Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore قراءات نقدية فى إبداعات عربية

قراءات نقدية فى إبداعات عربية

Published by wfp.imm, 2021-01-08 17:54:23

Description: قراءات نقدية فى إبداعات عربية
تأليف / سيد جمعة

Search

Read the Text Version

‫ما هو قادراً على التعبير‪ ،‬لا تعليم‪ ،‬ولا ثقافة ولا احتكاك‬ ‫بالوسط الأدبي إلا من خلال احتضاني في أواخر الليل‬ ‫لكتا ٍب – أحاول ف ِّض – رموزه ببطء ساحر علني أص ُل‬ ‫إلى جوهرة اللغة ال ُمع ِّبرة ‪ ..‬عذابا ً يفوق الحدود‪،‬‬ ‫ورغبةً جارفة ً للبحث وتثقيف الذات‬ ‫وقد نجح بالصبر والإجتهاد أن يص ُل إلى لغته الخاصة‬ ‫والمعبرة بتمكن وقدرة دقيقة و واعية باللغة وأسلوباً ذا‬ ‫خصوصية في التعبير ال ُمميز‪ ،‬الأمر الذي مكنهُ من‬ ‫الإختراق السلس إلى جموع النخبة من المبدعين والنقاد‬ ‫الذين شهدوا لهُ‪ ،‬فأفسحوا لهُ مكانةً تلي ُق به‪ ،‬وهو جدي ٌر‬ ‫بها‬ ‫إن جوهر الإبداع في هذه المجموعة القصصية (‪)24‬‬ ‫قص ٍة َي ْكم ُن في لغته السردية وديناميكية الصورة أو‬ ‫المشهد الذي يتناول فيه \" الحدث \" ففي كلما ٍت قليلة‬ ‫يستطي ُع بناء هيكل المشهد أعمدة ً و بنا ًء‪ ،‬بل والقدرة‬ ‫أن يترك فنا ًء ومساحة ً للقارئ لاستكماله ومشاركاً‬ ‫إيجابياً في البناء‪ ،‬فإذا كانت عناصر البناء هي الحرف‬ ‫والكلمة والفراغ الذي بينهما وأيضاً علامات الترميز‬ ‫المعروفة‪ ،‬وأيضا ً حريصا ً على وجود الترابط بين‬ ‫السابق واللاحق منهما دون أن ُيفقدهما بأي خل ٍل ُمحتمل‬ ‫من جراء الإختزال أو الإسهاب في العبارة‪ ،‬فهو يوفر‬ ‫لهما الإستقامة حينا ً أو الإستدارة حينا ً آخر من خلال‬ ‫الإيقاع الحركي في اختيار الكلمة والحرف ال ُمناسب من‬ ‫‪50‬‬

‫ُمعجمه الخاص‪ ،‬سنجد الزمكانية السابقة والآنية للحدث‬ ‫من خلال شخصية \"الكهل\" مواصفات مظهره الخارجي‬ ‫وأيضا ً الصفات الذاتية وهما لهما الدور الأكبر لتحريك‬ ‫الأحداث أو المشهد ومنهما وعلى القارئ أن يلتقط‬ ‫مضمون هذا المشهد أو الحدث الكامن فيه و المستتر‬ ‫تحت هذه المواصفات والصفات التي قنصها المبدع من‬ ‫خلال الثقب الذي حدثنا عنه لينفذ إلى تجربته و‬ ‫محاولاته الإبداعية‬ ‫لنقرأ معا‬ ‫الــ َكــ ْهــل‬ ‫\"بديوي رجل صعيدي ذا قامة عريضة‪ ،‬تجده في ذروة‬ ‫العمل يرتدي جلبابا ً نظيفاً مكويا ً وعلى منكبيه ترقد‬ ‫كوفية لامعة بخطوط مزركشة‪ ،‬ملابسه كأنها خرجت‬ ‫من عند المكوجي في الت ِّو‪ ،‬قبل أن يرتديها‪ ،‬وبكل هذا‬ ‫الهندام يقف يتعامل مع الزبائن‪ ،‬بإنفة وتأفف معتزاً‬ ‫بنفسه جدا ً‪ ،‬حتى أنك تخاف أن تتحدث معه بدون‬ ‫شراء‪ ،‬وفي حالة الشراء فمن الأفضل وهو خير لك أن‬ ‫يكون الحديث ما ق ِّل ود ِّل لأنه لن يعطيك الفرصة في‬ ‫الحديث في غير الشراء حتى وهو جالس بلا عمل‪،‬‬ ‫يدخن النرجيلة على الرصيف أمام محله‬ ‫بديوي أسمر بلون الشمس المصرية‪ ،‬طويل القامة‬ ‫عريض المنكبين‪ ،‬نحله شغله بين الخضار والفاكهة‬ ‫‪51‬‬

‫المفروشة داخل المحل وخارجه‪ ،‬يدور ويلف بين‬ ‫الفرش والميزان ودرج النقود‪ ،‬تساعده زوجته وبناته‬ ‫في العمل والحراسة والطهي ونظافة المحل وفرز‬ ‫الخضار والفاكهة ورشها في أقفاص وعرض هذه‬ ‫الأقفاص بحسب كل نوع في مكانه‪ ..‬هذا ما كان منذ‬ ‫أكثر من أربعين عاما ً ثم أغلق المحل لأكثر من عشر‬ ‫سنوات أو خمس عشر ثم أعيد فتحه في الألفية الثالثة‬ ‫ليظهر بديوي كهلا ً وأقل هنداما ً من ذي قبل وبدون‬ ‫زوجته وبناته‪ ،‬ولكن معه سيدة في سن بناته تتحكم في‬ ‫كل أموره‪ ،‬وتقذف المارة بكلام سمج وألفاظ لا تفهم‬ ‫بلهجة صعيدية‪ ،‬وكتب أعلى المحل لافتة \"المحل للبيع\"‬ ‫ويجلس بديوي على كرسي قديم يدخن النرجيلة وأمام‬ ‫المحل شئ من الخضار وتجلس تلك السيدة بجانب‬ ‫الحائط على كرسي منخفض جدا ً‪ ،‬فلا أحد يلتفت نحو‬ ‫البديوي ولا يرى اللافتة على المحل‬ ‫هذا نموذج سردي له إيقاعهُ وديناميكيتهُ تكمن في التنقل‬ ‫بين ماضي ُمكتم ٍل بكل ضروراته و ُمتسق مع الصورة‬ ‫الآنية للمشهد وبنفس الضرورات ال ُمكملة وال ُمتممة‬ ‫للصورة فكأننا أمام ومض ٍة \"زماكانية\" علينا الإمساك‬ ‫والقب ُض عليها وقراءتها قبل ارتعاشة جفوننا‬ ‫أيضا ً يتمث ُل الإبداع في تقنية هذه المجموعة أن الكاتب‬ ‫من خلال هذا الثقب الذي توصل إليه بعد اقتناص‬ ‫المشهد من خلال معايشته العملية بين مستويات بيئية‬ ‫‪52‬‬

‫مختلفة و ُمتعددة نجدهُ وبتقنية السرد السابق الحديث‬ ‫عنها‪ ،‬إن ملامح وخلفيات الشخص أو الشخصيات‬ ‫ودوافعها وأفكارها السابقة أو الأنية هي التي تحر ُك‬ ‫الحدث وتنتقل به بين الماضي والحاضر اللحظي‬ ‫واللاحق وكأن أمام أعيُننا لقطة من مشه ٍد سينتهي‬ ‫سريعاً‪ ،‬وعلينا الإمساك بش ٍئ منها‪ ،‬فالمشهد أو الحدث‬ ‫عند الكاتب شبيه بـ\"ومض ٍة بصري ٍة\" لا يجب أن نغفل‬ ‫للحظة عنها‪ ،‬لذلك فإن الكاتب َيعم ُد أن تكون اللقطة‬ ‫ُمكتملة \"زمنيا ً ومكانيا ً \" بعناصر ودلالات لها أهمية‬ ‫ولازمة للقارئ بقدر تحصيلهُ‪ ،‬وقدر استطاعته‬ ‫لل ُمشاركة مع ال ُمبدع في بناء أو استكمال المشهد‬ ‫\"الومضة\"‪ ،‬و بنفس القدرة السردية نراه َينف ُذ من خلال‬ ‫هذا الثق ٍب إلى الجانب الآخر من الإبداع وهو ابتكار‬ ‫المشهد المناسب لرؤية فكرية عميقةُ الدلالات الفكرية‬ ‫والإنسانية لتأريخ فترة زمنية‬ ‫كما سنقرأ معا ً في هذه القصة ‪:‬‬ ‫مــــعــا رك‬ ‫\"صحى من سباته الذي أصابه بعد طول القراءة سقطت‬ ‫يده اليمنى إلى جواره بسبب إصابتها بشل ٍل مؤق ٍت‪ ،‬نتج‬ ‫عن تنميل مد يده اليسرى ليدلك بها يده اليمنى المصابة‬ ‫‪ ..‬كان يجلس على كرسيه ماركة \"العافي\" الخيزران‬ ‫والمتوسط القدم‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫أمام مكتبه كان يجلس‪ ،‬وبعد ذهاب النعاس عنه‪ ،‬تب ِّين‬ ‫له أن الكتب سقط بعضها من فوق المكتب‪ ،‬على‬ ‫الأرض‪ ،‬نظر‪ ..‬قرأ شخصية مصر لـ \"جمال حمدان\"‬ ‫فلسفة الثورة لـ \"جمال عبد الناصر\" ‪ ...‬خريف الغضب‬ ‫لـ \"محمد حسنين هيكل\" فمال نحو الأرض لرفع كتاب‬ ‫هيكل فوجده منبطحا ً فوق البحث عن الذات لــ \"محمد‬ ‫أنور السادات\" فقال وهو يضحك ‪ :‬حتى الكتب‬ ‫لقد اختر ُت هاتين القصتين من بين (‪ )24‬قصة قصيرة‬ ‫لا يتجاوز عدد صفحات كل قص ٍة منهم الصفحتين‬ ‫يوضحان القدرة على اقتناص المشهد ثم إعادة تصويرهُ‬ ‫بلغة سردية ُمكتملة الأركان ‪.‬و اختت ُم بهذه السطور التي‬ ‫ذً ِّيل بها مجموعته القصصية‬ ‫\"كان عل ِّي إذا ً أن اتحلى بالمثابرة‪ ،‬والبحث عن الذات‬ ‫بين السطور أفتش عن الجملة المراوغة مني وهي‬ ‫ُمختزنةٌ في ‪ ..‬داخل ذاتي تلك المشاعر والأحاسيس‬ ‫ال ُمؤجلة ال ُمتمثلة في خيوط تنسج الحكايات داخل‬ ‫ُمخيلتي فتطول سعياً للخروج ولكنها تجلدني و تحرق‬ ‫صدري حتى استطعت في يوم أن أكتب بضع سطور‬ ‫لا أعرف كنهها أو انتماءها ‪.‬هل للشعر أم للقصة تكون؟‬ ‫‪54‬‬

‫آ ســف فــو ق ا لــبــحــر‬ ‫مجموعة قصصية‬ ‫هادي الميّاح ( العراق)‬ ‫مابين الحلم والأمل الخادع في مقادير‪!..‬‬ ‫إعتدنا أن نصاد َف في السرد القصصي‪ ،‬ما يُم ِّيز ال ُمبدع‬ ‫نفسهُ – َك ُمبدع – ُمتم ِّيز و ُمختلف عن غيره‪ ،‬من خلال‬ ‫ثراء مخزونه الثقافي وتَع ُدد رؤاهُ الفكرية وانتقاءاته‬ ‫المتنوعة‪ ،‬وأيضا ً ومن خلال تَمكنه من أدواته التي‬ ‫ُيخضع لها هذه الإنتقاءات من الأحداث وال ُمشاهدات‪،‬‬ ‫وإعادة تركيبها في نس ٍق سردي ُمتميز‪ ،‬فضلاً عن‬ ‫استخلاصه لمسار خاص به يحر ُص على تغذيته بروافد‬ ‫تُعمقه من ناحية وتد ِّعم الإستمرارية له‬ ‫كما نصادف أيضا ً وبدرجة ما‪ُ ،‬مميزا ٍت خاصة في‬ ‫العمل الإبداعي نفسهُ‪ ،‬يتجسد فيه تَمكن المبدع من تأكيد‬ ‫قدراته الخاصة من عناصر السرد القصصي المعروفة‬ ‫التي تُبقي المتلقي في حالة تفاعل دائم مع ال ِّنص من‬ ‫بداياته وحتى نهايته‪ ،‬وأن يحقق ال ِّنص تأكيداً لعمق‬ ‫واستمرارية المسار الذي ا َخت َطهُ الكاتب لنفسه‪ ،‬دون أن‬ ‫ينزلق ‪ -‬بوع ِّي أو غير وع ِّي ‪ -‬على َمحف ٍة تُدعى َو تَحم َل‬ ‫اسم \"التكرار\"‬ ‫‪55‬‬

‫إن وع ِّي القاص بهذا يُؤكد ليس على قُدراته فقط‪ ،‬وإنما‬ ‫وبنفس القُدرة يُنشئ َو يجد لهُ ُمتلقي حريصا ً على‬ ‫متابع ٍة جديده‬ ‫وعلى ضوء هاتين الفقرتين نمضي‪ ،‬لنتبين إلى أي مدى‬ ‫ص ِّح ما بدأنا به‬ ‫بنظرة الطائر على أسماء القصص وعددها (‪)16‬‬ ‫قصة‪ ،‬وبالغوص الدقيق في بعضها و تل ِّمس ‪ -‬ال ُمبدع ‪-‬‬ ‫بينها‪ ،‬نجد أن القاص وال ُمبدع ‪ /‬هادي الم ِّياح ثَراءهُ‪،‬‬ ‫كبيراً وعريضاً‪ ،‬يتجلى معكوساً في صور ٍ من ال ُمعاناة‬ ‫التي َشعر المبدعُ وعاش بع ُضها خلال حقبة زمنية ألقت‬ ‫بظلال كثيفة‪ ،‬وتَبعا ٍت لن تُمح من ذاكرة من عاشها‪،‬‬ ‫فهي قد تركت ندوباً واضحةً تتمث ُل في مرارات اجترار‬ ‫الذكريات‪ ،‬ومحاولة تل ِّمس إشراقات غ ٍد أفضل للأجيال‬ ‫القادمة‪ ،‬كما نج ُد أيضاً في كثي ٍر من القصص تركيبات‬ ‫لصو ٍر ومشاه ٍد متفرق ٍة‪ ،‬أجاد التقاطها وتخزينها في‬ ‫ذاكرته الفنية‪ ،‬ونجح نجاحاً كبيراً في إعادة عرضها‬ ‫سرداً قصصياً‪ُ ،‬ينب ُئ عن مقدرة التقا ٍط وتخزي ٍن واعية‬ ‫تُساهم في هذا الإثراء والإبداع‪ ،‬على أنه وفي سياق‬ ‫تعميق الإتجاه الخاص‪ ،‬وظل حذراً أن ينزلاق على‬ ‫محفة \"التكرار\" في التقاطاته‪ ،‬فبعض قصصه تبدأ من‬ ‫‪ -‬عين طائر ‪ -‬يُلم ُح في جملة‪ ،‬أو مشهد‪ ،‬أو حدث‬ ‫عرض ِّي شئ ما‪ ،‬ومن علوه يقذ ُف به في ذاكرته‪ ،‬ليعيد‬ ‫استرجاعه من خلال سرد قصص ِّي يض ِّفره بروابط‬ ‫‪56‬‬

‫متعددة‪ ،‬وبحنكة وحذاقة بالغة‪ ،‬ليثي َر دهشة ال ُمتلقي من‬ ‫حد ٍث أو جمل ٍة أو مشه ٍد عايشه و لم يأبه لهُ‪ .‬ويُدلل على‬ ‫ذلك أسماء قصص المجموعة وهي‬ ‫(ال ُمستذئب ‪ -‬آسف فوق البحر ‪ -‬الحصة الأولى ‪ -‬في‬ ‫الصباح ‪ -‬تحولت إلى ذئب ‪ -‬الكأس ‪ -‬حصا ٌن في علبة‬ ‫كبري ٍت ‪ -‬ركمجة ‪ -‬كان دخولي عنوةً ‪ -‬رحيل العواص ُف‬ ‫‪ -‬هموم ركاب الكيا ‪ُ -‬نذر اليوم السابع ‪ -‬مقادير ‪ -‬ثرثرة‬ ‫في قطار ‪ -‬حصى كربلاء)‪ ،‬في كل هذه القصص‬ ‫بساطة وعفو ِّية الحدث أو المشهد كان ُمدخلاً لإبداع‬ ‫ال ُمبدع‪ ،‬و وسيلتهُ الفاعلة لإظهار قُدراته الخاصة‪،‬‬ ‫وتم ُكنه منها‪ ،‬وداعماً أيضا ً لها‬ ‫ونأتي الأن إلى قصتنا في هذه المجموعة‬ ‫مـــقـــا د يــــر‬ ‫القصة كما جاء في ختامها مبنيةً على َمث ٍل عام ِّي‬ ‫معروف \" إجري جري الوحوش غير رزقك ما‬ ‫تحوش\"‪ ،‬الفكرة والهدف مألوفان‪ ،‬ولكن الم ِّياح يُعالج‬ ‫الفكرة والهدف من خلال حبكة سردية ُمضفرة بواقعية‬ ‫متميزة لمشه ٍد في ذاكرة كل م ِّنا عن العامل أو لنقل‬ ‫الإنسان البسيط الذي يُط ِّوع جزءاً من وقت عمله‬ ‫ومصدر رزقه بصورة تتناسب مع أهدافه البسيطة في‬ ‫تحقيق بعضاً من ذاته وهي هنا \"القراءة\"‪ ،‬فيأتي الم ِّياح‬ ‫بإسقا ٍط مألو ٍف أيضا ً يتناسب مع حاجة الفقير المحتاج‪،‬‬ ‫‪57‬‬

‫وهو ُحلم أو أمل الثراء الذي لن يتحقق ابدا ً‪ ،‬بل هو في‬ ‫الأغلب وسيلة ً لدى معظم الفقراء والمحتاجين ُمجرد‬ ‫وسيلة لتَخيف حدة المعاناة‪ ،‬واستقواءاً بال ُحلم والأمل‬ ‫الخادع ولا أقول الكاذب على مواصلة الجهد ومواصلة‬ ‫الحياة‪ ،‬وتمضي القصة‪ ،‬ومن خلال حوا ٍر مختز ٍل‬ ‫ومختصر يجسد في عرضه الديالوجي حالة المغبونين‬ ‫دائما ً بين مرارة واقع‪ ،‬وأم ٍل ُمنتظر ُيخلصه ُم من‬ ‫مراراته‪ ،‬ليتهاوى كل شئ أمام حقيقة م ِّرة ثابتة‬ ‫ومعروفة سلفا ً لهؤلاء المغبونين‪ ،‬حتى لو تناسوها أو‬ ‫تغابوا عنها أو تجاهلوها‪ ،‬يضعنا الم ِّياح أمام هذه الحقيقة‬ ‫ببساطة شديدة مختزلا ً السردية بالمثل المعروف‪ ،‬لكنه‬ ‫قبلها أمسك بنا بحرفي ٍة لا نشع ُر بها حتى نهاية القصة‪،‬‬ ‫من هذا َن ُخل ُص‪ ،‬إلى أن عناصر السرد القو ِّية تَحم ُل‬ ‫النص وحدها إلى المرتبة التي تجعل ال ُمتلقي ماضيا ً‬ ‫معهُ من بداياته إلى ُمنتهاهُ حاصدا ً ما بذرهُ القاص في‬ ‫قصته‬ ‫أديبنا ‪ /‬هادي الم ِّياح في النهاية ُمبدعا ً يملك بقوة‬ ‫واقتدار مهارات ال ُمبدع المتميز‪ ،‬ونصوصه أيضا ً‬ ‫تحم ُل في َمتنها دلالات القوة والتفرد‬ ‫‪58‬‬

‫قراءات في مجموعات قصصية‬ ‫فوزي وهبة ( مصر)‬ ‫الساحة الثقافية ‪ ،‬وخاصة الجانب الأدبي ‪ ،‬يزخر‬ ‫بفوضى ‪ ،‬وعدم ترتيب داخل ِّي أو ذات ِّي ‪ ،‬وأعني تقييم‬ ‫الإبداعات ‪ ،‬والمبدعين ‪ ،‬والتعريف بهم من خلال‬ ‫تقييمات دورية لكل ما يستحق وتقد ُف به المطابع ودور‬ ‫النشر لإي براح اشبه بالسوق ‪ ،‬يختلط فيه الحابل‬ ‫والنابل من الأسماء و الغث والثمين من الإبداعات ‪.‬‬ ‫وذلك تفسيره عندي ‪ ،‬وقد يشارمني الكثيرون فيه هو‬ ‫نتاج غياب النُقاد عن الساحة الأدبية ‪ ،‬وبهذا لم تعد‬ ‫القيمة الأدبية للمنتج الأدبي معروفة ‪ ،‬لقد عاصرنا في‬ ‫خمسينيات وستينيات القرن الماضي قامات نقدية امثال‬ ‫‪ /‬عبد القادر القط ‪ ،‬ومحمد مندور ‪ ،‬ولويس عوض ‪،‬‬ ‫وغيرهم ‪ ،‬إستطاعوا بنقدهم وكتاباتهم ‪ ،‬والإضاءات‬ ‫التي حملوهل للمتلقي ‪ ،‬وللمبدع أن نستشعر بجماليات‬ ‫الإضافات لكل وعلى سبيل المثال يوسف إدريس ‪،‬‬ ‫يحيي حقي ‪ ،‬عبد الرحمن الشرقاوي ‪ ،‬محمد عبد الحليم‬ ‫عبد الله ‪ ،‬امين يوسف غراب ‪ ،‬ناهيك عن إحسان عبد‬ ‫القدوس ‪ ،‬ويوسف السباعي ‪ ،‬واديب نوبل نجيب‬ ‫محفوظ ‪ ،‬وغيرهم ُكثر في مجالات القصة ‪ ،‬والشعر ‪،‬‬ ‫والمسرح ‪ ،‬والرواية ‪ ،‬و الفلوكلور ‪ ،‬وكل ما يتعلق‬ ‫بالكلمة ‪ ،‬فتعلمت أجيال ‪ ،‬وشهدت الساحة الثقافية بهذا‬ ‫‪59‬‬

‫الزخم ‪ ،‬والحراك الواعي والنشيط ‪ ،‬فأنارت عواصم‬ ‫ومدن عربية ‪ ،‬واشتعل التنافس بينها لصالح القوة‬ ‫الناعمة التي أثرت وجدان وطاقات الشباب في عالمنا‬ ‫العربي ‪ ،‬وكانت بهذا سنوات الخمسينيات والستينيات‬ ‫هي ربيعنا العربي ‪ ،‬وكما إنتكس الربيع السياسي ‪،‬‬ ‫إنتكس أيضا ً الربيع الثقافي ‪ ،‬غير انه إحقاقاً وبعثاً‬ ‫للأمل ‪ ،‬نجد ان حراكاً يتلألأ نوره من خلال مؤسسات‬ ‫مدنية تُساهم في دعم المبدعين ‪ ،‬ونشر إبداعاتهم ‪،‬‬ ‫وإعطائهم مساحة كافية لطباعة و عرض اعمالهم من‬ ‫خلال منصات ومنابر تقام خصيصاً لهم بصفة دورية ‪،‬‬ ‫املاً في أن يخرج من بين الشباب من يتولوا بعث ربيعاً‬ ‫عربيا ثقافياً نستعيض به الإخفاقات التي تبتلع نبتات‬ ‫حان وقت إزدهارها‬ ‫هذه المقدمة ‪ ،‬قصدت منها الإشارة إلى دور النقد ‪،‬‬ ‫واهميته المعروفة ‪ ،‬واهمية أن يعود نقادنا لممارسة‬ ‫دورهم في إكساب الحراك الثقافي البعد التأصيلي من‬ ‫خلال تقييم العمل الإبداعي ‪ ،‬وإلقاء الأضواء على‬ ‫المبدع نفسه ليتم توازن نفتقده ‪ ،‬ونسعي إليه لإنارة‬ ‫المسيرة الثقافية الحالية‬ ‫تصلني بصفة دورية إهداءات دواوين شعرية ‪،‬‬ ‫وقصص ‪ ،‬ورويات من مصر وخارجها ‪ ،‬واحضر‬ ‫مشاركا ومستمعا في العديد من الندوات والصالونات‬ ‫الأدبية والثقافية ‪ ،‬وحفلات التوقيع إسوة بغيري من‬ ‫‪60‬‬

‫المهتمين والمؤرقين لمستقبل الأدب والمبدعين في‬ ‫مصر ‪ ،‬وجميعا في حلوقنا ‪ ..‬أين النقاد يا مصر ؟ !‬ ‫أخرج من هذه المقدمة الطويلة نسبياً لأتحدث عن‬ ‫صاحب عنوان المقالة ‪ ،‬الأديب والقاص ‪ /‬فوزي وهبة‬ ‫هو اديب من المنيا عاصمة ثقافة الصعيد ‪ ،‬ثر ِّي الإنتاج‬ ‫الإبداعي ( ‪ 16‬مطبوعة مابين مجموعات قصصية ‪،‬‬ ‫ورواية ‪ ،‬وابحاث ‪ ،‬ومقالات في الأدب وأيضا ً العلم ‪-‬‬ ‫وبخلاف ‪ 26‬عملاً تحت الطبع‬ ‫إذا هوقامة ثقافية كبيرة بعض أعماله ُدر ِّست في الكليات‬ ‫‪ -‬جامعة المنيا ‪ -‬وبعضها حظي بدراسات أدبية في‬ ‫جامعات مصرية وعربية‪ ،‬وحصل على العديد من‬ ‫الجوائز والتكريمات من جهات حكومية رسمية مصرية‬ ‫وعربية‬ ‫ولأنه من خارج القاهرة العاصمة الثقافية‪ ،‬وبالتالي من‬ ‫خارجها قليلاً ما ُينصف‪ ،‬وتنحسر عنه الأضواء‪ ،‬فإذا‬ ‫توارى النقاد وضعُفت مشاركاتهم أو على الأصح لم‬ ‫توجد بالشكل الفعال‪ ،‬وأصبح الأمر في يد أصحاب‬ ‫الأبواب الثابتة من المحررين الصحفيين الشباب الذين‬ ‫تجذبهم مهنيا ً إلقاء الأضواء على القامات الثقافية‬ ‫الكبيرة في القاهرة أو الأسكندرية‪ ،‬فنجد قامات لا تقل‬ ‫وزناً وقيمة خارج القاهرة لا يص ُل إليها أحد‪ ،‬وبالقدر‬ ‫والجدارة المستحقة لهم‬ ‫‪61‬‬

‫بين يد ِّي لأستاذنا الأديب والقامة الثقافية الكبيرة عملين‬ ‫أهمهما إل ِّي في منتدى ثقافي تعارفنا فيه‪ ،‬العملين هما \"‬ ‫بدايات العشق \" & \" أمير في بلاد بين النهرين \"‪،‬‬ ‫أتلمس فيهما إبداعاً جديرا ً بالإهتمام‬ ‫‪62‬‬

‫جماليات السرد الأدبي في أعمال إبراهيم الديب‬ ‫ابراهيم الديب ( مصر)‬ ‫كاتب وأديب‪ ،‬تذك ِّرني مشاركاته اليومية بذكريات‬ ‫سنوات القراءة الأولى‪ ،‬حي ُث كانت قراءات الأعمدة‬ ‫الصحفية لكبار الصحفيين والأدباء مثل على أمين‪،‬‬ ‫محمد زكي عبد القادر‪ ،‬أحمد بهاء الدين‪ ،‬أنيس منصور‬ ‫وغيرهم‪ ،‬هي الأكثر اهتماماً ولها أولوية أولى فبعض‬ ‫هذه الأعمدة أقرأها في الصباح وبع َضها أُأجلُها للمساء‪.‬‬ ‫إن كتابات أستاذنا الراقي‪ /‬إبراهيم الديب ‪ ...‬تذكرني‬ ‫بعمود \"نحو النور\" إن لم أخطئ للكاتب والصحفي‬ ‫والأديب ‪ ..‬محمد زكي عبد القادر‬ ‫إن كتابات أديبنا إبراهيم الديب‪ ،‬تشترك مع كتابات‬ ‫أستاذنا محمد زكي عبد القادر في جزالة اللفظ‪ ،‬وجمال‬ ‫الجملة ورصانتها‪ ،‬ودقتها واتساقها مع الموضوع‪ ،‬وهو‬ ‫– إبراهيم الديب – لديه قدرة على تنوع وتجديد‬ ‫موضوعاتها‪ ،‬فهي حينا ً بع ٌض من ذكرياته أو يومياته‪،‬‬ ‫وحيناً آخر يلتقط الموضوعات من تجارب عاشها أو‬ ‫ُيعايشها أو يقرأ عنها أو يسم ُع عنها‪ ،‬أو مواقف حياتية‬ ‫ُيعيد صياغتها أدبياً لتحمل لنا شجنا ً أو حكمة ً أو فكرا ً‬ ‫أو رصدا ً جميلا ً لأحداث أو مواقف مرت أو تمر علينا‬ ‫ولا ننتبه إلى ما فيها من جماليات ٍ أو فكاهة ٍ أو علم ٍ‬ ‫‪63‬‬

‫أو عم ٍق أو دلالات كامنة فيها وفي كثي ٍر من الأحيان‬ ‫يض ِّمن مشاركاته صورة عن الحدث أو الموقف‪ ،‬وفي‬ ‫كل الأحوال هو كات ُب ُيجد ُد ويتقن أدواتهُ السردية من‬ ‫لغة‪ ،‬وجمال عبارة فهو لا ُيسه ُب ولا يشت ُط في السرد‬ ‫و ُيوجز دون إخلال‪ ،‬فتكون ال ُمشاركة كك ٍل موضوعية‪،‬‬ ‫سهلة وبسيطة‪ ،‬وجاذبة‬ ‫أنا لا أعرف إن كان تم جمع هذه المشاركات من قبل‬ ‫في كتا ٍب أم لا‪ ،‬ولكني على ثق ٍة أنهُ إن لم يفع ُل ذلك‪،‬‬ ‫فسيفعلُها قريباً‪ ،‬ذلك أن الساحة الأدبية تنتظر مثل هذه‬ ‫الإضافة الق ِّيمة من كات ٍب لديه مهارا ٍت خاصة وتع ُدد‬ ‫رؤى بصرية وفكرية نحتا ُج إليها بشدةٍ وسط مو ٍج تقذفنا‬ ‫به المطابع ودور النشر َينقصها أدبيات هذا الكاتب‬ ‫والأديب‬ ‫والآن مع ُمختارا ٍت ُمنتقاة عشوائياً من كتابات‬ ‫تـمـنـي ورغـبـة‬ ‫أتمنى كثيرا ً أن أكتب عن ‪ :‬اللاوعي الغائر القابع في‬ ‫أعماق الإنسان والذي يعمل بقوة ونشاط ضد حامله‬ ‫ويجعله يفقد تواصله عندما يهمش ويترك بعيدا ً فتقطع‬ ‫صلة الإنسان بماضيه ويمنعه التوصل بعوالمه الخفية‪.‬‬ ‫كانت الأسطورة والدين والفكر ممتزجين في الماضي‬ ‫البعيد في طفولة البشرية‪ ....‬ولكن عندما يقوم العقل‬ ‫بتحديد كل شئ وتصبح اللغة ومفردها ذات مدلو ٍل واح ٍد‬ ‫‪64‬‬

‫هنا يتم تحديد الرمز الأسطوري و َيتَ َع ْق َل ْن يفقد بذلك تعدده‬ ‫وكثرته وضباب ِّيته وسحره وغموضه‪ ،‬الذي كان يمنحه‬ ‫حمل‪ :‬أكثر من مدلول للتعبير عن أعماقي الغير مق ِّيدة‬ ‫ومحددة كما يعبر المدلول اللغوي عن معنى واح ٍد مق ِّيد‪،‬‬ ‫أريد أن يكون به نفس الثراء الذي بأساطيري الغائرة‬ ‫في طبقات وعي لكي يحمل الشئ ونقيضه ثم يمنحه‬ ‫الطمأنينة باللقاء وبأنه متواصل مع ماضيه السحيق ‪.....‬‬ ‫الحياة مجنونة وأعتقد أنه لابد أن يكون اللاوعي مجنون‬ ‫لبعض الوقت حتى لا يعمل في الخفاء ويشطر الإنسان‬ ‫ويمنع أن تتسرب حياة من عاش قبله بداخله ليكون بذلك‬ ‫ثراء من حيوا ٍت كثيرةٍ وتمنحه التواصل يعيش حيواتا ً‬ ‫كثيرة ً من خلال حياة من سبقوه حتى يصل لماضي من‬ ‫الشعور سحيق حتى يلامس مناطق غائرة‪ ....‬الأدب‬ ‫والفكر والفسلفة قادرة على ذلك من خلال حفرها العميق‬ ‫في طبقات الوعي الغائر‪ ...‬كلما حاولت كتابة ذلك يف ِّر‬ ‫مني‪ ،‬يرواغني ويفلت‪ .‬لا أجده‪ ،‬أسأل عنه الذاكرة‪ ،‬ولا‬ ‫مجيب أبحث عنه في حنايا عقلي‪ ،‬ونفسي ولا أعثر منه‬ ‫على شئ أتعايشه كثيرا ً وأجت ِّره كثيرا ً لدرجة الهيام‬ ‫به‪ ،‬أشعر أنه يسكنني‪ ،‬أشعر بالسعادة لذلك‪ ،‬لدرجة‬ ‫السباحة في الخيال الجميل‪ ،‬والغياب داخل كل ذلك‪..‬‬ ‫ولا أثر لكل ذلك؟؟ ‪ ،‬يبدو أن هناك أشيا ًء جميلة ً‬ ‫تستعصي عل ِّي الكتابة‪ ،‬تستعصي عل ِّي الإمساك بها‬ ‫لتظل حلما ً لكي تحاول الإمساك بها‪ ،‬يبدو أن جمالها‬ ‫يكون في ذلك‪ ،‬سوف أذهب للنوم لكي تطاردني ولا‬ ‫‪65‬‬

‫أحاول الإمساك بها وأتركها طليقة ً لتظل جميلة ً‬ ‫حالمة ً‪..‬؟؟‬ ‫‪...‬فضفضة ودردشة مع النفس‬ ‫الأ‬ ‫توفى زوجها وترك لها ستة أولاد خمسة من الصبية‬ ‫وبنت لا يتعدى عمر أكبرهم خمسة عشر عاماً ‪ .‬ما‬ ‫زالت الأم شابة رفضت الزواج‪ ،‬قررت أن توهب‬ ‫حياتها لأولادها بل هم أصبحوا حياتها‪ ،‬كانت تنظر في‬ ‫وجه ابنتها فكأنها ترى نفسها في المرآة‪ ،‬فوجه ابنتها‬ ‫نضرا ً جميلا ً لا فرق بين وجه الأم وإبنتها التي تزيدها‬ ‫الأيام حسنا ً وجمالا ً وسحرا ً وبها ًء‪ ...‬ترى وجوه‬ ‫أولادها الذكور نضرة تملأها قوة الشباب فتزداد نشاطا ً‬ ‫وأملا ً في الحياة وإقبالا ً على الحياة ‪ ..‬تسللت روحها‬ ‫فهي تعيش بداخلهم تفرح لفرحهم‪ ،‬وتحزن لحزنهم‪،‬‬ ‫وتشبع حين يأكلون‪ ،‬تسعد وهم يضحكون‪ ،‬ترفرف‬ ‫وتنطلق روحها منطلقة في سماء السعادة حين يثني‬ ‫الجميع على أدب أولادها وحسن خلقهم وتربيتها لهم ‪.‬‬ ‫أصبح أولادها الصبية شبابا ً وإبنتها عروسة ً يطلبها‬ ‫الخ ِّطاب لأدبها وحسن سيرة الأم والعائلة‪ ،‬لم تعد تشعر‬ ‫بما كابدته من أل ٍم ومشق ٍة خلال فترة عملها وسهرها‬ ‫على رعايتهم‪ ،‬فكانت نظرة واحدة ً تستمدها من أحدهم‬ ‫كفيلة بأن تجعلها تب ِّدد المشقة والصعاب وتحولها للذة‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫ُخط َبت إبنتها أخيراً‪ .‬عرف بيتها السعادة ظ ِّنت الأم‬ ‫والأولاد أن الأمور في طريقها للأفضل‪ .‬يشعر إبنها‬ ‫الأكبر بمرض غريب بعد أن غ ِّيب الموت إثنين من‬ ‫إخوته قبل ذلك‪ ،‬ما زالت صابرة ولكن ذهب ببعض‬ ‫بريق عينيها ولكنهما اقتربا من الإنطفاء‪ ،‬زادها الحزن‬ ‫وقارا ً و زادها الرضى والإيمان و الصمت مهابة ً‬ ‫وجلالاً‬ ‫لم يستطع الأطباء تشخيص مرضه اللعين‪ ،‬هل ذكرت‬ ‫لك قبل ذلك أننا في نهاية ستينات القرن الماضي‪ ،‬لم‬ ‫يكن الطب وقتها متقدم كما هو الآن‪...‬أقترب زفاف‬ ‫الأخت وأخوها يشتد عليه المرض والأم في حيرة من‬ ‫أمرها من خوف على الإبن ومن خوف من عدم إتمام‬ ‫الزواج وأن يخيم الحزن على البيت ‪ ...‬أخذت حالة‬ ‫الإبن تسوء يوما ً بعد يوم ٍ حتى لازم الفراش نهائيا‪،‬‬ ‫قبل الزفاف بأسبوع‪ ،‬عرضت إبنتها عليها تأجيل‬ ‫الزفاف‪ ،‬بل أل ِّحت في ذلك حتى يُشفى أخوها‪ ،‬وظلت‬ ‫تص ِّر على ذلك بإلحاح أقوى من ذي قبل‪ ،‬حتى وافقت‬ ‫الأم وهي تبكي وتحتضنها‪ ،‬قبل ينطلقا سوياً في نوبة‬ ‫بكا ٍء شديدة استمرت فترة طويلة من الوقت‬ ‫يستمع الإبن المريض لما دار بين أمه وأخته بشأن‬ ‫تأجيل الزفاف‪ ،‬فيتحامل على نفسه مستندا ً على الحائط‬ ‫حتى يصل لمكان‪ ،‬فيسقط بجوارها من شدة الإعياء‬ ‫والمرض وهي تحضنه وتبكي‪ ،‬ثم يطلب أن تستمع إليه‬ ‫‪67‬‬

‫وهو يقول بصوت متهدج متقطع محشرج مبحوح إلا‬ ‫من رجاء وتمنى وهو يقول لأمه‪\" :‬لي طلب عندك قبل‬ ‫موتي‪ \"..‬فتنخرط الأم والأخت مرة أخرى في البكاء‬ ‫لفترة طويلة‪ ،‬ثم صمت‪\" .‬طلبي أن لا تؤجلي زفاف‬ ‫أختي‪ ،‬أتمنى أن أرى في بيتنا فرح قبل موتي\" ثم يبكي‬ ‫هو الآخر‪ ،‬فحاولت الأم أن تجعله يكف عن البكاء‪،‬‬ ‫فوافق بشرط بأن تعطيه أمه وعد أن لا تؤجل الزفاف‪،‬‬ ‫أعطته أمه وعد بذلك‪.‬‬ ‫ثم كان يوم الزفاف أشد وأقسى أيام المرض عليه‪ ،‬بدأت‬ ‫مراسم الزفاف أما المدعويين فكانوا يعتقدون بأن دموع‬ ‫الأم والبنت هي دموع الفرح‪ ،‬الأم تذهب لغرفة إبنتها‬ ‫وتق ِّبلها وته ِّنئها على الزفاف‪ ،‬ثم تنتقل لغرفة الإبن‬ ‫المريض الذي تأكدت تماما أنه يحتضر‪ ،‬يأتي العريس‬ ‫ليأخذ عروسه‪ ،‬وتركب الأم معهم السيارة وهي تبكي‪،‬‬ ‫وبعد أن أوصلتهم لبيت الزوجية‪ ،‬قام الأهل والجيران‬ ‫بتشييع جثمان أخو العروسة لمثواه الأخير‪ ،‬وكان غالبية‬ ‫المشيعين هم من حضر الزفاف‪.‬‬ ‫الـو ســط ا لآ مـن‬ ‫في سبعينات القرن الماضي؛ فرمل التاكسي الدودج‬ ‫الأمريكاني ‪ -‬وهو في طريقه إلى عزبة البرج ‪ -‬على‬ ‫طفل صغير‪ ،‬ولم يصب الحمد لله‪ .‬والطفل هو من أخطأ‬ ‫‪68‬‬

‫بمروره فجأة أمام السائق الذي انهال عليه أهل البلد‬ ‫ضربا ً بالشمال واليمين وغالبية من يضرب لم يعرف‬ ‫لماذا يضرب‪ ،‬ولم يكلف نفسه أن يسأل عن السبب ؟‬ ‫ومع أن الطفل ذهب للبيت‪ ،‬يأكل عيش وملوخية مع بقية‬ ‫إخوته‪ .‬ولكنها العادة والعرف‪ ،‬فالسيارة والسائق ليسوا‬ ‫من بلدنا؛ فلابد بأن يشارك الكل الإحساس والمشاعر‬ ‫القوم ِّية ويع ِّبر عن العقل الجمعي وإلا اتُهم من لم‬ ‫يضرب السائق ويشارك في تكسير التاكسي؛ بعدم‬ ‫الوطنية‪ ،‬وأنه ضعيف الإنتماء‪.‬‬ ‫تجمع أكثر رجال البلد وخلفهم الأطفال‪ ،‬مجموعة تك ِّسر‬ ‫التاكسي ومجموعة تضرب السائق والأطفال وأنا منهم‬ ‫يح ِّدفون السيارة بالطوب والزلط‪ ،‬إلى الآن لا أعرف‬ ‫ولم أجد مبرر‪ ،‬لماذا كنت أفعل ذلك؟‪ ،‬ما علينا ‪ ...‬دع َك‬ ‫من التفلسف الذهني البارد‪ ،‬نعود للأحداث الساخنة‪ ،‬فما‬ ‫زال العزق في السائق والتاكسي الأمريكاني مستمر‬ ‫على قدم وساق‪ ،‬ولا تنسى الطوب والزلط الذي جعل‬ ‫زجاج السيارة الذي تهشم تماما ً ويشبه الشبورة‬ ‫المدغششه من أثر فعل الطوب والزلط‪ ،‬فهو شبه آيل‬ ‫للسقوط‪ ،‬ولكنه متماسك بفضل المادة اللزجة بداخله‪ ،‬لم‬ ‫يجد السائق مخرج لنفسه من كل ذلك إلا القفز للترعة‪،‬‬ ‫وحاول أن يصعد لضفتها الشرقية‪ ،‬فتصادف مع خروج‬ ‫ع ِّمال الملاحة‪ ،‬و دون أن يسأل أح ٌد منهم ماذا حدث‪،‬‬ ‫ضربوه أيضا ً بعص ِّيهم التي يحملون عليها قُلة المياه‬ ‫‪69‬‬

‫والملح‪ ،‬فاتجه للضفة الغربية‪ ،‬والتي حظه فيها أتعس‬ ‫وأسوأ من الشرقية ؛ لخروج عمال الأرز بالشراشر من‬ ‫الغيطان؛ فكلما أقترب من ضفة ناله من الضرب الكثير‪،‬‬ ‫ولم تفلح مجموعة الوسط التي كان لها رأي آخر به‬ ‫بعض الحكمة والعقل‪ ،‬وهو تسيلم الرجل للشرطة التي‬ ‫طلبها العمدة بالتليفون‪ ،‬فكانت مجموعة الوسط تحكم‬ ‫عقلها في بعض الأمور‪ ،‬ولكنها أقل ِّية‪ ،‬ولم تستطع فرض‬ ‫رأيها على الأغلبية‬ ‫السائق الذي يبدو من هيئته أنه ابن ناس لهندامه وتأنقه‪،‬‬ ‫قبل أن ينزل الترعة‪ ،‬وتمزق ملابسه‪ ،‬وتورم خلقته‪،‬‬ ‫وتسلخ جلده‪ ،‬علاوة على بعض الكسور لأنه كان يعرج‬ ‫في الترعة‪ ،‬ولكنه استقر على رأي سديد‪ ،‬وأختار أن‬ ‫يقف وسط الترعة تماما يتلقى سباب ولعن لم يسبق له‬ ‫مثيل من شرق الترعة وغربها ولكنه أفضل على أي‬ ‫حال الضرب الذي كان سيفضي إلى الموت لا محالة‪،‬‬ ‫كان الرجل مذهولا ً من ر ِّد فعل البلد الغير متوقع‪،‬‬ ‫أنتظر السائق حتى أخرجته الشرطة‪ ،‬كانت تلك إحدى‬ ‫غضبات البلد على السيارات الأجرة والملاكي‬ ‫وسائقيها‪ ،‬أما الطفل الذي فرمل عليه السائق فهو يتناول‬ ‫المشلتت الذي خبزته أمه في الفرن البلدي وبالسمن‬ ‫البلدي أيضاً ولا يدري شيئا ً ‪ -‬هو ولا أمه ‪ -‬عن‬ ‫المعركة التي تدور رحاها على الأسفلت قبل أن تنزل‬ ‫الترعة‬ ‫‪70‬‬

‫قــبــل ا لــنــو م‬ ‫في كل ليلة‪ ،‬وعندما آوي لفراشي‪ ،‬وقبل أن يغ ِّيبني‬ ‫النعاس‪ ،‬تقوم بيني وبين نفسي ثورة ً للتغيير‪ ،‬وتبديل‬ ‫أمورا ً كثيرة ً أراها خاطئة في حياتي من وجهة نظري‬ ‫على سبيل المثال‪ :‬شرب القهوة كثيرا ‪ ،‬وعدم اهتمامي‬ ‫بصحتي وإنني سأشرح وجهة نظري لمن لا يعرفني‬ ‫جيدا ً ويعتقد أنني متعاليا ً وأنني سأشرح له أنني لست‬ ‫كذلك وأنني أيضا ً أتمنى يعرفني الجميع على حقيقتي‪،‬‬ ‫وأيضا ً عدم الجدل ونقاش الحمقى كثيراً‪ ،‬وأنني سأنهي‬ ‫بعض الخلافات البسيطة بيني وبين بعض الناس‪ ،‬وأنني‬ ‫سأبتعد عن الطعام الذي يهيج نشاط مرض النقرس‪ ،‬ثم‬ ‫أغيب في سبات عميق عاقدا ً الن ِّيه على كل ذلك‪ ،‬ثم‬ ‫أصحوا من نومي وأتناول القهوة بكثرة‪ ،‬وأقابل ما كان‬ ‫بيني‪ ،‬وبينهم خلاف فأعرض عنهم مرجئا ً أمرهم لما‬ ‫بعد‪ ،‬ثم لا أدري أنني أجادل وأناقش الحمقى كثيرا ً‬ ‫وبصورة أقوى وأشد من كل مر ٍة إلا بعد القيام بذلك‪ ،‬ثم‬ ‫أتناول كل ما هو مهيج ومنشط للنقرس دون شعور مني‬ ‫إلا بعد أن يضربني الألم بشدة أكثر من أي وقت‬ ‫مضي!! ضاربا عرض الحائط ما كان بيني وبين نفسي‬ ‫بالأمس‪ ،‬وهذا الأمر يحدث معي في كل ليلة منذ فترة‬ ‫طويله ‪ .‬؟؟‬ ‫أنا لا أعرف إن كان قد ج ِّمع من قبل هذه المشاركات‬ ‫في كتا ٍب أم لا‪ ،‬ولكني على ثق ٍة أنهُ إن لم يفع ُل ذلك‪،‬‬ ‫‪71‬‬

‫سيفعلُها قريباً‪ ،‬ذلك أن الساحة الأدبية تنتظر مثل هذه‬ ‫الإضافة الق ِّيمة من كات ٍب لديه مهارا ٍت خاصة وتعدد‬ ‫رؤى بصرية وفكرية نحتا ُج إليها بشدةٍ وسط مو ٍج تقذفنا‬ ‫به المطابع ودور النشر َينقصها أدبيات هذا الكاتب‬ ‫والأديب‬ ‫‪72‬‬

‫سن الفيل ‪ ...‬وسنن السرد القصصي‬ ‫أحمد عبد العاطي نور ( مصر)‬ ‫تعريف بالمؤلف ‪ /‬أحمد عبد العاطي نور ‪...‬‬ ‫حاصل على ليسانس اللغة العربية ‪ /‬جامعة الأزهر‬ ‫الشريف‬ ‫حاصل على الدبلومة التربوية العامة جامعة عين شمس‬ ‫*********‬ ‫ُكتب على ُغلاف مجموعته القصصية \" سن الفيل \"‬ ‫\"ما ُيميز تجربة أحمد عبد ال ُمعطي نور في مجموعته‬ ‫القصصية الأولى \"سن الفيل\" قدرته اللافتة على تحويل‬ ‫ما يبدو عاديا ً وعابراً في الحياة إلى مادة للق ِّص شديدة‬ ‫الحيوية والثراء بمضامينها الإنسانية و الإجتماعية‬ ‫وجاء في مقدمة المجموعة‬ ‫\"وها نح ُن اليوم ندف ُع بالكاتب أحمد عبد العاطي نور إلى‬ ‫الساحة الثقافية‪ ،‬عبر مجموعته القصصية هذه \"سن‬ ‫الفيل\" التي تجوب زوايا الروح و النفس بلغ ٍة ُمبسط ٍة‪،‬‬ ‫وقد أنجزها خلال البرنامج ونحن على يقين بأنها‬ ‫‪73‬‬

‫ستكون موضع تقدي ٍر وترحي ٍب من الق ِّراء والنقِّاد‬ ‫والمهتمين‬ ‫نشرت المجموعة ضمن فعاليات \" برنامج دبي الدولي‬ ‫للكتابة \" تحت رعاية سمو\" الشيخ أحمد بن راشد بن آل‬ ‫مكتوم‪ ،‬رئيس مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم‬ ‫للمعرفة‬ ‫تضم المجموعة (‪ )14‬قصة قصيرة أغلبها لا يتجاوز‬ ‫صفحات ٍ تُعد على اليد الواحدة‪َ ،‬يتمث ُل إبداع الكاتب في‬ ‫تجربته القصصية الأولى على امتلاكه لأدواته في‬ ‫الكتابة بوجه عام والكتابة القصصية بوجه خاص‬ ‫نتبين من خلال هذه القصص الأربعة عش ْر‪ ،‬جماليات‬ ‫السرد القصصي ال ُمد ِّعمة بالكلمة والعبارة السهلة‬ ‫والسليمة لغوياً ومدى إدراك الكاتب لأهمية السرد‬ ‫اللغوي الصحيح كنعص ٍر هام يتأبطهُ ال ُمتلقي وهو‬ ‫يمضي بسلاسة ٍ مع النص دونما يشع ُر بتعا ٍل من الكاتب‬ ‫– على ال ُمتلقي ‪ -‬في صياغته أو استعراضا ٍت لغوية‬ ‫خاصة تقو ُم على استيراد صو ٍر بلاغية لا تت ِّسق مع‬ ‫مضمون النص‬ ‫كما ُنلاحظ وهو يتخ ُذ من اللغة العربية وسيلة ً إبداعية ً‬ ‫ُيحقق بها روعة الإبداع‪ ،‬إنها كلغ ٍة فضلاً عن أنهُ يعتز‬ ‫بها كخريج ودار ٍس لها وحاصل على درج ٍة علمية ٍ فيها‬ ‫\"ليسانس\"‪ ،‬فإنه يؤكد من خلال المجموعة أن اللغة‬ ‫‪74‬‬

‫العربية قادرةً أن تستمر وتبقى لغةَ إبداعٍ قوية وسط‬ ‫محاولات تهميشها خاص ٍة في أجواء الإصدارات‬ ‫الشعرية الحالية من دواوين شعراء العامية‪ ،‬نلح ُظ تجنبه‬ ‫استخدام اللغة العامية في الحوار وهذا ُيحتس ُب لهُ ككات ٍب‬ ‫يص ُدر أول عم ٍل لهُ‬ ‫على أن من الرائع حقاً في هذه المجموعة الأربعة عشر‬ ‫قصة‪ ،‬أن جميعُها مشاهد وأحدا ٍث بسيطة التقطها هو‬ ‫أحيانا ً من حياته اليومية أو مما سمعهُ أو ما اختزنتهُ‬ ‫ذاكرته من أحدا ٍث عادي ٍة بسيط ٍة يمر أو نمر بها نحن‬ ‫جميعاً و لا تستوقفنا أوحتى تستدعي تسجيلها في الذاكرة‬ ‫أحداثاً في الشارع أو المكتب أو القطارات والحافلات‬ ‫أو في المنازل أو حوارت الجيران أو حوارت الأسرة‬ ‫‪ ...‬الخ لكنهُ يملك القدرة التخيل ِّية من ناحية‪ ،‬والقدرة‬ ‫على إعادة سردها مرةً أخرى بصورةٍ أدبية غير ُمحمل ٍة‬ ‫بأي إسقاطا ٍت فلسفية أو فكرية تذه ُب برونق الإستعادة‬ ‫والسرد القصصي البسيط ال ُممتنع‪ ،‬لكنها أيضا ً تُح ِّق ِّق‬ ‫ُمتعةً للقارئ مع إشار ٍة بسيطة غير ملحوظة ٍ لما قد‬ ‫يكم ُن من جماليا ٍت في االسلوكيات الراشدة أو إدراك ما‬ ‫لم نُدركهُ في حياتنا اليومية و تن ِّوع العطاء فيها ما بين‬ ‫الأمل‪ ،‬والعمل‪ ،‬والحلم‪ ،‬والإرادة‪ ،‬والعديد من القيم‬ ‫الدين ِّية والأخلاق ِّية لم ُيص ِّرح الكات ُب بها ولكنها كامنة ً‬ ‫في قصصه الأربعة عشر‬ ‫‪75‬‬

‫وأخيرا ً لعل من الجميل أن يختت ُم الكاتب قصتهُ الأخيرة‬ ‫في الكتاب والتي تحم ُل إسم \"كهلاً وسهلاً\" بهذه الفقرة‬ ‫الرائعة حقاً ‪ ..‬يقول فيها ‪:‬‬ ‫قارئي العزيز‬ ‫إعلم أنك شخص في غاية الأهمية بالنسبة لي ‪ ..‬فحين‬ ‫قررت اقتناء هذا الكتاب أو حتى قراءتهُ قراءة عابرة‪،‬‬ ‫فقد أردت من هذه القصة تعريفك بتجربتي في كتابة‬ ‫القصة‪ .‬عن كيفية الكتابة‪ ،‬وعن الأجواء التي نعيشها في‬ ‫كتابة القصة حتى ينتهي بها الأمر بين يديك‪ ،‬ولا أُخفيك‬ ‫سراً أن \"عم حارث – وهو بطل قصة كهلاً وسهلاً ‪-‬‬ ‫رغم أم ِّيته كان يعطيني نصائحا ً عظيمة ً لتجاوز بعض‬ ‫العقبات التي تواجهنا أثناء كتابة القصة‪ ،‬أو عند توقفي‬ ‫عن مواصلة الكتابة‬ ‫قارئي العزيز ‪ ..‬دعنا نهنئ معاً \"عم حارث\" بلقبه‬ ‫الجديد \"كهلاً وسهلاً\"‬ ‫بهذا يختم كاتبنا قصته بحوار ُمباشر معنا ‪ -‬كمتلقين ‪-‬‬ ‫ليؤكد لنا ولرفاق الكتابة أهمية دعم خبراتنا من أمثال‬ ‫عم \"حارث\" أو أشبهاههُ في الكتب والمراجع قدي ُمها‬ ‫وحديثها‬ ‫‪76‬‬

‫هي العنيدة ‪َ ...‬ف ِم ْن أين َجاءت ا ّل ِذئَاب ‪..‬؟‬ ‫في رواية ‪..‬‬ ‫صلاح شعير‬ ‫الأكثر غرابة من هذه الغرابة نفسها‪ ،‬أن تتحول الأشياء‪،‬‬ ‫التي ينبغي النظر إليها على أنها غريبة‪ ،‬إلى أشياء‬ ‫عادية ومألوفة‬ ‫د‪ /.‬شاكر عبد الحميد‬ ‫في كتابه \"الغرابة ‪ ..‬المفهوم وتجلياته في الأدب\"‬ ‫كتب المؤلف ‪ /‬صلاح شعير على غلاف قصته‬ ‫\"تفقد الحياة بهجتها متى غابت القيم الروحية بين البشر‬ ‫بصفة عامة‪ ،‬وتأكدت تلك الحقيقة عندما تح ِّولت مشاعر‬ ‫الحب بين الرجل والمرأة في أحيان كثرة إلى مجرد‬ ‫وعا ٍء للغريزة فقط‪ ،‬ومن هنا تح ِّول المنزل إلى قفص ٍ‬ ‫من طوب‪ ،‬والفضاء الفسيح إلى سجن ٍ عتيق‬ ‫لقد أفلت جزء من شمس المروءة‪ ،‬والصدق عن سماء‬ ‫الوطن قبل ‪ 25‬يناير ‪2011‬م‪ ،‬وتقلصت بعض الفضائل‬ ‫داخل النفس البشرية‪ ،‬نتيجة تسلل فصيل يعاني من‬ ‫الخلل التربوي‪ ،‬وسوء الفطرة لسدة الحكم‪ ،‬لذا سقطت‬ ‫‪77‬‬

‫قلاع القيم واحدة تلو الأخرى‪ ،‬فلا يمكن أن تثمر‬ ‫أغصان الحب زهورا ً بدون أخلا ٍق حميدة‬ ‫ا لـــقـــصـــة‬ ‫\"ليلى فتاة ذات جما ٍل غير عادي‪ ،‬عانت منذ طفولتها‬ ‫مشاعر تربية خاطئة من أمها التي ف ِّرقت بينها وبين‬ ‫أختيها‪ ،‬نمى بداخلها خصلة \"العناد\" والنفور من النساء‬ ‫وبجمال الأنثى الذي التفت به وميزها بين البنات أيام‬ ‫دراستها قبل سنوات الجامعة أو في الجامعة وحتى بين‬ ‫السيدات حين تزوجت‪ ،‬وصار كلا ً من العناد والجمال‬ ‫هما أسلحتها‪ ،‬وبسبب العناد والجمال تب ِّدلت سلوكياتها‬ ‫ومشاعرها‪ ،‬وصارت الذئاب بشراستها تتألب عليها‬ ‫للنيل منها إما للإقتصاص منها لعنادها أو قهرها‬ ‫واحتوائها‪ ،‬حتى تح ِّولت إلى ذئبة مثلهم بأنيا ٍب شرسة‬ ‫تجي ُد ليس فقط الدفاع عن نفسها‪ ،‬بل مواجهتم وتحقيق‬ ‫الإنتصار عليهم‪ .‬وكان حب الله في النهاية‪ ،‬وأحداث ‪25‬‬ ‫يناير ‪2011‬م بدايات الإستواء النفسي ثم السلوكي‬ ‫الرواية مع زخم الأحداث والشخصيات وتعددها بل‬ ‫وتقاربها في التأثير والمؤثرات التي أضافتها لإبراز‬ ‫الدواعي والخلفية التي قام عليها البناء الدرامي‬ ‫والروائي للرواية واهتمام الكاتب بهذا التنوع العددي‬ ‫وال ُمتشابه وتكثيفهُ تأكيدا ً لما يأخذنا إليه عبر هذا التنوع‬ ‫ال ُمتشابه لك ِّم هذه الشخصيات والذي يقر ُب من حد‬ ‫التكرار ال ُمتوقع‪ ،‬فكأننا أمام شخصية واحدة محورية‬ ‫‪78‬‬

‫تحم ُل نفس السمات المرضية‪ ،‬وإن كانت تحم ُل أسما ًء‬ ‫ُمختلفة‪ ،‬إن هذا التشابه في السمات يعطينا دلالة‪ ،‬على‬ ‫وجود الظاهرة المراد الإشارة إليها وهي الإنحدار‬ ‫الجمعي للمجتمع لبؤرة الإنسلاخ ال ُمميت من سلوكيا ٍت‬ ‫وآدا ٍب وقي ٍم دينية ومرور ٍث قيم ِّي إجتماع ِّي ضارباً في‬ ‫أعماق الشخصية المصرية مهما تعددت البيئات‪،‬‬ ‫واختلفت الطبقات الإجتماعية‬ ‫إن الرواية في أحد جوانبها الهامة‪ ،‬تعبيرا ً قويا ً‬ ‫لأحداث ما بعد انتفاضة ‪ 25‬يناير وأحداث ‪ 30‬يونيو ‪-‬‬ ‫وكلاهما لا يحملان ما جرت عليهما التسمية بكلمة‬ ‫\"ثورة\" ‪ -‬ونحن هنا ليس في مجال التعريف أو استحقاق‬ ‫كل منهما لكلمة الثورة‬ ‫المؤلف‪ ...‬رصد بعين حكيم ٍة وخبيرة‪ ،‬والتقط أحداثاً‬ ‫وسعى إلى بناء درامي قوي ومؤثر يعك ُس حالة‬ ‫المجتمع‪ ،‬ومدى عمق التأثر والتأثير ال ُمتبادل على الفرد‬ ‫والأسرة وبالتالي على المجتمع ككل‪ ،‬فأجاد من خلال‬ ‫الإنتقاء لشخصيات متعددة‪ ،‬تتلاقي جميعها في‬ ‫المواصفات كما تتلاقى وتدور كل شخصية في فلك‬ ‫الشخصية المحورية \"العنيدة\" والتي بصورة ما تتشابه‬ ‫مع الجميع تحت وطأة التأثر والتأثير ال ُمتبادل فتتحول‬ ‫إلى \"ذئبة\" لا تقل عنهم ضراوة‪ ،‬بما يؤكد في النهاية‬ ‫سقوط المجتمع كله أشراره وخ ِّيريه في البئر‪ ،‬وليت ُم‬ ‫\"التحول\" الذي حدثنا عنهُ دكتورنا الناقد‪ /‬شاكر عبد‬ ‫‪79‬‬

‫الحميد في كتابه \"الفن والغرابة مقدمة في تجليات‬ ‫الغريب في الفن والحياة\"‪ ،‬فهذه الصور أو الشخصيات‬ ‫تمث ُل مفهوم \"الغ َرابة\" الأدبية كونها غرابةً آتية من‬ ‫مصد ٍر غير آمن وتحم ُل غير المألوف وغير العادي‬ ‫ال ُمتعارف عليه‪ ،‬لذا يتطلب من المجتمع الإلتفاف حوله‬ ‫والتعرف عليه‪ ،‬ثم العمل على عزله تمهيداً لدحره‬ ‫وإعادتهُ إلى حيثما جاء‪ ،‬للتخلص منه نهائيا‬ ‫وهذا الجانب أجاد الكاتب بنا َءهُ بحرفي ٍة تخدم رؤيته‬ ‫لحدثين سياسيين لهما تأثي ٌر حا ِّد على المجتمع‪ ،‬أجاد‬ ‫رصدهما في محاول ٍة منهُ لإقالة عثرة المجتمع الحالية‬ ‫قبل أن يتهاوى ساقطاً في بئر بلا قرار‬ ‫ننتقل إلى جان ٍب أخر‪ ،‬يُضفي ُعمقاً فكرياً للإبداع في‬ ‫هذا النص الروائي للكاتب‪ /‬صلاح شعير‪ ،‬وهذا الجانب‬ ‫يتعلق بمفهوم الغرابة كما جاء في تصدير هذه القراءة‬ ‫من كتاب دكتورنا الناقد الفاضل‪ /‬شاكر عبد الحميد‪ ،‬في‬ ‫كتابه \"الغرابة‪ ..‬المفهوم وتجلياته في الأدب\"‬ ‫الغرابة\" تعني وفق ما جاء في التوطئة بالدراسة‬ ‫المذكورة – الغرابة ضد الأُلفة‪ ،‬وهي نوعان ‪ :‬غرابة‬ ‫غير المألوف‪ ،‬وغرابة المألوف‪ ،‬وفي فص ٍل كامل‬ ‫خصصه عن هذا المفهوم جاء فيه ‪:‬‬ ‫ك ِّرسنا للحديث عن مفهوم الذات‪ ،‬وعن تطور هذه الذات‬ ‫– إرتقائها – نحو السواء أو نحو التفكك والإختلال‬ ‫‪80‬‬

‫والمرض وما يصاحب هذه الحالات من مشاعر خاصة‬ ‫بالغرابة‬ ‫وهذه الجزئية‪ ،‬ودون تلبي ٍس للنص‪ ،‬أو َل ِّيه وتطويعهُ لهذه‬ ‫العبارة‪ ،‬سنجد أن بطلة القص‪ -‬ومن خلال الأحداث‬ ‫والشخصيات التي تدور في فلكها ‪ -‬تعاني من الِّغُربة‪،‬‬ ‫والإغتراب الذاتي عن السم ِّو والإستواء الإنساني‬ ‫المألوف والمعتاد‪ ،‬لتضي ُع في فضاء غير المألوف‬ ‫والمعتاد من القيم والسلوكيات الراشدة والرشيدة‪،‬‬ ‫ونجدها‪ ،‬ومن في دوائرها من الشخصيات تح ِّولوا‬ ‫ومعهم اغترابهم إلى كائنات أخرى غريبة وغير مألوف ٍة‪،‬‬ ‫ذات سما ٍت وتصرفا ٍت سلوكية ممجوجة ومرفوضة‪ ،‬بل‬ ‫ومقيتة‪ ،‬أشبهُ بالذئاب التي اُصطلح على أنها تحم ُل‬ ‫أقصى وأقسى صفات التوحش من بين الحيوانات غير‬ ‫ال ُمستأنسة والتي تثي ُر الخوف والرعب وعدم الأمان‬ ‫أينما ح ِّلت واستقرت‪ ،‬وللعجب هي لا تستقر في مكا ٍن‬ ‫كسائر الحيوانات‬ ‫ولع ِّل هذا الربط التقن ِّي الملموس ُيبين و ُيبرز ما اهتم به‬ ‫الكاتب كإشارة وتحذير من غرب ٍة واغترا ٍب وابتعا ٍد عن‬ ‫جادة المجتمع السليم‬ ‫وقد اخترت من كتاب الدكتور‪ /‬شاكر عبد الحميد فقرة‬ ‫لا تُشير إلى هذه القصة وإنما إلى قصة \"وليم ويلسون\"‬ ‫المعروفة كتبها إدجار ألان بو‪:‬‬ ‫‪81‬‬

‫\"هذه القصة ج ِّسدت ذلك التناقض الموجود داخل‬ ‫الإنسان‪ ،‬الإنسان الذي يكافح من أجل البقاء على قيد‬ ‫الحياة‪ ،‬وفي الوقت نفسه يسعى من أجل تدمير نفسه‪،‬‬ ‫أي من أجل الموت‪ ،‬وهذا مثا ٌل آخر على الغرابة في‬ ‫الحياة التي يُجسدها الأدب‪ ،‬فسع ِّي الإنسان من أجل‬ ‫البقاء على قيد الحياة أمر مألوف‪ ،‬أما غير المألوف‬ ‫والغريب فهو قيا َمهُ خلال الوقت نفسه بتدمير ذاته‬ ‫بأفعا ٍل تق ِّربهُ من الموت والدمار بكل ما يناقض الدافع‬ ‫الأول الإيجابي الخاص به‬ ‫‪82‬‬

‫مـا لك ا لـمـقـبـرة‬ ‫د ‪ /‬كريم ُصبح (العراق )‬ ‫المساحة التعريف ِّية التي تفص ُل بين القصة القصيرة‬ ‫جدا ً‪ ،‬وبين الومضة القصصية‪ ،‬ينتص ُب قوياً بينهما هذا‬ ‫العمل ال ُمتميز وهو هذه الإصدارة‪ ،‬المجموعة‬ ‫القصصية \"مالك المقبرة\" للدكتور القاص‪ /‬كريم صبح‬ ‫حيث نج ُد النموذجين واضحين للتعريف وبإجادة تو ِّضح‬ ‫ما القصة القصيرة جداً وما الومضة‪ ،‬كو َن أن‬ ‫المجموعة احتوت عليهما‬ ‫وقد كان من آليات وتقنيات دكتورنا الفاضل أن يُمث َل‬ ‫من خلال‪ ،‬التعريف العام لهذين النموذجين المختارين‬ ‫في هذه المجموعة‪ ،‬ولم يكن التقاط الحدث أو المشهد‬ ‫العام بهذا ال َحذق‪ ،‬وهذه العي ُن ال ُمدركة لما وراء الحدث‪،‬‬ ‫وما هو كامنا ً فيه من رؤى فكرية نابعة من تقييم‬ ‫السلوكيات وردود الأفعال في الحدث أو المشهد‬ ‫ال ُمختار‪ ،‬فضلا ً عن أن هذا الك ِّم والتن ِّوع في البيئات‬ ‫وفي إطار \"زمكانياً \" كل مشه ٍد وحد ٍث‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫مقدرةً في البحث لتحقيق الرؤية الفكرية المنشودة من‬ ‫وراء هذا البحث والرصد الأدبي لكل الدلالات الفكرية‬ ‫‪83‬‬

‫وال ُمتمثلةُ في السلوكيات وردود الأفعال‪ ،‬و لم يكن هذا‬ ‫كله ما اقتصر عليه الإبداع والتميز في هذه المجموعة‪،‬‬ ‫لكن بعضاً من قدرات الإبداع تمثلت وفي براع ٍة وعم ٍق‬ ‫لتأكيد التعري ُف العام للقصة القصيرة جدا ً والومضة‪،‬‬ ‫وتأطير المشهد أو الحدث واحتوائه زمنياً ومكانيا ً من‬ ‫خلال الكلمات والحروف في جم ٍل سرد ِّية بالغة القصر‬ ‫تكاد في ذاتها تحم ُل الظاه ُر والكام ُن من دلالا ٍت ورؤى‬ ‫فكر ِّية لتص َل مباشرة ً لإدراكات القارئ‪ ،‬وبقدر حجم‬ ‫وس َعة لوحة التلق ِّي عندهُ‬ ‫فـى عــيــن‬ ‫أنكرت عليه قلقه الدائم من َعوره ‪ ...‬س ِّوغت له الأمر‬ ‫‪ ...‬العين الواحدة تعني أنك تكذب أقل‪ ،‬تر ِّكز أكثر‪...‬‬ ‫تنام بشك ٍل أسرع‪ِّ .‬نم الآن وارحمني من عينك السليمة‬ ‫وفي مــحــمــول‬ ‫بحثوا عن شاهد قب ٍر في طريقهم إلى دفنه‪َ ...‬س َخ َرت‬ ‫منهم عجوز‪ ...‬قالت‪:‬‬ ‫\"على مسؤوليتي اكتبوا ‪ :‬وج ٌع محمو ُل على أكتاف‬ ‫الكلمة وعم ُق العبارة إحتوايا على الزمان والمكان‬ ‫والدلالة الفكرية بصورتها الظاهرة أو ال ُمستترة وكله ُم‬ ‫بحسب لوحة الإستقبال لدى القارئ‬ ‫‪84‬‬

‫وننتق ُل لن ٍص آخر تتداعى حولهُ ‪ -‬وهذه َمق ِّدرة ً تُحسب‬ ‫للمبدع ‪ -‬عدي ٌد من التأويلات أودعها بمهارة ٍ سرد ِّية ٍ‬ ‫ُمتميزة‬ ‫•أنـــصـــاف‬ ‫\"قادني زبانية الدنيا إلى مصي ٍر خلتُهُ مجهولاً مثل الليل‬ ‫الذي داهمنا ونحن ندخل مدينة ً غير فاضلة‪ ،‬قالوا ‪:‬‬ ‫\"حان أجلك فاختر أنصافك مما تراه أمامك‬ ‫أشاروا إلى نصف امرأةٍ ونصف كف ٍن ونصف قبر‪.‬‬ ‫أمسكت بعد جه ٍد ضحكة هستيريةً وهم يأمرونني بدفع‬ ‫نصف الثمن من كل شئ ‪ .‬سألتهم‬ ‫أصدقوني ‪ ،‬هل أنا في حلم أم فقد ُت عقلي؟‬ ‫رد عل ِّي مقدمهم‬ ‫‪-‬لا هذا ولا ذاك‪ ،‬أنت اخترت أن تحيا نصف حياة‪ .‬حان‬ ‫أجلك واستحقاقك الأنصاف فقط‬ ‫ماذا لو تخلي ُت عن كل شئ و اكتفي ُت بكفن كامل ٍ‬ ‫يستر عورتي‬ ‫‪-‬لا يمكن‪ ،‬النصف الثاني من عورتك لم يحن أجله‬ ‫بعد‬ ‫‪85‬‬

‫\"مـــالــك الــمــقــبــرة\"‬ ‫\"أهالوا التراب عليه وانصرفوا‪ ،‬كثر ممن ذرفوا الدمع‬ ‫بصقوا على القبر وغادروا‪ ،‬هالني الأمر‪ ،‬جارتي‬ ‫الأربعينية ه ِّونت عل ِّي عندما ح ِّدثتني عن الد ِّفان الذي‬ ‫يأتي ليضاجعها مثل كل ِّب ليلة خميس‪ ،‬جاري الخمسيني‬ ‫ح ِّدثني عن زوجته التي تزوره في ذكراه السنوية من‬ ‫كل عام‪ ،‬و تحدثهُ عن النعيم الذي أورثتها إياه‪ ،‬في‬ ‫زيارتها الأخيرة‪ ،‬شكت له و حدتها وحاجتها إلى رجل‪،‬‬ ‫منحها مباركته بشرط أن تتخ ِّلي عن كل أملاكه‬ ‫وانقطعت عن زيارته منذ ذلك الوقت‪ ،‬جارتي و جاري‬ ‫وغيرهما بأعما ٍر مختلف ٍة ‪ ..‬حاصروني بسؤا ٍل محرج ‪:‬‬ ‫ما سبب البصاق ؟ أخبرتهم الحقيقة‪ .‬اشتري ُت المقبرة مع‬ ‫حرية التصرف بأمواتها‪ ،‬عند ذاك حدثني بعضهم عن‬ ‫مشكلات المقبرة‪ ،‬مثل عفونة الأحياء وضرورة إقامة‬ ‫جدا ٍر عاز ٍل بيننا وبينهم‬ ‫النماذج ال ُمختارة من هذه المجموعة القصصية تضعنا‬ ‫مباشرةً أمام قُدرات ال ُمبدع و إدراكهُ الواعي ليس فقط‬ ‫بتقنيات القصة القصيرة جداً والومضة القصصية‪ ،‬لكن‬ ‫عن كيفية إعادة صياغة المشاهد والأحداث والسلوكيات‬ ‫وردود الأفعال الواقعية و في البيئات ال ُمختلفة بعد‬ ‫رصدها و الولوج إلى العوالم الخفية للشخصيات ودون‬ ‫التعري ُف بها إستناداً إلى خلفيات القارئ‬ ‫‪86‬‬

‫ففي كل قص ٍة مما جاء بعاليه تُج ِّس ُد الجملة أجواء‬ ‫وشخصيات المشهد أو الحدث ال ُمختار بما لا يحتم ُل أي‬ ‫إضاف ٍة‪ ،‬التي قد تُسق ُط النص من عليائه لينفرط ويتش ِّظى‬ ‫ليخر َج من التأطير والتوصيف الذي سعي إليه ُمبدعنا‬ ‫القدير‬ ‫\"مالك المقبرة\" إسماً وغلافاً َيجعلانا نرى أو نُحي ُل هذه‬ ‫المشاهد ال ُمكثفة إلى ما َيج ُب أن َن ْقبرهُ و نواريه الثرى‬ ‫في حال تَطلُعنا بإقصاء ما في مقبرة المجتمع م ْن تَدنيا ٍت‬ ‫قيم ِّي ٍة و سلوكي ٍة ‪ ،‬تجعل من عفونة عالم الأحياء أقسى‬ ‫و أش ُد من عفونة عالم الأجساد التي في المقبرة‬ ‫‪87‬‬

‫مــشـكـا ة ا لـتـحـد ي‬ ‫سعاد الزامك ( مصر)‬ ‫\"الأكث ُر غرابة ً من هذه؛ الغرابة نفسها‬ ‫أن تتــحول الأشـياء ‪ -‬التي كان ينبغي‬ ‫النظــر إليــها على أنــها غريبة ‪ -‬إلى‬ ‫أشــيا ٍء عــاد ِّية ومـــــألوفة \"‬ ‫د‪ .‬شاكر عبد الحميد‬ ‫\"الغرابة المفهوم وتجلياته في الأدب \"‬ ‫كلمة الكاتبة ‪:‬‬ ‫منذ بدء الخليقة رأى الإنسان ظواهرا ً الطبيعة الغريبة‬ ‫التي استحالت على إدراكه‪ ،‬فأثارت مخاوفه وشحذت‬ ‫خياله في محاولة ٍ لتفسيرها بمدركاته البسيطة كخرافا ٍت‬ ‫وأساطي ٍر في كل المجتمعات على م ِّر العصور‬ ‫ُغلاف \"مشكاة التحدي\" للروائية ‪ /‬سعاد الزامك و‬ ‫أيضا ً عنوان الرواية يضع الكاتبة فعلا ً في \"تحدي\"‪،‬‬ ‫فالمشكاة لفظا ً وكلمة ً وردت في القرآن الكريم وهو‬ ‫‪88‬‬

‫المعلم الخالد للغتنا العربية والمبدعين بها لُغة ً وصوتا ً‬ ‫وفنا ً بصف ٍة عامة‪ ،‬والمشكاةُ هي الك ِّوة أو التجويف غير‬ ‫النافذ في الجدار والذي كان يوضع داخلها وحدات‬ ‫الإضاءة كالشمعة‪ ،‬أو المصباح الضوئي أو أي وسيلة‬ ‫إضاءة في الماضي وقبل معرفة الكهرباء‪ ،‬واستخدامها‬ ‫كإسم لرواية يحم ُل دلالاتا ً عدة‪ ،‬منها لغة النص الراقي‬ ‫التي تعكس رقياٌ خاصاً وتمكن من الكاتبة من خلال‬ ‫إدراك وحفظ جماليات التعبير القرآني باللغة العربية كما‬ ‫وردت بالقرآن الكريم‪ ،‬حتى أننا نجد مقاطعا ً وعبارات‬ ‫سردية طويلة تحوي كلماتا ً تؤكد المرجعية السليمة‬ ‫للكاتبة‪ ،‬وقدرة ً ودرجة ً رفيعة ً من الإتقان للُغَتها‬ ‫العربية الأمر الذي مع الحروف الطباعية ال ُمختارة‬ ‫يجعلنا أمام متن يرقى لمستوي غير عادي ومتميز في‬ ‫أمرين؛ تطويع اللغة العربية واستحضار جمالياتها‪،‬‬ ‫وأيضا ً كإضافة وتعظيم من الكاتبة للغتنا العربية‬ ‫وتأكيداً أنها لُغة إبداع لمن يشاء‪ ،‬أن ُيتقن الإبداع‬ ‫\"دعاء سيدة تطرق أبواب العقد الخامس‪ ،‬يتمايل قوامها‬ ‫بين الإمتلاء والنحافة‪ ،‬ض ِّنت على نفسها بالإعتراف‬ ‫بجاذبيتها برغم مديح ٍ مبالغ فيه ممن حولها‪ ،‬كم تأججت‬ ‫وجناتها خجلا ً من تعليقات جريئة إلى أبعد الحدود من‬ ‫بعض الرجال‪ ،‬رغم أنها لم تتمتع من الجمال سوى‬ ‫بالمقدار الذي يُخ ِّضبها بالأنوثة حسب ظنها إلا أنها‬ ‫كانت تقطن في مقلتيها تلك الحورية التي يتساقط الرجال‬ ‫‪89‬‬

‫صرعى على عتباتها من أجل الاستئثار بحبها دون‬ ‫الآخرين‬ ‫وقد تفننت في لغة الحوار داخل النص فجعلت من‬ ‫عربيته واقتضابه بحنك ٍة ودراي ٍة يمضي في توا ٍز مع‬ ‫السردية العربية التي اختارتها لغة ً لنص يطوي داخلهُ‬ ‫سمات خاصة للإختلاف والتميز‬ ‫العراف‬ ‫لا يخدعنك الأمل بالتسرع في البناء بأية كائنة‪ ،‬تم ِّهل‬ ‫جيداً لأنها الوحيدة ال ُمق ِّدرة لك في اللوح المحفوظ‬ ‫لتحقيق غايتك‬ ‫وتوازي أيضا ً مع هذا الرقي اللغوي‪ ،‬لوحة الغلاف‬ ‫تعبيرا ً مرئيا ً شدي َد العمق عن الصراع الدائم‬ ‫وال ُمستمر وال ُمعاناة الطاحنة في دائرة أو دوائر العلاقات‬ ‫الإنسانية والمجتمعية‪ ،‬وحين تتكثف هذه ال ُمعاناة فتكون‬ ‫كطاحون ٍة أو دوام ٍة درامية حول المرأة َسحقاً لها‬ ‫وإقصا ًء لدورها الإنساني الموازي والمساوي لدور‬ ‫الرجل حقوقاً و واجباتا ً‪ ،‬فحين هو الذي يتمسك بحقوقه‬ ‫كاملة ً وغير منقوصة‪ ،‬وينفل ُت من واجباته‪ ،‬بينما هي‬ ‫تلتزم بل وتضحي ببعض من حقوقها‪ ،‬وتتمسك في نفس‬ ‫الوقت بالواجبات‪ ،‬ليس فقط تمسك الغريق بأسباب‬ ‫الحياة‪ ،‬ولكن أيضاً تحقيقاً للذات وفق القيم والمشاعر و‬ ‫الآمال‬ ‫‪90‬‬

‫فَ ُيمث ُل \" الثور\" ‪ -‬بسواد لونه ال ُمضاد وقرونه وصلادته‬ ‫وقوة عضلاته ‪ -‬جبروت الرغبات العمياء الجامحة‪ ،‬في‬ ‫حين تُمث ُل الأنثى ‪ -‬المرأة وبملامحها وبإغماضة عينيها‬ ‫تَعني ‪ -‬عدم المبالاة والإكتراث والبرود وعدم الإحتفاء‬ ‫\"لملمت ثيابها الممزقة‪ ،‬وأعادت تنسيق شعرها المتناثر‬ ‫في جديلة جديدة‪ ،‬ثم كفكفت دمعها بيد مرتجفة‪ ،‬وحملت‬ ‫إبنتها تحملها قدماها بالكاد‪ ،‬وغادرت الحديقة المشئومة‬ ‫إلى منزلها‪ ،‬ظلت طوال الطريق تفكر فيما حدث‪ ،‬وكيف‬ ‫ستواجه زوجها القاسي الطباع‪ ،‬هل سيغفر لها خطيئة‬ ‫لم تقترفها وقد اُجبرت عليها؟‬ ‫الغلاف ‪ ،‬يُهيئ القارئ والباحث لمضمو ٍن منثو ٍر بحنك ٍة‬ ‫في ثنايا الرواية‬ ‫إن المثير في النص هو الإبداع الهندسي في تشييد البناء‬ ‫الفني للرواية والتوازي الرائع بين ُمك ِّونات الأحداث‬ ‫والمشاهد ال ُمت ِّممة لبعضها بين ما هو اُنس ِّي وجن ِّي‪ ،‬الذي‬ ‫تتطلب إمعاناً في فهم الجداليات‪ ،‬والتهويمات بين ماهو‬ ‫واقعي و ُمتآلف بين البشر من موروثا ٍت عتيقة تحم ُل‬ ‫في طياتها تعادلية وتوازنات بشرية لغير المفهوم من‬ ‫ُمدركا ٍت شبه محسوسة‪ ،‬وملموسة في حياة قطاعا ٍت‬ ‫وفئا ٍت ُمختلفة من المجتمع يتساوى الجمي ُع فيها ما بين‬ ‫الأميين والمثقفين‪ ،‬وحتى بين أصحاب ال ُمعتقدات الدينية‬ ‫على اختلافها وتباينها‪ ،‬هذا البناء الفني‪ ،‬والمزج الرائع‪،‬‬ ‫بالقطع والوصل – أشبه بال ُمونتاج التقني الحديث ‪ -‬يُعد‬ ‫‪91‬‬

‫أسلوبا وتقنيةً ُمبهرةُ للقارئ ليتضاعف شغفه ورغبته‬ ‫لاستكناه مدى هذا الترابط أو حتميتهُ غير ال ُمبررة بين‬ ‫ما هو معلو ٍم ومجهو ٍل أسبابهُ في الواقع ال ُمعاش‬ ‫والمحسوس والملموس في الحياة‪ ،‬فكانت الشخصيات‬ ‫بتعددها وهيأتها النفسية وال ُمجتمعية داعمة للفكرة التي‬ ‫قام عليها هذا الصرح الفني ال ُمتميز الذي إعتلت به‬ ‫ال ُمبدعة منصة لا يرتقيها إلا قادراً على الإضافة الراقية‬ ‫بعناصر إبداعية في السرد والبناء المعماري ال ُمختلف‬ ‫وعادة ما تكون الإبداعات النسائية ُمميزة و الأكثر دقة ً‬ ‫وقدرة ً على إبراز بعض خفايا عالم المرأة و نقاط قوتها‬ ‫وضعفها كإنسا ٍن لهُ ظواه ٌر وبواط ٌن ُمتباينة في علاقاته‬ ‫وتواصله مع أسباب الحياة ودرجات ال ُمعاناة في تحقيق‬ ‫الطموحات والآمال ومعالجة الإنكسارت في دروب‬ ‫ومسالك ُمختلفة َيحف بها ‪ -‬أحياناً ‪ -‬بجانبيها تهويما ٍت‪،‬‬ ‫وفزاعا ٍت شبه عبثية أو غير منطقية أدعي لتصورا ٍت‬ ‫حدثنا عنها في كتابه القيم دكتور ‪ /‬شاكر عبد الحميد ‪..‬‬ ‫\" الغرابة ‪ ..‬المفهوم وتجلياته في الأدب \" ‪2009 ( .‬‬ ‫– ‪ 2011‬م القاهرة المنامة)‬ ‫\"الأكثر غرابة من هذه الغرابة نفسها أن تتحول‬ ‫الأشياء‪ ،‬التي كان ينبغي النظر إليها على أنها غريبة‬ ‫إلى أشياء عادية ومألوفة‬ ‫وحيث يقول‪:‬‬ ‫‪92‬‬

‫تلك العلاقات الموجودة بين أساسيات الخوف و الفزع‬ ‫والرعب من الإحساسات المخيفة‪ ،‬وعن تطورالذات –‬ ‫وارتقائها – نحو السواء أو نحو التفكك والإختلال‬ ‫والمرض وما يُصاحب هذه الحالات من مشاعر‬ ‫وحين يتحدث عن فكرة القرين أو الشبيه في الأدب‬ ‫إن الإختلال عندما يتفاقم قد يؤدي إلى الإزدواج‪ ،‬و قد‬ ‫يحدث هذا الإزدواج عند مستوى الوعي فتظه ُر‬ ‫الشخصية المتناقضة المدعية المنافقة أو ذات الحياة‬ ‫السرية ‪ ...‬الخ‪ ،‬وقد يخرج الأمر الخاص بهذا الإختلال‬ ‫على السيطرة‪ ،‬فتظهر ظاهرة القرين‬ ‫من هذا المفهوم‪ ،‬وفلسفاتهُ‪ ،‬التي وردت بكتاب أستاذنا‬ ‫د‪ /‬شاكر عبد الحميد‪ ،‬أنشأت الكاتبة بنياناً روئياً قوياً‪،‬‬ ‫وجديدا ً مزجت فيه ما بين معاناة المرأة الشخصية في‬ ‫رحلتها الحياتية الضا ِّجة بالطموحات والمشاعر‬ ‫الشخصية‪ ،‬وما بين الموروث الثقافي الإعتقادي السائد‬ ‫بين عامة البشر عن الغرابة والغرائبية الميتافيزيقية‬ ‫واللاعقلانية التي تحم ُل في غرائبيتها ال ُمعادل المنطقي‬ ‫لهذا الغير معقول والغير مفهوم من إشكاليات كأنها‬ ‫وجود مماثل ومواز ٍ للوجود الواقعي‪ ،‬والذي أحيانا ما‬ ‫يحد ُث بينهما نوعٍ من التبادل‪ ،‬والإختلاط‪ ،‬والإمتزاج‬ ‫الذي َيقر ُب من نوعية التوحد والإحلال في حياة بعض‬ ‫البشر سوا ًء بصور ٍة مرضية أو بصورة مقاومة سلبية‬ ‫‪93‬‬

‫لضغو ٍط غير ُمحتملة لتحقيق الرغبات أو الطموحات‬ ‫الذاتية‬ ‫يقول عصام أحد شخصيات الرواية‪:‬‬ ‫\"أنت نتاج علاقة والدتك مع قرينها‪ ،‬فكل تصرفاتك تدل‬ ‫أن بك جزءا ً من جني‪ ،‬ليس عقلا ً باطنا ً وظاهرا ً كما‬ ‫ظننت‬ ‫\"خالجها خوف شديد من كون قرينها قد وطأها وأن أحد‬ ‫أبناءها نتاج تلك العلاقة ال ُمحرمة‬ ‫هذا ملم ٍح إبداعي من قدرة الكاتبة على إدراك الحد‬ ‫الوهمي والفاصل بين علاقة ثنائية ُمتباينة بين نوعين‬ ‫من الخلق الإلهي \" الإنس والج ِّن \" وكان َمعينها الأول‬ ‫هذا الموروث المتراكم والمتناقل بثبا ٍت بين الأجيال ‪،‬‬ ‫وكيف حقق العقل البشري القاصر عن الإدراك هذا‬ ‫التلاحم ‪ ،‬والتزواج بينهما و أنشأ مساحة تربط بينهما‬ ‫تكون َمعبراً إلى درج ٍة من السواء النفسي ‪ ،‬وإنتشالاً‬ ‫عند حد السقو ٍط في هوة الإنكسار و الأنهيار‬ ‫اخت ُم بعبارة وردت في كتاب استانا ونالقدنا القدير‬ ‫د ‪ / .‬شاكر عبد الحميد‬ ‫\"إن المهم في تفسير القصة ليس الجانب الواقعي منها‬ ‫فقط ‪ ،‬ولا الجانب الخيالي فقط ‪ ،‬بل ذلك التردد و‬ ‫التأرجح و الإلتباس و الغموض الموجود بينهما‬ ‫‪94‬‬

‫الغرابة والإغتراب فى التراث الشعبي‬ ‫في يوميات من باطن الأرض‬ ‫الأديب والشاعر ‪/‬‬ ‫طارق فريد ( مصر)‬ ‫د كتور شاكر عبد الحميد في كتابه \" الغرابة المفهوم و‬ ‫تجلياته في الأدب أورد هذه العبارة للجاحظ يقول فيها‬ ‫الجاحظ ؛ متحدثاً عن الجان والأشباح فى كتاب \"‬ ‫الحيوان \"‬ ‫\"ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء‪ ،‬والبعد من‬ ‫الأنس – استوحش – لا سيما مع قلة الأشغال‬ ‫والمذاكرين ‪ ..‬والناس لا يفزعون إلا من شئ هائل‬ ‫شنيع‪ ،‬وقد عاينوه أو ص ِّوره لهم واصف صدوق اللسان‪،‬‬ ‫بليغا ً في الوصف‪ ،‬ونحن لم نعاينها ولا ص ِّورها لنا‬ ‫صادق\" ‪.‬‬ ‫ما بين الإهداء والمقدمة التي كتبها الكاتب قد نكون‬ ‫بحاجة إلى التوقف على عتباتهما قبل الولوج إلى النص‪،‬‬ ‫فكلمة \" المحن \" في الإهداء تحمل إلينا عصاً نتوكأُ‬ ‫عليها لندر َك الداف ُع إلى هذه السردية في قالبها الروائي‬ ‫‪95‬‬

‫الخيالي الذي اختارهُ الكاتب تعبيرا ً وتوصيفاً عن ُمعاناة‬ ‫الإنسان في بدايات قرننا الحالي‪ ،‬كما أنهُ في المقدمة‪،‬‬ ‫يُشي ُر إلى التأثير ال ُمباشر وغير ال ُمباشر لتراثنا العربي‬ ‫بصف ٍة خاصة والشرقي بصف ٍة عامة الذي يستمد هذا‬ ‫التأثير قوته ومدى تأثيرهُ من البيئات و التجمعات‬ ‫البشرية على اختلافها‪ ،‬حيث كان \"الحكي\" والنقل‬ ‫الشفاهي من الأجداد إلى الآباء و الأمهات عن‬ ‫التفسيرات لغير ال ُمد َرك من الظواهر الغير عادية والتي‬ ‫تكا ُد تكو ُن ملموسة‪ ،‬ومرئيةُ رئي العين‪ ،‬و يُستن ُد إليها‬ ‫في كل الأحيان للشعور بالراحة والإطمئنان‪ ،‬حين‬ ‫تعج ُز القلوب والعقول عن إدراك وفهم ما لا أ ِّمكن‬ ‫إدراكهُ وتفسيرهُ بإسلوب علمي أو منطق ِّي‪ ،‬تحقيقاً‬ ‫لرضاء نفس ِّي ُيعيد التوازن قبل السقوط في دوامات‬ ‫الإحباط والإنزواء التي قد تؤدي لأمراض ٍ نفسية ٍ‬ ‫خطيرة وهذا كثيراً ما يحد ُث بين وفي كل البيئات‬ ‫والطبقات الإجتماعية على اختلاف ثقافتها ودرجات‬ ‫الأُم ِّية ال ُمتفش ِّية والتي تُر ِّه ُل الأمة وتُعي ُق من حركة‬ ‫النهوض واللحاق بالأُمم من حولنا‬ ‫جاء في الأهداء ‪:‬‬ ‫فالحياة تظل مجهولة في عيون من نحب حتى تأتي‬ ‫المحن و المواقف بخريف العلاقات الزائفة‪ ،‬فكم أنت‬ ‫رائعة ً أ ُيتها المحن‬ ‫وجاء في المقدمة‬ ‫‪96‬‬

‫\"يوميات من باطن الأرض رواية من وحي الخيال لا‬ ‫تم ُت بصل ٍة لأي واقع و أحببت من خلالها أن أوجه‬ ‫رسالة للإنسان لع ِّلي أكون قد ُوفقت في نقلها وقد يكون‬ ‫لها صلة مع بعض ما جاء من تراثنا الشعبي من‬ ‫الموروث أو الحكايات التي تم نقلها عن طريق الرواة‬ ‫أو د ِّون البعض كتابة ً‪ ،‬فهي وإن تب ُد مستحيلة في عالم‬ ‫الإنس إلا أنها قد تكون نادرة الحدوث في عالم آخر‬ ‫إذا ً‪ ...‬نحن أمام رواية سردية محمولة على دعائم ٍ من‬ ‫الخيال‪ ،‬والموروث الشعبي من التراث الذي انتقل إلينا‬ ‫عن طريق الرواة‪ ،‬وبعض الكتابات ال ُمتفرقة والتي كما‬ ‫َن ِّوهنا تشك ُل الظهير الوجداني والفكري لمقومات‬ ‫الإنسان العربي الشرقي‪ ،‬كما أن الرواية بلا شك‬ ‫مسبوقة بروايا ٍت ُمماثلة في أدبنا العربي بصو ٍر مختلف ٍة‬ ‫لعل أشهرها \"كليلة ودمنة\"‪ ،‬وقصص \"ألف ليلة وليلة\"‬ ‫والعديد من قصص الخيال للكبار والصغار التي تُركز‬ ‫على إحياء القيم وبعثها ومن ث ِّم التمسك بها لتكون هوية‬ ‫للمواطن الصالح لأم ٍة صالحة• ‪.‬الرواية تدور حول‬ ‫إنسان خريج علوم مثقف عادي وبسيط‪ ،‬رحلت زوجتَهُ‬ ‫وطفلهُ الأول أثناء الولادة فاستدار للحياة وهجر المدينة‬ ‫واستقر حيث عمله كجيولجي وطبيعة عمله تكو ُن في‬ ‫الصحراء غالباً واستقر في قرية من القرى البسيطة‬ ‫الملاصقة عادة‬ ‫‪97‬‬

‫للصحراء والبعيدة عن ضوضاء المدينة وما تزخ ُر به‬ ‫من علاقا ٍت و سلوكيا ٍت ُمختلفة عما في المدن‪ ،‬أمضى‬ ‫سنوا ٍت ترافقهُ \" قطةً \" تؤنس وحشتهُ ويتزاملا في‬ ‫المأكل والمشرب والوحدة‪ ،‬و كذا الصحة والمرض‬ ‫والسعادة أيضا ً‪َ ،‬يفتق ُدها وتفتق َدهُ‪ ،‬لا يناما ولا يهجعا‬ ‫لراح ٍة إلا بتلاز ٍم شدي ٍد‪ ،‬وفجأة تختفي \"بوسي\" وهذا اسم‬ ‫القطة‪ ،‬ثم يعثر عليها‪ ،‬وتكون المفاجأة الأولى أن هذه‬ ‫القطة من عالم الج ِّن‪ ،‬ثم تكون المفاجأة الأكبر أنها‬ ‫عرضت عليه ‪ -‬بشرو ٍط ‪ -‬أن يصاحبها إلى عالم الجن‬ ‫والشرط الثاني وهو الأهم أيضا ً أنها اختارتهُ زوجاً لها‪،‬‬ ‫و أن عليه ألا يخبر أحداً ولا حتى أقربائه بذلك والثالث‬ ‫‪ -‬وهو لا يق ُل أهمية ‪ -‬أن يكون في َطوعها‪ ،‬فتكون له‬ ‫بهذه الطاعة والخضوع كل ش ٍئ في حياته حتى أنه لا‬ ‫يحتاج لش ٍئ غيرها‪ ،‬فلا َيسأ ُل أو يتسائل عما خف ِّي عنهُ‪،‬‬ ‫والمفاجأة الأقوى أنه وافق‪ ،‬وبدأ يستعد لرحل ٍة إلى باطن‬ ‫الأرض‪ ،‬ليمر بعوالم من الجن‪ ،‬كالج ِّن الأحمر‪ ،‬والج ِّن‬ ‫الأسود‪ ،‬والج ِّن الأبيض‪ ،‬و هي من عالم الج ِّن الأبيض‪،‬‬ ‫الذي هو أقرب إلى الطبيعة البشرية السو ِّية مع‬ ‫اختلافا ٍت يسيرة‪ ،‬يمضي معها في رحلة ٍ مجهولة وإن‬ ‫كان يعرف ُمستقرها عالم \"الجن الأبيض\"‪ ،‬وتمضي‬ ‫الرحلة وتتكشف معهُ عوال َم الجن الأخرى‪ ،‬و لكن‬ ‫بصورة ٍ أوضح عالم الج ِّن الأبيض وما به من عادا ٍت‬ ‫وسلوكيا ٍت قريب ٍة إلى ح ٍد بعي ٍد من عالم الإنس‪ ،‬وتبدأ‬ ‫بدايات الرحلة بإتمام مراسم الزواج منها كأميرة وإبنة‬ ‫‪98‬‬

‫أمير عالم الج ِّن الأبيض وبموافقته‪ ،‬وتتم المراسم‬ ‫بصورة \"جني ٍة \" خرافي ٍة رائعة أبهرتهُ‪ ،‬وأسعدتهُ‪،‬‬ ‫َويسك َن في قصر أمير الج ِّن‪ ،‬الذي يوليه منصباً رفيعا‬ ‫عنهُ من ال ُمت ٍع‬ ‫َسمع‬ ‫يرهُ أو‬ ‫في القصر‪ ،‬ويرى منها ما لم‬ ‫إليها النفس‬ ‫تَتُو ُق‬ ‫التي‬ ‫الزوجية ولرفاهية الحياتية‬ ‫البشرية‪ ،‬و ُيرزق منها بطفلتين‪ ،‬لكن النفس الإنس ِّية‬ ‫ُمخالفة للطبيعة الجنية‪ ،‬فشعر بالملل‪ ،‬وبدأ التساؤل في‬ ‫نفسه‪ ،‬وانعكس ذلك على طبيعة الحب والود الذي‬ ‫يربطه بزوجته‪ ،‬و والد زوجته‪ ،‬وسأل بناته ع ِّم هو‬ ‫َم ْخ ٍف عنه خاصة ً اختفاء زوجته يوما كاملا كل‬ ‫أسبوع‪ ،‬لتبدأ مغ ِّبة التساؤل الذي تع ِّهد على نفسه تجنبهُ‪،‬‬ ‫فالقاهُ عدم الإلتزام بهذا في مغ ِّبة وعقوبة نقض الوعد‪،‬‬ ‫وهي الطرد مرة أخرى من عالم الجن إلى عالم الإنس‪،‬‬ ‫ليعود مرة أخرى من باطن الأرض إلى سطح الأرض‪،‬‬ ‫ليؤكد لنا الكاتب كما جاء في نهاية المقدمة ‪:‬‬ ‫إن السعادة كثيرا ً ما تأتي متأخرة بعد العناء والشقاء‬ ‫فيكون مذاقها أجمل بكثير من تلك التي تأتي دون عم ٍل‬ ‫و َك ٍد لتبره ُن على أن الإنسان أكرم و أذكى المخلوقات‬ ‫قدم الدكتور‪ /‬شاكر عبد الحميد كتابهُ ‪ ..‬بهذه الفقرة ‪:‬‬ ‫الأكثر غرابة من هذه الغرابة نفسها أن تتح ِّول الأشياء‪،‬‬ ‫التي كان ينبغي النظر إليها على أنها غريبة‪ ،‬إلى أشياء‬ ‫عادية ومألوفة‬ ‫‪99‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook