أبو يعرب المرزوقي re nils frahm شروط الاستئناف أو استراتيجية جبر ال كسور الحضا رية الأسماء والبيان
المحتويات 1 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 7 - -الفصل الثالث 13 - -الفصل الرابع 19 - -الفصل الخامس 25 - -الفصل السادس31 - -الفصل السابع37 -
-- انشغلت كثيرا باغتيال الشهيد خاشقجي لأني رأيت فيه تحولا كيفيا في الحرب الاهلية العربية بين الشعوب التي ثار شبابها بجنسيه من أجل الحرية والكرامة بصورة عامة دون نسب حزبي معين قبل أن يتحول النسب الحزبي إلى أحد المعيقات والنخب الحزبية ومن وراءها لإذكاء الحرب الأهلية في كل قطر عربي. فاجتمعت حربان أهليتان بين الأحزاب في كل قطر وبين الاقطار وكلتاهما تجمع بين المحركات الذاتية والتحريك الخارجي بمستوياته التالية: .1التدخلات الذاتية بين العرب .2وتدخلات الذراع الإيرانية .3وتدخلات الإسرائيلية .4وتدخلات المستعمر السابق .5وتدخلات القوتين والعملاء العرب ووراء الذراعين ووراء الثورة المضادة. وقد حاولت أثبات الطابع الكيفي المنتظر نتيجة لاغتيال الشهيد خاشقجي لأنه ضرب الحلقة الأولى في مقتل في لحظة استهدافها لخط الدفاع الأخير في عملية الاستئناف الإسلامي :كان القصد من اغتياله ضرب نظام تركيا قلب المحافظة على الثورة فإذا به يتحول إلى ضرب نظام السعودية قلب الثورة المضادة. ولهذه العلة اعتبرت هذا الانقلاب الذي لم يخطط له أحد بل كان قاضيا على كل تخطيط عند أصحاب الثروة المضادة الثلاثة (أنظمة السعودية والإمارات ومصر) بوصفهم دمى للتدخلات التي وصفت من مكر الله الخير لأن ما يحصل فيفسد مكر الأشرار دون أن يكون مخططا له من قبل الأخيار فيه مكر إلهي دون شك. إذ لا يمكن أن يدعي أحد -وعلى كل فالأتراك لم يدعوه-أن النظام التركي له يد في استجلاب خاشقجي إلى القنصلية السعودية فيكون هو الذي أراد للحادثة أن تقع على أرضه .والدور التركي يقتصر على حسن التصرف للاستفادة من الأمر وهنا يمكن الكلام أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- على دور تركي بالاستسناح الذي هو جوهر الحكمة السياسية :أي التقاط الفرصة .ورغم أن الاستسناح هو التقاط ما توفره السوانج باعتبارها فرصا تطرأ دون سابق توقع فإنه غير ممكن ممن لا يتوفر لديه شرطان قدر المستطاع: .1الاستعداد المسبق للممكن في حدود المتوقع وهو دائما ناقض مهما حاولنا الإحاطة لأن الممكن لا متناه والعلم به باللامتناهي مستحيل. .2العمل على علم في تحويل رد الفعل إلى فعل بفضل نظام للعمل يجعل الاجهزة العاملة ذات كفاءة وخلق ويجمعهما حب الوطن والأمة. والشرط الأول يتعلق باستراتيجية الحماية بمعنى أن الدولة محصنة استعلاميا إذ من دون ذلك كان يمكن للوفد الإجرامي الذي اغتال خاشقجي أن يمر وكأنه وفد سياحي لولا اليقظة الاستخباراتية التركية وهي استراتيجية حمائية في الدول ذات القيادة المخلصة لوطنها بخلاف استعلامات العرب ضد شعوبها. والشرط الثاني أو العمل المنظم للأجهزة فأساسه ما يشبه جهاز الرصد الحساس الذي يتابع تحركات الأعداء المعلومين وغير المعلومين تطبيقا للآية 60من الأنفال التي حددت الأعداء بأنواعهم الخمسة: .1اعداء الأمة .2وأعداء الله .3ثم 2+1 .4ثم 1+2-4 .5ثم وآخرون لا تعلمونهم الله يعلمهم. وقد لا يفهم القارئ الفرق بين الأول والمؤلف من الأول والثاني والفرق بين الثاني والمؤلف من الثاني والأول .لكن الفرق بين ولذلك فهي خمسة أنواع من العداوة مختلفة. فيمكن أن يعادي الأمة من ليس هو عدو الله ويمكن أن يعادي الله من ليس هو عدو الامة. أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- ولذلك فالأمة لا تحارب من لم يحاربها لأنه كافر مثلا بل يشترط الإسلام ألا تحارب إلا من يحاربها من الأعداء وتترك ما بينه وبين ربه. لكن ما يعنيني هو \"وآخرون لا تعلمونهم\" .وهنا يكمن الاستعداد للامتوقع .وهو ذروة الحيطة .فيكون جوهر الحماية متمثلا في هذه الحيطة لأن جوهر العلم هو الاستعداد للعمل على علم ومن ثم فهو لا يتعلق بالموضوع المستهدف المعين بل بما يجعل الإنسان مستعدا لأي موضوع فيكون من جنس المناعة العضوية. وبصورة أدق العلم من جنس التطعيم لتحفيز المناعة العضوية :فلكأن الامم تجهز نفسها للحماية بالتمارين والتدريب على التصدي للأخطار والأعداء دون تعيين للخطر والعدو تعيينا مطلق الدقة بل هي تحفز القدرة على رد الفعل الذي ينقلب بسرعة إلى فعل وهو ما حصل في حادثة اغتيال خاشقجي. ولأختم هذا التعليق بالقول إن هذه الحادثة كان يمكن أن تنجح فتمر دون أن تقلب على أصحابها لو لم يحدث قبلها معجزة أخرى من جنسها وهي إفشال الشعب التركي للانقلاب. فلو لم يتم تطهير الاجهزة الاستعلامية التركية بعد فشل الانقلاب لوجد من يساعد على نجاح مؤامرة القنصلية. لذلك فقد اعتبرت إفشال مؤامرة القنصلية وحسن العلاج من قبل الأجهزة التركية دليلا مطمئنا على نجاح عملية التطهير أو بصورة أدق على تمام إفشال الانقلاب وهو ما جعلني اعتبر ما حصل تحولا كيفيا ليس في الحرب الاهلية العربية وحدها بل وفي سلامة النظام السني الوحيد الصامد في الاقليم. ودون أن أقلل من حكمة القيادة ووعي الشعب التركي الذي استعاد طموحه وثقته بذاته وخاصة اعتزازه بهويته فإن اعتقد أن ذلك فيه الكثير من التوفيق الإلهي الذي يتعدى كل إمكانية نسبة ما فيه مما يلامس الإعجاز فيحول دون عدم فهمه وكأنه تأييد إلهي للاستئناف ونجاح الثورة ضد أعدائها. أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- ذلك أن المؤامرات ضد تركيا تكاد تكون لا متناهية .فواضح أن الانظمة العربية العميلة والذراعين وداعميهما وأحياء الطائفية والعرقية كلها تركز على الإطاحة بآخر خط دفاع سني فيه حتى يستكملوا ما خططوا له منذ الحرب العالمية الأولى وتبين لهم أنه لم ينجح في منع الاستئناف الذي يسعون لوأده. ولهذه العلة وصفت ما نتج عن هذا التحول الكيفي بعبارة \"نصر من الله وفتح قريب\" ولذلك لم أعلق على ما جري مؤخرا في تونس .فهذه أمور صارت ثانوية :الثورة المضادة ضربت في مقتل لأن قلبها هو النظام السعودي والبقية توابع إذ ما كان لها من أثر علته ما لها من سلطان على الأمير الأحمق. كل المفاعيل الثانوية في اليمن وليبيا وتونس ومصر وسوريا ستبدأ في فقدان الدلالة بمجرد أن تتفاعل نتائج هذا الانقلاب الذي وصفت :لن يوقف شيء بعد الآن تحرر تركيا من الخوف من دقة الوضع المحيط بها لأن ضمور مفاعيل الثورة المضادة في محيطها لن يبقيها رهن الاضطرار إلى مهادنة إيران وروسيا. وأقصى ما يمكن أن تفعله أنظمة الثورة المضادة هو الانكماش ولو لمدة وهي كافية لكي تحقق الثورة الاستئناف بشكل شبيه ببدايتها أعني بالاحتجاج السلمي الذي لم يعد يمكن للأنظمة العميلة الرد عليه بالعنف إما لأنها لم يعد لها القدرة المادية علية (بشار وحفتر ودمى تونس) أو بسب الوضع الداخلي. فالسعودية والإمارات ومصر والعراق وحتى إيران لن يبق أي منها بمنأى عن موجة للربيع شبيهة بموجته الأولى عندنا :والدليل القاطع هو انحلال عقدة الألسن في السعودية .لم يعد بوسع شبابها المتعلم بجنسيه أن يسكت وإذا حلت عقدة الألسن فإن إيقاف الثورة الشبابية يصبح مستحيلا .عموم الربيع ينهي الثورة المضادة. وتلك هي علة تركي الاحداث وعودتي إلى المسائل الأساسية في الفكر الفلسفي وعلاقته بشروط الاستئناف .ذلك أن همي الفلسفي قلبه وغايته هما فهم علل الانحطاط الذي مرت أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- به الأمة وشرط الاستئناف بالخروج من الانحطاطين الذاتي وما ورثه العملاء من الحداثة أعني انحطاطها أي الإيديولوجيا الاستعمارية. وأول شروط العلاج هو ما سميته بـ\"جبر الكسور\" في حضارتنا :كيف أصل بين الماضي بوجهيه أي بأحداثه وأحاديثه عن ذاته والمستقبل بوجهيه أي بأحاديثه وأحداثه وما يحصل بينها أربعتها في الحاضر الذي هو مرجل يغلي في شكل حرب أهلية عربية وإسلامية واقليمية ودولية جعلتنا قلب العالم الانفعالي. وكان ينبغي -على الأقل بالمنظور الذي ورثناه من النشأة الاولى لتاريخ الإسلام ومن الرؤية القرآنية للتاريخ الكوني في بعديه الدنيوي والمتعالي عليه -أن نكون مركز العالم الفاعلي وليس الانفعالي .والسؤال الجوهري هو :كيف نستعيد الدور الفاعل فنتحرر من الدور المنفعل في نظام العالم؟ ولست غافلا على أن أحداث الماضي مضت ولا يمكن تغييرها وأن أحداث المستقبل لم تحصل بعد ولا يمكن إلى توقع ما ينبغي أن تكون عليه ليتحقق الاستئناف صار المشكل كله متعلقا بحديثيهما .جبر الكسور يعني إعادة تأويل أحداث الماضي بمراجعة أحاديثه مراجعة تبني أحاديث المستقبل لجعل أحداثه فاعلة. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون تعيين المقصود بالأحاديث التي تتذكر الأحداث التي مضت والأحاديث التي تتوقع الأحداث التي لم تحصل بعد فإن مراجعة الذكرى والتوقع هما جوهر الاستراتيجية الفكرية التي تعيد تأويل الأحداث بصورة تمكن من فهم علل الانتقال من الفاعلية إلى الانفعالية لقلبه وعكسه .وهذه الأحاديث هي علوم الملة الخمسة: الأصل فيها جميعا أو تفسير القرآن وفروعه الأربعة • اثنان عمليان عما الفقه والتصوف • واثنان نظريان عما الكلام والفلسفة. ولا أنسى العلوم المساعدة أو ما يسمى بعلوم الأداة وهي كذلك خمسة: • اللسان والتاريخ أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- • والمنطق والرياضيات • واصلها جميعا أو الوسميات (السيميوتكس). أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- لو كان الامر مقصورا على علاج الأحاديث الخاصة بنا -وهي عشرة كما بينت-لكانت المهمة على عسرها قابلة للإنجاز النسبي .لكنها تقتضي قبل ذلك علاج قضية أهم من دون علاجها يستحيل فهم طبيعة جبر الكسر المطلوب .فاعتبار الأمر متعلقا بالخصوصيات ينافي الفلسفي وخاصة الديني في الفهم القرآني. لست معنيا بالنظر في مسالة الأحاديث وجبر الكسور بوصفهما خاصين بحضارتنا لأني من حيث فهمي للفلسفي ومن حيث اعتقادي الإسلامي لا أعتبر هذه المسائل مسائل تتقابل فيها الحضارات بالتقابل بين الخصوصيات بل بالتسابق نحو الكونيات :الإسلام يعتبر البشر أخوة (النساء .)1 ولا يكتفي باعتبارهم اخوة (النساء :1من نفس واحدة) بل هو يعتبرهم متساوين كذلك ولا يتفاضلون إلا بالتقوى بمعنى أن التفاضل بين البشر \"خلقي-قانوني\" لأن تقوى الله تعني احترام القيم الخلقية وصيغها القانونية أو الشرعية .ومن ثم فهم مطالبون بالتعارف معرفة ومعروفا بوصفهم بشرا لا غير (شعوب وقبائل). فالحجرات 13تدعوهم بصفتين انثروبولوجتيين (شعوبا وقبائل) ولا تدخل العامل الديني أو العرقي أو الجنسي مكتفية بنوع الانتظام الجمعي الأنثروبولوجي الطبيعي وهو تعدد يعتبره القرآن من آيات الله ومنه الالوان واللغات والثقافات التي لا تفرق بين تنوع يحافظ على الكليات المشتركة. ومن علامات الاقتصار على ذلك عنوان مقدمة ابن خلدون :فهو سمى علمه الجديد \"علم العمران البشري و(علم) الاجتماع الإنساني\" .ومن ثم فرغم تركيز كلامه على الحضارة الإسلامية فإنها تمثل عينة ومثال من الإنساني وليست هي الإنساني عامة ومن ثم فما يدرسه فيها هو الكلي الإنساني وليس ما هو خاص بالمسلمين. فدور المحدد الجغرافي المناخي وما يترتب عليه من الموقف الواعي بشروط القيام وتفاعلهما فيه الاتجاهين من الأول إلى الثاني ومن الثاني إلى الأول والحصيلة تكون أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- الجماعات البشرية بداعي التعاون على سد الحاجات والحماية وهما بعدا الباب الأول من المقدمة أمر كوني في كل جماعة بشرية. والشكل الاول من العمران البشري أو العمران البدوي وما فيه من \"نحل عيش\" ليس خاصا بالمسلمين بل هو كوني ولعل أبرز مثال هو مفهوم \"العرب\" الذي ظنه الكثير متعلقا بالعرب كعرق في حين أن القصد هو مفهوم انثروبولوجي يصف اقصى البداوة في كل شعوب الأرض بديل ضم الأكراد :الصحراء والإبل. والانتقال من العمران البدوي إلى العمران الحضري يقتضي بينهما تكون الدول وهو مشروط بتطور \"نحل العيش\" لأن الدول تعني الوصول إلى مستوى معين من الاكتفاء في سد الحاجات وفي الحماية حتى يتحقق للاستقرار فتتكون الدولة والمدينة .وهذا كله كوني كمطلب وكأساليب علاج .فيحصل العمران الحضري. والعمران الحضري يلتقي فيه غاية العمران البدوي وبداية العمران الحضري أو غاية الاعتماد على الانتاج الطبيعي في الاول وبداية الاعتماد على الإنتاج الصناعي في الثاني وهما كذلك ظاهرتان كونيتان وليستا خاصتين بجماعة معينة إلا من حيث الأساليب. والنتيجة البابان الأخيران للاقتصاد وللعلوم. وهكذا فالمقوم العام موضوع الباب الاول (شروط نشأة الجماعات الطبيعية والثقافية) ثم المقومات الخمسة المتفرعة عنه: • العمران البدوي بغلبة نحل العيش التابعة للطبيعة (الباب )2 • تليها تكون الدول (الباب)3 • المدن أو العمران الحضري بغلبة النحل العيش التابعة للصناعة (الباب )4 • عن ذلك الاعتماد على الإنتاج الإنساني الصناعي (الباب )5 • والانتاج العلمي العائد على كل ما تقدم بنظريات وتطبيقاته وأدواته (الباب 6 والأخير). أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- وكل هذه المقومات كونية وليس فيها خصوصي إلا الظرفيات .وكل من يركز على الظرفيات لا يفهم المحددات التي أبحث عن جبر كسورها فلا يدرك طبيعة مطالبي الفلسفية .ولو كنت ممن يجرون وراء الموضة الفلسفية أو ممن يتدرعون بالخصوصيات لسهل أمر ما أصبح يعتبر مصعد الشهرة في المناخ الثقافي العربي المسموم .لكني آليت على نفسي فهم أسرار انحطاطنا الذي لا ينكره إلا من يواصل الكذب على نفسه :السر ليس طارئا بل هو في علوم الملة نفسها وفي اكتفائها بالمباشر. وهو الآن يجمع بين نوعي الانحطاط :فكاريكاتور التأصيل يعتبر إحياء ما كان سبب الانحطاط سبيلا للخروج منه وكاريكاتور التأصيل يعتبر استيراد ما صار سبب الانحطاط سبيلا للخروج منه .ومن هنا الحرب الأهلية بين الكاريكاتورين لتوهم الخصوصيات الأسلوبية جوهر المقومات الحضارية في الحالتين. فالحضارتان الإسلامية والغربية ليستا حضارتين بما فيهما مما يتميز به المسلم عن الغربي ولا الغربي عن المسلم بل هما تكونان سويتين بما هو كلي يشترك فيه المسلم والغربي أي بالإنساني وهو ما يسميه ابن خلدون \"معاني الإنسانية\" وهما ينحطان بمجرد فساد هذه المعاني بنفس المصطلح الخلدوني. وبشيء من التبسيط يمكن القول إن ما به تكون الأمم قوية وما به تصبح ضعيفة كلي ولا يختلف من حضارة إلى حضارة ولا من لحظة من تاريخ نفس الحضارة إلى لحظة أخرى من تاريخها .وسر القوة هو صلاح معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون وسر الضعف هو فساد معاني الإنسانية بنفس اللغة. ولذلك فابن خلدون قبله ابن تيمية وقبلهما جزئيا الغزالي مهدوا لي الطريق للبحث في جبر الكسور التي تعاني منها حضارتنا في ما في أحاديثها عن أحداث ماضيها التي مضت وفي أحاديثها عن أحداث مستقبلها التي لم تقبل بعد وخاصة لاكتشاف السر في فساد معاني الإنسانية وعلاجهما الكونيين. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- وإذا كان حديثنا عن أحداثنا ماضيهما ومستقبلهما في خضم حاضرهما يعود إلى أصلين هما القرآن والفلسفة اليونانية وما بينهما من تفاعل في الاتجاهين وأثرهما في علوم الملة الغائية الخمسة وفي علومها الأداتية الخمسة فإن موضوع البحث ومجاله يقتضي ضرورة البحث العميق في الأصلين وتفاعلهما في الاتجاهين. وهذه النتيجة في طلب المسالك إلى علل المهالك في حضارتنا هي التي فرضت على بحثي بروز المدرسة النقدية -الغزالي وابن تيمية وابن خلدون-باعتبارها تمثل السبق الذي لا يمكن نكرانه والذي كان من واجبي الاعتراف لها بالفضل في ما أوحت لي به من مجال بحث لعلاج أدواء الأمة بـمنظور جديد. ولا يمكنني أن أكون ناكر جميل هذه المدرسة فأخضع للخوف من إرهاب الحداثيين العرب الذين يزعمون التفلسف وهم أجهل خلق الله بالفلسفة المحيطة بحضارتنا أعني المتقدمة عليها (اليونانية) أو المتأخرة عنها (الاوروبية) .فالفلسفة اليونانية القديمة وتأثيرها السابق والفلسفة الغربية الحديثة وتأثيرها اللاحق على أهمية دورهما لا ينبغي أن يتحولا إلى علة التشويه النسقي بمجرد جعلهما معيار تقويم. فعندي أن معيار التقويم لا ينبغي أن يستمد من خصوصيات مزعومة لأي من هذه التجارب الحضارية الثلاث ما تقدم على ازدهار حضارتنا وما تلاه بل هو الكلي فيها جميعا وهو ذو صلة بالإشكالية الابستمولوجية والإشكالية الأكسيولوجية المتجاوزتين للخصوصيات لأن الفلسفي والديني لا يرد إلى الفلكلوري في الحضارات بل هو الإنساني الكوني فيها وهو لا يتجلى إلا بوصفه التداركات المتوالية بين الحضارات المتخاصبة. فيكون التدارك المتبادل والتخاصب سر التراكم الحضاري الكوني الذي يوحد الإنسانية لئلا تبقى أرخبيل جزر حضارية منغلق بعضها عن بعضها .وأهم خاصية في حضارتنا أنها حضارة التخاصب شبه المطلق بين كل الحضارات التي تقدمت عليها والتي عاصرتها من منطلق مبدئي صريح في القرآن الكريم الذي يؤمن بالأخوة البشرية (النساء )1وبحصر التفاضل بين البشر في التقوى دون تمييز عرقي أو ديني أو جنسي (الحجرات .)13 أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- لذلك فما أطلبه ليس الخصوصيات الحضارية والفكرية في مرحلة التاريخ التي كان الدور الأول فيها للمسلمين بل وجوه التدارك في المسألتين الابستمولوجية والأكسيولوجية وما ترتب عليها من تخاصب مع ما تقدم عليه وما تلاه لتحديد الدور وإحياء الطموح لدى شباب الأمة بجنسيه في السعي لتحقيق شروط الاستئناف. وكم يضحكني كلامهم ودعواهم أني أطلب المستقبل من الماضي وأني ماضوي لأني اهتم بالغزالي وابن تيمية وابن خلدون بخلاف دعواهم الاهتمام بالمستقبل .فأهم فلاسفة الغرب الذين يدعون الكلام في فكرهم -بجهالة مضحكة-يستمدون حداثتهم وما بعدها مما قبل سقراط ومن الميثولوجيا اليونانية. وطبعا فلأنهم يجهلون أن ما بعد الحداثة التي يباهون بكلامهم الصحفي فيها أكثر عودة لما قبل سقراط والميثولوجيا مما يخطر على عقول العصافير الحداثية العربية فإنهم يتصورون أنفسهم استقباليين ويعتبرون بنفس الجهل والدغمائية من يراجع موقف فكرنا من الفلسفة اليونانية لتجاوز خصوصياتها دليلا على تخلف صاحبه. فالغزالي جزئيا وابن تيمية وابن خلدون بصورة أتم لم يكونوا يبحثون عن خصوصية إسلامية أو عربية بل كانوا يحاولون تجاوز الشكل اليوناني من الفكر -وهو خليط بين الارسطية والأفلاطونية يجمع بينهما القول بالمطابقة-لطلب ما يعتبرونه أكثر كلية وتعبيرا عن وعي العقل بذاته وبحدوده. فكان أهم إنجاز حققوه هو تحرير العقل الإنسان من القول بنظرية المعرفة المطابقة التي كانت مشتركة بين الكلام والفلسفة وخاصة بعد أن تم الخلط بينهما من حيث المضامين والمناهج كما بين ذلك ابن خلدون في ما حاولنا شرحه في الفصول السبعة التي خصصناها لهذه الإشكالية وحوائل فهم ثورته. وعندما يتخلص الفكر من وهم المطابقة يراجع ذاته باستئناف قراءة حديثه عن أحداث ماضيه المذكورة ليصوغ حديث أحداث مستقبله المتوقعة .فالفكر الإنساني لا يتقدم نحو أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- أحاديث تصوغ أحداث المستقبل إلا بقدر ما يتأخر لمراجعة أحاديث الماضي حول أحداثه: ذلك ما يغيب على أغبياء الحداثة العربية. وهذه هي العملية التي أسميها جبر الكسور .الكسور اليوم هي بين ماضينا أحداثه وأحاديثه حولها ومستقبلنا أحادييه وأحداثه التالية عنها .فالحاضر الغامض بما فيه من حرب أهلية بأبعادها التي وصفت في الفصول السابقة لا يمكن علاجها باستراتيجية واعية تقود علمنا على علم من دون جبر الكسور. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- لم يكن بالوسع مواصلة النهج الذي اعتمدت عليه المدرسة النقدية العربية-الغزالي وابن تيمية وابن خلدون-والاكتفاء بالرد على مواقف بمواقف -على أصحاب العلوم الغائية الخمسة وبعض العلوم الأداتية وخاصة المنطق-من دون تجاوز المباشر إلى غير المباشر المشترك بين المواقف المتقابلة في الصفين. كان لا بد من الانتقال إلى مستوى أرفع وأكثر تجريدا مستوى غير مباشر يحدد طبيعة الأرضية المشتركة التي يقف عليها الصفان في تقابل المواقف حتى يتجاوز الكلام المقابلة بين نقلي عقلي وبين ديني فلسفي إلى إشكالية واحدة هي الواحد في الديني وفي الفلسفي والذي يعلل بعدم الوعي به طبيعة المعركة. وما ساعدني في ذلك أمر قد لا يخطر على البال :عندما كنت طالبا في دار المعلمين العليا صادف أن اغرمت بفكر هيجل في نفس الوقت الذي كانت أطالع بصورة نسقية الفلسفة اليونانية وخاصة أرسطو وأفلاطون .لم أكن معنيا بالفلسفة العربية وعلوم الملة رغم أني عنيت سطحيا بخصومة التهافتين بين الغزالي وابن شد. كنت أعجب من محاولات المثالية الألمانية تجاوز الإضافة الكنطية التي تمثلت في صوغ التحرر من القول بنظرية المعرفة المطابقة التي كانت أساس الفلسفة الحديثة الضمني ولم تصل إلى صوغها الابستمولوجي وغايتها الاكسيولوجية إلا في نقد العقل الخالص واستعماله العملي عند كنط. النكوص الهيجلي هو الذي كان سبب حيرتي الفلسفية :فقد بدا بنحو ما وبخلاف الظاهر عودة إلى الفكر المدرسي الوسيط والفكر المتقدم على الفلسفة اليونانية الكلاسيكية التي تدعي القطع مع ما قبل سقراط وتقابل بين العقلي واللاعقلي أو بين الفلسفي واللوغوس من جهة والديني والميتوس من جهة ثانية. انبهاري بهيجل حماني من الموضة الماركسية .لم أستسغ السطحية التي كان عليها فكر الماركسيين عامة والعرب منهم على وجه الخصوص .والماركسية غزت أبناء جيلي من الطلبة أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- فكنت أجد في الهيجلية نوعا من \"ميكانيسم\" الحماية الذاتية :لا أخرج من موضة الحداثة عامة دون أن أكون ماركسيا. وهو بنحو انجاز لعسر استثناء الذات من المناخ الطالبي العام بصورة قد تؤول على أنها انزواء انطوائي خاصة وموضة الحركات الإسلامية في الحياة الجامعية لم تكن قد نشأت بعد وما أظني كنت سأنتمي إليها لو كانت موجودة بالشكل الذي وجدت عليه لاحقا والذي لم يكن ليجذبني لا بأدبياته ولا خاصة بطابعة السياسي المباشر لأن ميلي الغالب هو الفكر غير المباشر أو النظر المجرد والانشغال في بكبار المفكرين القدامى (اليونان :أفلاطون وارسطو) والمحدثين (ديكارت وهيجل). وكنت حينها من محبي كتب صاحب المقولة المشهورة \"الماركسية هي أفيون المثقفين\" (ريمون هارون أول باحث اجتماع عرف الفرنسيين بعلم الاجتماع الألماني) ردا على المقولة الماركسية الأشهر \"الدين أفيون الشعوب\" .فكوني من أبناء البادية من أسرة ذات ثقافة دينية جعلني الفكر الماركسي رفضا مبدئيا. لكن الرفض المبدئي لم يكن ذا أسس فلسفية كافية حتى لا يكون معقدا إزاء زعم المادية الجدلية نظرية علمية .ويمكن القول إن كل ما تلا ذلك بما فيه محاولة التحرر من الانبهار بهيجل ورفض المنطق الجدلي نفسه نتج عن هذه العلاقة بالموضة التي كانت مسيطرة على جيلي :موضة الماركسية والقومية. وفي الجملة فإن الكسور التي أتكلم على جبرها لم تبق كسورا خارج ذاتي فحسب بمعنى أني لم أكن أشعر بأنه لا وجود لما ربيت عليه في البادية ولما أعيشه في الجامعة مع زملائي في الاعيان الفعلية وما اعيشه في الكتب أو الأعيان الرمزية العارضة للتراثين الإسلامي والغربي الحديث بل في ذاتي نفسها. الأمر يتعلق بجبر الكسور في ذاتي بين ذاتي التي ربيت اسلاميا على ثقافة تقليدية في الأسرة والبادية وثقافة جديدة لا يوجد ما يصلها بالأولى خاصة وهي بالفرنسية وفي في أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- لحظة كان فيها كبار الأستاذة الفرنسيين هم المتعدون بتكويننا-ميشال فوكو مقيما في تونس والبقية زائرين ولا يقلون عنه منزلة. ولا مخرج من ذلك إلا بمشروع فيه طموح الشباب وجنون الإرادة التي تتصور الممكن حاصلا في شكل أحلام قلما تتحقق .لكنها دافعة إلى شيء من اخذ التحدي بجدية .فكان التشخيص يقتضي العودة إلى الجذور :الفلسفة اليونانية والقرآن وما يترتب على تفاعلهما في ثقافة المسلمين وصلة ذلك بالغرب الحديث. هي إذن مغامرة انطلقت من الغرب الحديث إلى \"الغرب\" القديم (كما صورته إيديولوجيا الغرب الحديث زعما بأنه ابن اليونان وفي قطيعة مع حضارة الإسلام) فكي كماشة بينهما الحضارة الإسلامية التي تعيش لحظة تعثر تحول دونها واستعادة الثقة بالنفس لتحقيق شروط الاستئناف. فصار مشكل جبر الكسور في ذاتي له نظير في ذات الحضارة العربية الإسلامية أو هكذا عشته منذئذ إلى اليوم أي من 1968سنتي الجامعية الثانية في كلية العلوم الإنسانية وفي دار المعلمين العليا إلى اليوم .فكانت المغامرة مع الفلسفة اليونانية وعلومها وشروحها العربية دراسة ثم تدريسا (الرياضيات عند أفلاطون وأرسطو واقليدس). ولم يكن اختيار هذا الثالوث بالصدفة :فالكسر الذي تعاني منه الحضارة العربية الإسلامية كان متعلقا بما في علوم الملة الغائية من حوائل دون علوم الآلة فيها ليس في استعمالها البسيط فيها بل في ما غاب من استعمالها لجعل الأمة تتجاوز ثقافة الأقوال إلى ثقافة الأفعال تحقيقا لقيام الإنسان. ففي ثقافتي التقليدية (أسرتي تكوينها إسلامي تقليدي) لم نكن نجهل أن الإنسان يعرفه القرآن بكونه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها .والعلوم الأدوات (اللغة والتاريخ والمنطق والرياضيات والوسميات أو السيميوتكس) هي التي يمكن لشكلها البسيط أن ينحصر في الأقوال والمعقد أن يحقق الأفعال :وهذا هو الغائب. أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- علوم الملة كلها بما فيها الفلسفة كانت دون الانتقال من الشكل البسيط الذي لا يتجاوز الاقوال إلى الشكل المعقد الذي يعالج الأفعال :وتلك هي بؤرة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة أو الفرق بين ما توقف دونه إبداع حضارتنا وما تجاوزته به الحضارة الغربية الحديثة. ولذلك فأول بحث فلسفي حقيقي كان حول منزلة الرياضيات في علوم أرسطو .وأول درس في الأبستمولوجيا قمت به في الجامعة بداية من 1983كان شكل العلم الأول أو الشكل الإقليدي والشروح العربية التي تعلبت بكتاب الأصول الإقليدية وتطبيقاته .ثم تلته دروس حول البصريات عند اليونان والعرب. ومعنى ذلك أني لم أعنى قط بالعلوم الدينية الغائية الأربعة الباقية :التفسير والفقه والتصوف والكلام .اقتصرت على الفلسفة .وما هالني هو أني لم أجد فيلسوفا عربيا من الكندي إلى ابن رشد يمكن أن ننسب إليه إضافة تتجاوز الشكل الأرسطي والاقليدي باعتبارهما علمين وصفهما الفارابي بكلمته الشهيرة. فقد قال الفارابي في كتاب الحروف حول اكتمال العلم \"لم يبق إلا أن يعلم ويتعلم\" لتأسيس نظريته في الملة أو الدين أو فلسفة العمل .وهنا بدأ البحث في تأثير مثل هذا القول الذي هو أساس كل شروح ابن رشد :رفض كل ما تم بين أعمال أرسطو وشروحه هو بوصفه انحرافا عن المعرفة العلمية الصحيحة ومن ثم الدعوة للعودة إلى المتن الأرسطي علما نهائيا. عندئذ بدأت أتساءل :ما الشيء الذي يجعل الفلاسفة يقولون بهذه الرؤية فينطلقون منها ليعتبروا ذلك علما بالحقيقة ويعتبروا أنفسهم راسخين في العلم (ما يقوله ابن رشد في رده على المتكلمين :مناهج الأدلة) رسوخا يبرر عطفهم على الله في قدرة التأويل (آل عمران )7لرد النقل إلى العقل بلغة عصرهم؟ وهذا السؤال يلازمه سؤال عن الموقف المقابل :ما الذي يحول دون رد النقل إلى العقل أو ما الذي ينتج عن رفض عطف علم الراسخين في العلم على علم الله من حيث هو قدرة أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- على تأويل المتشابه (آل عمران )7أو من حيث هو وعي بحدود العقل وطبيعة علاقته بالوجود :مطابقة أو عدم مطابقة. عندئذ بدأت المغامرة الثانية :النظر في علوم الملة الأخرى أي في التفسير وفي الكلام وفي الفقه وفي التصوف انطلاقا من بداية أولية كانت في الخصومة الغزالية الرشدية أو في التهافتين .ففيهما بدأت معركة المطابقة وعدم المطابقة أو الوعي بالمسافة اللامتناهية بين الوجود والإدراك. فهذا الوعي بلا تناهي المسافة بين الوجود والإدراك هو بداية المدرسة النقدية التي تمثل بداية التحرر من الرؤية الفلسفية اليونانية ومحاولة تأسيس رؤية فلسفية متجاوزة لها ليس بمنطلق عقدي ديني بل بمنطلق ابستمولوجي فلسفي :ما الذي يجعل أساس بداية الفلسفة اليونانية موضع سؤال فلسفي أرقى؟ لا شك أن الدافع الأول ديني .واقصد أن الغزالي وابن تيمية وابن خلدون كان لهم دافع ديني لطرح هذا السؤال الابتسمولوجي .لكن العلاج بالتدريج بدأ يفقد الاقتصار على الدافع الديني ويتحول إلى دافع ابستمولوجي يوصد العلاج الفلسفي لمسألة التوحيد بين الوجود وإدراكه العقلي الذي هو أساس الفلسفة اليونانية. وهنا انقلبت الأمور :لم يعد الدين الدافع لهذا هذا السؤال مصدرا للدغمائية بل صار محررا منها وتبينت الحقيقة وهي أن الفلسفة تأسست على فكرة دغمائية تخلط بين شرط البداية البسيطة للمعرفة العلمية-اعتبار المدارك الحسية وتنسيقها العقلي كافيين للعلم مع توهمه علما محيطا استنادا إلى القول بمطابقة الإدراك لموضوعه -وحقيقة المعرفة العلمية عندما تصبح واعية بكل شروطها .فوهم المطابقة مفيد للبداية وضار بالغاية. ومن هنا بدأت أراجع علوم الملة وأدرسها في ضوء تساؤلات المدرسة النقدية أعني خاصة ابن تيمية وابن خلدون لأن الغزالي الذي كان صاحب الانطلاقة نكص وتصور أن الفلسفة السينوية والكشف الصوفي يخلصانه من الشك فيجيبان عن سؤاله الجوهري :حقيقة طور ما وراء العقل أو المسافة بين الوجود والإدراك أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- حددنا نوعي الكسور التي يعتبر جبرها شرطا في الاستئناف الذي يعيد للأمة دورها في التاريخ العالمي لأن أمة كانت نشأتها الأولى كونية لا يمكنها أن تعتبر نفسها قد استأنفت دورها إذ لم تكن نشأتها الثانية بعد الانحطاط الذاتي الذي مرت به على الأقل بمستوى نشأتها الأولى ولا يكفي للخروج من انحطاطها تبنى انحطاط من استعمرها فتتبعه. لا بد أن يكون دورها المستأنف على الأقل بمستوى دورها الأول ما يعني أن البداية في الاستئناف هي جبر الكسور الذي جعله يفقد جذوته فلم يستطع الصمود أمام منافسيه عليه بشيء فشل في تحقيقه ولا يمكنه من دون تداركه أولا وتجاوز من تجاوزه بما لم يتحقق عنده ثانيا أن يستأنف دورا كونيا. تلكما هما المقدمتان اللتان بنيت عليهما محاولة فهم وقوع الحضارة الإسلامية بين فكي كماشة يمكن وصف الاولى بكونها الحضارة القديمة في نهاياتها والحضارة الحديثة في بداياتها فتكون الرؤية الإسلامية-القرآن -التي هي قلب هذه الحضارة أساس هذا الدور ويكون التعامل معها علة الانحطاط. ومن هنا استنتجت أن جبر الكسور يقتضي مراجعة هذا التعامل في ضوء تفاعل التعامل مع القرآن في ضوء العلاقة بفكي الكماشة ما تقدم عليه وما تلاه وحصر التعامل في نوعي الكسور :النظري العقدي والعملي الشرعي والأول بوصفه علاج العلاقة العمودية وما وراءها والثاني علاج العلاقة الأفقية وما وراءها. والمعلوم أن القصد بالعلاقة العمودية هو علاقة الجماعة بالطبيعة لسد حاجات قيامها المادي بعلم قوانينها وتطبيقاتها والقصد بالعلاقة الافقية هو علاقة الجماعة بالتاريخ لسد حاجات قيامها الروحي بعلم سننه وتطبيقاتها .والسد الأول هو تعمير الأرض والثاني هو الاستخلاف في الأرض باصطلاح القرآن .فنكون بذلك قد شخصنا الكسور التي نريد جبرها فاعتبرناها متعلقة بعلل الفشل في تعمير الأرض وفي الاستخلاف .وبذلك يكون العمل بحثا هادفا إلى: أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- .1ما علل الفشل في النظر والعقد اللذين جعلا علاج العلاقة العمودية يفشل؟ .2ما علل الفشل في العمل والشرع اللذين جعلا علاج العلاقة الافقية يفشل؟ وفضيلة هذا التشخيص هو أنه يشير إلى ظاهرتين ما تزالان قائمتين حتى بعد قرنين من محاولات الاستئناف في كل بلاد الإسلام وخاصة في العربي منها .فلا تزال مجتمعاتنا عاجزة عن علاج علاقة الجماعة بالطبيعة والتاريخ علما بقوانين الاولى وسنن الثاني وتطبيقهما لها لسد الحاجات المادية والروحية. والمراجعة التي تعلقت بالنظر والعقد أوصلتنا إلى البحث في تحريف الدستور التربوي والعلمي اللذين حددهما القرآن وكان يمكن أن يخرجا الأمة من الكماشة بين نهاية الفكر القديم وبداية الفكر الحديث فيهما والمراجعة التي تعلقت بالعمل والشرع أوصلتنا إلى البحث في الدستور السياسي والخلقي. فكان ينبغي إذن أن أبحث في الدستور التربوي والعلمي الذي وصفه القرآن وفي التحريفات التي بنيت عليها علوم الملة الغائية الخمسة أعني التفسير والعلمين النظريين الفلسفة والكلام والعلمين العمليين التصوف والفقه وبيان علل فسادها في علاج العلاقة العمودية شرط تعمير الأرض في حضارتنا. وكان ينبغي أن أبحث في الدستور السياسي والخلقي الذي وصفه القرآن وفي التحريفات التي بنيت عليها أعمال الملة الغائية الخمسة أعني تطبيقات هذه العلوم في تنظيم حياة الجماعة بصورة تجعلها بحق جماعة مستخلفة وبيان علل فسادها في علاج العلاقة الافقية شرط الاستخلاف في حضارتنا. والغاية من هذه البحوث الخروج من العلاج التعويضي بالكذب على النفس من خلال الكلام في فضل المسلمين على غيرهم مبالغة في إطراء الذات أو في فضل غيرهم عليهم مبالغة في ذمها والذهاب مباشرة إلى علل الانحطاط الذاتي أولا وعلل محاولات تبني الحداثة في شكلها المنحط أعني إيديولوجية الاستعمار. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- فوضعنا الحالي هو الوضع الذي يمثله الكاريكاتوران والحرب الاهلية التي يؤججانها: كاريكاتور التأصيل بأحياء أمراض الماضي ظنا أنها شرط الأصالة وكاريكاتور التحديث بتبني أمراض الحاضر ظنا أنها شرط الحداثة فيكون كلا الحزبين لا يطلب القيم والسنن الكونية شرطا للعلاج بل تنافي الخصوصيات. وهكذا تبين أن كلا الكاريكاتورين واحد .لا يختلفان في شيء :فكلاهما ينسب النجاح الموهوم إلى خصوصية ما يتبناه ويعلل الفشل بخصوصية خصمه وكلاهما لا يجد أدنى كونية إنسانية في كلتا الرؤيتين موجبها وسالبها بمعنى المشترك في النظر والعقد وفي العمل والشرع لعلاج العلاقتين إيجابا أو سلبا. وبدلا من الدخول في خصام مع الكاريكاتورين فضلت قبل تحديد موقفي منهما أن أبحث أولا في دلالة النظر والعقد بمنظور فلسفي وبمنظور ديني قرآني وما يمكن أن يعتبر كليا في الرؤيتين القرآنية والفلسفية وما يترتب على كليته من دور في علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة. وفضلت قبل تحديد موقفي منهما أن أبحث ثانيا في دلالة العمل والشرع بمنظور فلسفي وبمنظور ديني قرآني وما يمكن أن يعتبر كليا في الرؤيتين القرآنية والفلسفية وما يترتب على كليته من دور في علاج العلاقة الافقية بين الإنسان والإنسان .وها نحن أمام إشكالية الدستورين الإبستمولوجي والأكسيولوجي. تبين أن المسألتين هما من طبيعة ابستمولوجية -نظرية المعرفة-وأسكيولوجية-نظرية القيمة-في الرؤيتين القرآنية والفلسفية عندما نتحرر من الكاريكاتورين ونجعل مطلبنا متعلقا بما هو كلي وليس بما هو خصوصي في فعاليات الإنسان النظرية العقدية والعملية الشرعية باعتباره معمرا للأرض ومستخلفا فيها. وحتى لا يكون شيء في كلامي من الضمائر المسكوت عنها سأبدأ بتعليل الجمع بين النظر والعقد في علاج العلاقة العمودية وبين العمل والشرع في علاج المسألة الأفقية واعتبار أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- الأولى مسألة ابستمولوجية والثانية مسألة أكسيولوجية لأن أساس هذه الضمائر كلها هو نفي التعارض الوهمي بين الديني والفلسفي على أساس القول بالمطابقة والعلم المحيط. وهذا النفي بين من خلال الجمع بين النظر والعقد لأن القائلين بالتعارض يتوهمون أن الفلسفي عقلي خال من العقدي والعقدي خال لا عقلي خال من العقلي وعادة ما يعبر أصحابه عن ذلك بالمقابلة نقلي عقلي .وهذه النقلة من عقلي لا عقلي إلى عقلي نقلي هي الانزلاق الوهمي عند مزيف العقلانيين. ويزداد التزييف عندما يدعون رد المنقول إلى المعقول بالتأويل قيسا للغائب على الشاهد خلطا بين الغائب والغيب .فهذا ينتهي في الغاية إلى أن الديني لا يختلف عن الفلسفي إلا بالعبارة التي تجعله قابلا للتبليغ للعامة ومن ثم إلا بما فيه من غير عقلي أي بالإيديولوجي: ليس اعترافا بوحدتهما العميقة الناتجة عن الاعتراف بعدم القدرة على الإحاطة بل برد أحدهما إلى الثاني الذي يظن محيطا للقول بالمطابقة. وإذا كنت أنسب إلى ابن تيمية العبقرية الفلسفية الفريدة في عصره فلأنه لم ينقد المنطق بمعنى الجدل في مضمون التحليلات الأوائل بل هو اهتم ببيان أن أساس التحليلات الأواخر هو رد الوجود إلى الإدراك ومن ثم العودة اللاواعية للرأي السوفسطائي القائل بالإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه :أدرك ما اعتمد عليه الوهم البارمينيدي الموحد بين الوجود والنوس وافتراض الثاني محيطا ونسبته إلى الإنسان. وبهذا فسر العبارة الشهيرة مع توسيعها :من \"تمنطق فقد تزندق في النظر\" وزاد \"وتقرمط في العمل\" .والقصد أنه رد الوجود إلى الإدراك في النظر واستنتج منه نفي كل ما يتجاوز الإدراك الإنساني وهو النفي الذي جعل كل الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة يعتبرون كل ما لا يطابق علمهم الذي ظنوه محيطا ينبغي رده إليه بالتأويل لأنه مجرد ظاهر حقيقته هي الباطن الذي يعلمونه إما بالعقل أو بالكشف. ومن له دراية بالفرق بين المنطقين التحليلي والمتعالي بالمعنى الكنطي فإن النقد التيمي يتعلق بما يناظر الثاني وجديده فيه وليس في الأول لأن كل ما أروده بخصوصه كان معلوما أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- ويشترك فيه كل من تكلم على المنطق الأرسطي رغم أنه حاول رد المنطق إلى الحساب الرياضي وهو بنحو ما فيه بعض الجدة :حاول رد كل العلاقات المنطقية إلى علاقة اللزوم والتلازم. وما أضفته إلى محاولات المدرسة النقدية هو أني بينت أن الفلسفي من حيث هو فلسفي أساسه عقدي هو بدروه وفيه ما هو نقلي تماما كالديني الذي له نفس البنية: .1فالنقلي في الفلسفي هو موضوعه والعقلي هو شكله :ولولا ذلك لاستغنى العلم العقلي عن التجربة الفعلية. .2والنقلي في الديني هو موضوعه والعقلي هو شكله :ولولا ذلك لاستغنى العلم الديني عن التعليل المنطقي. وما ليس بقابل للإدراك العقلي فيهما كليهما هو استحالة رد الوجود إلى الإدراك. والوعي بهذه الاستحالة هو التغير الأبستمولوجي الأساسي الذي يدين به الفلسفي للديني هو هذه النقلة من القول بالمطابقة إلى القول بامتناعها .وقد صار هذا الوعي فلسفيا عندما تجاوز الاستناد إلى مجرد العقد بوجود الغيب إلى بيان امتناع الإحاطة في العلم بالعلم نفسه لما أصبح العقل الإنسان واعيا بحدوده. فيكون الديني الذي يرفض ريد الوجود إلى الإدراك قد سبق ابستمولوجيا الفلسفي الذي لم يصل إلى هذه الحقيقة إلا مؤخرا بعد أن تبين أن ما نعلمه من الوجود يبقى دائما صورة عنه وليس هو إياه .ولولا ذلك لاستحال أن يكون العلم ذا تاريخ .كل لحظة من لحظات علمنا هي خطوة في تجويد صورتنا عن الموضوع. وإذن فالجمع بين النظر والعقد يفيد أنه لا توجد قضية منفصلة عن الموقف القضوي إلا فرضيا :فالمفروض أن تكون كل قضية مسبوقة بموقف قضوي يبين درجة العقد في مضمونها :لكأنك تقول أعتقد أن كذا هو كذا وفي ذلك أمران معرفي وخلقي .فمعرفيا أصف درجة علمي وخلقيا أتواضع فلا أدعي الإحاطة بالموضوع. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- ونفس الأمر في الجمع بين العمل والشرع .فعادة نتكلم على العمل في الفلسفة وعلى الشرع في الدين .لكن العمل في الفلسفة غير قابل للتصور من دون تشريعات صورة لتنظيمه .والتشريع في الدين غير قابل للتصور من دون عمل مادة لفعل التنظيم .الجمع في الحالتين هدفه التصريح بالمضمر فيهما كليهما. وعندما نصرح بالمضمر في النظر والعقد نكتشف أن الفلسفة بوهم المطابقة لم تذكر ما ليس بعقلي في قضاياها أعني المضمون فسمت معرفتها بالعقلية وقابلتها بنسبة النقل إلى الدين .لكنها هي بدروها مضمونها نقلي :فالموضوع ليس عقليا بل هو صورة منقولة عن موضوع الإدراك العقلي. وعندما نصرح بالمضمر في العمل والشرع نكتشف أن الفلسفة بوهم المطابقة الأولى في النظر والمطابقة الثانية في العمل لم تذكر ما ليس بعقلي في قضاياها العملية أعني فعل التشريع المشروط في كل عمل .فالتشريع فعل إرادة وهو تعبير عن المعطى اللاعقلي في العمل وخاصة عند تعدد الإرادات وتنافسها. أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- فكانت النتيجة شديدة العمق والتعقيد لأن الكسور كانت على نوعين وكلاهما يمثل علة الانحطاط الذاتي وما ترتب عليه من الوقوع تحت الوصاية الاستعمارية ووراثة الانحطاط المستورد .فاجتمع على الأمة الانحطاطين الذاتي والموروث عن الحقبة الاستعمارية: .1أولا الكسور لم تبق من نوع واحد أي بين ماضينا وحاضرنا في علاقة بالغرب المتقدم عليها والمتأخر عنا بل يوجد نوع آخر وهو أخطر وهو الأول وعلة الثاني. .2النوع الثاني الأخطر هو العائق الأكبر لتحقيق شروط الاستئناف وهو متعلق بعلوم الملة ذاتها وبصورة أفعالها لدى المستأنفين. ولأزد الأمر وضوحا .فبالمقارنة مع الغرب غاب ما سميته بؤرة أو نوع الكسور الأول أي أن شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها المعرفية والخلقية فقدت في الحضارة الإسلامية وتلك هي علة الانحطاط أو فساد معاني الإنسانية بالمصطلح الخلدوني :العجز في علاج العلاقة بالطبيعة والعلاقة بالتاريخ. لكن الأخطر هو نوع الكسور الثاني :فالتصور الساذج الذي يقابل بين عصر الراشدين وكل ما تلاه وخرافة المقابلة بين الخلافة الراشدة والملك العضوض يجعل جبر الكسور التاريخية في الوقائع وليس في علومها أمرا مستحيلا ما يعجل هذه الرؤية تهدم الموجود باسم المنشود المستحيل. فما كان مستحيل البقاء بعد الراشدين سيكون من باب أولى مستحيل الاستعادة بعد 14 قرنا .ومن السذاجة الكلام على المقابلة بين الخلافة والملك العضوض بوصفهما مقابلة بين مثال أعلى مستحيل التحقيق وتاريخ فعلي مستحيل الإلغاء ومن ثم فلا يمكن جبر كسر بين مثال خيالي وواقع فعلي في تاريخ أمة. كانت بداية البحث طلب جبر الكسور المعرفية فصارت غايته الجمع بين نوعين من جبر الكسور وأصلهما الواحد ثم تفاعلهما في الاتجاهين .وكل ما حاولته علوم الملة -من خلال أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- الحوار مع الشيخ البوطي في ازمة أصول الفقه مثلا بثقافة قانونية حديثة-ثم خاصة منذ بداية تفسير القرآن يخص النوع الأول. لكن النوع الثاني هو اكتشاف طبيعة الكسر في العلاقة بين ما تقدم على الفتنة الكبرى وما تلاها وخاصة في الفكر السني لأن الفكر الشيعي لم يعش الأزمة بل هو شرعنها مبدئيا في حين أن السنة شرعنتها واقعيا ورفضت تشريعها المبدئي ما جعل أقوالها في واجب الشرعية مخالفة لأفعالها في أمرها الواقع. فلا شيء أكثر دلالة على سذاجة عدم فهم الحلين اللذين حصلا بعد الفتنة الكبرى ومحاولة قراءة التاريخ وكأنه يمكن تصور السياسة دون أخلاق والاخلاق دون سياسة فيكون العصر الراشدي عصر ملائكة وما بعده عصر شياطين ومحاولة التخلص من 14قرنا شيطانية للعودة إلى ثلث قرن ملائكي. وهو ما يغيب كل عيوب العصر الراشدي وكل فضائل العصر الموالي في حين أن التاريخ لا يمكن أن يكون بهذه الحدية .وهذه الصورة هي الرؤية الباطنية والشيعية التي بدون تبناها الفكر السني دون وعي وخاصة في المرحلة الإصلاحية منذ منتصف القرن التاسع عشر .وهما سذاجة وسطحية غير معقولتين. ونظير هذه السذاجة والسطحية هو توهم الديموقراطية الغربية ملائكية حتى صار بعضهم يزعم أنه يجد الإسلام دون مسلمين في الغرب ومسلمين دون إسلام في الشرق .وهي من علامات الانبهار السخيف لبعض الفقهاء الذين لم يدرسوا الغرب وطبيعة السياسي عامة أيا كانت طبيعة الأنظمة :كانوا ككل بدوي يزور المدينة لأول مرة. وفضلا عن كونهم لم يروا وضع العمال مثلا في ذلك الوقت -من قرأ آداب انجلترا في القرن التاسع عشر يعلم ما يندى له الجبين في الغرب ذاته -واكتفوا بما رأوه في صالونات بعض من كان لهم بهم علاقة ضيافة فالغريب أن هؤلاء المنبهرين جاؤوا إلى الغرب دون أن يكون ذهنهم خاليا من بشاعات الاستعمار وفظاعاته في بلادهم ما يعني أنهم الأخلاق أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- عندهم مقصورة على المعاملات في الغرب وليست شاملة للسلوك الإنساني عامة فيه أو خارجه كما يقتضي ذلك المفهوم الإسلامي للأخلاق. وبذلك تصبح فضائل من أقام شروط بقاء دولة الإسلام بما تقتضيه مقومات الفعل السياسي في الظرفيات التي مرت بها خلال أربعة حروب أهلية وخلال حرب عالمية للفتح رذائل بالقياس إلى نفاة مقومي الدولة التي لا تقول بالوساطة (سلطة روحية) ولا بالوصاية (سلطة الحكم بالحق الإلهي) :الدولة السنية. ولست أدعي أن الإصلاحيين كانوا قد صاروا باطنية لكنهم كانوا سذجا متصورين الأخلاق قابلة للفصل عن السنن السياسية أو أن السياسة قابلة للفصل عن السنن الخلقية حتى لو اقتضت الحالات الاستثنائية جعلها تبدو أحيانا وكأنها غير ملزمة بها الزاما صارما (والمسألة تقديرية) .ذلك أن الدولة من حيث هي دولة بحاجة إلى فاعليتين مادية هي الشوكة ومعنوية هي الشرعية .وفي حالات الاضطراب الشوكة تتقدم دائما بشرعية استثنائية على الشرعية العامة. النجاح في التغلب على أربعة حروب أهلية لتأسيس الامبراطورية الاسلامية التي نحن ثمرتها معجزة ينبغي أن يفاخر بها المسلمون لا أن يلعنوها بسذاجة المقابلة بين المثال والواقع أو بخبث الباطنية التي تقابل بين علي وبقية الصحابة ولا تتوقف عند الحرب على بني أمية :هذا عين الغباء والسذاجة. لذلك فلا بد من اعتبار ما حدث بالتوصيف الدستوري القانوني :ما حدث هو الانتقال من أحكام الدستور القرآني التي تعمل في الظروف العادية إلى أحكام استثنائية موجودة في القرآن أيضا تستعمل في الظروف غير العادية أو في ما يسمى بظروف الطوارئ :الحاجة إلى هذا الحل بأساس الضرورة تبيح المحظور. لكن الفقهاء جعلوا القانون الاستثنائي قانونا عاما :فردة الفرد لا تقتضي القتل لكنها كانت تفرض عليه بدلا من الزكاة دفع الجزية إذا كان قد اختار دينا آخر وبقي في حماية أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- الدولة الإسلامية أعني العودة إلى المبدأ العام في الوضع القانوني لغير المسلم ممن لا يطالب بالزكاة بل بالجزية. وبلغتنا الحديثة يمكن أن يبقى مواطنا وعليه دفع الضريبة ككل مواطن غير مسلم مثل أهل الذمة وكل الأقليات الدينية لأن الحج 17لا تقتصر على اهل الكتاب بل تشمل الصابئة والمجوس وحتى الذين أشركوا لأنها تؤسس للإرجاء في الفصل بين الأديان إلى يوم الدين .ولا يمكن اعتبار هذه الآية منسوخة بالحالات الاستثنائية. فالمبدأ العام هو حرية المعتقد والمرتد له هذا الحق ولا يوجد في القرآن حكم دنيوي عليه. لكن الظرف الذي جعل الردة فيها مس بقيام أركان الدولة هو الذي ألجا ابا بكر لاستعمال \"الضرورة تبيح المحظور\" :فاستعمل القوة لفرض منع الردة لأنها جماعية أولا وتمس أحد أركان قيام الدولة أعني الزكاة ثانيا. والمشكل إذن ليس بين عهدين ملائكي وشيطاني بل بين ظرفيتين :مستقرة وحروب أهلية. ومثلها حدثت حرب الردة .فلو قلنا إن أبا بكر لم يكن ملزما بتطبيق القانون بما يقتضيه الظرف أي ظرف إقامة أركان الدولة بالحرب على من خرج عليها لما وجدت دولة الاسلام أصلا .وقياسا عليه فمعاوية رجل دولة مكن بإعادة وحدة الأمة حتى حققت شرطي السيادة. فقبل عبد الملك بن مروان كانت سيادة دولة الإسلام منقوصة .فلا لغة القرآن كانت لغة الدولة والحضارة الإنسانية (العالم الروحي) ولا عملتها كانت عملة الاقتصاد العالمي: كانت لغة البلاد المفتوحة وعملتها هما ما تعمل به دولة الإسلام .ويكفي الدولة الأموية أنها حققت تحرير الإقليم من الاستعمار البيزنطي والاستعمار الفارسي بصورة نهائية وحاسمة وجعل لغة القرآن لغة الإدارة والعلوم وعملة الإسلام علمة الاقتصاد في كل العالم الذي حررته منهما. وكل اللاعنين للدولة الأموية هم من بقايا الباطنية والكسروية ومن بقايا الصليبية والقيصرية وكل الإسلاميين الذين يقابلون بين العصرين الراشدي والأموي بصورة تجانس أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- المقابلة الشيعية والباطنية لا يدركون حقيقة التلازم بين الوجهين في السياسة والتاريخ: الشوكة والشرعية بتقديم وتأخير. كان ينبغي أن يبدأ عرضي بالكسور المتعلقة بعلوم الملة لا بأعمالها .لكن ذلك ما كان ليفيد لأن الغرض هو بيان أخطاء حركة الاستئناف التي بانطلاقها من هذا الموقف العملي تصورت أن إحياء علوم الملة يمكن أن يكون كافيا لتحقيق شروطه وهي لا تعلم أنها هي علة امتناعه بسبب الكسور التي فيها. وسبق أن بينت طبيعة الكسور التي فيها والتي هي القبول باعتبار ما كان في القرآن من أحكام للظروف الاستثنائية التي يصدق عليها حكم الضرورة التي تبيح المحظور جعلوها الأصل وتحول الأصل إلى فرع بمبدأ عجيب وهو أن\" الخاص ينسخ العام\" في التشريعات: نسوا أنه ينسخه في ظرفه فحسب. لم يفهموا أن الخاص ينسخ العام نسخا خاصا وليس عاما .من ذلك أن حالة الطوارئ تنسيخ مؤقتا بعض أحكام الدستور -التضييق من الحريات مثلا-لكن هذا التضييق بحكم خاص ينسخ العام لا يصبح نسخا عاما للعام .مثال ذلك أن أكل الميتة مباح عند الضرورة وحتى شرب الخمر .وبزوال الضرورة يعود الحكم العام. وهذا ينطبق على ما يسمى بآية السيف .فهي ضرورة تبيح المحظور في حدود بقاء الضرورة .لكن الحكم العام هو الآيات العامة التي تتعلق بالإرجاء في الفصل بين الأديان واعتراف الإسلام بـها جميعا باعتبار تعددها شرطا في التسابق في الخيرات (المائدة .)48 وقس عليها ما سواها من الآيات التي تتعلق بالظروف الاستثنائية. إلى حد الآن تكلمت على الفتنة الكبرى وما ترتب عليها .لم نزل نعاني اليوم ما ترتب عليها وعلى الموقف الساذج الذي تبنته السنة بتأثير من التشيع مع فارق بسيط هو ما يطبقه هو على ملائكية علي يطبقونه هم على الصحابة كلهم ويشتركون في شيطنة من عداهم. والتشيع يفعل بخبث وهم بسذاجة وحمق. أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- لكن هذا الكسر العملي تضاعف بسبب الفتنة التي سميتها صغرى :فتنة العلمانية اليعقوبية التي يقول بها أدعياء الحداثة العرب .ومما يثبت عدم جدية أصحابها أنهم متحالفون مع الثيوقراطية الشيعية في الحرب الإيديولوجية وحتى العسكرية على السنة في الإقليم صلة بين أهل الفتنتين الكبرى والصغرى. والمهم في محاولتي ليس هذا اللقاء بين الفتنتين بل ما اكتشفته من بنية عميقة بين النظام الثيوقراطي الذي حصلت باسمه الفتنة الكبرى سابقا (وصاية آل البيت على المسلمين) والنظام الأنثروبوقرطي الذي تحصل حاليا باسمه الفتنة الصغرى (وصاية العلمانيين على المسلمين) وهما تفعلان معا متحالفتين في راهن تاريخنا :هي الأبيسوقراطية أو دين العجل. فالابيسيوقراطية (دين العجل) تحدد البنية العميقة للثيوقراطية (الحكم باسم الله) وللانثروبوقراطية (الحكم باسم الإنسان) من حيث هي بنية عميقة للنظامين هذين تصلنا مباشرة بنوع الكسور الأول أي الكسور النظرية أو المعرفية :فالعجل يرمز لأداتي الاستعباد الحديث :معدنه للعملة وخواره للكلمة. والعملة هي رمز الفعل المطلق لأنها هي التي تمكن من التبادل المطلق في الجماعة وهي رمز القيمة المادية دون أن تكون ذات قيمة في ذاتها .والكلمة هي فعل الرمز المطلق لأنها هي التي تمكن من التواصل المطلق في الجماعة ويه رمز المعنى الرمزي دون أن يكون لها معنى في ذاتها. وبهما يسيطر الإنسان على الإنسان بدنه وروحه من خلال السيطرة على حاجاته وعلى فكره .فالبنك يمثل سلطان العلمة والإعلام يمثل سلطان الكلمة وكل استعباد للإنسان من الإنسان أداته العملة أو الكلمة أو كلاهما كالحال في العالم كله وخاصة في الدكتاتوريات التي تحكمنا لأنها سلطان عبيد على عبيد. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- حددنا نوعي الكسور التي يعتبر جبرها شرطا في الاستئناف الذي يعيد للأمة دورها في التاريخ العالمي لأن أمة كانت نشأتها الأولى كونية لا يمكنها أن تعتبر نفسها قد استأنفت دورها إذ لم تكن نشأتها الثانية بعد الانحطاط الذاتي الذي مرت به على الأقل بمستوى نشأتها الأولى ولا يكفي للخروج من انحطاطها تبنى انحطاط من استعمرها فتتبعه. لا بد أن يكون دورها المستأنف على الأقل بمستوى دورها الأول ما يعني أن البداية في الاستئناف هي جبر الكسور الذي جعله يفقد جذوته فلم يستطع الصمود أمام منافسيه عليه بشيء فشل في تحقيقه ولا يمكنه من دون تداركه أولا وتجاوز من تجاوزه بما لم يتحقق عنده ثانيا أن يستأنف دورا كونيا. تلكما هما المقدمتان اللتان بنيت عليهما محاولة فهم وقوع الحضارة الإسلامية بين فكي كماشة يمكن وصف الاولى بكونها الحضارة القديمة في نهاياتها والحضارة الحديثة في بداياتها فتكون الرؤية الإسلامية-القرآن -التي هي قلب هذه الحضارة أساس هذا الدور ويكون التعامل معها علة الانحطاط. ومن هنا استنتجت أن جبر الكسور يقتضي مراجعة هذا التعامل في ضوء تفاعل التعامل مع القرآن في ضوء العلاقة بفكي الكماشة ما تقدم عليه وما تلاه وحصر التعامل في نوعي الكسور :النظري العقدي والعملي الشرعي والأول بوصفه علاج العلاقة العمودية وما وراءها والثاني علاج العلاقة الأفقية وما وراءها. والمعلوم أن القصد بالعلاقة العمودية هو علاقة الجماعة بالطبيعة لسد حاجات قيامها المادي بعلم قوانينها وتطبيقاتها والقصد بالعلاقة الافقية هو علاقة الجماعة بالتاريخ لسد حاجات قيامها الروحي بعلم سننه وتطبيقاتها .والسد الأول هو تعمير الأرض والثاني هو الاستخلاف في الأرض باصطلاح القرآن .فنكون بذلك قد شخصنا الكسور التي نريد جبرها فاعتبرناها متعلقة بعلل الفشل في تعمير الأرض وفي الاستخلاف .وبذلك يكون العمل بحثا هادفا إلى: أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- .1ما علل الفشل في النظر والعقد اللذين جعلا علاج العلاقة العمودية يفشل؟ .2ما علل الفشل في العمل والشرع اللذين جعلا علاج العلاقة الافقية يفشل؟ وفضيلة هذا التشخيص هو أنه يشير إلى ظاهرتين ما تزالان قائمتين حتى بعد قرنين من محاولات الاستئناف في كل بلاد الإسلام وخاصة في العربي منها .فلا تزال مجتمعاتنا عاجزة عن علاج علاقة الجماعة بالطبيعة والتاريخ علما بقوانين الاولى وسنن الثاني وتطبيقهما لها لسد الحاجات المادية والروحية. والمراجعة التي تعلقت بالنظر والعقد أوصلتنا إلى البحث في تحريف الدستور التربوي والعلمي اللذين حددهما القرآن وكان يمكن أن يخرجا الأمة من الكماشة بين نهاية الفكر القديم وبداية الفكر الحديث فيهما والمراجعة التي تعلقت بالعمل والشرع أوصلتنا إلى البحث في الدستور السياسي والخلقي. فكان ينبغي إذن أن أبحث في الدستور التربوي والعلمي الذي وصفه القرآن وفي التحريفات التي بنيت عليها علوم الملة الغائية الخمسة أعني التفسير والعلمين النظريين الفلسفة والكلام والعلمين العمليين التصوف والفقه وبيان علل فسادها في علاج العلاقة العمودية شرط تعمير الأرض في حضارتنا. وكان ينبغي أن أبحث في الدستور السياسي والخلقي الذي وصفه القرآن وفي التحريفات التي بنيت عليها أعمال الملة الغائية الخمسة أعني تطبيقات هذه العلوم في تنظيم حياة الجماعة بصورة تجعلها بحق جماعة مستخلفة وبيان علل فسادها في علاج العلاقة الافقية شرط الاستخلاف في حضارتنا. والغاية من هذه البحوث الخروج من العلاج التعويضي بالكذب على النفس من خلال الكلام في فضل المسلمين على غيرهم مبالغة في إطراء الذات أو في فضل غيرهم عليهم مبالغة في ذمها والذهاب مباشرة إلى علل الانحطاط الذاتي أولا وعلل محاولات تبني الحداثة في شكلها المنحط أعني إيديولوجية الاستعمار. أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- فوضعنا الحالي هو الوضع الذي يمثله الكاريكاتوران والحرب الاهلية التي يؤججانها: كاريكاتور التأصيل بأحياء أمراض الماضي ظنا أنها شرط الأصالة وكاريكاتور التحديث بتبني أمراض الحاضر ظنا أنها شرط الحداثة فيكون كلا الحزبين لا يطلب القيم والسنن الكونية شرطا للعلاج بل تنافي الخصوصيات. وهكذا تبين أن كلا الكاريكاتورين واحد .لا يختلفان في شيء :فكلاهما ينسب النجاح الموهوم إلى خصوصية ما يتبناه ويعلل الفشل بخصوصية خصمه وكلاهما لا يجد أدنى كونية إنسانية في كلتا الرؤيتين موجبها وسالبها بمعنى المشترك في النظر والعقد وفي العمل والشرع لعلاج العلاقتين إيجابا أو سلبا. وبدلا من الدخول في خصام مع الكاريكاتورين فضلت قبل تحديد موقفي منهما أن أبحث أولا في دلالة النظر والعقد بمنظور فلسفي وبمنظور ديني قرآني وما يمكن أن يعتبر كليا في الرؤيتين القرآنية والفلسفية وما يترتب على كليته من دور في علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة. وفضلت قبل تحديد موقفي منهما أن أبحث ثانيا في دلالة العمل والشرع بمنظور فلسفي وبمنظور ديني قرآني وما يمكن أن يعتبر كليا في الرؤيتين القرآنية والفلسفية وما يترتب على كليته من دور في علاج العلاقة الافقية بين الإنسان والإنسان .وها نحن أمام إشكالية الدستورين الإبستمولوجي والأكسيولوجي. تبين أن المسألتين هما من طبيعة ابستمولوجية -نظرية المعرفة-وأسكيولوجية-نظرية القيمة-في الرؤيتين القرآنية والفلسفية عندما نتحرر من الكاريكاتورين ونجعل مطلبنا متعلقا بما هو كلي وليس بما هو خصوصي في فعاليات الإنسان النظرية العقدية والعملية الشرعية باعتباره معمرا للأرض ومستخلفا فيها. وحتى لا يكون شيء في كلامي من الضمائر المسكوت عنها سأبدأ بتعليل الجمع بين النظر والعقد في علاج العلاقة العمودية وبين العمل والشرع في علاج المسألة الأفقية واعتبار أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- الأولى مسألة ابستمولوجية والثانية مسألة أكسيولوجية لأن أساس هذه الضمائر كلها هو نفي التعارض الوهمي بين الديني والفلسفي على أساس القول بالمطابقة والعلم المحيط. وهذا النفي بين من خلال الجمع بين النظر والعقد لأن القائلين بالتعارض يتوهمون أن الفلسفي عقلي خال من العقدي والعقدي خال لا عقلي خال من العقلي وعادة ما يعبر أصحابه عن ذلك بالمقابلة نقلي عقلي .وهذه النقلة من عقلي لا عقلي إلى عقلي نقلي هي الانزلاق الوهمي عند مزيف العقلانيين. ويزداد التزييف عندما يدعون رد المنقول إلى المعقول بالتأويل قيسا للغائب على الشاهد خلطا بين الغائب والغيب .فهذا ينتهي في الغاية إلى أن الديني لا يختلف عن الفلسفي إلا بالعبارة التي تجعله قابلا للتبليغ للعامة ومن ثم إلا بما فيه من غير عقلي أي بالإيديولوجي: ليس اعترافا بوحدتهما العميقة الناتجة عن الاعتراف بعدم القدرة على الإحاطة بل برد أحدهما إلى الثاني الذي يظن محيطا للقول بالمطابقة. وإذا كنت أنسب إلى ابن تيمية العبقرية الفلسفية الفريدة في عصره فلأنه لم ينقد المنطق بمعنى الجدل في مضمون التحليلات الأوائل بل هو اهتم ببيان أن أساس التحليلات الأواخر هو رد الوجود إلى الإدراك ومن ثم العودة اللاواعية للرأي السوفسطائي القائل بالإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه :أدرك ما اعتمد عليه الوهم البارمينيدي الموحد بين الوجود والنوس وافتراض الثاني محيطا ونسبته إلى الإنسان. وبهذا فسر العبارة الشهيرة مع توسيعها :من \"تمنطق فقد تزندق في النظر\" وزاد \"وتقرمط في العمل\" .والقصد أنه رد الوجود إلى الإدراك في النظر واستنتج منه نفي كل ما يتجاوز الإدراك الإنساني وهو النفي الذي جعل كل الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة يعتبرون كل ما لا يطابق علمهم الذي ظنوه محيطا ينبغي رده إليه بالتأويل لأنه مجرد ظاهر حقيقته هي الباطن الذي يعلمونه إما بالعقل أو بالكشف. ومن له دراية بالفرق بين المنطقين التحليلي والمتعالي بالمعنى الكنطي فإن النقد التيمي يتعلق بما يناظر الثاني وجديده فيه وليس في الأول لأن كل ما أروده بخصوصه كان معلوما أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- ويشترك فيه كل من تكلم على المنطق الأرسطي رغم أنه حاول رد المنطق إلى الحساب الرياضي وهو بنحو ما فيه بعض الجدة :حاول رد كل العلاقات المنطقية إلى علاقة اللزوم والتلازم. وما أضفته إلى محاولات المدرسة النقدية هو أني بينت أن الفلسفي من حيث هو فلسفي أساسه عقدي هو بدروه وفيه ما هو نقلي تماما كالديني الذي له نفس البنية: • فالنقلي في الفلسفي هو موضوعه والعقلي هو شكله :ولولا ذلك لاستغنى العلم العقلي عن التجربة الفعلية. • والنقلي في الديني هو موضوعه والعقلي هو شكله :ولولا ذلك لاستغنى العلم الديني عن التعليل المنطقي. وما ليس بقابل للإدراك العقلي فيهما كليهما هو استحالة رد الوجود إلى الإدراك .والوعي بهذه الاستحالة هو التغير الأبستمولوجي الأساسي الذي يدين به الفلسفي للديني هو هذه النقلة من القول بالمطابقة إلى القول بامتناعها .وقد صار هذا الوعي فلسفيا عندما تجاوز الاستناد إلى مجرد العقد بوجود الغيب إلى بيان امتناع الإحاطة في العلم بالعلم نفسه لما أصبح العقل الإنسان واعيا بحدوده. فيكون الديني الذي يرفض ريد الوجود إلى الإدراك قد سبق ابستمولوجيا الفلسفي الذي لم يصل إلى هذه الحقيقة إلا مؤخرا بعد أن تبين أن ما نعلمه من الوجود يبقى دائما صورة عنه وليس هو إياه .ولولا ذلك لاستحال أن يكون العلم ذا تاريخ .كل لحظة من لحظات علمنا هي خطوة في تجويد صورتنا عن الموضوع. وإذن فالجمع بين النظر والعقد يفيد أنه لا توجد قضية منفصلة عن الموقف القضوي إلا فرضيا :فالمفروض أن تكون كل قضية مسبوقة بموقف قضوي يبين درجة العقد في مضمونها :لكأنك تقول أعتقد أن كذا هو كذا وفي ذلك أمران معرفي وخلقي .فمعرفيا أصف درجة علمي وخلقيا أتواضع فلا أدعي الإحاطة بالموضوع. أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- ونفس الأمر في الجمع بين العمل والشرع .فعادة نتكلم على العمل في الفلسفة وعلى الشرع في الدين .لكن العمل في الفلسفة غير قابل للتصور من دون تشريعات صورة لتنظيمه. والتشريع في الدين غير قابل للتصور من دون عمل مادة لفعل التنظيم .الجمع في الحالتين هدفه التصريح بالمضمر فيهما كليهما. وعندما نصرح بالمضمر في النظر والعقد نكتشف أن الفلسفة بوهم المطابقة لم تذكر ما ليس بعقلي في قضاياها أعني المضمون فسمت معرفتها بالعقلية وقابلتها بنسبة النقل إلى الدين .لكنها هي بدروها مضمونها نقلي :فالموضوع ليس عقليا بل هو صورة منقولة عن موضوع الإدراك العقلي. وعندما نصرح بالمضمر في العمل والشرع نكتشف أن الفلسفة بوهم المطابقة الأولى في النظر والمطابقة الثانية في العمل لم تذكر ما ليس بعقلي في قضاياها العملية أعني فعل التشريع المشروط في كل عمل .فالتشريع فعل إرادة وهو تعبير عن المعطى اللاعقلي في العمل وخاصة عند تعدد الإرادات وتنافسها. أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- بعد التخلص من هذا التعارض الزائف بين النظر والعقد يزول الصراع الساذج بين المتكلم والفيلسوف في المسألة النظرية التي تنتج عن المقابلة بين العلم والإيمان إذ لا يمكن الفصل بينهما إلا بسبب هذا الاضمار الناتج عن القول بنظرية المعرفة المطابقة المؤدية إلى وهم العلم المحيط والعمل المطلق. وبعد التخلص من هذا التعارض الزائف بين العمل والشرع يزول الصراع الساذج بين الفقيه والمتصوف في المسألة العملية التي تنتج عن المقابلة بين الأخلاق والقانون إذ لا يمكن الفصل بينهما إلى بسبب هذا الإضمار الناتج عن القول بنظرية العمل المطابقة المؤدية إلى وهم العمل المطلق والعلم المحيط. واليوم نفس هذين الصراعين صارا غالبين على الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي إذ كلاهما قائل بنظرية المعرفة المطابقة وبنظرية العمل المطلق ولا أحد منهما يرى أن اعتبار علمه محيطا وعمله مطلقا دليل سذاجة ابستمولوجية وجلافة قيمية وأن الوجود لا يرد إلى الإدراك وأن التاريخ لا يرد إلى الإرادة :فاللامعلوم واللامراد في مجرى الأحداث الطبيعية والتاريخية غالبان على المعلوم والمراد فيهما. ولو أخذ الناس بعين الاعتبار هذه الحقائق لقلت الحماقات ولتوصلت الإنسانية إلى شرطي الوجود السلمي بين الافراد والجماعات :حينها تصبح سورة العصر دستور الإنسانية أعني الوعي بشروط الاستثناء من الخسر وفروعها أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. فالمعرفة الإنسانية اجتهادية بـالجوهر وتقتضي التواصي بالحق والعمل الإنساني جهادي بـالجوهر ويقتضي التواصي بالصبر وأنه لا علم بلا عقد حتى لو كان فرضيا ولا عمل بدون شرع حتى لو كان وضعيا .وما هو ثابت في الحالتين هو الجمع بين النظر والعقد في المسألة الابستمولوجية (ما بعد العلم أو نظرية المعرفة) والجمع بين العمل والشرع في المسألة الأكسيولوجية (ما بعد العمل أو نظرية القيمة) .وليس صحيحا أن العقد والشرع نقليان أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- فحسب (صورة الديني المشوهة) وأن النظر والعمل عقليان فحسب (صورة الفلسفي المشوهة). فلا يوجد علم عقلي من دون تجربة وهي النقلي في العقلي .ولا يوجد عقد ديني من دون صورة عقلية وهي العقلي في النقلي .ولا يوجد نظر من دون عقد هو منطلقه ولو على وجه الفرض .ولا يوجد عمل من دون شرع هو منطلقه ولو على وجه الوضع .ومن ثم فعلة الانحطاط هي الجهل بهذه الحقائق أو تجاهلها. بعد الحسم في تعليل الانحطاط الذاتي وهو الغالب على كاريكاتور التأصيل من نخبنا تأتي الحاجة إلى الحسم في تعليل الانحطاط المستورد وهو الغالب على كاريكاتور التحدث من نخبنا .وهذا النوع الثاني هو الأعسر .ذلك أن نقد فاقد السلطان الفعلي أيسر من نقد صاحبه :وهؤلاء لهم سند السلطان العالمي. من اليسير أن تجادل في حجج ممثلي الماضي بكل يقين .لكن من العسير أن تجادل حجج من يتصورون أنفسهم ممثلي المستقبل بكل يقين .كيف تجادل من يعتبر استيراد الحداثة الغربية حلا وهي الحل السائد في العالم كله شرقه وغربه؟ لكنهم مثلهم مثل كاريكاتور التأصيل لا يمثلون ما يتكلمون باسمه. فكاريكاتور التحديث من النخب العربية مثلهم مثل كاريكاتور التأصيل منها لا يمثلون الحداثة الأبستمولوجية والأكسيولوجية بل إيديولوجيا الحداثة الاستعمارية تمثل هؤلاء لإيديولوجيا الاصالة الابستمولوجية والأكسيولوجية :كلاهما يمثل نظام الدعاة والاعلام الإيديولجي في فضائيات العرب. ومضمون خطابهما بين للجميع :كلاهما مدار خطابه دعوة لرؤية إيديولوجية جوهرها الحرب على الثاني وتحميله علل الوضع العربي الراهن معتبرا نفسه صاحب الحل السحري المعتمد على قشور الأصالة عن التأصيلي وقشور الحداثة عند التحديثي بوصفه وسيطا روحيا ووصيا سياسيا على الأمة. أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- ويمكن القول إن الحرب الاهلية العربية الحالية بين الثورة والثورة المضادة أو بين \"فقراء العرب\" الذين بدأت عندهم ثورة الشباب و\"اغنياء العرب\" الذين بدأت عندهم الثورة المضادة تمثل بداية الخروج من هذه الظاهرة لما حصل من انفراط عقد الكاريكاتورين بتوزيع جديد. فالشعوب العربية انقسمت نخبها بين حكم بكاريكاتور الأصالة وحكم بكاريكاتور الحداثة وهو ما غطى على النخب التي تحاول التحرر من الكاريكاتورين فأصبحت المعركة ضمن الإصالة بين الكاريكاتور والسعي للتخلص منه وضمن الحداثة بين الكاريكاتور والسعي للتخلص منه. لكن السعي للتخلص من كاريكاتور الأصالة لا يمكن أن يكون بكاريكاتور الحداثة والتخلص من كاريكاتور الحداثة لا يمكن أن يكون بكاريكاتور الأصالة .وكلاهما يدعي ذلك هدفه فتصبح الدعويان تأسيسا لحرب حول قشور التأصيل والتحديث .لذلك فالثورة لم تفرز بعد المتخلصين من كاريكاتور الحداثة بأصالة متخلصة من كاريكاتورها .والعكس في الثورة المضادة :تلك أزمة الحرب الاهلية العربية. فالثورة أعطى الشعب قيادتها للحركات الإسلامية رغم علمه أنها ليست مستعدة لها لا من حيث المؤهلات الفنية ولا حتى من حيث المقومات الخلقية .فهي ما زالت تعاني من كاريكاتور التأصيل وغلاته فيها وحولها يحاربونها أكثر من كاريكاتور الحداثة بل وهو السند الحقيقي لكاريكاتور الحداثة إما بقصد أو بغباء .ما تم في مصر وما يجري في تونس علته هذه الظاهرة وهي عامة في كل البلاد التي عرفت الربيع العربي. والثورة المضادة في السعودية وفي الإمارات قائدتيها نجد كاريكاتور الحداثة يقدم على أنه سعي للتخلص من كاريكاتور الحداثة وفيه نفس الظاهرة بمعنى أن كاريكاتور التأصيل أو الجامية هي التي تؤيد الحرب على الإسلام باسم كاريكاتور الحداثة كما في مقارنة ليبرالي غبي صاحب المنشار بأتاتورك. أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
-- الحرب الأهلية العربية الحالية بين صف الثورة وصف الثورة المضادة هي إذن وفي آمن معركة الفرز بين الكاريكاتورين التحديثي والتأصيلي المتحالفين ضد الحرية والكرامة والوعي بضرورة التحديث المتحرر من الانحطاط المستورد والتأصيل المتحرر من الانحطاط الذاتي والشروع في تحقيق شروط الاستئناف الفعلي. والدليل القاطع على أنها تمثل البداية الفعلية لتحقيق شروط الاستئناف مضاعف: فالثورة المضادة أولا والثورة ثانيا وإن بالتدريج كلتاهما تجاوزت الحدود التي فرضها الاستعمار فصارت ظاهرة شاملة لكل بلاد العرب .والشمول بدأ قلبيا بانتشار أفكار الثورة ثم صار فعليا برد فعل الثورة المضادة عليها. ومن ثم فالثورة والثورة المضادة كلتاهما تجاوزت الحدود القطرية ولم تعد تعترف بها لكأنها تحررت مما فرضه الاستعمار على بلاد العرب رغم أن الثانية من أدواته وصارت الأفعال والأقوال متجاوزة لحدود الأقطار وهو ما يمثل مرحلة اساسية في الاستئناف لأن ما كان مجرد أماني -جامعة الأنظمة العربية-بدأ يصبح فعليا جامعة الشعوب العربية في حركة الشعوب ضد الأنظمة العربية وسياساتها في معركة الحرية والكرامة التي صارت حربا أهلية شاملة للإقليم كله. وما كان الحيز الجغرافي يصبح شاملا لو لم يكن الحيز التاريخي هو الذي عاد ليصبح محرك تجاوز الحدود القطرية التي حاولت الدول القطرية التي هي محميات استعمارية منذ إسقاط الخلافة وافقاد الأمة الوعي بوحدتها الحضارية بمحاولة خلق شرعية لكل محمية تفصلها عن الوحدة التاريخية :وبذلك يتم إحياء وحدة الحيزين الجغرافي والتاريخي. واحياء وحدة الحيز التاريخي تستعيد فاعلية التراث بفاعلية وحدة الزمان الثقافي واحياء وحدة الحيز الجغرافي تستعيد فاعلية الثروة بفاعلية وحدة المكان الاقتصادي فيصبح الحل بالأحياز الأربعة -الجغرافيا والاقتصاد والتاريخ والثقافة-بداية الحل المحقق لشروط التحديث الأصيل. أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
-- والتحديث الأصيل هو الذي يعني جعل المستقبل على الأقل مساوي في الطموح للماضي بمعنى أن الأمة يصبح لها طموح الدور الكوني الذي يضاهي على الأقل دورها في نشأتها الأولى .وهذا الموقف الوجودي هو الذي تمر به كل الأمم العظيمة التي تستأنف تاريخها بطموح حده الأدنى عظمة ماضيها. وهذه السنة شبه قانون كوني سواء بالنسبة إلى توحيد الشعوب التي تفتت (كما حدث في الغرب :وحدة ألمانيا وإيطاليا أو في الشرق :وحدة الصين والهند) أو إلى توحيد ما يتجاوز الدول القطرية كما في أوروبا حاليا .وهذه الظاهرة تقتضي ما يشبه الحرب الاهلية بمستوييها القومي والمتجاوز للقومية. ويمكن الجزم دون مجازفة بأن العرب اليوم بل والإقليم يعيش مخاضا من هذا الجنس. وطبعا فهو مخاض يفيد في آن عكسه بمعنى أنه في صراع مع محاولات تسعى لتفتيت الأقطار والإقليم .وبذلك أصل إلى الأمر الثاني .فما يجري بين العرب اليوم يجري ليس لهم وحدهم بل هو موجه كذلك إلى الأقوام الذين كان لهم دور كبير في دولة الإسلام وخاصة موجبه لأن هذا الدور نوعان واحد لها وآخر عليها: • فالـموجب لها وهو دور بناة دولة الإسلام وهم أربعة أقوام :العرب هم المؤسسون والأتراك هم المحافظون إلى بداية القرن الماضي وبينهم شعبان عظيمان كانا مسهمين في التأسيس والحفظ أعني الأكراد في المشرق والأمازيغ في المغرب. • والسالب عليها ويمثله من رفض تجاوز الشعوبية والطائفية وأهم هؤلاء كانوا من ذوي النزعة الباطنية التي يمثلها الغلو الشيعي وبقايا مقدمات هلا الدولة الفاطمية وبقاياها خاصة بعد أن انفرط عقدها لما قضى عليها صلاح الدين الأيوبي. وليس من شك في أن الكثير من الشعوب الأخرى أسهمت إيجابا في دولة الإسلام وفي حماية بيضته .لكن دورها متأخر وهو تابع لدور الشعوب الأربعة التي ذكرت ويندرج ضمنه بمواصلته وتطويره .كما أن الذين أسهموا في الحرب عليه من داخله كانوا تابعين للشعوبيات والطائفيات ولا زلنا نرى دورهم المحالف لكل أعداء الإسلام. أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
-- الديناميتان ظاهرتين عديمتي الدلالة في مسار السعي للاستئناف .فأن يستعيد الشعب التركي -وإن بالتدريج -ذاته واعتزازه بحضارته الإسلامية ليس أمرا يمكن ألا يكون ملحوظا في أي محاولة لفهم دلالات تاريخ الأمة الراهن .فقيادات الثورة والمهجرون لم يجدوا صدرا حنونا إلا في تركيا. ولا أعتقد أن منجزات شعب تركيا وتغلبه على المؤامرات التي يشيب لها الولدان وقدرته على التصدي لها بوحدة شعبية لا مثيل لها ومواقف شعوب الإقليم التي لم تعد تنطلي عليها أكاذيب الأنظمة العميلة ودور ذراعي الاستعمار في الإقليم -إيران وإسرائيل ومن وراؤهما-من الأمور التي يستهان بها لفهم ارهاصات الاستئناف الذي لا مرد له بحول الله وعونه. أبو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 43 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 46
Pages: