Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore كشف أسرار المعاني عند عبد القاهر الجرجاني

كشف أسرار المعاني عند عبد القاهر الجرجاني

Published by محمد حامد, 2019-06-11 19:00:36

Description: كشف أسرار المعاني

Search

Read the Text Version

‫كشف أسرار المعاني‬ ‫عند عبد القاهر الجرجاني‬ ‫تأليف‬ ‫محمد حامد محمد‬

‫مقدمة‬ ‫تبـا َر َك الَّـ ِذى نـ َّزل ال ُف ْرقَـا َن عـى َع ْبـ ِده لِيكـو َن للعالمـ َن‬ ‫نَ ِذيـرا‪ ،‬والحمـ ُد للـه الـذي هدانَـا ِبـه وأ ْخر َجنـا مـن الظلُـا ِت‬ ‫إلى ال ُّنـو ِر‪ ،‬وصـ َّى اللـه عـى نبينـا مح ّمـد الـذي نَـ َزل القـرآ ُن‬ ‫العظيــ ُم بلســانِه لســانا عرب ًّيــا ُم ِبينــاً‪ ،‬لا يأتِيــه البا ِطــ ُل مــن‬ ‫بَــ ْن يَ َديــه ولا مــن َخلْفــه‪ ،‬اللهــ َّم َصــ ِّل عــى مح ّمــ ٍد وعــى‬ ‫أبَويْــه إبراهيــم وإســاعي َل وســلِّم تســليما كثــراً‪ .‬اللهــ َّم‬ ‫ا ْغ ِفـ ْر لنـا وار َحمنـا وأنـ َت خـ ُر الراحمـن‪.‬‬ ‫فهـذه وريقـات كتبتهـا منـذ أحـدى وعشريـن عامـاً كورقـة‬ ‫بحــث مقدمــة إلى قســم اللغــة العربيــة بكليــة التربيــة بكفــر‬ ‫الشــيخ‪ ،‬تحــت إشراف أســتاذي‪ ،‬الأســتاذ الدكتــور أحمــد عبــد‬ ‫السـيد الصـاوي أسـتاذ النقـد والأدب‪ ،‬وأسـتاذي الأسـتاذ مصطفـى‬ ‫عــي عمــر أســتاذ النقــد التحليــي‪ ،‬وأســتاذي وأســتاذ أســاتذتي‬ ‫الدكتـور عبـده عبـد العزيـز قليقلـة‪ ،‬رحـم اللـه منهـم الأمـوات‪،‬‬ ‫‪-3-‬‬

‫وأطـال عمـر الأحيـاء منهـم عـى طاعتـه‪.‬‬ ‫ثـم في ‪ 1999‬بيضـ ُت البحـث‪ ،‬ورتبتـه مـع بعـض الزيـادات‪،‬‬ ‫وحسـن التقسـيم‪ ،‬ثـم تناسـيته‪ ،‬وضـاع في أدراج مكتبتـي ‪ ...‬حتـى‬ ‫عـر ُت عليـه الآن في عـام ‪ 2011‬فتذكـرت تلـك الأيـام‪ ،‬وترحمـت‬ ‫عـى الأسـاتذة‪ ،‬ودعـوت لزمـائي‪ ،‬وشـدني الحنـن إلى البحـث مـرة‬ ‫أخـرى‪ ،‬فأخذتـه وانتويـ ُت العمـل عليـه‪ ،‬وتجهيـزه للطباعـة عـى‬ ‫أن يـرى النـور في عـالم المطبوعـات‪ ،‬ومـا ذلـك عـى اللـه ببعيـد‪.‬‬ ‫والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات‪.‬‬ ‫القاهرة‬ ‫في العاشر من المحرم لعام ‪1433‬هـ‬ ‫‪-4-‬‬

‫عبد القاهر الجرجاني‬ ‫في سيرته الذاتية والعلمية‬ ‫هـو أبـو بكـر عبـد القاهـر بـن عبـد الرحمـن بـن محمـد الجرجـاني‪ ،‬نسـبة‬ ‫إلى جرجـان‪ ،‬المدينـة الفارسـية العريقـة التـي تقـع بين طبرسـتان وخراسـان‪.‬‬ ‫ينتسـب إليهـا عـدد وافـر مـن رجـال العلـم والأدب والفقـه والحديـث‪ ،‬ع َّد‬ ‫منهـم عمـر رضـا كحالـة خمسـة وثلاثـن‪ ،‬منهـم الفقيـه والقـاضي والشـاعر‬ ‫المحـ ِّدث والمـؤرخ‪ .‬وتمتـاز هـذه المدينـة بشـدة بردهـا وح ِّرهـا‪ ،‬لكـن أهلهـا‬ ‫موصوفـون بالوقـار والمـروءة واليسـار والتـأني والأخـاق المحمـودة‪ .‬وصفهـا‬ ‫ياقــوت فقال‪:‬‬ ‫هـي مدينـة حسـنة عـى واد عظيـم في ثغـور بلـدان السـهل‬ ‫والجبــل والــر والبحــر‪ ،‬بهــا الزيتــون والنخــل والجــوز والرمــان‬ ‫وقصـب السـكر و “الأتـر ُّج”‪.‬‬ ‫ومع ذلك فقد ذ َّمها الصاحب ابن ع َّباد قائلاً‪:‬‬ ‫‪-5-‬‬

‫نــحــ ُن والــلــه مــن هـــوائـــ ِك ياجر جـــا ُن فــي خـطـ ٍة و َكـــــ ْر ٍب شديد‬ ‫َحــ ُّرهــا ُيـنـ ِضـ ُج الـجـلـو َد فــإن ه َّبـ ــــ ْت شـــمـــالاً تـــ َّكـــدر ْت بـــ ُركـــو ِد‬ ‫كــحــبــيــب مـــنـــافـــ ٍق كـــ َّلـــمـــا هــ ــــ َّم بـــو ْصـــ ٍل أحـــالَـــ ُه بـالـصـدو ِد‬ ‫لم يذكــر المؤرخــون شــيئاً عــن طفولتــه وأسرتــه ونشــأته‪،‬‬ ‫وكثـر مـن أمـور حياتـه‪ ،‬حتـى نَسـ ُب ُه توقَّـف لديهـم‪ ،‬عنـد جـ ِّده‬ ‫(محمــد)‪ .‬ولم يتوغلــوا قيــد أنملــة فــوق ذلــك ضاربــن صفحــاً‬ ‫عــن كل مــا يمــت إلى علَــم مثلــه‪ ،‬مــن إحاطــ ٍة ببيئتــه وأسرتــه‪،‬‬ ‫وتعلُّمـه وتنقلـه‪ ،‬وأسـاتذته وتلاميـذه‪ ،‬وشـؤو ٍن كثـرة تتعلـق بـه‬ ‫مـن قريـب أو بعيـد‪ .‬ويتلخـص مـا جـاء في مصـادر ترجمتـه أنـه‪:‬‬ ‫أشـعري‪ ،‬شـافعي‪ ،‬نحـوي‪ ،‬بيـان ٌّي متكلِّـ ٌم فقيـه‪ ،‬مفـ ِّر‪ ،‬شـاعر وزاد‬ ‫بع ُضهـم‪“ :‬كان‪ .‬ذا نُ ُسـ ٍك وديـن‪ ،‬قـال ال ِّسـلفي‪( :‬أحمـد بـن محمـد‬ ‫ال ِّسـلفي‪ ،‬الحافـظ المحـ ّدث المتـوفى سـنة ‪ 576‬هــ‪1180 /‬م) كان‬ ‫ورعـاً قانعـاً‪ .‬دخـل عليـه لـ ٌّص وهـو يُصـ ِّي‪ ،‬فأخـذ مـا وجـد‪ ،‬وهـو‬ ‫ينظـ ُر‪ ،‬وهـو في الصـاة فـا قطعهـا‪ ،‬وكان آيـ ًة في النحـو”‪.‬‬ ‫ويعــ ُد كتــاب “دميــة القــر وعــ ْرة أهــل العــر” لأبي‬ ‫الحسـن عـي بـن الحسـن الباخـزري المتـوفي سـنة ‪ 467‬هــ أقـرب‬ ‫مـا يكـون لعـره وحياتـه وبيئتـه‪ .‬ومـع ذلـك لم يـزد في ترجمتـه‬ ‫‪-6-‬‬

‫لــه عــى خمــس صفحــا ٍت‪ ،‬عــدد الســطور التــي خ َّصــه فيهــا‬ ‫بتعريـف وتكريـم‪ :‬تسـعة سـطور‪ ،‬والباقـي منتخبـات مـن شـعره‬ ‫الـذي لا يـزال مخطوطـاً‪.‬‬ ‫ومما جاء فيه‪:‬‬ ‫“اتَّفقــ ْت عــى إمامتــه الألســن ُة‪ ،‬وتج َّملــ ْت بمكانــه وزمانــه‬ ‫الأمكنـة والأزمنـة‪ ،‬وأثنـى عليـه طيـ ُب العنـاصر‪ ،‬وثُنيـ ْت بـه عقو ُد‬ ‫الخنـاصر‪ ،‬فهـو فـ ْر ٌد في علمـه الغزيـر‪ ،‬لا بـل هـو العلَـ ُم والفـر ُد في‬ ‫الأئمـة المشـاهير”‪.‬‬ ‫هـذا جـ ٌّل مـا جـاء في مصـادر ترجمتـه‪ ،‬ومعظمهـا يقتفـي‬ ‫أثـر الآخـر‪ ،‬ولا تـكاد تحظـى بكلمـة واحـدة تـيء ظلمـة حياتـه‬ ‫الغابـرة‪.‬‬ ‫وأمـا عـن تاريـخ مولـده‪ ،‬فهـو مسـتنتج اسـتنتاجاً ولم يع ِّي ْنـه‬ ‫أحــد إل ّاَ عــى ســبيل الترجيــح‪ ،‬لكنهــم اتفقــوا أن وفاتــه كانــت‬ ‫سـنة ‪ 471‬هــ ‪1078 /‬م وقيـل سـنة ‪ 474‬هــ‪ .‬و ُر ِّجـح أن يكـون‬ ‫مولـده سـنة ‪ 400‬هــ ‪1010 /‬م‪.‬‬ ‫وفي كتابــه‪“ :‬عبــد القاهــر الجرجــاني وجهــوده في البلاغــة‬ ‫العربيــة” يعمــد الدكتــور أحمــد بــدوي‪ ،‬إلى شــعره لاســتخلاص‬ ‫بعـض مزايـاه وخصالـة ونضالـه‪ ،‬ولـولا هـذا الشـعر‪ ،‬لكانـت حيـاة‬ ‫‪-7-‬‬

‫الجرجـاني‪ ،‬غائبـة كلِّيـاً عـن قـارئ اليـوم الـذي تعـ َّود أن يطَّلـع‬ ‫عــى ســر أعلامــه بوفــرة ويُــ ْر‪ ،‬ولكــن الأيــام لهــا تصاريفهــا‪،‬‬ ‫فتُعتِّـم عـى بعـض النوابـغ الأفـذاذ‪ ،‬وتفيـض بمـا لا حـر لـه عـى‬ ‫كثـر مـن رجـال السـلطان والنفـوذ‪ ،‬وقليـ ٍل مـن العظـاء الـذي‬ ‫تحـ ُّدوا التاريـخ فحفـروا سـرهم عـى صفحاتـه َح ْفـراً لم تسـتطع‬ ‫قــوى الظــام طمســها أو تشــويهها‪ .‬هــذا الكتــاب الــذي يبلــغ‬ ‫‪ 428‬صفحـة مـن الحجـم الوسـط لم نقـرأ فيـه شـيئاً عـن حيـاة‬ ‫الجرجــاني‪ ،‬فيــا خــا الإشــارات الخاطفــة التــي لخصهــا كتَّــاب‬ ‫التراجـم‪ ،‬والومضـات الشـعرية التـي عكسـت أصـدا ًء غـر مدويـة‬ ‫لواقعـه النفـي‪ .‬حتـى أسـاتذته‪ ،‬لم يزيـدوا عـى اثنـن لقيهـا أبـو‬ ‫بكـر وأخـذ عنهـا‪ ،‬الأول‪ :‬أبـو الحسـن محمـد بـن الحسـن بـن‬ ‫عبـد الـوارث الفـارسي النحـوي‪ ،‬ابـن أخـت العـالم الشـهير أبي عـي‬ ‫الفـارسي‪ .‬والثـاني أبـو الحسـن عـي بـن عبـد العزيـز الجرجـاني‪،‬‬ ‫المعـروف بالقـاضي الجرجـاني المتـوفى سـنة ‪392‬هــ‪1002 /‬م‪ ،‬الأمـر‬ ‫الـذي يدعـو إلى الغرابـة‪ ،‬في إمـكان لقـاء أبي بكـر بـه والتمكـن‬ ‫مــن الأخــذ عنــه؛ وهــو الــذي لم يعــرف عنــه الحيــاة الطويلــة‪.‬‬ ‫والأرجـح أن يكـون عبـد القاهـر قـد اطَّلـع عـن َكثَـب عـى كتابـه‬ ‫“الوســاطة بــن المتنبــي وخصومــه” وفيــه يُغلِّــب القــاضي َدفَّــ َة‬ ‫المتنبــي عــى أبي تمــام وغــره مــن الشــعراء والمنتقديــن‪ ،‬فلقــي‬ ‫‪-8-‬‬

