على شفا الجرف لم يكن لأبو نعيم إلا صديقاً واحداً لأكثر من ثلاثين عاماً ،له ابتسامة تشق الأسفلت ،وأسنان صفراء يتحدث عنها الناس ،فهو مدخن شره، يشعل سيجارته الثانية من نار الأولى ،وكلما انتهى من أزمة حاصرته أخرى ،ولكنه لا يستطيع التعبير عنها. يزور كل الأماكن وتظل همومه خاصة ،وكلما ضاقت به الحياة يذهب إلي مكانه المف ّضل ،محل لبيع الكاسيتات في وسط السوق. كان سعيد صاحب المحل أفقر من الفقر نفسه ،دخل عليه أبو النعيم قبل أن يقفل محله بدقائق وقال: أتمنى في يوم من الأيام تكبر معك وما نزورك. قال :لا بدي تكبر ولا تصغر ،مرة كبرت معي خلعت واحد كف نزلت أسنانه ،يعني خليني ساكت وآكل رمل بالمعلقة. قال أبو النعيم: لازم تحكي ،الشعب ما بيموت. مشى سعيد لإغلاق المحل وهو يقول: ابعدني عن السياسة ،ممكن تكبر معي وأفتحلك قرآن ،والناس تقول ،بيّاع الأغاني صار شيخ ،مش ناقصني حكي فوق! لحقه أبو نعيم على باب المحل ،فكانت رحاب بقميصها الأورجواني عابسة تمشي بانفعال على مقربة من المحل في ذات الشارع ،فوقع إحساس غريب لمس قلبه.. 100
استأذن وأسرع في المشي حتى وصل إلى بيته ،غيّر ملابسه وتع ّطر ولبس حذاء اشتراه قبل يومين ونزل إلى الشارع م ّرة أخرى لانتظار عودتها ،فوجد حسن أمامه فاستاء ،ولكنه تظاهر بمزاج جيد وأناقة روتينية وبادر بالقول: قميصك حلو واللون أحلى. نظر إليه حسن دون أي رد فعل ،لكن أبو نعيم مازحه: الكشرة زي العشرة والعشرة كابتن حسن. كان حسن يغلي في داخله :مزاجك رايق ومزاجي سيء. شو السبب؟ ومشى معه حتى نهاية الشارع. قال حسن: بعض الكذب فيه نفاق في بعض الأحيان ومواجهته فيها إحراج، وخاصة إذا تعرض الإنسان لأشخاص تربّوا على الباطل. قال أبو النعيم :يبدو فيه موضوع كبير! رد حسن وهو يغادر المكان: لا كبير ولا نص نص ،أي شيء بيشغلني ما بيشغلك. أبو نعيم :ه ّمك كبير وه ّمي أتجوز رحاب ،ثم رجع إلى بيته محبطاً، فدخل غرفته وخلع ملابسه واستلقى على السرير ،وصار ينظر إلى السقف ويستدعي ذكرى ويطويها ،وأخرى فيغمض عينيه ثم يفتحها، وهكذا ظل حوالي ساعتين يتململ وتتلاطم أفكاره حتى دق باب البيت. عاد حسن ومعه يحيى ،وكانت الساعة تشير إلى التاسعة مسا ًء. 101
جلبا معهما بعض الأغراض ،كان من بينها زجاجة عصير ظهر عنقها من بين الأكياس التي م ّدها يحيى وقال: بدنا نتعشى وبعدين أغادر لأنه عندي لقاء مهم الليلة. أبو النعيم :وأنا عندي موضوع لازم تعرفه. حسن :رحاب أكيد. هذا صحيح ،قال أبو نعيم مبتسماً ،وأمسك بحبات البيض ،يقلي واحدة تلو الأخرى. وصعد يحيى واستلقى على فرشة فوق سطح المنزل ،ثم وضع جهاز لاسلكي يحذر من الطيران الحربي في سماء المدينة ،ويتمنى السلامة للجميع. أحضر أبو نعيم العشاء وسمع صوت في الخارج ،فأطل من فوق السور. سأله يحيى :هل رأيت أحد؟ كأني لمحت شخصاً يدخل في الشارع ولكن المكان عتمة. اقترح يحيى إطفاء الضوء ،ثم غرق في صحن الحمص وتناول حبات الزيتون وهو يقول :جارتك أم ياسر بتعرف رحاب وممكن تساعدك. أم ياسر بتكرهني ،لكن لو حسن يطلب لبن العصفور ،يوصل ثاني يوم ،لكن أنا مش ممكن. قال يحيى :لو كلمتها ما بتخسر ،لكن فيه جديد؟ الجديد ابتسامة رحاب ،ممكن ينجح الموضوع؟ 102
