إلى قبر صبحي وهو يسمع حفيف الشجر حتى تاهت عيناه على امتداد المقبرة فتعثر في غيمتين متشابكتين وقال بصوت يغمره الحسرة ،لو أنك يا صبحي تعلم أن أبو سليم بكل ثروته سيدفن بجوارك لبقيت حياً تروي لنا الحكاية ،الله يرزقك ويبعد عنا وجع الذباب. 50
الكلب جيمي كان المخيم منقسم إلى قسمين ،أحدهم يحب الكلب والقسم الآخر لا يطيقه .كانت سعاد من بين هؤلاء الذين لا يحبونه وتتمنى أن يوضع له السم فيموت أو تنزل عليه صاعقة من السماء فتقتله ،لكن رامز كان يحبه بطريقة يتمنى لو يملكه فيعيش معه وينام على فراشه كعائلة واحدة. كان جيمي الكلب الوحيد في المخيم ،عثر عليه أيمن ،وأطلق عليه هذا الاسم أسوة بكلب صديقه الذي مات إثر تناوله السم في حديقة البيت ،د ّسه أحد الجيران كي يتخلص من عواءه اليومي وغيرة من الكلب الذي كان يتناول اصبعاً كاملاً من المارتاديلاء يومياً ،كان يفغمه في الشارع أمام الجيران. صار جيمي حديث الناس وسرت إشاعة أنه جاء عبر الحدود بعد أن اخترق السياج وهو في حالة عطش تام ،فأخذه أيمن وسار به إلى اللّحام كي يزوده ببعض العظم ثم عاد به إلى البيت. غ ّسل الكلب وأطعمه وأخذه يمشى به في كل ناحية يسرد حكايته لكل من يقابله. أبو زهدي رجل طاعن في السن ،قصير بلحية بيضاء ،يحبه الناس لحكمته ،أمسك بأيمن وصار يلاعب كلبه: أعرف محبتك للكلاب ،ولكن عليك أن تعرف أن عقل البنآدم ليس كعقل الكلب فاحتكم إلى عقلك واستفد من قلبه ووفاءه. وأكمل في نصحه: 51
ربما مصاب بمرض دون أن تعرف ،انتبه وحاول أن تكشف عنه في أقرب وقت فالكلاب يغزوها البراغيث. قال أيمن: غ ّسلته بالصابونة ،وظل يلعب تحت الماء حوالي نصف ساعة. اقترح عليه أبو زهدي: خذه عند طبيب بيطري ،ولو كان فيه براغيث أو مصاب بأي مرض سيعالجه ويصرف لك الدواء المناسب ،صابونة هذه الأيام لا تنظف البشر كي تنظف الحيوانات. وافق أيمن مع إصراره بالدفاع عن الكلب وهو يصف عطشه حين عثر عليه ،ثم مشى يلاعبه طول الطريق حتى استقر به المقام في بيته. بدأت البلبلة واقتحم الجيش المخيم على الحدود بحثاً عن جيمي كما شاع بين الناس ،فأخفاه أيمن وخرج إلى منطقة يتجمع فيها الناس بانتظار تقدم الجيبات العسكرية واقتحامها ،وصار يتباهى بأن لديه كلب يمكن أن يثير حفيظة الجيش ويقول: صحيح مواعظ أبو زهدي لا تطاق ،ولكنها تؤخذ في الحسبان بسبب شيبته على الأقل. سمعه أبو زهدي الذي كان بين الناس ،فجاء من بعيد وقال: صدقني يا أيمن ،طيبة قلبك وحبك للكلاب يعرضك للخطر. واشترك آخرون في الحديث: النية الصافية لا تلغي الحذر وإنت ما بتعرف أصل الكلب وقصته. قال أيمن بنبرة حادة: 52
إرادتي مثل حديد وكل الكلام شائعات ضد الكلب. أمطروه بالنصائح حتى شعر بتلقى وجبة دسمة منها فغادر وتق ّدمت بعدها الجيبات العسكرية وتف ّرق الناس إلى بيوتهم وخلت الشوارع. نزل الجنود وبدأوا بتفتيش البيوت واعتقلوا عدداً من الشباب، واستمرت الاقتحامات ولكنهم لم يجدوا جيمي ،فغادروا وخرج على إثرها أيمن مصطحباً الكلب ،وعادت معه السجالات: يعني قصدك إنه كل المخيم يُعتقل ويدخل السجن لأجل خاطر الكلب! كلب يجرك على الحبس معه. لم يبال أيمن بما سمعه ،ولم يقنعه أحد بالتخلي عن الكلب .كان رامز الوحيد الذي أظهر حباً لجيمي ومقدرة على حل المشكلة ،وهو صديق مقرب من أيمن ويعرفه الناس بلقب “شموني”. أصيب في حادث سير نتيجة قيادته السيارة بسرعة فائقة ،فهو معروف بحبه للسياقة وصلته مع كل السائقين وعلاقته مع لافي الذي عمل عنده في الأراضي المحتلة لسنوات طويلة ،وظل لافي على اتصال به ،لكن رامز كان يتعامل معه بكثير من الح ّدة. في المساء اختار رامز ساعة يكون فيها لافي بمزاج جيد ثم اتصل به لأول مرة حيث اعتاد لافي هو من يبادر بالاتصال ،سأله رامز: هل اشتريت كلباً جديداً غير الذي كان معك؟ لا ،حتى الكلب الذي كان معي أهديته لصديقي. قال رامز باستغراب :لديكم الكثير من الكلاب وتحديداً عند الجيش، بالمناسبة ،كيف يتم تدريبها؟ أجاب لافي: 53
الجنود تعطيها حبوب وتقودها ويتم تدريبها بشكل سري عبر وحدة متخصصة ،لي صديق يعرف التفاصيل ولكنه يخفيها عني ،ولكن لماذا تسأل؟ قال رامز: هذه كلاب ليست سهلة ،ويبدو الموضوع خطير. سأله لافي وهو يحاول إخفاء قلقه: لماذا تتحدث عن الكلاب؟ رامز :عثرنا على كلب وصل عبر الحدود ولكن فيه شكوك حوله. اعتذر لافي: سأتكلم معك فيما بعد ،وأغلق الهاتف ،أما شموني فذهب إلى وسط المخيم ،وبدأ يسرد تفاصيل مكالمته مع لافي بحضور عدد من أصدقاء أيمن ،حتى وصل الخبر إلى طبيب بيطري فطلب إحضار الكلب إليه. لم يكن سالم طبيباً بيطرياً وحسب بل أسيراً محرراً أيضاً ،توفيت زوجته عندما كان في السجن وخرج فصار على إثر الأمر أكثر وهناً لما آلت إليه الأمور .كان أيمن يثق بتقديرات الطبيب سالم ،ويعتقد أن تجاربه تؤهله للتعامل مع الأمر علاوة على تخصصه كبيطري. أحضر أيمن الكلب ودخل إلى مزرعة الطبيب ،ومجرد أن لمحه تب ّسم وقال: كلب هزيل ،واضح أنه فقد أكثر من نصف وزنه ،ولكنه غريب عن مكانه. اقترب منه وأمسكه من رأسه واستأذن أيمن: دعني أفحصه. 54
أخذه وخ ّدره وبدأ يقلب أعضاءه ويتفقد كل ناحية في جسده ،بينما ذهب أيمن يتج ّول في المزرعة. ظل الطبيب يفحص فيه لأكثر من نصف ساعة حتى استمع إلى صوت غريب يشبه صوت دقات الساعة ،فرفع رأسه ونظر إلى أيمن لاستدعائه. كان يقف في آخر المزرعة بجوار شجرة تين يقطف من حباتها، وحين التفت أيمن رفع الطبيب يده مل ّوحاً وهو يقول: تعال يا حبيبي ،تعال.. مشى أيمن باتجاه الطبيب الذي ظل منهمكاً في فحصه إلى أن وصل أيمن فوجده يحني رأسه ويضع أذنيه على كل ناحية في جسد الكلب في محاولة لاكتشاف صوت التكتكة ،وامتلئ سالم عرقاً وهو يمسك بساق جيمي ،فسأله أيمن: طمني عن وضعه؟ مصاب بأي مرض؟ نظر إلى أيمن وتناول المشرط بسرعة وشق جلد الكلب ،فسالت دماءه ومد الطبيب يده وأخرج منه قطعة صغيرة رفعها في وجه أيمن وقد امتلأت أصابعه بالدماء. تبلّد أيمن ولم يقل شيئاً حتى جاءهم خبر اقتحام الجنود والجيبات العسكرية عن الحدود م ّرة أخرى بعد مراقبة المكالمة بين رامز ولافي بشأن الكلب ،وفرض حظر التجول ونزل الجنود من الجيبات وبدأت عملية مراقبة الشوارع وأسطح المنازل وانهالت الحجارة عليهم فصاروا يطلقون قنابل الغاز ،واستمرت المواجهات لساعات. كان أفيغايل جندياً كارهاً للناس في المخيم ويتحين أي فرصة لتفريغ غيظه واستعراض ساديته دون أن يعرف هو سبباً لذلك. 55
سار أفيغايل في دورية مكونة من عشرة جنود ،وسمع بعض التعليمات عبر جهاز اللاسلكي: من مركز العمليات إلى أفيغايل.. انقطع الاتصال ولا توجد إشارة حتى بعد الاقتحام.. هل تسمعني ،أجب! على إثر التعليمات أعطى أفيغايل الأوامر للجنود باقتحام بقية البيوت ،ومن بينها بيت أيمن ،فانطلقت دورية إلى الشارع المقابل ودهموا البيت وشرعوا بالتفتيش.. تبعهم أفيغايل ودخل البيت فوجد جيمي بحوزتهم. قال جندي :عثرنا عليه في إحدى خزانات أيمن. ثم جاءت تعليمات الضابط عبر اللاسلكي: تعميم للجميع.. تأكد اختفاء صوت جيمي عن الشبكة.. مجرد أن أنهى الضابط جملته حتى سمع صوت نباح الكلب، فسحب أفيغايل أجزاء سلاحه وصوبه نحو جيمي وأرداه قتيلاً! عاد الضابط يسأل عبر اللاسلكي: ما الذي حدث؟ قال أفيغايل: شاب يدعى أيمن قتل الكلب على مقربة مني وتم إلقاء القبض عليه. 56
قنبلة وبرتقالة قام تيسير وطلب الإذن: هل تسمح لي بالخروج لتناول حبة دواء مع الأكل؟ هكذا وصف الطبيب. قال المدرس مشفقاً: طبعاً سلامتك ،ولكن لا تتأخر عن الدرس. خرج تيسير دون أن يلتفت خلفه ،لمحه بعض الطلاب وناداه بعضهم ،لكنه لعب دور الأطرش وأسرع في المشي وهو يرفع يده دون مبالاة ويقول: وصفة طبية ..وصفة طبيب ..ثم اختفى من المدرسة. كانت خطة تيسير للهرب مع ّدة سلفاً لتشمل الأسبوع ،وشعر بارتياح أكثر عندما وجد عاهد بانتظاره بعدما أت ّم نفس الخطة. خلت لهم الطريق ،فسار الاثنان باتجاه الغرب نحو البحر من أجل الوصول إلي منطقة زراعية ،كان تيسير يعشق القيلولة في الأراضي الزراعية ،شغوفاً بالهدوء ويستريح من سهراته التي تستمر حتى الفجر ،هذه عادته منذ نحو ثلاث سنوات ،يُبقي ضوء غرفته مشتعلاً إلى أن يسلّط أحد المسلحين الذين يحرسون المدينة ضوء الكشاف على نافذته في إشارة إلى ضرورة إطفاء الضوء! المسلحون يعرفونه جيداً، ولذلك يمازحونه باستمرار. 57
لتيسير علاقات متشعبة لكنه لا يلتزم في شيء ،يكره الدراسة ويجد في درس الرياضيات عذاب جهنم ،فيف ّضل الضرب على قضاء الوقت في حل الواجب ،ويعترف أنه يكره حل المسائل الحسابية. استغل تيسير لقاءه بعاهد فأخبره عن حياته مع المدرسين والمسلحين وطلب منه كتمان السر ثم نظر على امتداد الأرض التي وصلوا إليها وقال: صاحب المزرعة صديق قديم لأبي ،لازم نجمع قدر ما استطعنا من الفاكهة والخضروات. نزل الاثنان وبدأ القطف ،ثم رفع تيسير قميصه وأخرج كيساً كبيراً وصار يعبئ قطوف العنب وحبات الجوافة ،استغرق الأمر ساعات حتى وقت الغروب. كان عاهد يحمل حبات الرمان ويمشي باتجاه شجرة تين ثقيلة الظل ثم اختفى ،وسمع تيسير صوت صراخ ،التفت فلم يجد عاهد ،وصار يجري ويتتبع أثر الصوت حتى وصل إليه. وقع في بئر بعمق نحو عشرة أمتار ،خالياً من المياه باستثناء نصف متر من الطين غطت ساقي عاهد الذي رفع يده يتوسل المساعدة: ساعدني ..بسرعة ..موت أحمر شعر تيسير بارتباك اللحظة واصف ّر وجهه ،وأدرك أنه سيشهد لحظة فقدان عاهد الذي ظل يتوسل بشفقة: أرجوك أن تتصرف بسرعة. يلا حالاً ،ولكن الخوف أبقاه في مكانه ،لم يستطع اتخاذ أي خطوة، وليس لديه أي وسيلة اتصال ،فأغضبه عجزه: 58
أنت أحمق كيف وقعت في البئر؟ ها قل لي كيف وقعت يا غبي؟ يا ريتك وقعت في بئر خراء. تلبّد عاهد في البئر: أمانة عليك تهدأ وتساعدني. حاول تيسير أن يتمالك نفسه ويفكر في طريقة لإنقاذه: اسمع ،لازم تصبر حتى أطلب المساعدة ،اصبر بدون أي كلمة! مخنوق ،خليك في المكان! وين رايح؟ ظل تيسير على رأس البئر وسأله: يعني كيف أنقذك؟ الخوف ممكن يقضي عليك ،بتحب تموت؟ اسمعني بس! استغرق جدالهما الكثير من الوقت حتى انتبه تيسير إلى غياب الشفق فبدأ ينادي حوله وسط مراقبة وذهول عاهد ،ولكن الصوت لم يتردد إلا في البئر. مشى تيسير خطوات للبحث عن حبل لإنقاذه فتوسله ألا يبتعد. جلس تيسير وشتمه: لازم أتركك تموت إذا بقيت تصرخ! اسكت ،العتمة سيطرت على المزرعة ،يعني ممكن تنام في البئر للصبح ،فالأفضل تسكت. لم ينطق عاهد بكلمة وذهب تيسير إلى الح ّمامات الشمسية المجاورة وعثر على بعض الحبال ،وبدأ يربطها ثم وضعها على الأرض فوجدها قصيرة ،ليست على امتداد البئر. 59
مشى في كل الجهات إلى أن عثر على أكياس خشنة فسحبها من الأرض وربطها ثم عاد إلى البئر وم ّدها له ،فأمسكها عاهد ورجع تيسير إلى الوراء وهو يجرها وصار عاهد يتسلق بمساعدة بعض الأحجار المسننة في جدار البئر ،لكن صوت ارتطامه في الوحل كان أسرع ،انقطعت الأكياس ،فارتبك تيسير: أنت بخير؟ هل أصبت؟ قام عاهد بدون إجابة ،ولم يتمكن من مسح الطين عن وجهه فأغمض عينيه وصار يسب الساعة التي وصل فيها إلى المزرعة. شعر تيسير بالضياع ،ثم طالبه بالصبر وراح يجري حول البئر وينادي ويبحث عن مزيد من الأكياس والحبال لتكرار المحاولة ،ولكنه لم يجد إلا متراً واحداً ،في حين أنه يحتاج إلي مترين ونصف تقريباً، فأخذ الحبل وعاد إلى البئر. استمرت محاولة الإنقاذ حوالي ساعتين حتى بدت الأرض مخيفة من حولهم ،وتغلغل الإزعاج في ذهن تيسير الذي رأى السماء تعزز الأسود وتفتح عين النجوم ،فأسرع في مهمته وانبطح على بطنة ،ومد الحبل لعاهد ،وصار يعطيه التعليمات لحشد كل قواه ورفع معنوياته للصعود بحذر ،وبالفعل بدأ يتسلق حتى قطع حوالي ثلاثة أمتار ودبت الفرحة في البئر وقال تيسير مداعباً: اطلع يا قرد ..اطلع خذ الموز ضحك عاهد فاختل توازن تيسير الذي وقع في البئر هو الآخر وارتطم في الطين كعاهد. 60
لا أحد في المكان ،وقد أعلنت لحظة الموت عن نفسها وأخذت تحوم حولهما في البئر ،صار عاهد يضحك ويبكي بشكل هستيري، ولكن تيسير شعر بغضب وهو يمسح الطين عن وجهه: سنموت من العطش أو من أكل الوحل. سكت الاثنان وهما يمسحان الطين ،وصار عاهد يميل نحو تيسير ويتثاءب ،فنخزه بكتفه: فعلاً عديم الإحساس ،كيف نعسان وشايف الموت بعينك؟ قال عاهد: لازم تستسلم حتى تموت بهدوء ،وبدون رفص مثل الحمار. شعر تيسير بانفعال وأراد أن يعربد عليه بلا شفقة ،ولكنه كز على أسنانه وأمسك فمه وهدأ الاثنان وهما يراقبان بقعة السماء الخالية من أي نجوم فوق البئر. بعد لحظات اقترح عاهد فكرة للنجاة: صوتين مع بعض أقوى ،ممكن نصرخ لمدة خمس دقائق. لم يكن باستطاعة تيسير أن يتكلم كثيراً أو يفتح فمه خشيه دخول الطين إلى حنجرته ،ولكنه اقتنع بعد مناكفة وبدأ الاثنان بالصراخ. تردد صوتهما في الأرجاء ولاحت مناجاتهم من فوهة البئر ثم انتشر الصمت وسمعا صوت أقدام. قاما يراقبان فتحة البئر حتى لمعت عينا ثعلب صار يعوي وأرعبهما ،ثم انصرف ،فقال تيسير بعصبية: قلت لك اصرخ ،لا تعوي ،عواؤك هو الذي جاء به ،ج ّرحت حنجرتي دون فائدة. 61
