Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore قنبلة وبرتقالة - مجموعة قصصية

قنبلة وبرتقالة - مجموعة قصصية

Published by hamza.elbuhaisi, 2019-10-24 18:58:29

Description: قنبلة وبرتقالة - مجموعة قصصية

Search

Read the Text Version

‫إلى قبر صبحي وهو يسمع حفيف الشجر حتى تاهت عيناه على امتداد‬ ‫المقبرة فتعثر في غيمتين متشابكتين‬ ‫وقال بصوت يغمره الحسرة‪ ،‬لو أنك يا صبحي تعلم أن أبو سليم‬ ‫بكل ثروته سيدفن بجوارك لبقيت حياً تروي لنا الحكاية‪ ،‬الله يرزقك‬ ‫ويبعد عنا وجع الذباب‪.‬‬ ‫‪50‬‬

‫الكلب جيمي‬ ‫كان المخيم منقسم إلى قسمين‪ ،‬أحدهم يحب الكلب والقسم الآخر لا‬ ‫يطيقه‪ .‬كانت سعاد من بين هؤلاء الذين لا يحبونه وتتمنى أن يوضع‬ ‫له السم فيموت أو تنزل عليه صاعقة من السماء فتقتله‪ ،‬لكن رامز‬ ‫كان يحبه بطريقة يتمنى لو يملكه فيعيش معه وينام على فراشه كعائلة‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫كان جيمي الكلب الوحيد في المخيم‪ ،‬عثر عليه أيمن‪ ،‬وأطلق عليه‬ ‫هذا الاسم أسوة بكلب صديقه الذي مات إثر تناوله السم في حديقة‬ ‫البيت‪ ،‬د ّسه أحد الجيران كي يتخلص من عواءه اليومي وغيرة من‬ ‫الكلب الذي كان يتناول اصبعاً كاملاً من المارتاديلاء يومياً‪ ،‬كان يفغمه‬ ‫في الشارع أمام الجيران‪.‬‬ ‫صار جيمي حديث الناس وسرت إشاعة أنه جاء عبر الحدود بعد‬ ‫أن اخترق السياج وهو في حالة عطش تام‪ ،‬فأخذه أيمن وسار به إلى‬ ‫اللّحام كي يزوده ببعض العظم ثم عاد به إلى البيت‪.‬‬ ‫غ ّسل الكلب وأطعمه وأخذه يمشى به في كل ناحية يسرد حكايته‬ ‫لكل من يقابله‪.‬‬ ‫أبو زهدي رجل طاعن في السن‪ ،‬قصير بلحية بيضاء‪ ،‬يحبه الناس‬ ‫لحكمته‪ ،‬أمسك بأيمن وصار يلاعب كلبه‪:‬‬ ‫أعرف محبتك للكلاب‪ ،‬ولكن عليك أن تعرف أن عقل البنآدم ليس‬ ‫كعقل الكلب فاحتكم إلى عقلك واستفد من قلبه ووفاءه‪.‬‬ ‫وأكمل في نصحه‪:‬‬ ‫‪51‬‬

‫ربما مصاب بمرض دون أن تعرف‪ ،‬انتبه وحاول أن تكشف عنه‬ ‫في أقرب وقت فالكلاب يغزوها البراغيث‪.‬‬ ‫قال أيمن‪:‬‬ ‫غ ّسلته بالصابونة‪ ،‬وظل يلعب تحت الماء حوالي نصف ساعة‪.‬‬ ‫اقترح عليه أبو زهدي‪:‬‬ ‫خذه عند طبيب بيطري‪ ،‬ولو كان فيه براغيث أو مصاب بأي‬ ‫مرض سيعالجه ويصرف لك الدواء المناسب‪ ،‬صابونة هذه الأيام لا‬ ‫تنظف البشر كي تنظف الحيوانات‪.‬‬ ‫وافق أيمن مع إصراره بالدفاع عن الكلب وهو يصف عطشه حين‬ ‫عثر عليه‪ ،‬ثم مشى يلاعبه طول الطريق حتى استقر به المقام في‬ ‫بيته‪.‬‬ ‫بدأت البلبلة واقتحم الجيش المخيم على الحدود بحثاً عن جيمي كما‬ ‫شاع بين الناس‪ ،‬فأخفاه أيمن وخرج إلى منطقة يتجمع فيها الناس‬ ‫بانتظار تقدم الجيبات العسكرية واقتحامها‪ ،‬وصار يتباهى بأن لديه‬ ‫كلب يمكن أن يثير حفيظة الجيش ويقول‪:‬‬ ‫صحيح مواعظ أبو زهدي لا تطاق‪ ،‬ولكنها تؤخذ في الحسبان‬ ‫بسبب شيبته على الأقل‪.‬‬ ‫سمعه أبو زهدي الذي كان بين الناس‪ ،‬فجاء من بعيد وقال‪:‬‬ ‫صدقني يا أيمن‪ ،‬طيبة قلبك وحبك للكلاب يعرضك للخطر‪.‬‬ ‫واشترك آخرون في الحديث‪:‬‬ ‫النية الصافية لا تلغي الحذر وإنت ما بتعرف أصل الكلب وقصته‪.‬‬ ‫قال أيمن بنبرة حادة‪:‬‬ ‫‪52‬‬

‫إرادتي مثل حديد وكل الكلام شائعات ضد الكلب‪.‬‬ ‫أمطروه بالنصائح حتى شعر بتلقى وجبة دسمة منها فغادر وتق ّدمت‬ ‫بعدها الجيبات العسكرية وتف ّرق الناس إلى بيوتهم وخلت الشوارع‪.‬‬ ‫نزل الجنود وبدأوا بتفتيش البيوت واعتقلوا عدداً من الشباب‪،‬‬ ‫واستمرت الاقتحامات ولكنهم لم يجدوا جيمي‪ ،‬فغادروا وخرج على‬ ‫إثرها أيمن مصطحباً الكلب‪ ،‬وعادت معه السجالات‪:‬‬ ‫يعني قصدك إنه كل المخيم يُعتقل ويدخل السجن لأجل خاطر‬ ‫الكلب! كلب يجرك على الحبس معه‪.‬‬ ‫لم يبال أيمن بما سمعه‪ ،‬ولم يقنعه أحد بالتخلي عن الكلب‪ .‬كان‬ ‫رامز الوحيد الذي أظهر حباً لجيمي ومقدرة على حل المشكلة‪ ،‬وهو‬ ‫صديق مقرب من أيمن ويعرفه الناس بلقب “شموني”‪.‬‬ ‫أصيب في حادث سير نتيجة قيادته السيارة بسرعة فائقة‪ ،‬فهو‬ ‫معروف بحبه للسياقة وصلته مع كل السائقين وعلاقته مع لافي الذي‬ ‫عمل عنده في الأراضي المحتلة لسنوات طويلة‪ ،‬وظل لافي على‬ ‫اتصال به‪ ،‬لكن رامز كان يتعامل معه بكثير من الح ّدة‪.‬‬ ‫في المساء اختار رامز ساعة يكون فيها لافي بمزاج جيد ثم اتصل‬ ‫به لأول مرة حيث اعتاد لافي هو من يبادر بالاتصال‪ ،‬سأله رامز‪:‬‬ ‫هل اشتريت كلباً جديداً غير الذي كان معك؟‬ ‫لا‪ ،‬حتى الكلب الذي كان معي أهديته لصديقي‪.‬‬ ‫قال رامز باستغراب‪ :‬لديكم الكثير من الكلاب وتحديداً عند الجيش‪،‬‬ ‫بالمناسبة‪ ،‬كيف يتم تدريبها؟‬ ‫أجاب لافي‪:‬‬ ‫‪53‬‬

‫الجنود تعطيها حبوب وتقودها ويتم تدريبها بشكل سري عبر وحدة‬ ‫متخصصة‪ ،‬لي صديق يعرف التفاصيل ولكنه يخفيها عني‪ ،‬ولكن لماذا‬ ‫تسأل؟‬ ‫قال رامز‪:‬‬ ‫هذه كلاب ليست سهلة‪ ،‬ويبدو الموضوع خطير‪.‬‬ ‫سأله لافي وهو يحاول إخفاء قلقه‪:‬‬ ‫لماذا تتحدث عن الكلاب؟‬ ‫رامز‪ :‬عثرنا على كلب وصل عبر الحدود ولكن فيه شكوك حوله‪.‬‬ ‫اعتذر لافي‪:‬‬ ‫سأتكلم معك فيما بعد‪ ،‬وأغلق الهاتف‪ ،‬أما شموني فذهب إلى وسط‬ ‫المخيم‪ ،‬وبدأ يسرد تفاصيل مكالمته مع لافي بحضور عدد من أصدقاء‬ ‫أيمن‪ ،‬حتى وصل الخبر إلى طبيب بيطري فطلب إحضار الكلب إليه‪.‬‬ ‫لم يكن سالم طبيباً بيطرياً وحسب بل أسيراً محرراً أيضاً‪ ،‬توفيت‬ ‫زوجته عندما كان في السجن وخرج فصار على إثر الأمر أكثر وهناً‬ ‫لما آلت إليه الأمور‪ .‬كان أيمن يثق بتقديرات الطبيب سالم‪ ،‬ويعتقد أن‬ ‫تجاربه تؤهله للتعامل مع الأمر علاوة على تخصصه كبيطري‪.‬‬ ‫أحضر أيمن الكلب ودخل إلى مزرعة الطبيب‪ ،‬ومجرد أن لمحه‬ ‫تب ّسم وقال‪:‬‬ ‫كلب هزيل‪ ،‬واضح أنه فقد أكثر من نصف وزنه‪ ،‬ولكنه غريب‬ ‫عن مكانه‪.‬‬ ‫اقترب منه وأمسكه من رأسه واستأذن أيمن‪:‬‬ ‫دعني أفحصه‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫أخذه وخ ّدره وبدأ يقلب أعضاءه ويتفقد كل ناحية في جسده‪ ،‬بينما‬ ‫ذهب أيمن يتج ّول في المزرعة‪.‬‬ ‫ظل الطبيب يفحص فيه لأكثر من نصف ساعة حتى استمع إلى‬ ‫صوت غريب يشبه صوت دقات الساعة‪ ،‬فرفع رأسه ونظر إلى أيمن‬ ‫لاستدعائه‪.‬‬ ‫كان يقف في آخر المزرعة بجوار شجرة تين يقطف من حباتها‪،‬‬ ‫وحين التفت أيمن رفع الطبيب يده مل ّوحاً وهو يقول‪:‬‬ ‫تعال يا حبيبي‪ ،‬تعال‪..‬‬ ‫مشى أيمن باتجاه الطبيب الذي ظل منهمكاً في فحصه إلى أن وصل‬ ‫أيمن فوجده يحني رأسه ويضع أذنيه على كل ناحية في جسد الكلب‬ ‫في محاولة لاكتشاف صوت التكتكة‪ ،‬وامتلئ سالم عرقاً وهو يمسك‬ ‫بساق جيمي‪ ،‬فسأله أيمن‪:‬‬ ‫طمني عن وضعه؟ مصاب بأي مرض؟‬ ‫نظر إلى أيمن وتناول المشرط بسرعة وشق جلد الكلب‪ ،‬فسالت‬ ‫دماءه ومد الطبيب يده وأخرج منه قطعة صغيرة رفعها في وجه أيمن‬ ‫وقد امتلأت أصابعه بالدماء‪.‬‬ ‫تبلّد أيمن ولم يقل شيئاً حتى جاءهم خبر اقتحام الجنود والجيبات‬ ‫العسكرية عن الحدود م ّرة أخرى بعد مراقبة المكالمة بين رامز ولافي‬ ‫بشأن الكلب‪ ،‬وفرض حظر التجول ونزل الجنود من الجيبات وبدأت‬ ‫عملية مراقبة الشوارع وأسطح المنازل وانهالت الحجارة عليهم‬ ‫فصاروا يطلقون قنابل الغاز‪ ،‬واستمرت المواجهات لساعات‪.‬‬ ‫كان أفيغايل جندياً كارهاً للناس في المخيم ويتحين أي فرصة‬ ‫لتفريغ غيظه واستعراض ساديته دون أن يعرف هو سبباً لذلك‪.‬‬ ‫‪55‬‬