قال يحيى وهو يهز كتفيه: قوم اعمل قهوة. رفع حسن وأبو نعيم الصحون ونزل كلاهما إلى الطابق السفلي، وبعد دقائق سمعا انفجاراً هائلاً ،ك ّسر زجاج المنزل وقطع الكهرباء وتناثر الأكل في المطبخ. قصف الطيران الإسرائيلي سطح المنزل بصاروخ موجه واشتعلت النيران ،وخرج حسن وأبو نعيم من البيت مصابين بجروح وامتلأت وجوههم بالغبار والدماء وتعالت صرخات الجيران ومناشداتهم. نُقل يحيى إلى المستشفى جثة هامدة ،وتم إسعاف باقي أفراد العائلة وانقطعت الكهرباء حتى الصباح وسط حالة صدمة. م ّر الأسبوع الأول بحزن وهدوء في المنطقة ،وصارت الناس تراقب حسن وأبو النعيم حتى قررا الاختفاء في أي مكان بعيداً عن ملاحقات الناس. كان الجو هادئاً في المساء ،فعاد أبو النعيم إلى بيته بصحبة حسن، كانت الشوارع فارغة ،وفي طريقهم إلي البيت م ّر الاثنان عن النصب التذكاري ليحيى ،فاسترق أبو نعيم نظرة مصحوبة باشتياق وانهالت صور يحيى عليهما في الطريق ،وأكملا المشى حتى وصلا إلى البيت وطلب من حسن الانتظار وصعد إلى السطح ،ثم أطل من الشبّاك وطلب منه الدخول ،ولكن حسن أشار بيده رافضاً وغادر المكان، فنزل أبو النعيم يجري ،ولكن دون جدوى. استمر الغياب لأسابيع ،ثم أطل حسن في الشارع يحمل في يده قطف عنب أعطاه لطفل في الشارع ودخل إلى الزواريب المجاورة 103
لبيته ،فكانت أم ياسر تغط في صحن البرغل مع جاراتها على باب منزلها ،ولكنها لمحته ،وقالت بعال الصوت: شو مخبي على جنبك؟ يا ويلك إذا بتشيل سلاح ،خلص واحد مات من العيلة بكفي ،خلي الناس الثانية تستشهد. تغتاظ أم نعيم التي كانت تحب يحيى فتقول: يا خيبتي عليا ،كيف لو يعرف يحيى إنه حسن قاعد في الدار بدون مقاومة ولا ما يحزنون؟ اسكتي خليه يشيل سلاح ،صدق فيهم أبو المؤمن ،وما هزمنا غير إنتي وأولادك وجوزك الخاين أبو الكبونات، ولا حسن روح طخ الأرانب ،خليني أشوف كيف حالها بدو يصير. لم يعر حسن اهتماماً للحديث كله ،فقد كان مقتل يحيى إصابة بالغة في عقله وجرحاً غائراً يغذيه بابتسامة كلما شعر بوهن ،فرجع إلى البيت ،ولما دخل كانت دراجة ج ّده إسماعيل قد أغلقت الباب ،فأزاحها وفتحه ثم جلس على عتبة الدرج يتفقدها. دار الوقت في رأسه وأحاطت به الأسئلة: كيف كان ج ّدي يلف المخيم ويبيع الصحف؟ ولماذا ظل يقود الدراجة حتى بلغ الستين من عمره؟ ويهتم أن تقرأ الناس الصحف؟ ت ّذكر حسن يوم موت جده إسماعيل بجلطة دماغية في نفس اليوم الذي منعت فيه إسرائيل من دخول الصحف إلى قطاع غزة ،وبقيت الدراجة في حالة انكسار تام عند مدخل البيت ،أتى الصدأ على ترسها، وتراكم الكدر على هيكلها ،حتى أن يحيى طلب منه تصليحها قبل نحو شهر والحفاظ عليها من الصدأ ،لكن حسن تكاسل عن طلبه. ظل جالساً على الدرج ،يتأمل فصوص الثوم التي علّقت في مقبضي الدراجة ،ثم مد يده إلي الصندوق الخشبي في مؤخرة الدراجة، 104
وكان نصيبه شوالاً من الأرز ونسخ قديمة من الصحف المهترئة في قاع الصندوق ،بينما تك ّدست ص ّرة من الأكياس بجانب الدراجة وانتصبت علبتي زيت زيتون في الزاوية. وصل أبو نعيم وناداه ،فقام وفتح له: بهذه السرعة؟ ماذا تفعل خلف الباب؟ طالع برة البيت اقترح أبو نعيم :ممكن نزور محل سعيد في السوق! لأ ..الجو لطيف ،ممكن نزور البحر. وافق أبو نعيم على مضض واستأذن لتغيير ملابسه وطلب منه الالتقاء عند الشاطئ. صعد حسن وغيّر ملابسه ثم نزل إلى الشارع يلاعب القطط ،ويشم الورد على باب محل أبو عوني دون أن يشتريه ،ويمر عن صور يحيى المعلقة على الجدران ،حتى وصل إلى البحر وهو يحمل على ظهره كلاشينكوف ويلبس فوقه سترة. جلس على الجرف ينتظر أبو نعيم وهو ينظر إلى الشاطئ ويحاول التع ّرف على بعض الناس على امتداد بصره. هناك تجلس جارته أم ياسر مع عائلتها ،عرفته من لباسه ول ّوحت بيدها! تحبّه وتسأل عنه باستمرار ،ويرى هو أنها تغرف من شقاء التاريخ الذي يتق ّطع على باب كل ضحكة من ضحكاتها. ظلّت تل ّوح له ،ثم أشارت إلى السلاح المخفي وراء ظهره وهي تقول من بعيد: 105
لا لا ..وتمرجح يدها يميناً ويساراً ،وفي اليد الأخرى ترفع له شقحة بطيخ. ينظر حسن إلى عرض البحر ،كأنه يتخيّل سمكة قرش تغزو الشاطئ وتلتهم أم ياسر وشقحة البطيخ معاً ،وتنظر هي الأخرى إلى عرض البحر كحسن.. يتذكر مشهد هدى غالية وهي تصرخ على الشاطئ بعد مقتل عائلتها بقذائف الزوارق الإسرائيلية ،وبعد لحظة صمت ،تشير له م ّرة أخرى بيدها: مفش إسرائيل ،تعال خذ بطيخ.. يا حزين تعال خذ بطيخ.. مدفون في الرمل من ساعتين ،بيشهي مثل البوظة ،لكن أنت عنيد! لا يسمع حسن شيء ،ولكنه يفهم لغة أم ياسر جيداً ويقول في س ّره: يلعن أميركا لأجلك يا أم ياسر. تعود وترفع يدها وتل ّوح بشقحة البطيخ: تعال فرشي أسنانك ،ثم تلتهم الشقحة أمام عينيه. ينظر حسن إلى اللون الأحمر وهو يغيب في بطنها ،ويعود بنظره إلى البحر مرة أخرى ،يدقق جيداً في الحيز بين الأزرقين ،ويقول في ذهنه: ع ّجل الفرج أيها الأزرق ،ويعود ببصره إلى أم ياسر وهي تلتهم آخر شقحة بطيخ وترفع بيدها الأخرى براد الشاي الذي يحبه حسن: تعال اشرب شاي ،شو بدك نعمل؟ أعطيني الإشارة! 106
يفهم حسن لغة أم ياسر وفطنتها ومرحها الذي لا ينقطع ،فيبتسم مع نفسه من بعيد وهو يعاين مجموعة صغار يلعبون شد الحبل خلفها، وتهيمن على رأسه الذكريات ،ويستجد إحساس هادئ مفعم بروح النصر ولا يهتدي إلى بر فيغادر مبتسماً ويتوارى عن الأنظار. 107
سينما النصر لم يكن مازن متحمساً للسينما ،فقط يش ّده إليها اسمها ،تروق له كلمة \"سينما\" وير ّددها دائماً ،ولها في خياله لوحات ،مثلاً: فتى يحاول اكتشاف ما يمكن أن يثيره مشهد إباحي في جمهور غارق في العتمة ،وما يمكن أن يسبّبه لامرأة في الستينات ،أو انعكاس الضوء على وجه أحدهم ،مج ّرباً استغلال الظلام ،لاستراق قبلة. ولد مازن في حي الشجاعية ،شرق مدينة غزة وعاش فيه أكثر من خمسة وعشرين عاماً ،لكنه لم يكن يتجاوز الـ 17عاماً ،حين اقترب من السينما لأول م ّرة ،وقف وتب ّول على أحد جدرانها ،فتنبه أنه يبول على حائط ُكتب عليه كثير من الشعارات والأغاني ،شعر بحياء وتلفت حوله فلم يجد أحداً ،مسح يديه وأكمل الطريق حتى وصل إلى إشارة مرور ،وهناك سأله شاب: لو سمحت ،هل تعرف محل للخياطة؟ صحيح فيه محل خلف السينما ،امشي حتى توصل المبنى البعيد، هذا الذي تراه أمامك ،وهناك سيقابلك شارعين ،وفي بداية أحد الشوارع ،سترى جداراً ُكتب عليه “وين الملايين الشعب العربي وين” ،ادخل في الشارع ،وفي أوله ستشم رائحة نتنة في المكان ،لا أعرف سببها ،ولكن يبدو أنها جيفة في آخر السينما ،حاول أن تغلق أنفك ثم افتحه بعد عشرة أمتار ،وبعدها سترى طريقاً خاصاً فيه يقع محل الخياطة يلتصق به محل مط ّرزات ،ستجده في وجهك ،بجواره مكتبة قديمة ،ومحل لطباعة المفاتيح وتصليح الأحذية ،كلها في نفس المكان. 108
وبعدين وين أروح؟ خلص وصلت ،هو محل متواضع ،ممكن تقرأ لوحته باللون الأسود ،فيه هناك أثواب ،امسك واحد شغل يدوي حرفي وص ّدقني ستشعر بالانبساط ،وانتبه حتى لا يقع منك صحن الحمص. كانت “سينما النصر\" لا غيرها ،يراها مازن في طريقه خلال مشواره اليومي لشراء عصير الخ ّروب ،كان يحبه وتذ ّكره السينما بكثير من الأفلام القديمة ،وتحديداً ذاك الفيلم الذي احترقت فيه بارجة حربيّة وأضاء اللهب وجوه المتفرجين وخرجوا يومها في حالة ذهول وانبساط من حلاوة الفيلم. كانت سينما النصر تقف بجدران شاحبة في وسط غزة ،تساعد كل المتبولين الما ّرة ،وهي المكان الوحيد الذي يتذكره مازن حين يأتي أحد على ذكر اللون الأبيض ،وتتصارع الأسئلة في ذهنه ،ويخطر بباله ع ّشاق السينما الذين لم يدخلونها ولو م ّرة في حياتهم ،ويتساءل: هم حالمون أم كاذبون؟ حالمون بماذا؟ بوزير ثقافة على بسكليت أبو جحشين؟ أو ببائع شعر البنات أمام مدرسة ذكور الأونروا؟ أو غزة وهي تفتقر لموسيقار يعيد الدماء لشهدائها ويض ّمد جراح مصابيها؟ أو لعازف كونتراباص ثخين ومتوتر؟ أو لأغا ٍن أقل من الوطنية بقليل، وكلام آخر غير الهتافات؟ أو غزة وهي تعثر على امرأة تجيد التمثيل ولا تنتصر في الزغاريد؟ أو شاب يستأذن موظف البلدية كي يشاركه في قطع الكهرباء عن المخيم ،ويضحكان ثم يعزمه على كاسة شاي على عتبة باب البيت. كان يبدو أن وقوع مازن في حب السينما سيأتي على مهل ،في أي مكان آخر في العالم ،أي مدينة تكترث للسينما ولديها وقت لحكايات البشر! 109
كان يريد لهذا الحب أن يأتي بخفة على شكل إعلانات في الشوارع ولوحات في القطارات والباصات ،لكن مازن كان يحضر كل الأفلام في البيت ويظل يفكر في الساعات التي سيتقيد فيها بالظلام ،ويدور إعلان سينمائي في ذهنه: قطاع غزة كسينما كبيرة يعلن استقباله أي فيلم عربي وهو لم يج ّرب الصمت الجماعي ولا حتى قطع التذاكر. كان حلماً بالنسبة لمازن أن يسمع قطاع غزة وهو يضحك في سينما النصر أو أي سينما أخرى ،كالسامر أو الحمراء. لم يتحقق حلمه وسافر ،وفي أول أسبوع وجد نفسه أمام عنوان يخرج من الأرض إلى السماء “هذا العالم الذي ليس لنا”. جلس في قاعة السينما ،حيث يعرض مخرج الفيلم لقطته وهو يقول جملة تركت مازن في حالة شرود ذهني: \"كنا نذهب إلى السينما نشاهد أفلام الـ \"الكونغ فو\" ،ليس تماماً كونغ فو! انتبه مازن وفرط ضحكة استف ّزت ظلام القاعة وتحسس أعضاءه وهو ير ّدد كونغ فو والله جميل الكونغ فو. التفت بعض المشاهدين إليه وبدا الأمر غريباً ،لكن الفيلم والكونغ فو كانا الشرارة التي فكفكت ذاكرته وعاد بها إلى مسلسل “أسكمو لمون” الإسرائيلي ذائع الصيت ،يتذكره جيل السبعين ومطلع الثمانين جيداً ،كان يتابعه آلاف الشباب ،آملين مجرد لقطة إباحية من شاشة تلفزيون فيليبس القديم. تذ ّكر مازن كل التفاصيل وفي ذروتها سلام الشجعان وهو يقول، أخ من “زمن الأسكمو لمون” ،ومضى يهمس لصديقه: 110
بتعرف كان يوم السبت يستحق نسميه يوم الشبق العالمي ،وقتها كانت سنوات أوسلو الأولى وانفتحنا على إسرائيل ،فتحة عاطلة ،لكن ما بعرف كيف ضلت صالات السينما مغلقة ،ورحنا بخفّة تجاه إسرائيل ،كان المشهد سينمائي فعلاً. وقع مازن في حب السينما ،مخيم عين الحلوة كان السبب واتصال محمود المتح ّمس للفيلم ،أراد أن يتابعه بدقة ،حتى فتحت شابة “كيس شيبسي” في القاعة ،واستدار أبو الريم نحو مازن هامساً في أذنه بكل حيرة :بتعرف ،نسينا نشتري كابوكي! تركه الفيلم تحت إلحاح الأسئلة ،لكنه بلع لسانه وغرق في سكوته وهو يمشي في الشارع وازدحمت ذاكرته بالصور التي حملها لأكثر من خمسة وعشرين عاماً ،أحدها لبائع فجل على باب مسجد ،وآخر يبيع الأقفال أمام محل صرافة ،وقناة طيور الجنة في محل اسكافي بشارع عمر المختار ،وقيادي بارز في قيلولة يستقبل جيرانه ويطبطب عليهم ،وسعيد يظهر في الفيلم كرجل صالح لا يملك إلا الدجاج يربيه ويدعم جيرانه بالبيض ،ويوفّر الكهرباء للديك حتى لا يهيج ،ويشاهد التلفاز وينتظر فيلماً هندياً ويأكل الموز والترمس مع الأغنية! لقد انزعج مازن من فصل الشتاء في مخيم عين الحلوة لكن صور الفيلم صارت تخفف ثقل اللاجئين وهم يقتحمون الذاكرة ،بعض الصور كانت تثير أفكاره وتقلّب مزاجه ،كصورة عرفات تجري في مزراب المياه بعد مطر شديد في يوم عاصف وهي تلخص كل المسائل ،وصوت أبو إياد ،عضو في حركة فتح ،يُمعن في الغل، فيشتم ،ثورتنا صارت سينما ،فيها خونة وحراميّة ،عادي ،كل العالم يشوف الفيلم ،هذه حقيقة. 111
ليلة في كراج تأتي إلى بيت فادي ،ويعرف اسمها فقط ولكنه لا يفهم ما حدث معها ،كلما دخلت عفاف البيت لا يتجرأ أن ينظر في عينيها.. عندما رآها أول مرة كانت ملابسها باهتة اللون ،وتحمل سلة مليئة بحاجيات غير معروف ما هي بالضبط. وقف فادي في يوم عادي كباقي أيامه الروتينية ،ينتظر تلك الساعة التي تزور فيها عفاف بيتهم. وصلت على الموعد ولكنها رفضت الدخول وطلبت من أحد الصغار أن ينادي أم فادي التي خرجت تتحدث معها. تفضلي ادخلي؟ لا ،خلص ،يكفي ما حصلنا عليه ،أنا وبناتي نثقل عليكم بشكل يومي. كان فادي يسترق السمع ويراقب حركاتها وأسلوبها في الكلام ،ثم غادرت ،ونزل بسرعة يسأل أمه: لماذا رفضت الدخول؟ وما هي قصتها؟ لا أعرف ،ولا تتدخل في أمر لا يعنيك. ظل فادي ينتظر زيارتها حتى الأسبوع التالي ،في ذاك اليوم ،ق ّرر الاختباء في المطبخ ،حيث النافذة على مقربة من باب المنزل ،ما يجعله أكثر قرباً من الصوت. 112
انتظر ساعة ..ساعتين ..ثلاثة ..حتى فتحت أمه باب المطبخ ودخلت: آه ،هذا أنت ،ماذا تفعل على الشباك؟ فادي :أبحث عن مكان لزراعة شتلة نعناع في قوارة صغيرة. انزل عن الشباك وازرعه في حديقة البيت. غادر فادي وهو يتحسس ضربات قلبه حتى هدأ وهو يردد: توقعت تمسكني ،والله توقعت في المساء صار يفكر في طريقة كي يعرف من خلالها أي شيء عن عفاف. قام وصعد إلى الطابق العلوي بح ّجة الدراسة مع أبناء ع ّمه ويسألهم عنها. كانت الساعة التاسعة ليلاً حين دق باب المنزل ،فتحت أم فادي الباب ،فكانت عفاف تحمل الحطب: ثقيل عليكي ،الموت أهون من وجع الظهر. يلا بسيطة ،أكل العيش صار تعاسة :تشتري الحطب؟ قالت أم فادي وهي تضع يدها على خدها: ولو ما ب ّدي اشتريه ،ب ّدك تلفي في الشوارع بهذا الوزن الثقيل؟ كان فادي يقتحم المطبخ ويسمع الحوار: بنتي تتمنى الموت كل يوم بدل المعيشة المتعبة ،كلها فقر على فقر. شقّق فتحة النافذة وصار يراقبها وهي تقول: 113
حياتنا مثل الجيبة فاضية والحرمان فيها زي جفاف الأرض ،ممكن أشرب كاسة مي؟ أم فادي :ممكن وأمانة عليكي تدخلي البيت. لا بدي أشرب وأروح فتحت باب المطبخ فكان فادي يمشي باتجاهها يحمل كاسة ماء! أخذت منه الكاسة وصفعته. ليش تضربي؟ يعني حرام أشرب؟ عيب تكذب وتتصنت على المرأة ،روح على غرفتك. ارتوت عفاف ثم استأذنت وغادرت. كانت أم فادي تعمل في التدريس ،وفي الصباح تج ّهزت وحملت الشنطة والكتب وذهبت إلى المدرسة. دخلت إلى ح ّصتها الوحيدة في ذاك اليوم بكامل نشاطها وحيوية الدرس الذي ستشرحه: يلا افتحوا صفحة جديدة وجهزوا أقلام الرسم ،ثم أشارت بإصبعها إلى إحدى الطالبات في آخر الفصل ،وطلبت منها أن ترفع رأسها عن المقعد. رفعت رأسها والدموع تتساقط على الدفتر ،كان بكاءها قاتماً فنادت عليها: تعالي غسلي وجهك في الخارج وارجعي بسرعة. خرجت من مقعدها تمشي ببطء وهي تبربر وتمسح دموعها بأكمامها ،فأحم ّر وجهها وغرق في الحزن. 114
ظلت الطالبات يراقبن مشيتها بحسرة وشعرها الذي تبعثر وسقط منه الطوق وانفك حزام المريول عن وسطها حتى وصلت عند المعلمة ،تحمل مظروفاً أزرقاً ،أثار انتباه أم فادي: ما هذا؟ ظلت ساكتة سألتك ،ما هذا؟ زاد نحيبها ،فطلبت أم فادي من الطالبات التزام الصمت وأخذتها خارج الفصل: لماذا كل هذا البكاء يا حبيبتي؟ لم تتمالك الطفلة نفسها ،وناحت البراءة في ثنايا صوتها الباكي وهي تقول :جمعت هذه الأوراق ولكن ما قدرت أبيعها ،وبعدين ما قدرت أشتري قلم الرسم. أخذت أم فادي الكيس وفتحته: آآه هذه أوراق خبيزة ،لونها جميل ،بحبها كثير ،بتحبيها؟ لا لا ليش؟ أمي بتطبخها كل يوم. ليش كل يوم؟ ما فيه غيرها ،نجمعها من الأراضي الزراعية. شو اسم أمك؟ عفاف 115
شو؟ قالت بصوت مرتفع :عفااف. بلعت أم فادي ريقها :أمك تجمع الحطب؟ آه كل يوم ..وبكت.. صار قلب أم فادي يغلي وتتلفت حولها :لا تبكي ،ليش تبكي؟ إذا ما اشتروا منّي الخبيزة بدي أرجع على البيت مشي. وين بيتكم؟ بعيد ساعتين مشي ،والطريق ما فيها ناس. أخذت منها الخبيزة وأعطتها ما يكفي حتى تعود بالمواصلات العامة ،وتك ّرر الأمر لأكثر من أسبوعين. لم تهدأ المعلمة وخرجت إلى ساحة المدرسة خلال فسحة منتصف الدوام ،ونادتها وأخذتها إلى قاعة المعلمات :قولي لي عن المعيشة مع أمك وأخواتك؟ نسكن في كراج صغير تحت عمارة من طابقين ،ويسكن فوقنا عمي وأولاده. هل الكراج صالح للسكن؟ عمي يضع البضاعة في الكراج ولا نجد مكاناً للنوم ،وكل يوم في الليل نجمع كل الكتب ونصففها فوق بعضها البعض حتى تصعد أختي وأخي للنوم فوق البضاعة. وهل ترتاح أختك وأخيك فوق البضاعة؟ 116
لا أعرف ،ولكن أختي سقطت عن الكتب مرتين وتمزق كتابي وضربتني المعلمة اليوم الصبح في الدرس الأول ،وقبل يومين ضربتني وضربت أختي لأنها تأخرت عن الدرس. شو سبب التأخير؟ كانت تو ّزع الكتب على الشنط في الصباح بعد ما صففناها مثل السلّم حتى تصعد أختي للنوم فوق البضاعة ،وقبل أسبوع وقعت من فوق خلال النوم وانكسرت إيدها. كيف تدفعون الإيجار؟ كان أبي يعمل في مصنع ويدفع الإيجار إلى ع ّمي كل شهر ،ولكن تعطل عن العمل وتوقف عن الدفع ودخل ع ّمي على الكراج وصرخ عليه ورمى الأغراض في الشارع وصارت مشكلة. وبعدين؟ بعد أسبوعين نزل ع ّمي م ّرة ثانية وطلب من أبي تسديد شهرين من الإيجار ،وهد ّده بالطرد من الكراج! وبعدين؟ ترك الكراج قبل سنة وما رجع حتى الآن.. 117
E-KUTUB Publisher of publishers Amazon & Google Books Partner No 1 in the Arab world Registered with Companies House in England under Number: 07513024 Email: [email protected] Website: www.e-kutub.com ,Germany Office: In der Gass 10 ,Niederwörresbach 55758 Rhineland-Palatinate :UK Registered Office ,Lings Coppice 28 London, SE21 8SY Tel: (0044)(0)2081334132 118
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120