Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore السبابة الوجودية أو حقيقة ما في القرآن من معرفة وقيمة - أبو يعرب المرزوقي

السبابة الوجودية أو حقيقة ما في القرآن من معرفة وقيمة - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-04-15 19:12:56

Description: السبابة الوجودية أو حقيقة ما في القرآن من معرفة وقيمة - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫لكن هذه المحدودية وعدم المطابقة أو عدم الإحاطة هي أكبر علامات قوة العلم‪ :‬فهو‬ ‫بهذا يصبح الإبداع الدائم للعبارة على ما ندركه دون الاعتقاد في رد الوجود إلى ما ندركه‬ ‫منه‪ .‬والمسافة الفاصلة بين الموجود وإدراكنا له هي مسافة تطورنا الدائم واقترابنا من‬ ‫المنشود فيكون القيمي قاطرة المعرفي‪.‬‬ ‫وحينئذ تحصل ثورتان في المعرفة وفي القيمة‪ :‬لن يبقى أحد قادرا على ادعاء العلم‬ ‫المحيط فيزول التعصب المعرفي ولن يبقى أحد قادرا على ادعاء العمل التام فيزول التعصب‬ ‫القيمي‪ .‬وحينها نفهم السر في نظرية سورة العصر‪ :‬الإيمان والعمل الصالح والتواصي‬ ‫بالحق والتواصي بالصبر شرط التحرر من الخسر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك يتبين أن بين نوعي العلوم الغائية والأداتية تفاعل شديد الثراء‪ .‬فعلوم الغايات‬ ‫لما تكتشف دور العلوم الأدوات تصبح وكأنها علوم إبداع الأدوات التي تحقق الغايات‬ ‫فتنقلب العلاقة بين الغاية والأداة فتصبح هذه مقدمة على تلك لأنها هي شرط السعي‬ ‫إليها ولا يمكن تحقيق الغايات من دون تحقيق الادوات التي تصبح غايات وسيطة وشراطة‬ ‫للغايات المطلوبة لذاتها‪.‬‬ ‫وعلوم الأدوات تكشف ما تدين به لإبداع علوم الغايات للأدوات وأهمها الرياضيات التي‬ ‫تمكن بتطبيقها من مد الحواس بما يجعلها تنفذ إلى أسرار الموجودات المرئية والمسموعة‬ ‫خاصة تصبح شرط الوصل بين شكل العلم (النظرية) ومضمونه (التجربة) بتقوية الحواس‬ ‫التي تدرك الظاهرات‪.‬‬ ‫وأفضل مثال هو علم المناظر الذي من دون لا يمكن رصد السماء ولا رؤية لا متناهي‬ ‫الصغر أو لا متناهي الكبر‪ .‬ثم قياسا عليه يمكن الكلام على علم المسامع الذي يدرك ما‬ ‫دون الحد الأدنى للسمع وما فوق الحد الأقصى للسمع الإنسان غير المجهز به‪ .‬وكلاهما‬ ‫حصيلة الوصل بين الرياضي والفيزيائي‪.‬‬ ‫ولا بد هنا من الإشارة إلى أمرين اعتقد أن مواقفي منها لم تزل غير مفهومة وهي‬ ‫مواقف علتها محاولة فهم طبيعة هذه العلاقة بين نوعي العلوم الغائية والأداتية ودور‬ ‫معرفة الإنسان بسر تجهيزه لمهمتيه معمرا للأرض ومستخلفا فيها ودور الأمم في تاريخ‬ ‫الإنسانية الذي لا يتجاوز تحقيق هذين المهمتين بما جهز به من نظر وعقد للعرفة ومن‬ ‫عمل وشرع للقيمة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فأما الأمر الأول فيتعلق بكون الإنسان هو لغز الوجود الأكبر ومفتاح هذا اللغز‬ ‫هو العلاقة المباشرة بين التناهي واللاتناهي أصلا كل تجهيزنا الإدراكي للمعرفة والقيم‬ ‫وفيها يمكن القول إن الإنسان ما يزال ثقبا أسودا يحار الفكر في فهمه‪ :‬فأي إنسان حاول أن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يدرك ذاته يكتشف أنها ثقف أسود لا يستطيع أن يمسك بشيء محدد وراء وعيه بذاته‬ ‫وأن أقصى ما يمكن أن يدركه هو ما حاولت وصفه بكلامي على ما سميته المعادلة الوجودية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وأما الأمر الثاني فيتعلق بما يمكن تسميته بسهم الأمم ذات الدور الكوني في‬ ‫اكتشاف الكونية‪ .‬وهذا هو البديل الذي أقدمه في رفضي للباحثين عن الخصوصية‪ .‬فما‬ ‫ينبغي أن تفاخر به الأمم ليس الخصوصيات التي هي فلكلورية مثل الألوان أو الفصالة في‬ ‫اللباس بل ما حققته من سبق في اكتشاف الكوني المحدد لحقيقة ما نعتبره الإنساني المتعين‬ ‫في ما لا يقبل الرد إلى الفلكلور‪.‬‬ ‫واعتقادي الجازم هو أن السبق في اكتشاف الكوني في الكيان الإنساني يرد إلى خمس‬ ‫مجالات هي عين المجال القيمي بالمعنى العام لا يتعداها وكلها تمثل جوهر ما تبشر به‬ ‫الرسالة الخاتمة التي تعتبر نفسها الرسالة الفاتحة وتسمي ذلك كله مما فطر عليه الإنسان‬ ‫بوصفه مكلفا بمهمة التعمير والاستخلاف‪:‬‬ ‫‪ .1‬المجال المتعلق بالإرادة حرية وعبودية وهي مجال السياسة تربية وحكما‪.‬‬ ‫‪ .2‬المجال المتعلق بالمعرفة صدقا وكذبا وهي مجال العلوم الطبيعية والإنسانية‪.‬‬ ‫‪ .3‬المجال المتعلق بالقدرة خيرا أو شرا وهي مجال الإنتاج المادي والرمزي‪.‬‬ ‫‪ .4‬المجال المتعلق بالذوق جمالا وقبحا وهي مجال الفنون والألعاب‪.‬‬ ‫‪ .5‬المجال المتعلق بالوجود ذلا أو جلالا وهي مجال الرؤى الدينية والفلسفية‪.‬‬ ‫وكلها مجالات لا خصوصية فيها لأنها كلها إنسانية وكونية سواء كانت سوية أو منحرفة عن‬ ‫حقيقة الإنسان كما عرفه ابن خلدون \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‬ ‫وهو تعريف مستمد مباشرة من رؤية الإنسان القرآنية‪.‬‬ ‫ولست أشك في أنه قد يأتي يوم يصبح فيه هذا النوع من العلوم الآلية أو العلوم المساعدة‬ ‫في إدراك الوجود بعدد الحواس ونقرب من فهم لغز الألغاز بوصفه شبه شفرة الوجودين‬ ‫الطبيعي والتاريخي متعينة في مداركه وما يترجم إليه ما تدركه من ألغاز قوانين الطبيعة‬ ‫وسنن التاريخ‪ .‬فنجد علوما تمكن الشم والذوق واللمس مما مكنت منه البصر والسمع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ويصبح المضمون المعرفي قابلا لإدراك أدق يتجاوز المتاح للإنسان طبيعيا ليتيح للحواس‬ ‫صناعيا مثل البصر والسمع‪.‬‬ ‫وعندئذ سنكتشف أن العقل الذي يبدع النظريات لا يصبح عقلا علميا بحق من دون أن‬ ‫يبدع ما يجعل الحواس تتدرج نحو ما يقال عن البصر الحديد فيتلامس النظر العقلي‬ ‫والإدراك الحسي إلى حد يصبح فيه التقارب اللامحدود بين التجريبي والفرضي تلاحم‬ ‫بين الإنسان والوجود وتناغم بينهما معرفي وقيمي بلا حد‪.‬‬ ‫وهنا نصل إلى العلم الخامس الذي لم نتكلم عليه أعني التصوف‪ .‬فمن المفروض إذا كان‬ ‫صاحبه صادقا أن يكون القصد بالكشف هذا النحو اللامتناهي للتطابق بين الإدراك‬ ‫والوجود عندما يتوهم حاصلا وكأن الإنسان بلغ إليه فعلا في شبه ذهول وجداني يحصل‬ ‫للإنسان عندما يتقد أنه ذات في لحظة وعي شبه بارقة‪.‬‬ ‫وابن خلدون يعرف الوجدانيات بهذه الخاصية أي بكونها ما لا ينقال ‪ Indicible‬أو يعجز‬ ‫الإنسان عن أي تعبير عنه ‪ Ineffable‬ويعلل به الشطح الصوفي أي قول ما يبدو خروجا عن‬ ‫آداب الإيمان وادعاء الحلول‪ .‬لكنه في الحقيقة وهم رد الوجود إلى الإدراك الذي يضمر‬ ‫شيئين لا يصدقها العقل ولا الدين‪ :‬وحدة العالم واتحاده بالإنسان‪.‬‬ ‫والمعلوم أن أعسر شيء للإنسان أن يتطابق مع ذاته فهو دائم النوسان بين كونه قبلها أو‬ ‫بعدها أي بين كونه توقع أو تذكر وليس مطابقة للحظة التي يعيشها إلى إذا فقد الوعي‬ ‫بذاته وتلك هي ربما علة رواج المخدرات في تحصيل مثل هذه التجارب التي هي الغيبوبة‬ ‫الوجودية بمعنى الغرق في وجدان لاينقال‪.‬‬ ‫ولا علاقة لذلك بالسكينة بالمعنى الروحي للكلمة لأن هذه ثمرة الاستسلام للإرادة‬ ‫الإلهية وهي معنى الإسلام الذي يعني اللامبالاة بأحوال النفس والزهد في الدنيا وهو‬ ‫التأله بالمعنى الإيجابي الذي هو عكس التأله في وحدة الوجود والفناء المزعوم الذي يدعي‬ ‫صاحبه أن ما في الجبة غير الله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد سبق أن ترجمت مقالة ماكس هرتون حول تصوف الحلاج وصلته بالمايا والهندوسية‬ ‫ما يعني أن الزهد بالمعنى الإسلامي ليس هو القصد بالتصوف العرفاني لأن الأول يعترف‬ ‫بالفرق بين الآله والمألوه وبين الذات والعالم وهذا بالعكس تتضخم ذاته إلى حد اعتبارها‬ ‫الموجود الوحيد والباقي نتاج فعل إدراكه‪.‬‬ ‫وهذا هو النوع الذي يسميه ابن خلدون بتصوف الوحدة المطلقة‪ .‬وما أظن التجربة‬ ‫صادقة إلا إذا كان صاحبها يستذهل ذاته بالمخدرات‪ .‬ذلك أن الكيان العضوي للإنسان‬ ‫يحول دون صاحبه وهذه الاوهام فهو يجوع ويمرض ويتألم ويأكل وما يترتب عليه من‬ ‫علاقة بالفضلات مهما تسامى‪ .‬وكل ذلك داع للحكمة والتواضع‪.‬‬ ‫وما يستمد من حكمة البدن في التصوف يناظر ما يستمد من حكمة التجربة في العلم‪:‬‬ ‫كلاهما يكتشف صاحبه وهم المطابقة مباشرة كلما رأى ضعف كيانه البدني والعقلي‪ .‬ولا‬ ‫يمكن لمن يدرك معنى أنه فان أن يذهب الظن إلى أن الوجود يقبل الرد إلى إدراكه‬ ‫(الفيلسوف) فضلا عن الرد إلى ذاته (المتصوف)‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فالفيلسوف الذي يتوهم رد الوجود إلى إدراكه والمتصوف الذي يتوهم رده‬ ‫إلى ذاته كلاهما يكذب على نفسه بوعي أو بلا وعي‪ .‬وفي الحالة الاولى هو دجال وفي‬ ‫الحالة الثانية هو في المرحلة الطفولية من سن العلم‪ .‬وهو يشبه من لم يخرج من قريته‬ ‫فيقيس العالم بها فيظن عاداتها حقيقة مطلقة‪.‬‬ ‫العالم والوجود لا يرد إلى أي موجود معين منه وهو لامتناه بالقياس إلى تناهي الإنسان‬ ‫حتى لو لم يوجد إلى هذا العالم الذي يتصورونه وحيدا‪ .‬لكن من يقرأ القرآن يكتشف‬ ‫أنه يتكلم على عوالم كثيرة ولكل منها سماؤه وأرضه على الأقل سبعة‪ :‬فيوم بخمسين ألف‬ ‫سنة مما نعد لا يقبله عقل الأرسطيين الذين يتصورون العالم الذي فوق القمر هو ما يدور‬ ‫حوله فلك أقدس ولم يصل حتى إلى فلك بطليموس من حيث العبارة الرياضية‪.‬‬ ‫ولو تساءلوا عنها وحاولوا النظر فيها حتى من باب اختبار لفرضية لتحرروا من فلك‬ ‫أرسطو ونظرية العقول المحركة لها‪ .‬لكنهم كانوا يعتقدون أن علم أرسطو نهائي ولا يكن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تصور غيره وأن ما في الرؤى الاخرى ليس إلى خرافات شعبية كما كان يتصور بورقيبة لما‬ ‫خرف الرسول خرافا لحكايات بدوية‪.‬‬ ‫وما ضربت هذا المثال تحكما فكل من يتصورونهم مفكرين ‪-‬مثل ابي زيد وعركون‬ ‫وأمثالهما كثير‪-‬هم في نسبة فلاسفتنا في القرون الوسطى يحاججون في ما يتجاوز ما ظنوه‬ ‫حقائق نهائية بمنطق المقابلة بين النص الواقع مضمرين أن حقيقة الواقع هي ما يجدونه في‬ ‫خرافات ماركس حول المادية الجدلية‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن من يسمون بمفكري الحداثة من العرب لا يختلفون عن مفكري القرون‬ ‫الوسطى‪ .‬فلكل منهم أرسطه وكلهم لسان حالهم يردد ما قال الفارابي في الحروف‪ :‬العلم‬ ‫اكتمل ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم‪ .‬ولست أدعي أن القرآن فيه علم الطبيعة بل ادعي أن‬ ‫فيه رؤية قيلت بمفهوم حدد يـحرر من وهم رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫فمفهوم الغيب المحجوب مفهوم حد ينفي الإحاطة عن علم الإنسان‪ .‬وهو ما يعني أن‬ ‫الرسوخ في العلم هو الوعي بهذا الحد وليس القول برد الوجود إلى الإدراك‪ .‬وهذا المعنى‬ ‫يؤسس عليه ابن خلدون استحالة إثبات السببية متبعا في ذلك الغزالي مع وعي إبستمولوجي‬ ‫أدق لأنه فهمه بصورة تنفي حتى ما توهم الغزالي إمكانه وهو الكشف الصوفي مرحلة تمثل‬ ‫ما قد يكون قصده بما سماه \"طور ما وراء العقل\" في المنقذ‪.‬‬ ‫لما كتبت رسالة \"مفهوم السببية عند الغزالي' مذكرة الإجازة في السوربون ونشرت كاد‬ ‫أساتذة الفلسفة الذين كانوا يعتبرون الغزالي ظلاميا لأن فيلسوفا ناطقا بالألمانية (بلوخ)‬ ‫سماه كذلك في كلامه على اليسار الأرسطي ممثلا بابن رشد كادوا يفتكوا بي وكان لهم ما‬ ‫يشبه مفهوم التكفير الفلسفي فاستعملوه‪.‬‬ ‫وبذلك فهم استظلموا الوحيد الذي كان له حس فلسفي واعتبروه نكبة على الفلسفة لأن‬ ‫الفلسفة عندهم كانت ولا تزال حقيقة نهائية وعقلانية وتنويرية ولذلك فجلهم عبيد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للتنوير الذي يمثله أكثر طغاة العالم جهلا وجهالة وجاهلية واستبدادا وفسادا معتبرين‬ ‫ذلك التهديم الذاتي تحديثا وتقدمية‪.‬‬ ‫ولهذه العلة أفلست كل الأنظمة العربية لأن الحلف بين هذه النخب التي لها نفس العقلية‬ ‫التي للجامية والفرق الوحيد هو نوع الأنظمة القبلية لهذه والعسكرية لهم وكلاهما أبعد‬ ‫ما يكون عن الإبداع المعرفي أو القيمي إذ إن الاستيراد من ماضي انحطاطنا أو من انحطاط‬ ‫الحداثة بالاستعمار لا يختلفان‪.‬‬ ‫وإذا كانت مرحلة الانحطاط الذاتي لم تر من الا السبابة فإن هذه لم تحارب إلا السبابة‪.‬‬ ‫ولما كنت أحاول أن أنظر إلى حيث أشارت السبابة لنقد الماضي وعلل انحطاطه فإني أحاول‬ ‫أن أدافع عن السبابة ولا أزعم أن فيها ما يغنينا عما أشارت اليه ولهذه العلة كان موقفي‬ ‫صارما ضد خرافة الإعجاز العلمي‪.‬‬ ‫ما في القرآن هو ما حاولت بيانه مما حدده هو بما أمر به للبحث العلمي في شروط التعمير‬ ‫وفي شروط الاستخلاف (فصلت ‪ )53‬وبما نهى عنه من علل الزيغ في القلوب وابتغاء الفتنة‬ ‫وهو توجيه إلى ما به يحقق الإنسان مهمتيه كما يحددهما القرآن‪ :‬يعمر الأرض بقيم‬ ‫الاستخلاف وبمقتضاهما يكون حسابه‪.‬‬ ‫انحطاطنا هو فشلنا في التعمير وفي الاستخلاف وهو علة استعمار الغرب لنا‪ .‬فإذا أردنا‬ ‫أن نستعيد دورنا في العالم فعلينا أن نتبع السبابة فنتوجه إلى حيث توجهنا ونشرع في القيام‬ ‫بالمهمتين‪ :‬تعمير الأرض شرطا في الرعاية والحماية والاستخلاف شرطا في جعلهما بأنظمة‬ ‫قيم القرآن‪ .‬وتلك مهمة التربية والحكم‪.‬‬ ‫وهذه المهمة التكوينية تحتاج إلى شروط تموينية‪ :‬التموين العضوي وهو موضوع‬ ‫الاقتصاد والتموين الروحي وهو موضع الثقافة‪ .‬وكلاهما غير ممكن من دون البحث العلمي‬ ‫في الآفاق والأنفس أي في قوانين الطبيعة وسنن التاريخ‪ .‬وهذه البحوث التي تنتج ما يمون‬ ‫التكوين هي سر قوة الأمم وأصل سيادتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وحتى يكون لسورة قريش دلالتها العامة فإن غاية الاستئناف هو \"أطعمهم من جوع آمنهم‬ ‫من خوف\"‪ .‬فجل العرب متسولون للرعاية (الجوع رمزها) وللحماية (الخوف رمزها)‬ ‫والتحرر منهما شرطه الردع وهو دلالة الأنفال ‪ 60‬والنساء ‪ 1‬شرط كونية الإسلام بداية‬ ‫والحجرات ‪ 13‬شرط أخلاقه الكونية غاية‪.‬‬ ‫فقدان العرب لكل هذه الأهداف علته أنهم نكصوا إلى الجاهلية‪ .‬وما كان ذلك ليحدث‬ ‫لولا فساد علوم الملة غائيها وأداتيها وذلك ما حاولت بيانه‪ .‬وما يشيع على ذلك هو أن‬ ‫الشباب الإسلامي بجنسيه بدأ يسترد عنفوان الجيل الذي أسس دولة الإسلام‪ :‬يريد تربية‬ ‫بلا وساطة وحكما بلا وصاية‪ :‬رؤية الإسلام‪.‬‬ ‫فإذا كان لي سهم في صوغ ذلك صوغا فلسفيا صارما فسيكون أفضل جزاء لما خصصت له‬ ‫جل وقتي على الأقل منذ أن بدأت أفهم دور المدرسة النقدية التي أهمل جهدها فكان صيحة‬ ‫في واد وخاصة عند حداثيي العرب الذين تسكرهم زبيبة ويتصورون التحديث يمكن أن‬ ‫يتأسس على التقليد وكله بليد بالجوهر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا يكون لهذه المراجعة التجاوزية معنى إذا لم تحسم قضية التجهيزين للإنسان من اجل‬ ‫تحقيق مهمتين في حياته بهما حصرا في الشاهد من عالميه الطبيعي والتاريخي من حوله في‬ ‫كيانه العضوي (بدنه) والروحي(نفسه) من منطلق تسليمه بما وصفته بالمعادلة الوجودية‬ ‫التي تمكن من تنظيم علمه وعمله وتفاعلهما في الاتجاهين من العلم إلى العمل (تطبيقات‬ ‫النظر في التجارب) ومن العمل إلى العلم (تضمين التجارب في النظريات)‪.‬‬ ‫فيكون العمل محددا للمضمون العلمي المناسب للبنى النظرية ويكون النظر محددا للشكل‬ ‫العلمي المناسب للبنى الوجودية‪ .‬وما تستمده النظرية من التطبيق هو المضمون العلمي وهو‬ ‫نقلي حتما‪ .‬وما يستمده المضمون العلمي من النظر هو الشكل العلمي وهو عقلي حتما‪ .‬ولا‬ ‫يوجد علم لا يتألف من الشكل العقلي والمضمون النقلي إما الفعلي أو المفترض‪.‬‬ ‫وينبغي أن نذكر بالمعادلة الوجودية التي تمكن من فهم الدور الذي أنسبه إلى السبابة‬ ‫الوجودية التي اعتبرها دور القرآن الكريم في توجيه الإنسان إلى مجال تحقيق الشروط‬ ‫التي تتطلبها مهمتاه في الوجود‪ .‬فالقرآن بهذا التوجيه هو الرؤية التي تدور حول التعمير‬ ‫والاستخلاف بما جهز به الإنسان من شروط النظر والعقد شرطا في التعمير وشروط العمل‬ ‫والشرع شرطا في الاستخلاف‪ .‬وهما اسمان أكثر مطابقة لما يمكن الإنسان من علم الطبيعة‬ ‫ومن علم التاريخ‪.‬‬ ‫والتفاعل بين النظر والعقد علما للطبيعة وما بعدها وبين العمل والشرع علما للتاريخ‬ ‫وما بعده ينتج ما يستمده الإنسان من الطبيعة معينا لكيانه العضوي وهو زاده المادي أو‬ ‫انتاج الثروة (الاقتصاد) بتوسط التعاون والتبادل والتعاوض المادي (وهو معنى القيم‬ ‫المادية بأداة هي العملة) وما يستمده من التاريخ معينا لكيانه الروحي وهو زاده المادي أو‬ ‫انتاج التراث (الثقافة) بنفس التوسط أي التعاون والتواصل والتعاوض الروحي (وهو‬ ‫معنى القيم الروحية بأداة هي الكلمة)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأصل هذه الأبعاد الأربعة أو الأحياز الجزئية نجد الحيز المحيط بها والمحاط بها أعني‬ ‫المرجعية التي هي علاقة الإنسان بما بعد الطبيعة وبما بعد التاريخ سواء سماه دينيا بمعنى‬ ‫الأديان المنزلة أو فلسفة بمعنى الاديان الطبيعية‪ .‬وذلك هو الحيز الأصلي لبقية الأحياز‬ ‫وهو قلب المعادلة الوجودية‪.‬‬ ‫فلأذكر بالمعادلة الوجودية‪ :‬القلب هو علاقة مباشرة بين الإنسان وما يعتبره ربا أو إلها‬ ‫أو حتى طبيعة طابعة بالنسبة إلى الملحدين‪ .‬وعلى يمين القلب نجد الطبيعة وما بعدها‬ ‫الذي يعتبر أصلا لها خالقا أو محركا وعلى يساره نجد التاريخ وما بعده وما يعتبر أصلا له‬ ‫الإنسان خالقا أو محركا‪ .‬فلنرسمها‪.‬‬ ‫فإذا التقى الحدان الخارجيان نجد مرة ثانية القلب أي العلاقة المباشرة بين الله‬ ‫والإنسان لكن هذا اللقاء المباشر يصبح بتوسط الطبيعة التاريخ لأنه لقاء بينهما بوصفهما‬ ‫ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وليس بما بينهما في لقاء مباشر دون توسط الطبيعة‬ ‫والتاريخ‪ .‬فيتفاعل المباشر وغير المباشر‪.‬‬ ‫والطابع الدوري في شكل دائرة علته التناظر العجيب بين كيان الإنسان الذي هو طبيعي‬ ‫وتاريخي والعالم المحيط بالإنسان الذي هو أيضا طبيعي وتاريخي‪ .‬وبين الكيان الإنسان‬ ‫وكيان العالم يوجد تياران في الاتجاهين من كيان الإنسان إلى كيان العالم ومن كيان العالم‬ ‫إلى كيان الإنسان فيتمازجان‪.‬‬ ‫والتمازج الناتج عن التفاعل يجعل من العسير التمييز بين العلمين الطبيعي والتاريخي‬ ‫والعملين الطبيعي والتاريخي أي بين النظر والعقد والعمل والشرع‪ .‬ومن هنا يعسر تبين‬ ‫الحد بين الطبيعي والإنسان من العلوم ورؤى العقد والطبيعي والإنساني من الأعمال‬ ‫ورؤى الشرع‪ .‬وكلاهما إما ديني أو فلسفي‪.‬‬ ‫وقد يعجب القارئ من الكلام على العقدي والشرعي بوصفهما إما ديني أو فلسفي‪ .‬ذلك‬ ‫أن الكثير يعتقد أن العقائد والشرائع دينية ولا يوجد لها نظير فلسفي‪ .‬وهذا خطأ‪ .‬فلا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫توجد فلسفة بدون عقيدة ولا توجد فلسفة بدون شريعة‪ .‬فالعقيدة والشريعة ليستا‬ ‫منزلتين دينيا فحسب بل هما أيضا موضوعتان فلسفيا‪.‬‬ ‫وأفهم جيدا ألا يفهم القارئ ذلك‪ .‬فالسائد وسيطا وحديثا في فكرنا هو توهم الدين‬ ‫والفلسفة أمرين شبيهين بالخطين المتوازيين في هندسة إقليدس‪ .‬وينسون أن الخطين‬ ‫المتوازيين سر توازيهما هو المسلمة الخامسة‪ .‬لكن يكفي التخلي عنها حتى يتغير المفهوم‬ ‫ويتغير مجموع زوايا المثلث في الذي يترتب عليه‪.‬‬ ‫المعادلة الوجودية التي وضعتها تشبه في تجاوز الفلسفة القديمة والوسيطة والتي نكص‬ ‫إليها هيجل وماركس من حيث نسبتهما إلى تجاوز رؤيتهما نسبة الهندسات اللااقيدية إلى‬ ‫تجاوز رؤية للعالم الـمقصورة على ما تصفه هندسة اقليدس بشرط التسليم بأنها ليست‬ ‫عديمة العوالم الذاتية وتقاس على عالم معتبر وحيدا‪ .‬العوالم تتعدد بتعدد الرؤى‬ ‫وتتغير بتغير الرؤية التي ننطلق منها والتي تبدع تعبيرا رمزيا عنه بنظام أكثر انفتاحا‬ ‫وتناسقا‪.‬‬ ‫فالقلب الأول (الله‪-‬الإنسان) المتوسط بين جناح على يمينه هو الطبيعة وجناح على‬ ‫يساره هو لتاريخ العلاقة ببين مقومي القلب الله والإنسان مباشرة‪ .‬لكن القلب الثاني يمثل‬ ‫ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ أي إن الله والإنسان كل منهما يصبح ما بعد يحيط بما هو‬ ‫ما بعده الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫وبذلك يحيط الله بالطبيعة مرتين به في علاقته المباشرة بالإنسان وفي علاقته غير‬ ‫المباشرة بتوسطها‪ .‬ويحيد الإنسان بالتاريخ مرتين في علاقته المباشرة بالله وفي علاقته غير‬ ‫المباشرة بتوسطه‪ .‬لأن كلا من الله والإنسان يوجدان بين الطبيعة والتاريخ وحول الطبيعة‬ ‫والتاريخ‪ :‬تشاجن فاعل ومنفعل‪.‬‬ ‫وهذه الرؤية هي التي تمثل بنية القرآن وبنية كيان الإنسان وبنية كيان العالم كما‬ ‫يراهما القرآن وما يصل البنية الأولى بالثانية وما يصل البنية الثانية بالثالثة‪ .‬والإنسان‬ ‫هو الجسر الواصل بين القرآن والعالم‪ .‬وهي رؤية لا تخلو منه فلسفة ولا دين إذا لما يكونا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بعيدين عن الديني والفلسفي ومتخلصين من التحريف تخلصا يجعلهما جامعين بين شروط‬ ‫التعمير وشروط الاستخلاف بالقدر الممكن للإنسان الحر والواعي بمنزلته‪.‬‬ ‫فالتناظر والتواصل بين كيان الإنسان العضوي والطبيعة يجعل الإنسان شبه جهاز تحويل‬ ‫للطبيعة إلى الحياة بتوسط التكاثر العضوي الذي هو دورة تحويل الطبيعة الخارجية إلى‬ ‫طبيعة داخلية في كيان الإنسان مع ترقيتها من طبيعة نباتية أو حتى حيوانية إلى إنسان له‬ ‫شروط التعمير الاستخلاف‪.‬‬ ‫والتناظر والتواصل بين كيان الإنسان الروحي والتاريخ يجعل الإنسان شبه جهاز لتحويل‬ ‫ثمرة النظر والعقد والعمل والشرع المتراكمة إلى كائن حي من طبيعة أرقى من الفرد‬ ‫الإنسان هو تراث الإنسانية كلها الذي هو ما يضيفه النظر والعقد والعمل والشرع لما لا‬ ‫تستطيع الطبيعة إنتاجه وهو الاستخلاف‪.‬‬ ‫والتناظران والتواصلان بين المقوم العضوي والمقوم الروحي مع الطبيعة والتاريخ هي‬ ‫أبعاد الاستخلاف الذي يعالج القرآن بالإشارة الموجهة إلى شروط النجاح فيه بأمر فصلت‬ ‫‪( 53‬طلب علم آيات ألله في الآفاق وفي الأنفس وليس في شرح النصوص) وبنهي آل عمران‬ ‫‪ 7‬الذي لا ينتج إلا هذيان الزيغ والفتنة‪.‬‬ ‫وبذلك لا يكون القرآن مدونة علوم ولا مدونة قيم مكتفية بنفسها بل هو يشير إلى ما‬ ‫لا يتضمن القرآن منه إلا التذكير بمعاييره وبشروط الوصول إليها بما حددته سورة‬ ‫العصر‪ .‬فالأصل هو الوعي بعلل الخسر وهو هذا التعامل الذي يهمل فصلت ‪ 53‬وينشغل‬ ‫بال عمران ‪ 7‬للتعمير وامتحان أهلية الانسان للاستخلاف‪ .‬ويتفرع عن هذا الوعي بعلل‬ ‫الخسر أربعة مبادئ‪:‬‬ ‫‪ .1‬اثنان يتعلقان بشروط النظر والعقد وهما عمدة العلاقة بالطبيعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬واثنان يتعلقان بشروط العمل والشرع وهما عمدة العلاقة بالتاريخ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتنقسم هذه المبادئ إلى ما يتعلق منها بدور الفرد وهما الإيمان والعمل الصالح وما‬ ‫يتعلق منها بدور الجماعة هو الاجتهاد بالتواصي بالحق لمعرفته العلمية والجهاد بالتواصي‬ ‫بالصبر لتحقيقه القيمي‪.‬‬ ‫فإذا أرجعنا هذه المعاني إلى ما يمكن أن يصاغ في منظومة نسقية وجدنا هذه المنظومة في‬ ‫المعادلة التي سميتها معادلة وجودية هي عين بنية القرآن وعين استدلاله على رؤيته‬ ‫بالنظام الطبيعي وبالنظام التاريخي مع تعريفه طبيعة النظام الطبيعي أو الخلق بوصفه‬ ‫خلق بقدر والنظام التاريخ أو الأمر بسنن‪.‬‬ ‫وما خلق بقدر رياضي تجريبي وما أمر بسنن سياسي خلقي‪ .‬فيكون حيزا الإنسان المكاني‬ ‫هو الطبيعة والزماني هو التاريخ ويكون لقاؤهما مثمرا ماديا وهي الثروة التي منها زرق‬ ‫الإنسان المادي والتراث الذي منه رزقه الروحي‪ .‬وبذلك يكون تبين حقيقة القرآن فعلا‬ ‫أساسه رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس‪.‬‬ ‫فكيف اعتبر هذه المعادلة هي في آن بنية القرآن وبنية الإنسان وبنية العالم وخاصة بنية‬ ‫الدراما الوجودية التي تحكي قصة علاقة الله بالإنسان والإنسان بالله لأن ما يوجد في‬ ‫القرآن هو دراما حقيقية بين الإنسانية في مراحل وجودها دنيا وآخرة في دولة كونية خالقها‬ ‫وآمرها الله والإنسان خليفته‪.‬‬ ‫كذلك كنت أعيش القرآن بشيء من الضبابية والغموض في طفولتي لكني انتهيت بعد‬ ‫أن بدأت أدرك النظام العميق لهذه الصورة أنه فعلا قصة درامية تحكي أسرار وجود‬ ‫الإنسان وعلاقته بالله أولا ثم بالطبيعة والتاريخ والله من ورائهما خالقا وآمرا وهو مهما‬ ‫فعل لا يستطيع خروجا عما ورد في الخلق والأمر‪.‬‬ ‫ولذلك فالدراما فيها الوجهان‪ :‬الخليفة والثائر عليه في كيان الإنسان لأن كل من لا يعمل‬ ‫ليكون جديرا بالاستخلاف خلال التعمير لا يثور على الله كما قد يتوهم بعض السطحيين‬ ‫من الملاحدة إذ من السخف أن يثور الإنسان على نظام الطبيعة ونظام التاريخ وهما ثمرة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الخلق والأمر بل يثور على ما فيه منهما‪ .‬الملحد يثور على بدنه وعلى نفسه أي على الخلق‬ ‫والأمر في ذاته‪ .‬وذلك هو معنى التأله الذي وصف ابن خلدون صنفيه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الموجب في ظن الكثير أعني التأله الصوفي الذي شرطه الضمني الإلحاد أو‬ ‫الاعتقاد بأنه لا يوجد في الجبة غير الله‪.‬‬ ‫‪ .2‬والسالب وهو كل الكبر عند صاحب الحكم والاقتصاد أو صاحب العلم والثقافة‬ ‫كلاهما أساس الاستبداد رغم أن الأول عنيف والثاني لطيف‪.‬‬ ‫ولهذه العلة سميت هذه بأنها علاقة تمانع بين الله والإنسان ينتهي إلى الإيمان أو إلى‬ ‫الكفران ولا مفر من التأرجح بين هذين الحدين وغالبا ما ينطلق الإنسان من الإيمان‬ ‫بالعادة والتربية إلى الإيمان بالحرية وتبين الرشد من الغي‪ .‬أما الكفران فهو وقوف في‬ ‫منتصف الطريق وهو بالضرورة لا أدرية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أخصص بداية هذا الفصل لمسألتين نتجتا عن كذبتين‪:‬‬ ‫• أولاهما خلقية‬ ‫• والثانية علمية‬ ‫تمهيدا لشرح سورة هود بمنطق تجلي آيات الله في الآفاق وفي الأنفس تجليا يبين أن‬ ‫القرآن هو الحق (فصلت ‪ )53‬وتغنينا عن التخريف الذي يطلب الحقيقة من شرح ألفاظ‬ ‫القرآن بخلاف ما أمر به ومن ثم السقوط في تأويل المتشابه رجما بالغيب مدعين الرسوخ في‬ ‫العلم بعكس ما عرفه به القرآن في آل عمران ‪ 7‬فصال زيغ القلوب وابتغاء الفتنة رسوخا‬ ‫وهو عين الخسر‪.‬‬ ‫ولو لم أكتب في حياتي إلا هذا الفصل وخاصة ما تعلق منه بتفسير سورة هود‪ ،‬لاعتبرت‬ ‫نفسي قد أنجزت ما يستحق من أجله قضاء كل عمري لفهم معنى أن القرآن \"سبابة\" تشير‬ ‫إلى شروط تحقيق مهمتي الإنسان مستعمرا في الارض ومستخلفا فيها وليس متن علوم فصلت‬ ‫‪ 53‬لأني اعتبر ذلك يمكن من فهم علل انحطاط الأمة في الماضي وشروط استئناف دورها في‬ ‫المستقبل‪:‬‬ ‫‪ .1‬الكذبة لخلقية أفسدت سيرة الرسول الخاتم‪ :‬ما علة تتفيه المسلمين لحياة الرسول‬ ‫بإخراجها من أحكام هذه الدراما ‪-‬العلاقة بين الله والإنسان‪-‬من خلال أكاذيب تخرجه‬ ‫منها فتجعله بعكس ما يؤكده في القرآن خارج سنن الوجود الإنساني؟‬ ‫‪ .2‬الكذبة العلمية أفسدت تاريخ الأمة‪ :‬وما علة تجاهل الكونية القرآنية في محددات‬ ‫تاريخ الأمة لجعلها خارجة عن السنن الكونية بدعوى الخصوصية؟‬ ‫وأبدأ بأكبر كذبة خلقية حول حياة الرسول‪ :‬دعوى أنه أمي للدلالة على أن القرآن وحي‬ ‫وليس من وضعه‪.‬‬ ‫فهبنا صدقنا أنه لا يحسن الكتابة‪ .‬فكيف نصدق أنه غير مثقف ويستطيع فهم القرآن‬ ‫الذي حارت فيه العقول بل تعليمه وتفسيره لمن رباه على قيمه؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حتى بو سعدية لا يصدق هذا الكلام‪.‬‬ ‫ثم كيف يحتج على أنه ليس مؤلف القرآن بدعوى أنه أمي فهل معنى ذلك أنه لو كان‬ ‫متعلما لكان هو مؤلفه؟‬ ‫والغريب أن زاعمي هذه الكذبة يدعون وراثة علم الرسول ما يعني أحد أمرين أحلاما‬ ‫مر‪:‬‬ ‫‪ .1‬فإما أنهم ورثوا تلقي العلم اللدني الذي ينسبونه اليه وهذا ادعاء أنهم يوحى‬ ‫إليهم‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو أنهم يرثون عدم علم الأمي الذي يفهم ما في القرآن معجز حسب تصورهم‬ ‫دون أن يكون مثقفا بما يمكن من ذلك‪.‬‬ ‫فيتبين أن هذه الحجة من أسخف الحجج على الاعجاز القرآني‪ .‬فمن يحتج بالأمية‬ ‫يفترض ان الرسول لو كان متعلما لصحت حجة من يدعيه مؤلف القرآن‪ :‬ولذلك سميت‬ ‫هذه الكذبة خلقية لأن فيها ذم ضمني لأخلاق الرسول ولقابليته لأن يكون قد كذب لو ثبت‬ ‫أنه متعلم‪.‬‬ ‫وإذن فلا حاجة لهذه الحجة لإثبات أن الرسول ليس مؤلف القرآن‪ .‬والقرآن إذ يتحدى‬ ‫لم يكن يقصر تحديثه على الأميين‪ .‬واضح أن مبدعي هذه الخرافة أميون‪.‬‬ ‫وتتواصل هذه الكذبة بما هو أخطر وتتعلق بتفسير {ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك‬ ‫ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى}‪ .‬ولما كانت حياة الرسول تحول دون تأويل الأولى (يتيما‬ ‫فآوى) والأخيرة (وجدك عائلا فأغنى) فالمشكل يتعلق بالوسطى (وجدك ضالا فهدى)‪.‬‬ ‫وأسمي تتفيها لـحياة الرسول نفي المجاهدة التي كانت ضرورية لانتقاله من حال إلى حال‬ ‫وهي تجربته الروحية والوجودية التي أوصلته إلى تبين الرشد من الغي‪ .‬وهذه الكذبة‬ ‫الثانية زيفت معنى الوسطى بدعوى التنزيه عن الضلال‪.‬‬ ‫أما الكذبة الثانية فهي أصل المعركة حول الكونية والخصوصية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولست بحاجة لإطالة الكلام حولها لأني بينت وهاء القول بالخصوصية في العلم‪ .‬فالأمم‬ ‫لا تتمايز بالخصوصية في المقومات الخمسة التي يتألف منها كيان الإنسان أي في الإرادة‬ ‫والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬ما تختلف به الأمم هو دورها في الوصول إلى الكوني في‬ ‫هذه الصفات‪.‬‬ ‫وتجاوز الخصوصيات التي تفيد أن الإنسان لم يرتق إلى ما يسميه ابن خلدون معاني‬ ‫الإنسانية أي إدراك مقومات كيانه هذه واختيار حرية الإرادة بدل العبودية وصدق العلم‬ ‫بدل الكذب وخير القدرة بل الشر وحسن الحياة بدل القبح وجلال الوجود بدل الذل‪.‬‬ ‫وتتبين حرية الإرادة في المجال السياسي خاصة وصدق العلم في المعرفة خاصة وخير‬ ‫القدرة في التبادل المادي والروحي خاصة وجمال الحياة في الذوق خاصة وجلال الوجود في‬ ‫الرؤية خاصة التي تطابق أو لا تطابق ما سماه ابن خلدون معاني الإنسانية ولخصها في‬ ‫تعريف الإنسان بكونه \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" جمعا توحيديا بين‬ ‫الفلسفي والديني من معنى الوجود الكريم للإنسان من حيث هو رئيس بالطبع‬ ‫وبالاستخلاف‪.‬‬ ‫وهذا التأويل فيه نفي الفضل للمجاهدة الرسولية وجعله نبيا بالطبع دون مجاهدة لكأن‬ ‫الرسول يختاره الله بالانتخاب الطبيعي وليس بالاجتهاد والجهاد الحرين أي بالمجاهدة‬ ‫الروحية والخلقية وبالأفعال التاريخية وليس بمجرد الأقوال التعبدية‪ .‬فالرسول ينبغي أن‬ ‫يكون مثالا اعلى للبشر ومن ثم فهو ليس مثل أبناء جيله فيبقى على ما ربي عليه مثلهم‬ ‫أعني الضلال بل ينبغي أن يكون قد جاهد فعلا للتحرر منه وتبين الرشد من الغي بالمعنى‬ ‫الذي وصفت سابقا‪ :‬نعم هداه الله في مجاهدته ووفقه وذلك هو سر عظمته‪.‬‬ ‫ولا يمكن فهم غار حراء من دون ذلك‪ .‬فالرسول أعطاه الله فطنة في العقل وعفة في‬ ‫الخلق وفراسة في اختيار الرجال والمناسبات المساعدة على تحقيق ما عزم عليه أي بصورة‬ ‫عامة أهله لأن يكون قادرا على فهم الرسالة ولا يمكن أن يكون ذلك من دون غوص في‬ ‫المعاني الوجودية والروحية التي تتضمنها الرسالة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن دون ذلك فنحن نكذبه ونكذب القرآن‪ .‬نكذبه لأنه لم يقل عن نفسه إلا إنه عبد‬ ‫رسول وأنه إنسان لم يخرج عن سنن التكوين الإنساني الذي يتأرجح في طلب الحقيقة ولا‬ ‫يستقر إلا بفضل ما يصل إليه بالبحث وبالهداية الإلهية ولذلك فاختيار سن الأربعين ليس‬ ‫بالصدفة لأنه سن \"تبين الرشد من الغي\" بشريا‪.‬‬ ‫وكان يمكن أن أقبل هذا التزييف لو كان كل البشر مع ذلك متساوين في البلوغ إلى‬ ‫الكمال الممكن للإنسان من حيث هو إنسان‪ .‬فالسنن واحدة لكن تحقيقها متفاوت وقد قال‬ ‫ابن تيمية رحمه الله إن التفاوت بين البشر في القدرات العقلية والروحية أكبر من التفاوت‬ ‫في القدرات البدنية‪ .‬كلنها تبقى إنسانية‪.‬‬ ‫ولا يحتجن أحد بالوحي‪ .‬فالوحي ليس خاصا بالأنبياء ولا بالبشر‪ .‬فحتى النحل يوحى‬ ‫لها بل وحتى المخلوقات الجامدة يخاطبها الله إما مباشرة أو من وراء حجاب لأن أمر السماء‬ ‫والأرض للإتيان طوعا أو كرها وحي كذلك‪ .‬ومن ثم فالرسول متميز دون شك لكنه لم‬ ‫يخرج عن حدود الإنسانية لكونه غايتها‪.‬‬ ‫لا أنكر أن كلامي هذا قد يظنه الكثير جرأة على الرسول فيزايد علي في محبته‪ .‬لكني‬ ‫بالذات أريد أن أخلصه من أدعياء محبته ممن يكذبون عليه ليدعوا فيما بعد أنهم ورثته‬ ‫ثم يستمدون منه سلطانا هو أصل كل الدجل الذي أسس لكل ما جاء الأمة من تخلف في‬ ‫دجل المتصوفة والدعاة من خدم الاستبداد والفساد‪.‬‬ ‫ويجمع بين هذين كذبة الأكاذيب ومصدر كل الأكاذيب‪ :‬سلطان آل البيت العلمي‬ ‫والسياسي‪ .‬فالأيمة المزعومون معصومين يولدون علماء وحكاما لأنهم يرثون العلم والحكمة‬ ‫من كونهم من ذرية النبي أي من فاطمة الزهراء‪ .‬وما علمت نبيا ورثه أبناؤه بمن في ذلك‬ ‫ابراهيم عليه السلام لأن ابنيه ليسا نبيين ولأن الله اجابه لما طلب ذلك بأنه لا يولي أحدا‬ ‫بالوراثة‪ :‬لا ينال عهدي الظالمين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأمر الآن إلى غاية المحاولة كلها‪ :‬ليست الأمة الإسلامية بدعا بين الأمم ولا معنى‬ ‫للخصوصية عند الكلام على سنن التاريخ الإنساني وإلا لسقط أهم ما في القرآن من علاج‬ ‫لما شاب الرسالات المتقدمة من تحريف ناتج عن الجهل والجهالة أي عن النكوص إلى الجاهلية‬ ‫ورفض الإسلام الفطري والكوني‪.‬‬ ‫وإذا كان للإسلام من مميز فهو بالذات رفض الخصوصيات والتوكيد على كونية المحددات‬ ‫المقومة للوجود الإنساني منذ ان اعتبر الدين نفسه عقدا بين الله وابناء آدم عند اخذهم‬ ‫من ظهور آبائهم دون تمييز أو تخصيص لهذه الجماعة أو تلك إذ هو عقد متقدم على تكون‬ ‫الجماعات وتمايزها بالفلكلور الخصوصي‪.‬‬ ‫وبعبارة وجيزة وحاسمة‪ :‬إذا كنا مختلفين عن غيرنا فليس لأن لنا خصوصيات بل لأننا‬ ‫نرفض الخصوصيات التي تعتمد إما على العرق أو على الطبقة أو على الجنس أو على‬ ‫الفلكلور الناتج عما يترتب علها من عادات منافية للكونية بنفي الأخوة البشرية (النساء‪)1‬‬ ‫والمساواة بين البشر المطالبين بالتعارف‪.‬‬ ‫والآن ما السنن الكونية المحددة للتاريخ من حيث كونها سننا سياسية وخلقية لا تتبدل‬ ‫ولا تتحول والتي حددها الإسلام تحديدا ليس أوضح منه تحديدا لأنه هو موضوع هود‬ ‫وأخواتها التي شيبت الرسول الاكرم‪ .‬سأكتفي بهود لأنها تتضمن هذه السنن بصورة‬ ‫صريحة ونسقية وترتيبها من لم يره أعمى بصرا وبصيره‪.‬‬ ‫فما المشيب في هود؟‬ ‫لننظر‪ :‬ففيها قصة ستة أنبياء يتوسطهم ابراهيم عليه السلام‪:‬‬ ‫• ثلاثة قبله‬ ‫• وثلاثة بعده في ترتيب هو‪:‬‬ ‫‪ o‬نوح وهود وصالح قبله‬ ‫‪ o‬ثم لوط وشعيب وموسى بعده‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما المشكل في هذه الحالات كلها؟‬ ‫رسول جاء برسالة ثم عارضه من يعارض الإصلاح في كل تاريخ البشرية‪ .‬فمن هم وأي‬ ‫إصلاح يعارضون؟‬ ‫من عجائب الدهر أن أي شاب من شباب الثورة اليوم ذكرا كان أو انثى يمكن أن يجيب‬ ‫عن هذا السؤال المضاعف دون حاجة لأن اعرض الجواب الذي تقدمه سورة هود لأن الامة‬ ‫اليوم تعيش هذه القضايا ذاتها وكل الإنسانية تعيشها ولان ذلك هو ما يجعل الإسلام اليوم‬ ‫موضوع الحرب الكونية عليه‪.‬‬ ‫لكني سأجيب لأن جواب الشاب أو الشابة يمكن أن يكون نفس الجواب الذي سأقدمه لكنه‬ ‫قد يكون مشوشا وغير منظم أو منسق كما هو في سورة هود لأن النظام والنسق هو الدليل‬ ‫الذي يعتمد عليه القرآن بخلاف ما تقدم عليه من الرسالات التي تعتمد على الخوارق‪.‬‬ ‫لذلك فلأورد الجواب كما هو في سورة هود‪.‬‬ ‫ولأبدأ بملاحظة عامة وهي أن الرسول الأول والرسول الأخير في السورة أي نوح وموسى‬ ‫هما الوحيدان اللذان حققا الثورتين المنتظرتين من كل تاريخ البشرية‪ .‬والبقية أي هود‬ ‫وصالح ولوط وشعيب طرحوا المشاكل التي بين هذين الثورتين واللذين يترتب حلها على‬ ‫ثورتي نوح وموسى وهما أكثر الرسل ذكرا في القرآن‪ .‬لكن القضايا الوسطى بين ثورتيهما‬ ‫لم يقدم لها حل كما سنرى ما يعني الوصل بين الثورتين وهو ما لن يتحقق إلا في الثورة‬ ‫الشاملة أي الإسلام الخاتم الذي يحقق ما تضمنه الإسلام الفاتح والكوني‪.‬‬ ‫وإذا تكلمت على الإسلام الحل لمعضلات الوجود الإنساني فهذا هو قصدي‪ .‬وهو ما أعنيه‬ ‫بـالوصل بين الأمرين استكمالا للثورتين‪ .‬فحل المشكلين اللذين هما عين ما فعل نوح وموسى‬ ‫يجعل تحقيقها الفعلي مشروطا بما يتوسط بينهما من معضلات أي المشاكل الوسيطة أي‪:‬‬ ‫‪ .1‬مشكل هود‬ ‫‪ .2‬ومشكل صالح‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬ومشكل لوط‬ ‫‪ .4‬ومشكل شعيب‪.‬‬ ‫أما ابراهيم فلا كلام على مشكل يعالجه بل على أزمة كونية بشر بحلها وسنرى دلالة‬ ‫البشرى ما هي‪ .‬ولأبدأ الآن الشرح لنظام التاريخ الإنساني كله في الآية‪ .‬لا يهم مضمون‬ ‫الرسالة التي أتى بها نوح المهم الحل الذي قدمه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الحل هو صنع السفينة (حل علمي تقني) والانتقال مما تنتجه الطبيعة إلى زرعه‬ ‫بعد الطوفان من كل زوجين اثنين‪ .‬أليس هذا هو ثورة التعمير أي أن يصبح الإنسان‬ ‫متحررا من سلطان الطبيعة بما يحققه بعلمه وعمله؟ وهذه هي الثورة الأولى‪.‬‬ ‫‪ .2‬الحل هو ثورة موسى في آخر السلسلة‪ .‬فمضمون رسالته واضح وهو الثورة على‬ ‫الاستبداد والفساد في دولة فرعون وما يترتب عليهما من الاستعباد‪ .‬ماذا فعل موسى؟‬ ‫حرر الإنسان من العبودية السياسية كما حرر نوح الإنسان من العبودية الطبيعية‪.‬‬ ‫وهذان هما الحدان المحيطان بالمسائل الباقية‪.‬‬ ‫والمسائل الوسطية بين التحرر من سلطان العبودية الطبيعية التي تترتب على عدم‬ ‫التعمير ومن سلطان العبودية السياسية التي تترتب على عدم الاستخلاف ومجموع العلتين‬ ‫هو عدم التكريم الفعلي للإنسان رغم أن الله قد كرمه وكلفه بهذين المهمتين؟ أربع مسائل‪:‬‬ ‫‪ .1‬فساد الاستبداد بالثروة أو سلطان الأغنياء (هود)‪.‬‬ ‫‪ .2‬فساد توزيع مصدر الحياة الأول أو الماء (صالح)‪.‬‬ ‫‪ .3‬فساد مصدر الحياة الثاني أو الجنس (لوط)‪.‬‬ ‫‪ .4‬فساد شروط التبادل العادل (شعيب)‪.‬‬ ‫وهذه المسائل تابعة للأصلين أصل الاستعمار في الأرض وأصل الاستخلاف فيها‪ :‬والأول‬ ‫هو مشكل نوح والثاني هو مشكل موسى‪.‬‬ ‫بقي لغز الألغاز‪ :‬ما فائدة حضور ابراهيم في السلسلة؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مضاعفة‪ :‬أولا أعلم بمآل قوم لوط ثانيا بشر بابن في لحظة اليأس عند زوجته‪ .‬وطبعا‬ ‫قد يظن أن الابن هو اسحق لأن اسماعيل موجود قبل يأس امه‪ .‬لكن ذلك ليس سارة لم‬ ‫تلد اسحق بعد سن اليأس‪ .‬إذن من الابن الذي تتعلق به البشرى بعد اليأس؟‬ ‫وهذا هو السر الذي شاب منه محمد صلى الله عليه وسلم‪ .‬ذلك أنه فهم أن هذا الابن‬ ‫ليس ابنا عضويا بل ابن روحي وهو محمد نفسه‪ .‬وهو إذن شاب لما فهم أن السورة كلها‬ ‫تكليف له بأن يستأنف رسالة ابراهيم فيكون ابنه الروحي بتأسيس الحنيفية المحدثة أي‬ ‫الإسلام الأصلي الذي أدركه ابراهيم لكنه لم يحققه‪.‬‬ ‫فهم محمد أن البشرى تتعلق به‪ .‬فهو عليه أن يحقق الدولة الكونية التي دورها أن‬ ‫تستكمل ما بدأه نوح (التحر من عبودية الطبيعة وهي مسألة التعمير‪ :‬الإنسان من حيث‬ ‫هو إنسان مستعمر في الأرض) وموسى (التحرر من عبودية التاريخ وهي مسألة الاستخلاف‪:‬‬ ‫الإنسان من حيث هو إنسان خليفة) وما بينهما من مشكلات معلقة هي التي وصفت وذلك‬ ‫هو مضمون الرسالة الخاتمة‪ :‬التوحيد الإبراهيمي لا يمكن أن يتحقق إلا بتوحيد الإنسانية‬ ‫حول التعمير بقيم الاستخلاف علاجا لهذه المسائل‪.‬‬ ‫فبالتعمير يحل مشكل نوح وبالاستخلاف يحل مشكل موسى‪ .‬وإذا حل مشكل نوح وموسى‬ ‫أصبح بالوسع حل مشكل هود وصالح ولوط وشعيب‪ .‬فالحد من سلطان الأغنياء والعدل في‬ ‫توزيع الماء والعقل في الجنس والعدل في التبادل بشرو ط التعاوض العادل تلك هي نظرية‬ ‫الإسلام في التربية والحكم الكونيين‪.‬‬ ‫وحتى نفهم علة ما يعترض الاستئناف الإسلامي اليوم وعلة كونية المعركة ضده فعلينا أن‬ ‫نصل ذلك بما حل بثورة موسى‪ :‬فبدلا من أن تبقى تحريرا للبشر من الاستعباد السياسي‬ ‫تحولت إلى دين العجل أي الاستعباد بمعدن العجل وبخواره وهو سر قوة الصهيونية‪.‬‬ ‫وكذلك ثورة نوح‪ :‬التعمير بالتقنية صار تدميرا‪.‬‬ ‫من يحارب الإسلام هم من حرف دين موسى ودين نوح‪ :‬يحاربونه باسم دين العجل‬ ‫ويحاربونه باسم دين الروبوت الذي يقتل الحياة ويعوضها التقنية وتلك هي علة إفساد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الطبيعة وإفساد التاريخ فيكون السلطان بيد الأغنياء والمسيطرين على الماء وعلى الجنس‬ ‫وعلى توزيع الثورة‪ :‬هذا برنامج من يحارب الإسلام‪.‬‬ ‫وختاما أقول إن هذا كله لا يمكن أن يكون بالصدفة ولا أن يكون بفضل نفاذ فكري‬ ‫شخصي‪ :‬فهذه المعاني كلها بينة لكل من سعى إلى استشفاف روح القرآن الكريم وعلة العلاقة‬ ‫بين الدراما التي وصفت والتاريخ الإنساني‪ .‬فالقرآن ليس كتاب دين بالمعنى العام بل هو‬ ‫كتاب الديني والفلسفي متحدين في \"آيات الله\" التي تتجلى في الآفاق والأنفس (فصلت‬ ‫‪.)53‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هذا الفصل قبل الأخير محوري في المحاولة كلها‪ .‬ولا بد إذن من العودة إلى ما تشير إليه‬ ‫\"السبابة\" القرآنية باعتباره هو ما يبين معنى العلم الرئيس ‪ Science architectonique‬من‬ ‫حيث هو الرؤية المؤسسة لكل ما يبدعه الفكر الإنساني من معرفة وقيم‪ .‬لكنها لا يحتوي‬ ‫على المعرفة العلمية التي تطلبها العلوم الجزئية‪ .‬وأصحاب الإعجاز العلمي يخلطون بين‬ ‫الأمرين فيرددون خرافة تحط من شأن القرآن في حين أنهم يتصورون بيان قيمته‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالعلوم الجزئية أولا لا تتكلم لغة طبيعية كالحال في القرآن‪ .‬وحتى عند استعمالها‬ ‫لغة طبيعية ثانيا فهي تجعلها اصطلاحية أو لغة صناعية كالحال في العلم الرئيس القديم‬ ‫مثل ميتافزيقا أرسطو‪.‬‬ ‫‪ .2‬وهي لا تكون عامة فتشمل مبادئ النظر والعقد ومبادئ العمل والشرع التي لا‬ ‫تقبل أن تكون موضوع علم جزئي أولا لأنها ليست جزئية وثانية لأن بحثها يتعلق بشروط‬ ‫إمكان فعاليات الإنسان معرفيا وقيميا لا غير‪.‬‬ ‫ومن دون هذا التمييز قد يتوهم البعض أن القصد بالرؤية المؤسسة وكأني أقول بالإعجاز‬ ‫العلمي في هذا المستوى بدلا من الكلام على الشروط الفطرية في كيان الإنسان لما جهز به‬ ‫ليصبح قادرا على النظر والعقد في المعرفة وعلى العمل والشرع في القيم أي مقومات كيانه‬ ‫الذاتية له من حيث هو إنسان‪.‬‬ ‫وهذا هو قصدي بالقول إن المعادلة الوجودية هي كذلك معادلة كيان الإنسان‪ .‬فلا يوجد‬ ‫إنسان متعلما كان أو أميا يمكن ألا يكون فيه البنية الوجودية التي وصفت بدرجات مختلفة‬ ‫من الوعي بها لكنها موجودة دائما لأنها مرسومة في كيانه العضوي والروحي أي وعيه بكيانه‬ ‫محاطا بالعالم عينا ومحيطا به ذهنا‪ .‬لا يوجد إنسان لا يعيش هذه المنزلة العجيبة‪:‬‬ ‫‪ .1‬يشعر أنه في العالم من حيث هو أحد الموجودات في الأعيان‪.‬‬ ‫‪ .2‬ويشعر أن العالم فيه من حيث إنه مدرك لما يشعر به شعوره الأول‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالعالم أحد الموجودات في الأذهان‪ .‬والإنسان أحد الموجودات في الأعيان‪ .‬فيكون‬ ‫الإنسان بذلك محيطا ومحاطا ومثله العالم ومع ذلك فهما مختلفان أو على الأقل هكذا‬ ‫نعتقد لأننا نتصور الإنسان متميزا بكونه يعي بكونه محاطا ومحيطا وليس لنا علم بأن للعالم‬ ‫هذا الوعي بالمنزلتين مثل الإنسان بسبب ما له من أدراك بهذين الاحاطتين‪.‬‬ ‫لكن الوعي الإحاطتين مصحوب بالوعي بنسبيتهما ومن ثم فهي العلة الأولى لوجود الدين‬ ‫في الوعي الإنساني‪ .‬فالإحاطتان ليستا مصحوبتين بالوعي بهما فحسب بل بالوعي بنسبيتهما‬ ‫وذلك خاصة عندما يرتقي إلى الحد الذي تمثله نظرية النظر والعقد ونظرية العمل‬ ‫والشرع كما يصفهما القرآن فيدرك أن الاحاطتين لا تستثنيان التجاوز الذاتي والإيمان‬ ‫بوجود تجاوز غاية لا يمكن أن يدعيه الإنسان وذلك هو الإيمان بالغيب أصل كل الأديان‬ ‫وهو أصل بدأت الفلسفة تفهم أنه أصل المعرفة والقيم كلها‪:‬‬ ‫• فوجود الإنسان في الأعيان ليس مقصورا على هذا العالم‪.‬‬ ‫• وأن هذا العالم في الأذهان ليس هو الوحيد الممكن‪.‬‬ ‫ومن المعية ابن خلدون أنه يعتبر هذه الظاهرة أكبر دليل بل الدليل الوحيد على وجود‬ ‫الآخرة والحقائق المتعالية على عالم الشهادة وهي مضاعفة‪ :‬وعي الإنسان بذاته ولا‬ ‫يستطيع أن يمسك بشيء يمكن أن يقول هذا هو \"أنائي\" كما يفعل مع بدنه مثلا ثم الأحلام‬ ‫حياة دون يقظة محيطة ومحاطة بغير شهادة‪.‬‬ ‫فيكتشف الإنسان حينها أنه في كونه محاطا بالعالم عينا ومحيطا به ذهنا دون العالم كما‬ ‫والعالم دونه كيفا فيتساءل عن حقيقة هذا الاكتشاف فإذا به عين ما يترتب على كونه‬ ‫ناظرا ومعتقدا بمعنى أنه لا ينظر للعالم ولذاته ويعتقد في وجوده وفي وجود العالم وهذا‬ ‫هو مستواه الطبيعي الروحي الأول‪.‬‬ ‫ويكتشف أنه ليس في صلة بهذا العالم الطبيعي فحسب بل هو كذلك في صلة مع عالم ثان‬ ‫يشاركه نفس هذه الخاصيات هو العالم التاريخي الذي كل إنسان آخر فيه له مثل هذه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العلاقة وله فوقها علاقة أخرى يكون فيها العالم محيطا ومحاطا بالنظر والعقد وكذلك‬ ‫بالعمل والشرع وسيطا بينه وبين العالم الطبيعي‪.‬‬ ‫فلا يمكن لأي إنسان أن ينظر ويعتقد في العالم الطبيعي بمفرده أو أن يستمد منه قيامه‬ ‫العضوي والروحي وحده بل له شركاء من جنسه صولا وفروعا فضلا عن غيرهما لا يمكن‬ ‫لأحد منهم وهو معهم أن يعيش في العالم الطبيعي من دونهم تعاونا وتبادلا وتفاهما‬ ‫وتواصلا من أجل البقاء بهذه الأبعاد الأربعة‪ .‬وهذه الأبعاد الأربعة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬النظر‬ ‫‪ .2‬العقد‬ ‫‪ .3‬العمل‬ ‫‪ .4‬الشرع‪.‬‬ ‫ولا بد أن تكون هذه مضاعفة لأن النظر له موضوع والعقد له موضوع والعمل له موضوع‬ ‫والشرع له موضوع‪ .‬فيكون عندنا ثمانية أشياء هي في آن مادة معرفية وقيمية وفيها دائما‬ ‫تبادل وتواصل بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والعالم‪ .‬فيكون عندنا‪:‬‬ ‫‪ .1‬علم النظر‪.‬‬ ‫‪ .2‬وعلم موضوعه‪.‬‬ ‫‪ .3‬وعلم العقد‪.‬‬ ‫‪ .4‬وعلم موضوعه‪.‬‬ ‫‪ .5‬عمل العمل‪.‬‬ ‫‪ .6‬وعمل موضوعه‪.‬‬ ‫‪ .7‬وعمل الشرع‪.‬‬ ‫‪ .8‬وعمل موضوعه‪.‬‬ ‫ويضاف إليها ما يعتبر غاية ذلك كله أي‪:‬‬ ‫‪ .9‬علاقتنا بالطبيعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .10‬علاقتنا بالتاريخ‪.‬‬ ‫وكلتا العلاقتين مضاعفة لأنها نظر وعمل وتطبيقاتهما في آن بفضل تلك الثمانية‪ .‬ولن‬ ‫أعجب إذا تعجب القارئ من هذا التصنيف‪ .‬فقد لا يفهم أن أتكلم على علم النظر وعلى‬ ‫علم موضوعه ثم على علم العقد وعلم موضوعه فأميز النظر عن علمه وأمير موضوعه عن‬ ‫الطبيعة والعقد اللذين لنا معهما علاقة هي غير موضوع النظر والعقد‪ .‬وطبعا لو صبر‬ ‫علي قليلا لفهم أن ذلك هو كذلك فعلا‪.‬‬ ‫فالنظر موضوع نظر بمعنى أننا يمكن أن ندرس النظر بوصفه هو بدوره موجودا من‬ ‫الموجودات‪ .‬وتلك هي وظيفة الابستمولوجيا فلسفيا ووظيفة علم الذكاء سواء كان صناعيا‬ ‫أو عضويا‪ :‬والاول يدرسه منطقيا وتاريخيا والثاني يدرسه عصبيا ومعلوماتيا‪ .‬وبين أن‬ ‫الامر شديد التعقيد لكنه كذلك ولا ذنب لي في ذلك‪.‬‬ ‫وموضوع النظر في الطبيعة غير الطبيعة‪ .‬فهو جملة النظريات التي لنا حول الطبيعة‬ ‫التي هي غاية لا تدرك‪ .‬ويمكن أن نقول إن موضوع النظر في الطبيعة هو صورنا المتوالية‬ ‫عن الطبيعة وقد نصل ذات يوم فنكتشف أنه لا يوجد شيء وراء سلسلة تصوراتنا غير لا‬ ‫تناهي التصور ومن ثم فكل شيء طبيعي تصور‪.‬‬ ‫لكننا لا نستطيع ألا نتصور أن الطبيعة مجرد تصور لأننا نستمد منها قيامنا العضوي‬ ‫ويعسر أن نتصور أن قيامنا العضوي هو تصورنا لقيامنا العضوي‪ .‬ولا شيء عقلا أو حتى‬ ‫شرعا يمنع ألا نكون إلا مجرد تصور‪ .‬ومع ذلك فنحن تصور متمدد في المكان وممتد في‬ ‫الزمان وله مدد يتوالى منهما ويتوالد في نوعه‪.‬‬ ‫وما قلته عن النظر يقال مثله عن العقد‪ .‬فالعقد أولا هو العقد في وجود النظر‬ ‫وموضوعه وفي ما يجلهما موجودين دون أن يكونا مدينين بوجودهما لنا‪ .‬فنعتبر أنهما من‬ ‫ثم مدينان لوجود آخر‪ .‬ولا يمكن أن يكونا مدينين بوجودهما لوجودهما لأن وجودهما دون‬ ‫وجودنا قدرة على ذلك لأنهما أدوات وهو غاية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالإنسان يستمد معين وجوده من العالم ومن ثم فالعالم بالقياس إليه أداة وليس غاية‬ ‫ولا يمكن أن يكون الإنسان أداة للعالم لأن العالم يمكن أن يستغني عنه بل هو عالة عليه‪.‬‬ ‫لكن الإنسان لا يمكن أن يستغني عن العالم لأن مورد حياته منه‪ .‬وإذن فالعالم مدين لما‬ ‫أو لمن جعله يؤدي هذه الوظيفة‪.‬‬ ‫فيتكرر ما قلناه عن النظر ليقال مثله عن العقد‪ :‬وخاصة في ما يتعلق بالموضوع‪ .‬فموضوع‬ ‫العقد بخصوص ما يجعل موضوع العقد موجودا أو بمن يجعله موجودا هو ما وراء الموضوع‬ ‫لكنه ليس هو ذاته بل تصوراتنا عنه وهو إما شيء في الطبيعة أو شيء وراء الطبيعة وهذا‬ ‫هو أصل الأديان كلها‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن النظر والعقد حتى بصورة فلسفية خالصة لا يمكن ألا ينتهي إلى دين‬ ‫معين‪ .‬ذلك أن العقد في وجود العالم وفي كونه معلوما شرط فيه‪ .‬وكونه موجودا ومعلوما‬ ‫غير كونه ما نجد منه وما نعلمه لأن ما نجد منه وما نعلمه هو ما ندركه منه وما نتصوره‬ ‫وهما غير وجوده وغير حقيقته‪.‬‬ ‫ولو لم يكن الأمر كذلك لكان الله هو صورتنا عنه ولكان العالم هو صورتنا عنه ولكان‬ ‫النظر هو صورتنا عنه ولكنا نحن صورتنا عن أنفسنا‪ .‬وكل ذلك ليس كذلك‪ .‬فالعالم والله‬ ‫والنظر وذاتنا كلها مختلفة عن صورتنا عنها‪ .‬ولنمر الآن إلى العمل والشرع ويمكن أن‬ ‫نقول تماما مثل ما قلنا عن النظر والعقد‪.‬‬ ‫وقبل أن أواصل فأتلكم على العمل والشرع بنفس الطريقة التي تكلمت بها على النظر‬ ‫والعقد لبيان القصد بالمسائل العشر التي ذكرتها فلأبين أنها مثلها أدوات علاقة الإنسان‬ ‫بالطبيعة وبالتاريخ وهي قرآنيا مدلول \"علمه الأسماء كلها\"‪ .‬إنها القدرة الترميزية التي‬ ‫تبدع ما سميناه تصورات لا متناهية‪.‬‬ ‫أو هي معنى {الرحمن* علم القرآن*خلق الإنسان*علمه البيان}‪ .‬فعلمه البيان وعلمه‬ ‫القرآن المحيطان بخلق الإنسان هما شرطا الأهلية للاستخلاف المرسومة في كيانه خلقة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪74‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فطرية وهي هذا الإبداع الرمزي الذي يسمي ما يدركه بالنظر والعقد وما يحققه بالعمل‬ ‫والشرع‪ .‬وإذن فتعليم القرآن هو تعليم الأسماء‪.‬‬ ‫وعندئذ نفهم معنى أن الرسول يذكر ولا يعلم شيئا غير معلوم للإنسان‪ .‬لكنه ليس علما‬ ‫مضمونيا بل شرطا في القدرة على اكتشاف المضمون الذي لا يكتشف بتفسير القرآن بل‬ ‫بالتوجه إلى ما يشير إليه القرآن وذلك هو معنى السبابة الوجودية‪ .‬وهذه السبابة تشير‬ ‫إلى مطالب النظر والعقد شرط التعمير وإلى مطالب العمل والشرع شرط الاستخلاف‪.‬‬ ‫ولأكمل هذا الفصل بالكلام في مطالب النظر والعقد وأترك مطالب العمل والشرع‬ ‫للفصل الاخير من السبابة الوجودية وهما فصلان أضيفهما بعد أن ظننت أني فرغت من‬ ‫المسالة بعد العاشر‪ .‬الفصول هي إذن اثنا عشرة فصلا‪ .‬فما مطالب النظر والعقد؟‬ ‫ذكرنا أنها أربعة وتصبح خمسة مع أصلها‪ .‬فالعلاقة بالطبيعة ليست مباشرة بل هي علاقة‬ ‫شديدة اللامباشرة والتعقيد‪ .‬إنها‪:‬‬ ‫‪ .1‬علم النظر (الابستمولوجيا)‪.‬‬ ‫‪ .2‬وعلم موضوعه (الأنطولوجيا أو ما وراء العالم)‪.‬‬ ‫‪ .3‬وعلم العقد‪.‬‬ ‫‪ .4‬وعلم موضوعه (الثيولوجيا أو ما وراء الطبيعة)‪.‬‬ ‫‪ .5‬علاقة الإنسان بالطبيعة بتوسط علاقته بالجامعة وما بينها من تبادل وتواصل‬ ‫ومعنى ذلك أن هذه العلاقة يتقدم فيها دائما الثقافي على الطبيعي‪.‬‬ ‫وهذه هي المجالات التي توجد على يمين قلب المعادلة الوجودية أي العلاقة المباشرة بين‬ ‫الإنسان ومثاله الأعلى أو الله‪ .‬وهذا الترتيب فلسفي لأن الترتيب الديني له نفس‬ ‫العناصر ولكن بالمقلوب‪.‬‬ ‫أي ينبغي أن يقرأ من العنصر الأخير إلى العنصر الأول‪ :‬من علاقة الإنسان بالطبيعة‬ ‫إلى الثيولوجيا إلى علم العقد إلى الانطولوجيا إلى علم النظر‪ .‬لكن المسارين متحدان في‬ ‫وحدة البنية ومتخلفان في مراحل اطلاع الإنسان عليها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪75‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومما يؤكد وحدة البنية هو أن الفلسفة تعتبر الترتيب الذي نسبته إليها هنا ما يمكن أن‬ ‫نسميه بلغة أفلاطونية بالجدل الصاعد أي إنه ترتيب المعرفة وليس ترتيب الوجود الذي‬ ‫هو الجدل النازل والذي هو عين الترتيب الذي نسبته إلى الدين بمعنى أن حقيقة الأشياء‬ ‫هي هذا الترتيب الثاني الذي هو تأسيسي‪.‬‬ ‫وقد يظن هذا العرض تابعا للفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة تخلت عنه‪ .‬وهو مجرد‬ ‫ظن كله اثم لأن أصحابه عادة ما يكونوا ممن تسكرهم زبيبة فيتصورون الفلسفة لعب‬ ‫متطفلين يخلطون بين التفكير والتفاكر‪ .‬ذلك أن الفلسفة الحديثة قد تكون ألغت مرحلة‬ ‫واحدة هي الثيولوجيا من السلسلة‪ .‬لكنها عوضتها بمضاعفة المرحلة الثانية أي إنها جعلت‬ ‫الأنطولوجيا ذات دلالتين‪ :‬رؤية العالم ورؤية الوجود‪.‬‬ ‫فلفظة فلتانشاوونج ‪ Weltanschauung‬تتضمن في آن رؤية للعالم ورؤية للوجود ومن‬ ‫ثم فهي أنطولوجيا كذلك ‪ . Ontologie‬وما تختلف به الثانية عن الأولى ليس إلا تعويضا‬ ‫خفيا للثيولوجيا‪ .‬لأن الكلمة فقدت بريقها صارت \"ديمودي\" فعوضها مفهوم الأنطولوجيا‬ ‫وخاصة بمعناها عند هيدجر الذي يحاول الفصل بينهما بحملته على الـ‪Ontotheologie‬‬ ‫وليس بمعناها مثلا عند ابن سينا حيث تعني الإلهيات التصورات الكلية المشتركة لعلوم‬ ‫الفلسفة وهو عين ما يعنيه أرسطو في كتاب الميتافيزيقا‪.‬‬ ‫وإنما معناها ما يمكن استخراجه من المقابلة بين \"زاين\" ‪ Sein‬و\"دازاين\" ‪ Dasein‬أي بين‬ ‫الوجود وتعينه في كيان محدد قائم بتحيزه في المكان والزمان صار في الاصطلاح الهيدجري‬ ‫شبه اسم علم على الإنسان بمعنى الاكزيستنس من حي هي الوعي بالوجود المعيش عيش‬ ‫تجربة حية وهو معنى ذو دلالة روحية دينية لا يختلف عما يعنيه المتصوف بالتجربة التي‬ ‫يعتبرها ممثلة للحقيقة في مقابل ما يسميه الرسوم‪.‬‬ ‫ففقدت \"دازاين\" عنده دلالتها الفلسفية العامة التي كانت تعني حتى عند هيجل‬ ‫الاكزيستنس أي الوجود المتعين وليس الوجود وهو الإنية في فلسفتا التي هي الوجود المتعين‬ ‫فرديا‪ .‬وعلى هذا الأساس اعتبرت هذا التغير ثمرة لتسمية جديدة لابن ا لله‪ .‬ولست‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪76‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫غافلا على أن الهدجريين العرب لا يمكن أن يخطر ببالهم مثل هذا التأويل لظنهم ان‬ ‫الفلسفة قطعت مع الدين وأنه لا وجود لتوالج بين المعاني رغم أمرين لا يغفل عنهما أي‬ ‫عارف بتاريخ الفلسفة الألمانية منذ عصر المثالية الالمانية وخاصة عند هيجل في تحديد هذه‬ ‫العلاقة أولا ثم في تكوين هيدجر الذي هو ديني إلى الأذقان بشهادة أحد كبار تلامذته‬ ‫جادامر‪.‬‬ ‫فالدازاين إذ يقابل الزاين عند هيدجر ويصبح شبه ناطق باسمه هو ترجمة مقنعة‬ ‫للعلاقة بين الابن والأب أو المسيح والرب بالمعنى الهيجلي الذي كان صريحا والذي أصبح‬ ‫ضمنيا عند هيدجر أولا لئلا يعترف بما أخذه عن هيجل وثانيا لأن المعاني الديني صارت‬ ‫خارج الموضة الفلسفية كما احتج هيجل على ذلك من قبل‪ .‬وهو ما يعني أن الأمر كله تغيير‬ ‫اصطلاحي لكن الإشكالية هي‪ :‬علاقة الإنسان أو لسان حال الوجود بالوجود‪ .‬وإذا أعدنا‬ ‫الأمر إلى المعاني وراء المباني تبين أن الحديثة غارقة في الإلهيات كالقديمة‪ .‬وليس لهيدجر‬ ‫اختيار في ذلك‪ .‬فالفلسفة منذ بدايتها تصورت نفسها قطعت مع الدين لكنها تغالط لأنها‬ ‫تنتهي دائما إلى ما لا يمكن بناء العلم الرئيس من دونه‪:‬‬ ‫‪ .1‬فهي إما تنتهي إلى دين إيجابا بنظرية لاهوتية‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو تنتهي سلبيا إلى بديل منها بتأليه الطبيعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪77‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نختم هذه المحاولة بأهم إشكالية يستعملها أعداء الاستئناف تحت عنوان الإسلام السياسي‬ ‫أو دور السياسة في الإسلام وهي قلب مسألة العمل والشرع‪ .‬فقد تكلمنا في الفصل الحادي‬ ‫عشر على علوم النظر والعقد التي تخص علاقة الإنسان بالطبيعة وهي ذات صلة بالتعمير‪.‬‬ ‫والآن نتكلم في هذا الفصل الأخير عن أنظمة العمل والشرع التي تخص علاقة الإنسان‬ ‫بالتاريخ ذات الصلة بالاستخلاف أي بالقيم التي تمثل جوهر وجهي السياسة أعني التربية‬ ‫والحكم‪.‬‬ ‫والتعمير والاستخلاف هما مهما الإنسان في الأرض شرطا لحياته العضوية والروحية‬ ‫ولأبدا العلاج بالتذكير الذي لا يظن ذا صلة بالدين‪ .‬فلأذكر إذن بهذه الأنظمة الخاصة‬ ‫بفلسفة العمل والشرع والمناظرة لفلسفة النظر والعقد التي درسناها في الفصل الحادي‬ ‫عشر‪.‬‬ ‫إنها‪:‬‬ ‫‪ .1‬نظام العمل‪.‬‬ ‫‪ .2‬ونظام موضوعه‪.‬‬ ‫‪ .3‬ونظام الشرع‪.‬‬ ‫‪ .4‬ونظام موضوعه‪.‬‬ ‫‪ .5‬ونظام أصلها جميعا أي العلاقة بالتاريخ الذي يتوسط بين الإنسان والعلاقة‬ ‫بالطبيعة في حياة جميع البشر‪.‬‬ ‫وهذا التصنيف هو بدوره من ثمرات ما استخرجناه من المعادلة الوجودية التي وضعناها‬ ‫لفهم الرؤية القرآنية في النظر والعقد من حيث علاقة الإنسان بالقوانين الطبيعية وما‬ ‫بعدها (الميتافيزيقا التي لا تخلو منها نظرية المعرفة في كل العصور) وفي العمل والشرع من‬ ‫حيث علاقة الإنسان بالسنن التاريخية وما بعدها (ما بعد الأخلاق التي لا تخلو منها نظرية‬ ‫القيم في كل العصور)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪78‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فكما أسلفت لا توجد علاقة مباشرة بالطبيعة بل لا بد من توسط الجماعة البشرية بما‬ ‫حصلته في تاريخها من وسائل الاستفادة من الطبيعية التي هي معين قيامها العضوي بثرواتها‬ ‫ومناخها ومنتجاتها إما الطبيعية أو المحولة بالعمل الإنساني وأساسه التواصل حول التبادل‬ ‫بين البشر ثمرة للتعاون والتعاوض‪.‬‬ ‫والترتيب الحقيقي في كل الجماعات البشرية خلال كل التاريخ الإنساني هو تقدم أنظمة‬ ‫العمل والشرع على أنظمة النظر والعقد التي هي في الواقع جزء منها أو أحد أبعادها‬ ‫المتعلقة بشروط الفاعلية الإنسانية‪ .‬فتقدم علاقة الإنسان بالتاريخ على علاقته بالطبيعة‬ ‫أمر مطلق بدءا بالطفل الذي لا يمكن أن يعيش يوما من دون أسرة راعية وهي خاصية‬ ‫بايولوجية للطفل الإنساني الذي يبقى مطلق التبعية للرعاية على الأقل عقدا كاملا‪.‬‬ ‫لكن حتى في هذا الترتيب فإن حضور النظر والعقد ضروري لأن الإنسان لو لم يكن‬ ‫ناظرا ومعتقدا لما فهم الحاجة إلى للوجود المشترك الطوعي ولاكتفى بالضروري منه (لما‬ ‫تكونت الأسر الكبرى مثلا ثم القبائل ثم الأحلاف بين القبائل إلخ‪ )...‬من أجل الحماية‬ ‫والرعاية بالاصطلاح الخلدوني (موضوع المقدمة) من أجل سد الحاجات أداة (العمران)‬ ‫والأنس بالعشير غاية (الاجتماع)‪.‬‬ ‫ومن ثم فالتقديم السابق معقول ومفهوم‪.‬‬ ‫وعلة الترتيبين مع تبادل التقديم والتأخير بحسب المستويات ‪-‬بمعنى أن النظر الارقى‬ ‫يأتي بعد الانتظام في العمل والشرع لكن النظر الأدنى مشروط الترتيب العكسي‪-‬مفهومة‬ ‫كذلك فما في العالم من مقومات طبيعية ومن أدوات تاريخية يوجد في كيان الإنسان نفسه‪.‬‬ ‫فهو عضويا طبيعي وخاضع لقوانين الطبيعة‪ .‬وهو روحيا تاريخي وخاضع لسنن التاريخ‪.‬‬ ‫ومن ثم فما فيه وما في العالم متناظران فضلا عن التحاوط المتبادل الذي شرحناه وشرحنا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪79‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما يترتب عليه في الفصل السابق‪ :‬الإنسان محاط بالعالم عينا ومحيط به ذهنا والعالم من‬ ‫ثم محيط بالإنسان ومحاط به كذلك‪.‬‬ ‫والآن كيف نفهم هذا المخمس المتعلق بأنظمة العمل والشرع في صلة بعلاقة الإنسان‬ ‫بالتاريخ الذي هو معين الروح والاستخلاف وسطيا بينه وبين علاقته بالطبيعة التي هي‬ ‫معين البدن والتعمير؟‬ ‫نظام العمل ونظام موضوعه ونظام الشرع ونظام موضوعه ونظام العلاقة بالتاريخ‬ ‫والاستخلاف نجاحا او فشلا‪.‬‬ ‫وأول قضية ما علاقة العمل بالشرع قياسا على علاقة النظر بالعقد؟‬ ‫شرحنا هذه عديد المرات وبينا أن النظر مستحيل بداية وغاية من دون العقد‪ .‬فهو يبدأ‬ ‫به حول وجود الموضوع وقابليته للعلم ووجود الذات وقدرتها على علمه‪.‬‬ ‫والآن فما علاقة الشرع بالعمل بداية وغاية؟‬ ‫فبداية أي عمل هو تحقيق شيء بنظام‪.‬‬ ‫وغاية أي عمل التأكد من احترام ذلك النظام ومن دونه فالعمل فشل في تحقيق مشروع‬ ‫العمل الذي يرد إلى نظامه الذي يحقق غايته وذلك هو شرعه‪ .‬والآن فما نظام العمل وما‬ ‫نظام الشرع وما موضوع العمل وما موضوع الشرع وكيف يتفرع ذلك كله عن علاقة الإنسان‬ ‫بالتاريخ الإنساني عامة وليس بلحظته فحسب‪.‬‬ ‫نظام العمل غير موضوعه ونظام الشرع غير موضوعه وأربعتها غير علاقة الإنسان‬ ‫بالتاريخ من حيث هو وسيط بينه وبين الطبيعة‪ .‬فنظام العمل تطبيق نظرية وموضوع‬ ‫العمل هو المنتج الذي يحصل من تطبيق النظرية وشرع العمل شروط الإنجاز التي تتعلق‬ ‫بدور الاستثمار والفكرة والإنجاز والتمويل والاستهلاك‪.‬‬ ‫وهذا هو جوهر الإنتاج الاقتصادي أو المادي فيكون شرع العمل هو جملة العقود بين هذه‬ ‫الأطراف الخمسة وهي إما صريحة أو ضمنية بحسب تقدم الجماعات في تحديد علاقتها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪80‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التعاقدية للتعاون في انتاج ما يسد حاجاتها الاقتصادية أو الثقافية وهذه مثل ذاك‪ .‬وهذا‬ ‫كله هو علاقة الإنسان بالتاريخ استخلافيا‪.‬‬ ‫وموضوع التشريع هو إذن نظام توزيع العمل والتعاون والتعاوض في الجماعة سواء تعلق‬ ‫الأمر بسد الحاجة المادية (العمران) أو الروحية (الاجتماع) وهو في الحقيقة نظام‬ ‫التواصل الضابط لعقود التبادل بالتعاوض العادل في الجماعة وبمقتضاه يعمل بقيم‬ ‫الاستخلاف المساوي بين البشر أو يخالفها‪.‬‬ ‫فإذا ترجمنا المسألة قرآنيا كانت العلاقة بين النظر والعقد مع الطبيعة هي ما يمكن أن‬ ‫نسميه عالم الخلق وكيف تتحقق علاقة الإنسان بالطبيعة من حيث حاجته كمخلوق لا يمكن‬ ‫أن يعيش من دونها وهو معنى التسخير المشروط بالتعمير‪.‬‬ ‫أما العلاقة بين العمل والشرع مع التاريخ فهي عالم الامر والاستخلاف‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى العلاقة غير المباشرة أو القلب الثاني للمعادلة الوجودية أعني اللقاء‬ ‫الثاني بين الله والإنسان بتوسط الطبيعة خلقا والتاريخ أمرا‪ .‬وبذلك تنغلق الدائرة التي‬ ‫تتألف بعناصر يكون فيها الله والانسان في القلب الاول بداية وفي القلب الثاني غاية بمعنى‬ ‫أنهما يصبحان المابعدين‪.‬‬ ‫ما معنى يصبحان المابعدين؟‬ ‫فالله في هذا القلب الثاني هو ما بعد الطبيعة‪.‬‬ ‫والإنسان فيه هو مابعد التاريخ من حيث هو مستعمر في الارض ومستخلف فيها‪ .‬ومعنى‬ ‫ذلك أننا ننسب نظام الطبيعة إلى الله ونسب نظام التاريخ إلى الإنسان أو لنقل نحمله‬ ‫مسؤولية ما يحصل في تاريخ وهو معنى التكليف والحساب‪.‬‬ ‫فإذا أضفنا أن العلاقة بالطبيعة في النظر والعقد والعلاقة بالتاريخ في العمل والشرع لا‬ ‫تعنيان أن الإنسان محيط بهما وأن الفرق بين كل علوم الإنسان وكل أعماله تبقى اجتهادات‬ ‫وجهادات للاستفادة منهما دون أن يكون له عليهما سلطان مهما توهم من قوة لعلمة أو لعمله‪:‬‬ ‫فهو قطرة في محيط لامتناهي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪81‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والآن لماذا اعتبر هذه المعادلة هي في آن بنية القرآن وبينة الإنسان وبينة العالم وأنها‬ ‫ليست شيئا آخر غير ما يقصده القرآن بالفطرة التي فطر الله عليها الإنسان بمعنى أنها‬ ‫ليست خاصة بالإسلام لأن سلوبها وتحريفاتها هي ما يعرضه القرآن خلال معاملة الرسالات‬ ‫السابقة بمنطق \"التصديق والهيمنة\"‪.‬‬ ‫فهو بهذا المنهج النقدي للتحريف يستخرج الكوني والكلي في الديني وفي الفلسفي‬ ‫المتطابقين بمعنى أن الرسالة ليست كلاما في الغيبيات كما توهم من يدعي أنه يحتوي على‬ ‫علم الغيب بل هو رسالة من مرسل (الله) إلى مرسل إليه (الإنسان عامة) عن طريق رسول‬ ‫(محمد) بمضمون معين يعلم بمنهج معين‪.‬‬ ‫والمضمون المعين هو هذه المعادلة والمنهج المعين هو النظر والعقد توجيها إلى طلب نظام‬ ‫العالم الطبيعي والعمل والشرع توجيها إلى طلب نظام العالم التاريخي‪ .‬وذلك هو مدلول‬ ‫فصلت ‪\" 53‬آيات الله في الآفاق وفي الأنفس=حقيقة القرآن\"‪ .‬والآفاق هي العالمان الطبيعي‬ ‫والتاريخي والأنفس كناية عما فيهما من تجهيز يمكن من علاج العلاقة بهما أعني النظر‬ ‫والعقد للعلاقة بالطبيعي من العالمين والعمل والشرع للعلاقة بالتاريخي منهما‪.‬‬ ‫وفرضيتي لتفسير انحطاط الأمة وفشلها في التعمير والاستخلاف هو أن علماءها تركوا‬ ‫فصلت ‪ 53‬فلم يطلبوا علم آيات الله في الآفاق والانفس من أجل التعمير والاستخلاف بل‬ ‫عملوا بعكسها ثم عكسوا آل عمران ‪ 7‬فلم ينشغلوا إلا بتأويل المتشابه بدعوى الرسوخ في‬ ‫العلم لإخفاء زيغ قلوبهم وابتغائهم الفتنة‪.‬‬ ‫والنتيجة أنهم أفسدوا التربية التي عكسوا فيها أمر الله للرسول الذي نبهه بالقول {إنما‬ ‫أنت مذكر} فزعموا له غير ذلك حتى يدعوا وراثته بعلم كاذب وزائف لم يدعه وذلك‬ ‫حتى يصبحوا وسطاء بين الله والمؤمنين وليس مجرد مذكرين مثل الرسول‪ .‬ومثلهم فعل‬ ‫الحكام لم يعملوا بـ{لست عليهم بمسيطر}‪.‬‬ ‫فسيطروا بوصفهم أوصياء واستعبدوا المؤمنين مثل أصحاب دين العجل وقد صاروا كما‬ ‫نراهم حلفاء أصحابه يحكمون بالمال الفاسد (معدن العجل) وبالإيديولوجيا الفاسدة (خوار‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪82‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العجل)‪ .‬ولا يمكن أن يكون كل ذلك وليد الصدف بل علته تحريف النظر والعقد وتحريف‬ ‫العمل والشرع‪ :‬وتلك هي علة انحطاط المسلمين‪.‬‬ ‫وفساد التربية وفساد الحكم جعلهما ابن خلدون أصل فساد معاني الإنسانية في الجماعة‬ ‫بحيث يصبح الإنسان الذي يربى بالعنف الرمزي من علماء السوء ويحكم العنف المادي من‬ ‫حكام العمالة فلا يبقى إنسانا فتعوض العبودية الحرية والجهل العلم والعجز القدرة‬ ‫والقبح الجمال والذل الجلال‪ :‬لا يبقى مسلما‪.‬‬ ‫فلا يمكن أن يكون الإنسان عبدا وجاهلا وعاجزا وقبيحا وذليلا ثم يدعي أنه مسلم‪.‬‬ ‫فالمسلم بتعريف القرآن كما صاغه ابن خلدون \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬ ‫له\" لا يكون إلى حر الإرادة صادق العلم فاعل الإرادة جميل الحياة جليل الوجود وتلك‬ ‫هي أخلاق القرآن لتكريم الإنسان‪.‬‬ ‫وهذه رسالتي إلى شباب الثورة بجنسيه‪ :‬اتبعوا السبابة الوجودية كما حاولت بيان‬ ‫دلالتها‪ .‬فالقرآن سبابة وجودية توجهكم إلى شروط الكرامة والحرية‪ .‬فلا يمكن للمسلم‬ ‫أن يبقى مسلما إذا لم يعمر الارض ويستخلف فيها بما وصفت من الرؤى القرآنية التي لا‬ ‫تعوض الاجتهاد والجهاد بل تشير إلى شروطهما‪.‬‬ ‫وإذا جاز لي أن أختم بالكلام على السياسة التي ينبغي أن تكون سياسة الاستئناف الذي‬ ‫على الإسلام السياسي أن يعيد بها للأمة دورها الكوني فهي ما حاولنا وصفه في هذه المحاولة‬ ‫\"السبابة\" والتي قبلها ‪-‬العملة والكلمة‪ -‬لأن هذه تحدد الأدواء وكيفية علاجها وتلك تحدد‬ ‫الوصفة التي تمكن من العلاج الذي يبين معنى الإسلام هو الحل بعد أن يكون قد تخلص من‬ ‫علل الانحطاط وتحرر من الكاريكاتورين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪83‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪84‬‬ ‫الأسماء والبيان‬