‫سار أفيغايل في دورية مكونة من عشرة جنود‪ ،‬وسمع بعض‬ ‫التعليمات عبر جهاز اللاسلكي‪:‬‬ ‫من مركز العمليات إلى أفيغايل‪..‬‬ ‫انقطع الاتصال ولا توجد إشارة حتى بعد الاقتحام‪..‬‬ ‫هل تسمعني‪ ،‬أجب!‬ ‫على إثر التعليمات أعطى أفيغايل الأوامر للجنود باقتحام بقية‬ ‫البيوت‪ ،‬ومن بينها بيت أيمن‪ ،‬فانطلقت دورية إلى الشارع المقابل‬ ‫ودهموا البيت وشرعوا بالتفتيش‪..‬‬ ‫تبعهم أفيغايل ودخل البيت فوجد جيمي بحوزتهم‪.‬‬ ‫قال جندي‪ :‬عثرنا عليه في إحدى خزانات أيمن‪.‬‬ ‫ثم جاءت تعليمات الضابط عبر اللاسلكي‪:‬‬ ‫تعميم للجميع‪..‬‬ ‫تأكد اختفاء صوت جيمي عن الشبكة‪..‬‬ ‫مجرد أن أنهى الضابط جملته حتى سمع صوت نباح الكلب‪،‬‬ ‫فسحب أفيغايل أجزاء سلاحه وصوبه نحو جيمي وأرداه قتيلاً!‬ ‫عاد الضابط يسأل عبر اللاسلكي‪:‬‬ ‫ما الذي حدث؟‬ ‫قال أفيغايل‪:‬‬ ‫شاب يدعى أيمن قتل الكلب على مقربة مني وتم إلقاء القبض عليه‪.‬‬ ‫‪56‬‬

‫قنبلة وبرتقالة‬ ‫قام تيسير وطلب الإذن‪:‬‬ ‫هل تسمح لي بالخروج لتناول حبة دواء مع الأكل؟ هكذا وصف‬ ‫الطبيب‪.‬‬ ‫قال المدرس مشفقاً‪:‬‬ ‫طبعاً سلامتك‪ ،‬ولكن لا تتأخر عن الدرس‪.‬‬ ‫خرج تيسير دون أن يلتفت خلفه‪ ،‬لمحه بعض الطلاب وناداه‬ ‫بعضهم‪ ،‬لكنه لعب دور الأطرش وأسرع في المشي وهو يرفع يده‬ ‫دون مبالاة ويقول‪:‬‬ ‫وصفة طبية‪ ..‬وصفة طبيب‪ ..‬ثم اختفى من المدرسة‪.‬‬ ‫كانت خطة تيسير للهرب مع ّدة سلفاً لتشمل الأسبوع‪ ،‬وشعر‬ ‫بارتياح أكثر عندما وجد عاهد بانتظاره بعدما أت ّم نفس الخطة‪.‬‬ ‫خلت لهم الطريق‪ ،‬فسار الاثنان باتجاه الغرب نحو البحر من أجل‬ ‫الوصول إلي منطقة زراعية‪ ،‬كان تيسير يعشق القيلولة في الأراضي‬ ‫الزراعية‪ ،‬شغوفاً بالهدوء ويستريح من سهراته التي تستمر حتى‬ ‫الفجر‪ ،‬هذه عادته منذ نحو ثلاث سنوات‪ ،‬يُبقي ضوء غرفته مشتعلاً‬ ‫إلى أن يسلّط أحد المسلحين الذين يحرسون المدينة ضوء الكشاف على‬ ‫نافذته في إشارة إلى ضرورة إطفاء الضوء! المسلحون يعرفونه جيداً‪،‬‬ ‫ولذلك يمازحونه باستمرار‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫لتيسير علاقات متشعبة لكنه لا يلتزم في شيء‪ ،‬يكره الدراسة ويجد‬ ‫في درس الرياضيات عذاب جهنم‪ ،‬فيف ّضل الضرب على قضاء الوقت‬ ‫في حل الواجب‪ ،‬ويعترف أنه يكره حل المسائل الحسابية‪.‬‬ ‫استغل تيسير لقاءه بعاهد فأخبره عن حياته مع المدرسين‬ ‫والمسلحين وطلب منه كتمان السر ثم نظر على امتداد الأرض التي‬ ‫وصلوا إليها وقال‪:‬‬ ‫صاحب المزرعة صديق قديم لأبي‪ ،‬لازم نجمع قدر ما استطعنا‬ ‫من الفاكهة والخضروات‪.‬‬ ‫نزل الاثنان وبدأ القطف‪ ،‬ثم رفع تيسير قميصه وأخرج كيساً كبيراً‬ ‫وصار يعبئ قطوف العنب وحبات الجوافة‪ ،‬استغرق الأمر ساعات‬ ‫حتى وقت الغروب‪.‬‬ ‫كان عاهد يحمل حبات الرمان ويمشي باتجاه شجرة تين ثقيلة الظل‬ ‫ثم اختفى‪ ،‬وسمع تيسير صوت صراخ‪ ،‬التفت فلم يجد عاهد‪ ،‬وصار‬ ‫يجري ويتتبع أثر الصوت حتى وصل إليه‪.‬‬ ‫وقع في بئر بعمق نحو عشرة أمتار‪ ،‬خالياً من المياه باستثناء نصف‬ ‫متر من الطين غطت ساقي عاهد الذي رفع يده يتوسل المساعدة‪:‬‬ ‫ساعدني‪ ..‬بسرعة‪ ..‬موت أحمر‬ ‫شعر تيسير بارتباك اللحظة واصف ّر وجهه‪ ،‬وأدرك أنه سيشهد‬ ‫لحظة فقدان عاهد الذي ظل يتوسل بشفقة‪:‬‬ ‫أرجوك أن تتصرف بسرعة‪.‬‬ ‫يلا حالاً‪ ،‬ولكن الخوف أبقاه في مكانه‪ ،‬لم يستطع اتخاذ أي خطوة‪،‬‬ ‫وليس لديه أي وسيلة اتصال‪ ،‬فأغضبه عجزه‪:‬‬ ‫‪58‬‬

‫أنت أحمق كيف وقعت في البئر؟ ها قل لي كيف وقعت يا غبي؟‬ ‫يا ريتك وقعت في بئر خراء‪.‬‬ ‫تلبّد عاهد في البئر‪:‬‬ ‫أمانة عليك تهدأ وتساعدني‪.‬‬ ‫حاول تيسير أن يتمالك نفسه ويفكر في طريقة لإنقاذه‪:‬‬ ‫اسمع‪ ،‬لازم تصبر حتى أطلب المساعدة‪ ،‬اصبر بدون أي كلمة!‬ ‫مخنوق‪ ،‬خليك في المكان! وين رايح؟‬ ‫ظل تيسير على رأس البئر وسأله‪:‬‬ ‫يعني كيف أنقذك؟ الخوف ممكن يقضي عليك‪ ،‬بتحب تموت؟‬ ‫اسمعني بس!‬ ‫استغرق جدالهما الكثير من الوقت حتى انتبه تيسير إلى غياب‬ ‫الشفق فبدأ ينادي حوله وسط مراقبة وذهول عاهد‪ ،‬ولكن الصوت لم‬ ‫يتردد إلا في البئر‪.‬‬ ‫مشى تيسير خطوات للبحث عن حبل لإنقاذه فتوسله ألا يبتعد‪.‬‬ ‫جلس تيسير وشتمه‪:‬‬ ‫لازم أتركك تموت إذا بقيت تصرخ! اسكت‪ ،‬العتمة سيطرت على‬ ‫المزرعة‪ ،‬يعني ممكن تنام في البئر للصبح‪ ،‬فالأفضل تسكت‪.‬‬ ‫لم ينطق عاهد بكلمة وذهب تيسير إلى الح ّمامات الشمسية المجاورة‬ ‫وعثر على بعض الحبال‪ ،‬وبدأ يربطها ثم وضعها على الأرض‬ ‫فوجدها قصيرة‪ ،‬ليست على امتداد البئر‪.‬‬ ‫‪59‬‬

‫مشى في كل الجهات إلى أن عثر على أكياس خشنة فسحبها من‬ ‫الأرض وربطها ثم عاد إلى البئر وم ّدها له‪ ،‬فأمسكها عاهد ورجع‬ ‫تيسير إلى الوراء وهو يجرها وصار عاهد يتسلق بمساعدة بعض‬ ‫الأحجار المسننة في جدار البئر‪ ،‬لكن صوت ارتطامه في الوحل كان‬ ‫أسرع‪ ،‬انقطعت الأكياس‪ ،‬فارتبك تيسير‪:‬‬ ‫أنت بخير؟ هل أصبت؟‬ ‫قام عاهد بدون إجابة‪ ،‬ولم يتمكن من مسح الطين عن وجهه‬ ‫فأغمض عينيه وصار يسب الساعة التي وصل فيها إلى المزرعة‪.‬‬ ‫شعر تيسير بالضياع‪ ،‬ثم طالبه بالصبر وراح يجري حول البئر‬ ‫وينادي ويبحث عن مزيد من الأكياس والحبال لتكرار المحاولة‪ ،‬ولكنه‬ ‫لم يجد إلا متراً واحداً‪ ،‬في حين أنه يحتاج إلي مترين ونصف تقريباً‪،‬‬ ‫فأخذ الحبل وعاد إلى البئر‪.‬‬ ‫استمرت محاولة الإنقاذ حوالي ساعتين حتى بدت الأرض مخيفة‬ ‫من حولهم‪ ،‬وتغلغل الإزعاج في ذهن تيسير الذي رأى السماء تعزز‬ ‫الأسود وتفتح عين النجوم‪ ،‬فأسرع في مهمته وانبطح على بطنة‪ ،‬ومد‬ ‫الحبل لعاهد‪ ،‬وصار يعطيه التعليمات لحشد كل قواه ورفع معنوياته‬ ‫للصعود بحذر‪ ،‬وبالفعل بدأ يتسلق حتى قطع حوالي ثلاثة أمتار ودبت‬ ‫الفرحة في البئر وقال تيسير مداعباً‪:‬‬ ‫اطلع يا قرد‪ ..‬اطلع خذ الموز‬ ‫ضحك عاهد فاختل توازن تيسير الذي وقع في البئر هو الآخر‬ ‫وارتطم في الطين كعاهد‪.‬‬ ‫‪60‬‬

‫لا أحد في المكان‪ ،‬وقد أعلنت لحظة الموت عن نفسها وأخذت‬ ‫تحوم حولهما في البئر‪ ،‬صار عاهد يضحك ويبكي بشكل هستيري‪،‬‬ ‫ولكن تيسير شعر بغضب وهو يمسح الطين عن وجهه‪:‬‬ ‫سنموت من العطش أو من أكل الوحل‪.‬‬ ‫سكت الاثنان وهما يمسحان الطين‪ ،‬وصار عاهد يميل نحو تيسير‬ ‫ويتثاءب‪ ،‬فنخزه بكتفه‪:‬‬ ‫فعلاً عديم الإحساس‪ ،‬كيف نعسان وشايف الموت بعينك؟‬ ‫قال عاهد‪:‬‬ ‫لازم تستسلم حتى تموت بهدوء‪ ،‬وبدون رفص مثل الحمار‪.‬‬ ‫شعر تيسير بانفعال وأراد أن يعربد عليه بلا شفقة‪ ،‬ولكنه كز على‬ ‫أسنانه وأمسك فمه وهدأ الاثنان وهما يراقبان بقعة السماء الخالية من‬ ‫أي نجوم فوق البئر‪.‬‬ ‫بعد لحظات اقترح عاهد فكرة للنجاة‪:‬‬ ‫صوتين مع بعض أقوى‪ ،‬ممكن نصرخ لمدة خمس دقائق‪.‬‬ ‫لم يكن باستطاعة تيسير أن يتكلم كثيراً أو يفتح فمه خشيه دخول‬ ‫الطين إلى حنجرته‪ ،‬ولكنه اقتنع بعد مناكفة وبدأ الاثنان بالصراخ‪.‬‬ ‫تردد صوتهما في الأرجاء ولاحت مناجاتهم من فوهة البئر ثم‬ ‫انتشر الصمت وسمعا صوت أقدام‪.‬‬ ‫قاما يراقبان فتحة البئر حتى لمعت عينا ثعلب صار يعوي‬ ‫وأرعبهما‪ ،‬ثم انصرف‪ ،‬فقال تيسير بعصبية‪:‬‬ ‫قلت لك اصرخ‪ ،‬لا تعوي‪ ،‬عواؤك هو الذي جاء به‪ ،‬ج ّرحت‬ ‫حنجرتي دون فائدة‪.‬‬ ‫‪61‬‬

‫قال عاهد‪ :‬أكلت بعض الطين وصار يغلي في بطني‪.‬‬ ‫ظلا يبحثان عن حل‪ ،‬ويتكئان على بعضهما حتى استمعا إلي‬ ‫صوت آخر فارتدت الروح إليهما‪ ،‬لاحظا ضوء سيارة‪ ،‬فأكملا‬ ‫الصراخ‪ ،‬ولكن الضوء الأصفر اختفى وحل محلة ضوء أبيض ثم‬ ‫تبعه صوت سلاح‪ ،‬فأمسك الاثنان ببعضهما‪.‬‬ ‫أطل شاب من رأس البئر وهو يصوب سلاحه ويضيء البئر‬ ‫بالك ّشاف‪:‬‬ ‫ارفعوا أيديكم‪ ،‬وعرفوا بأنفسكم‪.‬‬ ‫هذا أنت يا تيسير‪ ،‬ماذا تفعل هنا؟‬ ‫عاد إلى سيارته وجلب ك ّشافاً آخر ورماه لهم‪ ،‬وقال عبر جهاز‬ ‫اللاسلكي‪:‬‬ ‫نطلب مساعدة عاجلة من إحدى الدوريات في نطاق المنطقة الثالثة‬ ‫جنوباً‪ ،‬يرجى استدعاء فرقة إنقاذ‪.‬‬ ‫كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل‪ ،‬فاستدعت‬ ‫الدورية وحدة المطافئ التي وصلت إلى المكان خلال دقائق وبدأوا‬ ‫بربط المعدات وتأكدوا من وصول سيارة إسعاف ثم أنزلوا الحبل وتم‬ ‫انتشالهم من البئر في عملية استغرقت حوالي ساعة منذ أن عثر عليهم‬ ‫وتم نقلهم للعلاج‪.‬‬ ‫رقد تيسير وعاهد في المستشفى لمدة أربع وعشرين ساعة‪ ،‬ظلا‬ ‫تحت المراقبة وخضعا لفحص طبي شامل ثم توافدت عائلاتهما‬ ‫وأصدقائهما حتى شعر كلاهما بالتعافي في نهاية اليوم‪.‬‬ ‫‪62‬‬

‫غاب تيسير عن المدرسة لمدة أسبوع وضاعت دروسه‪ ،‬ولكن‬ ‫التجربة منحته بعض الإشباع بعد أن ذاع صيته‪ ،‬فقرر أن يحضر‬ ‫درساً عابراً ويلتقي بأصدقائه‪.‬‬ ‫توجه نظمي إلى القاعة‪ ،‬مدرس معروف بين الطلاب بثقل الدم‬ ‫والرصد الدقيق للحضور والغياب‪ ،‬وكانت الأخبار قد وصلته عن‬ ‫تيسير الذي كان يقف على باب الفصل يفرد ابتسامة عريضة‪ ،‬دخل‬ ‫نظمي وقال له مباشرة‪:‬‬ ‫تضحك على غيابك المتكرر يا ساقط! لماذا حضرت؟‬ ‫اقترب المدرس من تيسير وأكمل‪:‬‬ ‫هناك حل وحيد‪ ،‬ثم صفعه على خ ّده‪.‬‬ ‫تقهقه الطلاب‪ ،‬وقال أحدهم‪:‬‬ ‫أيوه اديلو كمان‪.‬‬ ‫ظل تيسير متصلباً لم يستجب للوجع ولم يتحرك مليمتراً‪ ،‬ولكن‬ ‫القهقهات ألهبت دماءه فرفع يده لدفش المدرس فتصارخ الطلاب‬ ‫هيييي‪ ..‬هيييي‬ ‫كاد الدرس أن يتحول إلى قاعة ضرب‪ ،‬فغادر تيسير وهو يرمي‬ ‫الكلام خلفه‪ :‬أهنتني يا حقود‪ ،‬لاقيني برة‪.‬‬ ‫كانت المرة الأخيرة التي يحضر فيها درساً في حياته‪ ،‬شعر وقتها‬ ‫أنه تعافى تماماً من التعليم وذهب يقابل عاهد مرة ثانية‪ ،‬وهو يلعن كل‬ ‫اللعنات‪:‬‬ ‫شو السبب؟‬ ‫قال تيسير‪ :‬صفعني أمام الطلاب‪.‬‬ ‫‪63‬‬

‫معقول؟ كيف؟‬ ‫رفع تيسير يده وصفع عاهد‪.‬‬ ‫أخ‪ ،‬ليش ضربت؟‬ ‫بدي أقدم إجابة شافية وافية‪ ،‬نظمي هيك قال‪.‬‬ ‫إيدك ثقيلة‪.‬‬ ‫تيسير‪ :‬لما تعرف خطتنا بتسامحني‪ ،‬يلا‪ ..‬تعال‬ ‫مشى تيسير وظل عاهد متيبساً‪.‬‬ ‫امشي بدون بلادة‪.‬‬ ‫رفض عاهد وظل يتململ ويجادل‪:‬‬ ‫أكلت طينة وأكلت بهدلة وطفح الكيل‪.‬‬ ‫قال تيسير‪ :‬الأرض ما فيها ولا بئر‪ ،‬بس شجر فاكهة‪ ،‬اقتنعت‪،‬‬ ‫يلا‪ ،‬امشي و ّجعت راسي‪.‬‬ ‫سكت عاهد ثم تحفز ووافق لأنه يحب الر ّمان‪.‬‬ ‫سار الاثنان‪ ،‬وفي الطريق قفز تيسير فوق ع ّشة كبيرة بعدما شاهد‬ ‫أطراف أعواد ملوخية ناشفة‪ ،‬فأخذها وقصقصها ثم وضعها في علبة‬ ‫سجائر‪ ،‬وقال لعاهد‪:‬‬ ‫بدك سجائر ملوخية؟‬ ‫لا‪ ،‬بتخنق صدري‬ ‫كان تيسير يهرب من كل شيء خارج إرادته‪ ،‬ويكره أن ينازعه‬ ‫أحد على حريته‪ ،‬حتى تحول الأمر إلى هروب من كل شيء‪.‬‬ ‫‪64‬‬

‫وصلا إلى المزرعة وقبل أن يمد عاهد يده على الفاكهة سأله‪:‬‬ ‫إنت ليش بتكره المدرسين؟‬ ‫سوء التقدير غلبني لأني أعطيتهم صفات أكبر من حجمهم‪ ،‬يعني‬ ‫لما المدرس يضربك كف‪ ،‬هذا الشيء غير مرتبط بالعلم والفهم ولكن‬ ‫بالسلوك والتصرف‪.‬‬ ‫قال عاهد‪:‬‬ ‫لكن إنت هربت من كل الدروس! هذا شو اسمه؟‬ ‫هذا شيء طبيعي‪ ،‬ولأنه طبيعي‪ ،‬تعال نقطف ر ّمان‪ ،‬عصير‬ ‫الر ّمان طيب وبعدها أكشفلك عن سر‪.‬‬ ‫تجولا في المزرعة إلى أن بدأ القطف‪ ،‬وتساقطت حبات الر ّمان‬ ‫وامتلأت الأرض بالبرتقال وانهمك الاثنان في البحث عن الحبات‬ ‫الطرية الناضجة‪ ،‬وعثر عاهد على عش‪:‬‬ ‫تعال بسرعة‪ ،‬شوف فرخ العصافير‪ ،‬هذا السر؟‬ ‫قال تيسير‪:‬‬ ‫أي سر؟ فكرتك بريء مثلي ولكن ليس بهذا الكم من البراءة‪ ،‬هذا‬ ‫سر من أسرار الطبيعة‪.‬‬ ‫سأل عاهد‪ :‬هل تفهم لغة الطبيعة؟‬ ‫مرة آه ومرة لا‪ ،‬بفهم ترويض الإنسان للحيوانات وهذا يحتاج إلى‬ ‫خبرة عملية ومعرفة مثل تعليم داوود وسليمان منطق الطير‪ ،‬والمنطق‬ ‫لغة استدلال وعلم‪.‬‬ ‫ومضى يقول‪:‬‬ ‫‪65‬‬

‫طبعاً الحيوانات لا تستطيع أن تر ّوض الإنسان ولكنها تألف عليه‬ ‫بقلبها‪ ،‬لا تلعب في العش وانزل عن الشجرة‪.‬‬ ‫نزل عاهد وهو يقتنص حبة برتقال لمعت في عينيه‪:‬‬ ‫روح أقطفها‪ ،‬قال له وذهب هو الآخر لقطف المزيد‪ ،‬حتى جمعا‬ ‫نحو خمسة عشر حبة‪.‬‬ ‫ارتكز عاهد على شجرة يلعب بالحبات ويسأل‪:‬‬ ‫طيب شو السر‪ ،‬ممكن أعرف؟‬ ‫جلس تيسير وطلب منه الجلوس بمحاذاته وصار يتفحص البرتقال‬ ‫في الكيس ثم استدار‪ ،‬وأخرج خمسة قنابل أنيرجا وهو يقول‪:‬‬ ‫عليك أن تعاهدني بحبات البرتقال أن يبقى هذا السر بيننا‪.‬‬ ‫ارتبك عاهد ورجع إلى الخلف حتى قام وسأله‪:‬‬ ‫جئنا إلى الأرض نأكل برتقال أو نلعب بالقنابل؟‬ ‫قال تيسير‪:‬‬ ‫لا أكل ولا لعب‪ ،‬شوف حجم البرتقالة أكبر من القنبلة‪ ،‬وحتى‬ ‫وزنها أثقل‪ ،‬وإذا رجحت كفة البرتقال‪ ،‬نأكل البرتقال ونرمي القنابل‪.‬‬ ‫سأل عاهد‪ :‬نرميها في أي مكان؟‬ ‫نرميها في بطنك وشوف فرق الطعم‪.‬‬ ‫شعر عاهد بالتهديد فأخذ الأغراض لمغادرة المزرعة‪ ،‬ولكن تيسير‬ ‫رفع صوته غاضباً‪:‬‬ ‫هذا الخوف لأنك جبان‪ ،‬إلا لو كنت على حق‪ ،‬بتحس إنك على حق‬ ‫في المزرعة؟ قلت لك المزرعة إلنا‪ ،‬ولا إنت حرامي؟‬ ‫‪66‬‬

‫التزم عاهد الصمت‬ ‫سألتك‪ ،‬إنت على حق في الأرض؟‬ ‫ظل يبحلق في القنابل حتى كز تيسير على أسنانه‪:‬‬ ‫أنا شايف إنه التاريخ لازم يتضمن فصل بعنوان “دور الشياطين‬ ‫الصامتة في الإطاحة بالحق” وإنت الشيطان الأعظم‪.‬‬ ‫شعر عاهد باستفزاز تيسير وانقلاب مزاجه فقال‪:‬‬ ‫إذا كان الأمر سيتسبب بقطيعة معك‪ ،‬فليس لدي مانع‪ ،‬ويذهب كل‬ ‫واحد منا في طريقه‪.‬‬ ‫قال تيسير‪:‬‬ ‫طريقنا واحد إنت بتعرفه‪ ،‬وكل الناس ترتكب أخطاء بسبب قلة‬ ‫الخبرة أو الإصابة بمرض أو انعدام الأمان‪ ،‬فأي سبب تختار حتى ما‬ ‫تكبر المشكلة؟‬ ‫لم يجيب عاهد ولكنه هدأ قليلاً‪ ،‬ثم جلس على الأرض وبدأ يلملم‬ ‫وجهه يميناً ويساراً مع حسرة جابت حركة رأسه‪ ،‬فقال تيسير‪:‬‬ ‫لأنك جلست مثل الخنفس‪ ،‬انتهى الموضوع وهذا العهد لصداقتنا‪،‬‬ ‫ثم أمسك حبة برتقال وقشرها وأعطاه نصف الحبة فأكلا‪ ،‬ثم تناول‬ ‫حبة ثانية وهكذا ظل يقشر حبة تلو الأخرى وتطاير رذاذ السبيرتو في‬ ‫المكان حتى أثخن البرتقال قلبهما فقال عاهد‪:‬‬ ‫فيك شيئ غريب‪ ،‬أي إنسان بيسامحك بسرعة لأنك شخص ذوق‪،‬‬ ‫والذوق أبو الأخلاق والجمال‪.‬‬ ‫‪67‬‬

‫شعر تيسير براحة بعد مجاملة عاهد وانسجامه في المزرعة‪ ،‬فقام‬ ‫وهو يتناول آخر شريحة برتقال في يده‪ ،‬وأمسك قنبلة وذهب نحو‬ ‫شجرة بعيدة وربطها في الشجرة فقام عاهد يتأهب للهرب‪:‬‬ ‫انتظر‪ ،‬قلت لك من أول م ّرة لا تغادر‪ ..‬انتظر‪..‬‬ ‫وضع تيسير حبلاً في صاعق القنبلة وم ّده نحو عشرة أمتار‪ ،‬وطلب‬ ‫من عاهد الاختباء خلف جذع شجرة ومراقبة الانفجار‪.‬‬ ‫واحد‪ ..‬اثنان‪ ..‬ثلاثة‪ ..‬شد الحبل لكن القنبلة لم تنفجر‪.‬‬ ‫انتظرا دقيقة‪ ،‬ثم توجه تيسير نحو القنبلة فأمسكها وضربها في‬ ‫الأرض وتناول قنبلة ثانية وعاد يكرر نفس العملية‪ ،‬سحب صاعقها‪،‬‬ ‫فتصاعد الدخان من جذع الشجرة دون أن تنفجر‪ ،‬واستمر الأمر عدة‬ ‫دقائق ظل خلالها تيسير وعاهد يراقبان الدخان حتى انطفأ‪ ،‬ثم رجع‬ ‫تيسير يتفقد القنبلة‪ ،‬أمسكها بسخونتها وقذفها بعيداً وعاد إلى حبات‬ ‫البرتقال وما تبقى من قنابل على الأرض‪.‬‬ ‫جلس وأمسك قنبلة وسكينة فسأله عاهد‪ :‬ماذا تفعل؟‬ ‫تيسير‪ :‬سأقشر القنبلة وأعطيك تأكل ما فيها‪ ،‬فقام يجري‪:‬‬ ‫أتركك تموت وحدك‪..‬‬ ‫رمى تيسير القنبلة وطلب منه الرجوع‪:‬‬ ‫تعال‪ ،‬موتك أو موتي كله واحد‪ ،‬لم يفلح الموت في أول قنبلتين‪،‬‬ ‫ثم أمسك باقي القنابل ورماها فوق الشجر وتملكته نبرة أسى‪:‬‬ ‫خلص‪ ،‬كل شيء في راسي انطفئ‪.‬‬ ‫قال عاهد‪ :‬يا ريت تتذكر أمثالك عن التفاؤل والحق‪ ،‬خرمت راسي‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫‪68‬‬

‫بدا تيسير كالمهزوم‪:‬‬ ‫لم يعد هناك أمثال سوى المثل الذي رأيته أمامك‪ ،‬مثل الخيانة‪.‬‬ ‫حتى الشجر حس فيها‪ ،‬كأن الخيانات لها تج ُّمع ومركز‪ ،‬ثم أمسك‬ ‫بالسكينة التي كانت في يده وص ّوبها نحو جذع شجرة ورماها‪ ،‬فطارت‬ ‫وغرزت في الجذع‪.‬‬ ‫قال عاهد‪:‬‬ ‫سببت الألم للشجرة‪ ،‬هذه خيانة للعصافير الباحثة عن ملاذ آمن‬ ‫تبني أعشاشها‪ ،‬هذا الجرح أذيه حقيقية‪.‬‬ ‫رمقه تيسير بنظرة ضجرة‪:‬‬ ‫لكل فعل رد فعل‪.‬‬ ‫عاهد‪ :‬وما هو فعل الطبيعة الذي أصابك حتى تجرح الجذع؟‬ ‫تيسير‪ :‬إصابتها وجرحها أفضل من اقتلاعها‪ ،‬وأحياناً الجرح تمهيد‬ ‫للوجع قبل قتلها بالجرافات الإسرائيلية‪.‬‬ ‫قام تيسير ولحقه عاهد يجمعان حبات الرمان والبرتقال للمغادرة‬ ‫على صوت الطيران الذي ملأ السماء‪ ،‬فابتسم عاهد لشعوره أنه ينجو‪،‬‬ ‫بينما أمسك تيسير الحبات وضمها إلى صدره ومشى يقول لعاهد‪:‬‬ ‫أحب هذه الفاكهة‪ ،‬اشتهرت بها يافا وغزة‪ ،‬هذه الأشجار ذاكرتنا‬ ‫يا عاهد‪ ،‬تختلط بوجودنا على الأرض‪ ،‬وما أن أنهى تيسير جملته‬ ‫حتى قصفتهما طائرات الاحتلال بصاروخ‪ ،‬سقط بجوارهما ولكنه لم‬ ‫ينفجر‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫ذاكرة مليئة بالملح‬ ‫كان وجه الصباح يتنفس ببطء شديد‪ ،‬أجلس على قطعة قماش بين‬ ‫سريرين في المستشفى وألملم لذة النعاس بينما ج ّدي عيسى يتأوه‬ ‫وينوح‪ ،‬بين دقيقة وأخرى ينطق كلمات لم أفهمها ولكني أذكرها جيداً‪،‬‬ ‫ثم قال كلمة بصوت مرتفع‪ ،‬وقفت وح ّدقت في عظامه البارزة‪ ،‬وفي‬ ‫عينيه‪ ،‬لعلي أسمع الكلمة م ّرة أخرى‪.‬‬ ‫كان توتري يحتكم إلى ما تقوله عيناه‪ ،‬المرض كان يأسر كل‬ ‫التجاعيد في وجهه‪ ،‬أما الوجع كأنه مسامير تتساقط عليه‪.‬‬ ‫الغرفة فارغة تماماً والموت بات يسيطر على السكون ويلتف‬ ‫حولي للانقضاض على ج ّدي‪.‬‬ ‫في لحظة ما تسلل بعض الهدوء إل ّي فتذكرت كل الماضي عنه‪،‬‬ ‫أحدهم لقبّه ببنك الدم لعافيته وصبره الذي أراه ينازعه اللحظة‪ ،‬كان‬ ‫يشعر أنه قوي بما يكفي حتى يداعب إنسانيته على سرير المرض‪.‬‬ ‫أكثر من عشرين عاماً عشتها على مقربة من ج ّدي‪ ،‬خزنت‬ ‫تفاصيلها‪ ،‬ولكنها تغزو ذاكرتي الآن‪ ،‬تنهال قصصه وصوت مواويله‬ ‫على عقلي‪ ،‬كان يعرف أني قليل الأمل وكثير الحب‪ ،‬فيحدثني عن‬ ‫بهجة الأرض ثم يقول‪:‬‬ ‫لا توقف خيالك على حدود ‪.1967‬‬ ‫تح ّمست وسألته ذات مرة‪:‬‬ ‫كيف تزوجت من جدتي قبل التهجير من فلسطين؟‬ ‫‪70‬‬

‫لم يجبني رغم أن ذكريات حلوة لمستها وهي تمر على محياه‪ ،‬لكنه‬ ‫قال بعد صمت‪:‬‬ ‫كانت السبب في بقائي على قيد الحياة‪ ،‬لقد طلبت مني الهرب من‬ ‫القتل عام ‪ 1948‬حفاظاً على حياتي‪.‬‬ ‫لا يخفي ج ّدي غضبه كلما تذكر تلك اللحظة‪ ..‬في أحد المرات‬ ‫كنت أسرد قصة هروبه ومساعدة ج ّدتي له‪ ،‬فضربني بعكازه ولاحقني‬ ‫حتى طردني من البيت وهو يقول‪ :‬اطلع يا منكوب‪ ،‬خليتها إلك‬ ‫تحررها‪ ،‬اطلع يا منكوب‪ ..‬نكبة في عينك!‬ ‫أدرت رأسي وقد حل الموت فعلاً في غرفة المستشفى‪ ،‬شعرت به‬ ‫فأغمضت عيني وقد اجتمع داخلي خوف وحزن شديدين‪ ،‬سمعت‬ ‫صوت أنين جرح قلبي وشقق رأسي‪ ،‬أدرت وجهي‪ ،‬فكانت حبة ماء‬ ‫كبيرة داخل عين جدي‪ ،‬وقد ارتسم فيها ما يشبه قطعة أرض زراعية‬ ‫ورجل يل ّوح بفأس قديم ويضع يداً أخرى على ظهره‪.‬‬ ‫لفظ ج ّدي أنفاسه الأخيرة وسقطت آخر دمعة‪..‬‬ ‫لم أفعل شيئاً‪ ،‬ولم يكن أي شيء مخيف‪ ،‬فقط شعرت بالوحدة‪،‬‬ ‫وغادرت المكان وفي داخلي مخزون طافح بالدموع أخافه كلما كبرت‪،‬‬ ‫أخشى أن يتملكني القهر فأصبح به قاهراً‪ ،‬لذلك أمسك نفسي وأهرب‬ ‫بها يومياً‪ ،‬حتى أني هاجرت من البلاد‪ ،‬لكن اللجوء ظل يطارني حتى‬ ‫صار ثقيلاً جداً‪ ،‬صار اللجوء مرتين‪ ،‬حين أحس بمرارته ومعنى‬ ‫قسوته وهو يقطع كظل السيف في نفسي‪ ،‬أذهب سريعاً إلى مزرعة‬ ‫محاذية لنهر التيمز‪ ،‬أحاول الهدوء‪ ،‬ولكن تزاحمني التفاصيل وتلح‬ ‫عل ّي الذكريات‪ ،‬أنظر في الماء فتتراءى لي دمعة ج ّدي عيسى‪ ،‬وأحدق‬ ‫في الأرض فأتذكر وعد بلفور‪ ،‬وأشعر كأن الملح في عيناي‪ ،‬أتنهد‬ ‫قليلاً ثم ابتسم كلما تذكرت قصص هذا الرجل‪ ،‬ولكني أشعر بالغرابة‬ ‫‪71‬‬

‫وارتباك المكان وتخالجني مشاعر متضاربة‪ ،‬فأعترف بيني وبين‬ ‫نفسي أن الذاكرة لا تشفى أبداً‪.‬‬ ‫‪72‬‬

‫بقية الحلم‬ ‫القطار يشق الريف الأوروبي‪ ،‬متنقلاً بين مدينة موناكو وليون‪،‬‬ ‫والتعب يحصد في وجه حنين ويتكوم في ذاكرتها وينهال الشوق من‬ ‫عينيها كأنه شلال ماء يجري فوق صخر ويتجرح‪.‬‬ ‫مد إياد يده نحوها وأمسك بكف يدها وصار يلاعب بأطراف‬ ‫أصابعها‪ ،‬فتنبهت من غفوتها ولاعبته بعينيها‪.‬‬ ‫كانت الرقة تتلبد في نظراتها وهي تسأله‪:‬‬ ‫لماذا تركتني أنام؟‬ ‫ثم رفعت نبرتها قليلاً‪:‬‬ ‫ولماذا تمسك يدي والكل في حالة سكون‪ ،‬وأنت في حالة فوضى؟‬ ‫تراجع إياد بكل حرج وهو يسألها‪:‬‬ ‫هل لديك شعور أن هناك فوضى فعلاً؟ هكذا تصفي لحظة لطيفة؟‬ ‫نظرات سيمون في المقعد المقابل حالت دون تطور المشاحنة إلى‬ ‫خلاف على مرأى ومسمع الركاب‪ ،‬شعره الأصفر منثور على رأسه‬ ‫بعشوائية وذقنه أيضاً غير مشذبة‪ .‬أراد أن يقول لحنين بمكر‪ :‬إنه كان‬ ‫يدقق النظر في كل قطعة من جسدك خلال غفوتك‪ ،‬لكنه خشي أن‬ ‫تنقلب المشكلة ضده‪ ،‬فأمسك الصحيفة وأرخى أذنيه مع همساتهم‪.‬‬ ‫ارتفع منسوب الحيرة وصار المكان مكبوتاً بالحذر‪.‬‬ ‫‪73‬‬

‫حاولت حنين بنظراتها الخاطفة كسب ابتسامة من سيمون لبدء‬ ‫حديث ودي‪ ،‬لكنها خشيت أن يتحدث بالفرنسية أو الإيطالية فقررت‬ ‫الصمت وصرف النظر‪.‬‬ ‫دار في ذهن سيمون الكثير من الأفكار‪ ،‬فنظر إليهما كأنه يمر‬ ‫عليهما بعينيه مرور الكرام‪ ،‬وقال بينه وبين نفسه‪:‬‬ ‫كم من حياة حلوة بين هذا الثنائي‪ ،‬فاللذة حين تبلغ مداها تسبب‬ ‫هياجاً للعقل!‬ ‫وقتها كانت حنين تشير إلى إياد لمشاهدة بقرة في أحد الحقول على‬ ‫امتداد البصر‪.‬‬ ‫هبط بكامل جسده على حضنها ومد رقبته حتى لمست جبهته زجاج‬ ‫النافذة وهو يقول‪:‬‬ ‫حياة الفلاحين تشبه بعضها‪ ،‬فعلاً بقرة جميلة مليئة بالحليب‪.‬‬ ‫وضعت حنين إصبعها في أذنه‪ ،‬فاستند يضحك ويشعر بالدغدغة‪.‬‬ ‫تظاهر سيمون بأنه لا يفهم شيئاً‪ ،‬وكان إياد وحنين في حالة انسجام‬ ‫غير معهود‪ ،‬حتى قال إياد‪:‬‬ ‫يا ريت تصير حياتنا كلها بقر‪ ،‬فنزلت بكفها على فخدته‪ ،‬ورمى‬ ‫ضحكة سمعها كل من في القطار‪ ،‬وأمسك يدها وصار يداعبها وهو‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫الأيام الماضية أرهقتني‪ ،‬كرهت السفر رغم أن القطار مريح‬ ‫باستثناء هذا اللزج الذي أمامنا‪ ،‬أتمنى أن ينصرف ونحس براحتنا‪،‬‬ ‫الشوق يقتل في السفر يا حنين‪ ،‬يقتل بحرارة‪.‬‬ ‫‪74‬‬

‫بدا الزمن المتعب يغادر خلف الزوجين‪ ،‬الحرب والخوف‪،‬‬ ‫وتملكتهم الحنية فسألته‪:‬‬ ‫هل تعتقد أن الأولاد بخير؟‬ ‫لم يعجبه هذا التداخل الغريب‪ ،‬لكنه أجاب‪:‬‬ ‫أتمنى ألا يطول الغياب‪.‬‬ ‫الطريق إلى مدينة ليون طويل‪ ،‬حتى أن إياد صار يتململ‪ ،‬ثم أخرج‬ ‫من شنطته حبة تفاح‪ ،‬جاء بعدها أحد موظفي شركة القطار وطلب‬ ‫منهم رؤية تذاكر السفر‪.‬‬ ‫ق ّدما له تذكرتين‪ ،‬فختم عليهما‪ ،‬وأكمل طريقه‪.‬‬ ‫شعر الزوجان ببعض الراحة وتأكدا أن وصولهما إلى ليون حتمي‪.‬‬ ‫أكل إياد تفاحته وداهم الخمول جسده‪ ،‬لكن حنين ظلت يقظه ترافقها‬ ‫البراءة‪ ،‬وبعد دقائق‪ ،‬غط إياد في النوم وصارت عيون سيمون تمر‬ ‫على وجه حنين كلما تنقل ببصره بين الصحيفة والنافذة‪ ،‬وتكرر الأمر‬ ‫أكثر من م ّرة‪ ،‬ثم قام من مقعده بهدوء‪ ،‬واتجه إلى منتصف القطار‪،‬‬ ‫وأحضر ثلاثة أكواب قهوة‪ ،‬قدم واحدة لها‪ ،‬فاستغربت ولكنها ابتسمت‬ ‫وقالت‪ :‬شكراً‪ ،‬ثم وضع الكوب الثاني أمام إياد الذي اتصل شخيره‬ ‫بصوت القطار‪ ،‬وأخذ كوبه وجلس يحل الكلمات المتقاطعة‪.‬‬ ‫استدرجت حنين انتباهه أكثر من مرة‪ ،‬وظلت ألوان الشفق تتسلل‬ ‫من النافذة وتلاعب كستناء عينيها‪.‬‬ ‫كان شخير إياد وحده يراقب المكان‪ ،‬ويرمي سيمون إعجابه نحو‬ ‫حنين‪ ،‬وهي تمد بصرها نحو الحقول المشبعة بتغاريد المساء‪ ،‬ثم يلتفت‬ ‫إلى الريف الذي بدا له راقصاً في موجاته وتلاعبه هي بنظراتها‪.‬‬ ‫‪75‬‬

‫لم يتحدثا‪ ،‬فشربت حنين قهوتها‪ ،‬ثم ألقت بالكوب الفارغ في السلة‬ ‫المخصصة تحت الطاولة‪ ،‬وكذلك فعل سيمون!‬ ‫على وقع الحركة‪ ،‬استيقظ إياد ومال بجسده يميناً ويساراً وهو‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫سأموت وأحيا وهذا المسمار ما يزال أمامي‪ ،‬ثم أمسك كوب القهوة‬ ‫وسأل‪ :‬لمن هذا؟‬ ‫قالت‪ :‬لك بعد وجبة النوم التي بدأت بدون سابق إنذار‪.‬‬ ‫قال ممتعضاً‪:‬‬ ‫لكن كيف اشتريت القهوة؟ هل قفزت من فوق الطاولة مثلاً؟‬ ‫خرج سيمون عن صمته وهو يضحك ويقول بالعربية‪:‬‬ ‫أنا اشتريتها‪ ،‬بالصحة والهنا!‬ ‫انقبض وجه إياد وتعثر في أفكاره ولكنه استدرك وقال‪:‬‬ ‫آه جميل بتتكلم عربي‪ ،‬وسأله‪ :‬فعلاً بتتكلم عربي؟‬ ‫قال سيمون وهو يمنع الاحراج ويلطف الأجواء‪:‬‬ ‫أنا أتكلم شوية شوية‪.‬‬ ‫تأهب إياد كما لو أنه يريد خوض معركة‪.‬‬ ‫رحبت به حنين وهي تحاول إدارة حوار معه‪ ،‬فسألهم‪:‬‬ ‫مسافرون إلى أي مدينة؟‬ ‫أخرج إياد ورقة من جيبه وطلب منه‪:‬‬ ‫يا ريت تدلنا على هذا العنوان‪.‬‬ ‫‪76‬‬

‫أخذ الورقة ولم يقرأها بشكل جيد وقال‪:‬‬ ‫لا أعرف المكان‪.‬‬ ‫قدم إياد وجهه هامساً‪:‬‬ ‫نحن مهاجران بطريقة غير شرعية حتى وإن بدا عكس ذلك‪ ،‬حنين‬ ‫مهندسة تبتسم على الدوام كما ترى‪.‬‬ ‫قالت حنين‪ :‬وإياد طبيب‪ ،‬لا يخدعك شكله‪.‬‬ ‫صار سيمون قلقاً لكنه تظاهر بالألفة حتى شارف القطار على‬ ‫الوصول إلى المحطة الأخيرة‪.‬‬ ‫سحبوا شنطهم وع ّمت الفوضى في المكان وتزاحموا حتى وقف‬ ‫القطار وخرجوا ثلاثتهم‪.‬‬ ‫كانت شوارع ليون فارغة عند وصولهم في المساء‪ ،‬واختلطت‬ ‫فرحتهما بأسئلة المبيت‪ ،‬فهما لا يعرفان أحداً في المدينة‪ ،‬وخشيت‬ ‫حنين أن يصير الأسفلت سريرهما‪ ،‬لكن سيمون كسر حدة التوتر وهو‬ ‫يرفع يده ويقول‪:‬‬ ‫هذه ليون الجميلة‪ ،‬والطقس مزاجه جيد‪..‬‬ ‫قاطعه إياد‪:‬‬ ‫كيف يمكن إجراء اتصال بعائلتي؟‬ ‫قال سيمون‪ :‬لا أعرف‪ ،‬ولكن تعال معي إلى الفندق‪ ،‬على بعد‬ ‫خطوات من مركز المدينة ويمكن أن تتصل من هناك‪.‬‬ ‫كان المساء يغلق أبوابه على يوم حار‪ ،‬واكتظ باب الفندق بالسياح‪،‬‬ ‫وراح سيمون يرتب إجراءات الدخول‪ ،‬بينما جلس إياد وحنين في‬ ‫قاعة الانتظار‪.‬‬ ‫‪77‬‬

‫دخلت موظفة الاستقبال برشاقة‪ ،‬تحمل غمازتين على خديها‪،‬‬ ‫وشامة بارزة على رقبتها‪.‬‬ ‫وقف إياد‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫تفضل الهاتف بتعليمات من سيمون‪.‬‬ ‫فتح إياد شنطته وأخرج أرقام الهواتف‪ ،‬وصار يتصل ويتصل‪..‬‬ ‫تحدث إياد وحنين مع الأولاد والأقارب وبعض الأصدقاء‪ ،‬حتى‬ ‫أغلقت المكالمات على حالة من الأسى وع ّم الصمت‪ ،‬لكن الجيتار كان‬ ‫يصدح في المكان‪.‬‬ ‫جاء سيمون يستأذن‪ ،‬وصعد يضع شنطته في الغرفة‪ ،‬ويتأهب‬ ‫لقضاء أول ليلة في المدينة‪.‬‬ ‫كانت فرصة إياد الذي مد ذراعه نحو حنين وشدها إليه على أنغام‬ ‫الجيتار وغرقا في لهفة‪ ،‬حتى باغتهما عجوز ثقيل الظل‪ ،‬يسأل‪:‬‬ ‫لو سمحت معك ولاعة؟‬ ‫قال إياد‪ :‬لا‬ ‫ظل العجوز واقفاً بسؤال آخر‪:‬‬ ‫ممكن تطلب من أحد المدخنين على الطاولة؟‬ ‫قال إياد بانزعاج‪:‬‬ ‫لا يوجد أحد على الطاولة‪ ،‬ألا ترى!‬ ‫غادر بخجل‪ ،‬فقالت حنين‪:‬‬ ‫العجوز كفيف يا إياد!‬ ‫عاد سيمون‪ ،‬وقام إياد يسأله‪:‬‬ ‫‪78‬‬

‫هل تأذن دخول الغرفة حتى نغسل وجوهنا ونغير ثيابنا العفنة؟‬ ‫بلا شك ولكن اسمح لي بطلب الإذن من إدارة الفندق‪.‬‬ ‫استأذن ودعاهم إلى الغرفة‪ ،‬وعاد إلى قاعة الانتظار يستمع‬ ‫للموسيقى ويتأمل الورود في الزوايا‪ ،‬حتى أرخى التعب على جسده‪،‬‬ ‫وبدأ يستعيد تفاصيل الرحلة‪ ،‬وشرد ذهنه إلى أكواب القهوة‪ ،‬ولحظات‬ ‫نوم إياد‪ ،‬والحقول التي لاعبت النوافذ‪.‬‬ ‫قاطعته نادلة الفندق‪:‬‬ ‫هل تحب أن تشرب شيئاً هذا المساء؟‬ ‫قال‪ :‬نعم قهوة أولاً‪ ،‬ثم أرجو تجهيز ثلاث وجبات‪.‬‬ ‫انصرفت وعاد سيمون إلى تيه مشاعره‪ ،‬يفكر فيما ستحمله ذاكرته‬ ‫من لحظات أمضاها مع هذين المهاجرين‪.‬‬ ‫بعد حوالي عشر دقائق‪ ،‬دخل إياد وحنين إلى قاعة الانتظار فوجدا‬ ‫الطعام على الطاولة وباقة ورد‪ ،‬سحب منها سيمون وردتين وأهداها‬ ‫لهما‪.‬‬ ‫شكراً يا سيمون شكراً‪ ،‬ثم جلسا للعشاء وهما يحاولان إخفاء أي‬ ‫تفكير في اللجوء‪.‬‬ ‫صارت الساعة التاسعة ليلاً‪ ،‬دون أن يقررا خطوتهما التالية‪.‬‬ ‫جلست حنين وداهمت صورة المبيت ذهن إياد‪ ،‬وتسلل إليه‬ ‫الغضب‪ ،‬فاستدار إليها وسألها‪:‬‬ ‫ماذا نفعل هنا؟ ولماذا لبسنا وتعطرنا ونحن لسنا بخير كما نبدو!‬ ‫أنت تعرفي لماذا لبست قميص خالد؟‬ ‫قالت حنين‪:‬‬ ‫‪79‬‬

‫الوقت غير مناسب للحديث عن خالد‪ ،‬سوف نتذكره حين نجد مبيتاً‬ ‫الليلة‪.‬‬ ‫نزلت كلماتها كالملح على الجرح‪ ،‬فقال إياد‪:‬‬ ‫سأحتفظ به مدى الحياة‪ ،‬قتلوه بدم بارد يا حنين‪.‬‬ ‫ومضى يقول‪ :‬كنّا نتجلى على البلح والرطب‪ ،‬كان يقول لي‪:‬‬ ‫كول واشبع يا ورد‪ ،‬هذا الرطب سقط على مريم البتول‪ ،‬حتى‬ ‫تعرف ماذا تأكل!‬ ‫لم يفهم سيمون شيئاً رغم إنصاته‪ ،‬وصار مكياج حنين لوحة على‬ ‫خدها‪ ،‬بكت فاستعجل إياد وخرجوا من الفندق‪.‬‬ ‫أسرعت حنين في المشي وهي تسأل إياد وسط المدينة‪:‬‬ ‫ها قد وصلنا‪ ،‬ماذا سنفعل؟‬ ‫استدار إياد نحو سيمون وسأله‪ :‬ماذا سنفعل؟‬ ‫تنبه سيمون إلى عجزه ولم يقل شيئاً‪.‬‬ ‫وقف الثلاثة في حيرة‪ ،‬ثم اقترح سيمون‪:‬‬ ‫الحديث مع أفراد الأمن هو أفضل حل‪.‬‬ ‫قال إياد‪:‬‬ ‫مستحيل بهذه الأناقة‪.‬‬ ‫قاطعته حنين‪ :‬يجب أن نترك سيمون يكمل سهرته ونتصرف‪.‬‬ ‫هز إياد رأسه‪ ،‬فتصافحوا وغادر سيمون‪.‬‬ ‫‪80‬‬

‫مشى بضع خطوات والتفت خلفه‪ ،‬فكانت ابتسامة حنين تشق ظلام‬ ‫السماء‪.‬‬ ‫أرخى الهدوء بثقله على المكان‪ ،‬وبدا المشهد جنائزياً بعض الشيء‬ ‫حتى تلاشي سيمون عن الأنظار‪.‬‬ ‫قال إياد‪:‬‬ ‫انتظري هنا‪ ،‬سأذهب لشراء زجاجة ماء‪.‬‬ ‫مشت حنين تعاين المحلات التجارية القريبة من النهر‪ ،‬وتبحث عن‬ ‫أثر سيمون فيها‪.‬‬ ‫عاد إياد بعد دقائق ولم يجد حنين‪ ،‬اختفت من المكان!‬ ‫صفن إياد لحظة وتفقد الما ّرة حوله ولم يجدها‪ ،‬ثم رمى ببصره في‬ ‫الزوايا البعيدة ولكن دون جدوى‪.‬‬ ‫ألقى زجاجة الماء وصار يلف في كل الاتجاهات‪ ،‬يدور على اليمين‬ ‫ثم يعود للشمال وهكذا حتى داخ!‬ ‫في تلك اللحظات كانت حنين تراقب شاباً يشبه سيمون يحتسي‬ ‫القهوة داخل أحد المحلات‪ ،‬فاحتبست كلامها واختنقت بعدما أصابها‬ ‫ألم بدأ يتلوى في رأسها‪ ،‬وفي لحظة سريعة التقى الوجع مع ضميرها‬ ‫الذي انفجر حين أدارت وجهها إلى إياد‪ ،‬فاستيقظت عن سريرها في‬ ‫قطاع غزة وهي تسأل‪:‬‬ ‫شو بقية الحلم؟‬ ‫قال‪ :‬نمت نوماً عميقاً بدون أحلام‪ ..‬قومي نشرب قهوة‪.‬‬ ‫‪81‬‬

‫أبو الحساسين‬ ‫على مقربة من جدار أسمنتي طوله حوالي تسعة أمتار يجلس حاتم‪،‬‬ ‫معه علبة فيها معدات لصيد العصافير‪ .‬جاء إلى المكان دون اكتراث‬ ‫بأبراج المراقبة المدججة بالسلاح على طول الجدار‪.‬‬ ‫كان يومه بريئاً وه ّمه أن يصيد بعض العصافير‪.‬‬ ‫استيقظ بحس مرهف يتلبد بين غرفة وأخرى ثم وضع خطته‪.‬‬ ‫كانت علاقته مع العصافير جدية لا تليق بطفل‪ ،‬يظل بجوارها‬ ‫لساعات دون ملل‪ ،‬بينما تشعر العصافير بالاختناق‪.‬‬ ‫تعود هذه العلاقة إلى نحو سنة مضت‪ ،‬شاهد حاتم وقتها أحد‬ ‫المشاهير يعزف على آلة البيانو‪ ،‬استمر التصفيق بعد انتهاء العزف‬ ‫وكان حاتم بجوار أبيه يطلب منه‪ :‬بدي بيانو!‬ ‫خرج كأنه لم يسمعه‪.‬‬ ‫شعر حاتم بشيء من الانكسار وانتهت حماسته إلى ذبول‪ ،‬فصار‬ ‫يذهب إلى حديقة خلف البيت‪ ،‬ضجراً من قائمة الرفض التي يواجهها‬ ‫في البيت‪.‬‬ ‫بعد نحو خمس زيارات للحديقة‪ ،‬صار يتتبع العصافير‪ ،‬ويدقق في‬ ‫واحد من بين الأصوات التي تقافزت فوق الشجر‪ ،‬صوت الحسون‪،‬‬ ‫كان مختلفاً والتصق في ذهنه وصار يقلده ويفكر في كيفية اصطياده‬ ‫وتربيته وإطعامه‪.‬‬ ‫‪82‬‬

‫في ذاك اليوم‪ ،‬جاء ندى الصباح بغزارة‪ ،‬بلل أكمام حاتم وشعره‬ ‫الأجعد وهو يحمل معدات الصيد ويقاوم قطرات الماء أمام الجدار‪ ،‬لا‬ ‫يبالي بالندى الذي ينسدل على وجهه‪.‬‬ ‫تق ّدم نحو مكان عاينه من بعيد‪ ،‬ويراقبه مصور من ذوي‬ ‫الاحتياجات الخاصة‪ ،‬أصيب برصاصة إسرائيلية‪ ،‬فاختار أن يلاحق‬ ‫أنواع العصافير من كرسيه المتحرك‪ ،‬لتوثيقها في كتاب‪ ،‬يزور المكان‬ ‫الذي أصيب فيه بشكل دوري ويتصيد العصافير بكاميرته‪.‬‬ ‫كان حاتم يصنع حياة أخرى في ذهن المصور‪ ،‬فقد استغرق نحو‬ ‫ساعة ملهياً مع الدود في صنارته وسوء حظه مع العصافير‬ ‫المتربصة‪ ،‬ويب ّدل المصور عدسة تلو الأخرى وهو يرسم قصة حاتم‬ ‫بضربات الصور‪.‬‬ ‫اصطاد حاتم ثلاثة عصافير خلال ساعتين وبدا عليه التعب‪ ،‬فقرر‬ ‫المغادرة وحمل أغراضه وهو يتفقد العصافير على أن يعود في اليوم‬ ‫التالي‪.‬‬ ‫يواجه حاتم مشكلة في إطعام العصافير‪ ،‬لعدم توفر أي مصروف‬ ‫يومي‪.‬‬ ‫يستلف من عمته لشراء الخبز وإطعامها‪ ،‬وأحيانا يجمع بقايا الطعام‬ ‫بمساعدة بعض الجيران والأصدقاء‪ ،‬وتواجهه مشكلة أهم‪ ،‬وهي قفص‬ ‫العصافير وثمنه الغالي‪ ،‬لكن فكرة خطرت له وأراد تنفيذها‪.‬‬ ‫كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل‪ ،‬تسلل إلى أحد الغرف‬ ‫وسرق سلة المهملات المشبّكة وصعد إلى سطح المنزل وأخفاها ثم‬ ‫ذهب للنوم‪.‬‬ ‫‪83‬‬

‫في الصباح توجه كل من في البيت إلى عمله‪ ،‬فأخرج السلة‪ ،‬ثم‬ ‫أحضر أربعة أكياس خشنة وألصقها فوق بعضها البعض وأغلق بها‬ ‫الفتحة العلوية للسلة‪ ،‬وأمسك السكينة وقص أحد جوانب السلة وفتح‬ ‫باباً فيها‪ ،‬جعله أكبر من ذاك الذي رسمه في خياله عندما زار عمه‬ ‫صفوت في السجن‪ ،‬ثم ربط الباب بسلك كهربائي‪ ،‬يفتحه ويلاحق‬ ‫العصافير في القصف كلما أراد اللعب معها‪.‬‬ ‫كان يضع القفص في غرفته ويفتح الباب ويفرج عنها وقت‬ ‫العصر‪ ،‬ويظل يطاردها داخل الغرفة حتى يصاب بالتعب‪ ،‬فيتوجه‬ ‫إلى المطبخ لالتهام ما تبقى من طعام الظهيرة ويفتت لها الخبز‪.‬‬ ‫في أحد الأيام‪ ،‬ترصدته أمه‪ ،‬ورأته متورد الخدين واشتمت رائحة‬ ‫عرقه‪ ،‬فأمسكت به‪ ،‬لكنها لم تفلح في معرفة ما يفعله بالضبط‪ ،‬قال‬ ‫لها‪:‬‬ ‫خرجت للتو من حمام ساخن وتع ّرقت بسببه!‬ ‫رفعت أمه حصة من الطعام لأخيه الأكبر‪ ،‬وراقبها حاتم فتسلل‬ ‫كالعادة لالتهام فطيرتين وقطعة دجاج‪ ،‬ش ّمر عن ساعديه وبدأ يختلس‬ ‫الشرب من صحن اللبن‪ ،‬فهاجمته وألقت القبض عليه‪ ،‬وبدأت‬ ‫باستجوابه‪:‬‬ ‫أين كنت؟ فيك رائحة الطيور العفنة يا معفن؟‬ ‫ظلت تهزه وهو يبحث عن حيلة سريعة‪ ،‬لكنها أص ّرت عليه‪ ،‬وبعد‬ ‫مراوغة وعدة محاولات للهرب اعترف على العصافير‪.‬‬ ‫قالت‪ :‬يلا اطلع معي على السطح‪ ،‬في أي زاوية تخبئ العصافير؟‬ ‫وصل إلى زاويته التي يخبئ فيها كل شيء وهو ينظر بشيء من‬ ‫الغُلب‪.‬‬ ‫‪84‬‬

‫أثار منظر سلة المهملات أعصاب أمه‪ ،‬وبدأت تتلقف كلاماً من‬ ‫الشرق وتقذفه في الغرب‪:‬‬ ‫يا ريتك تصير سلة وأرميك تتكرر وترجعلي علبة مكبوس آكلك‬ ‫بسناني‪.‬‬ ‫صار يجري على السطح وهي تطارده بكف يدها وتنهال عليه‬ ‫بالشتائم‪.‬‬ ‫كانت نوبات غضبها المفاجئة تح ّول حياة أبناءها إلى جحيم‪،‬‬ ‫فأص ّرت تسأله‪:‬‬ ‫من أين جئت بالعصافير؟ ومن أعانك على سرقة السلة؟‬ ‫ظل متبلداً‪ ،‬فأمطرته بمزيد من الأسئلة‪ ،‬حتى احتبس دمعه‬ ‫وانفجرت كلماته‪:‬‬ ‫بدي أطلق سراحها في الغرفة وألعب معها لما أشتاق لعمي صفوت‬ ‫في السجن!‬ ‫تركته أمه ونزلت مسرعة‪ ،‬دخلت الغرفة وأغلقت على نفسها‬ ‫الباب‪.‬‬ ‫بقي حاتم على السطح يلعب في قدميه الخشنتين من جراء الصيد‬ ‫ولعب البنانير‪ ،‬ويتفقد ضعفه وهو يحاور نفسه بصحبة الحساسين‬ ‫ويتذكر سهرات عمه صفوت وشاربه السميك‪ ،‬كان يطلب منه أن‬ ‫يمسك بشاربه ويفتله من الجانبين‪.‬‬ ‫دخل شقيقه محسن وسأله‪:‬‬ ‫لماذا تضحك وحدك؟‬ ‫انطفئ وجه حاتم وقال بصوت خافت‪:‬‬ ‫‪85‬‬

‫شوارب عمي صفوت‪.‬‬ ‫تركه محسن وذهب إلى انطوائيته المعهودة وهو يقول‪:‬‬ ‫كل الجيران صارت تعرف قصة السلة والحساسين‪.‬‬ ‫قام يستعيد نشاطه وخرج من البيت‪ ،‬فأحاطته الأسئلة على الباب‪:‬‬ ‫كيف حولت السلة إلى قفص؟ وكيف غطيت الفتحة؟‬ ‫وحده أبو سمير أخذته العاطفة تجاه حاتم‪ ،‬وكان يستشعر خفة ظله‬ ‫ويحبه‪ ،‬وقرر أن يساعده فناداه في الشارع‪:‬‬ ‫تعال اليوم لزيارتي في مصنعي حتى أصمم لك القفص‪.‬‬ ‫أي مصنع؟‬ ‫مصنع الحدادة في آخر الشارع‪.‬‬ ‫شكره حاتم وأكمل طريقه يلف على المحلات بحثاً عن فخ جديد‬ ‫للصيد‪.‬‬ ‫اشترى مجموعة خيطان للصيد‪ ،‬ثم جلس على ناصية الطريق‬ ‫يشرب البراد وعند حلول العصر‪ ،‬توجه إلى مصنع أبو سمير‪.‬‬ ‫دخل حاتم غير متفهم لفكرة القفص الحديدي‪ ،‬مشى نحو أبو سمير‬ ‫وبدأ يرمي بأسئلته من بعيد‪:‬‬ ‫كيف سيكون شكل قفصك؟ ممكن تصمم القفص مع شمسيّة؟‬ ‫كان صوت ماكينة القص حاداً‪ ،‬لكن أبو سمير هز رأسه واقترب‬ ‫حاتم يسأله‪:‬‬ ‫كم من الوقت تحتاج لتصميم القفص؟‬ ‫‪86‬‬

‫نظر إليه وظل منهمكاً في التحضير‪ ،‬يلبس نظاراته ضد لهب اللحام‬ ‫وسماعات عازلة للصوت‪.‬‬ ‫زاد ذهن حاتم انشغالاً بالفرق بين قفصي البلاستيك والحديد‬ ‫وملائمتها لأجساد العصافير‪ ،‬وانزعج من قسوة المكان ومنظر الحديد‬ ‫ووحشة الصدأ‪.‬‬ ‫لم تتجاوز أفكاره حدود القفص البلاستيكي‪ ،‬وتنافست براءته مع‬ ‫ضوضاء المكان حتى شعر أن رائحة الحديد وحدها قد تقتل العصافير‬ ‫وأن لونه البني القاتم ربما يصيب الحساسين بالعمى إذا ما دققت فيه‬ ‫النظر كل يوم بعيونها الملونة‪.‬‬ ‫مر الوقت بسرعة وهو يخطف هواجس حاتم‪ ،‬حتى انتهى إلى قرار‬ ‫بأن قفص البلاستيك الذي صنعه أفضل من القفص الحديد‪ ،‬لكنه تعايش‬ ‫مع ارتباك اللحظة بسبب وقوف أبو سمير إلى جانبه‪.‬‬ ‫مشى في المصنع وهو يلعب في قطع الحديد‪ ،‬وشعر بثقل الأفكار‬ ‫على رأسه الصغير‪ ،‬وصار يبحث عن منقذ من هذه الورطة حتى‬ ‫د ّوت صرخته في المكان وسقط حاتم على الأرض‪ ،‬فأسرع العمال‬ ‫إليه وقد انتبهوا إلى سقوط قطعة حديد على قدمه‪ ،‬كان يحركها على‬ ‫الرف وهو مستغرق في التفكير‪.‬‬ ‫جرى أبو سمير والعمال نحوه‪ ،‬هل أنت بخير؟‬ ‫آه بخير‪ ،‬وصار يبكي لما رأى أبو سمير لعجزه عن تبرير حاله‬ ‫شرود ذهنه ورفضه قفص الحديد‪.‬‬ ‫وضعوا له الثلج على المنطقة التي احتبس فيها الدم وقاموا‬ ‫بمساعدته على الوقوف‪ ،‬فهدأ قليلاً واطمئن الجميع بأن الإصابة‬ ‫‪87‬‬

‫طفيفة‪ ،‬بدون أي كسور‪ ،‬ثم تع ّكز على أحد العمال ومشى معه حتى‬ ‫أوصله إلى بيته‪.‬‬ ‫سبقه الخبر إلى عائلته فتج ّمع الجيران وامتلئ البيت بالأقارب‪،‬‬ ‫وظل الحال هكذا حتى اليوم التالي والمزيد من الزوار المعاتبين‬ ‫والناصحين ومن بينهم أبو سمير‪ ،‬دخل يقول‪ :‬هذه الهدية‪ ،‬قفص حديد‬ ‫مطلي باللون الأزرق لعيونك الحلوين‪.‬‬ ‫ابتسم حاتم واشتعلت حيرته‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫مثل لون باب السجن لما زرت عمي صفوت قبل سنة‪.‬‬ ‫في تلك الليلة لم ينم حاتم واختلطت في ذهنه الكثير من الصور‬ ‫وأصيب بالأرق‪ ،‬فقام من مرقده وحمل معه علبة الدواء بحجة الألم‪،‬‬ ‫وتسلل إلى المطبخ لتحصيل بعض الطعام للعصافير‪ ،‬ثم جهز أغراض‬ ‫الصيد وخبأها وعاد إلى فراشه‪.‬‬ ‫كالعادة‪ ،‬ذهب كل أفراد عائلته إلى أعمالهم في الصباح‪ ،‬وأطلت‬ ‫أمه كي تتفقده فتظاهر بالنوم‪ ،‬وفور خروجها‪ ،‬نهض يعرج على قدمه‪،‬‬ ‫فتح الباب متسللاً وهو يتفقد الشارع‪ ،‬وخرج للصيد بدون أي تفكير‬ ‫بأوجاعه‪.‬‬ ‫أخذ معه العصافير الثلاثة في القفص وتوجه إلى مكان الصيد‬ ‫المعهود بجوار الجدار‪ ،‬وعند وصوله كانت الشبّورة تملئ الجو‪ ،‬ولم‬ ‫يستطع رؤية أي شيء فقرر الاستراحة فوق تلة مجاورة حتى تف ّرق‬ ‫الشمس هذا البياض‪.‬‬ ‫صعد إلى التلّة وجلس يلاعب العصافير ويج ّهز فخ الصيد وبعد‬ ‫حوالي نصف ساعة هدأت الشبّورة‪ ،‬ومر عليه شاب يبيع الشاي‪ ،‬لكن‬ ‫حاتم ليس في جيبه فلساً واحداً كي يشتري الشاي ومع ذلك ناداه‪:‬‬ ‫‪88‬‬

‫تعال‪ ،‬معك كأس فارغ؟‬ ‫سأله بحرص‪ :‬فارغ لماذا؟‬ ‫قال حاتم‪ :‬لتعبئة ُطعوم العصافير‪.‬‬ ‫اعتذر له‪ :‬الكاسات حقها فلوس‪.‬‬ ‫ظل حاتم يبلع ريقه‪ ،‬حتى ذهب بائع الشاي دون مبالاة‪ ،‬وبعد دقائق‬ ‫عاد مرة أخرى يجرف على وجهه علامات الحيلة ويسأل‪:‬‬ ‫هل تبيع العصافير؟ كم سعرها؟‬ ‫أربك سؤاله تفكير حاتم‪ ،‬وتح ّول الشاي إلى صورة سم يهري في‬ ‫مذاقه‪ ،‬فقال‪ :‬عصافيري‪ ،‬ما بدي أبيع ولا أشتري‪.‬‬ ‫تغلّب على ريقه دون أن يبلّه بشفة شاي وترك البائع وأسرع‬ ‫الخطى نحو مكان الصيد لا يبالي بغير العصافير‪.‬‬ ‫ش ّمر عن ساعديه‪ ،‬وزرع الفخ بعد أن وضع فيه ال ُطعم‪ ،‬وم ّد الحبل‬ ‫على بعد نحو عشرين متراً وجلس يراقب‪.‬‬ ‫الشبّورة ما زالت تحتل المكان وتحاول التلاشي على بعد أمتار‬ ‫منه‪ ،‬وهو يستمع إلى تغريد الحساسين في المكان دون أن يرى إلا‬ ‫بعضها في المساحات التي تلاشت فيها الشبورة‪.‬‬ ‫استغرق حاتم الكثير من الوقت وهو يتنقل بين أغراضه وفخ‬ ‫العصافير بسبب قدمه المصابة‪ ،‬كما أن حركته البطيئة حالت دون‬ ‫الركض للإمساك بعصفور ع ِلق في الفخ ونجا بعد التقاط ال ُطعم بمهارة‬ ‫وف ّر في السماء‪ ،‬فرجع حاتم وحمل الفخ‪ ،‬ثم وضع ُطعماً جديداً‬ ‫لعصفور آخر‪ ،‬وعاد إلي حيث يجلس للمراقبة‪ ،‬وبينما هو عائد إلى‬ ‫مكانه‪ ،‬شاهد لوناً كثيفاً يصل إليه ويختلط مع الشبّورة‪ ،‬وبدأت‬ ‫‪89‬‬

‫العصافير تتلاطم داخل القفص‪ ،‬ولم يستطع الوصول إليها بسرعة‪،‬‬ ‫فصار يجري في كل الاتجاهات حتى اختفي في البياض‪.‬‬ ‫في صبيحة اليوم التالي‪ ،‬كان بائع الشاي يقف وحيداً محاطاً بالناس‪،‬‬ ‫بدون ب ّراد الشاي بعد أن رماه وهرب من الغاز السام الذي أطلقه جنود‬ ‫الاحتلال من أبراج المراقبة‪ ،‬لكنه حمل قفص العصافير الميّتة‬ ‫وصورة حاتم في الجريدة‪ُ ،‬كتب فوقها “مات أبو الحساسين في‬ ‫البياض”‪.‬‬ ‫‪90‬‬

‫الصبار الأحمر‬ ‫قبل أن يغلبه النعاس قام يجري على وقع ضربات الباب في‬ ‫منتصف الليل على غير العادة‪.‬‬ ‫فتح أبو هاني‪ :‬آه هذا أنت!‬ ‫كان صبري شاحب الوجه ومتكدر‪ ،‬سأله‪ :‬هل أنت بخير؟‬ ‫امتزج صوت صبري بسكون الليل وقال‪:‬‬ ‫يبدو لي أن الأنانية هي الحل ولكني أكرهها‪.‬‬ ‫استغرب أبو هاني‪:‬‬ ‫لم أفهم شيئ‪ ،‬تعال داخل البيت‪ ،‬قل لي عساك بخير!‬ ‫دخلا إلي الصالة وهبط صبري على الكنبة بكل ذبول‪:‬‬ ‫أنا متّهم بدون ذنب‪ ،‬وما فعلته في السنوات الماضية لم يثمر عن‬ ‫شيء وت ّم نسفه قبل ساعة وصرت أشعر بقلق بعد كل ما سمعته!‬ ‫وماذا سمعت؟‬ ‫طلب كوب ماء وته ّرب من الإجابة‪.‬‬ ‫قال أبو هاني‪ :‬تفضل‪ ،‬يبدو أن الموضوع يخنق تفكيرك ولكن مهما‬ ‫كنت منزعجاً‪ ،‬يجب أن تحيط علمك أن ما سمعته ربما يكون كلاماً‬ ‫فارغاً لأن أي أحد ممكن يتعرض للاتهام‪ ،‬وأنت إنسان حر‪ ،‬ويكفي‬ ‫هذا الشعور حتى تملك القوة‪.‬‬ ‫لم يشعر صبري بأي ارتفاع في المعنويات‪:‬‬ ‫‪91‬‬

‫الحرية شيء وما حدث لي قبل ساعة شيء آخر‪.‬‬ ‫قل لي ماذا حدث؟‬ ‫صبري‪ :‬كنت أسترق السمع إلى حوار بين مجموعة رجال في‬ ‫الحارة تكلّموا عنّي بشكل سيء‪ ،‬واستمر الحوار لوقت طويل تحت‬ ‫شباك غرفتي حتى شتمني أحدهم بأقذر الكلمات‪.‬‬ ‫قال أبو هاني في محاولة لطمأنته‪:‬‬ ‫عادي‪ ،‬الناس تتحدث عن بعض بحق ومن غير حق‪ ،‬والشتائم في‬ ‫كل شارع‪ ،‬ثم قام أبو هاني ورمى يده على كتف صبري‪:‬‬ ‫لا تغرق في القلق واحكي‪.‬‬ ‫قال صبري‪ :‬بصراحة‪ ،‬اتهموني بالجاسوسيّة!‬ ‫أوف‪ ،‬وما الدليل على ذلك؟‬ ‫قام بانزعاج‪ ،‬لكن أبو هاني أمسك به‪ :‬أرجو أن تهدأ‪ ،‬جئت تشكو‬ ‫همك وأنت على يقين أني سأقف معك حتى تثبت براءتك‪.‬‬ ‫كان دوي إطلاق النار أسرع‪ ،‬وسمعا صراخاً في الخارج‪ ،‬وتردد‬ ‫اسم جاسم الذي كان بحوزة مسلحين وسحبوه وهم يبحثون عن‬ ‫صبري‪.‬‬ ‫زج به أبو هاني في مكان آمن داخل البيت وأغلق عليه الباب‬ ‫وخرج إلى الشارع يسأل‪:‬‬ ‫شو القصة؟ فزعتونا في نص الليل‪.‬‬ ‫تعالت أصوات الناس الذين تج ّمعوا في المكان وبعد مشادات أطلق‬ ‫مسلحون النار على جاسم وغادروا‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫ع ّمت حالة الفوضى وعاد أبو هاني إلى البيت محملاً بالخوف‪،‬‬ ‫وسار نحو صبري‪ ،‬فتح عليه الباب‪:‬‬ ‫أنت بخير؟‬ ‫قال وهو في حالة ذبول‪:‬‬ ‫القهر له عزاء‪ ،‬وهذه القسوة جعلتني أشعر بالبرد على عكس ما‬ ‫كان في داخلي من حب للناس‪ ،‬فالظلم يا أبو هاني يجرحني تماماً كما‬ ‫يجرح الشوك ألواح الصبار‪ ،‬ولو سمعت التفاصيل لعرفت الحقيقة‪.‬‬ ‫جلس أبو هاني بجانبه على الأرض وهو يقول‪:‬‬ ‫الوضع صعب في الخارج‪ ،‬ولكن أنت تعرف أني أحب الصبّار‬ ‫الأحمر وخاصة إذا وضعته في الثلاجة وأكلته بارداً‪ ،‬قل لي ما تفكر‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫قال صبري‪:‬‬ ‫لا أفكر في شيء ولا أخون نفسي لأنه خيانة النفس خيانة للفكرة‪.‬‬ ‫أي خيانة تقصد وأي فكرة؟‬ ‫صبري‪ :‬أصعب شيء أن تعرف الحقيقة ولا تبوح بها حتى لا‬ ‫تسبب الأذى للناس‪.‬‬ ‫ضرب أبو هاني يده على الحائط وهو يقول‪:‬‬ ‫أنت تثير أعصابي‪ ،‬الوضع يغلي في الخارج وأنت تسرح وتمرح‬ ‫في كلام لا أفهمه!‬ ‫أي حقيقة؟ وماذا عن جاسم؟‬ ‫تو ّشح صبري بالإرهاق ونظر إليه بعجز وقال‪:‬‬ ‫‪93‬‬

‫النميمة لها أثر قاتل‪ ،‬هكذا كانت تقول أمي وتؤكد أن أي امرأة‬ ‫تربي على المشقة‪ ،‬يعني أنها لا تجيد إلا الترف‪ ،‬فأنا بريء وهش يا‬ ‫أبو هاني لأنها كانت تعلمني الحب‪ ،‬والحب حالة نضج للروح وبدونه‬ ‫تصير الإرادة مضطربة‪ ،‬مثل حالتي الآن‪ ،‬وصلت إليها رغماً عني‬ ‫وبدأت أشعر بالكره وأخشى أن أفقد السيطرة عليه‪.‬‬ ‫شعر أبو هاني بالإرهاق‪:‬‬ ‫هذه ليست وصيته‪ ،‬قل لي ما الذي يجري!‬ ‫ظل صبري صامتاً فقام أبو هاني وهو يتمتم‪:‬‬ ‫يبدو ليس لديك نيّة في الكشف عن التفاصيل‪ ،‬ثم خرج من باب‬ ‫الغرفة لا يعرف ماذا سيفعل وماذا سيقول!‬ ‫دق باب البيت‪ ،‬فجرى مسرعاً باتجاه صبري وطلب منه الصمت‬ ‫والاختباء ثم راح يفتح الباب فأطل زياد بوجه عابس‪ :‬اسمح لي‬ ‫بالحديث في أمر خاص‪.‬‬ ‫دخل الاثنان إلى الصالة واستأذن أبو هاني لإعداد القهوة‪،‬‬ ‫فاستغرب زياد استعجاله‪ ،‬لكنه انتظر حتى عاد ومعه القهوة ثم باغته‬ ‫بسؤال‪:‬‬ ‫ما قولك فيما جرى؟‬ ‫شعر أبو هاني بارتباك‪ ،‬فاستأذن مرة أخرى بح ّجة صحن البقلاوة‪،‬‬ ‫وعاد دون أن يسعفه الموقف للعثور على إجابة‪ ،‬جلس على الكرسي‬ ‫ثم كرر عليه السؤال‪:‬‬ ‫ما رأيك فيما جرى؟‬ ‫‪94‬‬

‫ظل صامتاً يحاول استجماع قوته لتبرير وجود صبري في بيته إذا‬ ‫ما انكشف الأمر فقال‪ :‬رأيي أن الصمت والتكتم على بعض الأذى‬ ‫ليس ضعفاً بل مسؤولية‪.‬‬ ‫زياد‪ :‬أي أذى تقصد؟ إطلاق النار على جاسم؟‬ ‫لا أعرف‪ ،‬الأخبار عندك!‬ ‫قال زياد‪ :‬الانزعاج واضح عليك‪ ،‬بماذا تفكر؟‬ ‫الحياة كلها أسرار يا زياد‪ ،‬ولا يقين فيها إلا الموت‪ ،‬ولا يمكن أن‬ ‫أتخيل صبري غائب عن الحياة‪ ،‬فموته يعني أن كل البيت سيكون‬ ‫صورة خفيّة لجسده‪ ،‬وهذا الأمر يكفي لإرباك نفسي وجعلها في عداد‬ ‫الأموات الأحياء‪ ،‬فهل يمكن العيش بدون سهراته؟‬ ‫قال زياد‪ :‬ما يحدث الآن يتجاوز حدود السهرات‪.‬‬ ‫هذا صحيح ولكن كل إنسان سيدفع ثمناً ما في حياته ومن يحدد‬ ‫نوع الثمن وحجمه هما الروح والضمير‪ ،‬ولا يمكن اتهام صبري بدون‬ ‫دليل وتحكيم الضمير‪.‬‬ ‫قام زياد وغادر البيت بدون أي كلمة‪ ،‬ومجرد أن صار في الخارج‬ ‫وقطع الطريق وصل سبعة مسلحين نزلوا من سيارة أمام بيت أبو‬ ‫هاني وبدأوا بإطلاق النار واقتحم بعضهم البيت‪.‬‬ ‫شاهد زياد المنظر وجاء يجري للحديث معهم ولكن أحدهم دفعه‬ ‫عن المكان حتى كاد أن يسحب مسدسه‪ ،‬ولكن كثرة السلاح وغموض‬ ‫القصة دفعاه للخنوس‪ ،‬وبعد لحظات كان صبري بحوزتهم‪ ،‬سحبوه‬ ‫وزجوا به في السيارة وغادروا‪.‬‬ ‫غرق زياد في حيرة وقابله أبو هاني بكثير من الخجل‪ ،‬ثم جلسا‬ ‫وهو يقول‪:‬‬ ‫‪95‬‬

‫هذا تعريف العيب يا أبو هاني‪ ،‬فأنت أخفيت عني وجود صبري‬ ‫في البيت‪ ،‬ولم تطلعني على تفاصيل القصة‪.‬‬ ‫قال أبو هاني‪:‬‬ ‫لا حاجة لأي لوم الآن‪ ،‬فأنا لا أعرف شيئاً بل أخشى أن أصبح‬ ‫متهماً معه دون أي دليل‪.‬‬ ‫إذا بقيت متكتماً على القصة فستصبح متهماً حتى لو كنت بريئاً‪،‬‬ ‫ولذلك قل لي ما عندك‪.‬‬ ‫أقسم أبو هاني أنه لا يعرف شيئاً‪ ،‬وأن صبري ظل متكتماً‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫أنت تعرف أن فقد النفس ليس أمراً عادياً وقلبي الضعيف لا يقوى‬ ‫على تح ّمل الفقد‪.‬‬ ‫قال زياد‪:‬‬ ‫كلامك في كفة وغياب صبري في كفة أخرى‪ ،‬وأنت ساعدت في‬ ‫اعتقال الرجل بسبب كتمان السر‪ ،‬كم ساعة بقي عندك؟ وأين خبّأته؟‬ ‫أخذه أبو هاني وذهبا إلى المكان الذي اختبأ فيه‪ ،‬أضاء القبو فوجد‬ ‫رسالة بخط اليد‪ ،‬رفعها وبدأ يقرأ‪ ،‬لكن الصوت خارج البيت حال دون‬ ‫إكمال أول سطر‪.‬‬ ‫سارع زياد وأبو هاني إلى الباب وهما يتهامسان‪ ،‬قال له زياد‪:‬‬ ‫لن نتصرف قبل قراءة الرسالة ولو شعرنا بأي خطر‪ ،‬يمكنك‬ ‫الذهاب وقراءتها في القبو‪ ،‬وعندما تعود أعطني إشارة حول الأمر‪.‬‬ ‫فتح أبو هاني الباب‪ ،‬فكان عدد من الرجال يستأذنون بالدخول‪،‬‬ ‫فرحب بهم وقد بدا واضحاً أن الأمر يخص ذات القصة‪.‬‬ ‫‪96‬‬

‫غمزه زياد حتى يقرأ الرسالة‪ ،‬فغاب نحو عشرة دقائق تحدث‬ ‫خلالها زياد عن الأخبار المتداولة‪ ،‬فقال أحدهم‪:‬‬ ‫الكل صار يعرف أن مفتاح القصة عندكم‪ ،‬فما الجديد؟‬ ‫سألناه ولم يكشف لنا عن شيء‪.‬‬ ‫قال أحدهم‪:‬‬ ‫نتفهم أن أي كلام زائد بين الناس يجب أن نمسكه حتى لا نفتح باب‬ ‫الشائعات‪ ،‬ولكن بدنا نعرف طرف الخيط‪.‬‬ ‫لم يجد زياد ما يقوله حتى دخل أبو هاني يحمل فناجين القهوة‬ ‫ويعطي إشارة بعينيه‪ ،‬لم يفهمها زياد‪ ،‬وصار المشهد ملتبساً وتهامس‬ ‫الجميع فرفع أبو هاني صوته‪:‬‬ ‫المشكلة أن صبري وجاسم مختلفين في الطباع‪ ،‬ولكن في النهاية‬ ‫أنا منحاز للحق‪ ،‬ولازم في بعض المواقف نلتمس العذر للناس‪.‬‬ ‫قفز فراس من بين الحضور وسأل‪:‬‬ ‫هل تقصد أن نقبل صفتهم كجواسيس؟‬ ‫ومضى يقول‪ :‬القصة لا تحتمل أي موعظة‪ ،‬فإذا كان جاسوساً لازم‬ ‫يلقى مصيره‪ ،‬كلنا مع الثأر والبادئ أظلم‪.‬‬ ‫قال زياد‪:‬‬ ‫بدون انتقام ولا ثأر‪ ،‬هذه بلبلة والمفترض ما نجرح الناس‬ ‫والمغلوبين على أمرهم‪.‬‬ ‫سأل فراس‪ :‬قصدك جراح الجواسيس تستحق التعاطف وجراح‬ ‫عائلات الشهداء مج ّرد علبة بوظة؟‬ ‫‪97‬‬

‫بدا زياد في أقصى انفعال ولكنه أظهر تماسكاً وهو يقول‪:‬‬ ‫هذا استخفاف في الحكي!‬ ‫قام فراس بعصبيّة وغادر البيت‪.‬‬ ‫صار الجميع يتهامسون بشكل جانبي‪ ،‬وقال أبو هاني‪:‬‬ ‫أصعب خسارة ليست جاسم وصبري وإنما خسارة القيم‪.‬‬ ‫هكذا استمر الحوار بينهم حتى وقت متأخر إلى أن دخل إلى البيت‬ ‫مسؤول يدعى أبو موسى‪ ،‬وقف زياد ورحب به‪ ،‬فطلب منه الحديث‬ ‫بشكل منفرد‪ ،‬فذهبا على انفراد وهمس في أذن زياد‪:‬‬ ‫كتب صبري ورقة وتركها هنا‪ ،‬صحيح؟ أين الورقة؟‬ ‫خشي زياد تأكيد الأمر دون قراءتها وحفاظاً على روح صبري‪،‬‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫القصة غامضة ويمكن أن تكون ورقته في أي مكان‪.‬‬ ‫شعر أبو موسى بالخداع‪:‬‬ ‫معقول‪ ،‬يعني الأمور معقدة‪ ،‬ولكن الليلة سنعرف التفاصيل‪.‬‬ ‫غادر وقرر أن يشبع صبري من الضرب بسبب كذبه بشأن الورقة‬ ‫التي قال إنها تتضمن التفاصيل‪ ،‬ولم يعثر عليها‪.‬‬ ‫اختفى المسؤولون عن الأنظار وزحفت الأخبار على امتداد‬ ‫المخيم‪ ،‬وصار بيت أبو هاني كتلة سوداء وقد خيم الحزن في أرجاء‬ ‫البيت وأخذ يرتب المكان بعد أن غادر الجميع باستثناء بعض الجيران‬ ‫الذين ظلوا أمام البيت يستطيع سماع صوتهم يتحدثون عن القصة‪،‬‬ ‫وبعد حوالي نصف ساعة عاد أبو موسى بصحبته مجموعة مسلحين‬ ‫استأذنوا أبو هاني وفتشوا البيت وحققوا معه فأعطاهم الورقة‪:‬‬ ‫‪98‬‬

‫لماذا أخفيتها؟‬ ‫فيها ألغاز خشيت أن يفهمها أحد‪.‬‬ ‫أخذها أبو موسى وراح يقرأها في زاوية البيت بصحبة مساعده ثم‬ ‫عاد يقول بغضب‪:‬‬ ‫إن جاسوساً يدعى أنور نشر شائعة ضد صبري وجاسم للتمويه‬ ‫على تخابره مع إسرائيل واختفى من المخيم‪.‬‬ ‫‪99‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook