-- لكن هذه المحدودية وعدم المطابقة أو عدم الإحاطة هي أكبر علامات قوة العلم :فهو بهذا يصبح الإبداع الدائم للعبارة على ما ندركه دون الاعتقاد في رد الوجود إلى ما ندركه منه .والمسافة الفاصلة بين الموجود وإدراكنا له هي مسافة تطورنا الدائم واقترابنا من المنشود فيكون القيمي قاطرة المعرفي. وحينئذ تحصل ثورتان في المعرفة وفي القيمة :لن يبقى أحد قادرا على ادعاء العلم المحيط فيزول التعصب المعرفي ولن يبقى أحد قادرا على ادعاء العمل التام فيزول التعصب القيمي .وحينها نفهم السر في نظرية سورة العصر :الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر شرط التحرر من الخسر. أبو يعرب المرزوقي 47 الأسماء والبيان
-- وبذلك يتبين أن بين نوعي العلوم الغائية والأداتية تفاعل شديد الثراء .فعلوم الغايات لما تكتشف دور العلوم الأدوات تصبح وكأنها علوم إبداع الأدوات التي تحقق الغايات فتنقلب العلاقة بين الغاية والأداة فتصبح هذه مقدمة على تلك لأنها هي شرط السعي إليها ولا يمكن تحقيق الغايات من دون تحقيق الادوات التي تصبح غايات وسيطة وشراطة للغايات المطلوبة لذاتها. وعلوم الأدوات تكشف ما تدين به لإبداع علوم الغايات للأدوات وأهمها الرياضيات التي تمكن بتطبيقها من مد الحواس بما يجعلها تنفذ إلى أسرار الموجودات المرئية والمسموعة خاصة تصبح شرط الوصل بين شكل العلم (النظرية) ومضمونه (التجربة) بتقوية الحواس التي تدرك الظاهرات. وأفضل مثال هو علم المناظر الذي من دون لا يمكن رصد السماء ولا رؤية لا متناهي الصغر أو لا متناهي الكبر .ثم قياسا عليه يمكن الكلام على علم المسامع الذي يدرك ما دون الحد الأدنى للسمع وما فوق الحد الأقصى للسمع الإنسان غير المجهز به .وكلاهما حصيلة الوصل بين الرياضي والفيزيائي. ولا بد هنا من الإشارة إلى أمرين اعتقد أن مواقفي منها لم تزل غير مفهومة وهي مواقف علتها محاولة فهم طبيعة هذه العلاقة بين نوعي العلوم الغائية والأداتية ودور معرفة الإنسان بسر تجهيزه لمهمتيه معمرا للأرض ومستخلفا فيها ودور الأمم في تاريخ الإنسانية الذي لا يتجاوز تحقيق هذين المهمتين بما جهز به من نظر وعقد للعرفة ومن عمل وشرع للقيمة: .1فأما الأمر الأول فيتعلق بكون الإنسان هو لغز الوجود الأكبر ومفتاح هذا اللغز هو العلاقة المباشرة بين التناهي واللاتناهي أصلا كل تجهيزنا الإدراكي للمعرفة والقيم وفيها يمكن القول إن الإنسان ما يزال ثقبا أسودا يحار الفكر في فهمه :فأي إنسان حاول أن أبو يعرب المرزوقي 48 الأسماء والبيان
-- يدرك ذاته يكتشف أنها ثقف أسود لا يستطيع أن يمسك بشيء محدد وراء وعيه بذاته وأن أقصى ما يمكن أن يدركه هو ما حاولت وصفه بكلامي على ما سميته المعادلة الوجودية. .2وأما الأمر الثاني فيتعلق بما يمكن تسميته بسهم الأمم ذات الدور الكوني في اكتشاف الكونية .وهذا هو البديل الذي أقدمه في رفضي للباحثين عن الخصوصية .فما ينبغي أن تفاخر به الأمم ليس الخصوصيات التي هي فلكلورية مثل الألوان أو الفصالة في اللباس بل ما حققته من سبق في اكتشاف الكوني المحدد لحقيقة ما نعتبره الإنساني المتعين في ما لا يقبل الرد إلى الفلكلور. واعتقادي الجازم هو أن السبق في اكتشاف الكوني في الكيان الإنساني يرد إلى خمس مجالات هي عين المجال القيمي بالمعنى العام لا يتعداها وكلها تمثل جوهر ما تبشر به الرسالة الخاتمة التي تعتبر نفسها الرسالة الفاتحة وتسمي ذلك كله مما فطر عليه الإنسان بوصفه مكلفا بمهمة التعمير والاستخلاف: .1المجال المتعلق بالإرادة حرية وعبودية وهي مجال السياسة تربية وحكما. .2المجال المتعلق بالمعرفة صدقا وكذبا وهي مجال العلوم الطبيعية والإنسانية. .3المجال المتعلق بالقدرة خيرا أو شرا وهي مجال الإنتاج المادي والرمزي. .4المجال المتعلق بالذوق جمالا وقبحا وهي مجال الفنون والألعاب. .5المجال المتعلق بالوجود ذلا أو جلالا وهي مجال الرؤى الدينية والفلسفية. وكلها مجالات لا خصوصية فيها لأنها كلها إنسانية وكونية سواء كانت سوية أو منحرفة عن حقيقة الإنسان كما عرفه ابن خلدون \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو تعريف مستمد مباشرة من رؤية الإنسان القرآنية. ولست أشك في أنه قد يأتي يوم يصبح فيه هذا النوع من العلوم الآلية أو العلوم المساعدة في إدراك الوجود بعدد الحواس ونقرب من فهم لغز الألغاز بوصفه شبه شفرة الوجودين الطبيعي والتاريخي متعينة في مداركه وما يترجم إليه ما تدركه من ألغاز قوانين الطبيعة وسنن التاريخ .فنجد علوما تمكن الشم والذوق واللمس مما مكنت منه البصر والسمع أبو يعرب المرزوقي 49 الأسماء والبيان
-- ويصبح المضمون المعرفي قابلا لإدراك أدق يتجاوز المتاح للإنسان طبيعيا ليتيح للحواس صناعيا مثل البصر والسمع. وعندئذ سنكتشف أن العقل الذي يبدع النظريات لا يصبح عقلا علميا بحق من دون أن يبدع ما يجعل الحواس تتدرج نحو ما يقال عن البصر الحديد فيتلامس النظر العقلي والإدراك الحسي إلى حد يصبح فيه التقارب اللامحدود بين التجريبي والفرضي تلاحم بين الإنسان والوجود وتناغم بينهما معرفي وقيمي بلا حد. وهنا نصل إلى العلم الخامس الذي لم نتكلم عليه أعني التصوف .فمن المفروض إذا كان صاحبه صادقا أن يكون القصد بالكشف هذا النحو اللامتناهي للتطابق بين الإدراك والوجود عندما يتوهم حاصلا وكأن الإنسان بلغ إليه فعلا في شبه ذهول وجداني يحصل للإنسان عندما يتقد أنه ذات في لحظة وعي شبه بارقة. وابن خلدون يعرف الوجدانيات بهذه الخاصية أي بكونها ما لا ينقال Indicibleأو يعجز الإنسان عن أي تعبير عنه Ineffableويعلل به الشطح الصوفي أي قول ما يبدو خروجا عن آداب الإيمان وادعاء الحلول .لكنه في الحقيقة وهم رد الوجود إلى الإدراك الذي يضمر شيئين لا يصدقها العقل ولا الدين :وحدة العالم واتحاده بالإنسان. والمعلوم أن أعسر شيء للإنسان أن يتطابق مع ذاته فهو دائم النوسان بين كونه قبلها أو بعدها أي بين كونه توقع أو تذكر وليس مطابقة للحظة التي يعيشها إلى إذا فقد الوعي بذاته وتلك هي ربما علة رواج المخدرات في تحصيل مثل هذه التجارب التي هي الغيبوبة الوجودية بمعنى الغرق في وجدان لاينقال. ولا علاقة لذلك بالسكينة بالمعنى الروحي للكلمة لأن هذه ثمرة الاستسلام للإرادة الإلهية وهي معنى الإسلام الذي يعني اللامبالاة بأحوال النفس والزهد في الدنيا وهو التأله بالمعنى الإيجابي الذي هو عكس التأله في وحدة الوجود والفناء المزعوم الذي يدعي صاحبه أن ما في الجبة غير الله. أبو يعرب المرزوقي 50 الأسماء والبيان
-- وقد سبق أن ترجمت مقالة ماكس هرتون حول تصوف الحلاج وصلته بالمايا والهندوسية ما يعني أن الزهد بالمعنى الإسلامي ليس هو القصد بالتصوف العرفاني لأن الأول يعترف بالفرق بين الآله والمألوه وبين الذات والعالم وهذا بالعكس تتضخم ذاته إلى حد اعتبارها الموجود الوحيد والباقي نتاج فعل إدراكه. وهذا هو النوع الذي يسميه ابن خلدون بتصوف الوحدة المطلقة .وما أظن التجربة صادقة إلا إذا كان صاحبها يستذهل ذاته بالمخدرات .ذلك أن الكيان العضوي للإنسان يحول دون صاحبه وهذه الاوهام فهو يجوع ويمرض ويتألم ويأكل وما يترتب عليه من علاقة بالفضلات مهما تسامى .وكل ذلك داع للحكمة والتواضع. وما يستمد من حكمة البدن في التصوف يناظر ما يستمد من حكمة التجربة في العلم: كلاهما يكتشف صاحبه وهم المطابقة مباشرة كلما رأى ضعف كيانه البدني والعقلي .ولا يمكن لمن يدرك معنى أنه فان أن يذهب الظن إلى أن الوجود يقبل الرد إلى إدراكه (الفيلسوف) فضلا عن الرد إلى ذاته (المتصوف). ولهذه العلة فالفيلسوف الذي يتوهم رد الوجود إلى إدراكه والمتصوف الذي يتوهم رده إلى ذاته كلاهما يكذب على نفسه بوعي أو بلا وعي .وفي الحالة الاولى هو دجال وفي الحالة الثانية هو في المرحلة الطفولية من سن العلم .وهو يشبه من لم يخرج من قريته فيقيس العالم بها فيظن عاداتها حقيقة مطلقة. العالم والوجود لا يرد إلى أي موجود معين منه وهو لامتناه بالقياس إلى تناهي الإنسان حتى لو لم يوجد إلى هذا العالم الذي يتصورونه وحيدا .لكن من يقرأ القرآن يكتشف أنه يتكلم على عوالم كثيرة ولكل منها سماؤه وأرضه على الأقل سبعة :فيوم بخمسين ألف سنة مما نعد لا يقبله عقل الأرسطيين الذين يتصورون العالم الذي فوق القمر هو ما يدور حوله فلك أقدس ولم يصل حتى إلى فلك بطليموس من حيث العبارة الرياضية. ولو تساءلوا عنها وحاولوا النظر فيها حتى من باب اختبار لفرضية لتحرروا من فلك أرسطو ونظرية العقول المحركة لها .لكنهم كانوا يعتقدون أن علم أرسطو نهائي ولا يكن أبو يعرب المرزوقي 51 الأسماء والبيان
-- تصور غيره وأن ما في الرؤى الاخرى ليس إلى خرافات شعبية كما كان يتصور بورقيبة لما خرف الرسول خرافا لحكايات بدوية. وما ضربت هذا المثال تحكما فكل من يتصورونهم مفكرين -مثل ابي زيد وعركون وأمثالهما كثير-هم في نسبة فلاسفتنا في القرون الوسطى يحاججون في ما يتجاوز ما ظنوه حقائق نهائية بمنطق المقابلة بين النص الواقع مضمرين أن حقيقة الواقع هي ما يجدونه في خرافات ماركس حول المادية الجدلية. ومعنى ذلك أن من يسمون بمفكري الحداثة من العرب لا يختلفون عن مفكري القرون الوسطى .فلكل منهم أرسطه وكلهم لسان حالهم يردد ما قال الفارابي في الحروف :العلم اكتمل ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم .ولست أدعي أن القرآن فيه علم الطبيعة بل ادعي أن فيه رؤية قيلت بمفهوم حدد يـحرر من وهم رد الوجود إلى الإدراك. فمفهوم الغيب المحجوب مفهوم حد ينفي الإحاطة عن علم الإنسان .وهو ما يعني أن الرسوخ في العلم هو الوعي بهذا الحد وليس القول برد الوجود إلى الإدراك .وهذا المعنى يؤسس عليه ابن خلدون استحالة إثبات السببية متبعا في ذلك الغزالي مع وعي إبستمولوجي أدق لأنه فهمه بصورة تنفي حتى ما توهم الغزالي إمكانه وهو الكشف الصوفي مرحلة تمثل ما قد يكون قصده بما سماه \"طور ما وراء العقل\" في المنقذ. لما كتبت رسالة \"مفهوم السببية عند الغزالي' مذكرة الإجازة في السوربون ونشرت كاد أساتذة الفلسفة الذين كانوا يعتبرون الغزالي ظلاميا لأن فيلسوفا ناطقا بالألمانية (بلوخ) سماه كذلك في كلامه على اليسار الأرسطي ممثلا بابن رشد كادوا يفتكوا بي وكان لهم ما يشبه مفهوم التكفير الفلسفي فاستعملوه. وبذلك فهم استظلموا الوحيد الذي كان له حس فلسفي واعتبروه نكبة على الفلسفة لأن الفلسفة عندهم كانت ولا تزال حقيقة نهائية وعقلانية وتنويرية ولذلك فجلهم عبيد أبو يعرب المرزوقي 52 الأسماء والبيان
-- للتنوير الذي يمثله أكثر طغاة العالم جهلا وجهالة وجاهلية واستبدادا وفسادا معتبرين ذلك التهديم الذاتي تحديثا وتقدمية. ولهذه العلة أفلست كل الأنظمة العربية لأن الحلف بين هذه النخب التي لها نفس العقلية التي للجامية والفرق الوحيد هو نوع الأنظمة القبلية لهذه والعسكرية لهم وكلاهما أبعد ما يكون عن الإبداع المعرفي أو القيمي إذ إن الاستيراد من ماضي انحطاطنا أو من انحطاط الحداثة بالاستعمار لا يختلفان. وإذا كانت مرحلة الانحطاط الذاتي لم تر من الا السبابة فإن هذه لم تحارب إلا السبابة. ولما كنت أحاول أن أنظر إلى حيث أشارت السبابة لنقد الماضي وعلل انحطاطه فإني أحاول أن أدافع عن السبابة ولا أزعم أن فيها ما يغنينا عما أشارت اليه ولهذه العلة كان موقفي صارما ضد خرافة الإعجاز العلمي. ما في القرآن هو ما حاولت بيانه مما حدده هو بما أمر به للبحث العلمي في شروط التعمير وفي شروط الاستخلاف (فصلت )53وبما نهى عنه من علل الزيغ في القلوب وابتغاء الفتنة وهو توجيه إلى ما به يحقق الإنسان مهمتيه كما يحددهما القرآن :يعمر الأرض بقيم الاستخلاف وبمقتضاهما يكون حسابه. انحطاطنا هو فشلنا في التعمير وفي الاستخلاف وهو علة استعمار الغرب لنا .فإذا أردنا أن نستعيد دورنا في العالم فعلينا أن نتبع السبابة فنتوجه إلى حيث توجهنا ونشرع في القيام بالمهمتين :تعمير الأرض شرطا في الرعاية والحماية والاستخلاف شرطا في جعلهما بأنظمة قيم القرآن .وتلك مهمة التربية والحكم. وهذه المهمة التكوينية تحتاج إلى شروط تموينية :التموين العضوي وهو موضوع الاقتصاد والتموين الروحي وهو موضع الثقافة .وكلاهما غير ممكن من دون البحث العلمي في الآفاق والأنفس أي في قوانين الطبيعة وسنن التاريخ .وهذه البحوث التي تنتج ما يمون التكوين هي سر قوة الأمم وأصل سيادتها. أبو يعرب المرزوقي 53 الأسماء والبيان
-- وحتى يكون لسورة قريش دلالتها العامة فإن غاية الاستئناف هو \"أطعمهم من جوع آمنهم من خوف\" .فجل العرب متسولون للرعاية (الجوع رمزها) وللحماية (الخوف رمزها) والتحرر منهما شرطه الردع وهو دلالة الأنفال 60والنساء 1شرط كونية الإسلام بداية والحجرات 13شرط أخلاقه الكونية غاية. فقدان العرب لكل هذه الأهداف علته أنهم نكصوا إلى الجاهلية .وما كان ذلك ليحدث لولا فساد علوم الملة غائيها وأداتيها وذلك ما حاولت بيانه .وما يشيع على ذلك هو أن الشباب الإسلامي بجنسيه بدأ يسترد عنفوان الجيل الذي أسس دولة الإسلام :يريد تربية بلا وساطة وحكما بلا وصاية :رؤية الإسلام. فإذا كان لي سهم في صوغ ذلك صوغا فلسفيا صارما فسيكون أفضل جزاء لما خصصت له جل وقتي على الأقل منذ أن بدأت أفهم دور المدرسة النقدية التي أهمل جهدها فكان صيحة في واد وخاصة عند حداثيي العرب الذين تسكرهم زبيبة ويتصورون التحديث يمكن أن يتأسس على التقليد وكله بليد بالجوهر. أبو يعرب المرزوقي 54 الأسماء والبيان
-- لا يكون لهذه المراجعة التجاوزية معنى إذا لم تحسم قضية التجهيزين للإنسان من اجل تحقيق مهمتين في حياته بهما حصرا في الشاهد من عالميه الطبيعي والتاريخي من حوله في كيانه العضوي (بدنه) والروحي(نفسه) من منطلق تسليمه بما وصفته بالمعادلة الوجودية التي تمكن من تنظيم علمه وعمله وتفاعلهما في الاتجاهين من العلم إلى العمل (تطبيقات النظر في التجارب) ومن العمل إلى العلم (تضمين التجارب في النظريات). فيكون العمل محددا للمضمون العلمي المناسب للبنى النظرية ويكون النظر محددا للشكل العلمي المناسب للبنى الوجودية .وما تستمده النظرية من التطبيق هو المضمون العلمي وهو نقلي حتما .وما يستمده المضمون العلمي من النظر هو الشكل العلمي وهو عقلي حتما .ولا يوجد علم لا يتألف من الشكل العقلي والمضمون النقلي إما الفعلي أو المفترض. وينبغي أن نذكر بالمعادلة الوجودية التي تمكن من فهم الدور الذي أنسبه إلى السبابة الوجودية التي اعتبرها دور القرآن الكريم في توجيه الإنسان إلى مجال تحقيق الشروط التي تتطلبها مهمتاه في الوجود .فالقرآن بهذا التوجيه هو الرؤية التي تدور حول التعمير والاستخلاف بما جهز به الإنسان من شروط النظر والعقد شرطا في التعمير وشروط العمل والشرع شرطا في الاستخلاف .وهما اسمان أكثر مطابقة لما يمكن الإنسان من علم الطبيعة ومن علم التاريخ. والتفاعل بين النظر والعقد علما للطبيعة وما بعدها وبين العمل والشرع علما للتاريخ وما بعده ينتج ما يستمده الإنسان من الطبيعة معينا لكيانه العضوي وهو زاده المادي أو انتاج الثروة (الاقتصاد) بتوسط التعاون والتبادل والتعاوض المادي (وهو معنى القيم المادية بأداة هي العملة) وما يستمده من التاريخ معينا لكيانه الروحي وهو زاده المادي أو انتاج التراث (الثقافة) بنفس التوسط أي التعاون والتواصل والتعاوض الروحي (وهو معنى القيم الروحية بأداة هي الكلمة). أبو يعرب المرزوقي 55 الأسماء والبيان
