة هذا الدفع الأسمى وماهيته‪ ،‬وكان ذلك يقتضي‬‫أن نقدم عليه ببيان تعميم مبدأ الجدل في الصفات الخمس‪ ،‬التي صنفنا بمقتضاها النخب‬ ‫التي ترمز لما يجري في التاريخ الحضاري لأي جماعة‪.‬‬ ‫فكيف ترجم الصراع الجدلي فيها؟‬ ‫‪ -‬صراع الإرادات(السياسة)‬ ‫‪ -‬صراع النظريات (توالي النظريات)‬ ‫‪ -‬صراع القدرات (التنافس الاقتصادي)‬ ‫‪ -‬صراع الحياة (الأذواق)‪.‬‬‫‪ -‬وآخرها صراع الرؤى‪ ،‬وهو المؤسس للمذاهب الدينية والمدارس الفلسفية في التاريخ‬ ‫الوعي بالوجود‪.‬‬ ‫وتلك هي كل الصيغ التي ردت كل شيء للصراع الظاهر‪.‬‬ ‫‪51‬‬

‫وكان من المفروض أن نسأل السؤال الذي يجعل هذه العناصر تلتقي للتصارع‪ ،‬والغاية من‬ ‫صراعها‪ ،‬إن صح أن لقاءها يتقدم فيه تنافر المقومات على تناغمها‪.‬‬‫ولا بد إذن من طلب المبدأ المتعالي في هذه الحالات أولا‪ ،‬ثم المبدأ العام الذي يشملها كلها‪،‬‬ ‫ويمكن من دون نفي الصراع بيان عدم كفايته للتفسير‪.‬‬‫فكل تفسير أدنى للظاهرات ينبغي أن يرد إلى ما هو أسمى منه‪ ،‬لتتبين نسبيته‪ ،‬فنكتشف‬ ‫المبدأ الأكثر قدرة على التفسير منه‪ ،‬لأنه يفسر قصوره التفسيري‪.‬‬‫ولعل أبرز مثال يوضح هذا المعنى‪ ،‬هو اختراع اليونان لفكرة الديمقراطية‪ ،‬واختراع‬ ‫المسلمين لفكرة الشورى‪ ،‬وتعميم الحل الديموقراطي في الفكر الحديث‪.‬‬‫ذلك أن جوهر هذه الأفكار الثلاثة‪ ،‬هي التدرج نحو تجاوز الصراع الجدلي‪ ،‬مبدأ تفسير‬ ‫إلى مبدأ يحوله إلى مجرد آلية في مبدأ أسمى منه‪ ،‬دون أن تلغيه‪.‬‬‫فالصراع الدموي بين العصائب أو القبائل على السلطة ومنافعها‪ ،‬يخضع لمبدإ التاريخ‬ ‫الطبيعي‪ ،‬وهو جدل دموي دائم لا يتوقف إلا بالتسامي الذي نطلبه‪.‬‬‫ومبدأ التسامي متقدم عليه وتال عنه‪ ،‬فهو متقدم‪ ،‬لأن الصراع بين الافراد يجري في إطار‬‫أسمى منه هو الجماعة التي يقتضيها التعاون للحماية والرعاية‪ ،‬وهو تال‪ ،‬لأن الصراع‬‫الدامي الذي لا يتم فيه التداول إلا بالقانون الطبيعي‪ ،‬أي بقتل المتحكم (الانقلابات)أو‬ ‫بموته الطبيعي (ارث الحكم) يصبح سلميا‪.‬‬‫وحينئذ ينوب اللسان السيف‪ ،‬والمنطق القوة‪ ،‬فتصبح الصراعات الدامية مهرجانات حوار‬ ‫وجدل قولي‪ ،‬فتكون الحجة مع حضور المصلحة لتحديد خيارات الجماعة‪.‬‬‫ومن ثم‪ ،‬فالجدل القولي يلغي الجدل القتالي‪ ،‬ويرتقي الإنسان من قانون التاريخ الطبيعي‬ ‫إلى قانون التاريخ الخلقي (العقل والحجة والمصلحة العامة)‪.‬‬‫وهذا هو المعنى الأتم لمفهوم الدولة التي هي بنية عقلية لتحقيق نظام يتجاوز الصراعات‬ ‫الدنيا بمصالح تشمل الجماعة‪ ،‬فتحد من قانون التاريخ الطبيعي‪.‬‬‫وعندئذ لا يكون مبدأ السياسة صراع الإرادات‪ ،‬بل المبدأ هو ما يجعل هذا الصراع الظاهر‬ ‫مجرد أداة لتحقيق غاية أسمى من التغالب‪ :‬التسابق في الخيرات‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫والأهم من ذلك كله هو أن هذا المبدأ هو الذي يجعل التعدد والتسابق في الخيرات مبدأ‬‫بديلا من الجدل‪ ،‬به تتجاوز الإنسانية التاريخ الطبيعي دون نفيه‪ ،‬وهذا هو معنى دفع‬‫الناس بعضهم ببعض حتى في الحروب‪ ،‬لمنع الفساد في الأرض‪ ،‬أو لمنع العدوان على الحرية‬ ‫الدينية (الحالتان المذكورتان في القرآن)‪.‬‬‫التدافع صراع جدلي وصراع دائم‪ ،‬وهو منطق التاريخ الطبيعي حيث يكون التغالب هو‬ ‫المبدأ الأسمى‪ .‬لكن الدفع الإلهي يتجاوزه لجعله أداة مبدأ أسمى‪.‬‬‫بعد مثال الإرادة (السياسة)‪ ،‬الذي لا يخضع لمنطق الصراع الجدلي إلا في الظاهر‪ ،‬بعكس‬ ‫نسبي لرأي هيجل (إذ للدولة دور الحكم عنده) ومطلق لرأي ماركس‪.‬‬ ‫بعد مثال السياسة‪ ،‬فلنتكلم في مثال المعرفة‪.‬‬‫ما يقوله هيجل وماركس في صراع الإرادات يقوله باشلار في صراع النظريات والأفكار‪:‬‬‫منطق جدلي‪ ،‬وهو مخطئ وبيان الخطأ هنا أيسر‪ ،‬فالنظريات المتساوقة أو المتوالية مهما‬‫اختلفت ليست متنافية‪ ،‬بل هي تصورات متكاملة لتصور نموذج يعبر عما يفترض بنية‬ ‫موضوعها‪.‬‬‫والنموذج الأقرب لعكس بنية الموضوع‪ ،‬لا يتوصل إليه العقل إلا بتعددها وتعاونها على‬ ‫الانتباه للمعيقات‪ ،‬والتي تحول دون تحديد المقومات المحددة له‪.‬‬‫وهو ما يعني أن المنطق الذي ينطبق هو منطق الاجتهاد الذي يكون فيه الجميع مجازى‪،‬‬ ‫حتى في حالة عدم الإصابة‪ .‬وقد بلغ الأمر إلى ما أسمى حتى من ذلك‪.‬‬‫فتعاون الاختصاصات وتداخلها‪ ،‬يجعل ما بينها من علاقات‪ ،‬مؤثر في كل واحد منها وهو‬ ‫التعاون الأشمل في مجال المعرفة وله مثيل في مجال الإرادة والسياسة‪.‬‬‫فمجال المعرفة ككل‪ ،‬بصرف النظر عن التمييز بين الاختصاصات‪ ،‬يشبه مجال السياسة في‬‫العالم ككل‪ :‬تكامل خفي بين الحضارات والدول‪ ،‬وكذلك بين المعارف‪ ،‬والأمر أشبه بإنارة‬‫مناطق متباعدة من ساحة يسودها الظلام‪ ،‬وكلما تعددت المصابيح توسع انتشار النور حتى‬ ‫تضاء الساحة كلها‪ ،‬وذلك هو ترابط المعية‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫فما سميته بترابط المعية في فصل الأمس‪ ،‬هو نقيض فقدان الترابط‬‫‪ ،Zusammenhanglosichkeit‬الذي ينتج عن القطائع‪ ،‬ومنها يأتي ظاهر الصراع الجدلي‪.‬‬‫وهكذا نصل إلى ما يبدو خاضعا للتاريخ الطبيعي بإطلاق ومن مجال الصراع الدائم حيث‬ ‫\"حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت\" أي صراع \"القدرة\" الاقتصادي‪.‬‬‫فالتنافس الاقتصادي حرب دائمة في الظاهر‪ ،‬لكن محاولات التشريع للحد من الصراع تبين‬ ‫أن القانون الطبيعي ليس هو المبدأ الأسمى‪ ،‬بل هو مستوى أدنى‪.‬‬‫ولهذه العلة‪ ،‬اضطر النظام الرأسمالي إلى تعديل الرأسمالية المتوحشة‪ ،‬ما يجعل القانون‬ ‫الأسمى هو تحقيق التناغم بين مبدأين كلاهما أسمى من الجدل‪.‬‬‫فحرية الملكية‪ ،‬وتشجيع المبادرة شرط الإنتاج وعدل التوزيع‪ ،‬وتشجيع التضامن شرط‬ ‫السلم المدنية‪ .