‫ذلــك هــو ًى في نفســه لأنــه مــن هــذا الفريــق‪ .‬أمــا تلاميــذه‬ ‫فالحديـث عنهـم لا يـروي غليـ ًا‪ ،‬إذ ذكـر لـه تلميـذان فقـط‪ ،‬هـا‬ ‫عـي بـن زيـد الفصيحـي‪ ،‬وأبـو نـر أحمـد بـن محمـد الشـجري‪،‬‬ ‫الـذي أخـذ عنـه كتـاب المقتصـد” في الن ْحـو‪.‬‬ ‫ومـن الثابـت أن عبـد القاهـر لم يغـادر جرجـان إلى بلـد آخر‪،‬‬ ‫مـن المهـد إلى اللحـد‪ ،‬وكان الطـاب والوافـدون إليـه‪ ،‬يقصدونـه‬ ‫مـن بـاد بعيـدة ويقيمـون بقربـه للاسـتمتاع إليـه والأخـذ عنـه‪.‬‬ ‫وأمـا خصالـه وطبائعـه النفسـية‪ ،‬فلـم يُـر أحـد إليهـا إلاَّ‬ ‫عرضــاً وبكلــات خاطفــة‪ ،‬كقــول تــاج الديــن ال ّســ ْبكي‪“ :‬صــار‬ ‫الإمـا َم المشـهور المقصـود مـن جميـع الجهـات مـع الديـن المتـن‬ ‫والــو َرع وال ُّســكون”‪.‬‬ ‫وقــد عــر َض الدكتــور أحمــد بــدوي لبعــض مــا تــراءى لــه‬ ‫مـن شـعره الـذي رسـم شـيئاً مـن أحوالـه وعلاقاتـه ومواقفـه غـر‬ ‫المعلنـة‪ ،‬وألخصهـا بمـا يـي‪:‬‬ ‫* سـخطه عـى عـره وعـى الأيـام التـي تضـع مـن قـدر‬ ‫العلـاء وترفـع مـن شـأن الجهـاء مـن خـال قولتـه الشـعرية‬ ‫الصادمــة‪:‬‬ ‫‪-9-‬‬

‫كـــ ِّبـــ ْر عـلـى الـــ ِعـــ ْلـــم‪ ،‬لا َتـــ ْر ْمـــ ُه و ِمــــ ْل إلـــى الـ َجـ ْهـل َمــ ْيــ َل هـا ِئـ ْم‬ ‫وعـــــ ْش حـــمـــاراً تــعــ ْش سـعـيـداً فـالـسـعـد فـــي طــالــع الـبـهـائـم‬ ‫أو قوله‪ ،‬على سخ ٍط وأَنف ٍة مؤلمة‪:‬‬ ‫هـــــــذا زمــــــــــا ٌن لــــيــــس فــيــه ســــوى الـــ َّنـــذالـــ ِة والـــ َجـــهـــالَـــ ْه‬ ‫لـــــم َيــــــــــ ْرق فــــيــــه صــــا ِعــــ ٌد إل َّا و ُســـــ َّلـــــمـــــه الــــنــــذالــــة‬ ‫بَ َر ُمـه بالنـاس وبنفسـه وشـعور بمـا يشـبه حبسـة اللسـان‪.‬‬ ‫ولم يتوافـق ذلـك مـع ورعـه وسـكونيَّته وطـو ِل باعـه في الـكلام‬ ‫المرسـل المحكـم المتدفـق‪.‬‬ ‫* صمـت المؤرخـن عـى وضعـه الأسروي‪ ،‬زوجـ ًة وولـداً‪ ،‬وأ ًّمـا‬ ‫وأَبـاً وأ َّشـقاء ‪ ...‬والأرجـح أن يكـون والـداً وزوجـاً‪ ،‬لكـ َّن تفرغـه‬ ‫للعلــم والديــن‪ ،‬ولقاصديــه مــن أهــل العلــم والمعرفــة‪ ،‬شــغ َل‬ ‫النـا َس عـن أمـور أسرتـه‪ ،‬وح َصهـا بجهـاده العلمـي المنـوع بـن‬ ‫نحــو وتفســر وأدب وشــعر وثقافــة فكريــة متعــددة الينابيــع‬ ‫مـا بـن يونانيـة وفارسـية وهنديـة‪ ،‬فضـ ًا عـن ثقافتـه العربيـة‬ ‫القرآنيـة الواسـعة؛ فتنوعـت كتاباتـه ومصنفاتـه بـن نحـو وبلاغـة‬ ‫وتفسـر وفقـ ٍه وأدب‪ ،‬لذلـك وجدنـا تراجم لـه في تراجـم الطبقات‬ ‫الشــافعية‪ ،‬وطبقــات المف ِّسيــن‪ ،‬وطبقــات النحــاة‪ ،‬وطبقــات‬ ‫الأدبـاء والبلغـاء‪.‬‬ ‫‪- 10 -‬‬

‫آثاره‬ ‫لم يـرك الجرجـاني آثـاراً عديـدة‪ ،‬ولكنـه نـ َّوع فيـا تـرك‪ ،‬وذاع‬ ‫صيـت بعـض آثـاره بمـا يغنـي عـن التعـداد والكـرة‪ .‬وسـأعرض‬ ‫لهـا تباعـاً بحسـب انتمائهـا العلمـي‪.‬‬ ‫أ ‪-‬في النحو‬ ‫‪- 1‬الم ْغنــي‪ ،‬كتــاب كبــر وض َعــه في ثلاثــن مجلَّــدة‪ ،‬كنايــة‬ ‫عـن شرح مبسـط لكتـاب‪“ :‬الإيضـاح في النحـو” لأبي عـي الفـارسي‬ ‫المتــوفي ســنة ‪377‬هــ‪987 /‬م وهــو كتــاب مق َّســم بــن النحــو‬ ‫والــرف‪ ،‬أثــار مــن إعجــاب الجرجــاني أن وضــع لأَجلــه أربعــة‬ ‫كتــب‪ ،‬أولهــا “المغنــي” ‪...‬‬ ‫‪ ”- 2‬المقتصــد” ثــاث مجلــدات‪ ،‬أو أقســام‪ ،‬وهــو ملخــص‬ ‫“للمغنـي” وقـد أَتمّـه الجرجـاني بخـط يـده في رمضـان سـنة‪454‬‬ ‫هـ‪.‬‬ ‫‪ ”- 3‬التكملــة” أو ‪-‬التت َّمــة‪ ،‬قيــل إن الجرجــاني قــد أضــاف‬ ‫إلى كتـاب “الإيضـاح” بعـض المسـائل النحويـة ‪-‬وذكـره بروكلـان‪.‬‬ ‫فقـال‪“ :‬كتـاب التتمـة‪ ،‬في الجملـة” وأشـار إلى رقـم مخطوطـه في‬ ‫كل مـن المتحـف البريطـاني والمكتـب الهنـدي‪.‬‬ ‫‪ ”- 4‬الإيجــاز” وهــو مختــر لكتــاب “الإيضــاح”‪ .‬ويذكــر‬ ‫‪- 11 -‬‬

‫حاجـي خليفـة عـدداً كبـراً مـن الـروح التـي ُعنيـت بكتـاب‬ ‫“الإيضــاح” تتجــاوز العــرات‪.‬‬ ‫‪ ”- 5‬ال ُجمـل” وسـ ِّمي‪ :‬الجرجانيـة”‪ ،‬مختـر لعلـم النحـو‪،‬‬ ‫وض َعــه في خمســة فصــول‪ ،‬ف َّصلهــا حاجــي خليفــة كــا يــي‪1 :‬‬ ‫‪-‬في المقدمـات‪- 2 .‬في عوامـل الأف َعـال‪- 3 .‬في عوامـل الحـروف‪4 .‬‬ ‫‪-‬في عوامـل الأسـاء‪- 5 .‬في أشـياء منفـردة‪ .‬وذكـر لـه عـدداً كبـراً‬ ‫مـن الـروح لكثـر مـن علـاء العصـور اللاحقـة‪ ،‬وصـولاً حتـى‬ ‫منتصـ ِف القـرن الثامـن الهجـري‪.‬‬ ‫وذكــر بروكلــان‪ ،‬أنــه منظومــة نحويــة‪ُ ،‬شحــت كثــراً‪،‬‬ ‫وقـد عـ َّدد ُ َّشا َحهـا وأسـاء شروحهـم‪- 6 .‬التلخيـص” وهـو شرح‬ ‫الكتــاب “الجمــل”‪.‬‬ ‫‪- 7‬العوامـل المائـة في النحـو” أو‪ :‬كتـاب العوامـل المائـة‪ ،‬أو‬ ‫مائـة عامـل‪ .‬أقبـل عليـه القـ َّراء والعلـاء‪ ،‬فشرحـوه وب َّسـطوه‪،‬‬ ‫علَّقـوا عليـه وذكـر منهـم حاجـي خليفـة‪ ،‬مـا بـن شـارح ومترجـم‬ ‫وناظــم و ُم ْعــ ِرب ومعلِّــق ومختــ ِر‪ :‬اثنــي عــر عالمــاً‪ ،‬آخرهــم‬ ‫صـوفي الأدرنـوي المتـوفي سـنة ‪ 1024‬هــ‪./‬‬ ‫أمــا بروكلــان فقــد عــ َّن ورقَّــم لــه عــرات المخطوطــات‬ ‫في عـدد كبـر مـن المكتبـات العربيـة والأجنبيـة‪ ،‬وذكـر لـه سـتة‬ ‫‪- 12 -‬‬

‫وثلاثـن شرحـاً‪ ،‬وتسـع منظومـات مخطوطـة ومطبوعـة‪.‬‬ ‫‪ ”- 8‬العمـدة” في التصريـف (أشـار إليـه “كشـف الظنـون”‬ ‫دون تعريـف)‪.‬‬ ‫‪- 9‬كتــاب في العــروض (أشــار إليــه “فــوات الوفيــات” دون‬ ‫تعريــف)‪.‬‬ ‫ب ‪-‬في الشرح والتفسير القرآني‬ ‫‪ ”- 10‬كتاب المفتاح وشرح الفاتحة” في مجلد واحد‪.‬‬ ‫‪- 11‬المعتضـد‪ ،‬شرح كبـر لكتـاب “إعجـاز القـرآن” لأبي عبـد‬ ‫اللـه محمـد بـن زيـد الواسـطي المتـوفي سـنة ‪ 306‬هــ‪.‬‬ ‫‪- 12‬شرح “الإعجـاز” الصغـر‪ ،‬ذكـره حاجـي خليفـة كـا ذكـر‬ ‫شرحـه الأول المعتضد‪.‬‬ ‫وهنـاك شروح أخـرى لإعجـاز القـرآن‪ ،‬قـام بهـا علـاء أجـاَّء‬ ‫بينهـم فخـر الديـن الـرازي والباقـ َاّني‪.‬‬ ‫‪- 13‬الرسـالة الشـافية كتـاب خـاص في (بيـان عجـز العـرب‬ ‫عـن معارضـة القـرآن‪ ،‬وإذعانهـم وعلمهـم أن الـذي سـمعوه مـن‬ ‫آي الذكـر الحكيـم فائـ ٌت للقـوى البشريـة ومتجـاو ٌز للـذي يتَّسـع‬ ‫لـه َذ ْر ُع المخلوقـن) هكـذا قـ َّدم لهـا الجرجـاني‪ .‬وقـد نـرت هـذه‬ ‫الرسـالة مـع رسـالتين أُ ْخ َريـن‪ ،‬واحـدة للر َّمـاني‪ ،‬والثانيـة للخطَّـابي‪،‬‬ ‫‪- 13 -‬‬

‫في كتـاب واحـد‪ ،‬حققـه كل مـن محمـد خلـف اللـه ود‪ .‬محمـد‬ ‫زغلـول سـام‪ ،‬وصـدر عـن دار المعـارف بمـر سـنة ‪( 1968‬طبعـة‬ ‫ثانيـة) وعـدد صفحـات “الرسـالة الشـافية” تسـعون صفحـة مـن‬ ‫الكتـاب‪.‬‬ ‫‪- 14‬درج الـدرر‪ ،‬في تفسـر القـرآن ذكـره بروكلـان‪ ،‬وأشـار‬ ‫إلى مخطوطـن لـه في كل مـن الأسـطوريات والقاهـرة‪ .‬كـا ذكـره‬ ‫حاجـي خليفـة عـى وجـه الظـ ّن‪.‬‬ ‫ج ‪-‬في علوم البلاغة‬ ‫‪- 15‬دلائـل الإعجـاز‪ ،‬العلامـة الفارقـة في نتاج الرجـل وعصره‪،‬‬ ‫والأثـر الأنفـس بـن كتـب ومصنفـات البلاغـة‪ ،‬مـن قبـل ومـن‬ ‫بعـد‪ .‬فهـو لم يضـع أسـس علـم ر ْكـ ٍن مـن علـوم البلاغـة العربيـة‪،‬‬ ‫بـل وضـع مصطلحـاً علميـاً فنيـاً أدبيـاً‪ ،‬قائمـاً عـى نظريـة متكاملة‬ ‫لم يـزد عليهـا العلـاء مـن بعـد إلاَّ التبسـيط والتنويـر ‪َ ...‬عنيـ ُت‬ ‫مصطلـح “النظـم” ونظريتـه ‪...‬‬ ‫‪- 16‬أسرار البلاغـة‪ ،‬العلامـة الثانيـة‪ ،‬والمَ ْعلَـم الثـاني في نتـاج‬ ‫الرجـل والعـر‪ ،‬وهـو خـاص بعلمـي‪ :‬البيـان بخاصـة‪ ،‬والبديـع‬ ‫بعامـة‪.‬‬ ‫وقــد صــدر الكتــاب في غــر طبعــة‪ ،‬أهمهــا طبعــة المنــار‪،‬‬ ‫‪- 14 -‬‬

‫التــي أشرف عليهــا الشــيخ رشــيد رضــا‪ ،‬ونشرتهــا دار المعرفــة‬ ‫مصــورة عنهــا‪ ،‬في بــروت ســنة ‪ .1978‬وكان قــد صــدر محققــاً‬ ‫مــن المســتشرق هــ‪ .‬ريــر‪ ،‬ثــم أُعيــد نــره مصــ َّوراً‪ ،‬في دار‬ ‫المسـرة طبعـة ثالثـة بـروت سـنة ‪ .1983‬ونَ َسـق ُه في الموضوعـات‬ ‫والمعالجـة والتبويـب‪ ،‬شـب ٌه بنسـقية “دلائـل الإعجـاز” أي تداخـل‬ ‫الموضوعـات بعضهـا ببعـض‪ ،‬وتكـرار المعالجـة للمسـألة الواحـدة‪،‬‬ ‫مـن زوايـا أخـرى‪ ،‬والتعويـل باسـتمرار عـى الشـواهد الشـعرية‬ ‫التـي بلغـت في “أسرار البلاغـة” نسـب ًة عاليـة‪ ،‬كذلـك الشـواهد‬ ‫القرآنيــة التــي لم تكــن بنفــس النســبة التــي كانــت في “دلائــل‬ ‫الإعجــاز”‪.‬‬ ‫‪- 17‬التذكـرة‪ ،‬وهـو كتـاب منـوع الموضوعـات‪ ،‬لكنهـا تتصـل‬ ‫بمعظمهـا بمـا طـرح في كتـاب “دلائـل الإعجـاز” مـا لم يسـتوف‬ ‫القــول فيهــا هنــاك‪ .‬ومــا يوحــي لنــا بذلــك‪ ،‬أن عبــد القاهــر‬ ‫الجرجـاني لم يَ ْختـم كتابـه “الدلائـل” بمـا بـدأ بـه مـن حمـد اللـه‬ ‫وامتنانـه‪ ،‬وهكـذا معظـم كتبـه‪.‬‬ ‫د ‪-‬في الشعر‬ ‫ترك عبد القاهر في هذا الجانب مصنفاً واحداً هو‪:‬‬ ‫‪- 18‬المختــار مــن دواويــن المتنبــي والبحــري وأبي تمــام‪:‬‬ ‫‪- 15 -‬‬

‫اعتنــى بنســخه وتصحيحــه ومعارضتــه بالأصــول وش َر َحــه‪ :‬عبــد‬ ‫العزيـز الميمنـي‪ ،‬عليكـرة ‪-‬الهنـد‪ ،‬وصـدر ضمـن كتـاب بعنـوان‪:‬‬ ‫“الطرائـف الأدبيـة” الـذي وضعـه الميمنـي عـى قسـمين‪ ،‬الأول‪:‬‬ ‫لدواويـن كل مـن الأَفـوه الأودي والشـنفرى‪ ،‬وتسـع قصائـد نادرة‪،‬‬ ‫والثـاني‪ :‬للمختـارات‪.‬‬ ‫صـدر الكتـاب عـن دار الكتـب العلميـة في بـروت مصـ َّوراً‬ ‫عـن طبعـة صـدرت في القاهـرة سـنة ‪1937‬؛ وقـد وقـع الميمنـي‬ ‫عــى نســخة مــن المخطوطــة في إحــدى قــرى الهنــد في مملكــة‬ ‫حيـدر آبـاد‪ .‬أخـذ الميمنـي عـى الجرجـاني إغفـال قصيـد ٍة حكميـة‬ ‫للمتنبـي ‪-‬لم يثبتهـا في المختـارات مـع أ َّن هـذه الأخـرة‪ ،‬قـد ع َّدهـا‬ ‫الجرجــاني مــن بــن عيــون الشــعر الحكمــي للشــعراء الثلاثــة‬ ‫‪-‬وهـذه القصيـدة نون َيّـة‪ ،‬مطلعهـا‪:‬‬ ‫َصــ ِحــ َب الــنــا ُس قبلنا ذا الـزمـانـا و َعــنــا ُهــم مــن شــأنــه مــا عنانا‬ ‫ومما جاء في مقدمة “المختارات”‪.‬‬ ‫“هــذا اختيــا ٌر مــن دواويــن المتنبــي والبحــري وأبي تمــام‬ ‫عمدنـا فيـه لأشرف أجنـاس الشـعر‪ ،‬وأحقهـا بـأن يُحفـظ ويُـروى‬ ‫ويــو ّكل بــه ال ِه َمــ ُم‪ ،‬ويُ َفــ َّرغ لــه البــا ُل‪ ،‬وتُــرف إليــه العنايــة‪،‬‬ ‫ويقــ َّدم في الدرايــة‪ ،‬وتُ ْع َمــر بــه الصــدور‪ ،‬ويســتود َع القلــوب‪،‬‬ ‫‪- 16 -‬‬

‫ويعــ َّد للمذاكــرة‪ ،‬ويُح َّصــل للمحــاضرة‪.‬‬ ‫وذلـك مـا كان مثـاً سـائراً‪ ،‬ومع ًنـى نـادراً‪ ،‬وحكمـ ًة وأدبـاً‪،‬‬ ‫وقـولاً ف ْضـ ًا‪ ،‬ومنطقـاً جـزلاً‪“ .‬‬ ‫ويقـع كتـاب “المختـارات” مـن كتـاب “الطرائـف” في مائـة‬ ‫وخمـس صفحـات‪ ،‬نصيـ ُب المختـار مـن شـعر البحـري‪ ،‬وحـده‪:‬‬ ‫في حــدود النصــف‪ ،‬يليــه المتنبــي فأبــو تمــام‪ ،‬مــع العلــم بــأن‬ ‫الجرجـاني مـن المعجبـن جـداً بشـعر المتنبـي عـى سـائر الشـعراء‪.‬‬ ‫وتقديــري هــو أ َّن نســبة الشــعر الكــرى ‪-‬للبحــري ‪-‬هاهنــا‪ ،‬لا‬ ‫تعــود إلى عامــل آخــر‪ ،‬غــر كــر حجــم ديــوان البحــري الــذي‬ ‫يقـارب الضعفـن لديـوان المتنبـي‪.‬‬ ‫‪ -‬بقــي أثــر آخــر مــن آثــار الجرجــاني ‪-‬هــو شــعره‪ ،‬الــذي‬ ‫ذكَـره بعـ ُض كتـب التراجـم‪ ،‬ولم يُـر أحـد إلى عنـوا ٍن واحـد لـه‪.‬‬ ‫والمرجــح أنــه لم يــرك ديوانــاً مجموعــاً عــى غــرار ســائر كتبــه‬ ‫ومصنفاتـه‪ ،‬ربمـا لأنـه لم يكـن لديـه مـا يوجـب جمعـه وحفظـه‬ ‫في كتــاب مســتقل‪.‬‬ ‫ومــا وصــل إلينــا مــن هــذا الشــعر‪ ،‬يقــع بعامــة في خانــة‬ ‫الشـعر الحكمـي التعليمـي الـذي يصلـح لنظـم القواعـد والمعارف‬ ‫‪- 17 -‬‬

‫المب َّوبـة المف َّرعـة‪.‬‬ ‫هكــذا رأينــاه في “هائيتــه” التــي ختــم بهــا “مدخلــه” إلى‬ ‫كتابـه “دلائـل الإعجـاز” وهـي في ثلاثـة وعشريــن بيتـاً‪ ،‬ض َّمهـا‬ ‫حقيقـة “النظـم” التـي عرضهـا بإسـهاب في كتابـه‪ ،‬وربطهـا كليّـاً‬ ‫بمعـاني النحـو وأحكامـه ووجوهـه‪ ،‬كقولـه‪:‬‬ ‫وقـد عل ْمنا بــأ َّن الن ْظ َم ليس سوى ُح ْكم من النحو َن ْمضي في تو ِّخي ِه‬ ‫لـو ن َّقب ال َأ ْرض بــا ٍغ غير ذا َك ل ُه مع ًنى وصــ َّعــ َد َيـ ْعـلـو فـي َتر ِّقيه‬ ‫مــا عـــاد إل َّا بــ ُخــ ْســ ٍر فــي تط ُّلبه ولا رأى غـيـر َغـــ ِّي فــي َتـ َبـ ِّغـيـ ِه‬ ‫ولـو تأملنـا المقاطـع الشـعرية التـي أثبتهـا لـه كتَّـا ُب التراجم‪،‬‬ ‫ولا سـيما “دميـة القـر” للباخـرزي خرجنـا بانطبـاع خـاص‪ ،‬أن‬ ‫هـذا الشـعر‪ ،‬لا يشـكل نتاجـاً أدبيـاً قائمـاً بذاتـه‪ .‬إن هـو إل َاّ نفثات‬ ‫قصـرة النفـس لمـا يحتـدم في داخلـه‪ ،‬عوضـاً مـن أن يصوغهـا نـراً‬ ‫في رسـائل ومقامـات‪ ،‬نظمهـا شـعراً‪ ،‬أحكـم فيـه العقـل وموازنـة‬ ‫الأشـياء‪ ،‬وغلـب عليـه التمثُّـل ب ِعـ َر الحيـاة بال َقـ ْدر الـذي أتيـح لـه‬ ‫استشـفافها واعتصارهـا‪ ،‬كقولـه‪:‬‬ ‫أ ُّي وقـــ ٍت هـــذا الـــذي نـحـ ُن في ِه قــد َدجــــا بـالـقـيـاس والـتـشـبـيـ ِه‬ ‫كـ َّلـمـا ســــار ِت الـعـقـو ُل لـكـي َتـ ْقــ ـــ َطــ َع تــيــهــاً‪ ،‬تــغــ َّولــ ْت فــي تي ِه‬ ‫وقولــه‪ ،‬وقــد فاتــه الابتــكار الفكــري ‪-‬عــى حــد وصــف‬ ‫‪- 18 -‬‬

‫الباخــرزي لبعــض أشــعاره ‪-‬مســتعيضاً عنــه بال َّصنعــة البديعيــة‬ ‫التـي تمثـل الاتجـاه الشـعري العـام لكثـر مـن شـعراء عـره‪،‬‬ ‫والعصــور اللاحقــة‪ .‬والقــول هنــا‪ ،‬مــن قصيــدة في اليــأس مــن‬ ‫النــاس‪:‬‬ ‫لـــيـــس بــــالإقــــبــــال مـــــا ِنـــيــــ ــــــــ َل بـــتـــقـــبـــيـــل الــــكــــا ِب‬ ‫إ َّن بـــاغـــي الــــربــــ ِح والـــ ُخـــ ْســــ ــــــــــرا ِن فـــــي بــــــــا ٍب وبــــــا ِب‬ ‫تلكــم هــي الآثــار التــي أمكــن الوقــو ُف عندهــا‪ ،‬ور ْصــ ُد‬ ‫مــا فيهــا مــن جوانــب علميــة وفنيــة‪ ،‬إ ْن فاتنــي فيهــا العمــق‬ ‫والشــمول‪ ،‬فلــم ت ُفتْنــي الإحاطــة ولــو بأطرهــا العريضــة‪1.‬‬ ‫‪ 1‬من مقدمة كتاب دلائل الإعجاز في علم المعاني تح ياسين الأيوبي‪.‬‬ ‫‪- 19 -‬‬

‫اللفظ والمعنى قبل عبد القاهر‬ ‫لم يكــن الإمــام عبــد القاهــر الجرجــاني هــو ُمنشــأ هــذه‬ ‫القضيـة‪ ،‬بـل سـبقه كثـ ٌر مـن علـاء العربيـة‪ ،‬وأشـاروا إلى النظـم‬ ‫وصحتـه أو عـدم صحتـه في كلام مـا‪ ،‬وأرجعـوا المِزيـة البلاغيـة إلى‬ ‫صحتـه‪ ،‬لكنهـم لم يصرحـوا بكيفيتـه‪ ،‬ولنسـتعرض آراء العلـاء في‬ ‫ذلـك‪:‬‬ ‫ •أبـو عمـر الشـيباني‪ ،‬فقـد استحسـن بيتـن مـن‬ ‫الشـعر‪ ،‬لِـا اشـتملا عليـه مـن معنـى وحكمـة وأولـع بهـا‬ ‫ولوعــاً شــديداً‪ ،‬حتــى إنــه أمــر بتدوينهــا ووهــا قــول‬ ‫الشــاعر‪:‬‬ ‫لا تحسب َّن المو َت مـو َت ال ِبلى وإ ّنـــ َمـــا الــمــو ُت ُســــؤا ُل الــ ِّرجــا ْل‬ ‫ِكـاهـ َمـا َمــــو ٌت‪ ،‬ولـكـ َّن َذا أشــ ُّد ِمــ ْن ذا َك لِـــ ُذ ِّل الـ ُّسـؤا ْل‬ ‫وقــد عــاب الجاحــظ عــى أبي عمــرو الشــيباني استحســانه‬ ‫لهذيـن البيتـن بقولـه‪“ :‬وذهـب ال ّشـيخ إلى استحسـان المعنـى‪،‬‬ ‫والمعــاني مطروحــة في الطريــق يعرفهــا العجمــ ّي والعــرب ّي‪،‬‬ ‫والبـدو ّي والقـروي‪ ،‬والمـدن ّي‪ .‬وإ ّنـا الشـأن في إقامـة الـوزن‪ ،‬وتخـ ّر‬ ‫اللفـظ‪ ،‬وسـهولة المخـرج‪ ،‬وكـرة المـاء‪ ،‬وفي ص ّحـة الطبـع وجـودة‬ ‫‪- 20 -‬‬