-- وأصل هذه الأبعاد الأربعة أو الأحياز الجزئية نجد الحيز المحيط بها والمحاط بها أعني المرجعية التي هي علاقة الإنسان بما بعد الطبيعة وبما بعد التاريخ سواء سماه دينيا بمعنى الأديان المنزلة أو فلسفة بمعنى الاديان الطبيعية .وذلك هو الحيز الأصلي لبقية الأحياز وهو قلب المعادلة الوجودية. فلأذكر بالمعادلة الوجودية :القلب هو علاقة مباشرة بين الإنسان وما يعتبره ربا أو إلها أو حتى طبيعة طابعة بالنسبة إلى الملحدين .وعلى يمين القلب نجد الطبيعة وما بعدها الذي يعتبر أصلا لها خالقا أو محركا وعلى يساره نجد التاريخ وما بعده وما يعتبر أصلا له الإنسان خالقا أو محركا .فلنرسمها. فإذا التقى الحدان الخارجيان نجد مرة ثانية القلب أي العلاقة المباشرة بين الله والإنسان لكن هذا اللقاء المباشر يصبح بتوسط الطبيعة التاريخ لأنه لقاء بينهما بوصفهما ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وليس بما بينهما في لقاء مباشر دون توسط الطبيعة والتاريخ .فيتفاعل المباشر وغير المباشر. والطابع الدوري في شكل دائرة علته التناظر العجيب بين كيان الإنسان الذي هو طبيعي وتاريخي والعالم المحيط بالإنسان الذي هو أيضا طبيعي وتاريخي .وبين الكيان الإنسان وكيان العالم يوجد تياران في الاتجاهين من كيان الإنسان إلى كيان العالم ومن كيان العالم إلى كيان الإنسان فيتمازجان. والتمازج الناتج عن التفاعل يجعل من العسير التمييز بين العلمين الطبيعي والتاريخي والعملين الطبيعي والتاريخي أي بين النظر والعقد والعمل والشرع .ومن هنا يعسر تبين الحد بين الطبيعي والإنسان من العلوم ورؤى العقد والطبيعي والإنساني من الأعمال ورؤى الشرع .وكلاهما إما ديني أو فلسفي. وقد يعجب القارئ من الكلام على العقدي والشرعي بوصفهما إما ديني أو فلسفي .ذلك أن الكثير يعتقد أن العقائد والشرائع دينية ولا يوجد لها نظير فلسفي .وهذا خطأ .فلا أبو يعرب المرزوقي 56 الأسماء والبيان
-- توجد فلسفة بدون عقيدة ولا توجد فلسفة بدون شريعة .فالعقيدة والشريعة ليستا منزلتين دينيا فحسب بل هما أيضا موضوعتان فلسفيا. وأفهم جيدا ألا يفهم القارئ ذلك .فالسائد وسيطا وحديثا في فكرنا هو توهم الدين والفلسفة أمرين شبيهين بالخطين المتوازيين في هندسة إقليدس .وينسون أن الخطين المتوازيين سر توازيهما هو المسلمة الخامسة .لكن يكفي التخلي عنها حتى يتغير المفهوم ويتغير مجموع زوايا المثلث في الذي يترتب عليه. المعادلة الوجودية التي وضعتها تشبه في تجاوز الفلسفة القديمة والوسيطة والتي نكص إليها هيجل وماركس من حيث نسبتهما إلى تجاوز رؤيتهما نسبة الهندسات اللااقيدية إلى تجاوز رؤية للعالم الـمقصورة على ما تصفه هندسة اقليدس بشرط التسليم بأنها ليست عديمة العوالم الذاتية وتقاس على عالم معتبر وحيدا .العوالم تتعدد بتعدد الرؤى وتتغير بتغير الرؤية التي ننطلق منها والتي تبدع تعبيرا رمزيا عنه بنظام أكثر انفتاحا وتناسقا. فالقلب الأول (الله-الإنسان) المتوسط بين جناح على يمينه هو الطبيعة وجناح على يساره هو لتاريخ العلاقة ببين مقومي القلب الله والإنسان مباشرة .لكن القلب الثاني يمثل ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ أي إن الله والإنسان كل منهما يصبح ما بعد يحيط بما هو ما بعده الطبيعة والتاريخ. وبذلك يحيط الله بالطبيعة مرتين به في علاقته المباشرة بالإنسان وفي علاقته غير المباشرة بتوسطها .ويحيد الإنسان بالتاريخ مرتين في علاقته المباشرة بالله وفي علاقته غير المباشرة بتوسطه .لأن كلا من الله والإنسان يوجدان بين الطبيعة والتاريخ وحول الطبيعة والتاريخ :تشاجن فاعل ومنفعل. وهذه الرؤية هي التي تمثل بنية القرآن وبنية كيان الإنسان وبنية كيان العالم كما يراهما القرآن وما يصل البنية الأولى بالثانية وما يصل البنية الثانية بالثالثة .والإنسان هو الجسر الواصل بين القرآن والعالم .وهي رؤية لا تخلو منه فلسفة ولا دين إذا لما يكونا أبو يعرب المرزوقي 57 الأسماء والبيان
-- بعيدين عن الديني والفلسفي ومتخلصين من التحريف تخلصا يجعلهما جامعين بين شروط التعمير وشروط الاستخلاف بالقدر الممكن للإنسان الحر والواعي بمنزلته. فالتناظر والتواصل بين كيان الإنسان العضوي والطبيعة يجعل الإنسان شبه جهاز تحويل للطبيعة إلى الحياة بتوسط التكاثر العضوي الذي هو دورة تحويل الطبيعة الخارجية إلى طبيعة داخلية في كيان الإنسان مع ترقيتها من طبيعة نباتية أو حتى حيوانية إلى إنسان له شروط التعمير الاستخلاف. والتناظر والتواصل بين كيان الإنسان الروحي والتاريخ يجعل الإنسان شبه جهاز لتحويل ثمرة النظر والعقد والعمل والشرع المتراكمة إلى كائن حي من طبيعة أرقى من الفرد الإنسان هو تراث الإنسانية كلها الذي هو ما يضيفه النظر والعقد والعمل والشرع لما لا تستطيع الطبيعة إنتاجه وهو الاستخلاف. والتناظران والتواصلان بين المقوم العضوي والمقوم الروحي مع الطبيعة والتاريخ هي أبعاد الاستخلاف الذي يعالج القرآن بالإشارة الموجهة إلى شروط النجاح فيه بأمر فصلت ( 53طلب علم آيات ألله في الآفاق وفي الأنفس وليس في شرح النصوص) وبنهي آل عمران 7الذي لا ينتج إلا هذيان الزيغ والفتنة. وبذلك لا يكون القرآن مدونة علوم ولا مدونة قيم مكتفية بنفسها بل هو يشير إلى ما لا يتضمن القرآن منه إلا التذكير بمعاييره وبشروط الوصول إليها بما حددته سورة العصر .فالأصل هو الوعي بعلل الخسر وهو هذا التعامل الذي يهمل فصلت 53وينشغل بال عمران 7للتعمير وامتحان أهلية الانسان للاستخلاف .ويتفرع عن هذا الوعي بعلل الخسر أربعة مبادئ: .1اثنان يتعلقان بشروط النظر والعقد وهما عمدة العلاقة بالطبيعة. .2واثنان يتعلقان بشروط العمل والشرع وهما عمدة العلاقة بالتاريخ. أبو يعرب المرزوقي 58 الأسماء والبيان
-- وتنقسم هذه المبادئ إلى ما يتعلق منها بدور الفرد وهما الإيمان والعمل الصالح وما يتعلق منها بدور الجماعة هو الاجتهاد بالتواصي بالحق لمعرفته العلمية والجهاد بالتواصي بالصبر لتحقيقه القيمي. فإذا أرجعنا هذه المعاني إلى ما يمكن أن يصاغ في منظومة نسقية وجدنا هذه المنظومة في المعادلة التي سميتها معادلة وجودية هي عين بنية القرآن وعين استدلاله على رؤيته بالنظام الطبيعي وبالنظام التاريخي مع تعريفه طبيعة النظام الطبيعي أو الخلق بوصفه خلق بقدر والنظام التاريخ أو الأمر بسنن. وما خلق بقدر رياضي تجريبي وما أمر بسنن سياسي خلقي .فيكون حيزا الإنسان المكاني هو الطبيعة والزماني هو التاريخ ويكون لقاؤهما مثمرا ماديا وهي الثروة التي منها زرق الإنسان المادي والتراث الذي منه رزقه الروحي .وبذلك يكون تبين حقيقة القرآن فعلا أساسه رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس. فكيف اعتبر هذه المعادلة هي في آن بنية القرآن وبنية الإنسان وبنية العالم وخاصة بنية الدراما الوجودية التي تحكي قصة علاقة الله بالإنسان والإنسان بالله لأن ما يوجد في القرآن هو دراما حقيقية بين الإنسانية في مراحل وجودها دنيا وآخرة في دولة كونية خالقها وآمرها الله والإنسان خليفته. كذلك كنت أعيش القرآن بشيء من الضبابية والغموض في طفولتي لكني انتهيت بعد أن بدأت أدرك النظام العميق لهذه الصورة أنه فعلا قصة درامية تحكي أسرار وجود الإنسان وعلاقته بالله أولا ثم بالطبيعة والتاريخ والله من ورائهما خالقا وآمرا وهو مهما فعل لا يستطيع خروجا عما ورد في الخلق والأمر. ولذلك فالدراما فيها الوجهان :الخليفة والثائر عليه في كيان الإنسان لأن كل من لا يعمل ليكون جديرا بالاستخلاف خلال التعمير لا يثور على الله كما قد يتوهم بعض السطحيين من الملاحدة إذ من السخف أن يثور الإنسان على نظام الطبيعة ونظام التاريخ وهما ثمرة أبو يعرب المرزوقي 59 الأسماء والبيان
-- الخلق والأمر بل يثور على ما فيه منهما .الملحد يثور على بدنه وعلى نفسه أي على الخلق والأمر في ذاته .وذلك هو معنى التأله الذي وصف ابن خلدون صنفيه: .1الموجب في ظن الكثير أعني التأله الصوفي الذي شرطه الضمني الإلحاد أو الاعتقاد بأنه لا يوجد في الجبة غير الله. .2والسالب وهو كل الكبر عند صاحب الحكم والاقتصاد أو صاحب العلم والثقافة كلاهما أساس الاستبداد رغم أن الأول عنيف والثاني لطيف. ولهذه العلة سميت هذه بأنها علاقة تمانع بين الله والإنسان ينتهي إلى الإيمان أو إلى الكفران ولا مفر من التأرجح بين هذين الحدين وغالبا ما ينطلق الإنسان من الإيمان بالعادة والتربية إلى الإيمان بالحرية وتبين الرشد من الغي .أما الكفران فهو وقوف في منتصف الطريق وهو بالضرورة لا أدرية. أبو يعرب المرزوقي 60 الأسماء والبيان
-- أخصص بداية هذا الفصل لمسألتين نتجتا عن كذبتين: • أولاهما خلقية • والثانية علمية تمهيدا لشرح سورة هود بمنطق تجلي آيات الله في الآفاق وفي الأنفس تجليا يبين أن القرآن هو الحق (فصلت )53وتغنينا عن التخريف الذي يطلب الحقيقة من شرح ألفاظ القرآن بخلاف ما أمر به ومن ثم السقوط في تأويل المتشابه رجما بالغيب مدعين الرسوخ في العلم بعكس ما عرفه به القرآن في آل عمران 7فصال زيغ القلوب وابتغاء الفتنة رسوخا وهو عين الخسر. ولو لم أكتب في حياتي إلا هذا الفصل وخاصة ما تعلق منه بتفسير سورة هود ،لاعتبرت نفسي قد أنجزت ما يستحق من أجله قضاء كل عمري لفهم معنى أن القرآن \"سبابة\" تشير إلى شروط تحقيق مهمتي الإنسان مستعمرا في الارض ومستخلفا فيها وليس متن علوم فصلت 53لأني اعتبر ذلك يمكن من فهم علل انحطاط الأمة في الماضي وشروط استئناف دورها في المستقبل: .1الكذبة لخلقية أفسدت سيرة الرسول الخاتم :ما علة تتفيه المسلمين لحياة الرسول بإخراجها من أحكام هذه الدراما -العلاقة بين الله والإنسان-من خلال أكاذيب تخرجه منها فتجعله بعكس ما يؤكده في القرآن خارج سنن الوجود الإنساني؟ .2الكذبة العلمية أفسدت تاريخ الأمة :وما علة تجاهل الكونية القرآنية في محددات تاريخ الأمة لجعلها خارجة عن السنن الكونية بدعوى الخصوصية؟ وأبدأ بأكبر كذبة خلقية حول حياة الرسول :دعوى أنه أمي للدلالة على أن القرآن وحي وليس من وضعه. فهبنا صدقنا أنه لا يحسن الكتابة .فكيف نصدق أنه غير مثقف ويستطيع فهم القرآن الذي حارت فيه العقول بل تعليمه وتفسيره لمن رباه على قيمه؟ أبو يعرب المرزوقي 61 الأسماء والبيان
-- حتى بو سعدية لا يصدق هذا الكلام. ثم كيف يحتج على أنه ليس مؤلف القرآن بدعوى أنه أمي فهل معنى ذلك أنه لو كان متعلما لكان هو مؤلفه؟ والغريب أن زاعمي هذه الكذبة يدعون وراثة علم الرسول ما يعني أحد أمرين أحلاما مر: .1فإما أنهم ورثوا تلقي العلم اللدني الذي ينسبونه اليه وهذا ادعاء أنهم يوحى إليهم. .2أو أنهم يرثون عدم علم الأمي الذي يفهم ما في القرآن معجز حسب تصورهم دون أن يكون مثقفا بما يمكن من ذلك. فيتبين أن هذه الحجة من أسخف الحجج على الاعجاز القرآني .فمن يحتج بالأمية يفترض ان الرسول لو كان متعلما لصحت حجة من يدعيه مؤلف القرآن :ولذلك سميت هذه الكذبة خلقية لأن فيها ذم ضمني لأخلاق الرسول ولقابليته لأن يكون قد كذب لو ثبت أنه متعلم. وإذن فلا حاجة لهذه الحجة لإثبات أن الرسول ليس مؤلف القرآن .والقرآن إذ يتحدى لم يكن يقصر تحديثه على الأميين .واضح أن مبدعي هذه الخرافة أميون. وتتواصل هذه الكذبة بما هو أخطر وتتعلق بتفسير {ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى} .ولما كانت حياة الرسول تحول دون تأويل الأولى (يتيما فآوى) والأخيرة (وجدك عائلا فأغنى) فالمشكل يتعلق بالوسطى (وجدك ضالا فهدى). وأسمي تتفيها لـحياة الرسول نفي المجاهدة التي كانت ضرورية لانتقاله من حال إلى حال وهي تجربته الروحية والوجودية التي أوصلته إلى تبين الرشد من الغي .وهذه الكذبة الثانية زيفت معنى الوسطى بدعوى التنزيه عن الضلال. أما الكذبة الثانية فهي أصل المعركة حول الكونية والخصوصية. أبو يعرب المرزوقي 62 الأسماء والبيان
-- ولست بحاجة لإطالة الكلام حولها لأني بينت وهاء القول بالخصوصية في العلم .فالأمم لا تتمايز بالخصوصية في المقومات الخمسة التي يتألف منها كيان الإنسان أي في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .ما تختلف به الأمم هو دورها في الوصول إلى الكوني في هذه الصفات. وتجاوز الخصوصيات التي تفيد أن الإنسان لم يرتق إلى ما يسميه ابن خلدون معاني الإنسانية أي إدراك مقومات كيانه هذه واختيار حرية الإرادة بدل العبودية وصدق العلم بدل الكذب وخير القدرة بل الشر وحسن الحياة بدل القبح وجلال الوجود بدل الذل. وتتبين حرية الإرادة في المجال السياسي خاصة وصدق العلم في المعرفة خاصة وخير القدرة في التبادل المادي والروحي خاصة وجمال الحياة في الذوق خاصة وجلال الوجود في الرؤية خاصة التي تطابق أو لا تطابق ما سماه ابن خلدون معاني الإنسانية ولخصها في تعريف الإنسان بكونه \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" جمعا توحيديا بين الفلسفي والديني من معنى الوجود الكريم للإنسان من حيث هو رئيس بالطبع وبالاستخلاف. وهذا التأويل فيه نفي الفضل للمجاهدة الرسولية وجعله نبيا بالطبع دون مجاهدة لكأن الرسول يختاره الله بالانتخاب الطبيعي وليس بالاجتهاد والجهاد الحرين أي بالمجاهدة الروحية والخلقية وبالأفعال التاريخية وليس بمجرد الأقوال التعبدية .فالرسول ينبغي أن يكون مثالا اعلى للبشر ومن ثم فهو ليس مثل أبناء جيله فيبقى على ما ربي عليه مثلهم أعني الضلال بل ينبغي أن يكون قد جاهد فعلا للتحرر منه وتبين الرشد من الغي بالمعنى الذي وصفت سابقا :نعم هداه الله في مجاهدته ووفقه وذلك هو سر عظمته. ولا يمكن فهم غار حراء من دون ذلك .فالرسول أعطاه الله فطنة في العقل وعفة في الخلق وفراسة في اختيار الرجال والمناسبات المساعدة على تحقيق ما عزم عليه أي بصورة عامة أهله لأن يكون قادرا على فهم الرسالة ولا يمكن أن يكون ذلك من دون غوص في المعاني الوجودية والروحية التي تتضمنها الرسالة. أبو يعرب المرزوقي 63 الأسماء والبيان
-- ومن دون ذلك فنحن نكذبه ونكذب القرآن .نكذبه لأنه لم يقل عن نفسه إلا إنه عبد رسول وأنه إنسان لم يخرج عن سنن التكوين الإنساني الذي يتأرجح في طلب الحقيقة ولا يستقر إلا بفضل ما يصل إليه بالبحث وبالهداية الإلهية ولذلك فاختيار سن الأربعين ليس بالصدفة لأنه سن \"تبين الرشد من الغي\" بشريا. وكان يمكن أن أقبل هذا التزييف لو كان كل البشر مع ذلك متساوين في البلوغ إلى الكمال الممكن للإنسان من حيث هو إنسان .فالسنن واحدة لكن تحقيقها متفاوت وقد قال ابن تيمية رحمه الله إن التفاوت بين البشر في القدرات العقلية والروحية أكبر من التفاوت في القدرات البدنية .كلنها تبقى إنسانية. ولا يحتجن أحد بالوحي .فالوحي ليس خاصا بالأنبياء ولا بالبشر .فحتى النحل يوحى لها بل وحتى المخلوقات الجامدة يخاطبها الله إما مباشرة أو من وراء حجاب لأن أمر السماء والأرض للإتيان طوعا أو كرها وحي كذلك .ومن ثم فالرسول متميز دون شك لكنه لم يخرج عن حدود الإنسانية لكونه غايتها. لا أنكر أن كلامي هذا قد يظنه الكثير جرأة على الرسول فيزايد علي في محبته .لكني بالذات أريد أن أخلصه من أدعياء محبته ممن يكذبون عليه ليدعوا فيما بعد أنهم ورثته ثم يستمدون منه سلطانا هو أصل كل الدجل الذي أسس لكل ما جاء الأمة من تخلف في دجل المتصوفة والدعاة من خدم الاستبداد والفساد. ويجمع بين هذين كذبة الأكاذيب ومصدر كل الأكاذيب :سلطان آل البيت العلمي والسياسي .فالأيمة المزعومون معصومين يولدون علماء وحكاما لأنهم يرثون العلم والحكمة من كونهم من ذرية النبي أي من فاطمة الزهراء .وما علمت نبيا ورثه أبناؤه بمن في ذلك ابراهيم عليه السلام لأن ابنيه ليسا نبيين ولأن الله اجابه لما طلب ذلك بأنه لا يولي أحدا بالوراثة :لا ينال عهدي الظالمين. أبو يعرب المرزوقي 64 الأسماء والبيان
