Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة نبط الينبوع_شرط استئناف التاريخ المبدع_أبو يعرب المرزوقي

سلسلة نبط الينبوع_شرط استئناف التاريخ المبدع_أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-02-25 09:23:17

Description: سلسلة نبط الينبوع_شرط استئناف التاريخ المبدع_أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬‫‪11‬‬‫‪16‬‬‫‪21‬‬‫‪27‬‬‫‪32‬‬

‫معضلة المعضلات التي جعلت التشيع ينكص للوساطة والوصاية رسميا ويجعلهما مقومي‬‫الدين والتسنن ينكص إليهما خفية في الأفعال ويواصل القول بنفيهما في الأقوال لا يمكن‬‫تفسيرها بمجرد إرادة النكوص لكأن أصحابها‪-‬وإن كان ذلك ممكن وموجود‪-‬شياطين أرادوا‬ ‫استمداد سلطة بتحريف الإسلام‪.‬‬‫بل ينبغي أن نعترف بأن الأمر موضوعيا حقا وأن الاستغناء عن الوساطة الروحية‬‫والوصاية السياسية ليست بالأمر الهين وهو غير ممكن من دون بديل شديد التعقيد لم‬‫يكن بالوسع تحقيقه من البداية رغم أن السنة تنسب الاستغناء عنه للخلفاء الراشدين‬ ‫والشيعة تعتبر ذلك كفرا بما تنسبه لآل البيت‪.‬‬‫وأكثر من هذا فالسنة لا تنسبه إلى الخلفاء الراشدين بمن فيهم الخليفة الرابع بل هي‬‫تصف ذلك بكونه سلوكا فيه إشارة إلى معنى الاستغناء عن الوساطة والوصاية وهو بالأساس‬‫ما اعتمد في التواصل بين المتفرغين للمعرفة والمكلفين بالسياسة بالتواصل الدائم مع‬ ‫الجماعة باعتبار الأمر والنهي فرض عين‪.‬‬‫وإذن فهم قد كانوا وإن بصورة لم تصل إلى مستوى التنظير الصريح والتحول إلى‬‫مؤسسة كانوا يعلمون طبيعة البديلين ما هما‪ .‬لكن ما أسميه وساطة ووصاية ليس في وجود‬‫من يختص في المعرفة ومن يكلف بالسياسة بل عدم التمييز بين ضرورة تقسيم العمل فيهما‬ ‫وبين اعتبار ذلك كافيا لإلغاء فرض العين فيهما‪.‬‬‫فمعرفة القانون لا تجعل صاحبها سلطة سياسية ومعرفة النصوص الدينية لا تجعل صاحبها‬‫سلطة روحية وهما لا تغنيان اي مواطن عن معرفة الضروري من القانون في حياته السياسية‬‫والمدنية والمؤمن عن معرفة الضروري من الدين في حياته الروحية والدنيوية‪ .‬وهنا نفهم‬ ‫البديل ما هو‪.‬‬‫البديل ليس نفي التخصص في القانون والتخصص في معرفة المرجعية الروحية للجماعة‬‫بوصفهما جزءا من تقسيم العمل في الجماعة بل هي تنفي أن يصبح هذان التخصصان‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫مصدرا لسلطة سياسية وروحية تلغي واجب المواطن السياسي وواجب المؤمن الروحي‪ :‬كونه‬ ‫ذاتا فاعلية بذاتها فيهما معا وليس منفعلا بهما‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت الوجه الموجب هو الحرية الروحية والحرية السياسية أما الوجه‬‫السالب فهو التحرير من هذين الدورين للوسيط والوصي اللذين يلغيان واجب المواطن‬‫والمؤمن في أن يكون ذاتا سياسية وذاتا معرفية لا تقتصر على الروحي كمعرفة نصية بل به‬ ‫شرطا في العلاقتين العمودية والافقية‪.‬‬‫وبعبارة ذات دلالة يفهمها الجميع‪ :‬تحرير الإنسان من سلطة الوساطة الروحية ومن سلطة‬‫الوصاية السياسية تلغيان \"ايبسو فاكتو\" عبارة الكريهة بين الخاصة والعامة وبين الرسوخ‬‫في العلم المزعوم رسوخا فيما يتجاوز المعرفة بعالم الشهادة والاحاطة بما يعتبر القرآن‬ ‫تأويله مقصورا على الله‪.‬‬‫فيكون أصل المعضلة كله هو دعوى البعض أنهم قادرون على معرفة الغيب بقيسه عالم‬‫الشهادة‪ .‬ولهذا الوهم مصدران‪ :‬أحدهما يزعم الكشف والعلم اللدني والثاني يزعم‬‫المعرفة العقلية مطابقة لحقيقة الشيء على ما هو عليه‪ .‬لذلك ورغم خصامهما عامة فإنهما‬ ‫يجتمعان في كل رؤية كل باطني حتى وإن قدم اللدنية‪.‬‬‫وأعتقد أن أول من تفطن لهذا الاجتماع عند الباطنية والتعليمية هو حجة الإسلام في‬‫كتابه فضائح الباطنية عندما بين ان المقدمات التي تنبني عليها الرؤية الباطنية للقرآن‬‫وخاصة نظرية التأويل التي لم أر أحدا فضحها مثله واحدة في دعوى العلم اللدني والعقلي‬ ‫إذ يزعمان العلم المحيط بالغيب‪.‬‬‫ومن يدرك هذه الفطنة الغزالية يفهم علة اعتباري إياه مؤسس الخطوة الأولى لتجاوز‬‫الفلسفة القديمة ونظرية المعرفة المطابقة بمفهومه الثوري الذي سماه \"طور ما وراء العقل\"‬‫حتى وإن عاد لاحقا وكأنه نسي ما بينه في الفظائع فاعتبره ‪-‬ربما‪-‬لم يقله صراحة أنه‬ ‫الكشف الصوفي‪.‬‬‫فنفهم حينئذ لماذا صار الغزالي سينويا إذ كما بين ابن خلدون فابن سينا كأنه لم ينس‬‫تكوينه الباطني في شبابه عندما قال قولته الشهيرة في الحاجة إلى ما يشبه القطب أو‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫النبوة شرطا في وجود التشريع وهي قولة دحضها ابن خلدون في المقدمة بالعقل والتجربة‬ ‫التاريخية‪.‬‬‫ومن يقرا كتاب الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد دون أن يكون له نباهة الغزالي هذه‬‫يظن الكتاب نصرة للسنة السلفية ضد الأشعرية‪ .‬لكنه في الحقيقة كما بين ذلك ابن تيمية‬‫لاحقا وله ما للغزالي من النباهة وأكثر فيه علامتا التطابق بين دعويي اللدنية والعقلية‬ ‫والعلم المحيط‪ :‬إنه إلجام العوام‪.‬‬‫فاستنتج ابن تيمية منه أنه ينفي أن يوحد غيب محجوب على الفلاسفة ‪-‬بل هو ذهب في‬‫كلامه على كلام الله أن الفلاسفة مثل الرسل ينفث الله في روعهم وحيا يقولونه عقليا‪-‬‬‫وأنه من ثم يعتبر الخاتم لم يبلغ الحقيقة بل أخفى على العامة ما ينصح الفلاسفة بإخفائه‬ ‫ويتهم المتكلمين بالتشغيب على الشرع‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالرشديون العرب الجدد ‪-‬مثلهم مثل المعتزلة العرب الجدد‪-‬متخلفون حتى‬‫بالقياس إلى الغزالي لأنهم أولا يعتقدون أنهما يمثلان العقلانية وأن علمهم علم بالأشياء‬‫على ما هي عليه وأن معارضيهم ظلاميون وأنهم هم أي الرشديين والمعتزلة الجدد‬ ‫تنويريون مثل ابن رشد والمعتزلة‪.‬‬‫ويتوهمون أن هذا الموقف الأيديولوجي تفلسفا ثم يصطف معه الحداثي الماركسي الذي‬‫يدعي المقابلة بين النص والواقع ويحاول الولوج إلى الواقع من دون كل التراث الذي‬‫يتوهمه نصوصا وليست مناظير لما يسميه الواقع الذي لا يدركه على ما هو عليه أحد إلا‬ ‫الله إن آمن به‪.‬‬‫والاعجب في ذلك كله أن هؤلاء يعتبرون أنفسهم خاصة وأن غيرهم عامة وأنهم سلطة‬‫علمية وأن فكرهم هذا يمكن أن يكون مخرجا من التخلف في حين أن سر كل تخلف هو هذه‬‫السذاجة الفلسفية التي تعتبر الواقع هو ما تؤسس عليه المادية الجدلية رؤيتها ولا يرون‬ ‫أنها رؤية وليس واقعا‪.‬‬‫وقد ربيت أجيال وأجيال بهذه الرؤى الساذجة التي تصورت الفلسفة والفكر اللذين‬‫يتجاوزان المباشر من الأمور التي لا فائدة منها وأن الارتماء المباشر في العمل بما هو جاهز‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫من الايديولوجيات والتبسيط الصحفي تنويرا وتحديثا مغنيين عن أعماق العلاقتين‬ ‫العمودية مع الطبيعة والافقية مع التاريخ‪.‬‬‫وليس للفكر والعقل والتنوير والإبداع وهلم جرا من حقيقة ثابتة غير التي تمثل عصر‬‫الغوص في هذين العلاقتين غوصا يترجم في استرماز هو بالقياس إلى ما يسمى عقلا وفكرا‬‫مثل الماء بالنسبة إلى الحياة البحرية‪ .‬فإذا كان ماء الفكر بركة آسنة فالحصيلة هي ما نرى‬ ‫من نكوص إلى بسيط الايديولوجيات‪.‬‬‫ولهذه العلة فلا فرق عندي بين نوعي الكاريكاتور الذي يدعي التأصيل والذي يدعي‬‫التحديث لأن الخلط بين الإسلام ومآله في عصر الانحطاط والخلط بين الحداثة ومآلها في‬‫عصر الاستعمار لا يختلفان في شيء‪ :‬كلاهما يخلط بين ما يتكلم باسمه وقشوره التي يظنها‬ ‫مغنية عن استنطاق بذوره‪.‬‬‫ولذلك فعندما تسمعهم يتكلمون على الاحتكام للواقع تدرك أنهم من حيث لا يعلمون‬‫يعترفون بأنهم غارقون في القشور إلى الأذقان‪ :‬فالواقع عندهم هو الامر الواقع الذي هو‬‫ظاهر الموجود فيعودون منه على أنه حقيقة الموجود ويجعلونه عين المنشود فتقلب العلاقة‬ ‫ويصبح الحاصل هو الواجب‪ :‬منطق التقليد‪.‬‬‫كلاهما سلفي بالمعنى المقيت‪ .‬فالسلف عندهم فقد دلالة الريادة بالإبداع‪ .‬إنه السابق‬‫بمعنى المتقدم في الزمان الذي ينبغي محاكاته لتقدمه فيه‪ .‬لكن التقدم بمعنى الريادة هو‬‫التقدم في نظام الامر نفسه من حيث صلته المباشرة بالبذور وما فيها من إبداع خلاق‪.‬‬ ‫والاستوحاء للإبداع وليس للتقليد‪.