‬وقلة الانتاج تنتج الصراع‪ ،‬وعدم العدل يزيل السلم‪.‬‬‫إنه تسابق في الخيرات يوفر الإنتاج ويجوده‪ .‬ومن دون عدل وتضامن‪ ،‬يولد عدم الأمن‪،‬‬ ‫فتفسد شروط الانتاج‪ :‬كلاهما يسهم في تجاوز القانون الطبيعي للخلقي‪.‬‬‫وظاهر الصراع علته فصل الاقتصاد عن شرطيه‪ :‬الإرادة والمعرفة يحققان شروطه‪ ،‬إذ لا‬ ‫إنتاج من دون إبداع علمي وسلم مدنية للتعاون والتبادل والتعاوض‪.‬‬‫وعلاقته بما قبله أي المعرفة(العلماء)‪ ،‬والإرادة (السياسة)‪ ،‬شرطي إمكان ليست كافية‪،‬‬ ‫بل لا بد من علاقته بالحياة (الفنون)‪ ،‬وبالوجود (الرؤى بأسلوبيها)‪.‬‬‫وكما قال ابن خلدون فالناس يجتمعون ليتعاونوا من أجل سد الحاجات‪ ،‬ولكن الغاية هي‬ ‫\"الأنس بالعشير\" أي لا بد من متع الحياة والفنون ورؤية تفاؤلية‪.‬‬‫فمن دون فنون‪ ،‬ومن دون قيمة تضفي على الحياة الدنيا‪ ،‬أو ما يسميه ابن خلدون الأمل‬ ‫ومعاني الإنسانية‪ ،‬لا يمكن للإنسان أن يبدع وينتج‪ ،‬وقد يفضل الموت‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن منطق الجدل والتاريخ الطبيعي‪ ،‬عندما يطبق على الإنسان‪ ،‬يصبح صراعا‬ ‫ليس له ما يتعالى عليه‪ ،‬لكنه يستمد ذلك من بتره‪ ،‬وليس من ذاته‪.‬‬‫أما إذا حررناه من البتر‪ ،‬تبين أنه يجمع المستويات الخمسة التي هي الإرادة والمعرفة‬ ‫والقدرة والحياة والوجود‪ ،‬وحدة بنيوية تمثل ترابط المعية الحية‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫إنها وحدة منطقها أسمى من الصراع الجدلي‪ ،‬الذي هو عنصر أدنى في تناغم الوجود التام‪،‬‬ ‫وأساسه مبدأ أسمى يوحد بينها بصيغ معقدة هي بناها العقلية‪.‬‬‫والبنى العقلية هي ترابط المعية أو مبدأ توحيد مقومات موضوعنا‪ ،‬أي العلاقة بين شروط‬ ‫استعمار الإنسان واستخلافه في الأرض‪ :‬انثروبولوجيا ابن خلدون‪.‬‬‫ولما كان ترابط المعية في هذه الحالة هو حقيقة الإنسان الجامع بين شروط هذين البعدين‪،‬‬ ‫فإن هذه الحقيقة هي عين كيان الإنسان أو المعادلة الوجودية‪.‬‬‫وإذن فنكوص الإنسان إلى منطق التاريخ الطبيعي‪ ،‬علته إلغاء قطبي المعادلة الوجودية‪-‬‬ ‫الله والإنسان‪-‬واعتبار الإنسان مجرد كائن طبيعي خاضع للضرورة‪.‬‬‫فالإنسان من دون الوصل بين القطبين الله والإنسان تلقيا وبثا‪ ،‬قشة في مجرى الطبيعة‬ ‫والتاريخ المتحكمين في إرادته ومعرفته وقدرته وحياته ووجوده‪.‬‬‫وهذا هو المعنى الأتم لمفهوم التأله عندما يتجاوز الاقتصار على مجرى الطبيعة والتاريخ‪،‬‬ ‫فيتحرر منهما بما يتعالى عليهما‪ ،‬علاقة مباشرة بينه وبين ربه‪.‬‬ ‫وذلك هو الاستخلاف‪.‬‬‫فالإنسان حينها يدرك معنى الإنسانية‪ ،‬فلا يعبد غير ربه ولا يستعبد أحدا‪ :‬الوعي‬ ‫بالحرية والكرامة ثمرة للإيمان‪ ،‬لا الصراع الجدلي‪.‬‬ ‫‪55‬‬





‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