-- وأمر الآن إلى غاية المحاولة كلها :ليست الأمة الإسلامية بدعا بين الأمم ولا معنى للخصوصية عند الكلام على سنن التاريخ الإنساني وإلا لسقط أهم ما في القرآن من علاج لما شاب الرسالات المتقدمة من تحريف ناتج عن الجهل والجهالة أي عن النكوص إلى الجاهلية ورفض الإسلام الفطري والكوني. وإذا كان للإسلام من مميز فهو بالذات رفض الخصوصيات والتوكيد على كونية المحددات المقومة للوجود الإنساني منذ ان اعتبر الدين نفسه عقدا بين الله وابناء آدم عند اخذهم من ظهور آبائهم دون تمييز أو تخصيص لهذه الجماعة أو تلك إذ هو عقد متقدم على تكون الجماعات وتمايزها بالفلكلور الخصوصي. وبعبارة وجيزة وحاسمة :إذا كنا مختلفين عن غيرنا فليس لأن لنا خصوصيات بل لأننا نرفض الخصوصيات التي تعتمد إما على العرق أو على الطبقة أو على الجنس أو على الفلكلور الناتج عما يترتب علها من عادات منافية للكونية بنفي الأخوة البشرية (النساء)1 والمساواة بين البشر المطالبين بالتعارف. والآن ما السنن الكونية المحددة للتاريخ من حيث كونها سننا سياسية وخلقية لا تتبدل ولا تتحول والتي حددها الإسلام تحديدا ليس أوضح منه تحديدا لأنه هو موضوع هود وأخواتها التي شيبت الرسول الاكرم .سأكتفي بهود لأنها تتضمن هذه السنن بصورة صريحة ونسقية وترتيبها من لم يره أعمى بصرا وبصيره. فما المشيب في هود؟ لننظر :ففيها قصة ستة أنبياء يتوسطهم ابراهيم عليه السلام: • ثلاثة قبله • وثلاثة بعده في ترتيب هو: oنوح وهود وصالح قبله oثم لوط وشعيب وموسى بعده. أبو يعرب المرزوقي 65 الأسماء والبيان
-- ما المشكل في هذه الحالات كلها؟ رسول جاء برسالة ثم عارضه من يعارض الإصلاح في كل تاريخ البشرية .فمن هم وأي إصلاح يعارضون؟ من عجائب الدهر أن أي شاب من شباب الثورة اليوم ذكرا كان أو انثى يمكن أن يجيب عن هذا السؤال المضاعف دون حاجة لأن اعرض الجواب الذي تقدمه سورة هود لأن الامة اليوم تعيش هذه القضايا ذاتها وكل الإنسانية تعيشها ولان ذلك هو ما يجعل الإسلام اليوم موضوع الحرب الكونية عليه. لكني سأجيب لأن جواب الشاب أو الشابة يمكن أن يكون نفس الجواب الذي سأقدمه لكنه قد يكون مشوشا وغير منظم أو منسق كما هو في سورة هود لأن النظام والنسق هو الدليل الذي يعتمد عليه القرآن بخلاف ما تقدم عليه من الرسالات التي تعتمد على الخوارق. لذلك فلأورد الجواب كما هو في سورة هود. ولأبدأ بملاحظة عامة وهي أن الرسول الأول والرسول الأخير في السورة أي نوح وموسى هما الوحيدان اللذان حققا الثورتين المنتظرتين من كل تاريخ البشرية .والبقية أي هود وصالح ولوط وشعيب طرحوا المشاكل التي بين هذين الثورتين واللذين يترتب حلها على ثورتي نوح وموسى وهما أكثر الرسل ذكرا في القرآن .لكن القضايا الوسطى بين ثورتيهما لم يقدم لها حل كما سنرى ما يعني الوصل بين الثورتين وهو ما لن يتحقق إلا في الثورة الشاملة أي الإسلام الخاتم الذي يحقق ما تضمنه الإسلام الفاتح والكوني. وإذا تكلمت على الإسلام الحل لمعضلات الوجود الإنساني فهذا هو قصدي .وهو ما أعنيه بـالوصل بين الأمرين استكمالا للثورتين .فحل المشكلين اللذين هما عين ما فعل نوح وموسى يجعل تحقيقها الفعلي مشروطا بما يتوسط بينهما من معضلات أي المشاكل الوسيطة أي: .1مشكل هود .2ومشكل صالح أبو يعرب المرزوقي 66 الأسماء والبيان
-- .3ومشكل لوط .4ومشكل شعيب. أما ابراهيم فلا كلام على مشكل يعالجه بل على أزمة كونية بشر بحلها وسنرى دلالة البشرى ما هي .ولأبدأ الآن الشرح لنظام التاريخ الإنساني كله في الآية .لا يهم مضمون الرسالة التي أتى بها نوح المهم الحل الذي قدمه: .1الحل هو صنع السفينة (حل علمي تقني) والانتقال مما تنتجه الطبيعة إلى زرعه بعد الطوفان من كل زوجين اثنين .أليس هذا هو ثورة التعمير أي أن يصبح الإنسان متحررا من سلطان الطبيعة بما يحققه بعلمه وعمله؟ وهذه هي الثورة الأولى. .2الحل هو ثورة موسى في آخر السلسلة .فمضمون رسالته واضح وهو الثورة على الاستبداد والفساد في دولة فرعون وما يترتب عليهما من الاستعباد .ماذا فعل موسى؟ حرر الإنسان من العبودية السياسية كما حرر نوح الإنسان من العبودية الطبيعية. وهذان هما الحدان المحيطان بالمسائل الباقية. والمسائل الوسطية بين التحرر من سلطان العبودية الطبيعية التي تترتب على عدم التعمير ومن سلطان العبودية السياسية التي تترتب على عدم الاستخلاف ومجموع العلتين هو عدم التكريم الفعلي للإنسان رغم أن الله قد كرمه وكلفه بهذين المهمتين؟ أربع مسائل: .1فساد الاستبداد بالثروة أو سلطان الأغنياء (هود). .2فساد توزيع مصدر الحياة الأول أو الماء (صالح). .3فساد مصدر الحياة الثاني أو الجنس (لوط). .4فساد شروط التبادل العادل (شعيب). وهذه المسائل تابعة للأصلين أصل الاستعمار في الأرض وأصل الاستخلاف فيها :والأول هو مشكل نوح والثاني هو مشكل موسى. بقي لغز الألغاز :ما فائدة حضور ابراهيم في السلسلة؟ أبو يعرب المرزوقي 67 الأسماء والبيان
-- مضاعفة :أولا أعلم بمآل قوم لوط ثانيا بشر بابن في لحظة اليأس عند زوجته .وطبعا قد يظن أن الابن هو اسحق لأن اسماعيل موجود قبل يأس امه .لكن ذلك ليس سارة لم تلد اسحق بعد سن اليأس .إذن من الابن الذي تتعلق به البشرى بعد اليأس؟ وهذا هو السر الذي شاب منه محمد صلى الله عليه وسلم .ذلك أنه فهم أن هذا الابن ليس ابنا عضويا بل ابن روحي وهو محمد نفسه .وهو إذن شاب لما فهم أن السورة كلها تكليف له بأن يستأنف رسالة ابراهيم فيكون ابنه الروحي بتأسيس الحنيفية المحدثة أي الإسلام الأصلي الذي أدركه ابراهيم لكنه لم يحققه. فهم محمد أن البشرى تتعلق به .فهو عليه أن يحقق الدولة الكونية التي دورها أن تستكمل ما بدأه نوح (التحر من عبودية الطبيعة وهي مسألة التعمير :الإنسان من حيث هو إنسان مستعمر في الأرض) وموسى (التحرر من عبودية التاريخ وهي مسألة الاستخلاف: الإنسان من حيث هو إنسان خليفة) وما بينهما من مشكلات معلقة هي التي وصفت وذلك هو مضمون الرسالة الخاتمة :التوحيد الإبراهيمي لا يمكن أن يتحقق إلا بتوحيد الإنسانية حول التعمير بقيم الاستخلاف علاجا لهذه المسائل. فبالتعمير يحل مشكل نوح وبالاستخلاف يحل مشكل موسى .وإذا حل مشكل نوح وموسى أصبح بالوسع حل مشكل هود وصالح ولوط وشعيب .فالحد من سلطان الأغنياء والعدل في توزيع الماء والعقل في الجنس والعدل في التبادل بشرو ط التعاوض العادل تلك هي نظرية الإسلام في التربية والحكم الكونيين. وحتى نفهم علة ما يعترض الاستئناف الإسلامي اليوم وعلة كونية المعركة ضده فعلينا أن نصل ذلك بما حل بثورة موسى :فبدلا من أن تبقى تحريرا للبشر من الاستعباد السياسي تحولت إلى دين العجل أي الاستعباد بمعدن العجل وبخواره وهو سر قوة الصهيونية. وكذلك ثورة نوح :التعمير بالتقنية صار تدميرا. من يحارب الإسلام هم من حرف دين موسى ودين نوح :يحاربونه باسم دين العجل ويحاربونه باسم دين الروبوت الذي يقتل الحياة ويعوضها التقنية وتلك هي علة إفساد أبو يعرب المرزوقي 68 الأسماء والبيان
-- الطبيعة وإفساد التاريخ فيكون السلطان بيد الأغنياء والمسيطرين على الماء وعلى الجنس وعلى توزيع الثورة :هذا برنامج من يحارب الإسلام. وختاما أقول إن هذا كله لا يمكن أن يكون بالصدفة ولا أن يكون بفضل نفاذ فكري شخصي :فهذه المعاني كلها بينة لكل من سعى إلى استشفاف روح القرآن الكريم وعلة العلاقة بين الدراما التي وصفت والتاريخ الإنساني .فالقرآن ليس كتاب دين بالمعنى العام بل هو كتاب الديني والفلسفي متحدين في \"آيات الله\" التي تتجلى في الآفاق والأنفس (فصلت .)53 أبو يعرب المرزوقي 69 الأسماء والبيان
-- هذا الفصل قبل الأخير محوري في المحاولة كلها .ولا بد إذن من العودة إلى ما تشير إليه \"السبابة\" القرآنية باعتباره هو ما يبين معنى العلم الرئيس Science architectoniqueمن حيث هو الرؤية المؤسسة لكل ما يبدعه الفكر الإنساني من معرفة وقيم .لكنها لا يحتوي على المعرفة العلمية التي تطلبها العلوم الجزئية .وأصحاب الإعجاز العلمي يخلطون بين الأمرين فيرددون خرافة تحط من شأن القرآن في حين أنهم يتصورون بيان قيمته: .1فالعلوم الجزئية أولا لا تتكلم لغة طبيعية كالحال في القرآن .وحتى عند استعمالها لغة طبيعية ثانيا فهي تجعلها اصطلاحية أو لغة صناعية كالحال في العلم الرئيس القديم مثل ميتافزيقا أرسطو. .2وهي لا تكون عامة فتشمل مبادئ النظر والعقد ومبادئ العمل والشرع التي لا تقبل أن تكون موضوع علم جزئي أولا لأنها ليست جزئية وثانية لأن بحثها يتعلق بشروط إمكان فعاليات الإنسان معرفيا وقيميا لا غير. ومن دون هذا التمييز قد يتوهم البعض أن القصد بالرؤية المؤسسة وكأني أقول بالإعجاز العلمي في هذا المستوى بدلا من الكلام على الشروط الفطرية في كيان الإنسان لما جهز به ليصبح قادرا على النظر والعقد في المعرفة وعلى العمل والشرع في القيم أي مقومات كيانه الذاتية له من حيث هو إنسان. وهذا هو قصدي بالقول إن المعادلة الوجودية هي كذلك معادلة كيان الإنسان .فلا يوجد إنسان متعلما كان أو أميا يمكن ألا يكون فيه البنية الوجودية التي وصفت بدرجات مختلفة من الوعي بها لكنها موجودة دائما لأنها مرسومة في كيانه العضوي والروحي أي وعيه بكيانه محاطا بالعالم عينا ومحيطا به ذهنا .لا يوجد إنسان لا يعيش هذه المنزلة العجيبة: .1يشعر أنه في العالم من حيث هو أحد الموجودات في الأعيان. .2ويشعر أن العالم فيه من حيث إنه مدرك لما يشعر به شعوره الأول. أبو يعرب المرزوقي 70 الأسماء والبيان
-- فالعالم أحد الموجودات في الأذهان .والإنسان أحد الموجودات في الأعيان .فيكون الإنسان بذلك محيطا ومحاطا ومثله العالم ومع ذلك فهما مختلفان أو على الأقل هكذا نعتقد لأننا نتصور الإنسان متميزا بكونه يعي بكونه محاطا ومحيطا وليس لنا علم بأن للعالم هذا الوعي بالمنزلتين مثل الإنسان بسبب ما له من أدراك بهذين الاحاطتين. لكن الوعي الإحاطتين مصحوب بالوعي بنسبيتهما ومن ثم فهي العلة الأولى لوجود الدين في الوعي الإنساني .فالإحاطتان ليستا مصحوبتين بالوعي بهما فحسب بل بالوعي بنسبيتهما وذلك خاصة عندما يرتقي إلى الحد الذي تمثله نظرية النظر والعقد ونظرية العمل والشرع كما يصفهما القرآن فيدرك أن الاحاطتين لا تستثنيان التجاوز الذاتي والإيمان بوجود تجاوز غاية لا يمكن أن يدعيه الإنسان وذلك هو الإيمان بالغيب أصل كل الأديان وهو أصل بدأت الفلسفة تفهم أنه أصل المعرفة والقيم كلها: • فوجود الإنسان في الأعيان ليس مقصورا على هذا العالم. • وأن هذا العالم في الأذهان ليس هو الوحيد الممكن. ومن المعية ابن خلدون أنه يعتبر هذه الظاهرة أكبر دليل بل الدليل الوحيد على وجود الآخرة والحقائق المتعالية على عالم الشهادة وهي مضاعفة :وعي الإنسان بذاته ولا يستطيع أن يمسك بشيء يمكن أن يقول هذا هو \"أنائي\" كما يفعل مع بدنه مثلا ثم الأحلام حياة دون يقظة محيطة ومحاطة بغير شهادة. فيكتشف الإنسان حينها أنه في كونه محاطا بالعالم عينا ومحيطا به ذهنا دون العالم كما والعالم دونه كيفا فيتساءل عن حقيقة هذا الاكتشاف فإذا به عين ما يترتب على كونه ناظرا ومعتقدا بمعنى أنه لا ينظر للعالم ولذاته ويعتقد في وجوده وفي وجود العالم وهذا هو مستواه الطبيعي الروحي الأول. ويكتشف أنه ليس في صلة بهذا العالم الطبيعي فحسب بل هو كذلك في صلة مع عالم ثان يشاركه نفس هذه الخاصيات هو العالم التاريخي الذي كل إنسان آخر فيه له مثل هذه أبو يعرب المرزوقي 71 الأسماء والبيان
-- العلاقة وله فوقها علاقة أخرى يكون فيها العالم محيطا ومحاطا بالنظر والعقد وكذلك بالعمل والشرع وسيطا بينه وبين العالم الطبيعي. فلا يمكن لأي إنسان أن ينظر ويعتقد في العالم الطبيعي بمفرده أو أن يستمد منه قيامه العضوي والروحي وحده بل له شركاء من جنسه صولا وفروعا فضلا عن غيرهما لا يمكن لأحد منهم وهو معهم أن يعيش في العالم الطبيعي من دونهم تعاونا وتبادلا وتفاهما وتواصلا من أجل البقاء بهذه الأبعاد الأربعة .وهذه الأبعاد الأربعة هي: .1النظر .2العقد .3العمل .4الشرع. ولا بد أن تكون هذه مضاعفة لأن النظر له موضوع والعقد له موضوع والعمل له موضوع والشرع له موضوع .فيكون عندنا ثمانية أشياء هي في آن مادة معرفية وقيمية وفيها دائما تبادل وتواصل بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والعالم .فيكون عندنا: .1علم النظر. .2وعلم موضوعه. .3وعلم العقد. .4وعلم موضوعه. .5عمل العمل. .6وعمل موضوعه. .7وعمل الشرع. .8وعمل موضوعه. ويضاف إليها ما يعتبر غاية ذلك كله أي: .9علاقتنا بالطبيعة. أبو يعرب المرزوقي 72 الأسماء والبيان
-- .10علاقتنا بالتاريخ. وكلتا العلاقتين مضاعفة لأنها نظر وعمل وتطبيقاتهما في آن بفضل تلك الثمانية .ولن أعجب إذا تعجب القارئ من هذا التصنيف .فقد لا يفهم أن أتكلم على علم النظر وعلى علم موضوعه ثم على علم العقد وعلم موضوعه فأميز النظر عن علمه وأمير موضوعه عن الطبيعة والعقد اللذين لنا معهما علاقة هي غير موضوع النظر والعقد .وطبعا لو صبر علي قليلا لفهم أن ذلك هو كذلك فعلا. فالنظر موضوع نظر بمعنى أننا يمكن أن ندرس النظر بوصفه هو بدوره موجودا من الموجودات .وتلك هي وظيفة الابستمولوجيا فلسفيا ووظيفة علم الذكاء سواء كان صناعيا أو عضويا :والاول يدرسه منطقيا وتاريخيا والثاني يدرسه عصبيا ومعلوماتيا .وبين أن الامر شديد التعقيد لكنه كذلك ولا ذنب لي في ذلك. وموضوع النظر في الطبيعة غير الطبيعة .فهو جملة النظريات التي لنا حول الطبيعة التي هي غاية لا تدرك .ويمكن أن نقول إن موضوع النظر في الطبيعة هو صورنا المتوالية عن الطبيعة وقد نصل ذات يوم فنكتشف أنه لا يوجد شيء وراء سلسلة تصوراتنا غير لا تناهي التصور ومن ثم فكل شيء طبيعي تصور. لكننا لا نستطيع ألا نتصور أن الطبيعة مجرد تصور لأننا نستمد منها قيامنا العضوي ويعسر أن نتصور أن قيامنا العضوي هو تصورنا لقيامنا العضوي .ولا شيء عقلا أو حتى شرعا يمنع ألا نكون إلا مجرد تصور .ومع ذلك فنحن تصور متمدد في المكان وممتد في الزمان وله مدد يتوالى منهما ويتوالد في نوعه. وما قلته عن النظر يقال مثله عن العقد .فالعقد أولا هو العقد في وجود النظر وموضوعه وفي ما يجلهما موجودين دون أن يكونا مدينين بوجودهما لنا .فنعتبر أنهما من ثم مدينان لوجود آخر .ولا يمكن أن يكونا مدينين بوجودهما لوجودهما لأن وجودهما دون وجودنا قدرة على ذلك لأنهما أدوات وهو غاية. أبو يعرب المرزوقي 73 الأسماء والبيان
-- فالإنسان يستمد معين وجوده من العالم ومن ثم فالعالم بالقياس إليه أداة وليس غاية ولا يمكن أن يكون الإنسان أداة للعالم لأن العالم يمكن أن يستغني عنه بل هو عالة عليه. لكن الإنسان لا يمكن أن يستغني عن العالم لأن مورد حياته منه .وإذن فالعالم مدين لما أو لمن جعله يؤدي هذه الوظيفة. فيتكرر ما قلناه عن النظر ليقال مثله عن العقد :وخاصة في ما يتعلق بالموضوع .فموضوع العقد بخصوص ما يجعل موضوع العقد موجودا أو بمن يجعله موجودا هو ما وراء الموضوع لكنه ليس هو ذاته بل تصوراتنا عنه وهو إما شيء في الطبيعة أو شيء وراء الطبيعة وهذا هو أصل الأديان كلها. وهو ما يعني أن النظر والعقد حتى بصورة فلسفية خالصة لا يمكن ألا ينتهي إلى دين معين .ذلك أن العقد في وجود العالم وفي كونه معلوما شرط فيه .وكونه موجودا ومعلوما غير كونه ما نجد منه وما نعلمه لأن ما نجد منه وما نعلمه هو ما ندركه منه وما نتصوره وهما غير وجوده وغير حقيقته. ولو لم يكن الأمر كذلك لكان الله هو صورتنا عنه ولكان العالم هو صورتنا عنه ولكان النظر هو صورتنا عنه ولكنا نحن صورتنا عن أنفسنا .وكل ذلك ليس كذلك .فالعالم والله والنظر وذاتنا كلها مختلفة عن صورتنا عنها .ولنمر الآن إلى العمل والشرع ويمكن أن نقول تماما مثل ما قلنا عن النظر والعقد. وقبل أن أواصل فأتلكم على العمل والشرع بنفس الطريقة التي تكلمت بها على النظر والعقد لبيان القصد بالمسائل العشر التي ذكرتها فلأبين أنها مثلها أدوات علاقة الإنسان بالطبيعة وبالتاريخ وهي قرآنيا مدلول \"علمه الأسماء كلها\" .إنها القدرة الترميزية التي تبدع ما سميناه تصورات لا متناهية. أو هي معنى {الرحمن* علم القرآن*خلق الإنسان*علمه البيان} .فعلمه البيان وعلمه القرآن المحيطان بخلق الإنسان هما شرطا الأهلية للاستخلاف المرسومة في كيانه خلقة أبو يعرب المرزوقي 74 الأسماء والبيان
-- فطرية وهي هذا الإبداع الرمزي الذي يسمي ما يدركه بالنظر والعقد وما يحققه بالعمل والشرع .وإذن فتعليم القرآن هو تعليم الأسماء. وعندئذ نفهم معنى أن الرسول يذكر ولا يعلم شيئا غير معلوم للإنسان .لكنه ليس علما مضمونيا بل شرطا في القدرة على اكتشاف المضمون الذي لا يكتشف بتفسير القرآن بل بالتوجه إلى ما يشير إليه القرآن وذلك هو معنى السبابة الوجودية .وهذه السبابة تشير إلى مطالب النظر والعقد شرط التعمير وإلى مطالب العمل والشرع شرط الاستخلاف. ولأكمل هذا الفصل بالكلام في مطالب النظر والعقد وأترك مطالب العمل والشرع للفصل الاخير من السبابة الوجودية وهما فصلان أضيفهما بعد أن ظننت أني فرغت من المسالة بعد العاشر .الفصول هي إذن اثنا عشرة فصلا .فما مطالب النظر والعقد؟ ذكرنا أنها أربعة وتصبح خمسة مع أصلها .فالعلاقة بالطبيعة ليست مباشرة بل هي علاقة شديدة اللامباشرة والتعقيد .إنها: .1علم النظر (الابستمولوجيا). .2وعلم موضوعه (الأنطولوجيا أو ما وراء العالم). .3وعلم العقد. .4وعلم موضوعه (الثيولوجيا أو ما وراء الطبيعة). .5علاقة الإنسان بالطبيعة بتوسط علاقته بالجامعة وما بينها من تبادل وتواصل ومعنى ذلك أن هذه العلاقة يتقدم فيها دائما الثقافي على الطبيعي. وهذه هي المجالات التي توجد على يمين قلب المعادلة الوجودية أي العلاقة المباشرة بين الإنسان ومثاله الأعلى أو الله .وهذا الترتيب فلسفي لأن الترتيب الديني له نفس العناصر ولكن بالمقلوب. أي ينبغي أن يقرأ من العنصر الأخير إلى العنصر الأول :من علاقة الإنسان بالطبيعة إلى الثيولوجيا إلى علم العقد إلى الانطولوجيا إلى علم النظر .لكن المسارين متحدان في وحدة البنية ومتخلفان في مراحل اطلاع الإنسان عليها. أبو يعرب المرزوقي 75 الأسماء والبيان
-- ومما يؤكد وحدة البنية هو أن الفلسفة تعتبر الترتيب الذي نسبته إليها هنا ما يمكن أن نسميه بلغة أفلاطونية بالجدل الصاعد أي إنه ترتيب المعرفة وليس ترتيب الوجود الذي هو الجدل النازل والذي هو عين الترتيب الذي نسبته إلى الدين بمعنى أن حقيقة الأشياء هي هذا الترتيب الثاني الذي هو تأسيسي. وقد يظن هذا العرض تابعا للفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة تخلت عنه .وهو مجرد ظن كله اثم لأن أصحابه عادة ما يكونوا ممن تسكرهم زبيبة فيتصورون الفلسفة لعب متطفلين يخلطون بين التفكير والتفاكر .ذلك أن الفلسفة الحديثة قد تكون ألغت مرحلة واحدة هي الثيولوجيا من السلسلة .لكنها عوضتها بمضاعفة المرحلة الثانية أي إنها جعلت الأنطولوجيا ذات دلالتين :رؤية العالم ورؤية الوجود. فلفظة فلتانشاوونج Weltanschauungتتضمن في آن رؤية للعالم ورؤية للوجود ومن ثم فهي أنطولوجيا كذلك . Ontologieوما تختلف به الثانية عن الأولى ليس إلا تعويضا خفيا للثيولوجيا .لأن الكلمة فقدت بريقها صارت \"ديمودي\" فعوضها مفهوم الأنطولوجيا وخاصة بمعناها عند هيدجر الذي يحاول الفصل بينهما بحملته على الـOntotheologie وليس بمعناها مثلا عند ابن سينا حيث تعني الإلهيات التصورات الكلية المشتركة لعلوم الفلسفة وهو عين ما يعنيه أرسطو في كتاب الميتافيزيقا. وإنما معناها ما يمكن استخراجه من المقابلة بين \"زاين\" Seinو\"دازاين\" Daseinأي بين الوجود وتعينه في كيان محدد قائم بتحيزه في المكان والزمان صار في الاصطلاح الهيدجري شبه اسم علم على الإنسان بمعنى الاكزيستنس من حي هي الوعي بالوجود المعيش عيش تجربة حية وهو معنى ذو دلالة روحية دينية لا يختلف عما يعنيه المتصوف بالتجربة التي يعتبرها ممثلة للحقيقة في مقابل ما يسميه الرسوم. ففقدت \"دازاين\" عنده دلالتها الفلسفية العامة التي كانت تعني حتى عند هيجل الاكزيستنس أي الوجود المتعين وليس الوجود وهو الإنية في فلسفتا التي هي الوجود المتعين فرديا .وعلى هذا الأساس اعتبرت هذا التغير ثمرة لتسمية جديدة لابن ا لله .ولست أبو يعرب المرزوقي 76 الأسماء والبيان
-- غافلا على أن الهدجريين العرب لا يمكن أن يخطر ببالهم مثل هذا التأويل لظنهم ان الفلسفة قطعت مع الدين وأنه لا وجود لتوالج بين المعاني رغم أمرين لا يغفل عنهما أي عارف بتاريخ الفلسفة الألمانية منذ عصر المثالية الالمانية وخاصة عند هيجل في تحديد هذه العلاقة أولا ثم في تكوين هيدجر الذي هو ديني إلى الأذقان بشهادة أحد كبار تلامذته جادامر. فالدازاين إذ يقابل الزاين عند هيدجر ويصبح شبه ناطق باسمه هو ترجمة مقنعة للعلاقة بين الابن والأب أو المسيح والرب بالمعنى الهيجلي الذي كان صريحا والذي أصبح ضمنيا عند هيدجر أولا لئلا يعترف بما أخذه عن هيجل وثانيا لأن المعاني الديني صارت خارج الموضة الفلسفية كما احتج هيجل على ذلك من قبل .وهو ما يعني أن الأمر كله تغيير اصطلاحي لكن الإشكالية هي :علاقة الإنسان أو لسان حال الوجود بالوجود .وإذا أعدنا الأمر إلى المعاني وراء المباني تبين أن الحديثة غارقة في الإلهيات كالقديمة .وليس لهيدجر اختيار في ذلك .فالفلسفة منذ بدايتها تصورت نفسها قطعت مع الدين لكنها تغالط لأنها تنتهي دائما إلى ما لا يمكن بناء العلم الرئيس من دونه: .1فهي إما تنتهي إلى دين إيجابا بنظرية لاهوتية. .2أو تنتهي سلبيا إلى بديل منها بتأليه الطبيعة. أبو يعرب المرزوقي 77 الأسماء والبيان
-- نختم هذه المحاولة بأهم إشكالية يستعملها أعداء الاستئناف تحت عنوان الإسلام السياسي أو دور السياسة في الإسلام وهي قلب مسألة العمل والشرع .فقد تكلمنا في الفصل الحادي عشر على علوم النظر والعقد التي تخص علاقة الإنسان بالطبيعة وهي ذات صلة بالتعمير. والآن نتكلم في هذا الفصل الأخير عن أنظمة العمل والشرع التي تخص علاقة الإنسان بالتاريخ ذات الصلة بالاستخلاف أي بالقيم التي تمثل جوهر وجهي السياسة أعني التربية والحكم. والتعمير والاستخلاف هما مهما الإنسان في الأرض شرطا لحياته العضوية والروحية ولأبدا العلاج بالتذكير الذي لا يظن ذا صلة بالدين .فلأذكر إذن بهذه الأنظمة الخاصة بفلسفة العمل والشرع والمناظرة لفلسفة النظر والعقد التي درسناها في الفصل الحادي عشر. إنها: .1نظام العمل. .2ونظام موضوعه. .3ونظام الشرع. .4ونظام موضوعه. .5ونظام أصلها جميعا أي العلاقة بالتاريخ الذي يتوسط بين الإنسان والعلاقة بالطبيعة في حياة جميع البشر. وهذا التصنيف هو بدوره من ثمرات ما استخرجناه من المعادلة الوجودية التي وضعناها لفهم الرؤية القرآنية في النظر والعقد من حيث علاقة الإنسان بالقوانين الطبيعية وما بعدها (الميتافيزيقا التي لا تخلو منها نظرية المعرفة في كل العصور) وفي العمل والشرع من حيث علاقة الإنسان بالسنن التاريخية وما بعدها (ما بعد الأخلاق التي لا تخلو منها نظرية القيم في كل العصور). أبو يعرب المرزوقي 78 الأسماء والبيان
-- فكما أسلفت لا توجد علاقة مباشرة بالطبيعة بل لا بد من توسط الجماعة البشرية بما حصلته في تاريخها من وسائل الاستفادة من الطبيعية التي هي معين قيامها العضوي بثرواتها ومناخها ومنتجاتها إما الطبيعية أو المحولة بالعمل الإنساني وأساسه التواصل حول التبادل بين البشر ثمرة للتعاون والتعاوض. والترتيب الحقيقي في كل الجماعات البشرية خلال كل التاريخ الإنساني هو تقدم أنظمة العمل والشرع على أنظمة النظر والعقد التي هي في الواقع جزء منها أو أحد أبعادها المتعلقة بشروط الفاعلية الإنسانية .فتقدم علاقة الإنسان بالتاريخ على علاقته بالطبيعة أمر مطلق بدءا بالطفل الذي لا يمكن أن يعيش يوما من دون أسرة راعية وهي خاصية بايولوجية للطفل الإنساني الذي يبقى مطلق التبعية للرعاية على الأقل عقدا كاملا. لكن حتى في هذا الترتيب فإن حضور النظر والعقد ضروري لأن الإنسان لو لم يكن ناظرا ومعتقدا لما فهم الحاجة إلى للوجود المشترك الطوعي ولاكتفى بالضروري منه (لما تكونت الأسر الكبرى مثلا ثم القبائل ثم الأحلاف بين القبائل إلخ )...من أجل الحماية والرعاية بالاصطلاح الخلدوني (موضوع المقدمة) من أجل سد الحاجات أداة (العمران) والأنس بالعشير غاية (الاجتماع). ومن ثم فالتقديم السابق معقول ومفهوم. وعلة الترتيبين مع تبادل التقديم والتأخير بحسب المستويات -بمعنى أن النظر الارقى يأتي بعد الانتظام في العمل والشرع لكن النظر الأدنى مشروط الترتيب العكسي-مفهومة كذلك فما في العالم من مقومات طبيعية ومن أدوات تاريخية يوجد في كيان الإنسان نفسه. فهو عضويا طبيعي وخاضع لقوانين الطبيعة .وهو روحيا تاريخي وخاضع لسنن التاريخ. ومن ثم فما فيه وما في العالم متناظران فضلا عن التحاوط المتبادل الذي شرحناه وشرحنا أبو يعرب المرزوقي 79 الأسماء والبيان
-- ما يترتب عليه في الفصل السابق :الإنسان محاط بالعالم عينا ومحيط به ذهنا والعالم من ثم محيط بالإنسان ومحاط به كذلك. والآن كيف نفهم هذا المخمس المتعلق بأنظمة العمل والشرع في صلة بعلاقة الإنسان بالتاريخ الذي هو معين الروح والاستخلاف وسطيا بينه وبين علاقته بالطبيعة التي هي معين البدن والتعمير؟ نظام العمل ونظام موضوعه ونظام الشرع ونظام موضوعه ونظام العلاقة بالتاريخ والاستخلاف نجاحا او فشلا. وأول قضية ما علاقة العمل بالشرع قياسا على علاقة النظر بالعقد؟ شرحنا هذه عديد المرات وبينا أن النظر مستحيل بداية وغاية من دون العقد .فهو يبدأ به حول وجود الموضوع وقابليته للعلم ووجود الذات وقدرتها على علمه. والآن فما علاقة الشرع بالعمل بداية وغاية؟ فبداية أي عمل هو تحقيق شيء بنظام. وغاية أي عمل التأكد من احترام ذلك النظام ومن دونه فالعمل فشل في تحقيق مشروع العمل الذي يرد إلى نظامه الذي يحقق غايته وذلك هو شرعه .والآن فما نظام العمل وما نظام الشرع وما موضوع العمل وما موضوع الشرع وكيف يتفرع ذلك كله عن علاقة الإنسان بالتاريخ الإنساني عامة وليس بلحظته فحسب. نظام العمل غير موضوعه ونظام الشرع غير موضوعه وأربعتها غير علاقة الإنسان بالتاريخ من حيث هو وسيط بينه وبين الطبيعة .فنظام العمل تطبيق نظرية وموضوع العمل هو المنتج الذي يحصل من تطبيق النظرية وشرع العمل شروط الإنجاز التي تتعلق بدور الاستثمار والفكرة والإنجاز والتمويل والاستهلاك. وهذا هو جوهر الإنتاج الاقتصادي أو المادي فيكون شرع العمل هو جملة العقود بين هذه الأطراف الخمسة وهي إما صريحة أو ضمنية بحسب تقدم الجماعات في تحديد علاقتها أبو يعرب المرزوقي 80 الأسماء والبيان
-- التعاقدية للتعاون في انتاج ما يسد حاجاتها الاقتصادية أو الثقافية وهذه مثل ذاك .وهذا كله هو علاقة الإنسان بالتاريخ استخلافيا. وموضوع التشريع هو إذن نظام توزيع العمل والتعاون والتعاوض في الجماعة سواء تعلق الأمر بسد الحاجة المادية (العمران) أو الروحية (الاجتماع) وهو في الحقيقة نظام التواصل الضابط لعقود التبادل بالتعاوض العادل في الجماعة وبمقتضاه يعمل بقيم الاستخلاف المساوي بين البشر أو يخالفها. فإذا ترجمنا المسألة قرآنيا كانت العلاقة بين النظر والعقد مع الطبيعة هي ما يمكن أن نسميه عالم الخلق وكيف تتحقق علاقة الإنسان بالطبيعة من حيث حاجته كمخلوق لا يمكن أن يعيش من دونها وهو معنى التسخير المشروط بالتعمير. أما العلاقة بين العمل والشرع مع التاريخ فهي عالم الامر والاستخلاف. وبذلك نصل إلى العلاقة غير المباشرة أو القلب الثاني للمعادلة الوجودية أعني اللقاء الثاني بين الله والإنسان بتوسط الطبيعة خلقا والتاريخ أمرا .وبذلك تنغلق الدائرة التي تتألف بعناصر يكون فيها الله والانسان في القلب الاول بداية وفي القلب الثاني غاية بمعنى أنهما يصبحان المابعدين. ما معنى يصبحان المابعدين؟ فالله في هذا القلب الثاني هو ما بعد الطبيعة. والإنسان فيه هو مابعد التاريخ من حيث هو مستعمر في الارض ومستخلف فيها .ومعنى ذلك أننا ننسب نظام الطبيعة إلى الله ونسب نظام التاريخ إلى الإنسان أو لنقل نحمله مسؤولية ما يحصل في تاريخ وهو معنى التكليف والحساب. فإذا أضفنا أن العلاقة بالطبيعة في النظر والعقد والعلاقة بالتاريخ في العمل والشرع لا تعنيان أن الإنسان محيط بهما وأن الفرق بين كل علوم الإنسان وكل أعماله تبقى اجتهادات وجهادات للاستفادة منهما دون أن يكون له عليهما سلطان مهما توهم من قوة لعلمة أو لعمله: فهو قطرة في محيط لامتناهي. أبو يعرب المرزوقي 81 الأسماء والبيان
-- والآن لماذا اعتبر هذه المعادلة هي في آن بنية القرآن وبينة الإنسان وبينة العالم وأنها ليست شيئا آخر غير ما يقصده القرآن بالفطرة التي فطر الله عليها الإنسان بمعنى أنها ليست خاصة بالإسلام لأن سلوبها وتحريفاتها هي ما يعرضه القرآن خلال معاملة الرسالات السابقة بمنطق \"التصديق والهيمنة\". فهو بهذا المنهج النقدي للتحريف يستخرج الكوني والكلي في الديني وفي الفلسفي المتطابقين بمعنى أن الرسالة ليست كلاما في الغيبيات كما توهم من يدعي أنه يحتوي على علم الغيب بل هو رسالة من مرسل (الله) إلى مرسل إليه (الإنسان عامة) عن طريق رسول (محمد) بمضمون معين يعلم بمنهج معين. والمضمون المعين هو هذه المعادلة والمنهج المعين هو النظر والعقد توجيها إلى طلب نظام العالم الطبيعي والعمل والشرع توجيها إلى طلب نظام العالم التاريخي .وذلك هو مدلول فصلت \" 53آيات الله في الآفاق وفي الأنفس=حقيقة القرآن\" .والآفاق هي العالمان الطبيعي والتاريخي والأنفس كناية عما فيهما من تجهيز يمكن من علاج العلاقة بهما أعني النظر والعقد للعلاقة بالطبيعي من العالمين والعمل والشرع للعلاقة بالتاريخي منهما. وفرضيتي لتفسير انحطاط الأمة وفشلها في التعمير والاستخلاف هو أن علماءها تركوا فصلت 53فلم يطلبوا علم آيات الله في الآفاق والانفس من أجل التعمير والاستخلاف بل عملوا بعكسها ثم عكسوا آل عمران 7فلم ينشغلوا إلا بتأويل المتشابه بدعوى الرسوخ في العلم لإخفاء زيغ قلوبهم وابتغائهم الفتنة. والنتيجة أنهم أفسدوا التربية التي عكسوا فيها أمر الله للرسول الذي نبهه بالقول {إنما أنت مذكر} فزعموا له غير ذلك حتى يدعوا وراثته بعلم كاذب وزائف لم يدعه وذلك حتى يصبحوا وسطاء بين الله والمؤمنين وليس مجرد مذكرين مثل الرسول .ومثلهم فعل الحكام لم يعملوا بـ{لست عليهم بمسيطر}. فسيطروا بوصفهم أوصياء واستعبدوا المؤمنين مثل أصحاب دين العجل وقد صاروا كما نراهم حلفاء أصحابه يحكمون بالمال الفاسد (معدن العجل) وبالإيديولوجيا الفاسدة (خوار أبو يعرب المرزوقي 82 الأسماء والبيان
-- العجل) .ولا يمكن أن يكون كل ذلك وليد الصدف بل علته تحريف النظر والعقد وتحريف العمل والشرع :وتلك هي علة انحطاط المسلمين. وفساد التربية وفساد الحكم جعلهما ابن خلدون أصل فساد معاني الإنسانية في الجماعة بحيث يصبح الإنسان الذي يربى بالعنف الرمزي من علماء السوء ويحكم العنف المادي من حكام العمالة فلا يبقى إنسانا فتعوض العبودية الحرية والجهل العلم والعجز القدرة والقبح الجمال والذل الجلال :لا يبقى مسلما. فلا يمكن أن يكون الإنسان عبدا وجاهلا وعاجزا وقبيحا وذليلا ثم يدعي أنه مسلم. فالمسلم بتعريف القرآن كما صاغه ابن خلدون \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" لا يكون إلى حر الإرادة صادق العلم فاعل الإرادة جميل الحياة جليل الوجود وتلك هي أخلاق القرآن لتكريم الإنسان. وهذه رسالتي إلى شباب الثورة بجنسيه :اتبعوا السبابة الوجودية كما حاولت بيان دلالتها .فالقرآن سبابة وجودية توجهكم إلى شروط الكرامة والحرية .فلا يمكن للمسلم أن يبقى مسلما إذا لم يعمر الارض ويستخلف فيها بما وصفت من الرؤى القرآنية التي لا تعوض الاجتهاد والجهاد بل تشير إلى شروطهما. وإذا جاز لي أن أختم بالكلام على السياسة التي ينبغي أن تكون سياسة الاستئناف الذي على الإسلام السياسي أن يعيد بها للأمة دورها الكوني فهي ما حاولنا وصفه في هذه المحاولة \"السبابة\" والتي قبلها -العملة والكلمة -لأن هذه تحدد الأدواء وكيفية علاجها وتلك تحدد الوصفة التي تمكن من العلاج الذي يبين معنى الإسلام هو الحل بعد أن يكون قد تخلص من علل الانحطاط وتحرر من الكاريكاتورين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث. أبو يعرب المرزوقي 83 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 84 الأسماء والبيان
Search