‫ال ّسـبك‪ ،‬فإنمـا الشـعر صناعـة‪ ،‬وضرب مـن ال ّنسـج‪ ،‬وجنـس مـن‬ ‫التّصوير‪”.‬اهــ‪1‬‬ ‫ونحــن نــرى الجاحــظ وكأنــه يتعجــب مــن استحســان أبي‬ ‫عمـرو الشـيباني للمعنـى والمنـاصرة لـه مـع العلـم بـأن المعـاني‬ ‫مطروحـة في الطريـق يعرفهـا مـن ليـس لـه أي علـم أو درايـة بفن‬ ‫العربيـة مـن أمثـال البـدوي والعجمـي‪ ،‬والجاحـظ هنـا لا يظنـه‬ ‫أحـ ٌد بأنـه لفظـي‪ ،‬لا بـل هـو أيضـاً يقـدر المعنـى ويعـرف بـه‪،‬‬ ‫وقـد نـ ّوه عليـه في مواضـع كثـرة مـن كتبـه‪ ،‬فهـو يقـول “ ومـدار‬ ‫الأمـر عـى المعـاني لا الألفـاظ‪ ،‬والحقائـق لا العـرات“‪2.‬‬ ‫ •الجاحــظ‪ ،‬وكــا ورد في كتابــه البيــان والتبيــن‪،‬‬ ‫قولـه “فـإذا كان المعنـى شري ًفـا واللفـظ بلي ًغـا‪ ،‬وكان صحيـح‬ ‫الطبـع‪ ،‬بعيـ ًدا مـن الاسـتكراه‪ ،‬ومنز ًهـا عـن الاختـال مصونـاً‬ ‫عــن التكلــف‪ ،‬صنــع في القلــوب صنيــع الغيــث في التربــة‬ ‫الكريم ـة‪3.‬‬ ‫فالجاحـظ يشـيد باللفـظ‪ ،‬فـالأدب عبـارة جميلـة تتمثـل‬ ‫في اختيـار اللفـظ وجـودة النظـم‪ ،‬والشـاعر هـو مـن يجعـل‬ ‫‪ 1‬الحيوان ‪ 131/3‬تح عبد السلام هارون ط عيسى الحلبي‪.‬‬ ‫‪ 2‬السابق ‪542/5‬‬ ‫‪ 3‬البيان والتبيين ‪ 83/1‬تح عبد السلام هارون ط ‪ 2‬لجنة التأليف سنة ‪.1960‬‬ ‫‪- 21 -‬‬

‫الشـعر صناعتـه ولونًـا مـن التصويـر‪.‬‬ ‫ •بــر بــن المعتمــر‪ ،‬والــذي ذكــر في صحيفتــه‬ ‫الخالـدة “ ومـن أراغ معنـى كريمـا فليلتمـس لـه لفظـا كريمـا‪،‬‬ ‫فـإن حـ ّق المعنـى الشريـف اللفـظ الشريـف‪ ،‬ومـن حقهـا أن‬ ‫تصونهـا عـا يفسـدهما ويهجنهـا “‪1‬‬ ‫مـن ذلـك نـرى أن بـر بـن المعتمـر لا يفـرق بـن اللفـظ‬ ‫والمعنــى‪ ،‬وإنمــا يســوي بينهــا ويجعلهــا تبعــاً لبعــض‬ ‫ويجــب حمايتهــا وصيانتهــا‪.‬‬ ‫ •ابــن قتيبــة‪ ،‬حيــث قســم الشــعر عــى أســاس‬ ‫هـذه النظريـة إلى أربعـة أقسـام” أ‪-‬ضرب منـه حسـن لفظـه‬ ‫وجـاد معنـاه‪.‬‬ ‫ب‪-‬وضرب منـه حسـن لفظـه وحـا‪ ،‬فـإذا أنـت فتّشـته‬ ‫لم تجـد هنـاك فائـدة في المعنـى‪.‬‬ ‫ج‪-‬وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه‪.‬‬ ‫د‪-‬وضرب منه تأ ّخر معناه وتأ ّخر لفظه‪2.‬‬ ‫ •المـرد‪ ،‬يعيـب الـكلام إذا لم يجـر عـى نظـم ولم‬ ‫‪ 1‬البيان ‪136/1‬‬ ‫‪ 2‬الشعر والشعراء ‪ 64/1‬تح شاكر ط دار المعارف سنة‪1966‬‬ ‫‪- 22 -‬‬

‫يقـع إلى جانـب الكلمـة مـا يشـاكلها‪ ،‬إذ أول مـا يحتـاج إليـه‬ ‫القـول إن ينظـم عـى نسـق‪ ،‬وأن يوضـع عـى رسـم المشـاكلة‪.‬‬ ‫ويسـتدل عـى ذلـك بقـول عمـر بـن لجـأ لإبـن عـ ٍم لـه‪ :‬أنـا‬ ‫أشـ�عر من�ـك‪ ،‬قـ�ال لـ�ه‪ ،‬وكي�ـف? قـ�ال‪ :‬لأني أقـ�ول البي�ـت وأخـ�اه‪،‬‬ ‫وانـت تقـول البيـت وابـن عمـه‪1.‬‬ ‫ •الآمـدي‪ ،‬خالـف مـن سـبقوه‪ ،‬حيـث قـدم اللفـظ‬ ‫عــى المعنــى « ومــن الدليــل عــى أ ّن مــدار البلاغــة عــى‬ ‫تحســن اللفــظ أ ّن الخطــب الرائعــة‪ ،‬والأشــعار الرائقــة مــا‬ ‫عملـت لإفهـام المعـاني فقـط؛ لأ ّن الـرديء مـن الألفـاظ يقـوم‬ ‫مقــام الجيــدة منهــا في الإفهــام‪ ،‬وإنمــا يــد ّل حســن الــكلام‪،‬‬ ‫وإحـكام صنعتـه‪ ،‬ورونـق ألفاظـه‪ ،‬وجـودة مطالعـه‪ ،‬وحسـن‬ ‫مقاطعـه‪ ،‬وبديـع مباديـه‪ ،‬وغريـب مبانيـه عـى فضـل قائلـه‪،‬‬ ‫وفهـم منشـئه‪.‬‬ ‫وأكـر هـذه الأوصـاف ترجـع إلى الألفـاظ دون المعـاني‪.‬‬ ‫وتو ّخـى صـواب المعنـى أحسـن مـن تو ّخـى هـذه الأمـور في‬ ‫الألفـاظ‪2».‬‬ ‫‪ 1‬الكامل ‪335/1‬‬ ‫‪ 2‬الموازنـة ص‪ 57‬تـح محمـد محيـي الديـن ط صبيـح سـنة‪ ،1961‬الصناعتـن تـح عـي محمـد‬ ‫البجـاوي ومحمـد أبـو الفضـل إبراهيـم ص‪58‬‬ ‫‪- 23 -‬‬

‫ •القــاضي عبــد العزيــز الجرجــاني‪ ،‬الأمــر عنــده‬ ‫وسـطية‪ ،‬فهـو لا يفـارق بـن اللفـظ والمعنـى «وكانـت العـرب‬ ‫إنمـا تُفاضـل بـن الشـعراء في الجـودة والحسـن بـرف المعنى‬ ‫وص ّحتـه‪ ،‬وجزالـة اللفـظ واسـتقامته‪ ،‬وتسـلّم ال ّسـبْق فيـه لمَ ْن‬ ‫وصـف فأصـاب‪ ،‬وشـ ّبه فقـارب‪ ،‬وبـ َد َه فأغـ َزر‪ ،‬ولمَـن كـرت‬ ‫ســوائر أمثالــه وشــوارد أبياتــه؛ ولم تكــن تعبــأ بالتجنيــس‬ ‫والمطابقــة‪ ،‬ولا تح ِفــل بالإبــداع والاســتعارة إذا حصــل لهــا‬ ‫عمـود الشـعر‪ ،‬ونظـام القريـض‪1».‬‬ ‫ •أبي هـال العسـكري‪ ،‬حيـث كان يميـل إلى اللفـظ‬ ‫وإيثـاره عـى المعنـى “ الألفـاظ أجسـاد‪ ،‬والمعـاني أرواح؛ وإنمـا‬ ‫تراهـا بعيـون القلـوب‪ ،‬فـإذا ق ّدمـت منهـا مؤ ّخـرا‪ ،‬أو أ ّخـرت‬ ‫منهــا مق ّدمــا أفســدت الصــورة وغــ ّرت المعنــى؛ كــا لــو‬ ‫حـ ّول رأس إلى موضـع يـد‪ ،‬أو يـد إلى موضـع رجـل‪ ،‬لتح ّولـت‬ ‫الخلقـة‪ ،‬وتغـ ّرت الحليـة‪2 ”.‬‬ ‫ •ابــن طباطبــا‪ ،‬يســر عــى منهــج ابــن قتيبــة‬ ‫في التســوية بــن اللفــظ والمعنــى ويجعلهــا بمنزلــة الــروح‬ ‫والجســد فأحدهــا ضروري للآخــر “ للــكلام جســ ٌد ورو ٌح‪،‬‬ ‫‪ 1‬الوساطة تح محمد أبو الفضل وعلى البجاوي ط الحلبي سنة ‪1966‬‬ ‫‪ 2‬الصناعتين ص‪ 167‬ط الحلبي ستة‪ ،1971‬ص‪ 69‬ط‪ 2‬محمد صبيح سنة ‪1930‬‬ ‫‪- 24 -‬‬

‫فجســده ال ّنطــق – أي اللفــظ ‪-‬وروحــه معنــاه “‪. 1‬‬ ‫وكــا قــال في موضــع آخــر‪ ”:‬وللمعــاني ألفــاظ تشــاكلها‬ ‫فتحسـن فيهـا وتقبـح في غيرهـا‪ ،‬فهـي كالمعـرض للجاريـة الحسـناء‬ ‫التـي تـزداد حسـنا في بعـض المعـارض دون بعـض‪.‬‬ ‫فكـم مـن معنـى حسـن قـد شـن بمعرضـه الـذي أبـرز فيـه‪.‬‬ ‫وكـم مـن معـرض حسـن قـد ابتـذل عـى معنـى قبيـح ألبسـه‪2».‬‬ ‫ •أبـو بكـر الباقـاني‪ ،‬يحـاول الربـط بـن اللفـظ‬ ‫والمعنــى “إن تخــر الألفــاظ للمعــاني المتداولــة المألوفــة‪،‬‬ ‫أسـهل وأقـرب مـن تخـر الألفـاظ لمعـان مبتكـرة‪ ،‬ولكـن إذا‬ ‫بـرع اللفـظ في المعنـى البـارع‪ ،‬كان ألطـف وأعجـب‪ ،‬مـن أن‬ ‫يوجــد اللفــظ البــارع في المعنــى المتــداول المتكــرر”‪3‬‬ ‫فهـو بذلـك يربـط بـن اللفـظ والمعنـى في الظاهـر‪ ،‬ولكنـه في‬ ‫الحقيقـة يفضـل المعنـى عـى اللفـظ؛ لأن مقيـاس الجـال عنـده‪:‬‬ ‫أن المعنـى البـارع‪ ،‬إذا جـاء في لفـظ بـارع‪ ،‬فهـو أفضـل مـن وقـوع‬ ‫المعنـى المألـوف في لفـظ بـارع‪.‬‬ ‫‪ 1‬عيار الشعر ص‪ 11‬ط المكتبة التجارية سنة ‪ 1956‬تح الحاجري وسلام‪.‬‬ ‫‪ 2‬السابق ص‪5‬‬ ‫‪ 3‬إعجاز القرآن ص‪ 63‬تح السيد صقر ط دار المعارف سنة ‪1954‬‬ ‫‪- 25 -‬‬

‫ومثـل هـذا يلحقـه بأنصـار المعنـى‪ ،‬وإن كان يرجـع الفضـل‬ ‫في إشـارته إلى علاقـة اللفـظ بالمعنـى‪ ،‬وإن لم يوضحهـا‪ ،‬ويعمـق‬ ‫جوانبهـا‪ ،‬ويبـن مـدى الترابـط التـام بينهـا لكـن عبـد القاهـر‬ ‫الجرجـاني أفـاد منـه كـا أفـاد مـن غـره‪.‬‬ ‫ •ابـن رشـيق القـرواني‪ ،‬لمـا تعـرض لتلـك القضيـة‬ ‫رأى مـا رآه بـر بـن المعتمـر والعتـابي مـن أن اللفـظ والمعنى‬ ‫مترابطـان‪ ،‬فاللفـظ جسـم والمعنـى روحـه وليسـا منفصلـن‬ ‫كالمــاء والكــوب‪ ،‬فقــال “ “اللفــظ جســم وروحــه المعنــى‬ ‫وارتباطــه بــه كارتبــاط الــروح بالجســم يضعــف بضعفــه‪،‬‬ ‫ويقـوى بقوتـه‪ .‬فـإذا سـلم المعنـى واختـل بعـض اللفـظ كان‬ ‫نق ًصـا للشـعر‪ .‬وهجنـة عليـه كـا يعـرض لبعـض الأجسـام‬ ‫مـن العـرج والشـلل والعـور‪ .‬ومـا أشـبه ذلـك غـر أن تذهـب‬ ‫الـروح‪ .‬وكذلـك إن ضعـف المعنـى واختـل بعضـه كان للفـظ‬ ‫مـن ذلـك أوفـر حظـا كالـذي يعـرض للأجسـام مـن المـرض‬ ‫بمـرض الأرواح‪ .‬ولا تجـد معنـى يختـل إلا مـن جهـة اللفـظ‬ ‫وجريـه فيـه عـى غـر الواجـب قيا ًسـا عـى مـا قدمـت مـن‬ ‫أدواء الجســوم والأرواح‪ .‬فــإن اختــل المعنــى كلــه وفســد‬ ‫بقـي اللفـظ مواتًـا لا فائـدة فيـه‪ .‬وإن كان حسـن الطـاوة‬ ‫في السـمع‪ .‬كـا أن الميـت لم ينقـص مـن شـخصه شيء في رأي‬ ‫‪- 26 -‬‬

‫العـن إلا أنـه لا ينتفـع بـه ولا يفيـد فائـدة‪ .‬وكذلـك إن اختـل‬ ‫اللفـظ جملـة وتـاشى لم يصـح لـه معنـى لأنـا لا نجـد رو ًحـا‬ ‫في جسـم ألبتـه”‪1.‬‬ ‫وهـذا الـذي ذكـره ابـن رشـيق كـا يجـري في الشـعر‬ ‫ينطبـق عـى النـر تما ًمـا‪“ :‬وبعضهـم وأظنـه ابـن وكيـع مثـل‬ ‫المعنـى بالصـورة واللفـظ بالكسـوة‪ .‬فـإن لم تقابـل الصـورة‬ ‫الحسـناء بمـا يشـاكلها ويليـق بهـا مـن اللبـاس‪ .‬فقـد بخسـت‬ ‫حقهـا وتضاءلـت في عـن مبصرهـا”‪2.‬‬ ‫ •ابـن سـنان الخفاجـي‪ ،‬والـذي يميـل إلى اللفـظ‬ ‫ويؤثـر عـى المعنـى‪ ،‬ولكنـه وضـع لذلـك شروط “إن الفصاحة‬ ‫عـى مـا قدمنـا نعـت للألفـاظ إذا وجـدت عـى شروط عـدة‬ ‫ومتـى تكاملـت تلـك الـروط فـا مزيـد عـى فصاحـة تلـك‬ ‫الألفـاظ‪.‬‬ ‫وبحســب الموجــود منهــا تأخــذ القســط مــن الوصــف‬ ‫وبوجــود أضدادهــا تســتحق الاطــراح والــذم‪.‬‬ ‫وتلـك الـروط تنقسـم قسـمين فـالأول منهـا يوجـد في‬ ‫اللفظــة الواحــدة عــى انفرادهــا مــن غــر أن ينضــم إليهــا‬ ‫‪ 1‬العمدة ص‪ 124‬تح محمد محيي الدين عبد الحميد ط ‪ 4‬نشر دار الجيل سنة‪1972‬‬ ‫‪ 2‬السابق ص‪.82‬‬ ‫‪- 27 -‬‬

‫شيء مــن الألفــاظ وتؤلــف معــه والقســم الثــاني يوجــد في‬ ‫الألفــاظ المنظومــة بعضه ـا مـع بعـض‪1”.‬‬ ‫ •ابـن الأثـر‪ ،‬والـذي رجـح أيضـاً كلام ابـن سـنان‬ ‫ومـال معـه إلى اللفـظ‪ ،‬وذلـك إذا اسـتلذ وحسـن “ الفصيـح‬ ‫مـن الألفـاظ هـو الظاهـر البـ ِّن‪ ،‬وإنمـا كان ظاهـ ًرا بي ًنـا لأنـه‬ ‫مألــوف الاســتعمال‪ ،‬وإنمــا كان مألــوف الاســتعمال لمــكان‬ ‫حسـنه‪ ،‬وحسـنه مـدرك بالسـمع‪ ،‬والـذي يـدرك بالسـمع إنمـا‬ ‫هـو اللفـظ‪ ،‬لأنـه صـوت يأتلـف عـن مخـارج الحـروف‪ ،‬فـا‬ ‫اسـتلذه السـمع منـه فهـو الحسـن‪ ،‬ومـا كرهـه فهـو القبيـح‪،‬‬ ‫والحسـن هـو الموصـوف بالفصاحـة‪ ،‬والقبيـح غـر موصـوف‬ ‫بفصاحـة؛ لأنـه ضدهـا لمـكان قبحـه”‪2‬‬ ‫وباسـتعراض تلـك الآراء لزعـاء البلاغـة العربيـة عـى مـر‬ ‫مراحلهـا‪ ،‬نجدهـم وقفـوا أمـام تلـك القضيـة منقسـمين إلى فئتـن‪:‬‬ ‫فئـة ترجـح اللفـظ‪ ،‬والأخـرى ترجـع إلى المعنـى وإن كان هنـاك‬ ‫فئـة وسـط ربطـت بـن الإثنـن‪ ،‬ولكـن مـن الواضـح مـن كلامهـم‬ ‫عـدم سـياق الأدلـة والأسـباب؛ وهـذا لم يكـن موجـوداً عندهـم‬ ‫فقـط‪ ،‬بـل كان موجـوداً أيضـاً عنـد أرسـطو‪.‬‬ ‫‪ 1‬سر الفصاحة ص‪ 65‬القاهرة سنة ‪1952‬‬ ‫‪ 2‬المثل السائر ص‪ 27‬ط ‪ 1‬نشر المكتبة التجارية سنة ‪1354‬هـ‬ ‫‪- 28 -‬‬

‫“ فالكلـات عنـد أرسـطو رمـوز المعـاني ووسـيلة للمحـاكاة‪،‬‬ ‫وهـي المـادة التـي تصـاغ منهـا الاسـتعارة ووهـي متفاوتـة فيـا‬ ‫بينهـا مـا بـن جميلـة أو قبيحـة‪ ،‬وجمالهـا أو قبحهـا ينشـأ عـن‬ ‫جرسـها أو معناهـا‪ ،‬هـذا ولم يقـف أرسـطو طويـ ًا أمـام اللفـظ‬ ‫والمعنــى ليرجــح أحدهــا عــى الآخــر‪ ،‬كــا أنــه لم يــرح‬ ‫بالانفصــال بــن الجانبــن‪1.‬‬ ‫إذاً هـي قضيـة قديمـة ‪ ،‬وتحتـل مكانـاً عريضاً في عـالم العربية‬ ‫وبحـور البلاغـة ‪ ،‬ولكـن ولابـد أن هنـاك أسـباب قويـة دفعـت بهـا‬ ‫للظهــور عــى الســاحة ؛ “ ومــن الأســباب التــي ســاعدت عــى‬ ‫إبـراز هـذه القضيـة ظهـور مذهـب أبي تمـام في البديـع وكثرتـه‬ ‫كــرة فاحشــة ‪ ،‬وتبعــه في ذلــك كثــر مــن الشــعراء ‪ ،‬وقــد كان‬ ‫هـذا المذهـب يقـوم عـى الصنعـة والزخـرف ‪ ،‬وعـى الدقـة في‬ ‫المعـاني والغـوص وراء الأسـاليب مـن جهـة أخـرى ‪ ،‬مـا جعلـه‬ ‫يخـرج عـن المألـوف للشـعر في تشـبيهاته ‪ ،‬وألفاظـه ‪ ،‬ويـؤدي إلى‬ ‫التعقيــد في أســلوبه ومعانيــه ‪ ،‬فــرى النقــاد عندئــذ ينقســمون‬ ‫فريقــن ‪ ،‬ويتخــذ كل فريــق منهــا مذهبــاً في تقويــم الشــعر ‪،‬‬ ‫فبعضهـم يرجـع القيمـة إلى المعنـى ‪ ،‬وبعضهـم يرجـع القيمـة إلى‬ ‫‪ 1‬النقد الأدبي الحديث د محمد غنيمي هلال ص‪ 290‬ط القاهرة سنة ‪1962‬‬ ‫‪- 29 -‬‬

‫اللف ـظ “‪1.‬‬ ‫‪ 1‬فن البلاغة د عبد القادر حسين ص‪ 51‬ط الأمانة‬ ‫‪- 30 -‬‬

‫النشأة والبداية‬ ‫أما كيف نشأت؟ ومتى بدأت؟‬ ‫فهــي بــدأت منــذ نــزول القــرآن ‪ ،‬فعندمــا نــزل القــرآن‬ ‫واســتمع إليــه العــرب ســحرهم ببيانــه وجمالــه ‪ ،‬وبفصاحتــه ‪،‬‬ ‫وبلاغتـه حتـى سـمعنا الوليـد بـن المغـرة يقـول عنـه ‪َ :‬واللَّـ ِه َمـا‬ ‫فَي ُكـ ْم َر ُجـ ٌل أَ ْعلَـ ُم ِبا ْلَ ْشـ َعا ِر ِم ِّنـي َو َل أَ ْعلَـ ُم ِب َر َجـ ِز ِه َو َل ِب َق ِصي َدتِـ ِه‬ ‫ِم ِّنـي َو َل ِبأَ ْشـ َعا ِر الْ ِجـ ِّن‪َ ،‬واللَّـ ِه َمـا يُ ْشـ ِب ُه َهـ َذا الَّـ ِذي يَ ُقـو ُل َشـ ْيئًا‬ ‫ِمـ ْن َهـ َذا َواللَّـ ِه إِ َّن لِ َق ْولِـ ِه الَّـ ِذي يَ ُقـو ُل َحـ َا َو ًة َو ِإ َّن َعلَ ْيـ ِه لَطَـ َا َو ًة‬ ‫َو ِإنَّـ ُه لَ ُمثْ ِمـ ٌر أَ ْعـ َا ُه ُم ْغـ ِد ٌق أَ ْسـ َفلُ ُه َوإِنَّـ ُه لَيَ ْعلُـو َو َمـا يُ َعـ َى َو ِإنَّـ ُه‬ ‫لَيُ َحطِّـ ُم َمـا تَ ْحتَـ ُه ‪1.‬‬ ‫ثـم قـال‪ :‬إن هـذا إلا سـحر يؤثـر‪ ،‬والقساوسـة والرهبـان “إِ َذا‬ ‫َسـ ِم ُعوا َمـا أُنْـ ِز َل إِ َل ال َّر ُسـو ِل تَـ َرى أَ ْعيُ َن ُهـ ْم تَ ِفيـ ُض ِمـ َن ال َّد ْمـعِ‬ ‫ِمـ َّا َع َرفُـوا ِمـ َن الْ َحـ ِّق “ المائـدة‪83/‬‬ ‫‪ 1‬المستدرك على الصحيحين ‪ 550/2‬برقم ‪3872‬‬ ‫‪- 31 -‬‬

‫فالقــرآن مــن شــأنه إذا اســتمع إليــه إنســان أن يتحــرك‬ ‫مشـاعره‪ ،‬ويهتـز قلبـه طربـاً‪ ،‬أو يقشـعر بدنـه خوفـاً‪ ،‬أو ينعـر‬ ‫فــؤاده رجــا ًء‪.‬‬ ‫فهـل كان سـحره وحسـن وقعـه عـى الأذان‪ ،‬وشـدة أثـره‬ ‫عـى النفـوس‪ ،‬وإفاضـة الدمـوع عنـد سـاعه لِـا فيـه مـن جمال‬ ‫في العـرض‪ ،‬وقـوة في الأداء‪ ،‬وإيقـاع في العبـارة عـى نحـو فريـد؟‬ ‫أو كان ســحره وشــدة تأثــره لِــا فيــه مــن معــا ٍن ســامية‬ ‫تدعـو إلى الخـر والحـق‪ ،‬وتنفـر مـن الانحـراف والـر‪ ،‬وتبصرهـم‬ ‫أمـور دينهـم ودنياهـم‪ ،‬وتهـ ِد بهـم الطريـق العـدل والصـواب‪،‬‬ ‫وتبعدهـم عـن سـبيل الجـور والخطـأ؟‬ ‫هــل كان ســحر القــرآن ونظمــه ترجــع إلى ألفاظــه؟ أم إلى‬ ‫معانيــه؟‬ ‫في هـذا الجـو الدينـي نشـأ الـكلام عـن “ اللفـظ والمعنـى “‬ ‫وتشـعبت فروعـه‪ ،‬حتـى صـارت قضيـة “ اللفـظ والمعنـى مـن‬ ‫أهـم القضايـا التـي يهتـم بهـا النقـاد‪ ،‬ولم تعـد مشـكلة اللفـظ‬ ‫والمعنـى قـاصرة عـى الحديـث عـن القـرآن‪ ،‬وإنمـا انتقلـت إلى‬ ‫الأدب بوجـ ٍه عـام‪ ،‬والشـعر بوجـه خـاص‪.‬‬ ‫‪- 32 -‬‬

‫اللفظ والمعنى عند عبد القاهر الجرجاني‬ ‫والسـؤال الـذي يطـرح نفسـه هنـا‪ ،‬هـو‪ :‬مـا موقـف عبـد‬ ‫القاهــر مــن تلــك القضيــة؟ وهــل كان مــن أصحــاب اللفــظ أم‬ ‫مــن أصحــاب المعنــى؟ وهــل تكــون الفصاحــة في اللفــظ دون‬ ‫المعنـى؟ وهـل الألفـاظ تختلـف باختـاف موقعهـا؟ وهـل الألفاظ‬ ‫المفـردة تدخـل في إعجـاز القـرآن؟ وهـل المـراد بالمعنـى عنـده هو‬ ‫المعنـى ال ُغفـل العـام؟ ومـا هـو المـراد بــ “ معنـى المعنـى “؟ ومـا‬ ‫هـي أهـداف عبـد القاهـر مـن نظريتـه هـذه؟ ومـا موقفـه مـن‬ ‫الشـعر الجيـد؟‬ ‫كـم مـن الأسـئلة في انتظـار شـيخنا عبـد القاهـر كي يجيـب‬ ‫عنهـا ويكشـف السـتار لنـا عـن حقائقهـا‪.‬‬ ‫وقبـل إجابـة عبـد القاهـر‪ ،‬لابـد لنـا مـن كلمـة هنـا‪ ،‬وهـي‪:‬‬ ‫أن عبـد القاهـر قـد وقـف تجـاه هـذه القضيـة موقـف المحايـد‪،‬‬ ‫فعنـده أن اللفـظ لا يمكـن أن يسـتغنى عـن المعنـى‪ ،‬ولا المعنـى‬ ‫يسـتغني عـن اللفـظ‪.‬‬ ‫‪- 33 -‬‬

‫“ فاللفـظ لا ينفـك أبـداً عنـد الجرجـاني عـن المعنـى‪ ،‬ولقـد‬ ‫قـال الرجـل إن المعنـى الشريـف مثـ ًا تـزداد بالتصويـر قيمتـه‬ ‫ويرتفـع بـه قـدره‪ ،‬بـل إن لغـر الشريـف مـن المعنـى بالتصويـر‬ ‫قيمـة تعلـو ومنزلـة تعلـو‪.‬‬ ‫المهـم‪ .‬أن الصلـة بـن اللفـظ والمعنـى مكينـة‪ ،‬فهـا بمنزلـة‬ ‫المـادة والصـورة‪ ،‬بمثابـة الـروح والجسـد“‪1.‬‬ ‫والسؤال التالي‪ :‬هل تكون الفصاحة في اللفظ دون المعنى؟‬ ‫الإجابــة عنــه بالرفــض‪ ،‬فقــد رفــض عبــد القاهــر الاعتــداد‬ ‫باللفــظ وحــده‪ ،‬فنفــى أن تكــون الفصاحــة صفــة اللفــظ مــن‬ ‫حي ـث ه ـو لف ـظ‪2.‬‬ ‫وإذا كان عبــد القاهــر يرفــض أن تكــون الفصاحــة صفــة‬ ‫للفــظ المفــرد‪ ،‬فإنــه أيضــاً يرفــض أن ترجــع البلاغــة إلى اللفــظ‬ ‫وحــده‪.‬‬ ‫“وأ َّمــا رجــوع الاستحســان إلى اللفــظ مــن غــر ِ ْش ٍك مــن‬ ‫المعنــى فيــه‪ ،‬وكونِــه مــن أســباب ِه ودواعيــه‪ ،‬فــا يــكاد يَ ْعــ ُدو‬ ‫نمطــاً واحــداً‪ ،‬وهــو أن تكــون اللفظــة مــا يتعارفــه النــاس في‬ ‫‪ 1‬الشعرية في الشعر ص‪ 71‬د قاسم المومني – مجلة فصول ع‪ / 2‬م‪ / 6‬سنة‪1986‬‬ ‫‪ 2‬أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني ص‪ 26‬تح محمد عبد المنعم خفاجة ط‪ 3‬مكتبة القاهرة‬ ‫سنة ‪1979‬‬ ‫‪- 34 -‬‬

‫اسـتعمالهم‪ ،‬ويتداولُونـه في زمانهـم‪ ،‬ولا يكـون َو ْح ِشـياً غريبـاً‪ ،‬أو‬ ‫عا ّميــاً ســخيفاً“‪1.‬‬ ‫“وهــل نَ ِجــد أحــداً يقــول‪ :‬هــذه اللَّفظــة فصيحــة إل َّا‬ ‫وهـو يعتـر مكانَهـا مـن النظـم‪ ،‬ومـن ملاءمـة معناهـا لمعـاني‬ ‫جاراتهـا‪ ،‬وفَ ْضـ َل مؤانَ َسـ ِتها لأخواتهـا؟! وهـل قالـوا‪ :‬لفظـ ٌة متم ّكن ٌة‬ ‫ومقبولـة‪ ،‬وفي خلافـه‪ :‬قَ ِلقـ ٌة ونابيـ ٌة مسـتكرهة‪ ،‬إل َاّ وغر ُضهـم أن‬ ‫يُ َعـ ِّروا بالتم ّكـن عـ ْن ُح ْسـ ِن الاتفـاق بـن هـذه وتلـك مـن جهـة‬ ‫معناهـا‪ .‬وبالْ َقلَـق والنبـؤ عـن سـوء التـاؤم‪ ،‬وأ َّن الأولى لم تَلْتَـ ِق‬ ‫بالثّانيـة في معناهـا‪ ،‬وأ ّن ال َّسـابق َة لم تَ ْصلُـ ْح أ ْن تكـون لِ ْفقـاً‪ 2‬للتاليـة‬ ‫في مؤ ّداهــا؟!“‪3.‬‬ ‫“ فالألفـاظ لا تتفا َضـ ُل مـن حيـث هـي ألفـا ٌظ مجـ َّردة‪ ،‬ولا‬ ‫مـن حيـ ُث هـي كلـ ٌم مفـرد ٌة‪ ،‬وأن الفضيلـة وخلافهـا‪ ،‬في ملائمـة‬ ‫معنـى اللفظـة لمعنـى التـي تليهـا‪ ،‬ومـا أشـب َه ذلـك‪ ،‬مـا لا تَعلُّـ َق‬ ‫لـه بصريـ ِح اللفـظ‪ .‬ومـ َّا يَشـهد لذلـك أَنَّـك تَـرى الكلمـ َة تروقُـك‬ ‫وتُؤنسـك في موضـعٍ‪ ،‬ثـم تَراهـا بعي ِنهـا تَثْ ُقـ ُل عليـ َك وتُو ِح ُشـك في‬ ‫‪ 1‬السابق ص‪33‬‬ ‫‪ 2‬لِ ْفقــاً‪ :‬يَ ْق ِصــد أ ْن تكــون الكلمــة ملائمــ ًة و ُملْتَحمــ ًة مــع جارتهــا َكتَــا ُؤ ِم ال ِّشــ ِق المخيــط‬ ‫بال ِّشــ ِّق الآخــر مــن الْ ُحلَّــة‪.‬‬ ‫يقــا ُل لغــة‪ُ :‬حلُّــ ٌة ذا ُت لِ ْف َقــ ْن‪ ،‬أي‪ :‬ذا ُت ِشــ ّقي ِن ُم ْن َض َّمــ ْ ِن معــاً بالخياطــة‪ ،‬ولا يُقــال لل ِّشــ ّق‬ ‫«لِ ْفــ ٌق» إذا فُ ِت َقــ ِت الخياطَــة ال ّضا َّمــ ُة لهــا‪.‬‬ ‫‪ 3‬دلائل الإعجاز ص‪ 36‬تعليق محمد عبده ط دار المعارف‬ ‫‪- 35 -‬‬

‫موضـعٍ آخـ َر”‪1.‬‬ ‫وبتحليل النصوص السابقة‪ ،‬يمكن أن نستنتج الآتي‪:‬‬ ‫ ‪-‬أن الألفـاظ في حـد ذاتهـا ليـس لاهـا قيمـة ولا مزيـة‪،‬‬ ‫وإنمــا القيمــة الحقيقيــة في جمالهــا ونجاحهــا عندمــا‬ ‫تعـر عـن موقـف يُثـار مـن خـال ترتيبهـا وتنظيمهـا‪،‬‬ ‫وحســن تأليفهــا مــع أخواتهــا‪.‬‬ ‫ ‪-‬أن اللفظـة المفـردة لا تسـتطيع أن تؤدي معنـى بمفردها‪،‬‬ ‫وإنمـا بانضـام اللفظـة بجـوار الأخـرى وهكـذا‪ ،‬يخـرج‬ ‫لنــا جملــة مفيــدة‪ ،‬وبانضــام الجملــة مــع الأخــرى‬ ‫يخــرج لنــا صــورة أدبيــة‪ ،‬وعمــل أدبي متكامــل بــارز‬ ‫المع ـاني‪.‬‬ ‫ ‪-‬أن دلالـة اللفـظ غـر ثابـت‪ ،‬وإنمـا تتغـر بتغـر موقعهـا‬ ‫في الجملـة‪.‬‬ ‫ ‪-‬الألفــاظ طائفــة مــن الإمكانــات التــي يعــاد تشــكيلها‬ ‫عــى الــدوام‪ ،‬وليــس هنــاك دلالــة واحــدة يمكــن أن‬ ‫تعــرف‪ ،‬فاللفــظ متغــر الدلالــة دائمــاً‪2.‬‬ ‫‪ 1‬السابق ص‪38‬‬ ‫‪ 2‬الصيغة الإنسانية للدلالة د مصطفى ناصف ص‪ 97‬مجلة فصول ع‪ / 2‬م‪ / 6‬سنة ‪1986‬‬ ‫‪- 36 -‬‬

‫“ إن الألفـاظ عنـد عبـد القاهـر الجرجـاني وسـائل التعبـر‬ ‫عـن المواقـف‪ ،‬وأن الكلـات رمـوز للدلالـة عـى الأفـكار‪ ،‬ويتوقف‬ ‫نجــاح الألفــاظ بمــدى إفصاحهــا عــن المعــاني‪ ،‬وعــى الفنــان أن‬ ‫ينســقها بمــا يتمــى مــع الموقــف أو بالأحــرى يــرى الرجــل أن‬ ‫لـكل إحسـاس الألفـاظ التـي تعـر عنـه‪ ،‬ولهـذا فإنـه يرفـض هـذه‬ ‫النظـرة الاسـتقلالية إلى اللفـظ والمعنـى في قضيـة النقـد الأدبي أو‬ ‫الأعـال الفنيـة‪.‬‬ ‫وعنــده أن المزيــة في حديــث البلغــاء ليســت في الألفــاظ‬ ‫بوصفهــا كلــات مفــردة مــن حيــث الشــكل الخارجــي‪ ،‬وإنمــا‬ ‫تتمثــل في قدرتهــا عــى إثــارة المواقــف والتعبــر عنهــا“‪1.‬‬ ‫“ فالإحســاس هــو الــذي يلــد الألفــاظ‪ ،‬والألفــاظ تترتــب‬ ‫حســب الموقــف الــذي يحتــاج إليهــا‪ ،‬والشــاعر حــن يؤلــف‬ ‫الشـعر‪ ،‬والكاتـب حـن يؤلـف النـر لا يفكـر في المعنـى مسـتقلاً‪،‬‬ ‫ولا في اللفـظ منفـرداً‪ ،‬وإنمـا تتـم عمليـة الخلـق مـن العنصريـن‬ ‫مع ـاً”‪2.‬‬ ‫إذاً الألفــاظ تعــر عــن الإحســاس أينــا تكــون‪ ،‬فالألفــاظ‬ ‫هـي التـي تصـور مـا بأعـاق الأديـب صاحـب التجربـة فتنقلهـا‬ ‫‪ 1‬مقالات في النقد الأدبي القديم د مصطفى على عمر ص‪ 224‬ط دار المعارف سنة ‪1987‬‬ ‫‪ 2‬قضايا النقد الأدبي والبلاغة د محمد زكي عشماوي ص‪ 127‬ط الأولى دار الكتاب سنة ‪1967‬‬ ‫‪- 37 -‬‬

‫إلى القـارئ ويتأثـر بهـا‪ ،‬ولا يتـم لهـا ذلـك إلا بالاتسـاق والتجانـس‬ ‫مــع أخواتهــا في الســياق الكلامــي حتــى تخــرج لفظــة شــاعرية‬ ‫موحيـة‪.‬‬ ‫“ تسـتطيع الألفـاظ بوضعهـا في السـياق أن تسـتمد دلالتهـا‬ ‫مـن علاقتهـا بالكلـات السـابقة لهـا واللاحقـة لهـا‪ ،‬وبمـا يمكـن أن‬ ‫تكتسـبه في مكانهـا الـذي وضعـت فيـه مـن إشـعاعات وإضافـات‬ ‫جديــدة‪ ،‬ومــن ثــم كانــت الكلمــة المفــردة مجــرد إشــارة إلى‬ ‫الصـورة البـاردة للـيء‪ ،‬أمـا الكلمـة المسـتخدمة في سـياق فهـي‬ ‫شــحنة مــن العواطــف الإنســانية والصــور الذهنيــة‪ ،‬والمشــاعر‬ ‫الحيـة إلى جانـب مـا فيهـا مـن معنـى عقـي مجـرد“‪1.‬‬ ‫مــن هــذا المنطلــق نســتطيع أن نقــول‪ ،‬ونحــدد موقــف‬ ‫اللفظـة المفـردة مـن الإعجـاز القـرآني‪ ،‬وفي ذلـك يقـول الجرجـاني‪”:‬‬ ‫إ َّن هــذا الوصــ َف ينبغــي أ ْن يكــو َن و ْصفــاً قــد تجــ َّدد بالقــرآن‪،‬‬ ‫وأمـر لم يُو َجـ ْد في غـر ِه‪ ،‬ولم يُ ْعـرف قَ ْبـ َل نزولِـه‪ .‬وإِذا كان كذلـك؛‬ ‫فقـد َو َجـب أ ْن يُ ْعلَـم أَنـه لا يجـو ُز أن يكـو َن في “ال َكلـم المفـرد ِة”‪،‬‬ ‫لأَن تقديـ َر كونِـه فيهـا يـؤ ِّدي إلى المُحـال‪ ،‬وهـو أن تكـو َن الألفـا ُظ‬ ‫المفـرد ُة التـي هـي أوضـا ُع اللُّغـة‪ ،‬قـد حـ َد َث في مذاقـه حرو ِفهـا‬ ‫وأصدائهـا أوصـا ٌف لم ت ُكـن‪ ،‬لتكـو َن تلـك الأوصـاف فيهـا أقبـل‬ ‫‪theorg ofliterture-wollek-warren ( london 1955) p-12 1‬‬ ‫‪- 38 -‬‬

‫السـامعون عليهـا ِإذا كانـ َت متلـ َّوة في القـرآن‪ ،‬لا يَجـدو َن لهـا تلـ َك‬ ‫الهيئـا ِت والصفـا ِت خـا ِر َج القـرآ ِن‪ .‬ولا يجـو ُز أن تكـو َن في “معـاني‬ ‫الكلـم المفـردة”‪ ،‬التـي هـي لهـا بوضـع اللغـة؛ لأنـه يـؤدي إلى‬ ‫أن يكــو َن قــد تجــدد في معنــى “الحمــد” و”الــرب”‪ ،‬ومعنــى‬ ‫“العالمــن” و”الملــك” و”اليــوم” و”الذيــن”‪ ،‬وهكــذا‪ ،‬و ْصــ ُف لم‬ ‫ي ُكـ ْن قَبْـل نـزو ِل القـرآن‪ .‬وهـذا مـا لَـ ْو كان ههنـا شي ٌء أَبَعـ ُد مـن‬ ‫الحـال وأشـن ُع لـكان إيَّـاه“‪1.‬‬ ‫مــن هــذا نســتطيع أن نقــول “ أن الألفــاظ المفــردة مــن‬ ‫حيـث هـي أصـوات‪ ،‬أو مـن حيـث معانيهـا لا تدخـل في إعجـاز‬ ‫القـرآن البلاغـي‪ ،‬وبالتـالي لا تدخـل في الفصاحـة‪ ،‬لأن ذلـك يـؤدي‬ ‫إلى أن الألفـاظ معجـزة بأوضاعهـا اللغويـة‪ ،‬ومـا يطـوى فيهـا مـن‬ ‫أصواتهـا وزنـة حركاتهـا وسـكناتها‪ ،‬ولـو صـ ّح ذلـك لبطـل إعجـاز‬ ‫القــرآن‪ ،‬وأن هــذا الإعجــاز شيء تجــدد بنزولــه بعــد أن كان‬ ‫معدومــاً وحــدث بعــد أن كان مفقــوداً”‪2.‬‬ ‫نعــود فنقــول “ إن اللفــظ اللغــوي لا تتضــح دلالتــه إلا‬ ‫خــال الســياق الأســلوبي الــذي يــدرج فيــه‪ ،‬فليــس كل لغــوي‬ ‫يحمـل دلاليـة ثابتـة ومسـتقلة‪ ،‬تسـتدعي عنـد النطـق بـه في كل‬ ‫‪ 1‬الدلائل ص‪250‬‬ ‫‪ 2‬البلاغة تطور وتاريخ د شوقي ضيف ص‪ 165‬ط دار المعارف ‪.‬‬ ‫‪- 39 -‬‬

‫موطـن يُسـاق فيـه‪ ،‬وإنمـا تتلـون دلالـة الألفـاظ بألـوان الكلـات‬ ‫المجــاورة لهــا في العبــارة“‪1.‬‬ ‫وفي هـذا المعنـى يـرب لنـا عبـد القاهـر مثالـن عـن كلمتين‬ ‫اختلفـا باختـاف موقعهما في السـياق‪.‬‬ ‫ ‪-‬الأولى كلمة (الأخدع) في بيت الحماسة لإبن الصمة‪:‬‬ ‫تل َّف ُّت َن ْحو ا َلـحـ َّي َح ّتى وج ْد ُتني و ِجـ ْعـ ُت من الإصـغـاء ليتا وأخدعا‬ ‫وبيت البحتري‪:‬‬ ‫وإنـــي وإن بلغني شـــ َر َف ال ِغنى وأَعت ْق َت ِم ْن ِر ِّق ال َمطامع أَ ْخ َدعي‬ ‫فهنا الكلمة قد أدت دورها وأعجبت عبد القاهر حتى قال “ فإ َّن‬ ‫لها في هذين المكانَين ما لا يَ ْخفى ِمن ال ُح ْسن”‪2.‬‬ ‫ثم إنّ َك تتأَ ُّملها في بيت أبي تمام‪:‬‬ ‫يـا َد ْهـــ ُر قـــ ِّو ْم ِمـن ا ْخـ َد َعـ ْيـ َك فق ْد أ ْضـ َجـ ْجـ َت هـذا الأنـــا َم ِمـن َخ ُرق ْك‬ ‫في هــذا البيــت عبــد القاهــر لا يــرى في هــذا التشــخيص‬ ‫فائـدة ولا يعجبـه هـذه الفكـرة؛ لأن الدهـر في هـذا البيـت يتعمد‬ ‫الإقـاق‪ ،‬وهـو في حـد ذاتـه قدحـاً في ذات اللـه‪ ،‬لأن الدهـر هـو‬ ‫اللــه‪ ،‬كــا جــاء في الحديــث “لا تَ ُســ ّبُوا ال َّد ْهــ َر فَــ ِإ َّن اللــ َه ُهــ َو‬ ‫‪ 1‬أزمة المصطلح في النقد القصصي د عبد الرحيم محمد عبد الرحيم ص‪ 98‬مجلة فصول ع‪/ 3‬‬ ‫م‪ / 7‬سنة ‪1989‬‬ ‫‪ 2‬الدلائل ص‪39‬‬ ‫‪- 40 -‬‬

‫ال َّد ْهـ ُر”‪ 1‬وفي ذلـك يقـول الجرجـاني‪ ”:‬فتَجـ ُد لهـا ِمـ َن الثقـل عـى‬ ‫النفـس‪ ،‬ومـن التبغيـض والت ْكديـر‪ ،‬أضعـا َف مـا وجـد َت هنـاك‬ ‫مـ َن الـر ْوح والخفـة‪ ،‬ومـن الإينـاس والبهجـة‪2.”.‬‬ ‫ ‪-‬الثانيـة كلمـة (شيء) في قـو ِل عمـ َر بـن أبي ربيعـة‬ ‫المخزومـي‪ ،‬يصـف سـلوك الناظريـن إلى النسـاء البيـض عنـد‬ ‫موضـع رمـي الحجـارة في الحـج‪:‬‬ ‫ومـن مالئ عينيه ِمــ ْن شـيء غي ِر ِه إذا را َح نحو الجمرة البيض كالذمي‬ ‫وقـول أبي حيـة النجـدي‪ ،‬وهـو مـن شـعراء بنـي أميـة‬ ‫المجدديــن‪:‬‬ ‫إذا مـا َتقاضي الـمـر َء يــو ٌم ولَيل ٌة َتـقـاضـا ُه شـــي ٌء لا َيـمـ ُّل ال َّت َقا ِضيا‬ ‫يقـول “ ف ِإنـك تَعـرف ُح ْسـ َنها ومكانهـا مـن القبـول‪ ،‬ثـم‬ ‫انظـر إليهـا في بيـت المتبنـي‪:‬‬ ‫لَـو ال َف َل ُك الـــد َّوا ُر أبغ ْض َت َس ْع َي ُه لـــعـــ َّو َقـــ ُه شـــــي ٌء مـــن الـــــدوران‬ ‫فإنـك تراهـا تقـل وتضـول‪ ،‬ب َحسـب نُبْلهـا و ُح ْسـنها فيـا‬ ‫ت َقـ َّدم‪ ،‬ثـم يقـول‪:‬‬ ‫“ فلـو كانـ ِت الكلمـ ُة إِذا َح ُسـن ْت َح ُسـن ْت مـن حيـث هـي‬ ‫‪ 1‬أخرجه أحمد ‪299/5‬‬ ‫‪ 2‬الدلائل ص‪39‬‬ ‫‪- 41 -‬‬

‫لفـ ٌظ‪ ،‬وإذا ا ْسـتَح َّقت المزيـ َة والـر َف اسـتح َّق ْت ذلـك في ذاتِهـا‬ ‫وعـى انفرا ِدهـا‪ ،‬دو َن أن يكـو َن السـب َب في ذلـك حـا ٌل لهـا مـع‬ ‫أَ َخواتهـا المجـاور ِة لهـا في ال َّنظْـم‪ ،‬لمـا اختلـ َف بهـا الحـال‪ ،‬ولكانـت‬ ‫غـا أن تحسـن أبـ ًدا‪ ،‬ولا تحسـن أبـ ًدا”‪1.‬‬ ‫“ معنـى ذلـك أن عبـد القاهـر لم يعـن بأمـر المترادفـات في‬ ‫الألفـاظ‪ ،‬فـا تـرادف في الألفـاظ التـي تشـملها اللوحـة التصويرية‬ ‫اللغويـة‪ ،‬وهنـا يربـط عبـد القاهـر بـن الصياغـة مـن حيـث هـي‬ ‫صـورة وبـن معناهـا“‪2.‬‬ ‫ودليـل آخـر عـى تغـر اللفـظ حسـب موقعهـا في الجملـة‪،‬‬ ‫قولـه “لـو كان الق ْصـ ُد بال َّنظـم إلى اللفـ ِظ نَ ْف ِسـه‪ ،‬دو َن أن يكـو َن‬ ‫الغــر ُض ترتيــ َب المعــاني في ال َّنفــس ثــم النطــ َق بالألفــاظ عــى‬ ‫َح ْذوهـا‪ ،‬لَـكا َن يَ ْنبغـي ألا يَ ْختلـف حـا ُل اثنـن في ال ِعلْـم ب ُح ْسـن‬ ‫النظُـم أو غـر الحسـن فيـه‪ ،‬لأنهـا يحسـبان ِبتَـوالي الألفـا ِظ في‬ ‫ال ُّنطـق إحساسـاً واحـداً‪ ،‬ولا يَ ْعـ ِر ُف أح ُدهـا في ذلـك شـيئاً يَ ْجهلُـ ُه‬ ‫الآخـ ُر‪3.”.‬‬ ‫‪ 1‬السابق ص‪41‬‬ ‫‪ 2‬النقد التحليلي د أحمد عبد السيد الصاوي ص‪146‬‬ ‫‪ 3‬الدلائل ص‪42‬‬ ‫‪- 42 -‬‬

‫ولذلـك يربـط عبـد القاهـر بـن السـطح الخارجـي والدلالـة‪،‬‬ ‫أو لنقـل ببسـاطة بـن اللفـظ والمعنـى‪ ،‬ولكنـه يجعـل السـطح‬ ‫يتكيـف بحسـب تكيـف الدلالـة النفسـية‪ ،‬أو لنقـل ببسـاطة أيضـاً‬ ‫أنـه يجعـل اللفـظ تابعـاً للمعنـى‪1.‬‬ ‫ومــا يــدل عــى ذلــك قولــه “ أنهــا – أي الألفاظ‪-‬خــدم‬ ‫للمعـاني وتابعـة لهـا ولاحقـة بهـا‪ 2‬وأن اللفـظ تبـع للمعنـى في‬ ‫النظــم‪3.‬‬ ‫“ ويتفـق مـع عبـد القاهـر في هـذا (نودييـه) الـذي يقـول‪”:‬‬ ‫إن الكلمــة ثمــرة للفكــرة فمتــى نضجــت الفكــرة ســقطت كــا‬ ‫تسـقط الثمـرة الناضجـة‪ ،‬ولكنهـا تسـقط عـى كلمتهـا‪.‬‬ ‫ويتفـق معـه أيضـاً (جوبـر) الـذي يقـول‪ ”:‬وعندمـا تصـل‬ ‫الفكـرة إلى تمامهـا تصبـح بكلمتهـا السـابقة“‪4.‬‬ ‫‪ 1‬الأسس الجمالية في النقد الأدبي د عز الدين إسماعيل ص‪ 170‬ط دار الفكر‪.‬‬ ‫‪ 2‬الدلائل ص‪44‬‬ ‫‪ 3‬السابق ص‪45‬‬ ‫‪ 4‬بلاغة أرسطو بين العرب واليونان د إبراهيم سلامة ص‪ 125‬ط الثانية – الأنجلو المصرية سنة‬ ‫‪ ،1950‬وارجع إلى‪:‬‬ ‫‪ -‬النقد التحليلي ص‪171‬‬ ‫‪ -‬المجمــل في فلســفة الفــن ص‪ 51‬بندتوكروتشــية ترجمــة ســامي الــدروي ط دار المعــارف‬ ‫ســنة‪1947‬‬ ‫‪-‬الفلسـفة اليونانيـة أصولهـا وتطوراتهـا البيرريفـو ترجمـة عبـد الحليـم محمـود ص‪ 159‬ط‬ ‫مكتبـة العروبـة سـنة ‪1958‬‬ ‫‪- 43 -‬‬

‫ولفقــه الرجــل ولعلمــه بــأن هنــاك مــن ســيجادل في أمــر‬ ‫المزيـة بـن اللفـظ والمعنـى وإلى أيهـا تصـر‪ ،‬فإنـه أتى بشـبهتين‬ ‫وفندهـا ورد عليهـا ووهـي قولـه‪ ”:‬فـإ ْن قيـل‪ :‬إذا كا َن اللفـ ُظ‬ ‫ب َم ْعــ ِز ٍل عــ ِن المزيَّــ ِة التــي تناز ْعنــا فيهــا‪ ،‬وكانــت مقصــور ًة عــى‬ ‫المعنـى‪ ،‬فكيـف كانـ ِت “الفصاحـ ُة” مـن صفـا ِت اللفـ ِظ البتَّـ َة؟‬ ‫وكيــف ا ْمتَ َنــع أن يَوصـ َف بهــا المعنــى فيقــا ُل‪“ :‬مع ًنــى فَ ِصيــ ٌح‪،‬‬ ‫وكلا ٌم فصيــ ُح المعنــى”؟‬ ‫قيـل‪ :‬إ َّنـا اختُ َّصـت الفصاحـ ُة باللفـ ِظ وكانـت ِمـ ْن ِصفتـه‪،‬‬ ‫مـن حيـ ُث كانـت عبـار ًة عـن كـو ِن اللفـ ِظ عـى َو ْصـ ٍف إذا كان‬ ‫عليـه‪ ،‬د َّل عـى المزيّـ ِة التـي نحـ ُن في حديثهـا‪ ،‬وإِذا كانـت لِ َكـ ْون‬ ‫اللفـظ دالآ‪ ،‬اسـتحا َل أ ْن يُوصـ َف بهـا المعنـى‪ ،‬كـا يَ ْسـتحي ُل أن‬ ‫يو َصـف المعنـى بأنـه “دال” مثـ ًا‪ ،‬فاعرفـه‪1.‬‬ ‫فعبــد القاهــر محــال عنــده أن يقــوم اللفــظ عــى حــدة‬ ‫وينفصــل عــن المعنــى‪ ،‬فهــا بخيــط واحــد‪ ،‬ووجهــان لعملــة‬ ‫واحــدة‪.‬‬ ‫ثــم يــورد الشــبهة الثانيــة‪ ،‬قائــ ًا‪ ”:‬فــإ ْن قيــل‪ :‬فــاذا َدعــا‬ ‫القدمــا َء إلى أن قَ َســموا الفضيلــ َة بــ َن المعنــى واللفــ ِظ فقالــوا‪:‬‬ ‫‪ 1‬الدلائل ص‪50‬‬ ‫‪- 44 -‬‬

‫«معنـى لطيـ ٌف‪ ،‬ولفـ ٌظ شريـ ٌف»‪ ،‬وفَ َّخمـوا شـأ َن اللَّفـ ِظ وعظَّمـوه‬ ‫حتـى تَ ِب َعهـم في ذلـك َمـن بَ ْع َدهـم‪ ،‬وحتـى قـا َل أهـ ُل ال َّنظـر‪:‬‬ ‫«إ َّن المعـاني لا تَتزايـد‪ ،‬وإِنمـا تتزايـ ُد الألفـا ُظ»‪ ،‬فأَطلقـوا كـا تـرى‬ ‫كلامـاً يُو ِهـ ُم ك َّل َمـ ْن يَسـمع ُه أ َّن المزيَّـ َة في حـاق اللفـظ؟ ‪.‬‬ ‫قيــ َل لــه‪ :‬لمــا كانــ ِت المعــاني إنمــا تَتبــ َّ ُن بالألفــا ِظ‪ ،‬وكا َن لا‬ ‫ســبي َل للمرتِّــب لهــا والجامــعِ َشــ ْملَها‪ ،‬إلى أن يُ ْعلمــ َك مــا ص َنــ َع‬ ‫في ترتيبهـا ب ِف ْكـره‪ ،‬إلا بترتيـ ِب الألفـا ِظ في نُطْقـه‪ ،‬تجـ َّوزوا فك ُّنـوا‬ ‫عــن ترتيــ ِب المعــاني بترتيــ ِب الألفــا ِظ‪ ،‬ثــم بالأَلفــاظ بحــ ْذ ِف‬ ‫«الترتيــ ِب»‪ ،‬ثــم أَتْبَعــوا ذلــك مــ َن الوصــ ِف والن ْعــت مــا أبــا َن‬ ‫الغـر َض وكشـ َف عـن المُـراد‪ :‬كقولهـم‪« :‬لفـ ٌظ متم ّكـ ٌن»‪ ،‬يُريـدون‬ ‫أنـه بموافقـ ِة معنـا ُه لمعنـى مـا يليـ ِه كالـ َّي ِء الحاصـ ِل في مـكا ٍن‬ ‫صالـ ٍح يطمـ ُّن فيـه «ولفـ ٌظ ق ِلـ ٌق نـا ٍب»‪ ،‬يُريـدون أنـه ِمـ ْن أ ْجـل‬ ‫أ َّن معنـا ُه غـ ُر موافـ ٍق لِـا يَليـه‪ ،‬كالحاصـل في مـكا ٍن لا يَ ْصلُـح‬ ‫لـه‪ ،‬فهـو لا يسـتطي ُع الطمأنينـ َة فيـه إلى سـائ ِر مـا يجـي ُء في صفـ ِة‬ ‫اللفـ ِظ ‪ ،‬مـا يُ ْعلَـم أنـه مسـتعا ٌر لـه ِمـ ْن معنـاه‪ ،‬وأنهـم نَ َحلـوه‬ ‫إيّـا ُه‪ ،‬بسـب ِب مضمونـ ِه ومـؤ َّداه‪.‬‬ ‫هـذا‪ ،‬و َمـ ْن تَعلَّـق بهـذا َو َشـب ِهه واعتر َضـ ُه الشـ ُّك فيـه‪ ،‬بعـ َد‬ ‫الـذي مـ َى مـ َن ال ِح َجـج‪ ،‬فهـو رجـ ٌل قـد أَنِـ َس بالتقليـ ِد‪ ،‬فهـو‬ ‫يَ ْدعـو الشـبهة إلى نفسـه مـن ههنـا وثَـ َّم‪ .‬و َمـ ْن كان هـذا سـبيلَه‪،‬‬ ‫‪- 45 -‬‬

‫فليـ َس لـه دوا ٌء ِسـوى السـكو ِت عنـه‪ ،‬وتَ ْر ِكـ ِه ومـا يَختـا ُره لنف ِسـه‬ ‫مـن ُسـو ِء النظـ ِر و ِقلَّـ ِة التدبُّـ ْر‪1».‬‬ ‫ثــم يعــود عبــد القاهــر مســتنكراً قائــ ًا‪ »:‬واعلــ ْم أَنــك ِإذا‬ ‫رجعـ َت إلى نف ِسـك علمـ َت علْـاً لا يعتر ُضـه الشـ ُّك‪ ،‬أ ْن لا نَظْـ َم‬ ‫في ال َكلِـم ولا ترتيـ َب‪ ،‬حتـى يُعلَّـ َق بع ُضهـا ببعـ ٍض‪َ ،‬ويْبنـي بع ُضهـا‬ ‫عـى بَعـض‪ ،‬وتُجعـ َل هـذه بسـبب مـن تلـك‪ .‬هـذا مـا لا يَجهلُـه‬ ‫عاقـ ٌل ولا ي ْخ َفـى عـى أحـ ٍد مـ َن النـاس‪2».‬‬ ‫إذاً ففصاحـة الألفـاظ وبلاغتهـا لا ترجـع إلى الألفـاظ بشـهادة‬ ‫الصفـات التـي توصـف بهـا‪ ،‬وإنمـا ترجـع إلى صورتهـا ومعرضهـا‬ ‫الـذي تتجـى فيـه وبعبـارة أخـرى‪ :‬ترجـع إلى نظمهـا ومـا يطـوى‬ ‫فيـه مـن خصائـص‪.‬‬ ‫« ومعنـى ذلـك‪ :‬أن هـذه الصفـات ليسـت صفـات للألفـاظ‬ ‫في أنفسـها‪ ،‬وإنمـا هـي صفـات عارضـة لهـا في التأليـف والصياغـة‬ ‫بسـبب دقائـق بلاغيـة لم تكـن لهـا قبـل سـياقها الـذي أخذتـه في‬ ‫صـورة نظمهـا «‪3‬‬ ‫‪ 1‬السابق ص‪51 ، 50‬‬ ‫‪ 2‬السابق ص‪44‬‬ ‫‪ 3‬البلاغة تطور وتاريخ ص‪164‬‬ ‫‪- 46 -‬‬

‫ولمــا أنكــر عبــد القاهــر أمــر المزيــة للفــظ‪ ،‬كذلــك أنكــر‬ ‫المزيــة للمعــاني‪ ،‬فيقــول‪ »:‬واعلــ ْم أَنــك لســ َت تنظــ ُر في كتــا ٍب‬ ‫ُص ِّنـ َف في شـأ ِن البلاغـ ِة‪ ،‬وكلا ٍم جـا َء عـن القدمـا ِء‪ ،‬إل َّا وج ْدتَـه يَـد ُّل‬ ‫عـى فسـا ِد هـذا المذهـ ِب‪ ،‬ورأيتَ ُهـ ْم يَتشـ َّد ُدون في إنـكا ِره َو ْعيبـه‬ ‫وال َع ْيـ ِب بـه‪.‬‬ ‫و ِإذا نظــر َت في كتــب الجاحــ َظ وجدتَــه يبلــ ُغ في ذلــك ك َّل‬ ‫َمبلـغٍ‪ ،‬ويتشـ َّدد غايـ َة التشـ ُّدد‪ ،‬وقـد انتهـى في ذلـك إلى أ ْن جعـ َل‬ ‫ال ِعلْـم بالمعـاني مشـركاً‪ ،‬وسـ َّوى فيـه بـ َن الخا َّصـة والعا َّمـة»‪1‬‬ ‫نخلص من هذا بأمرين خطيرين‪ ،‬وهما‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬أن الألفــاظ لم توضــع ولا تســتعمل لتعيــن الأشــياء‬ ‫المتعينــة بذواتهــا‪ ،‬وهــذه هــي نظريــة « الرمزيــة في اللغــة «‬ ‫وخلاصتهــا‪:‬‬ ‫أن لدينـا صـورة ذهنيـة لـكل شيء‪ ،‬ولـكل حـدث وإنمـا نضـع‬ ‫ألفـاظ اللغـة ونسـتعملها لنحـرك هـذه الصـورة الذهنيـة الكامنـة‪،‬‬ ‫فـا يمكـن أن يثـر لفـظ « طفـل « مثـاً في نفوسـنا شـيئاً مـا لم‬ ‫يكـن في ذهننـا صـورة للطفـل‪ ،‬فاللفـظ رمـز لهـا ومحـرك‪2.‬‬ ‫الثـاني‪ :‬أننـا لا نسـتخدم ذلـك اللفـظ لنحـرك الصـورة الذهنية‬ ‫‪ 1‬الدلائل ص‪168‬‬ ‫‪ 2‬مقدمة الدلائل ص‪13‬‬ ‫‪- 47 -‬‬

‫تحريـكاً نريـده لذاتـه‪ ،‬وإنمـا نفعـل ذلـك لأننـا نعتـزم أن نخـره‬ ‫عـن الطفـل بـيء مـا‪1.‬‬ ‫هنا يؤدي بنا إلى إشارة هامة‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫« أن اللغــة عنــد عبــد القاهــر عبــارة عــن مجموعــة مــن‬ ‫العلاقــات‪ ،‬وهــو بذلــك يتفــق مــع العــالم الســويسري (فردينــا‬ ‫نــردي سوســيير) واللغــة عنــده‪ :‬نظــام مــن العلاقــات وليســت‬ ‫تجميعـاً للألفـاظ‪ ،‬وهـو الـذي يهتـم بالتعبـر الوصفـي ويهمـل‬ ‫العنــر التاريخــي‪2».‬‬ ‫يترتـب عـى اتجـاه عبـد القاهـر هـذا أننـا يجـب أن ننبـه إلى‬ ‫شيء آخـر وهـو‪ :‬أن الواحـد « الشـخص « لا يسـتطيع أن يفضـل‬ ‫لفظـه بحجـة أنهـا شـاعرية‪ ،‬أو يرفضهـا بحجـة أنهـا غـر شـاعرية‪،‬‬ ‫فـا توجـد لفظـة شـاعرية ولفظـة غـر شـاعرية‪ ،‬أو يعـرض عـى‬ ‫صـورة لأنهـا غـر جميلـة في ذاتهـا‪ ،‬أو عكـس ذلـك فـكل مـا في‬ ‫العمـل الفنـي يخضـع لقوانينـه الفنيـة الخاصـة‪ ،‬ومـن أجـل ذلـك‬ ‫قـال « ريتشـاردز» في كتابـه‪ :‬أصـول النقـد الأدبي‪.‬‬ ‫«ليـس للكلـات في ذاتهـا صفـات أدبيـة خاصـة‪ ،‬ولا توجـد‬ ‫كلمـة قبيحـة أو جميلـة في ذاتهـا أو مـن طبيعتهـا أن تبعـث عـى‬ ‫‪ 1‬السابق ص‪ ،15‬وارجع إلى « في الميزان الجديد « د محمد مندور ط‪ 2‬نهضة مصر سنة‪1944‬‬ ‫‪ 2‬النقد المنهجي ص‪ 327‬د محمد مندور ط دار النهضة‪.‬‬ ‫‪- 48 -‬‬

‫اللـذة أو عدمهـا‪ ،‬ولكـن لـكل كلمـة مجـال مـن التأثـرات الممكنـة‬ ‫يختلـف طبقـاً للظـروف التـي توجـد بهـا «‪1.‬‬ ‫معنــى ذلــك‪ :‬أن أي كلمــة في العمــل الأدبي « الفنــي « لا‬ ‫يمكــن تغييرهــا أو اســتبدالها بأخــرى دون أن يفقــد الســياق‬ ‫معنــاه‪ ،‬فــكل لفظــة مســتقلة بوجودهــا‪ ،‬متميــزة بشــخصيتها‪،‬‬ ‫وليـس هنـاك لفظـة يمكـن أن تتسـاوى مـع الأخـرى في محصولهـا‬ ‫مـن الشـعور‪ ،‬ولـو تشـابهت كلمتـان في المعنـى لرأينـا أن لـكل‬ ‫منهــا روحــاً متباينــة‪ ،‬مــن أجــل ذلــك قــال « كولــردج»‪ « :‬إن‬ ‫الشـعر الرائـع هـو الـذي لا يمكـن ترجمتـه إلى ألفـاظ أخـرى دون‬ ‫أن يفقــد جمالــه شــيئاً «‪2.‬‬ ‫‪ 1‬النقـد الإنجليـزي الحديـث ص‪ 17‬ترجمـة ماهـر شـفيق فريـد – المكتبـة الثقافيـة عـدد‬ ‫‪1970/9/1‬‬ ‫‪ 2‬كولردج ص‪ 19‬د مصطفى بدوي ط دار المعارف سنة ‪1958‬‬ ‫‪- 49 -‬‬

‫من هذا كله نستطيع أن نستنتج أربع نقاط‪:‬‬ ‫ ‪-‬الأولى‪ :‬أن الشـعر الرائـع لا يمكـن ترجمتـه دون أن يفقـد‬ ‫ثـاث أربـاع معناه الشـعوري‪.‬‬ ‫ ‪-‬الثانيــة‪ :‬أنــه لا يمكــن ترجمــة القــرآن الكريــم‪ ،‬إلا إذا‬ ‫اعتبرنـا الترجمـة هـي تفسـر لمعـاني القـرآن‪ ،‬وهـذا مـا‬ ‫قالـه عبـد القاهـر‪.‬‬ ‫ ‪-‬الثالثــة‪ :‬أن التجربــة الشــعرية هــي صياغــة نفســية‬ ‫تســتطيع اللغــة أن تعــر عنهــا‪.‬‬ ‫ ‪-‬الرابعـة‪ :‬أن إسـاءة فهـم الشـعر مردهـا إلى التركيـز عـى‬ ‫العنـر الفكـري أو العقـي أو المصلحـة‪.‬‬ ‫‪- 50 -‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook