Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore السبابة الوجودية أو حقيقة ما في القرآن من معرفة وقيمة - أبو يعرب المرزوقي

السبابة الوجودية أو حقيقة ما في القرآن من معرفة وقيمة - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-04-15 19:12:56

Description: السبابة الوجودية أو حقيقة ما في القرآن من معرفة وقيمة - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫أو حقيقة ما في القرآن من‬ ‫معرفة وقيمة‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪9 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪17 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪23 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪29 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪36 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪42 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثامن ‪48 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل التاسع ‪55 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل العاشر ‪61 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الحادي عشر ‪70 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني عشر ‪78 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫هذه المحاولة التي خصصتها لمسألة جوهرية اعتبرها أهم ما توصلت إليه في محاولة قراءة‬ ‫القرآن قراءة فلسفية وسميت ما في القرآن الكريم من كلام على المعرفة والقيمة بالسبابة‬ ‫الوجودية استعارة على الدور التوجيهي بالإشارة التذكيرية لما فيه من شروط النظر‬ ‫والعقد في المعرفة ومن شروط العمل والشرع في القيمة من مقومات تحررنا من خرافة‬ ‫الإعجاز العلمي ومن علل انحراف علوم الملة كلها وضرورة تجاوزها لأنها لم تعد صالحة‬ ‫لتحقيق شروط استئناف الأمة لدورها الكوني دون أن يكون ذلك قطيعة مع مرجعيتيها أي‬ ‫القرآن والسنة‪.‬‬ ‫ولست غافلا عما سيعاب علي من جرأة على وصف علوم الملة الغائية الخمسة ‪-‬التفسير وما‬ ‫يؤسسه من فروع أربعة اثنين نظريين هما الكلام والفلسفة واثنين علميين هما الفقه‬ ‫والتصوف‪-‬بكونها ليست علوما أصلا فضلا عن كونها محرفة لكل دلالات القرآن الكريم وما‬ ‫يشير إليه في توجيه الإنسان عامة والمسلم خاصة لشروط تعمير الارض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫كما سيعاب علي وصف علومها الأداتية الخمسة ‪-‬اللغة والمنطق والتاريخ والرياضيات‬ ‫والوسميات بكونها بدائية أو أي لم مستوى تأسيس العلمية الأولى‪.‬‬ ‫ولا أعجب من ذلك‪ .‬فليس من اليسير أن تقبل جماعة مراجعة ذاتها لفهم علل انحطاطها‬ ‫خاصة إذا ساد على فكرها البحث عن العلل العرضية ونسيان العلل الذاتية للأمر نفسه‬ ‫وخاصة كذلك لما يأتي هذا الأمر ممن قد يتهم بكونه ليس مختصا في ما تصوروه علوما لدنية‬ ‫وهو محض تخريف حول ما لا يعلم بصريح نص القرآن ‪ :‬الغيب‪.‬‬ ‫وصحيح أن للأعداء دورا في ما حل بنا‪ .‬لكن من يبحث عن الداء في الجرثومة والفيروس‬ ‫وينسى فقدان المناعة يكون بحثه قاصرا حتما‪ .‬فما كان يمكن للأعداء أن يوقفوا فاعلية‬ ‫النظر والعقد في المعرفة أو فاعلية العمل والشرع في القيم لو كانت هذه الفاعليات فاعليات‬ ‫سليمة‪ .‬لكنها في الحقيقة سقيمة لأنها جعلت أمر فصلت ‪ 53‬نهيا وجعلت نهي آل عمران ‪7‬‬ ‫أمرا حتى تؤسس لوساطة في التربية ووصاية في الحكم‪ .‬وكلتاهما نهى الله عنها رسوله‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ناهيك عمن يدعون وراثته في الغاشية‪{ :‬فذكر إنما أنت مذكر (‪ )21‬لست عليهم بمسيطر‬ ‫(‪.})22‬‬ ‫وقد أفهم من يسأل عن البديل أو يتهمني بأني بدأت بالهدم قبل البديل‪.‬‬ ‫والجواب‪:‬‬ ‫‪ .1‬النقد وتجاوز الذات ليس هدما لأني لم أقل مثل من يرون أن الماضي مضى وانتهى بل‬ ‫هو عندي من جنس طبقات الأرض يبقى دائما جزءا مقوما للأرض ولا يمكن الاستغناء‬ ‫عنه‪.‬‬ ‫‪ .2‬لم أنس تقديم البديل دون قطع مع المبدل منه وتلك هي السنن التاريخية التي يشير‬ ‫إليها القول إن للأمة في كل قرن مجدد أو مجددون يصلحون شأنها وهو ما يؤكده ابن خلدون‬ ‫عند تمييزه بين التاريخ القصير والتاريخ المديد‪.‬‬ ‫ومع ذلك فسأخصص هذه المحاولة لبيان فيم العلوم الغائية منحرفة وفيم العلوم الأداتية‬ ‫لم تتجاوز المستوى الأول من التدرج نحو العلمية ثم البديل الذي لا يقطع مع المبدل منه‬ ‫في حالتي علوم الغاية وعلوم الآلة مع تأسيسهما على العلم الرئيس أو المؤسس لها جميعا أي‬ ‫في التفسير ونفي الإعجاز العلمي‪ .‬وأبدأ بحسم مسألة الأعجاز العلمي لأنها هي الأصل في‬ ‫تحريف علوم الغاية وفي هزال علوم الآلة‪ .‬ومن ثم فهي العلة الأساسية في الانحطاط الذي‬ ‫جعل الأمة تفشل في مهمتي الإنسان في الدنيا كما حددهما القرآن الكريم‪:‬‬ ‫‪ .1‬فشلت في تعمير الأرض لأنها إلى الآن ما زالت تعيش على ما تنتجه الطبيعة ولا دور‬ ‫لها في تحقيق شروط قيامها العضوي والروحي‪.‬‬ ‫‪ .2‬وفشلت في الاستخلاف فيها لأنها ما زالت إلى الآن خاضعة لقانون التاريخ الطبيعي‬ ‫(الضرورة) ولا دور لها في تحقيق شروط القانون الخلقي (الحرية)‪.‬‬ ‫ذلك أن فقدان أدواتهما فشل يثبته مآلنا الحالي‪ .‬والعلة هي الجهل بجوهر الإسلام في‬ ‫المحددين لشروط نجاح رسالته كما حددها القرآن أو تجاهله لزيغ في القلب وطلبا للفتنة‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬نظرية المعرفة التي حررت الفكر الإنساني من وهم القول بالمطابقة بمعنى توهم علم‬ ‫الإنسان محيطا بالوجود‪.‬‬ ‫‪ .2‬نظرية القيمة التي حررت الإرادة الإنسانية من وهم القول بالمطابقة بمعنى توهم‬ ‫عمل الإنسان محيطا بالمنشود‪.‬‬ ‫فالذين يزعمون القرآن فيه اعجاز علمي يضمرون أن الوحي فيه علم الغيب فضلا عن‬ ‫الخلط بين الغائب والغيب (فالمستقبل غائب لكنه ليس غيبا لأن الغيب هو المحجوب بالجوهر‬ ‫وليس بالزمان)‪ .‬وهذا الضمير علته تناسي أن الرسول يذكر المخاطبين بشيء معلوم نسوه‬ ‫ولا يعلمهم بشيء يجهلونه وإلا لما فهموه‪ .‬ويكون الرسول قد كذب عندما قال في حجة الوداع‬ ‫اللهم إني بلغت‪ .‬فما الذي يمكن أن يكون قد بلغه إذا كان في الرسالة أعجاز علمي يتكلم‬ ‫على ما صرنا نعلمه الآن؟‬ ‫فتكون الرسالة إذن ألغاز بالنسبة إليهم مرتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬بالقول إنه تذكير وليس تعليما لجديد‪.‬‬ ‫‪ .2‬بالقول إن فيه ما لا يمكن أن يشرحه لهم‪.‬‬ ‫ولما كان القرآن رسالة من مرسل هو الله إلى مرسل إليه هو الإنسان وكان الرسول ينفي‬ ‫أن يكون قادرا على معرفة الغيب وكان مضمون الرسالة تذكيرا بمنسي وليس تعليما لمجهول‬ ‫وكان الطريقة التبليغ هي الخطاب باللسان العربي فإن كل زعم بوجود علم معجز فيه من‬ ‫أوهام الخطأ الذي جعل علوم الملة محرفة‪.‬‬ ‫وبذلك تتبين علة التحريف الذي أنسبه إلى علوم الملة الغائية الخمسة (التفسير والكلام‬ ‫والفلسفة والفقه والتصوف) وهزال علومها الألية الخمسة (الوسميات أو السيميوتكس‬ ‫واللسان والمنطق والتاريخ والرياضيات)‪ .‬فأما التحريف فهو بين لكل ذي بصيرة‪ :‬فهم قد‬ ‫عكسوا أمر فصلت ‪ 53‬فجعلوه وكأنه نهي‪ .‬وعكسوا نهي آل عمران ‪ 7‬فجعلوه وكأنه أمر‪.‬‬ ‫هذا من حيث الغائية‪ .‬أما من حيث الآلية فتبع لذلك لأنها صارت أقوالا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولو كان لي سلطان على المنهج التربوي العام في دار الإسلام لاكتفيت في التعليم الرسمي‬ ‫الذي تتكفل به الدولة على هذه العلوم الأداتية الخمسة ولاعتبرت العلوم الغائية مجالات‬ ‫اختصاص يختارها المتعلم أو أهله أو من سيستعمله من المؤسسات العمومية والخاصة للإنتاجين‬ ‫الاقتصادي والثقافي والسياسي والديني إلخ‪ ...‬بحيث تكون كلها من مجالات المجتمع الاهلي‬ ‫وليس من مجالات الدولة‪.‬‬ ‫فيكون المشترك بين كل الاختصاصات أو العلوم الآلية هي الأهم لأنها هي التي تجعل كل‬ ‫ما عداها ممكنا وهي التي ينبغي أن تكون على نفقة الدولة في التوقيت الرسمي المخصص‬ ‫للتكوين والباقي يكون على نفقه الأهل الذين يريدون تكوين أبنائهم للمهن المعينة في‬ ‫نظام تقسيم العمل يتقاسمونها مع من سيستعملهم في مشروعاته الاقتصادية أو الثقافية أو‬ ‫السياسية‪ .‬ويكون ذلك في توقيت متنوع بحسب الاختصاصات وخارج النظام الرسمي رغم‬ ‫وجوب خضوعه لمراقبته باعتباره الساهر على الصالح العام إذا كان سلطة شرعية ومؤهلة‬ ‫للسهر عليه‪.‬‬ ‫وأبدأ بالأخطر والذي هو نسف تام لثورة الإسلام‪ :‬كيف حرفوا آل عمران ‪ .7‬فهي تعتبر‬ ‫تأويل المتشابه‪-‬أي ما له صلة بالغيب‪-‬دليل مرضين يقضيان على شروط قيام الأمم‬ ‫والحضارات‪:‬‬ ‫‪ .1‬زيغ القلوب أي طلب الباطل بدل الحقيقة بادعاء العلم بالغيب تأويلا للمتشابه‪.‬‬ ‫‪ .2‬ابتغاء الفتنة أي طلب الصراع بين البشر في ما لا يعلمونه بدل التلاحم الأخوي‪.‬‬ ‫يعني بصورة صريحة الوقوع في ما سمته سورة العصر الخسر‪ .‬فزيغ القلوب وابتغاء الفتنة‬ ‫هما بالضبط طلب الخسر برفض شروط الاستثناء منه‪ .‬وهي أربعة شروط‪:‬‬ ‫• اثنان يتعلقان بالفرد‬ ‫• واثنان يتعلقان بالجماعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالفرد يتحرر من الخسر بالإيمان والعمل الصالح‪ .‬والجماعة تتخلص منه بالتواصي بالحق‬ ‫والتواصي بالصبر‪ .‬وكلهم بحاجة للأصل أي الوعي بالخسر الممكن إذا لم تتحقق هذه‬ ‫الشروط‪.‬‬ ‫والإيمان والعمل الصالح علاج زيغ القلوب والتواصي بالحق والتواصي بالصبر علاج‬ ‫الفتنة‪ .‬هم إذن بقلب نهي آل عمران ‪ 7‬فضلوا زيغ القلوب وابتغاء الفتنة بمجرد نقل‬ ‫\"الواو\" في الآية من دلالة الاستئناف إلى دلالة العطف فجعلوا من يدعون الرسوخ في العالم‬ ‫قادرين على تأويل للمتشابه محيط مثل الله‪.‬‬ ‫وليس هذا هو المشكل‪ :‬فحتى لو لم يحرفوا الآية فإن مرض زيغ القلوب وابتغاء الفتنة‬ ‫سيوجد لأن الامر يتعلق بمرض عرض وكلاهما موجود في كل الحالات‪ .‬المشكل هو أنهم‬ ‫بهذا أصبحوا يقولون بعكس نظرية المعرفة التي تتماشى مع القرآن‪ :‬القول بالمطابقة‬ ‫المعرفية أي نسبة العلم المحيط إلى الإنسان‪.‬‬ ‫وإذا قالوا بالمطابقة المعرفية وكانت هذه أساس العقائد فمن الطبيعي أن يستنتجوا‬ ‫المطابقة القيمية التي هي أساس الشرائع‪ .‬فيصبح الموقف حتما قولا بأن الإنسان له علم‬ ‫محيط بالموجود وعمل تام بالمنشود‪ .‬ولا يبقى للحدين القرآنيين معنى‪ :‬يصبح الإنسان غنيا‬ ‫عن الحاجة إلى ما يتعالى عليه في الموجود وفي المنشود‪.‬‬ ‫والدين جوهره هذا الوعي بما يتعالى على الإنسان إما عقدا بوجود الله ووحدانيته‬ ‫وتفرده بالمطلق المعرفي عقدا في الموجود لأنه هو صاحب الخلق وتفرده بالمطلق القيمي شرعا‬ ‫في المنشود لأنه صاحب الأمر‪ .‬ومن ثم فلا علم إنساني إلا اجتهاد غير محيط شرط الإيمان‬ ‫ولا عمل إنساني إلا جهاد غير كامل شرط العمل الصالح‪.‬‬ ‫والنتيجة هي قلب فصلت ‪ 53‬بالتبع‪ .‬ذلك ان من يقلب آل عمران ‪ 7‬سيغرق في الكلام في ما‬ ‫لا معنى للكلام فيه غير الزيغ والفتنة والثرثرة التي لا تحقق تعميرا ولا استخلافا بل هي‬ ‫تتحول إلى معرفة تهديمية تسبح في الكلام التافه حول ما هو حكر على الله‪ .‬لكنه يستعمل‬ ‫لسيطرة الدجالين على الإنسان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وعندئذ يفسرون فصلت ‪ 53‬بمعنى الوعظ والإرشاد‪ .‬وبدلا من أن تكون الآيات التي‬ ‫يرينها الله في الآفاق وفي الانفس والتي تبين حقيقة القرآن منطلق الإنسان للبحث فيها‬ ‫باعتبارها هي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ تحولت إلى دجل المفسرين حول الإعجاز في‬ ‫النص بعد أن يكتشفه العلم في الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫وكانت النتيجة أشبه بما يفيده المثل الصيني‪ :‬بدلا من أن ينظروا في ما تشير إليه السبابة‬ ‫لم يروا إلا السبابة‪ .‬القرآن يقول حقيقتي هي أني \"سبابة\" تشير إلى حيث ينبغي أن‬ ‫تبحثي عن حقيقتي ليس في تفسير كلامي بجهلكم بل في ما أريكم إياه من آيات في الآفاق‬ ‫(العالم) وفي أنفسكم (أي الإنسان)‪.‬‬ ‫والقرآن يقول‪ :‬الآيات التي يريكم الله إياها في الآفاق وفي الأنفس نوعان‪ :‬آيات الخلق‬ ‫وهي قوانين طبيعية وآيات الامر سنن تاريخية‪ .‬والقوانين الطبيعية يقول لنا إنها رياضية‬ ‫فيزيائية تعلم بالتجربة‪ .‬والسنن التاريخية يقول لنا هي سياسية خلقية تعلم بالتجربة‬ ‫كذلك‪ .‬وكلاهما يعلم بالبحث العلمي‪.‬‬ ‫ولو كان القرآن فيه قوانين علمية وسنن تاريخية لكان شرحه كافيا ولاستغنينا عن البحث‬ ‫العلمي والعمل على علم وهما معنى التكليف الذي نتمكن بتحقيقه إثبات الأهلية‬ ‫للاستخلاف‪ .‬ومن يفهم معنى القوانين ينبغي أن يكون غبيا حتى يتصور أنها قابلة للقول‬ ‫بكلام طبيعي فيخلط بين التوجيه إلى طلبها وحضورها المغني عنه‪ .‬فالعلم قبل أن يصبح‬ ‫شيئا يبدأ بأن يصنع لغة تقول ذلك الشيء‪ :‬وذلك هو معنى إعطائنا أسماء كل شيء أي‬ ‫القدرة على تسمي الأشياء كلها‪.‬‬ ‫وكون العلوم بعد اكتشافها تثبت أن القرآن قد قال الحق في التوجيه لا يعني أنه يتضمن‬ ‫ما يتم اكتشافه بل هو يتضمن شروط اكتشافه التي هي وظيفة التذكير التوجيهي لما جهز‬ ‫به الإنسان من نظر وعقد شرطين لاكتشاف قوانين الطبيعة ومن عمل وشرع شرطين‬ ‫لاكتشاف سنن التاريخ‪ .‬والتوجيه المصيب هو معنى أن التحقق الذي ينتج عن جهد الإنسان‬ ‫اجتهادا لطلب الحقيقة بالتواصي بالحق وجهادا لتحقيقها بالتواصي بالصبر يثبت أن القرآن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حق ولا يثبت أنه يتضمن المطلوب من الإنسان البحث عنه في الآفاق والأنفس وإلا لكانت‬ ‫هذه غير ضرورية كما توهم من تركها وخاض في ما نهت عنه آل عمران ‪.7‬‬ ‫والفرق كبير بين القول إن رؤية الآيات التي تتجلى في الآفاق والأنفس تثبت أن القرآن‬ ‫حق وبين القول إن هذه الآيات علمها حاصل بعد في آيات القرآن النصية‪ .‬لو كان ذلك‬ ‫كذلك لكان البحث العلمي والعمل على علم غير ضروريين بل يكفي شرح النص لمعرفتها‬ ‫والعمل بها‪ .‬ولست بحاجة لإثبات استحالة ذلك ليس بالقرآن وحده بل وكذلك بالتاريخ‪:‬‬ ‫فلا أحد اكتشف قانون واحد من قوانين الطبيعة أو سنة واحدة من سنن التاريخ بشرح‬ ‫ألفاظ القرآن لأن من خاصيات أي لغة طبيعية أنها تحتمل الكثير من التأويلات التي لا‬ ‫يمكن أن تكون صوغا لقوانين علمية حتى بعديا فضلا عن أن تكون قبليا‪.‬‬ ‫والقرآن يقول لنا إن الخلق بقدر وهو يقال رياضيا‪ .‬ولا يمكن أن يقال رياضيا من دون‬ ‫شرطين أولهما إبداع الرياضيات والثاني ملاحظة سلوكه تجريبيا‪ .‬قد يسبق القول‬ ‫الرياضي التجريب لكنه يبقى فرضيا ولا يصبح علما إلا متى أيدته التجربة على الأقل في‬ ‫مرحلة من مراحل التجريب ومراحلها لا تتناهى بسبب لا تناهي تقدم الإدراك التجريبي‬ ‫الناتج عن تقدم تطبيق النظريات على آلات تحقيقه‪ .‬ما في القرآن إذن ليس إعجازا علميا‬ ‫بل هو \"سبابة\" تشير من منطلق رؤية حول طبيعة خمسة أشياء لا يمكن من دونها تحقيق ما‬ ‫كلف به الإنسان أي مهمتي الإنسان في تعمير الأرض والاستخلاف فيها‪:‬‬ ‫‪ .1‬طبيعة العالم الطبيعي (الخلق) وهي ذات قوانين رياضية فيزيائية مستقرة‪.‬‬ ‫‪ .2‬طبيعة العالم التاريخي (الأمر) وهو ذو سنن سياسية خلقية مستقرة‪.‬‬ ‫‪ .3‬طبيعة المعرفة وهي اجتهادية لا متناهية التجدد‪ .‬وهي تاريخية‪.‬‬ ‫‪ .4‬وكل ذلك يجري في تاريخ العمل الإنساني طبيعة العمل وهو جهادي متواصل سعيا إلى‬ ‫المنشود‪.‬‬ ‫‪ .5‬ويوحد كل هذه الرؤى طبيعة علاقة الإنسان بالعالم وعلاقته بعلاقته بالعالم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومعنى ذلك أن للإنسان مستويين يناظران الخلق والامر‪ .‬فعلمه بالخلق هو مصدر حياته‬ ‫العضوية وعمله بالأمر هو مصدر حياته الروحية‪ .‬وذلك هو تبين حقيقة القرآن التي هي‬ ‫مضمون الرسالة والتي لا تعلمنا بشيء جديد بل تذكرنا بشيء مرسوم في كياننا ونغفل‬ ‫عنه‪ .‬ففي كياننا العضوي علاقة بينة بالطبيعة إن لم نحترمها يحصل التدمير بدل التعمير‪.‬‬ ‫وفي كياننا الروحي علاقة بينة بالتاريخ إن لم نحترمها يكون الخسر بدل الاستخلاف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لست أشك في أن الكثير سيعجب‪ :‬كيف تجعل القرآن مجرد \"سبابة\" تشير إلى أمور ليست‬ ‫فيه بل هي خارجه؟ فيوضع سؤالان لا بد من حسمهما‪:‬‬ ‫• السؤال الأول‪ :‬ماذا تسمي هذه الإشارة التي تؤدي إلى النتائج التي يتوصل إليها‬ ‫العلم ولا يخالفها إذا لم تكن علما كليا؟‬ ‫• السؤال الثاني أعسر من الأول‪ .‬فلم لا يمكن اعتبارها من الأعجاز العلمي وهي بهذا‬ ‫المعنى أسمى من العلم الجزئي؟‬ ‫والجواب عن السؤال الأول بالعلم الكلي قد يؤيده اعتبار الرسالة تذكيرا فتعرف نفسها‬ ‫بكونها تشير إلى ما تذكر به باعتباره ما في كل علم من فطري لدى الإنسان ولا يحتاج‬ ‫للاكتشاف بالبحث العلمي لأنه شرطه‪ .‬لكن في تلك الحالة لا يبقى اعجازا يختص به القرآن‬ ‫بل كل من يقول بفطرية المبادئ يمكن أن ينسب إلى نفسه هذا الاعجاز‪.‬‬ ‫لذلك تحتم الجواب علن السؤال الثاني وهو نفي الإعجاز العلمي عن ذلك واعتباره‬ ‫استراتيجية لتحقيق شروط قيام الإنسان مرسوما في كيانه العضوي والروحي والأول تحتمه‬ ‫علاقته بالطبيعة والثاني علاقته بالتاريخ والقرآن نبه إلى ذلك تنبيها ينفي أن يكون أمرا‬ ‫يغني عما ينبه إليه بما يوجد في التنبيه الإشاري‪ :‬هو يكتفي التنبيه إليه وهو معنى فذكر‬ ‫إنما أنت مذكر ليست عليهم بمسيطر واعتبار ما يذكر به موجود في الآفاق وهو الوجود‬ ‫الأعيان وفي الأنفس وهو الموجود في الأذهان‪.‬‬ ‫إذا القرآن هو نفسه الذي يصف نفسه بكونه \"سبابة\" تشير إلى مشار إليه يوجد خارج‬ ‫النص المشير‪ :‬فصلت (‪ )53‬وكان من غير المعقول أن يرسل أحد لأحد رسالة ما فيها يقتصر‬ ‫على ما فيها فمعنى ذلك أن الرسالة صارت بغير موضوع‪ .‬فالرسالة ينبغي أن يكون ما فيها‬ ‫متعلقا بالإشارة إلى ما ليس فيها وهي تشير إليه وتوجه إليها انتباه المرسل إليه‪ .‬القرآن‬ ‫سبابة بهذا المعنى‪ :‬والسبابة هنا استعارة طبعا‪ .‬وطبيعي أن يكون الأمر كذلك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالرسالة هي من مستخلف إلى خليفة وهي أيضا شبه رسالة تكليف بمهمة وتذكير بشروط‬ ‫القيام بها‪ .‬الإنسان الخليفة المرسل إليه يتلقى أوامر من الله المستخلف المرسل‪ .‬ولذلك‬ ‫فهو تذكير بالمهمة مصحوب بأوامر ونواه وتوجيه الانتباه إلى المهمة وشروط تحقيقها أو ما‬ ‫عليه القيام به‪ .‬وما عليه القيام به لا يكفي لعلمه وللعمل به على علم مجرد تفسير نص‬ ‫الرسالة لغويا وتأويلها بعكس ما نصحت به المرسل إليه‪ :‬هي نصحته بعدم تأويل المتشابه‬ ‫والغيب وطلبت منه الاقتصار على الشاهد‪.‬‬ ‫السؤال الثاني أعسر لأن الإشارة إلى طبيعة الطبيعة وطبيعة التاريخ وطبيعة علم‬ ‫الطبيعة وطبيعة علم التاريخ أو نظرية المعرفة ونظرية القيمة كلها حقائق يمكن نسبتها‬ ‫إلى العلم والكلام فيها في عصر الرسول يبدو من الإعجاز العلمي بل وحتى في عصرنا لأن‬ ‫هذه المسائل هي جوهر الفكر الفلسفي الذي يظنه الكثير مختلفا بالجوهر عن الفكر الديني‬ ‫للجهل بالفكرين‪ .‬ألست بذلك متناقضا عندما أزعمه وأنفي الإعجاز؟‬ ‫ولأشرح علة عسر الجواب بسب عسر المسألة الثانية‪ :‬كيف أنفي الاعجاز العلمي عن‬ ‫القرآن وأضع في ما سميته استعاريا سبابة تشير إلى حيث يمكن اكتشاف قوانين العلم دون‬ ‫أن اعتبر تلك الإشارة علما أو على الأقل مشروطة بعلم قد يكون من طبيعته مغايرة للعلم‬ ‫الذي أنفيه فنكون قد أبقينا على الأعجاز فيه؟‬ ‫الا أكون بذلك قد وقعت في ما أتوهم أني قد هربت منه‪ :‬فـ\"السبابة\" التي تشير لا تشير‬ ‫بجهل بل هي تشير بعلم بل وأكثر هي تشير بعلم شارط لكل علم ما يمكن أن يعتبر الإعجاز‬ ‫فيه أكبر وأعسر على التسليم به من الإعجاز الذي يدعيه القائلون بالإعجاز العلمي‬ ‫العادي‪ .‬فالدليل لا يجهل ما يدل عليه‪ .‬ولكن قبل أن أجيب فلأذكر القارئ أن هذه‬ ‫الإشكالية ليست خاصة بالدين بل هي أيضا اشكالية الفلسفة في علاقتها بالعلم وبالعمل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلنر كل حلتها الفلسفة قبل أن نتكلم عن الحل الديني في القرآن‪ .‬وللفلسفة حلان بحسب‬ ‫نوعي نظرية المعرفة ونظرية القيمة أي بما يشبه المصادرة المؤقتة على المطلوب‪ .‬وبصورة‬ ‫أدق هي حلتها بقلب العلاقة بين الدليل والمدلول‪ .‬فمنطقيا الدليل يسبق المدلول‪ .‬ومعنى‬ ‫ذلك أننا نستنتج المدلول انطلاقا من الدليل‪ .‬لكن الفلسفة عكست فجعلت المدلول شرطا‬ ‫في الدليل‪.‬‬ ‫كيف ذلك؟‬ ‫من أراد أن يرى ذلك يعمل بصورة حية فليقرأ ميتافيزيقا أرسطو‪ .‬كيف يؤسس شروط‬ ‫العلم وشروط المعلوم؟ ويمكن أن نقرأ التأسيس الأرسطي ضربين من القراءة‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما بعد الطبيعة معرفة بعدية لأنه يبدو قد أسسها على خمسة علوم سابقة الوجود‬ ‫عليها هي الطبيعيات والرياضيات والمنطقيات والحواريات والنسقيات‪ .‬فهذه جميعا سابقة‬ ‫الوجود على كتاب ما بعد الطبيعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬لكنه لا يعتبرها علما بحق ما لم تجد في ما بعد الطبيعة تأسيسها ذلك أن طبيعة‬ ‫موضوع أي علم مشروطة في بدايته وإذن فعلم \"ماهية\" الماهيات وجوديا سابق‪ .‬وطبيعة‬ ‫منهج أي علم مشروط في بدايته وإذن فعلم \"منطق\" المنهج معرفيا سابق‪.‬‬ ‫وبلغة فلسفية حديثة (كنطية خاصة) لا يمكن تصور معرفة بعدية من دون معرفة قبلية‪.‬‬ ‫وبلغة دينية لا يمكن تصور شيء من دون أن يكون له أصل فطر عليه الإنسان في كيانه‬ ‫العضوي والروحي‪.‬‬ ‫هناك إذن نقلة من تأسيس استقرائي على تجربة سابقة إلى تأسيس استنتاجي على غير‬ ‫سابق تجربة‪ .‬فتكون النسبة بين المنتقل منه إلى المنتقل إليه كالنسبة بين الدليل والمدلول‪.‬‬ ‫صار المدلول دليل الدليل‪ .‬وكل العلوم تعمل بهذه الطريقة‪ :‬تبدأ استقرائية وتنتهي‬ ‫استنتاجية والعلة أنها تتفطن للأساس‪.‬‬ ‫والأساس الذي تتفطن إليه تكتشف أنه مرسوم في طبائع الأشياء وهو سابق على ما‬ ‫اكتشفته بالاستقراء بمعنى أن ما يجعل الاستنتاج ممكنا مرسوم في المدلول وإلا لاستحال على‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الدليل أن يتحقق‪ .‬فما كان للاستقراء أن يحصل لو لم يكن في الأشياء ثوابت تجعلها قابلة‬ ‫للتصنيف الاستقرائي الذي نبدأ به‪.‬‬ ‫وبذلك تنقلب العلاقة فيصبح ما ظنناه بعديا قبليا‪ :‬الميتافيزيقا توصلنا إليها بعديا لكنها‬ ‫في الحقيقة قبلية‪ .‬ولذلك قال ابن سينا قولته الشهيرة‪ :‬من المفروض أن يكون اسم ما بعد‬ ‫الطبيعة \"ماقبل الطبيعة\" أي إنها علم شرط الإمكان الوجودي للطبيعة وعلم شرط الامكان‬ ‫الـمعرفي لعلمها‪ :‬ما قبل الطبيعة \"سبابة\" مشيرة‪.‬‬ ‫لن تجد في ما بعد الطبيعة قوانين علمية رياضية تجريبية في الطبيعة ولاسنن سياسية‬ ‫خلقية في التاريخ بل تجد إشارة إلى طبيعتها وإلى طريقة اكتشافها أو بصورة أدق إلى‬ ‫الحيز الذي توجد فيه والذي هو بنى قبلية وليست قوانين علمية ولا سنن سياسية‪ :‬إنها‬ ‫رؤية إشارية لنظام العالم الطبيعي والتاريخي‪.‬‬ ‫فإذا عدنا إلى القرآن الآن فماذا نجد؟‬ ‫ليس هو سبابة مشيرة فحسب بل هو يشير إلى هذا النظام باعتباره مصدر كل أدلته على‬ ‫وجود الله ووحدته وعلى إيجاده العالمين الطبيعي والتاريخي وعلى علاقته بهما وعلى منزلة‬ ‫الإنسان فيهما وعلى شروط تحقيقها لمقتضيات هذه المنزلة أي دوره معمرا ومستخلفا‪.‬‬ ‫قد يتصور البعض أني بهذه المقارنة أرد الدين إلى الفلسفة واعتبر النبي مجرد فيلسوف‬ ‫فيكون القرآن من تأليف الرسول مثلما أن الميتافيزيقا من تأليف أرسطو‪ .‬وقبل أن أرد على‬ ‫هذا الاتهام المعقول فلأنظر في النوع الثاني من العلاج الفلسفي الحديث لأن ما ذكرته هو‬ ‫العلاج القديم الذي عرفه فلاسفتنا‪.‬‬ ‫فالعلاج الجديد لم يكن في متناول فلاسفتنا القدامى الذين قبلوا بالحل الأرسطي القائل‬ ‫بالمطابقتين معرفيا مع الموجود وقيميا مع المنشود وضميرهما طبعا هو الإنسان مقياس كل‬ ‫شيء موجوده ومعدومه ومرغوبه فيه ومرغوبه عنه‪ .‬لكن المدرسة النقدية تجاوزت هذه‬ ‫الرؤية الساذجة وأعني بها فكر الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪ .‬فهم ثلاثتهم لم ينفوا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العلاج القديم رغم أنهم قلبوه راسا على عقب‪ .‬اعتبروا ذلك فيه شيء من صحة الصورة‬ ‫إذا اعتبرناه نسبيا إلى الإنسان واستثنينا منه ما يتجاوزه‪.‬‬ ‫وثلاثتهم يعتبرون كل هذا الحل الأرسطي مبني على ضرورة قطع التسلسل للشروع في‬ ‫تأسيس نظام الوجود والمنشود والمعرفة والعمل‪ .‬ومن ثم فلا بد من خمسة أسس مسلمة‬ ‫تجعل الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه‪:‬‬ ‫‪ .1‬لابد من ماهيات‬ ‫‪ .2‬ومبادي مطابقة لها‬ ‫‪ .3‬وعلم مطابق للموجود‬ ‫‪ .4‬وعمل مطابقة للمنشود‪.‬‬ ‫‪ .5‬وشرط ذلك أن يكون الإنسان مقياس كل شيء‬ ‫وما مكنهم من دحض هذه الرؤية التي هي اساس الفلسفة القديمة والوسيطة كلها والتي‬ ‫بإنهائها انتهت هذان الفلسفتان هو أن ذلك يكون كذلك لو قبلنا فرضيتين كلتاهما لا دليل‬ ‫عليها‪:‬‬ ‫‪ .1‬ان العالم الشاهد هو العالم الوحيد الممكن وأن ما وراءه من جنسه وليس عالما‬ ‫آخر مختلف عنه تماما‪.‬‬ ‫‪ .2‬أن هذه الفرضية الأولى تكون مقبولة لو كان الإنسان هو المقياس للموجود معرفيا‬ ‫وللمنشود قيميا‪.‬‬ ‫لكن الإنسان يعلم أو ينبغي أن يعلم أنه ليس مقياسا لا للموجود ولا للمنشود‪ :‬وهذا هو‬ ‫جوهر الرسالة الدينية إذا فهمت سلبيا بمعنى أنه يحد من العقل والإرادة الانسانيين بمجرد‬ ‫ألا ينفي إمكان عقل وإرادة غير محدودين وهو معنى الربوبية‪ .‬ومن هنا كانت الفرضيات‬ ‫الثلاث لتجاوز القول بالمطابقة استمدادا من رؤية القرآن الكريم للمفهوم ا لحد الذي يبين‬ ‫الممكن والممتنع في المعرفة الإنسانية‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬فرضية الغزالي‪ :‬طور ما وراء العقل (في المنقذ) ونقد الميتافيزيقا في تهافت‬ ‫الفلاسفة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وفرضية ابن تيمية‪ :‬نظرية الماهية مثل الأسماء لا تدل وليست حقيقة الشيء‬ ‫والتصورات لامتناهية ومن ثم فقطع التسلسل تحكمي‪.‬‬ ‫‪ .3‬واخيرا فرضية ابن خلدون‪ :‬الوجود لا يرد للإدراك والمنشود لا يرد للإرادة‪.‬‬ ‫‪ .4‬وثلاثتها يمكن اعتبارها نابعة من المفهوم الحد المطلق أو مفهوم الغيب الذي ينفي‬ ‫الإحاطة العلمية على غير الله صاحب الخلق والأمر‪.‬‬ ‫‪ .5‬وتلك هي الثورة التي أنسبها إلى القرآن وهي مضاعفة‪ :‬فهي تتعلق بالعلم‬ ‫والموجود وبالقيمة المنشود‪.‬‬ ‫والتعلق بالموجود هو سر عدم فهم المعتزلة لهذه الثورة في مستوى العلم والزعم بتقديم‬ ‫العقل على النقل لظنهم أن العلم العقلي غني عن النقل وتوهمهم أن النقل يعني علما‬ ‫صادرا عن الوحي في حين أنه كل مضمون معرفي لا يمكن أن ينتج عن مجرد التفكير العقلي‬ ‫بل لا بد له من المضمون التجريبي‪.‬‬ ‫والتعلق بالمنشود هو سر عدم فهمهم لهذه الثورة في مستوى المنشود لهذه الثورة في مستوى‬ ‫القيمة والزعم بأن العقل يحسن ويقبح لظنهم أن المنشود متعين في الموجود كما فهموه في‬ ‫الخطأ الأول‪ .‬لكن المنشود ليس فيه بل هو في أمر مشترك بين ما في الموجود وما في الحرية‬ ‫الإنسانية المتعالية على ما يحرره مما يقتصر على إدراكه منه فيرفعه إلى ما ينسبه إلى ربه‬ ‫من أمر متعال على علم الإنسان بقيم الأشياء والافعال وهو معنى التشريع السماوي‪.‬‬ ‫وهذا النوع الثاني من فهم اشكاليتي نظرية المعرفة ‪ Epistémologie‬ونظرية القيمية‬ ‫‪ Axiologie‬هو ما تدرجت إليه العلوم والفلسفة الحديثة رغم أن هيجل وماركس قد أنكصا‬ ‫الفلسفة عندما عادا إلى القول بالمطابقة في النظر وعقل الموجود وفي العمل وإرادة‬ ‫المنشود‪ .‬لكن العلم خاصة تشبث بالرؤية التي تقر بوجود نظام طبيعي وتاريخي وترفض‬ ‫أن تحصرهما في رؤى الإنسان‪ .‬فتكون الحصيلة أمرين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬الإنسان مهما فعل لا يستطيع ألا يؤمن بوجود النظامين وبقابلية الطبيعة لعلم‬ ‫العقل الإنساني والتاريخ لعمل الإرادة الإنسانية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والإنسان مهما توهم لا يمكنه أن يدعي علمه محيطا بالموجود وعمله محيطا‬ ‫بالمنشود‪ .‬وفي ذلك اقتراب مما تشير إليه السبابة القرآنية‪.‬‬ ‫وهو ليس علما محيطا بالموجود ولا عملا محيطا بالمنشود بل هو اعتقاد بأن الموجود قابل‬ ‫للعلم الإنساني النسبي والمنشود قابل للعمل الإنساني النسبي وأن الإنسان مجهز بما يجعله‬ ‫يحقق الممكن له من علم الموجود والممكن له من عمل المنشود بالحدود الممكنة له وهي تقتضي‬ ‫وجود النظامين وشرطهما‪.‬‬ ‫ولما كان ذلك شرط العلم والعمل فلا يمكن أن يكون صادرا عن العلم والعمل بل هو‬ ‫مرسوم في كيان الإنسان وهو الفطري الذي يدل الإنسان على شروط بقائه العضوي‬ ‫والروحي‪ .‬والفلسفة عندما تدرك ذلك تصبح هي بدورها قائلة بأن هذه السبابة المشيرة‬ ‫تشير إلى ما يملكه الإنسان وغفل عنه ولا تعبر عن علم بقوانين الطبيعة أو بسنن التاريخ‬ ‫التي ينبغي طلبها بالبحث العلمي والتجربة من مجراهما الذي يدكره الإنسان بما جهز به‬ ‫من أدوات الإدراك‪.‬‬ ‫وما يملكه الإنسان وغفل عنه هو ما يسميه القرآن الفطرة التي فطر الله الناس عليها‬ ‫وهو ما ينسونه ويغفلون عنه‪ .‬ولا يمكن معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ بمجرد شرح‬ ‫ألفاظ القرآن أو الاستبطان‪ .‬والعلاج الأول هو ما يدعيه من يبحث عنها في التفسير‬ ‫والتأويل‪ .‬والعلاج الثاني هو ما يدعيه من يبحث عنها في ما يسمى بالكشف الصوفي‪.‬‬ ‫وكلاهما لا يقدم ولا يؤخر‪ .‬فالمفسرون يسقطون تأويلاتهم على ما هو معلوم ولا يكشفون‬ ‫قوانين علمية‪ .‬وذلك يفعل المتصوفة‪ :‬فكل تخريف ابن عربي معلوم عند من له دراية‬ ‫بالأدبيات الفلسفية وخاصة بعد أن انحطت وامتزجت بالخرافة والتوظيف الباطني (مثل‬ ‫علم النفس الأرسطي وعلم الفلك البطليموسي)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتعليمه مجرد تذكير به وليس تعليما لأمر يجعله لأنه مرسوم في كيانه وفي كيان العالمين‬ ‫الطبيعي والتاريخي‪ :‬ما قدمته هنا ليس شيئا آخر غير تفسير فصلت ‪ 53‬على أساس آل‬ ‫عمران ‪ .7‬هذه تبين الحد أو نظام الغيب وتلك تبين الوجهة أو نظام الشاهد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبهذا المعنى فإن تصديق الرسول يعني تصديقه في أنه لم يخف شيئا مما كلف بتبليغه‬ ‫ولم يكن تبليغه ناقصا بيانا وبينونة ومن ثم فكل ما يعتقد أنه كان غير قابل للفهم عند‬ ‫نزول الرسالة وتؤيده الرسالة وسنة الرسول ليس منها‪ .‬ولولا ذلك لما كان للسنة شرعية‪:‬‬ ‫شرعيتها أنها تشهد لأمانة الرسول مبلغا‪.‬‬ ‫والمؤمنون به ممن عاشوا عصره لا يحتاجون لشهادة ومن تلقوا منهم بعد وفاته لا‬ ‫يحتاجون لشهادة‪ .‬ومن تلقوا من هؤلاء الذين تلقوا ممن تلقوا ممن عاصروه كذلك‪ .‬وتلك‬ ‫الأجيال الثلاثة التي تقبل شهادتهم في سنته‪ .‬وهم في الحقيقة ثلاثة مع أصل هو شهادة‬ ‫النبي نفسه وضمانة القرآن لها جميعا‪.‬‬ ‫فأما شهادة الرسول فهو شهادته في حجة الوداع‪ .‬وأما ضمانة القرآن فهي وصفه للرسول‪.‬‬ ‫وأما الأجيال الثلاثة فهي عقلية‪:‬‬ ‫• من صاحب الرسول تجربة حية درجة أولى‪.‬‬ ‫• من صاحب من صاحبهم حية درجة ثانية‬ ‫• وكل من يأتي الثالثة يكون راويا لتجربة لم يعشها ولم يعايش من عاشها ولا من عايش‬ ‫من عاشوها‪.‬‬ ‫وبذلك نحسم إشكالية شروط صحة الحديث‪:‬‬ ‫‪ .1‬شهادة القرآن في الرسول أنه أمين ومن ثم فحديثه بلاغها التام‪.‬‬ ‫‪ .2‬شهادة الرسول في الاستشهاد بها في حجة الوداع اللهم إني بلغت‪.‬‬ ‫‪ .3‬الجيل المعاصر للرسول‪.‬‬ ‫‪ .4‬الجيل المعاصر لمعاصريه‪.‬‬ ‫‪ .5‬الجيل الذي عاصر معاصريه‪.‬‬ ‫والرواة هم من لم يعش التجربة ولم يعايش من عاشوها‪ .‬وهذا الأمر يتعلق بخاصيات‬ ‫دور السبابة‪ .‬لم يكن لهم مفسرون ولا فقهاء ولا متصوفة ولا متكلمون ولا فلاسفة يعكسون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أمر فصلت ‪ 53‬ونهي آل عرمان ‪ 7‬بل كانوا فعلا يسعون إلى تأكيد طلب آيات الله في الآفاق‬ ‫وفي الأنفس ويبتعدون عن زيغ القلوب وابتغاء الفتنة مطبقين حرفيا سورة العصر بمقوماتها‬ ‫الخمسة‪.‬‬ ‫كانوا يعلمون أن عكس فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬هو الخسر‪ .‬ومنه العمل بالشرطين‬ ‫المتعلقين باستثناء الفرد منه أعني الإيمان والعمل الصالح وباستثناء الجماعة منه أعني‬ ‫التواصي بالحق (الاجتهاد) والتواصي بالصبر (الجهاد)‪ .‬والاجتهاد طلب للحق دون ادعاء‬ ‫الإحاطة والجهاد سعي لتحقيقه دون ادعاء الكمال‪.‬‬ ‫وطلب الحق دون ادعاء الإحاطة هو مبدأ التربية التي أمر النبي بألا يكون فيها إلا‬ ‫مذكرا وليس وسيطا بين المؤمن وربه ومبدأ الحكم الذي أمر النبي فيه بألا يكون فيه إلا‬ ‫منظما وليس وصيا بين المؤمنين وأمرهم الذي هو شورى بينهم‪ .‬وذلك هو ما يسمى سنة‬ ‫الرسول في التعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫وما أسميه تحريفا لعلوم الملة الغائية الخمسة ولعلومها الآلية الخمسة هو الابتعاد عن‬ ‫هذه التربية وهذا الحكم شرطي التعمير والاستخلاف‪ .‬وهذا ما سأحاول بيانه من خلال‬ ‫بيان أن شرح آيات القرآن بمعنى آيات المصحف لا يمكن أن يحقق ذلك ولذلك فهو قد حقق‬ ‫علوما زائفة ليست المطلوب من رسالة كونية‪.‬‬ ‫ولو جردنا القرآن من الحشو الذي أضافه المتكلمون والفلاسفة والفقهاء والمتصوفة لبقي‬ ‫ما بلغه الرسول وما لم يكن بحاجة لغير دور المعلم بالمعنى الذي يكون فيه {ّإنما أنت مذكر}‬ ‫وليس صاحب السلطة الذي يستمدها من الزعم أنه يؤول القرآن ليجد فيه ما القرآن نفسه‬ ‫قال إنه يوجد في الآفاق وفي الأنفس‪.‬‬ ‫وما بلغه الرسول هو الاستدلال بالنظامين الطبيعي والتاريخي الأول للتوجيه نحو إحكام‬ ‫الخلق والثاني للتوجيه نحو حكمة الأمر‪ .‬لكنه لم يعطي قوانين الفلك مثلا بل اكتفي‬ ‫بالكلام على دلالة نظامه على الإحكام ولم يحدد سنن التاريخ بل اكتفى بالكلام على دلالة‬ ‫نظامه على الحكمة‪ .‬وهذا هو مضمون النص‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وانطلاقا من هذا المضمون الذي سميته سبابة أو رؤية قبلية للنظامين ولقدرة الإنسان‬ ‫على اعتبارهما دالين على الإحكام والحكمة وعلاقتهما بشروط بقائه يمكن للإنسان أن يصل‬ ‫بالبحث العلمي في النظام الطبيعي الذي يشير القرآن إلى طبيعته والنظام التاريخي الذي‬ ‫يشير إلى طبيته أن يعمر ويخلف‪.‬‬ ‫وهكذا فقد وصلنا إلى بيت القصيد‪:‬‬ ‫كيف انحرفت علوم الملة الغائية الخمسة؟‬ ‫ولماذا لم تتطور علومها الآلية الخمسة؟‬ ‫أم بصورة أدق لماذا فشلت علوم الملة في تحقيق شروط التعمير وشروط الاستخلاف؟‬ ‫أو بصورة أزيد دقة لماذا لم تكن تربيتنا مبدعة لهذه الشروط المعرفية وحكما مبدعا‬ ‫للشروط القيمية؟‬ ‫ولأسأل‪:‬‬ ‫‪ .1‬هل من اتبع الرسول قبل الدولة من أخضع لإكراه الدين أيا كانت طبيعته؟‬ ‫‪ .2‬هل يجد أحد في فلسفة سياسة الفقهاء والمتكلمين شيئا مما نجده في دستور الرسول؟‬ ‫‪ .3‬هل نجد شيئا من قيم حجة الوداع في علمهم أو في عملهم؟‬ ‫‪ .4‬هل نحد في التربية \"إنما أنت مذكر\" أم البحث عن دور الوسيط؟‬ ‫‪ .5‬وهل نحد في الحكم \"لست عليهم بمسيطر\" أم البحث عن دور الوصي؟‬ ‫أين ذهبت هذه المعاني والقيم التي ربي عليها الأجيال التي أسست لدولة الإسلام التي‬ ‫تتبع دستور حكمها وأسلوه كما حددته الشورى ‪ 38‬رغم ما انتهت به التجربة من مآل الفتنة‬ ‫الكبرى لأن بناء المؤسسات لم يكتمل؟ فالدستور التعددي بكل معاني الكلمة كان في البداية‬ ‫وهو يؤسس التعايش بين الأديان ولعدم الإكراه في الدين‪ .‬وقيم حجة الوداع والتربية‬ ‫دون وساطة والـحكم دون وصاية‪.‬‬ ‫ما الذي غير ذلك كله فأصبح كل ما يحدث هو نقيضه المطلق الإكراه والوحدانية وعدم‬ ‫القيم والوساطة في التربية والوصاية في الحكم؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ماذا حدث ليحصل فشل التعمير والاستخلاف؟‬ ‫ذلك ما لا يمكن تفسيره لا بالصليبيين ولا بالمغول ولا بالأتراك ولا بالمماليك ولا‬ ‫بالاستعمار الأوروبي ولا بثمراته التي هي فساد الحكام واستبدادهم وانحطاط النخب‬ ‫بنوعيهم التأصيليين والتحديثيين بل لابد من بحث في أعماق أعماق العلوم الغائية الخمسة‬ ‫التي انحرفت وقصور علوم الآلة التي جمدت‪.‬‬ ‫وإذا كانت علوم الملة الغائية قد أفسدت التربية والحكم أي تكوين الإنسان العقلي‬ ‫والقيمي في النظر والعقد وفي العمل والشرع وجعلته عاجزا عن التعمير عامة والتعمير‬ ‫بقيم الاستخلاف خاصة فإن علوم الآلة أفسدت العقل من أصله لأنه أصبح لا يتجاوز الآلات‬ ‫البدائية العاجزة عن اكتشاف أسرار الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫هذه هي فرضيتي وما كنت لأصل إليها لولا مغامرة العودة إلى قراءة القرآن بعين كان‬ ‫الكثير من زملائي قد فقأوا ما يناظرها لأنهم بلعوا كذبة التعارض بين الدين والفلسفة‬ ‫وادعاء العقلانية بالمعنى الذي يجعل العقل ذا بصر حديد عند كل مدع للتفلسف البليد‪:‬‬ ‫لكن العقل يدري بمحدوديته دون أمل في غيره‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أني لم أعد للقرآن لظني أنه يوجد طريق أخرى غيره بما في ذلك في‬ ‫الوحي‪ .‬والدليل هو أن القرآن بخلاف من يريد اعتباره مثل الكتب الأخرى وقيس الإسلام‬ ‫عليها لا يعتمد على غير العقل بمعنى أنه لا يستدل بالخوارق بل بالنظام في العالم الطبيعي‬ ‫والتاريخي أو في الإنسان العضوي والروحي‪.‬‬ ‫سيحتج على كلامي لكن القرآن يتكلم على معجزات الرسل الآخرين وعلى ذاته بوصفه‬ ‫معجزة الرسالة الخاتمة‪ .‬وطبعا ما قلته لا ينكر ذلك‪ .‬لكن المحتج لا ينبغي أن ينكر أن‬ ‫الرسول كلما حاججوه بالخوارق رد بأنها غير ضرورية وهي للتخويف وليست للإقناع‬ ‫ومعجزته هي بالذات القرآن من حيث هو خطاب النظام‪.‬‬ ‫ثم إن تاريخ الرسالة وخاصة في مرحلة الرسول نفسه لم تعتمد على معجزات بل على‬ ‫أفعال ذات استراتيجية عقلية لتحقيق غايات سياسية خلقية بتربية الاحرار وتمكينهم من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أدوات الفعل التاريخي‪ .‬فالنبي نفسه كان مربيا وقائدا سياسيا وقائدا عسكريا‪ .‬وهو يعمل‬ ‫بما يقتضيه التعمير والاستخلاف كإنسان‪.‬‬ ‫أما كلامه على الرسالات الأخرى ومعجزاتها فذلك رواية تحترم معتقدات الآخرين‬ ‫وليست بالضرورة دالة على اعتناقها أو على حجيتها فضلا عن حدوثها الفعلي لأن القرآن‬ ‫ليس تاريخا بل هو في كلامه عن الأديان الأخرى لا يهدف إلا إلى اثبات امرين‪ :‬نقد‬ ‫التحريف وبيان كونية القيم التربوية والسياسية‪ .‬وإذا كان يعتبر التعدد الديني شرطا في‬ ‫مبدئين أساسين في رؤيته الدينية‪:‬‬ ‫‪ .1‬التسابق في الخيرات حتى يختار الإنسان بعد تبين الرشد من الغي دينه من بين‬ ‫الأديان الموجودة والتي لأصحابها نفس الحقوق في دولة التعدد الديني بمقتضى ثلاث آيات‬ ‫قرآنية صريحة (البقرة ‪ 62‬والمائدة ‪ 69‬والحج ‪..)17‬‬ ‫‪ .2‬عدم الإكراه في الدين لأنه مشروك بتبين الرشد من الغي وهذا مشروط بالحرية‬ ‫الفكرية والعقدية فإن نقده يقتصر على التحريف الذي يمس الجوهر العقدي‪ .‬ولا يمكن‬ ‫اشتراط تبين الرشد من الغي من دون حرية فكرية‪.‬‬ ‫والجمع بين الحريتين يعني حرية الضمير‪ .‬لذلك فأنا لا أعتقد أن أحدا له نزر من‬ ‫العقل يمكن أن يصدق أن الإسلام يمثله من نراهم من \"العلماء\" والدعاة الذين هم أذل‬ ‫خلق الله في خدمة من هم أذل منه خدمة لحاميهم ضد شعوبهم وضد الإسلام الذي يحاربونه‬ ‫أكثر مما يحاربه أعداؤه حتى يعطوا عربونا عن ولائهم لأعدائه ويبقون في إهانة المسلمين‪.‬‬ ‫ومثلهم من يزعمون تمثيل الحداثة‪ .‬هم يمثلون صورتها التي ورثوها عن الاستعمار‬ ‫ويواصلون العمل بها باعتباره علمائه‪ .‬وهم إذن أذل ممن يدعون تمثيل الإسلام‪ .‬وهذان‬ ‫النوعان من النخب هم من سميتهم بالكاريكاتورية‪ :‬كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور‬ ‫التحديث‪ .‬أما حقيقة القيم الكونية فهي واحدة في الدين وفي الفلسفة إذا لم يحرفهما‬ ‫الانحطاط والتوظيف من قبل الاستبداد والفساد سوء كان ذلك عندنا أو في الغرب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد يحتج أحد بالقول إنك تقيس علماء اليوم على علماء الأمس‪ .‬لكن إذا اعتبرنا أن‬ ‫الماضي فيه الأفاضل وهذا لا شك فيه كالحال في كل العصور لكن من حدد التاريخ الفكري‬ ‫والتربوي والسياسي لم يكن الأفاضل من العلماء سواء كانوا يدعون تمثيل الدين أو تمثيل‬ ‫الفلسفة‪ .‬فكما في عصرنا ليس للأفاضل ناقة ولا جمل في حال دار الإسلام ومن يسيطر‬ ‫عليها الآن باسم الدين أو باسم التحديث‪ .‬وبقاء الانحطاط حتى بعد قرنين من ادعاء‬ ‫النهوض يشهد لفرضيتي لا عليها‪.‬‬ ‫وكيفما كان الأمر فالفرضية لا معنى لها إذا لم يقع إثباتها بالحجة المنطقية أولا وبالحجة‬ ‫التاريخية ثانيا أي بالعقل وبالنقل لأن الفصل بينهما من أهم أعراض هذا الداء الذي‬ ‫نتكلم عليه‪ .‬فـمحرفو الديني والفلسفي يزعمون أن الأول نقلي والثاني عقلي لكأنه يوجد‬ ‫نقلي دون العقلي وعقلي دون النقلي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للمرة الألف أذكر بأن المقابلة عقلي نقلي علتها وهمان‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول الظن أن ما يسمونه النقلي يدرك أمورا يعجز العقل عن إدراكها‬ ‫ويعتبرونها رمز الوحي‪ .‬وهذا كذب على الوحي على الأقل كما يصوره القرآن‪ .‬فالوحي‬ ‫إذا تكلم على الغيب يكون كلاما عن إخبار الله النبي يه‪ .‬فلا يبقى غيبا وعليه تبليغه‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني الظن بأن ما يسمونه عقليا غني عن النقل وأن مجرد التصور كاف ليكون‬ ‫المرء حاصلا على علم الموضوع‪ .‬وهذا أيضا كذب على العقل على الأقل كما يقتضيه العلم‬ ‫الفعلي‪ .‬فمضمون المعرفة الذي يبدأ فرضيا لا يصبح مضمونا بحق ما لم يستمد من النقل‬ ‫عن الموجود الفعلي في الأشياء‪.‬‬ ‫ولما كان عليه تبليغه وإلا فهو ليس أمينا فإنه إذن في متناول العقل المخاطب به ومن ثم‬ ‫فلا يوجد في القرآن غيبا قابلا للعلم حتى من النبي وإلا فهو لم يبلغ وهو قد قال اللهم إني‬ ‫بلغت ولما كان صادقا ولا ينطق عن الهوى فكلامه حاسم‪ .‬وما هو غيب لا يعلمه النبي كما في‬ ‫الروح وفي القيامة مثلا‪.‬‬ ‫هذا في ما يخص الوهم الأول‪.‬‬ ‫أما الثاني فلو كان بوسع العقل الاستغناء عن النقل لكان يعلم دون حاجة لنقل يستمد‬ ‫من معلومات حول موضوع علمه ولكان لا فرق بين العلم والحلم ولكان التخيل وحده كافيا‬ ‫للمعرفة لو صدقنا أن إدراك المعطيات الموضوعية التي هي مضمون العلم ليس نقليا أي‬ ‫مستمدا من الوجود الفعلي للأشياء لكان التشكيل المنطقي أو الرياضي وحده كافيا‪ .‬لكن‬ ‫الأمر أبعد غورا من ذلك‪ .‬فالعقل مستحيل أن يخطو خطوة من دون عقيدتين يبدآن على‬ ‫الأقل فرضيا وهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولا الإيمان بأن للموضوع الذي يريد علمه قوانين أو قابل للصياغة القانونية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وثانيا أن الإنسان له القدرة على اكتشاف هذه القوانين أو على وضعها بصورة‬ ‫تطابق ما يفترضه في الموضوع من قوانين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الوهم الثاني وهم العقل في مقابل النقل علته أعمق حتى من ذلك‪ :‬فهم يزعمون‬ ‫أن العقل يدرك الموجود على ما هو عليه وضمير ذلك أن العلم العقلي محيط وأن صورة‬ ‫الإنسان عن الوجود مطابقة للوجود ومن ثم فما عليه الوجود بكامله هو في متناول عقل‬ ‫الإنسان‪ .‬وهو تأليه ذاتي ضمني دليل سفاهة لا علم‪.‬‬ ‫ولذلك فكل فلاسفتنا لا يختلفون عن حداثيينا في هذا الاعتقاد الساذج بالإحاطة والزعم‬ ‫بأن الدين صورة شعبية عن الحقيقة العقلية ومن ثم فلا بد من تصديق العقل وتكذيب‬ ‫قول الوحي بالغيب الذي لا يدعي الوعي أكثر من وجوده دون الزعم بأن القرآن فيه علمه‬ ‫وإلا لملمناه لأن القرآن رسالة موجهة إلينا‪.‬‬ ‫اخبار الوحي للإنسانية بوجود الغيب ليس علما بمضمونه بل هو حد لوهم الإنسان‬ ‫بالإحاطة‪ .‬اخبارنا بوجود الغيب يساوي اخبارنا بأن علمنا محدود وبأنه نسبي وبأن الإنسان‬ ‫الذي توهم علمه مطلقا يتأله فيصبح طاغية يدعي أن علمه وإرادته وقدرته وحياته‬ ‫ورؤاه هي عين ما يريده لله فيدعي الألوهية‪.‬‬ ‫الغيب إذن \"مفهوم حد\" يغير جذريا نظرية المعرفة بنفي المطابقة والمحافظة على الفرق‬ ‫بين إدراكنا للوجود وحقيقة الوجود المطلقة التي لا يدركها إلا الله ما يعني أن علمنا اجتهاد‬ ‫وليس علما نهائيا وهو اجتهاد متأصل لا يتوقف وليس له نهاية لأنه عين علاقة عقلنا‬ ‫المتناهي بالوجود اللامتناهي‪.‬‬ ‫ورمز الوجود اللامتناهي في القرآن هو كلمات الله التي لا تكفي فيها بحار العالم كلها‬ ‫حبرا حتى لو تضاعفت بما لا يتناهى من المضاعفة‪ .‬ومعنى ذلك أنه لا يوجد علم إنساني‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نهائي أو كامل أو حتى قريب من الكمال \"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء\" الشيء‬ ‫هذا الذي نعلمه لامتناهي الصغر‪.‬‬ ‫علوم الملة محرفة إذن بمعنيين‪:‬‬ ‫• أولا لأنها تركت ما أمرت به فصلت ‪ 53‬وانشغلت بما نهت عنه آل عمران ‪7‬‬ ‫• وثانيا لأنها توهمت أن علمها مطابق كما ورثت ذلك عن الفلاسفة وليس اجتهادا ذا‬ ‫تاريخية وتطور بحسب تجويد العلوم المساعدة أو علوم الآلة التي بقيت لغوية حتى بثورة‬ ‫الجرجاني‪.‬‬ ‫وأبشع صورة عن هذا الانحراف عنتريات الرازي في ما يزعم غاية التعالم في التفسير‪.‬‬ ‫ولو كان القرآن بحاجة لذلك لما كان رسالة للإنسان عامة سواء كان عالما باللغة مثله أو جاهلا‬ ‫بها مثلي أو حتى أعجمي يكفي أن تنقل له المعاني العامة التي كلف الرسول بتبليغها‬ ‫وتعليمها للجاهليين جهلا وجهالة‪.‬‬ ‫ولذلك فالعلوم الغائية الخمسة (التفسير والعلوم الفرعية المبنية عليه أي العلمان‬ ‫النظريان كلاما وفلسفة والعلمان العمليان فقها وتصوفا) لم تتجاوز الثرثرة حول ما نهت‬ ‫عنه آل عمران ‪ 7‬والاهمال الكامل لما أمرت به فصلت ‪ :53‬تأويل المتشابه واغفال آيات الله‬ ‫في الآفاق والأنفس لتبين حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫وكل ذلك بالتشقيق اللفظي لنص القرآن تشقيقا غايته استخراج هذه العلوم المزعومة‬ ‫منه‪ .‬ودليل عدم الصدق حتى في هذا هو أنهم في الفقه مثلا اضطروا إلى فقه وضعي‬ ‫متنكر إما باعتماد القياس أو الاستحسان إلى أن وصلوا إلى حيلة الحيل كلها أعني المقاصد‬ ‫إما لسد الذرائع أو لفتحها حسب رغبة المستبدين‪.‬‬ ‫توهموا أن كلمات الله اللامتناهية توجد بين دفتي المصحف وأن القصد هو المعاني‬ ‫اللامتناهية لدلالات الالفاظ المتناهية والمحدودة الواردة فيه في حين أنها هي ما أعنيه‬ ‫بالسبابة التي توجه الإنسان نحو ما يحقق به وظيفتيه‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬تعمير الأرض باعتبارها مصدر حياته وعلة بقائه‪.‬‬ ‫‪ .2‬الاستخلاف بما جهز به للتعامل مع العالم بقيم الإسلام‪.‬‬ ‫ولست أول من أدرك سفاسف الفقهاء والمتكلمين‪ .‬فإحياء علوم الدين كان أول محاولة‬ ‫لبيانها وخاصة في الفقه الذي صار مهنة من ليس له مهنة وفي الكلام الذي يتحول إلى مرض‬ ‫نفسي يشبه ما نرى عليه المعلقين الصحفيين العرب الذين يعتبرون جهلهم وصلفهم المماحك‬ ‫براعة جدلية وهي غباوة ونذالة خلقية‪ .‬والغزالي قال أكثر‪.‬‬ ‫لكن ما يوجه إليه الله الإنسان بما يريه من آياته في الآفاق وفي الانفس هو لات ناهي‬ ‫الخلق والامر وهو ما عليه الاجتهاد والجهاد لمعرفة بعض ما يستطيع علمه منه بالبحث‬ ‫العلمي فيه وليس في تشقيق الكلام والتأويل‪ .‬والمشكل أن الفلاسفة تعاملوا مع الفلسفة‬ ‫نفس التعامل‪ :‬شرح لفظي ذروته الشروح الرشدية التي توهم بأنها علم وهي في الحقيقة‬ ‫تقليد ببغاوي لرؤية ساذجة للطبيعة وللتاريخ‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالطبيعة والتاريخ لا يمكن أن يفهما بالقيس على تكنولوجيا الهيلومورفية‬ ‫للصناعات البدائية رغم أن العكس ممكن‪ .‬فيمكن أن نعتبر التكنولوجيا فيها محاكاة لمجرى‬ ‫الظاهرات الطبيعية استنادا إلى معرفة فوانينها ثم تطبيقها في صنع ما يماثلها‪ .‬لكن تصور‬ ‫الطبيعة صانعة ليس شيئا آخر غير اعتبار الإنسان مقياس كل شيء‪.‬‬ ‫‪ .2‬والمحرك الأول لعالم ما فوق القمر الذي يحرك ما دونه لا يمكن أن يكون‬ ‫\"نرجسي\" لا يخرج من ذاته اعجابا بجمالها ثم تتوالد عنه العقول المحركة للأفلاك حتى لو‬ ‫طورها أبن رشد فاعتبر النموذج السياسي تفسيرا بديلا من الفيض الأفلاطوني المحدث‬ ‫للعقول المحركة‪.‬‬ ‫ولا يظنن أحد أن فلاسفة عصرنا بين الحداثيين العرب أفضل من فلاسفتنا في القرون‬ ‫الوسطى‪ .‬الفرق الوحيد أن أرسطو عوضه غيره من المحدثين الغربيين وخاصة ماركس‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالنسبة لأدعياء التقدمية والاشتـراكية والقومية وهلم جرا من \"الإية\" في المصادر‬ ‫الصناعية التي هي الصناعة الوحيدة التي أفلحوا فيها طنا أنها صنع مفاهيم‪.‬‬ ‫وتجد الكثير منهم مصدقا لخرافة الفلسفة تصنع المفاهيم‪ .‬والله لو قالها أحد في القرون‬ ‫الوسطى لقبلت منه لأنها فعلا لم يكن لها إلا صنعة صنع الألفاظ ظنا أنها مفاهيم‪ .‬لكن‬ ‫المفاهيم لا يصنعها إلا العلم والفن‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالعلم يصنع مفاهيم القوانين العلمية والرؤيوية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والفن يصنع مفاهيم السنن الذوقية وخاصة الـخلقية‪.‬‬ ‫ولم يصنع فيهما مفاهيم إلا من كانوا مبدعين من العلماء والفنانين وبعضهم فهم الفلسفة‬ ‫بهذا المعنى‪ .‬لكن معلمي الفلسفة ليسوا فلاسفة بل هم في نسبة الرواة إلى الشعراء‪ .‬لا‬ ‫يوجد وراء ذلك غيره‪ .‬المفاهيم لا تصنع خارج معمل مضاعف هو معمل علاقة الإنسان‬ ‫بالطبيعة ومعمل علاقته بالتاريخ‪ .‬ولهما وجودان‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول في الآفاق أي خارج الأنفس أو في الأعيان‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني داخل الأنفس أي في الأذهان‪.‬‬ ‫وإذا لم يوجد الوجه الأول يصبح الثاني ثرثرة وإذا لم يوجد الثاني يصبح الأول‬ ‫تقليدا بليدا تخفيه الألفاظ‪ .‬وبذلك تصبح مجالات الإبداع خمسة لا تتعداها‪ :‬أحدها هو‬ ‫الغاية وهو القدرة سواء كانت مادية في علاقة بالطبيعة مصدرا لقيام الإنسان العضوي‬ ‫ويرمز إليها الاقتصاد أو روحية في علاقة بهذه العلاقة وبالتاريخ مصدرا لقيام الإنسان‬ ‫الروحي ويرمز إليها الثقافة‪ .‬وهو إذن مجال مهمل أو ما تعلق به عقيم‪.‬‬ ‫ولا أحتاج لطويل استدلال‪ .‬فما عليه الأمة من عيش على ما تعيش عليه القبائل البدوية‬ ‫في بداية تاريخ الإنسانية أي ما تنتجه الطبيعة مباشرة وكان قديما ثمراتها الظاهرة وأصبح‬ ‫بفضل العلم الغربي مخزونات أعماقها وموادها المحولة بالعلم من قبل غيرنا لأننا ورثنا‬ ‫أرضا صارت عنية بفضل علم غيرنا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والعلاقتان بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين التاريخ علاقتان كلتاهما مضاعفة‪ :‬فردية‬ ‫وجماعية‪ .‬والعلاقة الجماعية هي الوسيط الضروري بين الطبيعة والفرد لأنه من دونها لا‬ ‫يستطيع البقاء بموجب القانون البايولوجي (التوالد) والشروط البيئية أولا (شرط‬ ‫الرعاية‪ :‬الطفل الإنساني بحاجة للأسرة مثلا أكثر من جميع الكائنات الحية الاخرى)‬ ‫والعضوية (شرط الحماية‪ :‬الفرد الإنساني من دون الجماعة لا يستطيع أن يحمي نفسه لا‬ ‫من الإنسان الآخر ولا من ا لحيوانات مثلا) ثانيا‪.‬‬ ‫وقد ورثنا تاريخا ليس لنا فيه دور لأننا نعيش بخيانته وباستعمال معالمه للسياحة وليس‬ ‫لتكون دافعا للإبداع العلمي والتقني‪ .‬صحيح أن لنا ناطحات السحاب‪ .‬لكنها لا تنطحها‬ ‫بتقنياتنا بل بمستورداتنا ومن ثم فتاريخ العمارة عندنا لا يعتبر عن علم ولا عن تقنية بل‬ ‫عن بيع الخام مقابل الجاهز للعاجز‪.‬‬ ‫وهذه الغاية القدرة المادية والقدرة الروحية لها أربعة شروط مضاعفة مثلها وهي‬ ‫المجالات الباقية‪ .‬فلها شرطان مضاعفان يؤديان دولة العلة الفاعلة وهما السياسة حكما‬ ‫ومعارضة والمعرفة طبيعية وإنسانية‪ .‬فمن دون ذلك لا يمكن أن توجد قدرة مادية ولا‬ ‫روحية في أي جماعة إنسانية حرة وليت تابعة مثلنا‪.‬‬ ‫ولها كذلك علتان غائيتان هما الرؤية والذوق‪ .‬فمن دون رؤية دينية وفلسفية ومن دون‬ ‫ذوق جمالي ووجودي لا يمكن لأي امة حرة أن يكون لها قدرة روحية أو مادية وهي إذا‬ ‫استوردت الرؤية والذوق صارت تابعة روحيا بعد التبعية المادية وتلك حالنا حاليا‪.‬‬ ‫وموضوع فكرنا هو غرقنا في الاختيار بين التبعيات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سبق فعالجت العلوم الغائية الخمسة ولن أعود إليها‪ .‬ويكفيني الكلام على الاشكالية التي‬ ‫يدور حولها الجدل والذي جعلها ترد إلى قلب أمر فصلت ‪ 53‬إلى نهي ونهي آل عمران ‪7‬‬ ‫إلى أمر ما جعلها تتحول إلى كلام دال على زيغ في القلب وابتغاء الفتنة وليست قولا في‬ ‫شروط تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫فالعلمان المتعلقان بالنظر والعقد أي الكلام والفلسفة بين أنهما لم يتجاوزا مرض القلوب‬ ‫وابتغاء الفتنة لأنهما لم يؤسسا لأي معرفة علمية تمكن من تعمير الأرض‪ .‬وأقصى ما كرراه‬ ‫شروح لفلسفة ارسطو التي بلغت الجمود قبل الإسلام بقرون ولم يكن بوسعها أن تؤسس‬ ‫لشروط تعمير الأرض‪ .‬لكن هذه الفلسفة التي تصوروها علما نهائيا (الفارابي العلم تم‬ ‫ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم) أعمتهم عن تجاوز الأموات واكتشاف الحي بنقد ينطلق من‬ ‫المبدأ القرآني \"التصديق والهيمنة\"‪.‬‬ ‫والعلمان المتعلقان بالعمل والشرع أي الفقه والتصوف دون العملين المتعلقين بالنظر‬ ‫والعقد تجاوزا لسطحيات الكلام في موضوعهما بسبب الاعتقاد بأن العلم الإنساني محيط‬ ‫والعمل الإنسان تام وأن الإنسان يعلم الوجود على ما هو عليه والمنشود على ما ينبغي أن‬ ‫يكون عليه بخلاف القول القرآني الصريح أن الدنيا نفسها فضلا عن علمنا بها ليست هي‬ ‫الحقيقة وقيم أعمالنا يعسر أن تكون مطابقة لما ننشده‪.‬‬ ‫وإذا جمعت هذه الانحرافات الأربعة حول الإيمان والعلم بين الكلام والفلسفة وحول‬ ‫القانون والأخلاق بين الفقه والتصوف اكتشفت التحريفات التي حصلت لتفسير القرآن‬ ‫الكريم بخلاف ما أمرت به فصلت ‪ 53‬وما نهت عنه آل عمران ‪ .7‬وهذا هو أصل كلامي على‬ ‫عقمها النظري والعملي في التعمير والاستخلاف‪ .‬وما سأهتم به الآن بعد هذا التذكير هو‬ ‫العلوم الآلية الخمسة وسأحاول النظر في أبعادها في الفصول الموالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬اللغة‬ ‫‪ .2‬والمنطق‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬والتاريخ‬ ‫‪ .4‬والرياضيات‬ ‫‪ .5‬وأصلها جميعا أي الوسميات (السيميوتكس أو نظرية الرمز)‪.‬‬ ‫ورغم كثرة المجلدات في اللغة والتاريخ خاصة فإنها بقيت بدائية بسبب ما وصفت في العلوم‬ ‫الغائية الخمسة‪ .‬ولنضرب مثالين ضروريين للكلام والفقه‪ .‬والمثالان هما الآن من‬ ‫ممضوغات أدعياء النقد الحديث أعني‪:‬‬ ‫‪ .1‬التأويل في علاقة باللغة والمنطق بين الفلاسفة والمتكلمين حول علاقة الإيمان والعلم‪.‬‬ ‫‪ .2‬والحديث في علاقة بالتاريخ بين الفقهاء والمتصوفة حول علاقة القانون بالأخلاق‪.‬‬ ‫وقلما استعملت علوم الملة الرياضيات والسيميوتيكس‪ .‬فالرياضيات بقيت عملية أساسا‬ ‫وليست نظرية وهو اكتفوا بالموجود‪ .‬والسيميوتيكس (الوسميات) لم تكن موجودة حتى‬ ‫عند اليونان وهو علم لم يعرف قبل القرن التاسع عشر رغم كونه ذا صلة بالمنطق‬ ‫والرياضيات‪.‬‬ ‫وكما هو معلوم فالمعركة محتدمة حاليا خاصة حول متون الحديث عامة وحول البخاري‬ ‫خاصة‪ .‬والمسألة تعنيني بخصوص المنهجية وبدائية الآلة في الصفين‪ .‬ومشكل الحديث‬ ‫مضاعف‪ :‬فهو أولا في منهجية تدوينه وهي مسألة تتعلق بعلم الآلة أو التاريخ ومشكل في‬ ‫نقده الحالي وهي أيضا مسألة تتعلق بعلم الآلة التاريخ لكنها تتخفى بقضية التعارض مع‬ ‫القرآن لكأن النقاد يؤمنون بالقرآن ويخافون عليه كما يزعم القرآنيون‪ .‬وما كان ليحصل‬ ‫لو كانت الآلة سليمة‪ .‬فالتاريخ له دائما مصدران لا ثالث لهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬الشيء نفسه في تعينه المادي مثل الآثار وما يكتب عليها‪.‬‬ ‫‪ .2‬ثم الشهادات التي تصاحبها أو تكون بديلا منها إذا غابت‪.‬‬ ‫ودائما في يكون الاعتماد في الأولى على آلة غير تاريخية تعود إلى العلوم الطبيعية وهي‬ ‫فنيات التحديد الزماني بالعلامات الطبيعية مثل الكربون‪ .‬وليست طريقة جديدة‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالتاريخ بالمادة الحاملة وحتى بعلامات في كيان الشيء (مثل العمر بأسنان الحيوان) معلوم‬ ‫قبل الكربون‪.‬‬ ‫والثانية تعتمد أيضا منهجا تاريخيا فرعيا هو معرفة الشهود الذين يعتمد عليهم وخاصة‬ ‫في حالة انعدام الأثر المادي المعتمد‪ .‬وهذه الوسائل الاربع استعملت في تدوين المصحف ما‬ ‫يعني أن المسلمين الاول كانوا دارين بالآلات المنهجية السليمة‪ .‬فالقرآن كان أثرا حيا قائما‬ ‫في صدور الرجال وفي الممارسات‪.‬‬ ‫والقرآن كان موجودا في آثار مكتوبة لكنها غير مرتبة أو غير ثابتة الترتيب عند الجميع‬ ‫وإلا لما اضطروا للترتيب الموحد في المصحف العثماني‪ .‬فاعتمدوا الشرط الرابع وهو‬ ‫الرجال من ناحيتين‪ :‬الكفاء العلمية أي إنهم أفضل الحفظة والأمانة الخلقية أي إن‬ ‫شهادتهم غير قابلة للقدح‪ .‬وطبقوا شرط الشهادة‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يكون القرآن يتكلم على الكتب التي في اليهودية والمسيحية ويعلم أنها مكتوبة‬ ‫ومحفوظة وأن يكون القرآن يطلب كتابة أتفه معاملة اقتصادية ثم يبقى القرآن في الصدور‬ ‫وليس مكتوبا إلى عهد عمر‪ .‬من يصدق هذه القصة؟ ومن يصدقها ونحن نعلم أن للقرآن‬ ‫عدة كتبة يلمي عليهم الرسول ما يتلقاه من الوحي؟‬ ‫ومن يصدق خرافة العنز التي أكلت الأوراق؟‬ ‫وهي كذبة مضحكة‪ :‬لأن العرب حينها لم يعرفوا الأوراق كانت الكتابة إما على الجلود أو‬ ‫على العظام‪ .‬فهل العنز تأكلهما؟‬ ‫هذا من تندر اعداء القرآن ممن كانوا يهزؤون ببداوة العرب‪ .‬ولا أعجب أن تكون من‬ ‫خرافات الباطنية‪ .‬ثم إن القرآن هو بالتعقيد الذي يستحيل أن يحفظ بصورة نسقية تحافظ‬ ‫على تعقيداته وما يبدو فيه من تكرار وجمع بين المكي والمدني من دون وثائق كتابية خاصة‬ ‫وهذا الترتيب بخلاف ما يتوهم الكثير له نسق عميق من يغوص إليه يكتشف أنه ليس عدم‬ ‫نظام بل هو نظام خفي بديع الأسرار‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وشرط الشهادة هو شهادة عدلين لهما هذين الصفتين‪ :‬الكفاء المعرفية والجدارة الخلقية‪.‬‬ ‫ومشكل الحديث يتعلق بهذه الشروط الأربعة إذا لم نعتمد على التعريف الدقيق للحديث‬ ‫ما هو‪ .‬فلا أظن أحدا يشك في أن المقصود بالحديث ما كان تعليما للقرآن‪ .‬والرسول في‬ ‫حياته يميز بينه وبين ما ليس منه‪.‬‬ ‫فيكون ما اعتبره الرسول منه له أصل يحتكم إليه وهو القرآن الذي دون بالطريقة التي‬ ‫وصفنا أي إن تدوينه توفرت فيه الشروط المنهجية الاربعة ومن ثم فيمكن اعتباره أصلا‬ ‫لنقد ما ينسب إلى الرسول من أحاديث متعلقة بمعاني القرآن كما علمها الرسول‪ .‬والباقي‬ ‫اجتهادات تراجع فيها هو نفسه مثل التأبير‪.‬‬ ‫ويمكن لهذا التقسيم الأول أن يتعلق بالكثير من الأحاديث التي ليس لها منزلة النوع‬ ‫الأول والتي تبقى معتبرة لأن قائلها وإن كان مجتهدا ليس كأي مجتهد‪ .‬ويبقى الحكم‬ ‫النهائي هو الاحتكام إلى ما لا يتنافى مع القرآن أحكامه وأخلاقه‪ .‬لكنها مع ذلك ليس لها‬ ‫الطابع الإلزامي الذي للنوع الأول لأن المرجعية القرآنية ليست صريحة فيها صراحة أي‬ ‫موضوع في تعليمه من أفضل معلم‪.‬‬ ‫والسؤال الآن‪ :‬هل جماع الحديث اعتمدوا الطريقة التي اعتمدها مدونو القرآن‬ ‫وموحدو متنه بالشروط التي وصفت؟‬ ‫طبعا لا لأن كل الشروط غائبة وخاصة إذا لم يقع التمييز الذي أشرنا إليها قبل قليل‪.‬‬ ‫والإشكال هو كيف يمكن تحقيق ذلك رغم شبه الاستحالة لأن تدوين الحديث تأخر كثيرا‬ ‫لعدم كتابته بداية حتى وإن وجد حتما بعض الأحاديث المدونة وهي قليلة إذا اعتمدنا‬ ‫على مستعلميها قبل حصر تدوينها‪.‬‬ ‫وكتابته المتأخرة لم تكن عصيانا للأمر بعدم كتابته بل لأن كتابته لم تعد ضارة بالقرآن‬ ‫(الخلط بين النص الإلهي وتعليمه النبوي) وعدم كتابته صارت ضارة بالتعليم وبالنص‬ ‫لكثرة الوضع والانتحال فكان لا بد من التدوين لسد الباب على المزيد منه مع تصفية ما‬ ‫حصل فيه بقدر الإمكان‪ :‬وهذا هو موضوعنا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأي معرفة تبدأ بفرضيات تتأسس عليها وتمتحنها بنتائجها بحيث إن دليل الفرضيات تال‬ ‫وليس سابقا عليها‪ :‬إذا وافقت ما يظن حقيقة الموضوع قبلت واعتمدت فعلا وإلا فهي بحاجة‬ ‫إلى إعادة النظر فيها‪ .‬ونحن هنا بصدد الفرض وليس التقرير‪.‬‬ ‫‪ .1‬فرضية أولى ما معيار للفصل بين التعليم النبوي والرأي النبوي‪ .‬فهذا المعيار يمكن من‬ ‫اعتبار القرآن موضوع التعليم هو الأصل الذي تقاس به الأحاديث وما عدى التعليم اجتهاد‬ ‫إنساني عادي يحتكم فيه إلى العادة‪.‬‬ ‫‪ .2‬فرضية ثانية وهي الأصعب قبولا لكنها حتمية إذا أردنا أن نوفر البديل الوحيد الممكن‬ ‫من الشروط الأربعة في المنهج التاريخي‪ :‬الشهادة بشرطيها‪ .‬وقد حاولت أن أشير إليهما في‬ ‫الفصول السابقة‪.‬‬ ‫فالشهادة إما عيانية أو مروية عمن عاين أو عمن روى عمن عاين‪ .‬وكل ما عدى ذلك‬ ‫ليس شهادة موثوقة لأنه لا يوجد فيها شرط العيان أو شهادة العيان‪ .‬والمعاين لا بد أن‬ ‫يكون حاصلا على الشرطين المعرفي والخلقي لتكون شهادته شهادة عدل‪ .‬ولضمان \"المشترك‬ ‫الذاتي ‪ \"Intersubjectif‬وعدم الاقتصار على الذاتية لا بد من وجود شاهدين بهذه‬ ‫الصفات غير متواطئين في الحالة الأولى وأربعة في الحالة الثانية وثمانية في الحالة الثالثة‪.‬‬ ‫لماذا هذه المتوالية الرياضية؟ لسبب بسيط‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالحالة شهادة عيان‪.‬‬ ‫‪ .2‬والحالة الثانية أخذ عن شاهد عيان‪.‬‬ ‫‪ .3‬والحالية الأخيرة رواية عن هذا الأخير راوية خالص‪.‬‬ ‫ولما كانت الأولى يشترط القرآن فيها شاهدين فإن الثانية ينبغي أن يكون فيها شاهدان‬ ‫لكل واحد من الشاهدين‪ .‬وفي الثالثة لا بد أن يوجد شاهدان لكل واحد من الشهود‬ ‫الأربعة‪ .‬وينبغي أن تتواصل المتوالية الهندسية إلى يوم تدوين الحديث‪ .‬ففي كل جيل‬ ‫يتضاعف عدد الشهود بهذه المتوالية الهندسية‪ :‬وهذا لن يبقي الكثير من الأحاديث التي‬ ‫ليس لها ما اشترطناه من أدلة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬وأصل هذه الشهادات شهادة القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪ .5‬الذي يدلنا على محل طلب ما يبين أن شهادته هي الحق (الآفاق والأنفس)‪ :‬ومعنى‬ ‫ذلك أن كل ما يؤيده مجرى العادات في الآفاق والأنفس وأخلاق الرسول كما حددها القرآن‬ ‫خاصة فلا ينسب إليه ما ينافيهما‪.‬‬ ‫وبذلك فستزول العنعنات عن الأفراد حتى لو كانوا ممن عايشوا الرسول‪ .‬فالشهادة لها‬ ‫حكم ديني ولكنه كذلك حكم فلسفي‪ :‬وهو عدم الاقتصار على الفرد لأن الكلام عندئذ‬ ‫يكون ذاتيا ولا بد من الخروج من الذاتية بما يتفق عليه ذاتان ليكون \"المشترك الـذاتي\"‬ ‫وهو الوحيد حتى في العلوم الأمتن مع تخير الذاتين الشاهدتين بالصفتين العلمية والخلقية‪.‬‬ ‫وفي ذلك لا استثناء حتى لو كانت عائشة أم المؤمنين‪ .‬وبالنسبة إلى هذا المعيار يبقى المعيار‬ ‫الأصلي فاعلا وهو‪ :‬إذا كان الحديث متعلقا بتعليم القرآن فلا بد من شهادة القرآن بوصفه‬ ‫موضوع الحديث الذي يعلمه‪ .‬وبهذا المعنى فإن متن الحديث يصبح يسير التحديد وقليل‬ ‫المضمون المشكوك فيه‪.‬‬ ‫ولا تزعجني كثرة الأحاديث‪ .‬ذلك أني لا اعتبر موضوعا كل ما يمكن أن يكون من التعليم‬ ‫الرسولي للقرآن إذا كان في القرآن ما يؤيده إذ عندئذ ينعكس الدليل‪ :‬فعلى من ينفي‬ ‫نسبته إلى الرسول أن يثبت نفيه وليس علي أن أثبت نسبته إلى الرسول لأنه من باب‬ ‫الممكن ما دام لا يتنافى مع القرآن‪ .‬فيكون عدم بيان امتناعه كافيا‪.‬‬ ‫ويمكن كذلك أن تصنف الأحاديث بحسب مجالات التعليم النبوي فتصبح سهلة الرد إلى‬ ‫مجموعات قليلة يمكن اعتبارها عين علوم الملة الخمسة أي‪ :‬صنف أحاديث التفسير وصنفا‬ ‫أحاديث العلمين النظريين حول الإيمان والعلم وصنفا أحاديث العلمين العليين حول القانون‬ ‫والأخلاق‪ .‬ويمكن أن نضاعف هذه الأصناف بأن نجعل ما يقابل التفسير صنف الكلام في‬ ‫الآفاق والأنفس ثم صنفان يقابلان الطبيعة وما بعدها والتاريخ وما بعده‪ .‬فتكون عشرة‬ ‫أصناف لا تعدوها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وضمن هذه الأصناف توجد تماثلات بين الأحاديث وتشاجنات قابلة للحصر النسقي الذي‬ ‫يجعلنا أمام شبكة من الخانات التي يمكن ملؤها واكتشاف الفراغات فيها فنتمكن من ملئها‬ ‫إما بما يتناسق معها من خلال اكتشاف قوانين تواليها أو يناظرها الطردي أو العكس كما‬ ‫حصل مثلا في تصنف العناصر الطبيعية‪ .‬ولو كان لي اهتمام بهذا المجال لاكتشفت ذلك‬ ‫ولحسمت الأمر بصورة تلغي الكلام على الرواة من أصله‪.‬‬ ‫فالمحاولة ينبغي أن تنطلق من أساس متين وقد قدمه ابن القيم على أساس‪ .‬فالقرآن الذي‬ ‫ضبط متنه بصورة متحررة من سلاسل الروايات الطويلة وخاصة من تأخرها لأن المصحف‬ ‫العثماني لم يتأخر كثيرا والحفظة الذين كلفوا بضبطه وتوحيده نسخه كانوا من الثقات‬ ‫وطبقوا قانون الشهادة التي وضعها القرآن نفسه‪.‬‬ ‫وأدلة الرجحان كثيرة فضلا عما حاولت تصوره من بعضها‪ .‬وتكون كفاية هذه الأدلة‬ ‫متناسبة مع أدلة الرجحان‪ .‬ويمكن أن تكون بالقياس إلى ما لنا دليل على حصوله‪ .‬فتكون‬ ‫الأحاديث المؤيدة بالأدلة التي وصفنا سندا للأحاديث الراجحة‪ .‬وبذلك فطريقة تدوين‬ ‫الحديث تتغير تماما وتصبح أقرب ما يكون للمنهج التاريخي السليم بحسب توفر الشروط‬ ‫الأربعة‪.‬‬ ‫لكني أشك أن ذلك قد حصل وأشك أن ذلك سيحصل ومن ثم فالجدل حول متون الحديث‬ ‫عديم المعنى في غياب وضع المشكل في علاقته بعلم الآلة الذي يتعلق به أعني التاريخ الذي‬ ‫هو علم آلة في علوم الملة وطبعا يمكن أن يكون علما غاية إذا كان القصد التاريخ للأحداث‬ ‫في ذاتها بصرف النظر عن وظيفتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عندما اشترط شاهدين في كل مرة ما يؤدي إلى متوالية هندسية متصاعدة في عدد الشهود‬ ‫على أي حديث فليس معنى ذلك أني أشكك في الراوي ولا يعنيني كفرد بل أبحث عن شرط‬ ‫موضوعية الشهادة التي هي في كل معرفة \"المشترك الذاتي\" ولا تقبل عندما تكون ذاتية‬ ‫أعني مستندة إلى شهادة فرد مهما كان صدوقا‪.‬‬ ‫وهذا يعني أن أي حديث رواه شخص واحد عن الرسول لا يقبل‪ .‬وأي حديث رواه‬ ‫راويان عن النبي عاشا مع من روياه عن النبي لا يقبل إلا بأربعة شهود اثنان لكل واحد‬ ‫منهما وهكذا دواليك‪ .‬وبهذه الصورة يمكن الحد من الكثرة التي ليست موضوعية بمعنى‬ ‫مشتركة بين الذوات أو \"المشترك الذاتي\" هو الحد الأدنى من الاشتراكي بين الذوات شرط‬ ‫الموضوعية الممكنة إنسانيا ‪.Intersubjective‬‬ ‫وهذا مثال مما أقصده بتجاوز جمود علوم الآلة‪ .‬ولست أعني أن هذا المثال نموذجي بل‬ ‫هو أحد الاجتهادات الممكنة فضلا عن كونه يطبق شرط الموضوعية الممكنة إنسانيا‪ .‬وقد‬ ‫يرى غيري غيره مما هو أفضل منه‪ :‬المهم عدم الاقتصار على ما استعمل باعتماد معيار‬ ‫مصداقية الراوي لكأن الصادق لا ينسى ولا تختلط عليه الأمور‪ .‬وقد أشار ابن خلدون إلى‬ ‫ما يجعل المصداقية لا تكفي عندما حدد علل الخطأ في التاريخ‪.‬‬ ‫ولأمر الآن إلى مشكل المشاكل هو مشكل كلامي أعني منهج التأويل أو قضية الحقيقة‬ ‫والمجاز‪ .‬فقد سمعت مرة محاضرة لأحد الحمقى يسخر من ابن تيمية في المسألة‪ .‬وهذه‬ ‫ثورة تيمية أهملت لأن المتكلمين يريدون تجاوز آل عمران ‪ 7‬للإيهام برسوخهم في العلم‪.‬‬ ‫لكن ابن تيمية اكتشف ما يغني عن سخف المؤولين ببيان أن الأمر لا علاقة له بالحقيقة‬ ‫والمجاز والمقابلة نفسها لا معنى لها لأن اللسان كله وضعي وهو عادات استعمالية وليست‬ ‫صلة طبيعية بحدي الدال والمدلول‪.‬‬ ‫واعتمد على حجتين في السخرية مثال‪ :‬محلقين رؤوسكم وأصل ابن تيمية‪ .‬مدعيا أن ابن‬ ‫تيمية أعجمي ولا يفهم ا لعربية‪ .‬ويزعم أن محلقين رؤوسكم لا يمكن أن تفهم من دون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مجاز وأن ابن تيمية الأعجمي لا يمكن أن يفهم ذلك لأنه ليس قرشيا لكأنه هو قرشي‪.‬‬ ‫ليس هذا المهم‪ :‬فالرجل لا يستحي فيعتبر جهله حجة‪.‬‬ ‫لما يسأل نفسه‪ :‬هل توجد علاقة حقيقة بين ألفاظ أي لغة ومراجعها التي تسميها؟‬ ‫ما علاقة اللفظ بمرجعه الذي يحيل عليه ويسميه حقيقة؟‬ ‫لو كانت هذه العلاقة حقيقة لكانت علمية ولكانت من ثم كونية أي لما اختلفت اللغات في‬ ‫تسميتها لما تسميه؟‬ ‫هل توجد لغة لها علاقة حقيقة بما تحيل عليه؟‬ ‫لو قال مثلا إن المفردات لها دلالة قابلة لأن تعتبر هي الغالبة ولعلها هي الدلالة الاولى‬ ‫التي استعملت فيها ثم نقلت إلى غيرها بما بينه وبينها من وجوه شبه في المسمى مكنت من‬ ‫نقل الاسم من المسمى الأول إلى المسمى الثاني إما بالاستعارة للشبه أو بالكناية للعلاقة‬ ‫السببية مثلا إلخ‪...‬‬ ‫فيكون معنى الحقيقة الاستعمال الغالب أو الأول ويكون معنى المجاز المعنى المنقول إليه‬ ‫للتشابه بين المرجعين المشار إليهما بالاسم أو باللفظ‪ .‬لكن في الحالتين لا معنى لحقيقة ولا‬ ‫لمجاز بل المفروض القول عادات الاستعمال ويكون في هذه الحالة الاستعمال والسياق هو‬ ‫المحدد لذه العادات في النقل‪.‬‬ ‫وهو نقل العبارة كما يفيد ذلك معنى التعبير أي العبور وذلك من دلالات مجاز أي جاز‬ ‫من مكان إلى مكان والألمان يسمون ذلك إما التجاوز الواضع أوبرزاتسونج ‪Übersetzung‬‬ ‫أو التجاوز الناقل ابرتراجونج ‪ .Übertragung‬وهو المعنى الأسلم أي إن التشابه بين‬ ‫المدلول يمكن من الانتقال بينهما في دلالة الدال وهذه ليست بينهما مباشرة‪.‬‬ ‫إنما هي تناظر بين نظام الأدلة ونظام المدلولات فتكون الدلالة ذات صلة بمنزلة الدال‬ ‫في منظومة الدوال وتناظرها مع منزلة المدلول في منظومة المدلولات‪ .‬وهو ما ينفي كل‬ ‫علاقة مباشرة بين اللفظ والمعنى‪ .‬العلاقة تمر حتما بهذا التناظر بين النظامين المحددين‬ ‫لمنزلة الدال ومنزلة مدلوله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فإذا استعملت \"أسد\" استعاريا لتسمية الشجاع بين البشر فالدلالة ليست مباشرة بين الأسد‬ ‫والإنسان بل هي بين منزلة الأسد في عالم الحيوان ومنزلة هذا الأنسان في عالم البشر من‬ ‫حيث تصنيفهما بمعيار الشجاعة أو التناظر بين العالمين من حيث القوة والسلطة‪ .‬ومعيار‬ ‫الشجاعة هو الذي يجعل نقل اسم الأسد إلى البطل الفلاني بالاستعارة ممكنا‪ .‬ولا معنى‬ ‫لـحقيقة أو مجاز فكلاهما مواضعة لوصف تناظر بين علاقتين في عالمين مفترضين قابلين‬ ‫للمناظرة دون أن نعلم طبيعة العالمين‪.‬‬ ‫والشجاعة ليست الأسد بل هي نوع من سلوكه‪ .‬فيكون التناظر ليس بين الأسد والبطل‬ ‫بل بين سلوكين بهما تعرف الشجاعة والبطولة‪ .‬وهذا المعنى هو قاعدة التأويل التي تجعلنا‬ ‫نفهم قابلية نقل اسم الأسد إلى البطل فنسمي البطل أسدا‪ .‬وكل ذلك لا يكون إلا بين ما‬ ‫يقبل المقارنة من حيث وحدة الطبيعة‪.‬‬ ‫والمشكل هو الانتقال من الطبائع القابلة للمقارنة من حيث التناظر بين المنظومتين‬ ‫الرامزة والمرموزة إلى الطبائع التي لا تقبله كما في حالة الانتقال من الكلام على الإنسان‬ ‫إلى الكلام على الله‪ .‬فهنا لا يمكن أن يوجد وجه شبه بين الذاتين للاستعارة أو بين افعالهما‬ ‫للكناية لا حقيقة ولا مجازا‪.‬‬ ‫ولما كانت لغة القرآن كلها تشبيهية مع نفس المماثلة فإن أي عاقل ينبغي أن يستنتج ما‬ ‫استنتجه ابن تيمية أن اللغة لا تعتمد على المقابلة بين حقيقة ومجاز بل هي تعتمد على‬ ‫استعمالات تجيزها عادات كل لغة في تنظيمها للمدلولات وللدوال وما تحدثه من تناظر بين‬ ‫المنظومتين فيكون الأمر تناظريا‪.‬‬ ‫والأمر التناظري عادات استعمالية وليس حقيقة ولا مجاز‪ .‬فعندما يقول القرآن عن‬ ‫الجدار يريد أن ينقض فلا يمكن القول إن الإرادة حقيقة عند كلامنا على الإنسان ومجاز‬ ‫عند كلامنا عن الجدار بل العلة هي أن عادات الاستعمال التناظري بين المدلولات والدوال‬ ‫تسمح بذلك ولا علاقة للأمر بالحقيقة والمجاز‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولكل لغة من لغات الإنسان هذه الخاصية التناظرية‪ .‬رغم أن نوع التناظر ليس واحدا‪.‬‬ ‫كل اللغات لها عادات استعمالية للتناظر لكن هذه العادات الاستعمالية مختلفة من لغة إلى‬ ‫لغة‪ .‬القانون واحد وتعيناته مختلفة‪ .‬ومثله قانون الوراثة العضوية واحد لكن الالوان‬ ‫والأبدان والحجوم مختلفة بين البشر‪.‬‬ ‫المشكل هو في العبارة وليس في ما بين حديثها من وجوه شبه حقيقي أو مجازي‪ .‬لا وجود‬ ‫لوجوه شبه بين الله والإنسان‪ .‬لكن العبارة عما بينهما من علاقة تقتضي أن تكون هذه‬ ‫العلاقة لا تقبل للقول إما بما يقال على الإنسان مع نفس التماثل‪ :‬التناظر في مقولية‬ ‫العلاقة بين طرفين وليس في طبيعة طرفي العلاقة‪.‬‬ ‫وكنت قد ذكرت في محاولة سابقة أن الأمي الذي يجهل المعاني الرياضية يستعملها في‬ ‫حياته اليومية‪ .‬أخذت مثال العجوز التي تعرف كم عندما من مال في صندوقها دون علم‬ ‫بالحساب‪ .‬فهي تناظر بين حبات من سبحتها والأوراق المالية التي فيه‪ .‬فتعلم كم عندما رغم‬ ‫أن حبات السحبة لا تشبه الأوراق المالية‪.‬‬ ‫ورغم جهلها بالرياضيات فهي قد استعملت علاقة التناظر بين منظومتين هما حبات السبحة‬ ‫وأوراق المال من حيث المقدار‪ .‬ما يعنيه هو \"من حيث المقدار\" وهو أساس التناظر وهو مغن‬ ‫عن حقيقة ومجاز بين الطرفين أي بين حبات السبحة وأوراق المال في صندوق العجوز‪ .‬فما‬ ‫يفيده التناظر هو ما تطلبه أي الكم دون أن يكون بين الشيئيين الذي استمد منهما التناظر‬ ‫الكمي محدد لطبيعتهما‪.‬‬ ‫ولنأخذ مثالا أوضح من ذلك‪ :‬فعندما جعل الناس حركات الظل مقياسا للوقت لأنه علاقة‬ ‫بين حركات الأرض ‪-‬وكانوا يعتقدون حركات الشمس‪-‬حول الشمس وأي حاجز للضوء‬ ‫ينعكس ظله في المكان فيصبح قيس المقدار المكاني للظل مقدارا لقيس الزمان هل معنى ذلك‬ ‫أن الزمان يشارك الظل في الطبيعة خاصة والظل لا طبيعة له لأنه علاقة بين بين علاقتين‬ ‫(بين حركتين وبين انعكاس على الأرض وعلى ما يدركه الإنسان من الزمان الذي هو في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الحقيقة ما يعيه من مدة حياته ويعممه على الموجودات الأخرى فيموضعه ولو عكسنا‬ ‫فاعترناه يستبطنه لقلنا إنه يذوته) وليس شيئا ذا كيان فعلي؟‬ ‫وهذه العلاقة الكمية هي مطلوب القائم بالمناظرة وليست محددة لمـنزلة الأمرين المنظر‬ ‫بينهما منزلتهما الوجودية بل هي تتحدد بمنزلتهما في منظومتين مطلقة الاختلاف الكيفي‬ ‫وقاعدة التأويل التناظري يضعها هدف المستعمل للعلاقة التناظرية‪ .‬وكل إنسانية تخضع‬ ‫لهذا المبدأ ولغة القرآن التي هي لغة طبيعية وليس صناعية والتي تهدف إلى أن تبلغ رسالة‬ ‫تكون مفهومة من المرسل إليهم هي من هذا النوع‪.‬‬ ‫ولنا عدة أمثلة فيها شيء من هذا التنظير بهدف تحديد تناظر كمي كما يحصل دائما في‬ ‫كل قيس‪ :‬وهو أصل كل عملة وكل كلمة‪ .‬فالعملة تنظير قياسي بين أي شيء يتواضع الناس‬ ‫على جعله عملة تبادل والقيم التي بين البضاعة والخدمات في التبادل بين البشر‪ .‬والمثال‬ ‫الذي أقصده هنا من نفس الطبيعة استعملها القرآن حيث جعل الأرض أساسا لوحدات قيس‬ ‫العوالم الأخرى‪ :‬عندما يقول القرآن إن اليوم الذي يعرج فيه الروح يساوي خمسين ألف‬ ‫سنة مما تعدون يعني أنه اعتمد التناظر بين عالمين وقاس يوم أحدهما بيوم الثاني فجعل‬ ‫حركة الارض وحدة قيس دون أن يتجاوز القياس الكمي فيحدد تماثلا بين الأرض وعالم‬ ‫الروح‪.‬‬ ‫ويمكن القول إن الكلام على الله في القرآن وحدة قيسه الكلام على الإنسان‪ :‬فيكون‬ ‫الإنسان وحدة قيس بين الذاتين في الخطاب وليس في الوجود دون أن نعلم طبيعة المجال‬ ‫المقيس وإن كان يمكن اعتباره «الحرية» ذروة لمقومات الحي المدرك باعتبارها شرط‬ ‫الإرادة والعلم والعلم والحياة والوجود مقومات للإنسان منها نزر يعيه في كيانه‪.‬‬ ‫وهذا لا يعني أن هذا التناظر التعبيري يفيد مماثلة بين حدي العبارة التناظرية (الله‬ ‫والإنسان) تتجاوز هذا المعنى أي ما يعتبره الإنسان من المقومات التي يدرك فضلها ويدرك‬ ‫نقصه فيا‪ .‬فلا الإنسان يماثل الله ولا الله يماثل الإنسان‪ .‬ولا معنى لتخريف المنزهين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا معنى لتخريف المشبهين‪ .‬وحتى المفوضين فاختلافهم احترازي لكنه ليس مؤسس على‬ ‫فهم المعضلة‪ .‬فالقضية هي تناظر في العلاقة من المدخلين‪.‬‬ ‫فلا يمكن لله أن يرسل رسالة إلى الإنسان بلغة لا يفهمها الإنسان فيخاطبه بما يمكن أن‬ ‫تكون عليه لغة الله لو كان لله لغة‪ .‬ولا يمكن للإنسان أن يخاطب الله بغير لغته لأنه لا‬ ‫يعلم لغة الله ماهي بل ويعتقد أن الله يسمع لكل مخاطب أيا كانت لغته‪ .‬ومن ثم فالأمر‬ ‫كله عادات استعمالية بحسب اللغات‪.‬‬ ‫وهذه العادات الاستعمالية هي ما يمكن تسميته نقلة من مدلول إلى مدلول بتبادل المنازل‬ ‫في منظومة المدلولات ويتبعه نفس النقلة في منزلة الدوال في منظومتها ما يعني أن معنى‬ ‫المعنى أمر من هذا الجنس وليس مؤسسا للمجاز في مقابل الحقيقة كما يزعم المخرفون بهذه‬ ‫المقابلة التي ينفيها ابن تيمية‪.‬‬ ‫وسآخذ أبسط مثال‪ :‬فكيف نعبر عن التردد بمعنى المعنى؟ نرسم شخصا يقدم رجلا ويؤخر‬ ‫أخرى‪ .‬فهذا رسم وله المعنى المرسوم‪ .‬فكيف ننقله إلى معنى المعنى وهو التردد؟‬ ‫سيقول اصحاب المقابلة حقيقة مجاز إن الرسم يقدم رجلا ويؤخر أخرى حقيقة وهو المعنى‬ ‫والتردد مجاز وهو معنى المعنى‪.‬‬ ‫والأمر لا علاقة له لا بالحقيقة ولا بالمجاز بل بترجمة بين نوعين من العبارة‪ :‬واحدة‬ ‫راسمة لفعل والثانية مسمية لفعل‪ .‬والتناظر هو بين العبارة الراسمة والمسمية‪ .‬فعل‬ ‫التردد قابل للرسم ليس بالضرورة بتقديم رجل وتأخير أخرى بل يمكن أن يكون بتقديم‬ ‫يد وتأخير أخرى مثلا‪ .‬هي إذن عادة استعمالية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فإذا اعتبرنا كلام الله عن نفسه بلغة القرآن كلاما اختار العادات الاستعمالية في لغة‬ ‫المرسل إليه لمخاطبته بما يريد تذكيره به فإن فعل التذكير هو السبابة التي تشير إلى‬ ‫المذكر به‪ .‬وكل تأويل لفعل التذكير يعين المشار إليها به ليكون مادة أفعال الإنسان التي‬ ‫عليه القيام بها بمقتضى ما ذكر به‪.‬‬ ‫وهذا هو مجال التحريف في العلوم الغائية الخمسة‪ .‬ولم يكن بالوسع تجاوز هذا التحريف‬ ‫من دون إعادة النظر في علوم الآلة‪ .‬وقد رأينا إعادة النظر في التاريخ وفي اللسان‪ .‬والآن‬ ‫فلننظر في علوم آلة العلوم الفلسفة خاصة لأن الأوليين هما علوم آلة العلوم الدينية‪ :‬المنطق‬ ‫والرياضيات مجال ابن تيمية‪.‬‬ ‫فالقرآن حدد‪ :‬التذكير فأشار إلى أن المطلوب من الإنسان موضوع تكليفه هو‪:‬‬ ‫‪ .1‬تعمير الأرض‪.‬‬ ‫‪ .2‬بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫وإذن فتعمير الأرض يعتبر شرط انجاز التكليف سياسيا (التربية للتكوين العلمي‬ ‫والقيمي والحكم بتنظيم عملية بالتبادل الاقتصادي ثمرة العلاقة بالقوانين الطبيعية‬ ‫والتواصل الثقافي ثمرة العلاقة بالسنن التاريخية) وقيم الاستخلاف شرط إنجازه خلقيا‬ ‫وذوقيا‪ .‬والمشار إليه هو فعل المعمر وفعل الخليفة وموضوع التعمير وموضوع الخلافة وما‬ ‫جهز به الإنسان للتعمير من نظر وعقد والخلافة من عمل وشرع‪ .‬وذلك هو موضوع‬ ‫الامتحان الذي وضع أمامه الإنسان في فرصته الثانية بعد خروجه من الجنة‪.‬‬ ‫وهذه المعطيات هي مسلمات البداية ولا معنى لمحاولة قراءتها بصورة أخرى غير التي‬ ‫تنتسب بها إلى عالم الشهادة‪ .‬فما وراء عالم الشهادة هو القصد بالغيب المحجوب وهو‬ ‫موضوع إيمان وليس موضوع علم‪ .‬وكل طلب لما وراء عالم الشهادة الذي هو موضوع إيمان‪-‬‬ ‫خوض في المتشابه الذي تأويله زيغ قلوب وابتغاء فتنة‪-‬يعني ترك المأمور به (فصلت ‪)53‬‬ ‫والانشغال بالمنهي عنه (آل عمران‪.)7‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما أن أذكر اسم ابن تيمية حتى يناصبني العداء متهموه بكونه وهابيا دون علم بأن‬ ‫الوهابية لا علاقة لها به ولا يمكن أن تكون ذات مستوى يدرك حقيقة ما قدمه الرجل رغم‬ ‫أن منجزه ظل صيحة في واد مثله مثل ابن خلدون من بعده‪ .‬لكني لا أولي اهتماما لسخافات‬ ‫سلفيي الحداثة عند نخبنا الدونكيشوتية‪.‬‬ ‫كيف أزعم أن المنطق والرياضيات كان يمكن أن تحدث فيهما وبهما ثورة غير مسبوقة لو‬ ‫سمع لابن تيمية وفهم ما كان يردده سلبا وإيجابا إزاءهما‪ .‬وسأبدأ بالسلب قبل الوصول إلى‬ ‫الإيجاب الذي قاله في حقهما‪ .‬فسلبا يكثر الناس الكلام على نقده المنطق‪ .‬وهو لم ينقده‬ ‫بل ما ترتب عليه في نظرية العلم‪.‬‬ ‫ثم بعد بيان ما ترتب عليه في نظرية العلم عاد إليه كمنطق ليبين كيف يمكن أعادة‬ ‫تأسيسه بصورة أعم بعد تحريره من نظرية العلم التي ترتبت عليه والتي هي في الحقيقة‬ ‫أصله الخاطئ الذي جعله يخلط بين كونه حلا من بين الحلول لنسقية القول من حيث هو‬ ‫وظنه مناظر النسقية موضوع القول كموضوع علم‪.‬‬ ‫وبعبارة وجيزة يفهمها بيسر من له حتى مبادئ عامة حول فلسفة أرسطو‪ :‬المنطق في‬ ‫التحليلات الأواخر فضح المنطق في التحليلات الأوائل برده إلى تأسيسه الجدلي في ما بعد‬ ‫الطبيعة‪ :‬ما يعني أن الكلام في فساده في التحليلات الأواخر يؤدي ضرورة إلى البحث في‬ ‫فساد التأسيس الجدلي في ما بعد الطبيعة‪.‬‬ ‫ووضع المشكل بهذا الشكل هو الذي مكن ابن تيمية بإنهاء فلسفة أرسطو وبداية جديدة‬ ‫تمكن من رؤية ما كان الكلام والفلسفة لا يريانه في الرؤية القرآنية لنظرية المعرفة‬ ‫ولنظرية القيمة ومن ثم اكتشاف اهمية الطابع الاجتهادي لنظرية النظر والعلم والطابع‬ ‫الجهادي لنظرية العمل والقيمة ومعنى الغيب‪.‬‬ ‫فكل المشكل في بداية التحليلات الأواخر بالنسبة إلى ابن تيمية ليس كيف نتجنب‬ ‫التسلسل المدبر والدور في التأسيس بقطع الأول دون الوقوع في الثاني فحسب كما يتصورهما‬ ‫أرسطو لقوله بالمطابقة بل كيف نراجعهما لأنهما لا يكونان مطابقين أبدا بل هما مؤقتان‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫دائما أو بلغة حديثة هما فرضيان لا غير‪ .‬ويمكن للقطع أن يتقدم أو يتأخر بحسب الحاجة‬ ‫النظرية‪ :‬وابن تيمية يعتبره متناسب مع أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬مع الغرض من النظرية التي تتحدد بما تريد الاستدلال عليه وبعلاقتها بما‬ ‫تقدم‪.‬‬ ‫‪ .2‬مع الغرض من التعليم بحسب مستوى المتعلم إذ تختار البداية بمقتضى حاجته‪.‬‬ ‫وهذا نقض تام لكل ما أسسته الميتافيزيقا الأرسطية التي تعتبر القطع مطلق ووحيد‬ ‫وتتصور الماهيات معرفة فطرية ولا يقع فيها خطأ وهو يسميها حدسا (في غاية التحليلات‬ ‫الأواخر)‪ .‬فـ\"الماهيات\" ليست حقائق الأشياء المطابقة لها بل هي مجرد أسماء صناعية‬ ‫ينبغي تغييرها بحسب الغرض المطلوب من البحث وهي دائما استقرائية وليست كلية ولا‬ ‫ضرورية ولا ذاتية كما يدعي التأسيس الميتافيزيقي‪ :‬هي اصطلاح وظيفي من اجل الغاية‬ ‫المطلوبة‪.‬‬ ‫فيكون التأسيس الميتافيزيقي للهويات ولمبادئ العقل كلها مصطلحات أو أسماء مستمدة من‬ ‫قياسين خاطئين‪ :‬قيس الوجود على التناسق اللغوي شرطا في الجدل والحوار واعتبار ما‬ ‫يدركه الإنسان من الوجود مطابقا للوجود بإطلاق وبصورة نهائية‪ .‬لكنه نسبي ولا يطابقه‬ ‫أبدا ومن ثم فهو متغير‪.‬‬ ‫وقد يصبح ثابتا إذا جعلنا العناصر التي تتحدد بينها العلاقات متغيرات أو خانات خالية‬ ‫بوصفها مقدرات ذهنية كما في المنطق والرياضيات‪ .‬وبمجرد أن نحدد قيما للمقدرات ننتقل‬ ‫من صرامة العلاقات المجردة بين المقدرات إلى إدراك الفرق بين المقدرات الذهنية والقيم‬ ‫العينية فنكتشف مشكل نظرية العلم‪.‬‬ ‫وهو مشكل مضاعف‪ :‬مدى فاعلية فرضيات الانطلاق أو كيف \"نبدع\" الفرضيات‬ ‫الانطلاقية التي تقربنا من التناظر بين نظام القول ونظام موضوع القول أو بين نظام‬ ‫الرموز التي تعبر عن الشيء ونظام الشيء الذي نفترض أنه نظامه ولا نكتشفه بمجرد‬ ‫الفرض بل تجب المعاينة والتجربة‪ .‬فنكتشف استحالة المطابقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومباشرة تسقط كل فلسفة أرسطو حتى وإن بقي المنطق الصوري الذي يعالج مقدرات‬ ‫ذهنية أو متغيرات غير محددة القيم‪ .‬فعندما تكون إذا كان كل أ ب وكان كل ج أ فإذن كل‬ ‫ج ب (كلية موجبة) فلا إشكال‪ .‬فمن أين نستمد قيم للمتغيرات ونضمن مطابقتها‪ :‬ذلك‬ ‫هو مشكل العلم عديم الكلية والذاتية والضرورة‪.‬‬ ‫وهو وهم سماه ابن خلدون وهم الكلام والفلسفة اللذين يدعيان أن الوجود يرد إلى‬ ‫الإدراك‪ .‬وابن تيميه سماه باسم آخر‪ .‬وهو أنه لا يوجد تصور كامل للمضمون المعرفي بل‬ ‫كل تصور وراءه تصور أفضل منه وأدق بحسب المناسبة مع الغرض منه ضمن النظرية التي‬ ‫هو أحد عناصر نظامها أو بنيتها‪ .‬وهذا التجويد يذهب لا متناهي لأن الإحاطة مستحيلة‪.‬‬ ‫ومن هنا لا بد من مراجعة مسلمات أرسطو حول الحد والبرهان‪.‬‬ ‫لكن لو فعلنا ذلك مع الوجود الذي يوجد في الأعيان أو الوجود الذي يختلف عما تتصوره‬ ‫عليه الأذهان فلا بد من أن تنقلب العلاقة فلا يبقى العلم كليا ولا ذاتيا للشيء ولا ضروريا‬ ‫بل هو إضافي دائما إلى فرضيات الانطلاق التي هي صنع لغة رامزة إما لما فرضنا عليه‬ ‫الشيء أو لما لنا عنه من معلومات‪.‬‬ ‫فتسقط كل الميتافيزيقا الأرسطية‪ .‬ومعها الهيلومورفية‪ .‬وتصبح الماهيات مجرد أسماء‬ ‫وليست حقائق الأشياء‪ .‬وهي مصطلحات‪-‬أو لغة صناعية تقنية‪-‬غيرها ممكن‪ .‬والعلم الكلي‬ ‫والذاتي والضروري بالمعاني التي حددها أرسطو في التحليلات الأواخر ليست حقائق بل‬ ‫مصطلحات تتحدد بحسب الحاجة وتتغير بمقتضاها‪ .‬ولايوجد شيء كلي إلا في المقدرات‬ ‫الذهنية التي هي منطق رياضي لا يعنى بمضمون وجودي خارج الأذهان أو مخالفا لما‬ ‫تفترضه عليه الأذهان‪.‬‬ ‫ويعتبر ابن تيمية أن الكليات ممكنة في المعتقدات بمعنى أن المؤمن بها يضفي عليها الطابع‬ ‫الكلي‪ .‬والفرق الوحيد بين هذين النوعين من الكلية هو الفرق بين الطابع الفرضي‬ ‫والوضعي في كليات المقدرات الذهنية والطابع العقدي والإيماني في المعتقدات الكلية‪ .‬ولا‬ ‫وجود لكليات عند الاحتكام إلى الوجود الخارجي والمعطيات التجريبية التي استقرائية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وناقصة دائما‪ .‬العلاقة بين العلم وموضوعه الخارجي مجانسة للعلاقة بين اللغة‬ ‫ومرجعياتها‪ :‬مواضعات اصطلاحية وليست حقائق ما يسمى بها‪.‬‬ ‫وإذا جمعنا الأمرين صار العلم الذي له مضمون وجودي بالضرورة فرضيا استنتاجيا‬ ‫مؤيدا بالتجربة‪ .‬وهذا لا يمكن أن يكون علما نهائيا أو مطلقا بل هو علم تاريخي بالجوهر‬ ‫ونسبي بالجوهر ومن ثم فهو دائما إضافي إلى الغاية من الفرضيات الانطلاقية المتعلقة‬ ‫بتعريف الأشياء بحسب الفرض أو الملاحظة‪.‬‬ ‫وتكون النظرية هي الجهاز الذي يعتمد صورة مستمدة من المنطق الرياضي الذي ليس‬ ‫له مضمون وجودي أو الذي يبدع مضمونه الوجودي المطابق للبنية الرياضية المنطقية ثم‬ ‫يطبق على مضمون وجودي فعلي في الأعيان لا يعلم به وحده بل بما يحصله منه من معلومات‬ ‫مستمدة من التجريب القصدي لاختبار الفرضيات‪.‬‬ ‫ومرة أخرى كان ذلك صيحة في واد‪ .‬ذلك أن فلسفة أرسطو اعتبرت كما قال عنها‬ ‫الفارابي في كتاب الحروف حقيقة نهائية وكلية وضرورية ولا بديل عنها إذ قال \"اكتمل‬ ‫العلم ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم\"‪ .‬ولا مزيد على ما يقوله ابن رشد في أرسطو حتى وإن‬ ‫لم ننكر أنه رجل عظيم حقا‪ .‬لكنه ليس معصوما‪.‬‬ ‫ولا أريد أن أطيل الكلام في ثورة ابن تيمية وابن خلدون لأني خصصت لهما الكثير من‬ ‫المحاولات‪ .‬المهم عندي الآن هو أن محاولة تطوير العلوم الآلية فشلت رغم ما فيها من ثورة‬ ‫كان يمكن أن تفتح عهدا يكون منطلقه الرؤية القرآنية التي تجعل النظر والعقد والعمل‬ ‫والشرع في خدمة التعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫ولست بحاجة للكلام على العلم الآلي الأخير‪-‬علم الوسميات أو السيميوتكس‪-‬لأنه أصل‬ ‫العلوم الآلية الأربعة التي تكلمت عليها‪ .‬فالمشكل فيه هو مشكل العلاقة بين نظام الرمز‬ ‫ونظام المرموز وفعل الرمز الذي نده في اللغة وفي التاريخ وفي المنطق وفي الرياضيات والذي‬ ‫يثبت نسبية العلم وعدم المطابقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