قال عاهد :أكلت بعض الطين وصار يغلي في بطني. ظلا يبحثان عن حل ،ويتكئان على بعضهما حتى استمعا إلي صوت آخر فارتدت الروح إليهما ،لاحظا ضوء سيارة ،فأكملا الصراخ ،ولكن الضوء الأصفر اختفى وحل محلة ضوء أبيض ثم تبعه صوت سلاح ،فأمسك الاثنان ببعضهما. أطل شاب من رأس البئر وهو يصوب سلاحه ويضيء البئر بالك ّشاف: ارفعوا أيديكم ،وعرفوا بأنفسكم. هذا أنت يا تيسير ،ماذا تفعل هنا؟ عاد إلى سيارته وجلب ك ّشافاً آخر ورماه لهم ،وقال عبر جهاز اللاسلكي: نطلب مساعدة عاجلة من إحدى الدوريات في نطاق المنطقة الثالثة جنوباً ،يرجى استدعاء فرقة إنقاذ. كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل ،فاستدعت الدورية وحدة المطافئ التي وصلت إلى المكان خلال دقائق وبدأوا بربط المعدات وتأكدوا من وصول سيارة إسعاف ثم أنزلوا الحبل وتم انتشالهم من البئر في عملية استغرقت حوالي ساعة منذ أن عثر عليهم وتم نقلهم للعلاج. رقد تيسير وعاهد في المستشفى لمدة أربع وعشرين ساعة ،ظلا تحت المراقبة وخضعا لفحص طبي شامل ثم توافدت عائلاتهما وأصدقائهما حتى شعر كلاهما بالتعافي في نهاية اليوم. 62
غاب تيسير عن المدرسة لمدة أسبوع وضاعت دروسه ،ولكن التجربة منحته بعض الإشباع بعد أن ذاع صيته ،فقرر أن يحضر درساً عابراً ويلتقي بأصدقائه. توجه نظمي إلى القاعة ،مدرس معروف بين الطلاب بثقل الدم والرصد الدقيق للحضور والغياب ،وكانت الأخبار قد وصلته عن تيسير الذي كان يقف على باب الفصل يفرد ابتسامة عريضة ،دخل نظمي وقال له مباشرة: تضحك على غيابك المتكرر يا ساقط! لماذا حضرت؟ اقترب المدرس من تيسير وأكمل: هناك حل وحيد ،ثم صفعه على خ ّده. تقهقه الطلاب ،وقال أحدهم: أيوه اديلو كمان. ظل تيسير متصلباً لم يستجب للوجع ولم يتحرك مليمتراً ،ولكن القهقهات ألهبت دماءه فرفع يده لدفش المدرس فتصارخ الطلاب هيييي ..هيييي كاد الدرس أن يتحول إلى قاعة ضرب ،فغادر تيسير وهو يرمي الكلام خلفه :أهنتني يا حقود ،لاقيني برة. كانت المرة الأخيرة التي يحضر فيها درساً في حياته ،شعر وقتها أنه تعافى تماماً من التعليم وذهب يقابل عاهد مرة ثانية ،وهو يلعن كل اللعنات: شو السبب؟ قال تيسير :صفعني أمام الطلاب. 63
معقول؟ كيف؟ رفع تيسير يده وصفع عاهد. أخ ،ليش ضربت؟ بدي أقدم إجابة شافية وافية ،نظمي هيك قال. إيدك ثقيلة. تيسير :لما تعرف خطتنا بتسامحني ،يلا ..تعال مشى تيسير وظل عاهد متيبساً. امشي بدون بلادة. رفض عاهد وظل يتململ ويجادل: أكلت طينة وأكلت بهدلة وطفح الكيل. قال تيسير :الأرض ما فيها ولا بئر ،بس شجر فاكهة ،اقتنعت، يلا ،امشي و ّجعت راسي. سكت عاهد ثم تحفز ووافق لأنه يحب الر ّمان. سار الاثنان ،وفي الطريق قفز تيسير فوق ع ّشة كبيرة بعدما شاهد أطراف أعواد ملوخية ناشفة ،فأخذها وقصقصها ثم وضعها في علبة سجائر ،وقال لعاهد: بدك سجائر ملوخية؟ لا ،بتخنق صدري كان تيسير يهرب من كل شيء خارج إرادته ،ويكره أن ينازعه أحد على حريته ،حتى تحول الأمر إلى هروب من كل شيء. 64
وصلا إلى المزرعة وقبل أن يمد عاهد يده على الفاكهة سأله: إنت ليش بتكره المدرسين؟ سوء التقدير غلبني لأني أعطيتهم صفات أكبر من حجمهم ،يعني لما المدرس يضربك كف ،هذا الشيء غير مرتبط بالعلم والفهم ولكن بالسلوك والتصرف. قال عاهد: لكن إنت هربت من كل الدروس! هذا شو اسمه؟ هذا شيء طبيعي ،ولأنه طبيعي ،تعال نقطف ر ّمان ،عصير الر ّمان طيب وبعدها أكشفلك عن سر. تجولا في المزرعة إلى أن بدأ القطف ،وتساقطت حبات الر ّمان وامتلأت الأرض بالبرتقال وانهمك الاثنان في البحث عن الحبات الطرية الناضجة ،وعثر عاهد على عش: تعال بسرعة ،شوف فرخ العصافير ،هذا السر؟ قال تيسير: أي سر؟ فكرتك بريء مثلي ولكن ليس بهذا الكم من البراءة ،هذا سر من أسرار الطبيعة. سأل عاهد :هل تفهم لغة الطبيعة؟ مرة آه ومرة لا ،بفهم ترويض الإنسان للحيوانات وهذا يحتاج إلى خبرة عملية ومعرفة مثل تعليم داوود وسليمان منطق الطير ،والمنطق لغة استدلال وعلم. ومضى يقول: 65
طبعاً الحيوانات لا تستطيع أن تر ّوض الإنسان ولكنها تألف عليه بقلبها ،لا تلعب في العش وانزل عن الشجرة. نزل عاهد وهو يقتنص حبة برتقال لمعت في عينيه: روح أقطفها ،قال له وذهب هو الآخر لقطف المزيد ،حتى جمعا نحو خمسة عشر حبة. ارتكز عاهد على شجرة يلعب بالحبات ويسأل: طيب شو السر ،ممكن أعرف؟ جلس تيسير وطلب منه الجلوس بمحاذاته وصار يتفحص البرتقال في الكيس ثم استدار ،وأخرج خمسة قنابل أنيرجا وهو يقول: عليك أن تعاهدني بحبات البرتقال أن يبقى هذا السر بيننا. ارتبك عاهد ورجع إلى الخلف حتى قام وسأله: جئنا إلى الأرض نأكل برتقال أو نلعب بالقنابل؟ قال تيسير: لا أكل ولا لعب ،شوف حجم البرتقالة أكبر من القنبلة ،وحتى وزنها أثقل ،وإذا رجحت كفة البرتقال ،نأكل البرتقال ونرمي القنابل. سأل عاهد :نرميها في أي مكان؟ نرميها في بطنك وشوف فرق الطعم. شعر عاهد بالتهديد فأخذ الأغراض لمغادرة المزرعة ،ولكن تيسير رفع صوته غاضباً: هذا الخوف لأنك جبان ،إلا لو كنت على حق ،بتحس إنك على حق في المزرعة؟ قلت لك المزرعة إلنا ،ولا إنت حرامي؟ 66
التزم عاهد الصمت سألتك ،إنت على حق في الأرض؟ ظل يبحلق في القنابل حتى كز تيسير على أسنانه: أنا شايف إنه التاريخ لازم يتضمن فصل بعنوان “دور الشياطين الصامتة في الإطاحة بالحق” وإنت الشيطان الأعظم. شعر عاهد باستفزاز تيسير وانقلاب مزاجه فقال: إذا كان الأمر سيتسبب بقطيعة معك ،فليس لدي مانع ،ويذهب كل واحد منا في طريقه. قال تيسير: طريقنا واحد إنت بتعرفه ،وكل الناس ترتكب أخطاء بسبب قلة الخبرة أو الإصابة بمرض أو انعدام الأمان ،فأي سبب تختار حتى ما تكبر المشكلة؟ لم يجيب عاهد ولكنه هدأ قليلاً ،ثم جلس على الأرض وبدأ يلملم وجهه يميناً ويساراً مع حسرة جابت حركة رأسه ،فقال تيسير: لأنك جلست مثل الخنفس ،انتهى الموضوع وهذا العهد لصداقتنا، ثم أمسك حبة برتقال وقشرها وأعطاه نصف الحبة فأكلا ،ثم تناول حبة ثانية وهكذا ظل يقشر حبة تلو الأخرى وتطاير رذاذ السبيرتو في المكان حتى أثخن البرتقال قلبهما فقال عاهد: فيك شيئ غريب ،أي إنسان بيسامحك بسرعة لأنك شخص ذوق، والذوق أبو الأخلاق والجمال. 67
شعر تيسير براحة بعد مجاملة عاهد وانسجامه في المزرعة ،فقام وهو يتناول آخر شريحة برتقال في يده ،وأمسك قنبلة وذهب نحو شجرة بعيدة وربطها في الشجرة فقام عاهد يتأهب للهرب: انتظر ،قلت لك من أول م ّرة لا تغادر ..انتظر.. وضع تيسير حبلاً في صاعق القنبلة وم ّده نحو عشرة أمتار ،وطلب من عاهد الاختباء خلف جذع شجرة ومراقبة الانفجار. واحد ..اثنان ..ثلاثة ..شد الحبل لكن القنبلة لم تنفجر. انتظرا دقيقة ،ثم توجه تيسير نحو القنبلة فأمسكها وضربها في الأرض وتناول قنبلة ثانية وعاد يكرر نفس العملية ،سحب صاعقها، فتصاعد الدخان من جذع الشجرة دون أن تنفجر ،واستمر الأمر عدة دقائق ظل خلالها تيسير وعاهد يراقبان الدخان حتى انطفأ ،ثم رجع تيسير يتفقد القنبلة ،أمسكها بسخونتها وقذفها بعيداً وعاد إلى حبات البرتقال وما تبقى من قنابل على الأرض. جلس وأمسك قنبلة وسكينة فسأله عاهد :ماذا تفعل؟ تيسير :سأقشر القنبلة وأعطيك تأكل ما فيها ،فقام يجري: أتركك تموت وحدك.. رمى تيسير القنبلة وطلب منه الرجوع: تعال ،موتك أو موتي كله واحد ،لم يفلح الموت في أول قنبلتين، ثم أمسك باقي القنابل ورماها فوق الشجر وتملكته نبرة أسى: خلص ،كل شيء في راسي انطفئ. قال عاهد :يا ريت تتذكر أمثالك عن التفاؤل والحق ،خرمت راسي فيها. 68
بدا تيسير كالمهزوم: لم يعد هناك أمثال سوى المثل الذي رأيته أمامك ،مثل الخيانة. حتى الشجر حس فيها ،كأن الخيانات لها تج ُّمع ومركز ،ثم أمسك بالسكينة التي كانت في يده وص ّوبها نحو جذع شجرة ورماها ،فطارت وغرزت في الجذع. قال عاهد: سببت الألم للشجرة ،هذه خيانة للعصافير الباحثة عن ملاذ آمن تبني أعشاشها ،هذا الجرح أذيه حقيقية. رمقه تيسير بنظرة ضجرة: لكل فعل رد فعل. عاهد :وما هو فعل الطبيعة الذي أصابك حتى تجرح الجذع؟ تيسير :إصابتها وجرحها أفضل من اقتلاعها ،وأحياناً الجرح تمهيد للوجع قبل قتلها بالجرافات الإسرائيلية. قام تيسير ولحقه عاهد يجمعان حبات الرمان والبرتقال للمغادرة على صوت الطيران الذي ملأ السماء ،فابتسم عاهد لشعوره أنه ينجو، بينما أمسك تيسير الحبات وضمها إلى صدره ومشى يقول لعاهد: أحب هذه الفاكهة ،اشتهرت بها يافا وغزة ،هذه الأشجار ذاكرتنا يا عاهد ،تختلط بوجودنا على الأرض ،وما أن أنهى تيسير جملته حتى قصفتهما طائرات الاحتلال بصاروخ ،سقط بجوارهما ولكنه لم ينفجر. 69
ذاكرة مليئة بالملح كان وجه الصباح يتنفس ببطء شديد ،أجلس على قطعة قماش بين سريرين في المستشفى وألملم لذة النعاس بينما ج ّدي عيسى يتأوه وينوح ،بين دقيقة وأخرى ينطق كلمات لم أفهمها ولكني أذكرها جيداً، ثم قال كلمة بصوت مرتفع ،وقفت وح ّدقت في عظامه البارزة ،وفي عينيه ،لعلي أسمع الكلمة م ّرة أخرى. كان توتري يحتكم إلى ما تقوله عيناه ،المرض كان يأسر كل التجاعيد في وجهه ،أما الوجع كأنه مسامير تتساقط عليه. الغرفة فارغة تماماً والموت بات يسيطر على السكون ويلتف حولي للانقضاض على ج ّدي. في لحظة ما تسلل بعض الهدوء إل ّي فتذكرت كل الماضي عنه، أحدهم لقبّه ببنك الدم لعافيته وصبره الذي أراه ينازعه اللحظة ،كان يشعر أنه قوي بما يكفي حتى يداعب إنسانيته على سرير المرض. أكثر من عشرين عاماً عشتها على مقربة من ج ّدي ،خزنت تفاصيلها ،ولكنها تغزو ذاكرتي الآن ،تنهال قصصه وصوت مواويله على عقلي ،كان يعرف أني قليل الأمل وكثير الحب ،فيحدثني عن بهجة الأرض ثم يقول: لا توقف خيالك على حدود .1967 تح ّمست وسألته ذات مرة: كيف تزوجت من جدتي قبل التهجير من فلسطين؟ 70
لم يجبني رغم أن ذكريات حلوة لمستها وهي تمر على محياه ،لكنه قال بعد صمت: كانت السبب في بقائي على قيد الحياة ،لقد طلبت مني الهرب من القتل عام 1948حفاظاً على حياتي. لا يخفي ج ّدي غضبه كلما تذكر تلك اللحظة ..في أحد المرات كنت أسرد قصة هروبه ومساعدة ج ّدتي له ،فضربني بعكازه ولاحقني حتى طردني من البيت وهو يقول :اطلع يا منكوب ،خليتها إلك تحررها ،اطلع يا منكوب ..نكبة في عينك! أدرت رأسي وقد حل الموت فعلاً في غرفة المستشفى ،شعرت به فأغمضت عيني وقد اجتمع داخلي خوف وحزن شديدين ،سمعت صوت أنين جرح قلبي وشقق رأسي ،أدرت وجهي ،فكانت حبة ماء كبيرة داخل عين جدي ،وقد ارتسم فيها ما يشبه قطعة أرض زراعية ورجل يل ّوح بفأس قديم ويضع يداً أخرى على ظهره. لفظ ج ّدي أنفاسه الأخيرة وسقطت آخر دمعة.. لم أفعل شيئاً ،ولم يكن أي شيء مخيف ،فقط شعرت بالوحدة، وغادرت المكان وفي داخلي مخزون طافح بالدموع أخافه كلما كبرت، أخشى أن يتملكني القهر فأصبح به قاهراً ،لذلك أمسك نفسي وأهرب بها يومياً ،حتى أني هاجرت من البلاد ،لكن اللجوء ظل يطارني حتى صار ثقيلاً جداً ،صار اللجوء مرتين ،حين أحس بمرارته ومعنى قسوته وهو يقطع كظل السيف في نفسي ،أذهب سريعاً إلى مزرعة محاذية لنهر التيمز ،أحاول الهدوء ،ولكن تزاحمني التفاصيل وتلح عل ّي الذكريات ،أنظر في الماء فتتراءى لي دمعة ج ّدي عيسى ،وأحدق في الأرض فأتذكر وعد بلفور ،وأشعر كأن الملح في عيناي ،أتنهد قليلاً ثم ابتسم كلما تذكرت قصص هذا الرجل ،ولكني أشعر بالغرابة 71
وارتباك المكان وتخالجني مشاعر متضاربة ،فأعترف بيني وبين نفسي أن الذاكرة لا تشفى أبداً. 72
بقية الحلم القطار يشق الريف الأوروبي ،متنقلاً بين مدينة موناكو وليون، والتعب يحصد في وجه حنين ويتكوم في ذاكرتها وينهال الشوق من عينيها كأنه شلال ماء يجري فوق صخر ويتجرح. مد إياد يده نحوها وأمسك بكف يدها وصار يلاعب بأطراف أصابعها ،فتنبهت من غفوتها ولاعبته بعينيها. كانت الرقة تتلبد في نظراتها وهي تسأله: لماذا تركتني أنام؟ ثم رفعت نبرتها قليلاً: ولماذا تمسك يدي والكل في حالة سكون ،وأنت في حالة فوضى؟ تراجع إياد بكل حرج وهو يسألها: هل لديك شعور أن هناك فوضى فعلاً؟ هكذا تصفي لحظة لطيفة؟ نظرات سيمون في المقعد المقابل حالت دون تطور المشاحنة إلى خلاف على مرأى ومسمع الركاب ،شعره الأصفر منثور على رأسه بعشوائية وذقنه أيضاً غير مشذبة .أراد أن يقول لحنين بمكر :إنه كان يدقق النظر في كل قطعة من جسدك خلال غفوتك ،لكنه خشي أن تنقلب المشكلة ضده ،فأمسك الصحيفة وأرخى أذنيه مع همساتهم. ارتفع منسوب الحيرة وصار المكان مكبوتاً بالحذر. 73
حاولت حنين بنظراتها الخاطفة كسب ابتسامة من سيمون لبدء حديث ودي ،لكنها خشيت أن يتحدث بالفرنسية أو الإيطالية فقررت الصمت وصرف النظر. دار في ذهن سيمون الكثير من الأفكار ،فنظر إليهما كأنه يمر عليهما بعينيه مرور الكرام ،وقال بينه وبين نفسه: كم من حياة حلوة بين هذا الثنائي ،فاللذة حين تبلغ مداها تسبب هياجاً للعقل! وقتها كانت حنين تشير إلى إياد لمشاهدة بقرة في أحد الحقول على امتداد البصر. هبط بكامل جسده على حضنها ومد رقبته حتى لمست جبهته زجاج النافذة وهو يقول: حياة الفلاحين تشبه بعضها ،فعلاً بقرة جميلة مليئة بالحليب. وضعت حنين إصبعها في أذنه ،فاستند يضحك ويشعر بالدغدغة. تظاهر سيمون بأنه لا يفهم شيئاً ،وكان إياد وحنين في حالة انسجام غير معهود ،حتى قال إياد: يا ريت تصير حياتنا كلها بقر ،فنزلت بكفها على فخدته ،ورمى ضحكة سمعها كل من في القطار ،وأمسك يدها وصار يداعبها وهو يقول: الأيام الماضية أرهقتني ،كرهت السفر رغم أن القطار مريح باستثناء هذا اللزج الذي أمامنا ،أتمنى أن ينصرف ونحس براحتنا، الشوق يقتل في السفر يا حنين ،يقتل بحرارة. 74
بدا الزمن المتعب يغادر خلف الزوجين ،الحرب والخوف، وتملكتهم الحنية فسألته: هل تعتقد أن الأولاد بخير؟ لم يعجبه هذا التداخل الغريب ،لكنه أجاب: أتمنى ألا يطول الغياب. الطريق إلى مدينة ليون طويل ،حتى أن إياد صار يتململ ،ثم أخرج من شنطته حبة تفاح ،جاء بعدها أحد موظفي شركة القطار وطلب منهم رؤية تذاكر السفر. ق ّدما له تذكرتين ،فختم عليهما ،وأكمل طريقه. شعر الزوجان ببعض الراحة وتأكدا أن وصولهما إلى ليون حتمي. أكل إياد تفاحته وداهم الخمول جسده ،لكن حنين ظلت يقظه ترافقها البراءة ،وبعد دقائق ،غط إياد في النوم وصارت عيون سيمون تمر على وجه حنين كلما تنقل ببصره بين الصحيفة والنافذة ،وتكرر الأمر أكثر من م ّرة ،ثم قام من مقعده بهدوء ،واتجه إلى منتصف القطار، وأحضر ثلاثة أكواب قهوة ،قدم واحدة لها ،فاستغربت ولكنها ابتسمت وقالت :شكراً ،ثم وضع الكوب الثاني أمام إياد الذي اتصل شخيره بصوت القطار ،وأخذ كوبه وجلس يحل الكلمات المتقاطعة. استدرجت حنين انتباهه أكثر من مرة ،وظلت ألوان الشفق تتسلل من النافذة وتلاعب كستناء عينيها. كان شخير إياد وحده يراقب المكان ،ويرمي سيمون إعجابه نحو حنين ،وهي تمد بصرها نحو الحقول المشبعة بتغاريد المساء ،ثم يلتفت إلى الريف الذي بدا له راقصاً في موجاته وتلاعبه هي بنظراتها. 75
لم يتحدثا ،فشربت حنين قهوتها ،ثم ألقت بالكوب الفارغ في السلة المخصصة تحت الطاولة ،وكذلك فعل سيمون! على وقع الحركة ،استيقظ إياد ومال بجسده يميناً ويساراً وهو يقول: سأموت وأحيا وهذا المسمار ما يزال أمامي ،ثم أمسك كوب القهوة وسأل :لمن هذا؟ قالت :لك بعد وجبة النوم التي بدأت بدون سابق إنذار. قال ممتعضاً: لكن كيف اشتريت القهوة؟ هل قفزت من فوق الطاولة مثلاً؟ خرج سيمون عن صمته وهو يضحك ويقول بالعربية: أنا اشتريتها ،بالصحة والهنا! انقبض وجه إياد وتعثر في أفكاره ولكنه استدرك وقال: آه جميل بتتكلم عربي ،وسأله :فعلاً بتتكلم عربي؟ قال سيمون وهو يمنع الاحراج ويلطف الأجواء: أنا أتكلم شوية شوية. تأهب إياد كما لو أنه يريد خوض معركة. رحبت به حنين وهي تحاول إدارة حوار معه ،فسألهم: مسافرون إلى أي مدينة؟ أخرج إياد ورقة من جيبه وطلب منه: يا ريت تدلنا على هذا العنوان. 76
أخذ الورقة ولم يقرأها بشكل جيد وقال: لا أعرف المكان. قدم إياد وجهه هامساً: نحن مهاجران بطريقة غير شرعية حتى وإن بدا عكس ذلك ،حنين مهندسة تبتسم على الدوام كما ترى. قالت حنين :وإياد طبيب ،لا يخدعك شكله. صار سيمون قلقاً لكنه تظاهر بالألفة حتى شارف القطار على الوصول إلى المحطة الأخيرة. سحبوا شنطهم وع ّمت الفوضى في المكان وتزاحموا حتى وقف القطار وخرجوا ثلاثتهم. كانت شوارع ليون فارغة عند وصولهم في المساء ،واختلطت فرحتهما بأسئلة المبيت ،فهما لا يعرفان أحداً في المدينة ،وخشيت حنين أن يصير الأسفلت سريرهما ،لكن سيمون كسر حدة التوتر وهو يرفع يده ويقول: هذه ليون الجميلة ،والطقس مزاجه جيد.. قاطعه إياد: كيف يمكن إجراء اتصال بعائلتي؟ قال سيمون :لا أعرف ،ولكن تعال معي إلى الفندق ،على بعد خطوات من مركز المدينة ويمكن أن تتصل من هناك. كان المساء يغلق أبوابه على يوم حار ،واكتظ باب الفندق بالسياح، وراح سيمون يرتب إجراءات الدخول ،بينما جلس إياد وحنين في قاعة الانتظار. 77
دخلت موظفة الاستقبال برشاقة ،تحمل غمازتين على خديها، وشامة بارزة على رقبتها. وقف إياد ،فقالت: تفضل الهاتف بتعليمات من سيمون. فتح إياد شنطته وأخرج أرقام الهواتف ،وصار يتصل ويتصل.. تحدث إياد وحنين مع الأولاد والأقارب وبعض الأصدقاء ،حتى أغلقت المكالمات على حالة من الأسى وع ّم الصمت ،لكن الجيتار كان يصدح في المكان. جاء سيمون يستأذن ،وصعد يضع شنطته في الغرفة ،ويتأهب لقضاء أول ليلة في المدينة. كانت فرصة إياد الذي مد ذراعه نحو حنين وشدها إليه على أنغام الجيتار وغرقا في لهفة ،حتى باغتهما عجوز ثقيل الظل ،يسأل: لو سمحت معك ولاعة؟ قال إياد :لا ظل العجوز واقفاً بسؤال آخر: ممكن تطلب من أحد المدخنين على الطاولة؟ قال إياد بانزعاج: لا يوجد أحد على الطاولة ،ألا ترى! غادر بخجل ،فقالت حنين: العجوز كفيف يا إياد! عاد سيمون ،وقام إياد يسأله: 78
هل تأذن دخول الغرفة حتى نغسل وجوهنا ونغير ثيابنا العفنة؟ بلا شك ولكن اسمح لي بطلب الإذن من إدارة الفندق. استأذن ودعاهم إلى الغرفة ،وعاد إلى قاعة الانتظار يستمع للموسيقى ويتأمل الورود في الزوايا ،حتى أرخى التعب على جسده، وبدأ يستعيد تفاصيل الرحلة ،وشرد ذهنه إلى أكواب القهوة ،ولحظات نوم إياد ،والحقول التي لاعبت النوافذ. قاطعته نادلة الفندق: هل تحب أن تشرب شيئاً هذا المساء؟ قال :نعم قهوة أولاً ،ثم أرجو تجهيز ثلاث وجبات. انصرفت وعاد سيمون إلى تيه مشاعره ،يفكر فيما ستحمله ذاكرته من لحظات أمضاها مع هذين المهاجرين. بعد حوالي عشر دقائق ،دخل إياد وحنين إلى قاعة الانتظار فوجدا الطعام على الطاولة وباقة ورد ،سحب منها سيمون وردتين وأهداها لهما. شكراً يا سيمون شكراً ،ثم جلسا للعشاء وهما يحاولان إخفاء أي تفكير في اللجوء. صارت الساعة التاسعة ليلاً ،دون أن يقررا خطوتهما التالية. جلست حنين وداهمت صورة المبيت ذهن إياد ،وتسلل إليه الغضب ،فاستدار إليها وسألها: ماذا نفعل هنا؟ ولماذا لبسنا وتعطرنا ونحن لسنا بخير كما نبدو! أنت تعرفي لماذا لبست قميص خالد؟ قالت حنين: 79
الوقت غير مناسب للحديث عن خالد ،سوف نتذكره حين نجد مبيتاً الليلة. نزلت كلماتها كالملح على الجرح ،فقال إياد: سأحتفظ به مدى الحياة ،قتلوه بدم بارد يا حنين. ومضى يقول :كنّا نتجلى على البلح والرطب ،كان يقول لي: كول واشبع يا ورد ،هذا الرطب سقط على مريم البتول ،حتى تعرف ماذا تأكل! لم يفهم سيمون شيئاً رغم إنصاته ،وصار مكياج حنين لوحة على خدها ،بكت فاستعجل إياد وخرجوا من الفندق. أسرعت حنين في المشي وهي تسأل إياد وسط المدينة: ها قد وصلنا ،ماذا سنفعل؟ استدار إياد نحو سيمون وسأله :ماذا سنفعل؟ تنبه سيمون إلى عجزه ولم يقل شيئاً. وقف الثلاثة في حيرة ،ثم اقترح سيمون: الحديث مع أفراد الأمن هو أفضل حل. قال إياد: مستحيل بهذه الأناقة. قاطعته حنين :يجب أن نترك سيمون يكمل سهرته ونتصرف. هز إياد رأسه ،فتصافحوا وغادر سيمون. 80
مشى بضع خطوات والتفت خلفه ،فكانت ابتسامة حنين تشق ظلام السماء. أرخى الهدوء بثقله على المكان ،وبدا المشهد جنائزياً بعض الشيء حتى تلاشي سيمون عن الأنظار. قال إياد: انتظري هنا ،سأذهب لشراء زجاجة ماء. مشت حنين تعاين المحلات التجارية القريبة من النهر ،وتبحث عن أثر سيمون فيها. عاد إياد بعد دقائق ولم يجد حنين ،اختفت من المكان! صفن إياد لحظة وتفقد الما ّرة حوله ولم يجدها ،ثم رمى ببصره في الزوايا البعيدة ولكن دون جدوى. ألقى زجاجة الماء وصار يلف في كل الاتجاهات ،يدور على اليمين ثم يعود للشمال وهكذا حتى داخ! في تلك اللحظات كانت حنين تراقب شاباً يشبه سيمون يحتسي القهوة داخل أحد المحلات ،فاحتبست كلامها واختنقت بعدما أصابها ألم بدأ يتلوى في رأسها ،وفي لحظة سريعة التقى الوجع مع ضميرها الذي انفجر حين أدارت وجهها إلى إياد ،فاستيقظت عن سريرها في قطاع غزة وهي تسأل: شو بقية الحلم؟ قال :نمت نوماً عميقاً بدون أحلام ..قومي نشرب قهوة. 81
أبو الحساسين على مقربة من جدار أسمنتي طوله حوالي تسعة أمتار يجلس حاتم، معه علبة فيها معدات لصيد العصافير .جاء إلى المكان دون اكتراث بأبراج المراقبة المدججة بالسلاح على طول الجدار. كان يومه بريئاً وه ّمه أن يصيد بعض العصافير. استيقظ بحس مرهف يتلبد بين غرفة وأخرى ثم وضع خطته. كانت علاقته مع العصافير جدية لا تليق بطفل ،يظل بجوارها لساعات دون ملل ،بينما تشعر العصافير بالاختناق. تعود هذه العلاقة إلى نحو سنة مضت ،شاهد حاتم وقتها أحد المشاهير يعزف على آلة البيانو ،استمر التصفيق بعد انتهاء العزف وكان حاتم بجوار أبيه يطلب منه :بدي بيانو! خرج كأنه لم يسمعه. شعر حاتم بشيء من الانكسار وانتهت حماسته إلى ذبول ،فصار يذهب إلى حديقة خلف البيت ،ضجراً من قائمة الرفض التي يواجهها في البيت. بعد نحو خمس زيارات للحديقة ،صار يتتبع العصافير ،ويدقق في واحد من بين الأصوات التي تقافزت فوق الشجر ،صوت الحسون، كان مختلفاً والتصق في ذهنه وصار يقلده ويفكر في كيفية اصطياده وتربيته وإطعامه. 82
في ذاك اليوم ،جاء ندى الصباح بغزارة ،بلل أكمام حاتم وشعره الأجعد وهو يحمل معدات الصيد ويقاوم قطرات الماء أمام الجدار ،لا يبالي بالندى الذي ينسدل على وجهه. تق ّدم نحو مكان عاينه من بعيد ،ويراقبه مصور من ذوي الاحتياجات الخاصة ،أصيب برصاصة إسرائيلية ،فاختار أن يلاحق أنواع العصافير من كرسيه المتحرك ،لتوثيقها في كتاب ،يزور المكان الذي أصيب فيه بشكل دوري ويتصيد العصافير بكاميرته. كان حاتم يصنع حياة أخرى في ذهن المصور ،فقد استغرق نحو ساعة ملهياً مع الدود في صنارته وسوء حظه مع العصافير المتربصة ،ويب ّدل المصور عدسة تلو الأخرى وهو يرسم قصة حاتم بضربات الصور. اصطاد حاتم ثلاثة عصافير خلال ساعتين وبدا عليه التعب ،فقرر المغادرة وحمل أغراضه وهو يتفقد العصافير على أن يعود في اليوم التالي. يواجه حاتم مشكلة في إطعام العصافير ،لعدم توفر أي مصروف يومي. يستلف من عمته لشراء الخبز وإطعامها ،وأحيانا يجمع بقايا الطعام بمساعدة بعض الجيران والأصدقاء ،وتواجهه مشكلة أهم ،وهي قفص العصافير وثمنه الغالي ،لكن فكرة خطرت له وأراد تنفيذها. كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ،تسلل إلى أحد الغرف وسرق سلة المهملات المشبّكة وصعد إلى سطح المنزل وأخفاها ثم ذهب للنوم. 83
في الصباح توجه كل من في البيت إلى عمله ،فأخرج السلة ،ثم أحضر أربعة أكياس خشنة وألصقها فوق بعضها البعض وأغلق بها الفتحة العلوية للسلة ،وأمسك السكينة وقص أحد جوانب السلة وفتح باباً فيها ،جعله أكبر من ذاك الذي رسمه في خياله عندما زار عمه صفوت في السجن ،ثم ربط الباب بسلك كهربائي ،يفتحه ويلاحق العصافير في القصف كلما أراد اللعب معها. كان يضع القفص في غرفته ويفتح الباب ويفرج عنها وقت العصر ،ويظل يطاردها داخل الغرفة حتى يصاب بالتعب ،فيتوجه إلى المطبخ لالتهام ما تبقى من طعام الظهيرة ويفتت لها الخبز. في أحد الأيام ،ترصدته أمه ،ورأته متورد الخدين واشتمت رائحة عرقه ،فأمسكت به ،لكنها لم تفلح في معرفة ما يفعله بالضبط ،قال لها: خرجت للتو من حمام ساخن وتع ّرقت بسببه! رفعت أمه حصة من الطعام لأخيه الأكبر ،وراقبها حاتم فتسلل كالعادة لالتهام فطيرتين وقطعة دجاج ،ش ّمر عن ساعديه وبدأ يختلس الشرب من صحن اللبن ،فهاجمته وألقت القبض عليه ،وبدأت باستجوابه: أين كنت؟ فيك رائحة الطيور العفنة يا معفن؟ ظلت تهزه وهو يبحث عن حيلة سريعة ،لكنها أص ّرت عليه ،وبعد مراوغة وعدة محاولات للهرب اعترف على العصافير. قالت :يلا اطلع معي على السطح ،في أي زاوية تخبئ العصافير؟ وصل إلى زاويته التي يخبئ فيها كل شيء وهو ينظر بشيء من الغُلب. 84
أثار منظر سلة المهملات أعصاب أمه ،وبدأت تتلقف كلاماً من الشرق وتقذفه في الغرب: يا ريتك تصير سلة وأرميك تتكرر وترجعلي علبة مكبوس آكلك بسناني. صار يجري على السطح وهي تطارده بكف يدها وتنهال عليه بالشتائم. كانت نوبات غضبها المفاجئة تح ّول حياة أبناءها إلى جحيم، فأص ّرت تسأله: من أين جئت بالعصافير؟ ومن أعانك على سرقة السلة؟ ظل متبلداً ،فأمطرته بمزيد من الأسئلة ،حتى احتبس دمعه وانفجرت كلماته: بدي أطلق سراحها في الغرفة وألعب معها لما أشتاق لعمي صفوت في السجن! تركته أمه ونزلت مسرعة ،دخلت الغرفة وأغلقت على نفسها الباب. بقي حاتم على السطح يلعب في قدميه الخشنتين من جراء الصيد ولعب البنانير ،ويتفقد ضعفه وهو يحاور نفسه بصحبة الحساسين ويتذكر سهرات عمه صفوت وشاربه السميك ،كان يطلب منه أن يمسك بشاربه ويفتله من الجانبين. دخل شقيقه محسن وسأله: لماذا تضحك وحدك؟ انطفئ وجه حاتم وقال بصوت خافت: 85
شوارب عمي صفوت. تركه محسن وذهب إلى انطوائيته المعهودة وهو يقول: كل الجيران صارت تعرف قصة السلة والحساسين. قام يستعيد نشاطه وخرج من البيت ،فأحاطته الأسئلة على الباب: كيف حولت السلة إلى قفص؟ وكيف غطيت الفتحة؟ وحده أبو سمير أخذته العاطفة تجاه حاتم ،وكان يستشعر خفة ظله ويحبه ،وقرر أن يساعده فناداه في الشارع: تعال اليوم لزيارتي في مصنعي حتى أصمم لك القفص. أي مصنع؟ مصنع الحدادة في آخر الشارع. شكره حاتم وأكمل طريقه يلف على المحلات بحثاً عن فخ جديد للصيد. اشترى مجموعة خيطان للصيد ،ثم جلس على ناصية الطريق يشرب البراد وعند حلول العصر ،توجه إلى مصنع أبو سمير. دخل حاتم غير متفهم لفكرة القفص الحديدي ،مشى نحو أبو سمير وبدأ يرمي بأسئلته من بعيد: كيف سيكون شكل قفصك؟ ممكن تصمم القفص مع شمسيّة؟ كان صوت ماكينة القص حاداً ،لكن أبو سمير هز رأسه واقترب حاتم يسأله: كم من الوقت تحتاج لتصميم القفص؟ 86
نظر إليه وظل منهمكاً في التحضير ،يلبس نظاراته ضد لهب اللحام وسماعات عازلة للصوت. زاد ذهن حاتم انشغالاً بالفرق بين قفصي البلاستيك والحديد وملائمتها لأجساد العصافير ،وانزعج من قسوة المكان ومنظر الحديد ووحشة الصدأ. لم تتجاوز أفكاره حدود القفص البلاستيكي ،وتنافست براءته مع ضوضاء المكان حتى شعر أن رائحة الحديد وحدها قد تقتل العصافير وأن لونه البني القاتم ربما يصيب الحساسين بالعمى إذا ما دققت فيه النظر كل يوم بعيونها الملونة. مر الوقت بسرعة وهو يخطف هواجس حاتم ،حتى انتهى إلى قرار بأن قفص البلاستيك الذي صنعه أفضل من القفص الحديد ،لكنه تعايش مع ارتباك اللحظة بسبب وقوف أبو سمير إلى جانبه. مشى في المصنع وهو يلعب في قطع الحديد ،وشعر بثقل الأفكار على رأسه الصغير ،وصار يبحث عن منقذ من هذه الورطة حتى د ّوت صرخته في المكان وسقط حاتم على الأرض ،فأسرع العمال إليه وقد انتبهوا إلى سقوط قطعة حديد على قدمه ،كان يحركها على الرف وهو مستغرق في التفكير. جرى أبو سمير والعمال نحوه ،هل أنت بخير؟ آه بخير ،وصار يبكي لما رأى أبو سمير لعجزه عن تبرير حاله شرود ذهنه ورفضه قفص الحديد. وضعوا له الثلج على المنطقة التي احتبس فيها الدم وقاموا بمساعدته على الوقوف ،فهدأ قليلاً واطمئن الجميع بأن الإصابة 87
طفيفة ،بدون أي كسور ،ثم تع ّكز على أحد العمال ومشى معه حتى أوصله إلى بيته. سبقه الخبر إلى عائلته فتج ّمع الجيران وامتلئ البيت بالأقارب، وظل الحال هكذا حتى اليوم التالي والمزيد من الزوار المعاتبين والناصحين ومن بينهم أبو سمير ،دخل يقول :هذه الهدية ،قفص حديد مطلي باللون الأزرق لعيونك الحلوين. ابتسم حاتم واشتعلت حيرته ،فقال: مثل لون باب السجن لما زرت عمي صفوت قبل سنة. في تلك الليلة لم ينم حاتم واختلطت في ذهنه الكثير من الصور وأصيب بالأرق ،فقام من مرقده وحمل معه علبة الدواء بحجة الألم، وتسلل إلى المطبخ لتحصيل بعض الطعام للعصافير ،ثم جهز أغراض الصيد وخبأها وعاد إلى فراشه. كالعادة ،ذهب كل أفراد عائلته إلى أعمالهم في الصباح ،وأطلت أمه كي تتفقده فتظاهر بالنوم ،وفور خروجها ،نهض يعرج على قدمه، فتح الباب متسللاً وهو يتفقد الشارع ،وخرج للصيد بدون أي تفكير بأوجاعه. أخذ معه العصافير الثلاثة في القفص وتوجه إلى مكان الصيد المعهود بجوار الجدار ،وعند وصوله كانت الشبّورة تملئ الجو ،ولم يستطع رؤية أي شيء فقرر الاستراحة فوق تلة مجاورة حتى تف ّرق الشمس هذا البياض. صعد إلى التلّة وجلس يلاعب العصافير ويج ّهز فخ الصيد وبعد حوالي نصف ساعة هدأت الشبّورة ،ومر عليه شاب يبيع الشاي ،لكن حاتم ليس في جيبه فلساً واحداً كي يشتري الشاي ومع ذلك ناداه: 88
تعال ،معك كأس فارغ؟ سأله بحرص :فارغ لماذا؟ قال حاتم :لتعبئة ُطعوم العصافير. اعتذر له :الكاسات حقها فلوس. ظل حاتم يبلع ريقه ،حتى ذهب بائع الشاي دون مبالاة ،وبعد دقائق عاد مرة أخرى يجرف على وجهه علامات الحيلة ويسأل: هل تبيع العصافير؟ كم سعرها؟ أربك سؤاله تفكير حاتم ،وتح ّول الشاي إلى صورة سم يهري في مذاقه ،فقال :عصافيري ،ما بدي أبيع ولا أشتري. تغلّب على ريقه دون أن يبلّه بشفة شاي وترك البائع وأسرع الخطى نحو مكان الصيد لا يبالي بغير العصافير. ش ّمر عن ساعديه ،وزرع الفخ بعد أن وضع فيه ال ُطعم ،وم ّد الحبل على بعد نحو عشرين متراً وجلس يراقب. الشبّورة ما زالت تحتل المكان وتحاول التلاشي على بعد أمتار منه ،وهو يستمع إلى تغريد الحساسين في المكان دون أن يرى إلا بعضها في المساحات التي تلاشت فيها الشبورة. استغرق حاتم الكثير من الوقت وهو يتنقل بين أغراضه وفخ العصافير بسبب قدمه المصابة ،كما أن حركته البطيئة حالت دون الركض للإمساك بعصفور ع ِلق في الفخ ونجا بعد التقاط ال ُطعم بمهارة وف ّر في السماء ،فرجع حاتم وحمل الفخ ،ثم وضع ُطعماً جديداً لعصفور آخر ،وعاد إلي حيث يجلس للمراقبة ،وبينما هو عائد إلى مكانه ،شاهد لوناً كثيفاً يصل إليه ويختلط مع الشبّورة ،وبدأت 89
العصافير تتلاطم داخل القفص ،ولم يستطع الوصول إليها بسرعة، فصار يجري في كل الاتجاهات حتى اختفي في البياض. في صبيحة اليوم التالي ،كان بائع الشاي يقف وحيداً محاطاً بالناس، بدون ب ّراد الشاي بعد أن رماه وهرب من الغاز السام الذي أطلقه جنود الاحتلال من أبراج المراقبة ،لكنه حمل قفص العصافير الميّتة وصورة حاتم في الجريدةُ ،كتب فوقها “مات أبو الحساسين في البياض”. 90
الصبار الأحمر قبل أن يغلبه النعاس قام يجري على وقع ضربات الباب في منتصف الليل على غير العادة. فتح أبو هاني :آه هذا أنت! كان صبري شاحب الوجه ومتكدر ،سأله :هل أنت بخير؟ امتزج صوت صبري بسكون الليل وقال: يبدو لي أن الأنانية هي الحل ولكني أكرهها. استغرب أبو هاني: لم أفهم شيئ ،تعال داخل البيت ،قل لي عساك بخير! دخلا إلي الصالة وهبط صبري على الكنبة بكل ذبول: أنا متّهم بدون ذنب ،وما فعلته في السنوات الماضية لم يثمر عن شيء وت ّم نسفه قبل ساعة وصرت أشعر بقلق بعد كل ما سمعته! وماذا سمعت؟ طلب كوب ماء وته ّرب من الإجابة. قال أبو هاني :تفضل ،يبدو أن الموضوع يخنق تفكيرك ولكن مهما كنت منزعجاً ،يجب أن تحيط علمك أن ما سمعته ربما يكون كلاماً فارغاً لأن أي أحد ممكن يتعرض للاتهام ،وأنت إنسان حر ،ويكفي هذا الشعور حتى تملك القوة. لم يشعر صبري بأي ارتفاع في المعنويات: 91
الحرية شيء وما حدث لي قبل ساعة شيء آخر. قل لي ماذا حدث؟ صبري :كنت أسترق السمع إلى حوار بين مجموعة رجال في الحارة تكلّموا عنّي بشكل سيء ،واستمر الحوار لوقت طويل تحت شباك غرفتي حتى شتمني أحدهم بأقذر الكلمات. قال أبو هاني في محاولة لطمأنته: عادي ،الناس تتحدث عن بعض بحق ومن غير حق ،والشتائم في كل شارع ،ثم قام أبو هاني ورمى يده على كتف صبري: لا تغرق في القلق واحكي. قال صبري :بصراحة ،اتهموني بالجاسوسيّة! أوف ،وما الدليل على ذلك؟ قام بانزعاج ،لكن أبو هاني أمسك به :أرجو أن تهدأ ،جئت تشكو همك وأنت على يقين أني سأقف معك حتى تثبت براءتك. كان دوي إطلاق النار أسرع ،وسمعا صراخاً في الخارج ،وتردد اسم جاسم الذي كان بحوزة مسلحين وسحبوه وهم يبحثون عن صبري. زج به أبو هاني في مكان آمن داخل البيت وأغلق عليه الباب وخرج إلى الشارع يسأل: شو القصة؟ فزعتونا في نص الليل. تعالت أصوات الناس الذين تج ّمعوا في المكان وبعد مشادات أطلق مسلحون النار على جاسم وغادروا. 92
ع ّمت حالة الفوضى وعاد أبو هاني إلى البيت محملاً بالخوف، وسار نحو صبري ،فتح عليه الباب: أنت بخير؟ قال وهو في حالة ذبول: القهر له عزاء ،وهذه القسوة جعلتني أشعر بالبرد على عكس ما كان في داخلي من حب للناس ،فالظلم يا أبو هاني يجرحني تماماً كما يجرح الشوك ألواح الصبار ،ولو سمعت التفاصيل لعرفت الحقيقة. جلس أبو هاني بجانبه على الأرض وهو يقول: الوضع صعب في الخارج ،ولكن أنت تعرف أني أحب الصبّار الأحمر وخاصة إذا وضعته في الثلاجة وأكلته بارداً ،قل لي ما تفكر فيه. قال صبري: لا أفكر في شيء ولا أخون نفسي لأنه خيانة النفس خيانة للفكرة. أي خيانة تقصد وأي فكرة؟ صبري :أصعب شيء أن تعرف الحقيقة ولا تبوح بها حتى لا تسبب الأذى للناس. ضرب أبو هاني يده على الحائط وهو يقول: أنت تثير أعصابي ،الوضع يغلي في الخارج وأنت تسرح وتمرح في كلام لا أفهمه! أي حقيقة؟ وماذا عن جاسم؟ تو ّشح صبري بالإرهاق ونظر إليه بعجز وقال: 93
النميمة لها أثر قاتل ،هكذا كانت تقول أمي وتؤكد أن أي امرأة تربي على المشقة ،يعني أنها لا تجيد إلا الترف ،فأنا بريء وهش يا أبو هاني لأنها كانت تعلمني الحب ،والحب حالة نضج للروح وبدونه تصير الإرادة مضطربة ،مثل حالتي الآن ،وصلت إليها رغماً عني وبدأت أشعر بالكره وأخشى أن أفقد السيطرة عليه. شعر أبو هاني بالإرهاق: هذه ليست وصيته ،قل لي ما الذي يجري! ظل صبري صامتاً فقام أبو هاني وهو يتمتم: يبدو ليس لديك نيّة في الكشف عن التفاصيل ،ثم خرج من باب الغرفة لا يعرف ماذا سيفعل وماذا سيقول! دق باب البيت ،فجرى مسرعاً باتجاه صبري وطلب منه الصمت والاختباء ثم راح يفتح الباب فأطل زياد بوجه عابس :اسمح لي بالحديث في أمر خاص. دخل الاثنان إلى الصالة واستأذن أبو هاني لإعداد القهوة، فاستغرب زياد استعجاله ،لكنه انتظر حتى عاد ومعه القهوة ثم باغته بسؤال: ما قولك فيما جرى؟ شعر أبو هاني بارتباك ،فاستأذن مرة أخرى بح ّجة صحن البقلاوة، وعاد دون أن يسعفه الموقف للعثور على إجابة ،جلس على الكرسي ثم كرر عليه السؤال: ما رأيك فيما جرى؟ 94
ظل صامتاً يحاول استجماع قوته لتبرير وجود صبري في بيته إذا ما انكشف الأمر فقال :رأيي أن الصمت والتكتم على بعض الأذى ليس ضعفاً بل مسؤولية. زياد :أي أذى تقصد؟ إطلاق النار على جاسم؟ لا أعرف ،الأخبار عندك! قال زياد :الانزعاج واضح عليك ،بماذا تفكر؟ الحياة كلها أسرار يا زياد ،ولا يقين فيها إلا الموت ،ولا يمكن أن أتخيل صبري غائب عن الحياة ،فموته يعني أن كل البيت سيكون صورة خفيّة لجسده ،وهذا الأمر يكفي لإرباك نفسي وجعلها في عداد الأموات الأحياء ،فهل يمكن العيش بدون سهراته؟ قال زياد :ما يحدث الآن يتجاوز حدود السهرات. هذا صحيح ولكن كل إنسان سيدفع ثمناً ما في حياته ومن يحدد نوع الثمن وحجمه هما الروح والضمير ،ولا يمكن اتهام صبري بدون دليل وتحكيم الضمير. قام زياد وغادر البيت بدون أي كلمة ،ومجرد أن صار في الخارج وقطع الطريق وصل سبعة مسلحين نزلوا من سيارة أمام بيت أبو هاني وبدأوا بإطلاق النار واقتحم بعضهم البيت. شاهد زياد المنظر وجاء يجري للحديث معهم ولكن أحدهم دفعه عن المكان حتى كاد أن يسحب مسدسه ،ولكن كثرة السلاح وغموض القصة دفعاه للخنوس ،وبعد لحظات كان صبري بحوزتهم ،سحبوه وزجوا به في السيارة وغادروا. غرق زياد في حيرة وقابله أبو هاني بكثير من الخجل ،ثم جلسا وهو يقول: 95
هذا تعريف العيب يا أبو هاني ،فأنت أخفيت عني وجود صبري في البيت ،ولم تطلعني على تفاصيل القصة. قال أبو هاني: لا حاجة لأي لوم الآن ،فأنا لا أعرف شيئاً بل أخشى أن أصبح متهماً معه دون أي دليل. إذا بقيت متكتماً على القصة فستصبح متهماً حتى لو كنت بريئاً، ولذلك قل لي ما عندك. أقسم أبو هاني أنه لا يعرف شيئاً ،وأن صبري ظل متكتماً ،ثم قال: أنت تعرف أن فقد النفس ليس أمراً عادياً وقلبي الضعيف لا يقوى على تح ّمل الفقد. قال زياد: كلامك في كفة وغياب صبري في كفة أخرى ،وأنت ساعدت في اعتقال الرجل بسبب كتمان السر ،كم ساعة بقي عندك؟ وأين خبّأته؟ أخذه أبو هاني وذهبا إلى المكان الذي اختبأ فيه ،أضاء القبو فوجد رسالة بخط اليد ،رفعها وبدأ يقرأ ،لكن الصوت خارج البيت حال دون إكمال أول سطر. سارع زياد وأبو هاني إلى الباب وهما يتهامسان ،قال له زياد: لن نتصرف قبل قراءة الرسالة ولو شعرنا بأي خطر ،يمكنك الذهاب وقراءتها في القبو ،وعندما تعود أعطني إشارة حول الأمر. فتح أبو هاني الباب ،فكان عدد من الرجال يستأذنون بالدخول، فرحب بهم وقد بدا واضحاً أن الأمر يخص ذات القصة. 96
غمزه زياد حتى يقرأ الرسالة ،فغاب نحو عشرة دقائق تحدث خلالها زياد عن الأخبار المتداولة ،فقال أحدهم: الكل صار يعرف أن مفتاح القصة عندكم ،فما الجديد؟ سألناه ولم يكشف لنا عن شيء. قال أحدهم: نتفهم أن أي كلام زائد بين الناس يجب أن نمسكه حتى لا نفتح باب الشائعات ،ولكن بدنا نعرف طرف الخيط. لم يجد زياد ما يقوله حتى دخل أبو هاني يحمل فناجين القهوة ويعطي إشارة بعينيه ،لم يفهمها زياد ،وصار المشهد ملتبساً وتهامس الجميع فرفع أبو هاني صوته: المشكلة أن صبري وجاسم مختلفين في الطباع ،ولكن في النهاية أنا منحاز للحق ،ولازم في بعض المواقف نلتمس العذر للناس. قفز فراس من بين الحضور وسأل: هل تقصد أن نقبل صفتهم كجواسيس؟ ومضى يقول :القصة لا تحتمل أي موعظة ،فإذا كان جاسوساً لازم يلقى مصيره ،كلنا مع الثأر والبادئ أظلم. قال زياد: بدون انتقام ولا ثأر ،هذه بلبلة والمفترض ما نجرح الناس والمغلوبين على أمرهم. سأل فراس :قصدك جراح الجواسيس تستحق التعاطف وجراح عائلات الشهداء مج ّرد علبة بوظة؟ 97
بدا زياد في أقصى انفعال ولكنه أظهر تماسكاً وهو يقول: هذا استخفاف في الحكي! قام فراس بعصبيّة وغادر البيت. صار الجميع يتهامسون بشكل جانبي ،وقال أبو هاني: أصعب خسارة ليست جاسم وصبري وإنما خسارة القيم. هكذا استمر الحوار بينهم حتى وقت متأخر إلى أن دخل إلى البيت مسؤول يدعى أبو موسى ،وقف زياد ورحب به ،فطلب منه الحديث بشكل منفرد ،فذهبا على انفراد وهمس في أذن زياد: كتب صبري ورقة وتركها هنا ،صحيح؟ أين الورقة؟ خشي زياد تأكيد الأمر دون قراءتها وحفاظاً على روح صبري، فقال: القصة غامضة ويمكن أن تكون ورقته في أي مكان. شعر أبو موسى بالخداع: معقول ،يعني الأمور معقدة ،ولكن الليلة سنعرف التفاصيل. غادر وقرر أن يشبع صبري من الضرب بسبب كذبه بشأن الورقة التي قال إنها تتضمن التفاصيل ،ولم يعثر عليها. اختفى المسؤولون عن الأنظار وزحفت الأخبار على امتداد المخيم ،وصار بيت أبو هاني كتلة سوداء وقد خيم الحزن في أرجاء البيت وأخذ يرتب المكان بعد أن غادر الجميع باستثناء بعض الجيران الذين ظلوا أمام البيت يستطيع سماع صوتهم يتحدثون عن القصة، وبعد حوالي نصف ساعة عاد أبو موسى بصحبته مجموعة مسلحين استأذنوا أبو هاني وفتشوا البيت وحققوا معه فأعطاهم الورقة: 98
لماذا أخفيتها؟ فيها ألغاز خشيت أن يفهمها أحد. أخذها أبو موسى وراح يقرأها في زاوية البيت بصحبة مساعده ثم عاد يقول بغضب: إن جاسوساً يدعى أنور نشر شائعة ضد صبري وجاسم للتمويه على تخابره مع إسرائيل واختفى من المخيم. 99
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120