‬‬‫ومن ثم فسؤال البذور يشبه ما يسميه الغزالي إزالة الرمال عن المنبع حتى يفتح مجرى‬‫الماء من الينبوع وليس الاندفان في الرمال التي توقف السيل وتغرق في الجمود‪ :‬قشور‬‫الاصالة وقشور الحداثة‪ .‬تلك هي المعركة التي تدور بين الكاريكاتورين والتي لا يمكن‬ ‫الاستئناف من دون تشخيصها مرضا يعالج‪.‬‬‫والعلاج الذي يسكن الأعراض ليس علاجا وإن كان ربما ضروريا في مرحلة البحث عن‬‫التشخيص لمعرفة علل الداء والشروع في بيان طبيعة المرض وكيفية فشوه في بدن الحضارة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وتعطيل ما به يحقق الإنسان وظيفتيه مستعمرا في الارض ومستخلفا أعني ما يعطل قدرته‬ ‫على علاج العلاقتين‪.‬‬‫ولا يمكن القيام بذلك من دون وضع نظريات تحدد مسار التعليل أو مسارب الفشو‬‫المرضي في جسم الكيان الحضاري للجماعة‪ .‬وأعتقد أني قد تقدمت في ذلك وعلي الآن أن‬‫أبين كيف يتم التحرر من العطالة التي حالت دون المسلمين وعلاج العلاقتين العمودية‬ ‫والأفقية للحماية والرعاية الذاتيين مقومي السيادة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫من عجائب عمل الفكر الإنساني أن كل لحظة من حاضره باعتباره في أفول دائم أو في‬‫صيرورة دائمة وسيلان أبدي الثابت الوحيد فيه هو انشداده المضاعف الذي يشبه أبشع‬‫طريقة في التعذيب لدى المجتمعات الوحشية التي تشده إلى فرسين في اتجاهين متقابلين‪:‬‬ ‫فهو ممزق بين تذكر الماضي وتوقع المستقبل‪.‬‬‫لكن هذا الانشداد إلى تذكر الماضي وتوقع المستقبل الذي يجري مع الحاضر الذي لا‬‫يتوقف لا يمزق الإنسان بل هو عين حياته التي هي تجعل الحاضر محيطا بالماضي والمستقبل‬‫بفضل الاسترماز‪ :‬ومعنى ذلك أن الحدين الماضي والمستقبل موصولان بفضل أنظمة‬ ‫الترميز التي تجعل الأنسان يطفو على الزمان‪.‬‬‫وهذه الحقيقة الانثروبولوجية (بالمعنى الفلسفي وليس بمعنى العلم الوضعي أي نظرية‬‫الإنسان كما نقول ثيولوجيا أي نظرية الله وكسمولوجيا أي نظرية العالم وبسيكولوجيا أي‬‫نظرية النفس إلخ‪ )..‬هي التي ينساها أدعياء محاكمة النصوص بالواقع‪ .‬فدون الإنسان‬ ‫وهذا الواقع المزعوم كل التاريخ الإنساني‪.‬‬‫أو بصورة أدق كل الاسترماز الذي يترجم مقدار نفاذ الإنسان إلى اسرار الطبيعة‬‫وقوانينها (العلاقة العمودية) وأسرار التاريخ (العلاقة الافقية) أو التبادل والتواصل بين‬‫الإنسان والعالم الطبيعي والعالم التاريخي أي المبدعات الرمزية وتطبيقاتها وهي نفاذ إلى‬ ‫ما نسميه الواقع وحجاب دونه في آن‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت الزمان التاريخي بخلاف الزمان الطبيعي مخمس الابعاد وليس‬‫مثلثها‪ :‬فهو ماضي الاحداث والأحاديث التي تدور حولها أو الاسترماز بكل أصنافه (العلمي‬‫والأدبي وحتى الخرافة والايديولوجيا) وهو أحاديث حول المستقبل بنفس المعاني تعد‬ ‫للأحداث التي لم تحدث بعد‪ .‬وذلك هو الحاضر‪.‬‬‫الحاضر هو إذن أحداث الماضي وأحاديثه وأحاديث المستقبل وأحداثه وهو لحظة سيالة‬‫لا تتوقف مشدودة إلى البعدين من الماضي في الحاضر ومن المستقبل فيه‪ .‬وما لم يندرك‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫علاقة الحدثين من خلال الحديثين ومن خلال الاحتكام المتبادل بينهما فإن كل كلام على‬ ‫وعي بالحاضر تخريف وتجديف‪.‬‬‫وقد يبدو في ذلك شبه دور (ساركل فيسيو) لأن محاكمة الحديث بالحدث أو الحدث‬‫بالحديث قد يعني أن الوصل إلى أحدهما من دون الثاني ممكن‪ .‬وإذا كان ذلك مستحيلا‬‫في الطبائع فمن باب أولى أنه مستحيل في الشرائع‪ .‬ففي الطبائع يمكن القول إن الحدث‬ ‫موضوعي ويوجد خارج الذات نعود إليه دون ما قيل حوله‪.‬‬‫بمعنى أننا نتصور قابلية الفصل بين الموضوعي والذاتي في الطبيعة‪ .‬ونتصور أن الأمر‬‫يتعلق بالطبيعة في ذاتها وليس بما كان يراه منها أصحاب الحديث حولها‪ .‬وهنا لا بد من‬‫التذكير بأهم فكرة في فلسفة هيدجر‪ :‬فهو ركز على الفرق بين مفهوم الطبيعة في العلوم‬ ‫الحديثة ومفهومها في الفلسفة القديمة‪.‬‬‫وأذكر أني قبل ذهابي إلى ماليزيا درست ميتافيزيقا أرسطو في طبيعياته‪-‬السماع‬‫الطبيعي‪ -‬واعتمدت النصين الفرنسي والألماني وبعض فهومها الحديثة فكان أن حدثت لي‬‫مفاجأة لم أكن اتوقعها‪ :‬قارنت محاولة هيدجر في ترجمة أحد نصوص أرسطو مع الترجمة‬ ‫العربية فوجدتهما شديدتي التطابق من هذا الوجه‪.‬‬‫وأعني أن القراءة الفينومينولوجية التي اعتمدها هيدجر في ترجمة نص أرسطو (من‬‫السماع) أقرب إلى الترجمة العربية من الترجمات الفرنسية التي لم تتنفطن لهذا المعنى‬‫المختلف لمفهوم الطبيعة بوصفها قوة ذاتية للانفتاح الوجودي الذاتي أشبه بالإبداع الفني‬ ‫والجمالي من الآلية المادية‪.‬‬‫ومن ثم فحديث الماضي عن حدثه يعسر فصله عنه ومع ذلك فنحن نحاكم الحديث‬‫بالحدث والحدث بالحديث في كلامنا على الماضي‪ .‬وعندما نطبق ذلك على التاريخ فنحن‬‫نضيف حديثا يرجح بعض الأحاديث على بعضها فيكون تأويلا لتأول ولا يتوقف التأويل‬ ‫الذي هو في الحقيقة تعبير تحكيم المستقبل في الماضي‪.‬‬‫وهي حقيقة بنى عليها ابن خلدون نظرية المقدمة كلها‪ :‬ففي الباب الأول اعتبر ابن‬‫خلدون الاسترماز بكل أشكاله وخاصة البدائية ليس شيئا آخر غير التعبير عن الخوف من‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫المستقبل ومحاولة توقعه‪ .‬ومنه الكهانة وحتى النبوات فضلا عن العلوم‪ :‬ترميز يعبرعن‬ ‫توقع الإنسان لمعضلة علاقتيه العمودية والافقية‪.‬‬‫وبهذا المعنى فتخليص علاقة الإنسان بالعالم من جرعة سحرية استرمازية مستحيل ‪-‬‬‫‪-Entzauberung‬غاية المادية العلمانية فيكون حدس ابن خلدون أعمق من نظرية‬‫ماكس فيبر لأن العلمانية لها نفس النزعة لكنها سحر اللامتناهي الزائف أو التراكم الكمي‬ ‫في العالم بدل العمق الكيفي لما وراء العالم‪.‬‬‫سحر الحداثة هو العلم الخيالي أو الإيمان بالتقدم التكنولوجي الذي يتصور لا متناهيا‬‫وعلاجا لنفس الخوف الذي تكلم عليه ابن خلدون‪ :‬توقع المستقبل والتحكم فيه سواء‬‫بالسحر الرمزي أو بالسحر التكنولوجي‪ .‬ومعنى ذلك أن ما كان ينسبه الإنسان البدائي إلى‬ ‫الرب ينسبه الإنسان الحديث إلى الإنسان‪.‬‬‫لكن الممكن المطلق في الحالتين مستحيل ومن ثم فهو انشداد الحاضر إلى المستقبل في ضوء‬‫الحكم على الحاصل من الممكن بممكن التحصيل وهو إذن وعي بما ينتج عن فاعلية الإنسان‬‫في التاريخ أي عما ينتج عن ذوقه دافعا وعلمه أداة في علاقتيه بالطبيعة وبالتاريخ ومن في‬ ‫علاقته بذاته فهما واستعمالا‪.‬‬‫لا أنكر أن فيما أقول الكثير من التعقيد والغموض ليس لأني ‪-‬كما أدعى أحد القراء‬‫حاول فهم ترجمتي لفينومينولوجيا هوسرل وعجز‪-‬فظنني عييا لا أحسن العربية‪-‬وهو‬‫الافصح ولم يتهم نفسه بالجهل أو حتى بعدم التواضع في الحكم على ما يجهل فيجادل في‬ ‫أهلية هذه الترجمة لجائزة الشيخ زايد (‪.)2012‬‬‫وأفهم جيدا أن الفلسفة لا تتعلم من الجرائد‪ .‬وأن الكلام فيها ككل فن له شروط دون‬‫أن يدل ذلك على أن من لا يفهمها ينقصه الذكاء فلعله في مجال اختصاصه ممن لا يشق‬‫لهم غبار‪ .‬لذلك ففي ما ليس مشتركا من الواجبات لا بد من الاختصاص‪ :‬فما عدى الروحي‬ ‫والسياسي ليس فرض عين بل فرض كفاية‪.‬‬‫فالروحي والسياسي من مقومات كيان الإنسان وليس من وظائفه كجزء من جهاز تقسيم‬‫العمل في الجماعة‪ .‬كل إنسان من حيث هو إنسان لا يقوم كيانه من دون حريته الروحية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والسياسة ومن دون حقه في ممارستهما بحرية بوصفه مؤمنا ومواطنا‪ .‬وعندما أقول مؤمنا‬ ‫فلست أعني مؤمنا بدين فقد يكون مؤمنا بلا دين‪.‬‬‫ذلك أن الإيمان يمكن أن يكون موجبا أو سالبا‪ .‬فمن لا يؤمن بالدين يؤمن بالدنيا أو‬‫بالطبيعة أو بلا شيء فيكون مؤمنا بالعدمية‪ .‬والحرية الروحية تعني أنه له ذلك الحق لأن‬‫القرآن يعرف ذلك سلبا بتعريف الإيمان الديني ثمرة لتبين الرشد من الغي‪ .‬فيكون عكسه‬ ‫أيضا حرية مثله إذ قد لا يتبين له‪.‬‬‫وتكون ذاته متقومة بالحريتين الروحية (ولو سلبا) والسياسية (ولو سلبا) لأنه يمكن ألا‬‫يقوم بواجبه السياسي فلا يهتم بالشأن العام ويمكن ألا يقوم بواجبه الروحي فلا يهتم‬‫بالدين‪ .‬وهذان النوعان لا يسلبان الإنسان من المواطنة ولا الروح‪ .‬يبقى مواطنا وذا روح‬ ‫والله أعلم بسريرته‪.‬‬‫ورغم أني أرفض فهم القرآن بما يسمونه أسباب النزول فإن الحادثة المتصلة بالآية‬‫‪256‬من البقرة شديدة الدلالة‪ :‬اب نصراني أسلم واراد أن يكره ابنيه على الإسلام‪.‬‬‫فنهاه الرسول عن ذلك ونزلت الآية {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} الدلالة‪:‬‬ ‫لو لم يتبين الرشد من الغي لكان الإكراه ممكنا‪.‬‬‫ومعنى ذلك أنه إذا كان الرسول ليس مكلفا بالإكراه بل مكلفا بإيقافه بإزالة شرطه‬‫السابق وهو عدم تبين الرشد فإن الآية التي تقول له \"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم‬‫بمسيطر\" تحول دون كل إكراه في الدين بعد التذكير‪ :‬وهو معنى ثورة الحرية الروحية‬ ‫التي انسبها الإسلام‪ .‬وعكسها نكوص فقهي خطير‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت عكسها ناتجا عن تعطيل الدستورين المعرفي والسياسي‪ :‬وكان أساس‬‫التعطيل هو حالة الطواري التي تستند إلى مبدأ الضرورات تبيح المحظورات‪ .‬فالفتنة‬‫الكبرى أدت إلى حروب أهلية كان يمكن أن تقضي على دولة الإسلام‪ .‬فكان طبيعيا أن‬ ‫تستعمل القوانين الاستثنائية وأن يعطل الدستوران‬‫الظاهرة طبيعية وهي مشهودة قديما وحديثة‪ .‬ما ليس طبيعيا هو بقاؤها ‪ 14‬قرنا‪ .‬وما‬‫ليس طبيعيا اليوم خاصة هو بقاء العرب والمسلمين استثناء في العالمين‪ :‬ما يزالون في نكوصهم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫رغم أن الإنسانية كلها شرعت في تطبيق الحريتين اللتين هما جوهر الإسلام‪ .‬مازلنا تحت‬ ‫الوساطة الروحية والوصاية السياسية‪.‬‬‫والأدهى أن الوساطة والوصاية كلتاهما مضاعفة‪ :‬وساطة وصاية داخلية من الانظمة‬‫ونخبها ووساطة ووصاية خارجية من حماتهما المباشرين ومن ذراعيهما‪ :‬كل عربي اليوم‬‫يعيش تحت وصاية المستبدين ووساطة الطبالين من النخب وهؤلاء تحت وصاية المستعمر‬ ‫ووساطة نخبه مباشرة وبتوسط الذراعين إيران وإسرائيل‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والآن فما القصد بنبط الينبوع؟‬‫مثاله الاعلى هو جوهر الأسلوب القرآني في النبط من خلال الوصل بين مفهومين للنقد‪:‬‬‫نقد التاريخ الروحي ونقد التاريخي السياسي للإنسانية والوصل بينهما وصلا في الاتجاهين‬ ‫أو أثر كل منهما في الثاني مع أصل واحد سميته المعادلة الوجودية‪.‬‬‫حتى نقرب المعنى ثم سنعود إليه لتحليله بالدقة اللازمة من خلال أسلوب القرآن في نبط‬‫الينبوع فلنأخذ مثال اي علم حصلت فيه أزمة كبرى تقتضي إعادة التأسيس أو مراجعة‬‫المبادئ الأساسية التي بنى عليها‪ .‬فهو حتما أمام العلاقة التي تكملنا عليها بخصوص أبعاد‬ ‫زمانيته أو تكوينيته كعلم‪.‬‬‫فتكون لحظته الراهنة أو لحظة الأزمة الكبرى لحظة الوصل بين البداية والغاية‬‫والأولى هي حدث البداية وحديثها وما ترتب عليهما فيه والثاني هي حديث الغاية وما‬‫ينتظر مما يترتب عليها كحدث‪ .‬ولا يطلب حل الازمة بتجاوزها إلا من هذين الالتفاتين‬ ‫لماضيه ولمستقبله في علاج أزمة حاضره‪.‬‬‫والجامع بين الالتفاتين بوصفهما دائمي الحضور في الحاضر الذي لا يبقى ما بين الماضي‬‫والمستقبل بل ما يحيط بهما لكأنه هو البداية وهو الغاية وكل ما يصل بينهما بوصفه الوعي‬‫الحي للفن أو للعلم أو لأي تراث وقع نبط ينبوعه أو أزيل ما يحول دون سيلان نسغ الحياة‬ ‫فيه‪ :‬إنه الاسترماز الدائم‪.‬‬‫وقد اشار ابن سينا لظاهرة جنيسة هي أن الإنسان يعلم أنه يعلم أنه يعلم بغير نهاية‬‫أي إن كل وعي يعود على نفسه ليكون وعي الوعي ويتكرر الامر بغير نهاية وتلك هي‬‫حياة الفكر‪ .‬ويشبهها في الظاهرة اللسانية قابلية كل كلام للعودة على ذاته ليكون كلاما‬ ‫على كلام بغير نهاية‪ :‬الحاضر وعي محيط بهما‪.‬‬‫الاسترماز بمعنى طلب الرمز وبمعنى جعل الشيء مرموزا أو مترجما رمزيا بلغة صناعية‬‫او طبيعية هو جوهر هذه العملية التي تمثلها الظاهرة التي أشار إليها ابن سينا في الفكر‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ويمكن أن تشير إليها نظرية معنى المعنى في اللسان‪ .‬فكل عبارة انتقل مضمونها من منزلة‬ ‫المرموز إلى منزلة الرمز‪.‬‬‫مثال ذلك إذا قلت \"أقدم رجلا وأؤخر أخرى\" فالدلالة هي هذا الفعل الذي يقوم به‬‫المتردد‪ .‬لكن فعل المتردد المرموز في هذه العبارة يتحول إلى رمز فعل التردد عامة‪ .‬فيكون‬‫التردد في المشي دالا على التردد عامة مدلولا والتردد عامة يمكن أن يصبح دالا على صفة‬ ‫نفسية خلقية للمتردد وهكذا‪...‬‬‫وبهذا المعنى فما يسمى بالواقع الموضوعي في لحظة ما من إدراكنا لموضوع المعرفة مثلا‬‫ليس إلا لحظة من الاسترماز في نسبة هذا التوالي في دلالة العبارات وفي الوعي بالوعي في‬‫الكلام على الكلام ويبقى ما نسميه واقعا من جنس الافق الذي يتقدم بقدر تقدمنا نحوه‬ ‫وتقريبا بنفس المسافة‪.‬‬‫ولو رسمنا الافق الذي نراه عندما نقف فنثبت كما ثبتنا وضعنا في المكان ثم نذهب إليه‬‫فسنجده قد غادر ذلك المكان وأنه لم يكن شيئا بل كان أفقا ثبتناه في سعينا إليه وهو غير‬‫ثابت أصلا بل هو متضايف مع سعينا إليه وتلك هي نسبتنا إلى كل ما نسميه واقعا نسعى‬ ‫إلى الإمساك به‪.‬‬‫وقد أعتبر نفسي راجما بالغيب إذا قلت إن مفهوم الآفاق في فصلت ‪ 53‬له هذه الدلالة‬‫لكني سأكتفي بالقول إني أفهمه بهذا المعنى لأن الآية لم تقل إننا نتبين حقيقة القرآن في‬‫الآفاق بل فيما يرينه الله فيها من آياته‪ :‬الآفاق هي التي بنيت عليها نظرية المعادلة‬ ‫الوجودية‪ :‬وهي خمسة آفاق وأنفس‪.‬‬‫وعندما أجمع بين الآفاق والانفس فلأنهما يتضمنان نفس المضمون لأن الآفاق هي ما في‬‫الأعيان والأنفس منها وهي ما في الأنفس والآفاق منها‪ .‬وهي جوهر الواقع الذي لا نستطيع‬‫الإمساك به حتى وإن كان القدرة على استرمازه‪ :‬إنها عناصر المعادلة الوجودية الخمسة‪.‬‬‫أعني القطبان الله والإنسان ثم العلاقة المباشرة بينهما الوسيطان بينهما أي الطبيعة‬‫والتاريخ بوصفهما هما الآفاق والأنفس اللذان يدركهما الإنسان ولا يدرك ذاته والله إلا‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بوصفهما ما بعدهما بمعنى أن الإنسان ككائن طبعي يعلم ذاته ولا معنى أنه يعلم ويعي‬ ‫وذلك هو منطلقه للقطب الثاني‪ :‬الله‬‫ألغاز الوجود خمسة‪ :‬الإنسان ذاته والله والطبيعة والتاريخ والعلاقة بين القطبين الله‬‫والإنسان مباشرة وبتوسط الطبيعة والتاريخ‪ .‬وهي ألغاز نستطيع استرمازها ولن نتوقف‬‫عن استرمازها وهو الدلالة الفعلية لمعنى علمه الأسماء والبيان وتبقى ألغازا محيرة نتعامل‬ ‫معها بما نراه من الآيات فيها‪.‬‬‫والآيات فيها تقبل الرد إلى النظام إما نظام قوانين الطبائع أو نظام سنن الشرائع ‪-‬‬‫والشرائع لا اقصد بها الشريعة بل هي ما الأمر المتضايف مع الخلق‪ .‬والفرق بين الطبيعة‬‫والتاريخ ما كان ليوجد لولا ثنائية الخلق والامر لأن الأول هو نظام الضرورة (الطبيعة)‬ ‫والثاني نظام الحرية (التاريخ)‪.‬‬‫وهذان النظامان يصحبهما نظامان ينتجان عن تفاعليهما هما نظام فعل الطبيعة وفي‬‫التاريخ ونظام فعل التاريخ في الطبيعة والنظام الأسمى هو نظام المعادلة أو العلاقة بين‬‫القطبين الله والإنسان‪ .‬ولو لم يكن الإنسان قادرا على إدراك الأنظمة لاستحال استرمازها‬ ‫ولو كان محيطا لاستغنينا عما لا يرد إليه‪.‬‬‫وما لا يرد إلى استرمازنا هو الوجود عامة ووجود القطب الأول الذي يعتبر كل ما عداه‬‫من خلقه وخاضعا لأمره أي الله الذي لا يخلو منه وعي اي إنسان لأن من يدعي الإلحاد لا‬‫يخلو وعيه منه ونفيه ليس له بل لكونه غير محايث في الطبيعة (سبينوزا) أو في التاريخ‬ ‫(هيجل) أي نوعي وحدة الوجود‪.‬‬‫ولأنه لا يوجد وعي إنساني يخلو من هذه المقومات الخمسة‪ :‬الله والإنسان والطبيعة‬‫والتاريخ والعلاقة بين الله والإنسان مباشرة وغير مباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ‬‫اعتبرت المعادلة الوجودين عين بنية الوعي الإنساني وهي في آن عين كيانه العضوي (من‬ ‫الطبيعة) والروحي (من التاريخ)‪ :‬الآفاق والأنفس‬‫وهذه البنية معقدة في كل واحد من هذه المقومات الخمسة‪ :‬فكل واحد منها بيننا وبينه‬‫علاقة ذات طبقات متراكبة لا ندري طبيعة ما بينها وما يصلها بعضها بالبعض‪ :‬عندي رمز‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫له دلالة تحيل على ما أدركه من موجود له وجود غير ما أدركه ويجمع ذلك كله معنى أني‬ ‫أدرك‪ :‬وهو لغز الالغاز كيف لي ذلك؟‬‫لكن الأعجب من ذلك أني بفضل الرمز الدال على ما أدرك من موجود غير إدراكي له‬‫أستطيع أن اتواصل مع غيري وأن أتبادل معه سواء كان غيري إنسانا مثلي أو أي موجود‬‫آخر بما في ذلك موجودات الطبيعة‪ :‬فأنا اتبادل معها المعلومات أساليها فتجيبني بما أنتظره‬ ‫منها أو بعكسه أو تتجاهلني‪.‬‬‫أسألها بما يسميه ابن تيمية مقدرات ذهنية وتجيبي بما يسميه تجربة الموجود الخارجي‬‫الذي يطابق أو لا يطابق تقديراتي الذهنية فيكون بذلك قد أجابني أيجابا أو سلنا وهو‬‫تبادل معلومات ومن ثم فشرطه التواصل مع الموجودات بما فيها الطبيعية التي ليست‬ ‫إنسانية بالضرورة‪ :‬علاج العلاقة العمودية‪.‬‬‫أما التبادل والتواصل مع البشر فمفروغ منه رغم أنه يتضمن ما لا يقدر من سوء التفاهم‬‫ومما لا ينقال ولذلك فالتبادل والتواصل هو بدوره ظاهرة طبيعية وخاصة مع الطبيعة‬‫والإنسان بلغة الذوق والتماس العضوي كما في العلاقة بين المغتذي والغذاء وبين الجنسين‪:‬‬ ‫فالتبادل والتواصل حينها هو رمز نفسه‪.‬‬‫فالذوق الأصلي رامز ذاته هو الذي يحركني بما يوقظه في من الشهوة المباشرة ترمزي‬‫عضوي سواء كانت الشهوة غذائية أو جنسية والذوق المسترمز يحركني إلى ما صار رمزا‬‫للذوق الاصلي وهو مصدر كل الفنون والعلوم لأنه يعتمد آليات البلاغة في الوصل بينهما‪:‬‬ ‫الاستعارة والكناية وآليات فعلهما‪.‬‬‫وفاعلية الذوق الاصلي هي دائما مما لا ينقال لأنها تعاش مباشرة وما يقال عنها لا يتعلق‬‫بها بل بما يرمز إليها في المستوى الثاني من فاعليتها كما تعوض الكلمة المعنى والعملة القيمة‬‫والرمز عامة المرموز‪ .‬ولهذه العلة يمكن للتواصل أن يتم دون لسان ويمكن للألسن أن‬ ‫تترجم بوسيط متقدم‪.‬‬‫واللسان حتى عند الحضور لا يستغني عنها وهي عادة تعتبر لغة الجسد المباشرة ما يعني‬‫أنه بخلاف ما يظن ليس نظام اللسان هو الذي يحدد نظام الوجود حتى وإن كان أحد‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫تجلياته‪ .‬في الوجود خطاب يتوجه إلينا ليس بوصفنا ناطقين فحسب بل بوصفنا في تبادل‬ ‫وتواصل أعم اللسان أحد تجلياته‪.‬‬‫وهذا التبادل والتواصل الأعم هو حضور المعادلة الوجودية في وعي كل إنسان‪ :‬ومعنى‬‫ذلك أن كل إنسان يسبح في هذه المعادلة كأنها الماء بالنسبة إلى السمك وهي تسبح فيه‬‫أيضا كأنه المحل الذي يتحيز فيه هذا الماء في حركة أبدية وذلك هو الينبوع الذي ينبغي‬ ‫نبطه وتسرح مجرى السيل فيه‪ :‬الحياة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أعود إلى نبط الينبوع‪ :‬ضربت مثال سلوك المعرفة العلمية الذي لا يبدو جليا إلا عندما‬‫تقع في أزمة كبرى تؤدي إلى استبدال البرادايم وأحيانا إلى ثورة كاملة من جنس الأولى‬‫التي يبدأ بها كل علم والتي سماها كنط بالانقلاب الكوبرنيكي‪ :‬وهو يعني أن المعرفة تغادر‬ ‫موقف المستقرئ لما يسمى واقعا‪.‬‬‫فسمى الموقف البديل بموقف القاضي الذي يحقق مع \"الواقع\" بمعنى أنه ما يظهر منه‬ ‫للإدراك بأدواته التي هي أجهزة علمية من نوعين‪:‬‬ ‫‪ .1‬استرمازي ويتمثل في الفرضيات النظرية‬‫‪ .2‬وتقني ويتمثل في أدوات الإدراك التي يصنعها العلم لتقوية جهاز الإدراك‬ ‫الطبيعي وخاصة البصر والسمع بفضل البصريات والسمعيات‬‫وكلنا يعلم دور صاحب علم المناظر ‪-‬ابن الهيثم‪-‬الذي طور نظريات إقليدس وبطليموس‬‫ليبدع أجهزة تطورت لاحفا وصارت من أدوات تقدم علم الفلك بالقياسات الدقيقة التي‬‫جعلت الانتقال من فلك بطليموس إلى فلك كوبرنيكوس بقلب العلاقة بين بالشمس والأرض‬ ‫ومن هنا استعارة كنط لمفهوم الانقلاب‪.‬‬‫والنظامان البطلمي والكوبرنيكي رياضيان لكن الثاني ابسط من الأول وأكثر نجاعة‬‫تفسيرية وقد مثل ذلك خروجا من أزمة استرمازية وتجريبية‪ :‬فمن خصائص الاسترماز‬‫العلمي البحث عن العبارات الأبسط لتفسير الظاهرات والتجارب الادق للمفاضلة بينها‪.‬‬ ‫وهذه الامثلة كافية للانتقال إلى الغرض‪.‬‬ ‫والغرض من المحاولة مضاعف‪:‬‬‫‪ .1‬بيان أن القرآن نبط للينبوع وأن النبط استعمل نفس الطريقة ما يعني أن القرآن‬‫استراتيجية لعلاج ازمة علاجا حاسما يستحق اسم العلاج النهائي ومن ثم فالرسالة خاتمة‬‫وهي التذكير الأخير بمعنى أنها نموذج كل نبط ممكن بعدها دون حاجة لرسالة سماوية‬ ‫أخرى‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .2‬وهو الغرض النهائي من المحاولة‪ :‬كيف نبط الينبوع الذي سد طريق سيلان ماء‬‫الحياة منه بسبب التعطيلين اللذين تعلقا بالدستور السياسي والدستور المعرفي ومن صار‬‫النظر والعمل عقيمين لا يمكنان من علاج علاقة الإنسان بالطبية وعلاقته بالإنسان بوهم‬ ‫الاكتفاء بالعبادات علاقة مباشرة بالله‪.‬‬‫وإذا كان الإسلام يعتبر العبادة الأسمى هي المعرفة بالله وكانت المعرفة به تمر حتما‬‫بمدعاته فإن تسعة أعشار العبادة قد ضاعت من المسلمين لأنهم تركوا الشرط الأول لقيام‬‫العابد أعني الاستعمار في الأرض وتوهموا أن الاستخلاف ممكن لمن لا يستطيع الاستعمار‬ ‫في الأرض لتكون مطية للآخرة‪.‬‬‫ومن لم يمتط الدنيا بشروطه الامتطاء أي العلم وتطبيقاته العلمية سيمطيه كل من‬‫يمتطيها قبله وأكثر منه‪ .‬فيكون عبدا لسيد الارض ولا يستطيع أن يتحرر ليكون عبدا‬‫لرب العباد‪ :‬فكل من يفقد شروط الحرية في الدنيا لا يمكن أن يدعي أن له إمكانية التفرغ‬ ‫لشروط الحرية الروحية معيار الأحكام في الأخرى‪.‬‬‫لكن بصرف النظر عن إيمان المخاطب بما يقول القرآن فإن الفضيلة والاخلاق شبه‬‫مستحيلة لمن يغرق في التبعية لأنه سيكون رهن من يستتبعه إما لأنه مسيطر على شروط‬‫حياته المادية أو على شروط ما صار يعتبره من مكملات سعادته الدنيوية ومن فهو سيضطر‬ ‫لأن يكون منافقا ومطيعا مثل أي عبد لسيده‪.‬‬‫لذلك فما أقوله في الامر لا علاقة له بالوعظ والإرشاد أو بالدعوة الدينية بل هو بيان‬‫أن الدين في ذلك وخاصة الإسلام لا يقول شيئا آخر غير ما تقوله الحكمة التاريخية‪:‬‬‫فالشعوب الغارقة في الحاجات الاولية تكون ذليلة ومستبعدة وهو ما يجعل التحرر من‬ ‫استعباد الطغاة وفسادهم شبه مستحيل‪.‬‬‫ولذلك فقد جعل الطغاة الفقر والحاجة والمرض من شروط الخنوع لاستبدادهم‬‫وفسادهم‪ :‬لأن الإنسان ينكص إلى الحيوان فيغرق في معركة الحياة العضوية ولا يمكنه أن‬‫يسمو إلى الحياة الروحية حتى لو صلى وصام وتذرع لربه ليلا نهارا لأنه عصاه فيما كلفه‬ ‫به أي أن يعمر الارض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ومرة أخرى فالإنسان لا يشعر حقا بالفقر إلى الله إلا إذا تحرر من الفقر لغيره‪ .‬والفقر‬‫للغير مضاعف‪ :‬هو نتيجة إهمال العلاج المناسب للعلاقة العمودية بالطبيعة ونتيجة إهمال‬‫العلاج المناسب للعلاقة الأفقية‪ .‬وعدم إهمالهما هو الشرط الضروري لتحرر من الفقر لغير‬ ‫الله دون أن يكون كافيا‪.‬‬‫والإنسان المادي ليس الذي يحقق شروط الاستعمار في الأرض وهي كما أسلفت شرط‬‫التحرر من عبادة غير الله بل من يكتفي بها فيكون دائم الفقر لغير الله‪ :‬وهؤلاء هم‬‫المرضى الذين يعبدون ما يسميه هيجل باللامتناهي الفاسد ممن لا يشبع فيبقى دائما عبد‬ ‫المادة‪ .‬وهذا مرض خلقي وروحي‪.‬‬‫لكن الإنسان السوي الذي يطلب شروط الحرية الروحية من الخضوع لوسيط روحي‬‫والحرية السياسية من الخضوع لوصي سياسي هو الإنسان الذي يستثنيه القرآن من الخسر‬‫فيفهم معنى الإيمان والعمل الصالح وهما جوهر العبادة ومثله الجماعة المؤلفة من أمثاله‬ ‫يستثنون من الخسر بالتواصيين‪.‬‬‫والخسر ليس مفهوما دينيا فحسب بل هو كذلك مفهوم فلسفي وهو يعني عدم الوعي بما‬‫يتهدد كيان الإنسان من التبعية لحاجته المادية وحاجته الروحية فيكون بسبب ذلك عبدا‬‫لغير الله فلا يكون إنسانا حرا بل هو عبد تابع لإنسان آخر إن كان فردا ولجماعة أخرى‬ ‫إن كان جماعة‪ :‬وتلك هي حالنا كعرب‪.‬‬‫وهدف النبط الذي قام به القرآن والذي نريد استئنافه من خلال فهم استراتيجية‬‫القرآن في تحقيق انسياب ماء الحرية الروحية والسياسية للإنسان كإنسان دون اعتبار‬‫للعنصر وللطبقة وللجنس (الرجل والمرأة) هو تحقيق انسياب الحرية والكرامة مقومي‬ ‫الإنسان باعتباره مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬‫وبلغة فلسفية وهي مطابقة للغة القرآن‪ :‬الإنسان من دون الحرية الروحية والحرية‬‫السياسية عبد وليس إنسانا ومعنى ذلك أنه لم يفقد الإنسانية بالقوة‪-‬أي إمكانية أن يثور‬‫ليسترد حريته وكرامته‪ -‬لكنه فاقد لها بالفعل أي إنه بسبب غرقه في مطالب الدنيا التي‬ ‫لم يعمل على توفيرها بصبح عبدا لصاحبها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والتحقيق الفعلي لهذا المعنى من التحرر الروحي (الإرادة والعلم والقدرة والحياة‬‫والوجود) وما يترتب عليه من التحرر السياسي بمعنى عدم الخضوع لطاغية يسيطر على‬‫إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده التي هي عين قيامه كإنسان هو معنى الثورة‬ ‫الإسلامية التي جعلت الإسلام دين الإنسانية كلها‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالقرآن بوصفه علاجا لأزمة كونية حول رؤية الإنسان لذاته هو‬‫استراتيجية تحرير الإنسانية من العبودية الروحية (الوساطة) والسياسية (الوصاية) على‬‫اساس مبدأين صريحين أولهما هو مبدأ الأخوة الإنسانية التامة (النساء ‪ )1‬ونفي التفاضل‬ ‫بين البشر باستثناء التقوى (الحجرات ‪.)13‬‬‫والتفاضل بالتقوى عند الله يعني أن البشر متساوون ومطالبون التعارف معرفة ومعروفا‬‫ولا فرق بين الأعراق ولا الطبقات ولا الجنس ومن ثم فهو تحرر يكون فيه الإنسان كفرد‬‫ذاتا روحية وسياسية وكجماعة ذاتية الأمر تسوسه بالشورى بينها‪ :‬وذانك هما الدستوران‬ ‫اللذان عطلا ونبطنا لتسريح مجراهما‪.‬‬‫الينبوع أو النبع الذي نريد إزالة الرمال التي سدت مجراه هو إذن حقيقة الإنسان‬‫فلسفيا وهي عين حقيقته دينيا على الاقل في الإسلام‪ :‬أنه ذات حرة روحيا قادرة على‬‫النظر والعمل المستقلين وحرة سياسيا أي إنها سيدة نفسها لا تخضع لوصية سلطان بينها وبين‬ ‫ربها‪ .‬وهما الدستوران اللذان سننبطهما‪.‬‬‫والنبط عادة يعني حفر الآبار‪ .‬ونحن في لحظة علينا فيها أن نحفر الآبار التي غاض‬‫ماؤها وجف نسغها ولم تعد تؤهل المسلم لأن يحقق شروط العلاقة العمودية بالطبيعة إذ‬‫حتى خيرات بلاده يستخرجها غيره وهو يكتفي بحراسة مصالح مستعبدة الذي هو غفير‬ ‫عند حاميه‪ :‬العربي يعاني من عبودية مركبة‪.‬‬‫وكلما كانت هذه العبودية مكرسة كلما زاد كلام ادعياء الكلام باسم إغراقا في محاولة‬‫تدجين ما في الإسلام من واجب الثورة على أسبابها للحيلولة دون علاجها بأسبابها‪ :‬فعلمهم‬‫لا صلة له بشروط العلاقتين بالطبيعة وبالتاريخ بل هو يجعلون المهمة الدينية مقصورة على‬ ‫الوعظ والإرشاد‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ويزعمون رفض العلمانية وهم في الحقيقة علة العلمنة المستوردة‪ :‬فعندما تجعل الدين‬‫مبعدا من شروط التحرر الروحي والسياسي والتي هي ما وصفت وأنت تعلم أنه لا يمكن‬‫لجماعة أن تبقى حرة بمجرد الوعظ والإرشاد فأنت تفرض عليهم التبعية لمن تعتبرهم‬ ‫أعداء الدين‪ :‬فتكون أعدى أعدائه دون وعي‪.‬‬‫فأنت نزعت سلاح الجماعة لحماية ذاتها فجعلتها محمية وأنت منعت الجماعة من رعاية‬‫ذاتها فجعلتها مرعية ثم تتساءل عما صار عليه المسلمون من ذل وهوان الكل يتصارع عليهم‬‫وهم في غيبوبة لكأن الامر لا يتعلق بشروط وجودهم الخمسة‪ :‬جغرافيتهم وثمرتها‬ ‫وتاريخهم وثمرته ومرجعيتهم الروحية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لما ضربت مثال طريقة العلم للخروج من أزماته الكبرى تكلمت على عمل إنساني لتوضيع‬‫العلاقة بين أبعاد الزمان الخمسة في كل عمل إبداعي إنساني ينتسج خلال تاريخه بنوع من‬‫العودة الواعية على الذات خلال الازمة التي يعيشها في الحاضر ليعالجها في ضوء مراجعة‬ ‫الماضي واستراتيجية المستقبل‪.‬‬‫وأعلم أنه سيعاب علي قيس استراتيجية الإسلام لإخراج الإنسانية من أزمتها الوجودية‬‫على عمل إنساني لكأني في ظنهم أشكك في إلهية الرسالة واعتبرها مجرد اجتهاد إنساني‬‫من جنس الاجتهاد الذي وصفت في المثال المستمد من تاريخ تطور المعرفة العلمية بل وكل‬ ‫عمل إنساني‪.‬‬‫بل أكثر من ذلك سيقال إنك تتناقض‪ :‬فمن جهة أولى ترفض علم الكلام لأنه يؤول‬‫المتشابه ولأنه يقيس الغيب على الشهادة (ظنا أن الغيب مجرد غائب) وها أنت تقيس‬‫استراتيجية الرسالة على استراتيجية مراجعة الماضي والتخطيط للمستقبل في أي عمل‬ ‫إنساني وخاصة في تاريخ العلوم‪.‬‬‫وأخيرا والأدهى ها أنت تستمد معرفة مباشرة من القرآن وتدعي أن القرآن ينهانا عن‬‫طلب العلم من شرح نصه بل يوجهنا أمرا للنظر فيما يرينه الله من آياته في الآفاق والانفس‬‫وينهانا عن تجاوز ذلك لتأويل المتشابه والكلام في الغيب‪ .‬وهذا الأدهى هو منطلقي في‬ ‫الكلام على الغرضين‪.‬‬‫والغرضان من البحث هما‪-1 :‬ما استراتيجية القرآن في إخراج الإنسانية من أزمتها‬‫الوجودية وهي أزمة كونية ‪-2‬كيف يمكن أن نستأنف دور الإسلام والمسلمين في التاريخ‬‫بتحرير هذه الاستراتيجية مما ران عليها من قشور أخفت اللب وكادت تأتي عليه لولا وعد‬ ‫الله بعزه دينه وجعل أهله شاهدين على العالمين‬‫وليس في هذه المحاولة الاجتهادية أدنى دعوى بكوني مصلح القرن فلست مختصا في العلوم‬‫الدينية ولا أحمل اسم عالم بمعنى المتكون من علوم الملة حتى أزعم ذلك‪ .‬كل ما في الامر‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أني اعتقد أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي دون أن ينفي معجزات الأنبياء لم يدع‬ ‫معجزة عدى معجزة النظام بدلا من خرقه‪.‬‬‫فكل حججه مستمدة من النظام الطبيعي أو من النظام التاريخي والنظامان يوجدان في‬‫كيان الإنسان ومن ثم فهو يعتبر تبين حقيقته يكون من خلال ما يريه الله للإنسان من‬‫آياته في هذين النظامين خارج الإنسان وفي الإنسان بوصف كيانه مؤلفا منهما ويقوم بعلاقته‬ ‫بهما‪ .‬وإذن فالمرجعية هي عالم الشهادة‪.‬‬‫أما كلامه على ما وراء العالمين الطبيعي والتاريخي وحقيقة علاقة القطبين الله والإنسان‬‫من حولهما فذلك هو مجال الغيب والمتشابه وليس هو مجال الكلام على الاستراتيجية‬‫القرآنية التي تهدف إلى إخراج الإنسانية من أزمتها الوجودية التي سنصف والتي كانت‬ ‫الرسالة التذكير الاخير بشروط تجاوزها‪.‬‬‫وهو ما يعني ألا أتناقض لأني أتكلم إلى فيما اعتبره القرآن من عالم الشهادة ووجه‬‫الإنسان إلى الاعتبار به للخروج من أزمته الوجودية وبين طبيعة تعطيل الدستورين بالنص‬‫الصريح الذي لا يحتاج إلى قيس غيب بشاهد له شاهد ودائم الشهود والشهادة على ذاته‬ ‫ما يعني أنه خاضع لمخمس الزمان‪.‬‬‫والخضوع لمخمس الزمان هو جوهر كيان الإنسان لأن وجوده مضاعف‪ :‬فهو وجودي عيني‬‫له القدرة على إدراك ذاته العينية والكلي الذي يجمعها بالنوع والجنس إلى أن يصل إلى‬‫الوجودي عامة وهو خاصية الاسترماز التي لولاها لما خرج الإنسان من عينيته لكي يرى ما‬ ‫يتجاوز ذاته من حوله‪.‬‬‫فأي إنسان يعلم أن وجوده العيني نقطة في المكان ولحظة في الزمان‪ .‬فكيف له أن يتجاوز‬‫تعينه النقطي واللحظي إلى تصور العالم مكانه وزمانه وعدم الرضا بتناهيه فلا يهدأ إلى‬‫بعد أن يضع عالما وراءه لا نهاية له ولا سواء كان ذلك خيالا أو حقيقة والبت بين الخيال‬ ‫والحقيقة قضية إيمان محض‪.‬‬‫ومثلما أن التاريخ مضاعف بأحداثه وأحاديثه حول أحداثه بسبب الاسترماز فالطبيعة‬‫كذلك مضاعفة بأحداثها وأحاديثها بسبب الاسترماز‪ .‬وعلاقة الإنسان بذاته لها هذه‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الابعاد الاربعة دائما وهي تتحد في كيانه وبهما يتجاوز النقطة المكانية واللحظة الزمانية‬ ‫فيصبح كيانه بحد ذاته عين التجريد النظري‪.‬‬‫والكيان المجرد في الإنسان هو الاسترماز وهو ما به يستحضر العالم كله ويتجاوزه إلى ما‬‫ورائه ليصبح في مواجهة مباشرة مع القطب الثاني وهي مواجهة وجودية فعلية تشبه ما‬‫يسمى دليل التمانع‪ :‬لكأن الإنسان في هذا التجاوز يود لو يكون القطب الاول فيورباخيا‪:‬‬ ‫الإنسان خلق الله‪.‬‬‫وفي هذه النظرة شيء من الصحة‪ :‬فالإنسان هو خالق صورته عن الله لأنه لا يستطيع‬‫تصوره إلى بمقياسه الذاتي على ذاته أو ما يسمى بالانتروبومورفيسم‪ .‬أي القياس على‬‫الإنسان‪ .‬وعندما تقرأ صفات الله في القرآن فإن الإنسان سواء كان أميا أو متعلما لا يفهمها‬ ‫إلا بهذا المعيار باحتراز ليس كمثله شيء‪.‬‬‫وتلك هي علة النهي عن تأويل المتشابه‪ :‬كل الكلام على ما وراء العالمين الطبيعي‬‫والتاريخي من المتشابه وهو إذن ليس موضوع كلامنا‪ .‬سنكتفي عما ذكر به القرآن الإنسانية‬‫حتى تحقق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف معتبرا ذلك هو موضوع اختبار‬ ‫أهلية الإنسان لما كلف به وهو عين كيانه‪.‬‬‫فيكون الفيوبارخيون قوما يخلطون بين تصور الإنسان لله وبين الله‪ .‬يردون الوجود إلى‬‫الإدراك وهذا ينتج عن وهم نظرية المعرفة التي تدعي المطابقة التامة بين الإدراك‬‫والوجود وتزعم أنها تعلم الشيء على ما هو عليه لكأن الشيء مخلوقا للعلم أو لكأن الوجود‬ ‫مطلق الشفافية والإدراك مرآة أمينة‪.‬‬‫ونقض هذا الوهم هو الدستور القرآني الاول‪ :‬في الوجود غيب محجوب والعلم الإنساني‬‫ليس محيطا به ومن ثم فالعلم اجتهاد دائم والمهم فيه البحث الصادق عن آيات الله في الآفاق‬‫والأنفس لعلاج العلاقتين العمودية والافقية وعدم الزعم بأنه محيط بالوجود فضلا عما‬ ‫ورائه من الغيب المحجوب‪.‬‬‫وهذا هو التذكير الأول بعلة تعطيل الدستور المعرفي‪ .‬وعليه يبنى التذكير ويخص العمل‬‫وليس النظر والعلم‪ .‬فالإنسان الناظر يستمد وهم السلطان الروحي بمن وهم العلم المطلق‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والإنسان العامل يستمد وهم السلطان المادي من وهم القدرة المطلقة‪ .‬فيعطل الدستور‬ ‫السياسي‪ :‬ومنهما الوساطة والوصاية‪.‬‬‫فتكون الوساطة الروحية ناتجة عن وهم العلم المحيط لدى الوسطاء وهي كذبة هدفها‬‫استمداد سلطان من علم محيط مزعوم يدعي صاحبه العصمة الامر الذي لم يدعه الرسول‬‫لكونه اعتبر نفسه معصوما في التبليغ وليس في الاجتهاد وإلا لكان اعتماده على الشورى في‬ ‫السياسة والحرب من العبث‪.‬‬‫وتكون الوصاية السياسية ناتجة عن وهم العمل المحيط وهي كذبة هدفها استمداد سلطان‬‫من عمل محيط مزعوم يدعي صاحبه العصمة في الأمر الذي لم يدعه الرسول لكونه اعتبر‬‫نفسه في تبليغ قيم العمل ولم يدع أن عمله مطلق بل كان يستشير وزرائه في الفترة‬ ‫القصيرة التي حكم فيها دولة‪.‬‬‫وهذا هو معنى أن اخلاق الرسول هي أخلاق القرآن أي إنه كان المثال العيني للعمل‬‫بالدستورين المعرفي والسياسي وبهذا المعنى فيمكن اعتبار الرسول الخليفة الراشد الأول‬‫وهو نموذج الخلفاء الراشدين من بعده‪ :‬لا أحد منهم عطل الدستورين بل كلهم كانوا‬ ‫يعتبرون أنفسهم مجتهدين ويستشيرون الجماعة‪.‬‬‫لا أحد منهم ادعى العصمة في العلم أو في العمل بل كلهم كانوا يعتبرون أنفسهم مجتهدين‬‫في النظر ومجاهدين في العمل بقدر الاستطاعة وعملا بشروط الاستثناء من الخسر التي‬‫حددتها سورة العصر‪ :‬أي الوعي بعلل الخسر والسعي لتجنبها بقيم اربعه تنتج عن هذا‬ ‫الوعي وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصيان‪.‬‬‫فإذا كان الأمر كذلك فيكف يعطل الدستوران في تاريخ البشرية فيكون ذلك مصدر‬‫الأزمة الوجودية التي هي في الحقيقة ما سماه ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\"؟ كيف‬‫يفسد الدستور المعرفي والدستور السياسي فيصبحان مصدر إفقاد الإنسان معاني إنسانيته‬ ‫فيقع في الخسر‪ :‬يرد أسفل سافلين‪.‬‬‫الجواب يأتي من قراءة القرآن بوصفه عملية مراجعة لماضي الإنسانية وتخطيط لمستقبلها‬‫بما يمكن أن أسميه ‪-‬واعتذر عن هذا الاسم ولعله مما يسمى عيب المهنة‪-‬فلسفة الدين‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وفلسفة التاريخ‪ :‬فهو مراجعة لتحديد الديني في الأديان كلها‪-‬المعلوم منها فيه ‪( 5‬الحج‬ ‫‪ )17‬موضوع المراجعة والقرآن هو المراجع‪.‬‬‫لكن المراجعة لا تقتصر على فلسفة الدين لتحديد الديني في الأديان بل هي كذلك‬‫مراجعة لفلسفة التاريخ لتحديد السياسي في السياسات التي صنعت تاريخ الإنسانية‪ .‬لذلك‬‫فكل كلام على رسالة سابقة يصحبها كلام على ثمراتها السياسية وخاصة على معارضاتها‬ ‫السياسية في التاريخ الفعلي للجماعة‪.‬‬‫والتداخل بين الفلسفتين الدينية والتاريخية متداخلتان كما تبين آية هلاك القرى وصلا‬‫بين الديني الخلقي والسياسي الاقتصادي وما يترتب على البعدين الديني والسياسي من‬‫خلل في القرآن فيحق عليها القول فتدمر بذاتها لأن الله وضع قوانين في الطبيعة وفي‬ ‫التاريخ لصلاحها ونقائضها لطلاحها‪.‬‬‫فإذا محصنا الامر اكتشفنا أن علة فساد معاني الإنساني كما حددها القرآن تكمن في‬‫بعدي السياسة أي الحكم والتربية وهذه تفسد بسبب الطغيان النظري المبني على كذبة‬‫العلم المحيط وذاك يفسد بسبب الطغيان العملي المبني على كذبة العمل المحيط‪.‬‬ ‫وبفسادهما يصبحان عنيفين فيفسدان معاني الإنسانية‪.‬‬‫وما حاجتهما للعنف إلا لأنهما كاذبان فيضطران لفرض كذبهما بالعنف لأن الطاغوت‬‫السياسي في الحكم هو الاستبداد والفساد في الجهاد وفي التربية هو الاستبداد والفساد‬‫الاجتهاد فيتحالف طاغوتان جعل القرآن الإيمان مشروطا بالكفر بهما (البقرة ‪:)256‬‬ ‫تبين الرشد يحرر فيغني عن العنف (الإكراه)‪.‬‬‫وأخيرا فالقرآن مليء بالكلام على قرب نهاية حياة الدنيا للإنسانية كلها ما يعني أن‬‫الماضي هو من بدايتها إلى نزول القرآن والمستقبل هو من نزول القرآن إلى أن يتحقق في‬‫التاريخ الفعلي ليكون المؤمنون به شهداء على العالمين‪ .‬وإذن فالمستقبل كله هو طريق وعي‬ ‫الإنسانية بما ذكرت به لتؤمن طوعا‪.‬‬‫وذلك يغني عن العنف في الحكم وفي التربية ويطبق مبدأ النساء ‪( 1‬الاخوة) والحجرات‬‫‪(13‬التعارف معرفة ومعروفا والمساواة) ويزل علل الصراع بين البشر سواء كان المصدر‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫معرفي عقدي (المائدة ‪ )48‬وعلل الصراع بينهم على أسباب العيش والعدل الاجتماعي‬ ‫(الشورى ‪ :)38‬الحكم والرزق أمر الجماعة بالشورى‪.‬‬‫هذه هي استراتيجية القرآن لتوحيد البشرية وإخراجها من الأزمة الوجودية التي تنكر‬‫مقومات الذات الإنسانية المكرمة والحرة روحيا وسياسيا‪ .‬ولما كانت الأزمة الوجودية حينها‬‫متمثلة في سيطرة امبراطوريتين كلتاهما تعتمد على الوساطة والوصاية بدأ التاريخ‬ ‫الإسلامي بالتصدي لهما‪ :‬فارس وبيزنطة‪.‬‬‫لسوء الحظ لم يكف الفصل للمرور إلى الكلام في الغرض الثاني لذلك فسأضطر لمواصلة‬‫البحث فأختم الغرض الاول واتكلم في الثاني آملا ألا يطول الامر فيتجاوز فصلين على‬‫الاقصى‪ .‬وبذلك أكون قد أجبت عما سألت عنها بقدر الاستطاعة آملا أن يكون ذلك بداية‬ ‫فهم للمراجعة الواجبة شرطا للاستئناف‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بينت أني لا أتناقض في كلامي على القرآن فأنهي عن خلق وآتي مثله‪ :‬لا أتكلم في الغيب‬‫ولا أقيسه على الشاهد ولا أول المتشابه مثل الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والمتصوفة فيما‬‫سميته بعلوم الملة الزائفة بل أميز بين الكلام وفعل إشارة والكلام كعلم بالمشار إليه‪ :‬القرآن‬ ‫رسالة تذكير‪.‬‬‫ولن أبالغ إذا قلت إنه ليس فلسفة دين وتاريخ فسحب بل إن فلسفة الدين فيه أصل‬‫لأربع فلسفات وردت فيه في شكل الإشارة التذكيرية وليست بديلا مما يمكن لهذه الفلسفات‬‫ان تصل إليها عندما تطبق أمر الإشارة بالبحث العلمي في الآفاق والانفس ونهيها عن تأويل‬ ‫المتشابه والراسخ في العلم منته‪.‬‬‫ولأن أدعياء الرسوخ في العلم صاروا المتجرئين عما نهى عنه القرآن نتجت العلوم الزائفة‬‫التي حالت دون الأمة والعبادة الحقة التي هي طلب حقيقة القرآن في الآيات التي يرينها‬‫الله في الآفاق والانفس وليس في شرح النصوص وادعاء علم الغيب بوهم نظرية المطابقة‬ ‫لديهم جميعا‪.‬‬‫وهذا الوهم يعود إلى \"و\" في آل عمران ‪ 7‬إذ جعلهم إياها عطفية يعني أنهم يعتبرون‬‫الراسخين في العلم ‪-‬سواء كان عقليا أو لدنيا‪-‬يضاهي علمهم علم الله إذ من دون الإحاطة‬‫لا يمكن أن يدعي إنسان أن علمه بالوجود مطابق لحقيقة الوجود مطابقة مطلقة تجعله‬ ‫يقول إنه يعلمه على ما هو عليه‪.‬‬‫فما معنى التمييز بين الإشارة التذكيرية في القرآن وعلم المشار إليه الذي زعم موجودا‬‫فيه وزعم أدعياء الرسوخ في العلم الوصول إليه بالعقل (فلاسفة) أو بالكشف (متصوفة)‬‫والمتكلمون والفقهاء يسلمون نفس المعنى وإن لم يكن مما يصرحون به وإلا لما ادعوا‬ ‫استخراج الفقهين الأكبر والاصغر من النص‪.‬‬‫فالكلام فقه أكبر بمعنى أنه يدعي علما بالعقائد أوضح مما جاء منها في القرآن والفقه‬‫علما بالشرائع أوضح مما جاء في القرآن‪ :‬وما جاء في القرآن في الحالتين إيمان وليس علما‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والإيمان يقبل كما هو كل محاولة لتعليله كما يفعل المتكلمون والفقهاء يفسده ويهمل‬ ‫الأساسي فيه أي مضمون البقرة ‪.177‬‬‫ولنعد إلى موضوعنا‪ :‬ما هي الفلسفات الأربع المتفرعة عن فلسفة الديني في الأديان كما‬‫تتبين من نقد القرآن وتفكيكه لتجربة الإنسانية الروحية؟ إنها فلسفة الطبيعة وفلسفة‬‫النظر وفلسفة التاريخ وفلسفة العمل‪ .‬وفلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ غاية وفلسفة‬ ‫النظر وفلسفة العمل أداة لتحصيلها‪.‬‬‫وكل هذه الفلسفات إشارية للمعلوم وليست معرفية لمضمونه أعني لقوانينه‪ .‬ولنضرب‬‫أمثلة‪ :‬فالإشاري في فلسفة الطبيعة القرآنية أمران الطبيعة ذات نظام والنظام الطبيعي‬‫من طبيعة رياضية‪ .‬وهو يستمد مقدماته استدلاله من \"النظام\" بوصفها بدائل من معجزات‬ ‫الأنبياء السابقين التي وصفها بكونها للتخويف‪.‬‬‫والإشاري في فلسفة التاريخ أمران كذلك‪ :‬التاريخ ذو نظام والنظام من طبيعة سياسية‬‫خلقية (الحكم والتربية) وهو يستمد كذلك مقدمات لاستدلاله من النظام بنفس المعنى‬‫الذي رأيناه في الطبيعة‪ .‬والإشاري في نظرية النظر والعقد هو وجهة البحث ومنهجه ودور‬ ‫المدارك فيه مع التواصي بالحق لأنه جهد جماعي‪.‬‬‫والإشاري في نظرية العمل والشرائع فضلا عما تقدم في النظر يكون فيه الجهد العملي‬‫جهادا والتواصي تواصيا بالصبر الذي يكمل التواصي بالحق‪ .‬لكنه الفلسفتين النظرية‬‫والعملية ليستا إلا فلسفة الأداتين اللتين هما يعالج الإنسان شروط الاستعمار في الارض‬ ‫والاستخلاف فيها‪.‬‬‫وهو ما يجعلهما جوهر الديني في الأديان لأن الإنسان كمكلف وكعابد (مفهوم الاستخلاف‬‫بجمع بين المعنيين) لا يحاسب إلا على استعمال نظره وعمله لتحقيق شروط مهمته على‬‫أفضل وجه وهو واجب الوسيلة وليس واجب الغاية بمعنى أن الإنسان مطالب بوسع اجتهاده‬ ‫وجهادة وصدقه فيهما وليس مسؤولا عن النتيجة‪.‬‬‫لذلك فمهما مخضت هذه الفلسفات التي تشير إلى المطلوب وشروطه دون أن تعينه لأنه‬‫موضوع اجتهاد الإنسان وجهاده مع خلوص النية والصدق في النظر والعمل بمنطق الإيمان‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر لا يتضمن ما يغني عن البحث العلمي‬ ‫والإنجاز العملي الإنسانيين‪.‬‬‫فيكون التذكير الأخير مقصورا على تحرير الإنسان من الوساطة المعطلة بعنفها للحرية‬‫الروحية شرط العلم والعمل والوصاية السياسية التي تفرض بالعنف الباطل بدل الحق‬‫فيتم الاستعباد الفعلي بعد الاستعباد الرمزي ويجتمع الاستعبادين أو الطاغوتين تماما كما‬ ‫تصفهم آل عمران‪ :‬حلف الطاغوتين‪.‬‬‫وما أشبه اليوم بالبارحة‪ :‬فلما نزل القرآن الكريم ‪-‬كما يتبين من رسائل الرسول الخاتم‬‫إلى ملوك عصره وكما يتبين من جواب رسول جيش المسلمين على سؤال قائد الجيش‬‫الفارسي‪-‬كان الإنسانية تعاني من الوساطة والوصاية في الامبراطوريتين السائدتين حينها‬ ‫فيما أصبح دار الإسلام لاحقا‪.‬‬‫ونحن اليوم ‪-‬وأقصد بنحن الشعوب الاربعة التي أنشأت وحافظت على قلب دار الإسلام‬‫أعني العرب والاتراك والأمازيغ والاكراد‪-‬في نفس الوضعية ولكن بخلاف المرة الاولى‪:‬‬‫لم نكن موجودين بصفتنا الحالية في هذه الدار التي أصحبت دارنا بل كان من يريد‬ ‫استعادتها الآن هو صاحبها قبل الإسلام‪.‬‬‫لذلك فما اصفه لا يخضع لمنطق التاريخ يعيد نفسه الواهي لما بينت من الفرق‪ :‬لما بدانا‬‫تطبيق ثورتي الحرية الروحية والحرية السياسية لم يكن وجود فيما يسمى قلب دار‬‫الإسلام ولم تكن الشعوب الأربعة التي ذكرتها مسلمة ولا ساهمت في تحريرها من سلطان‬ ‫فارس وبيزنطة السياسي والروحي‪.‬‬‫ولذلك فمعركة اليوم غير معركة الأمس‪ :‬في الامس كانت عملية تحرير من العبوديتين‬‫الروحية (الوساطة) والسياسية (الوصاية) وفي معركة اليوم أصبحت عملية استرداد‬‫لهذين العبوديتين‪ .‬الواحد في الوضعتين ليس طبيعة المعركة بل طبيعة المشاركين فيها‪.‬‬ ‫والرهان اليوم هو منع هذا الاسترداد بالاستئناف‪.‬‬‫والشعوب الذين ذكرتهم بما يشبه التسمية العرقية لم يكونوا يعون أنفسهم بهذا المعنى‬‫المقيت الذي يعرف الإنسان بالعرق بل كانوا يعرفون أنفسهم بكونه حملة رسالة كونية هي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الإسلام وبكونهم هم مسلمين قبل أي شيء آخر‪ .‬لذلك فهذا التعريف السائد هو من أسباب‬ ‫ضعف الامة وبداية تخريب وحدتها الروحية‪.‬‬‫ولو كان الامر مقصورا على ما يحدث في الإقليم الذي هو قلب دار الإسلام محل تحديد‬‫مصير الحضارة الإسلامية فحسب لما اعتبر أزمة وجودية كونية ولما صح أن أتكلم على‬‫ضرورة استلهام ثورة الإسلام الأولى نموذجا للاستئناف ثورته التي نحن مكلفون باستئنافها‬ ‫بمعنى الشهادة على العالمين‪.‬‬‫ما أزعمه ليس مجرد إيمان ديني بل هو أيضا ملاحظة تاريخية نراها بالعين المجردة‪:‬‬‫البشرية اليوم تعيش أزمة وجودية كونية كانت في نشأة الحضارة الإسلامية مجرد توقع‬‫طرد أزمة إقليمية ستصبح كونية إن لم تعمل بالإشارات القرآنية وها هي قد أصبحت فعلات‬ ‫مستعبدة روحيا وسياسيا بعكس ايديولوجيتها‪.‬‬‫وهذا هو المعنى العميق للعولمة فهي كونية تعميم العبودية الروحية والسياسية على جميع‬‫البشرية باسم مخادع هو الحرية الروحية والسياسية في الأذهان والعبودية الروحية‬‫والسياسية في الاعيان‪ :‬فمن يحكم ومن يربي في العالم اليوم هم أصحاب العجل الذهبي‬ ‫بالسيطرة على الإنتاجين الاقتصادي والثقافي‪.‬‬‫ورمز السيطرة الاقتصادية هو مادة العجل (ذهب أي البنك والشركات الغابرة للقارات)‬‫ورمز السيطرة الثقافية هو خوار العجل (الايديولوجيا وما يناظر هوليوود) والجميع صار‬‫عبدا للبنوك وللشركات ولسلطان خفي يتحكم في قيام الإنسان الروحي والمادي أي الوسطاء‬ ‫والاوصياء في دين العجل الذهبي‪.‬‬‫وهذه حجتي الأساسية في استعمال مفهوم كاريكاتور الحداثة ومفهوم كاريكاتور الأصالة‪:‬‬‫كلاهما من حيث لا يعلم أعاد الوساطة والوصاية‪ .‬والأول خلط بين كاريكاتوره عن الإسلام‬‫والإسلام والثاني خلط كاريكاتوره عن الحداثة والحداثة‪ .‬فالاستعمار والعولمة أي غايته‬ ‫استعباد روحي وسياسي مناف للإنسانية‪.‬‬‫وقيم الإنسانية التي هي حقيقة الإنسان كما يعرفها القرآن قبل أن تحرفه قراءات ما‬‫يسمى بعلوم الملة في عصر الانحطاط يؤيدها فكر فلاسفة الحداثة قبل أن تتحول إلى‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ايديولوجيا استعمارية اقتصاديا وثقافيا بصورة تعيد نفس التحريف الديني بعد أن علمن‬ ‫وصار دين العجل الذهبي بمادته وخواره‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫تحددت الأزمة الوجودية الكونية فهل لدينا شروط المهمة؟‬‫إذا قسنا المسلمين اليوم بالقياس إلى من يحرك هذه الآلة الجهنمية التي تستعبد‬‫الإنسانية بإلغاء الحريتين الروحية والسياسية مع الاعلاء من أيديولوجيتهما في الثقافة‬ ‫التنويمية لماكياج للعبودية‪ :‬معاني الإنسانية ألغاها الوسطاء والأوصياء‪.‬‬‫والاعتراض يبدو وجيها وهو اعتراض يباهي به محقرو الإسلام والمسلمين من كاريكاتور‬‫الحداثة العربية خاصة لأن المسلمين الآخرين لم تبلغ الوقاحة عندهم هذا الاستهتار الدال‬‫على خفة العقل وبلادة الذهن عند من يتوهمون أنسهم حداثيين وهم أكثر تخلفا ممن‬ ‫يتصورون أنفسهم يقاومون جهلهم وظلاميتهم‪.‬‬ ‫ومن علامات عماء البصيرة الذي يعانون منه أمران لا يغفل عنهما عاقل‪:‬‬‫‪ .1‬إذا كان المسلمون والإسلام ليسوا تحديا جديا للعبودية الجديدة روحيا وسياسيا‬ ‫أو العولمة فلماذا يحاربهم كل هؤلاء الأعداء؟‬‫‪ .2‬فلنقس نسبة قوتنا إلى ما كان يمثل أزمة الوجود في النشأة الاولى بنسبة قوتنا‬ ‫اليوم إلى نظرائهم‪.‬‬‫وحتى تكون المقارنة منصفة فلا ينبغي أن نقتصر على الحاصل بالفعل من اسباب القوة‬‫لأننا بينا سابقا أن العلاج له التفاتان من الحاضر إلى الماضي ومن الحاضر إلى المستقبل‬‫والحاضر محيط بالبداية والغاية‪ .‬فيكون تقدير القوة ذا صلة بالبداية التي قد تمكن من‬ ‫تقدير الغاية‪ .‬كذلك يحسب الأعداء قوتنا‪.‬‬‫فاستراتييجيوهم يقولون‪ :‬ماذا لو استأنف المسلمون دورهم ولهم شروط الاستئناف كلها‬‫(جغرافيا وثمرتها اي الثروة الممكنة وتاريخيا وثمرته أي التراث الممكن ومرجعيا أي‬ ‫الفلسفات التي ذكرت)؟‬‫وكيف نحول دون ذلك ونحن نعلم أنه ممكن وأنه إذا حصل فسلطاننا على العالم قد‬ ‫يهدد؟‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ذلك أن استراتيجييهم ليسوا أغبياء مثل أدعياء الحداثة عندنا الذين يعتقدون أن‬‫عسل أيديهم من الإسلام ‪-‬وهم أقلية تافهة لا وزن لها بين المسلمين‪-‬يعني أن الإسلام‬‫وحضارته من الماضي ولا مستقبل لهما في تاريخ العالم في حين أنه حاليا بؤرة عالمية لتحديد‬ ‫شروط النظام العالمي الجديد‪.‬‬‫فهل بالصدفة تخسر أمريكا مليارات المليارات من الدولارات لتحارب في افغانستان وفي‬‫العراق وفي الصومال وهلم جرا‪ ..‬لو لم يكن استراتيجيوها يعلمون أنهم من دون السيطرة‬‫على دار الإسلام من مندناو إلى المغرب لا يمكنهم أن يبقوا قوة عالمية أولى ومن ثم فحربهم‬ ‫علينا دليل فهم لمنزلتنا في العالم‪.‬‬‫وهل الاستراتيجية التي ستردعهم يمكن أن تكون غير تبينهم أن هزيمتنا مستحيلة وأنهم‬‫يمكن إن واصلوا هذه الحساب فهم سيسقطون بأسرع مما يتصورون لأننا قد لا نكون قادرين‬‫على الانتصار عليهم وهم لن يقدروا كذلك على السيطرة على جغرافيتنا وثمرتها وتاريخنا‬ ‫وثمرته وخاصة على مرجعيتنا الإسلام‪.‬‬‫وطبعا فلا الصين ولا الهند ولا البرازيل وكل القوى الصاعدة ستنتظر أمريكا حتى تفرغ‬‫منا لتستفرد بثروات دار الإسلام وممراتها حتى تكون قادرة على المنافسة مع عماليق العصر‬‫القادم ومن ثم فلا مفر لاستراتيجييها من التخلص من وهم معاملة الإسلام كما فعلوا مع‬ ‫الشيوعية‪.‬‬‫فهو ليس إيديولوجيا نخبة يمكن شراؤها بل هو عقيدة شعوب كلما حورب ازداد قوة‬‫وهبهم نجحوا فاغروا بعض الحمقى والمراهقين من حكام بعض العرب وخاصة في الخليج‬‫فيغيروا البرامج التعليمية‪ .‬لن تكون النتيجة مهما فعلوا أفضل مما حصل في تركيا وفي‬ ‫تونس‪ :‬كلا الشعبين ازدادوا تعلقا بالإسلام‪.‬‬‫والأهم من ذلك كله ‪-‬وهو ما يغفلون عنه‪-‬أن شباب الغرب نفسه لم يعد مقتنعا بدين‬‫العجل الذهبي لا بمادته (سلطان البنك) ولا بخواره (سلطان هوليوود) بل صاروا أميل‬‫لحياة الحرية الروحية والحرية السياسية وساعين إلى الثورة على هذين السلطانين‬ ‫الروحي (الإيديولوجيا) والسياسي (القوة المادية)‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولهذا التبرم الشبابي في الغرب ضد العولمة سلطان البنوك والبورصات والشركات العابرة‬‫للقارات والسلط الخفية للمافيات وللوبيات فيه كثير مما يغريهم بالثورتين الإسلاميتين‪:‬‬‫الحرية الروحية ضد الوساطة وإن تعلمنت وضد الوصاية السياسة وإن تظاهرت‬ ‫بالديموقراطية المزيفة لأن المال هو المحدد فيها‪.‬‬‫ولهذه العلة فاستراتيجية الاستئناف ينبغي أن تأخذ لذلك كله في الحسبان وأن تكون‬‫رسالة كونية بقيم القرآن ليس كما آلت إليه في علوم الملة المحرفة بل كما هي قبل أن يفسدها‬‫تعطيل الدستورين وتحول الفتح الذي كان يهدف إلى تحرير البشر من عبادة العباد إلى‬ ‫استعمار يستبعد العباد‪.‬‬‫ولأذكر مرة أخرى أن وزن الامم لا يقاس بالموجود فحسب بل وكذلك بالممكن لموجودها‬‫إذا طابق منشودها كيف يصبح وهو قوتها بالقوة والتي تحسب في تقدير أوزان الأمم على‬‫الأقل في الاستراتيجيات بعيدة المدى عند الشعوب التي تتنافس على العالم وعلى دورها في‬ ‫نظامه‪.‬‬‫وهذا ما ينساه أدعياء الحداثة من النخب التي لا ترى من التاريخ إلا الراهن دون أن‬‫تدرك علل راهنيته التي دائما ما يذكر من الماضي وما يتوقع من المستقبل‪ .‬في الثلث الاول‬‫من ‪ 1800‬كتب هيجل في غاية فصله عن المحمدية أن الإسلام خرج من التاريخ وعادة إلى‬ ‫سبات الشعوب المتخلفة‪.‬‬‫لو كان هيجل بيننا الآن أو حتى في نهاية القرن الثامن عشر لاستحى من نفسه‪ .‬فالتاريخ‬‫كذبه مرتين‪ :‬لمن ينته عامة وتاريخ الإسلام استؤنف بأكثر مما يتخيل من العنفوان والقوة‬‫الغربية التي تصورها سيدة العالم في نهاية التاريخ أي ليس بعدها بعد قد أفلت وخاصة‬ ‫الآن ونحن على عتبه نظام عالمي جديد‪.‬‬‫لم يعد الشرق الأقصى مجالا تباع فيه المخدرات بقوة المدافع بل صار من كان يستعمره‬‫يخطب وده‪ .‬ولا شيء يمنع المسلمين أن يحققوا ما حققته الصين وأكثر‪ .‬كل ما في الامر هو‬‫ما نطلبه هنا‪ :‬نبط المعين حتى ينسكب في العروق عنفوان الحياة التي أفسد معاني الإنسانية‬ ‫فيها العنفان التربوي والسياسي‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولما كان العنفان قد نتجا عن تعطيل الدستور المعرفي (علما ومنهجا) وتعطيل الدستور‬‫السياسي (حكما وتربية) فإن الاستراتيجية صارت واضحة‪ :‬وهي بدأت عفوية في ثورة‬‫شباب الأمة بجنسيه طلبا للحرية والكرامة ثم بالتدريج وبسبب غباء الثورة المضادة ستنتقل‬ ‫إلى الموجة الثانية فتستكمل شروط التحرير‪.‬‬‫فعقبات التحرر تبينت نابعة من نقص التحرير‪ :‬لا وجود لدولة عربية بل وإسلامية‬‫واحدة مستقلة وليس لأي منها شروط الاستقلال التي هي ليست مقصورة على إرادة النحبة‬‫الحاكمة فحسب بل هي متعلقة بما فرضه الاستعمار على أحياز كيانها من شروط تحول دون‬ ‫شروط السيادة‪.‬‬‫وبذلك نصل إلى المفتاح الأساسي للاستراتيجية التي تحكم تنافس الشعوب والحضارات‬‫على شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬ومشكل المشاكل في نخبتنا بنوعيها التي‬‫تدعي التأصيل والتي تدعي التحدث سواء كانت في الحكم أو في المعارضة هو الغفلة عن‬ ‫هذا المفتاح الابدي‪.‬‬‫وقوة استراتيجيي الغرب تتمثل في فهم هذا المفتاح الذي كان ولا يزال مفتاح شرطي‬‫قيام الدول‪ :‬شرط القدرة على الحماية والقدرة على الرعاية الذاتية من خلال حيازة‬‫شروطها الجغرافية والتاريخية والرؤيوية أو المرجعية المؤسسة للحضارة‪ .‬والجغرافية‬ ‫مضاعفة والتاريخية مضاعفة فتكون خمسة أحياز‪.‬‬‫ولما كانت كل استراتيجية في هذا التنافس ذات وجهين‪ :‬تعظيم أحياز الذات وتقزيم أحياز‬‫المنافس‪ .‬فتفهم كيف أن أمريكا تتكون من خمسين دولة وليس ولاية كما في الترجمة العربية‬‫وأن اوروبا شرعت في محاكاتها وستسمى الولايات المتحدة الأوروبية وهلم جرا لكنه يفتتون‬ ‫أي دولة إسلامية لتصبح محمية‪.‬‬‫والجغرافيا هي مصدر الثروة الحقيقية بما فيها من خامات وبما تحتله من موقع في‬‫جغرافية العالم والحركة فيه برا وبحرا وجوا‪ .‬والتاريخ هو مصدر التراث الحقيقي بما‬‫فيه من مبدعات حضارية علمية وفنية وبما يحتله في تاريخ العالم والحركة فيه (انتقال‬ ‫التراث الإنسان بفضله) والمرجعية هي روح الجماعة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولا يوجد عاقل في الدنيا يمكن أن يشكك في أن ما لدى المسلمين من ذلك لا يضاهيه‬‫موجود أي حضارة أخرى فهي جغرافيا وتاريخيا ببعديهما كليهما قلب العالم مكانه وزمانه‬‫وهي أصيلة بخلاف دل حضارات الغرب ولا يماثلها في الأصالة إلا حضارات الشرق الاقصى‪.‬‬‫خذ لك مثال أوروبا ناهيك عن امريكا التي هي من فضلات أوروبا والعالم‪ :‬مادا فيها هو‬‫منها؟ لاشي كل شيء فيها بني على كذبة‪ .‬لا علاقة للجرمان الغول باليونان ولا بروما لأنهم‬‫هم أهماج أوروبا الشمالية أطاحوا بروما ونحن إذن أقرب إلى اليونان منهم وتراثهم لم‬ ‫يصلهم إلى بفضلنا‪.‬‬‫ولا شيء يصلهم بالمسيحية فهي ينت أرضنا ولم تصبح أوروبية إلى بسب الاستعمار‬‫الروماني وقد بينت أنه لا علاقة بالأوروبيين الحاليين‪ .‬ومن فأقدم تاريخ روحي‬‫(الاديان) وحضاري (العلوم والفلسفة) من الشرق الذي صار إسلاميا ولم يقطع مع ماضي‬ ‫الإقليم إلى بثورته التي هي تحرير لتجاوز أزمته‪.‬‬‫وختاما فإن المرجعية القرآنية هي المرجعية الدينية التوحيدية في تاريخ الاديان‬‫الإنسانية سواء كانت طبيعية أو منزلة التي تعتبر نفسها موجهة إلى الإنسانية كلها‪.‬‬‫فاليهودي لشعب واحد أو لنقل لقبيلة واحدة والمسيحية تتمة لها ولم تصبح عالمية إلا بعد‬ ‫إصلاح بولس في رسائله لغير اليهود‪.‬‬‫واديان الشرق الاقصى الطبيعية ليست كونية بل هي خاصة بشعوبها وتعتبر بالأحرى‬‫اجتهادا إنسانية هدفها الاساسي سياسي والروحي فيها تابع للسياسي والدنيوي‪ .‬وإذن فدور‬‫المسلمين بات مطلوبا كونيا سواء طلبوه هم أو تخلوا عنه‪ .‬الإنسانية لن تتحرر من العولمة‬ ‫إلا بفضل الإسلام أو ما يشبهه‪.‬‬‫الحاجة موجودة والمكان خال ممن يشغله وهو إذن ينادي المسلمين لكي يشهدوا على‬‫العالمين‪ .‬لكن ذلك لن يتاح لهم من دون أن ينبطوا الينبوع فيعيدوا للإسلام نظارته التي‬‫تتثمل في ثورتيه الروحية والسياسية‪ .‬وهو ما لا يمكن أن يتحقق بلعوم الملة المحرفة ولا‬ ‫بأعمالها في عصر الانحطاط‪ :‬ثورة الاستئناف‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook