Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore النصر الحتم، أمة الإسلام لا تهزم أبدا – أبو يعرب المرزوقي

النصر الحتم، أمة الإسلام لا تهزم أبدا – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-07-06 15:50:47

Description: اضطر أحيانا إلى إيراد شيء من الترجمة الذاتية في كلامي على مسائل نظرية معقدة. وذلك لصلتها بواقعات حصلت بالفعل فيما يشبه الجدل الجاري حاليا.
فهي لا تتصل بي شخيصا إلّا من خلال اتصالها بما دار من معارك حول منزلة الأمة ومصيرها في حقبة بدأت النخب تشك في مستقبلها وتنسبها لماض شبع موتا.
لما أوهمونا بضرورة العودة من فرنسا لإنشاء حلقة ثالثة باسم شهادة التعمق في البحث نظير البي ايتش دي الأمريكية، قدمت مشروع بحث حول ابن خلدون.

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫اضطر أحيانا إلى إيراد شيء من الترجمة الذاتية في كلامي على مسائل نظرية معقدة‪.‬‬ ‫وذلك لصلتها بواقعات حصلت بالفعل فيما يشبه الجدل الجاري حاليا‪.‬‬‫فهي لا تتصل بي شخيصا إ ّلا من خلال اتصالها بما دار من معارك حول منزلة الأمة‬ ‫ومصيرها في حقبة بدأت النخب تشك في مستقبلها وتنسبها لماض شبع موتا‪.‬‬‫لما أوهمونا بضرورة العودة من فرنسا لإنشاء حلقة ثالثة باسم شهادة التعمق في البحث‬ ‫نظير البي ايتش دي الأمريكية‪ ،‬قدمت مشروع بحث حول ابن خلدون‪.‬‬‫كان المشروع بالفرنسية‪ ،‬وقد ترجم القسم المقدم منه بعنوان الاجتماع النظري‬ ‫الخلدوني‪ ،‬وأشفعته لاحقا بقسم عربي بعنوان التاريخ العربي المعاصر‪.‬‬‫ذلك أن الأستاذ المشرف كان في آن رئيس قسم الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع‪،‬‬ ‫فانتظرت جوابه حول المشروع أكثر من نصف سنة‪ ،‬وتبين أنه لم يقرأه بعد‪.‬‬‫عندها ألغيت المشروع وأعلمته‪ .‬كنت أعلم بأن هذا الموقف يغلق باب التدريس في‬ ‫الجامعة‪ .‬واخترت أن أعمل مع أستاذ المنطق وهو من أوروبا الشرقية‪.‬‬‫واخترت موضوعا بعيدا عن قضايا الأمة وعلمائها وكان \"منزلة الرياضيات ودورها في‬ ‫علم أرسطو\" بالفرنسية كذلك‪ .‬فلغة الرسائل في الفلسفة كانت الفرنسية‪.‬‬‫وكان في ذلك الخير العميم حتى وإن أخرني أكثر من خمس سنوات للالتحاق بالجامعة في‬ ‫خطة مساعد‪ .‬ما العلاقة بالحاضر‪\" :‬التاريخ العربي المعاصر\"؟‬‫ذلك أني واثق من أن الأستاذ الذي لا أزايد عليه في إخلاصه للأمة‪ ،‬بل هو من الأساتذة‬ ‫المعروفين حتى بالالتزام الديني‪ ،‬نادر في مناخ نخبوي معلمن‪.‬‬‫لكنه كان ذا حس سياسي بما يعارض الانتساب للنظام‪ .‬فـ\"رائحة\" رفض هذا المناخ بموقف‬ ‫نظري وعلمي (مقاومة الحديث بالأحدث) قد يضر بمزايا النظام‪.‬‬ ‫‪81‬‬

‫وهنا أصل إلى بيت القصيد‪ :‬فقد ظهرت دلالة الموقف من \"الاجتماع النظري الخلدوني‬ ‫والتاريخ العربي المعاصر\" بمناسبة ما قلته عن مستقبل الأمة‪.‬‬‫شاركت في ندوة أعدها قسم العربية في الجامعة بعد ذلك بعقد‪ ،‬وحاولت فيها بيان منزلة‬ ‫الامة في التاريخ المعاصر وما يمكن توقعه دورا لها في مقبله‪.‬‬‫لم أدع أن الأمة ستقود العالم بدور فاعل‪ ،‬بل قلت إن الأمة سيكون دورها مركز العالم‬ ‫على الأقل بدور منفعل في البداية وسندي الثقل المادي والروحي‪.‬‬‫وكان ذلك في الحقيقة وإن بصورة ضمنية محاولة لدحض نظرية هيجل المضاعفة‪ :‬نهاية‬ ‫التاريخ وخروج الإسلام منه‪ .‬وأذكر سخرية بعض المتعاربين من الفرضية‪.‬‬‫ما أريد بيانه الآن هو لماذا اعتبر التاريخ قد أثبت حدسي المدعوم بتحليل العاملين المادي‬ ‫والروحي لدور الأمة التاريخي على الأقل كانفعال مؤقتا‪.‬‬‫وما كنت لأصل هذه الأمور بعضها بالبعض لو لم يكن بحثي حول الغزالي قد جعلني شبه‬ ‫منبوذ بين النخبة التي كان اليسار والقوميون مسيطرين عليها‪.‬‬‫كيف أدعي أن الغزالي هو الفيلسوف المبدع وليس ابن رشد‪ .‬فالشارح مهما كان كبيرا‬ ‫يبقى شارحا لإبداع غيره ما لم يتجاوزه في الشرح بدل عبادته‪.‬‬‫وأقصى ما يمكن أن يقال فيه أنه معلم عظيم لإبداع غيره‪ .‬لكن إذا عمل الغزالي هو‬ ‫تجاوز هذا الغير الذي شرحه ابن رشد فهو بحق الأعظم في المجال المعني‪.‬‬‫وهذا الموقف من موقفي إزاء فهم الحداثة وقراءة الماضي في ضوئها وتقديم الغزالي على‬ ‫ابن رشد في نظرية العلم والوجود‪ ،‬هو علة منبوذيتي بينهم‪.‬‬‫ولا زلت إلى اليوم اشكر أصحاب هذا الموقف والمناخ‪ ،‬لأنه كان السر في قبولي التحدي‬ ‫ومواصلة الجهد إلى اليوم لبيان ما اعتبره علامات الاستئناف‪.‬‬‫وطبعا لا يمكن لهذه العلامات أن تصبح وقائع ما لم يسبقها عملان أحدهما متلفت إلى‬ ‫الماضي لإعادة تأويله بالالتفات إلى المستقبل شروعا في تحقيقه‪.‬‬‫ما العلامات التي بزغت في إعادة تأويل الماضي من منطلق مشروع المستقبل الذي هو‬ ‫الاستئناف والذي بمقتضاه ادعيت أن الأمة ستحدد مستقبل العالم؟‬ ‫‪82‬‬

‫أعني ما العلامات التي رأيتها وعمي عنها من ضحك من كلامي ونراها اليوم تتحقق ولو‬ ‫بمستوى سلبي لكنه بصدد التطور نحو الفاعلية أمرا لا مرد له؟‬‫هذا المشكل إذا عولج فلسفيا تصبح صيغته‪ :‬إعادة قراءة الماضي في ضوء مشروع‬ ‫المستقبل دليل على أن عنفوان حياة بدأت تتحرك رغم ظنها قد ماتت‪.‬‬‫فالحديث حول أحداث الماضي الموجودة يصبح تابعا للحديث حول أحداث المستقبل‬ ‫المنشودة‪ :‬فيصبح ما بالقوة محددا لما بالفعل إذ يجلي ما ينبغي تداركه‪.‬‬‫محاولات اليساريين والقوميين تحقيق ما عجز دونه الاستعمار أعني مهمة التحضير‬ ‫المستبد بإلغاء حضارة والاستعاضة عنها بما يحاكونه مما لا يفهمون‪.‬‬‫فمشروع العلمنة المستبدة التي رأت في ابن رشد ‪-‬دون فهم لأن الرجل فقيه بالمعنيين‬ ‫دينيا وفلسفيا‪-‬زعيم التحديث العلماني والغزالي زعيم الظلامية‪.‬‬‫والمآل هو وضعنا الحالي‪ .‬أي الحرب الأهلية بين الانحطاطين‪ :‬تأصيلي زائف يعادي‬ ‫الفلسفة‪ ،‬وتحديثي زائف يعادي الدين‪ :‬معاداة الإبداع وعبادة الاتباع‪.‬‬‫والغريب أن كلا الصفين عادى ما يدعيه الثاني بصورته الكاريكاتورية مما يدعه هو‪:‬‬ ‫كلاهما خلق عدوه وضديده بصورته عما يدعيه خلطا بينه وبين تشويهه‪.‬‬‫فالتأصيلي الزائف يعادي الفلسفة وهو أبعد ما يكون عن فهمها‪ .‬والتحديثي الزائف‬ ‫يعادي الدين وهو أبعد ما يكون عن فهمه‪ .‬كلاهما دونكيخوت يحارب النواعير‪.‬‬‫لماذا يمثل الإسلام روحيا ودار الإسلام ماديا ما لا يمكن تحديد مستقبل الإنسانية من‬ ‫دونه شرطا في تحقيق الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف؟‬‫كيف نثبت ذلك علميا من منطلق مقومات الوجود الإنساني التي تحددها أحيازه في‬ ‫الأعيان وأبعاده في الأذهان وما بين الأحياز والابعاد من تفاعلات؟‬‫وحتى يكون تحليلي علميا بحق‪ ،‬ينبغي ألا أكتفي بحالة واحدة‪ ،‬لأن ذلك قد يكون محض‬ ‫صدفة‪ .‬بل لابد على الأقل من حالتين حدين تشملان ما عداهما جميعا‪.‬‬‫وينبغي أن تكون الحالتان متناقضتين حتى يكون كل ثالث محصورا بينهما دون حاجة‬ ‫لرفعه (لأن التاريخ لا يخضع للثالث المرفوع) ومتعلقتين بالإسلام وداره‪.‬‬ ‫‪83‬‬

‫والحالة الأولى هي غاية الحروب الصليبية‪ .‬والحالة الثانية هي غاية الحروب‬ ‫الاستعمارية‪ .‬ففي الأولى اضطر الغرب طرق دائرية لتجنب ما فشل في احتلاله‪.‬‬‫فكان الاعتماد على العالم الجديد والطرق الدائرية حول ما كان في حيازة المسلمين من‬ ‫المعمورة‪ :‬وتلك بداية تجاوز الغرب للمسلمين قوة وثروة وإبداعا‪.‬‬‫وكان العالم كله رهان الصراعات فيه بين الغرب وبيننا لأن ما عدانا لم يكن داخلا بحق‬ ‫في اللعبة الدولية إلا دخول المغول وقد استوعبهم الإسلام‪.‬‬‫ولم يستطع الغرب السيطرة الفعلية على العالم الإسلامي بشكله القديم إ ّلا بعد الحرب‬ ‫العالمية الثانية‪ ،‬إذ سقطت الخلافة ليس عسكريا فحسب‪ ،‬بل روحيا‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فالمرحلة الأخيرة من مراحل الحرب وانتصار العدو تحققت وهي روحية‪ :‬لم يعد‬ ‫المسلمون يؤمنون برمز وحدتهم أو الخلافة رغم تفتت دار الإسلام‪.‬‬‫والمعلوم أن الفرد أو الجماعة لا يهزمان ما لم يسلما بالهزيمة روحيا‪ .‬الهزيمة العسكرية‬ ‫وفقدان الأدوات المادية لا يكفيان ما ظل عندهما صمود روحي‪.‬‬‫ولما كان الغرب رغم الإطاحة بالخلافة العثمانية لم يتأكد من الهزيمة الروحية للشعوب‪،‬‬ ‫حتى وإن اطمأن لبعض النخب‪ ،‬فإنه يواصل الحرب من أجل تحقيقها‪.‬‬‫ما يجري حاليا ليس له من هدف إلا تحقيق هذا الهدف‪ .‬لأن الحل الذي نجح في المرة‬ ‫الأولى بالعالم الجديد والطرق البديلة للسيطرة‪ ،‬لم تعد ممكنة الآن‪.‬‬‫دار الإسلام في قلب العالم وهي بين المحيطين وما بينهما من ممرات فضلا عن كون المسلمين‬ ‫منتشرين في العالم كله غربيه وشرقيه بحضور ذي وزن متنام‪.‬‬‫وأسلحة الحرب الروحية التي يستعملها الغرب حاليا لا تختلف كثيرا عن الاسلحة التي‬ ‫استعملتها الكنيسة في الحرب العقدية ضد مقومي الحصانة الروحية‪.‬‬‫إنها حرب تشويه الإسلام ومحمد‪ .‬وقد كتبت أمس عن المحاضرة التي قدمتها بالفرنسية‬ ‫حول دراسة القرآن التي يسمونها حديثة وتدعي أنه انتحال مما سبقه‪.‬‬‫والهدف بيان أنه صدى لبيئته الثقافية البدوية وللمنتحلات من اليهودية والمسيحية في‬ ‫أشكالها الشرقية مدعين أن ذلك علم حديث للنصوص الدينية‪.‬‬ ‫‪84‬‬

‫مجرد إيديولوجيا كنسية وسخافة ابستمولوجية‪ :‬فالإبداع العلمي والأدبي والفلسفي‬ ‫والديني لا تقبل الرد إلى البيئة التاريخية وإلى السوابق النصية‪.‬‬‫بل أكثر من ذلك‪ ،‬فما يغيب من البيئة الثقافية ومن السوابق النصية هو المميز للإبداع‬ ‫لأنه لا يكون إبداعا إلا بما يتجاوز به ما قبله ليؤسس ما بعده‪.‬‬‫وهذا يصح على الإبداع العلمي والفني والفلسفي والديني‪ .‬وهو أصح على القرآن‬ ‫لجمعه بينها كلها جمعا تجاوزيا فريد نوعه كعلم رئيس‪ :‬ما بعد الأخلاق‪.‬‬‫لكن العائق الإيديولوجي (الموقف الكنسي من الإسلام) والعائق الابتيسمولوجي (توهم‬ ‫العقل مرآة لما يسمونه واقعا) يحولان دونهم وفهم ثورة القرآن‪.‬‬‫والعائق الإيديولوجي والعائق الابستيمولوجي بما يدعونه حداثة في علاج النصوص‬ ‫الدينية يوظفهما الاستعمار بكفاءة أفضل في الرمزية على الإسلام‪.‬‬‫فبسبب التشويه النسقي لوظيفة من يدعي التأصيل ومن يدعي التحديث يجتمع في‬ ‫الإسلام حربان أهليتان‪-1:‬أحيت الفتنة الكبرى و‪-2‬استنبتت الفتنة الصغرى‪.‬‬‫ويقود الحربين ذراعا الاستعمار‪ :‬أحفاد الشعوبية وبقايا الباطنية وشتات الدولة‬ ‫الفاطمية للأولى وأحفاد الصليبية من وأدعياء الحداثة من العرب‪.‬‬‫والذراعان هما إيران وإسرائيل ومن ورائهما روسيا وأمريكا وكلتاهما في الحقيقة ممثلة‬ ‫للغرب الوسيط الذي فشل في الحالة الأولى التي وصفنا ويكرر‪.‬‬‫ولا يمكن أن يتحالف كل هؤلاء ضد كائن لا يعتقدون أنه حتى وإن لم يكن قادرا حاليا‬ ‫على أن يكون المنافس القادر فهو يحول دونهم وسبق من يخافونه‪.‬‬‫بعبارة وجيزة‪ :‬روسيا وأمريكا (أوروبا عاجزة) وذراعاهما الإيراني والإسرائيلي‬ ‫يعتقدون أن من لم يسيطر على الإسلام وداره قد يسبقه الشرق الأقصى‪.‬‬‫وهذا هو الدور السلبي الذي يجعلنا منفعلين في اللحظة الراهنة‪ .‬لكن الانفعال ليس هو‬ ‫الذي يخيف الأعداء بل هو يعطيهم أمل جعلنا مثل الهنود الحمر‪.‬‬‫ما يخيفهم هو ما بدأوا يقتنعون به من استحالة جعلنا مثل الهنود الحمر‪ .‬أيخشون أن‬ ‫ننتقل من الانفعال إلى الفعل وهم يخشونه لأنهم يتوقعون إمكانه‪.‬‬ ‫‪85‬‬

‫وحيلة الاختراق لجعل كل مقاومة قابلة للوصف بالإرهاب‪ ،‬علته فهمهم أن المقاومة دليل‬ ‫على أن شباب الأمة بدأ يستعيد المبادرة في طريق الاستئناف‪.‬‬‫وبعد هذه المقدمات التي تبدو طويلة وعسيرة الفهم لما فيها من عوامل ذاتية تخص علاقة‬ ‫بالظرف وموضوعية تخص مقومات الظرف‪ ،‬أبدأ البيان إن شاء الله‪.‬‬‫والمنطلق الأول كما أسلفت نظرية الأحياز‪ :‬جغرافيا دار الإسلام‪ ،‬وتاريخها‪ ،‬وثمرة‬ ‫تفاعلهما المادية والرمزية‪ ،‬ثم المرجعية المؤسسة لحضارة الإسلام‪.‬‬‫فدار الإسلام أكبر دار متحدة المقومات الحضارية والتاريخية رغم ما يعمها من شتات‬ ‫وتفتيت لجغرافيتها السياسية ومبدعاتها الثقافية‪ :‬حيوية وثراء‪.‬‬‫وتاريخها له خصائص مراحل التاريخ الإنساني الخمسة‪ :‬القديم وما قبله‪ ،‬والوسيط‬ ‫الحديث وما بعده‪ :‬توليفة إبداعية حفظت ما تقدم وأسهمت فيما ولاه‪.‬‬‫وبمفعول التاريخي في الجغرافي‪ ،‬اتحدت مقومات ثروتها بوحدة القيم‪ .‬وبمفعول الجغرافي‬ ‫في التاريخي اتحدت مقومات تراثها بوحدة المشاعر الروحية‪.‬‬‫فكانت دار الإسلام بذلك أثرى دور العالم الحضارية ماديا (الأرضية والجوية‬ ‫والبحرية) وروحيا (كل معالم الأديان المنزلة والطبيعية) اجتمعت فيها‪.‬‬‫والأحياز الخمسة هي إذن كونية وأعظم في المعمورة‪ :‬المكان والزمان والثروة والتراث‬ ‫والمرجعية الإسلامية (القرآن والسنة) الحضارة المبنية عليها‪.‬‬‫وهذه العناصر الخمسة لا يمكن القفز عليها أو تصور نظام للعالم من دونها خاصة إذا‬ ‫كان أهلها قد استعادوا الطموح لأداء دورهم على الأقل منذ قرنين‪.‬‬‫وهنا نصل إلى المنطلق الثاني‪ :‬أبعاد الإنسان فردا وجماعة في تعينها الذي تحدده الأحياز‬ ‫التي وصفنا بمكانها وزمانها وثروتها وتراثها ومرجعيتها‪.‬‬‫ولكن قبل ذلك لا بد من شرح القصد باتحاد الثروة بوحدة القيم‪ .‬هذا الموضوع شديد‬ ‫التعقيد‪ ،‬وسأخصص له بحثا يذكر بما كتبته في شبابي ضد ماركسي عربي‪.‬‬‫فالاقتصاد بخلاف أوهام الماركسيين ليس ظاهرة دالة على فعل المادة في التاريخ بل هو‬ ‫أدل على فعل الرمز فيه‪ :‬فالقيمة الاقتصادية ظاهرة ثقافية أساسا‪.‬‬ ‫‪86‬‬

‫وهي ثقافية اساسا وخاصة بوصفها كما حددها ابن خلدون كمية العمل في البضاعة أو‬ ‫الخدمة‪ .‬فسلم الاعمال في نظام توزيعها ظاهرة ثقافية بالأساس‪.‬‬‫ومنزلة القيمة المادية بالمعنى الاقتصادي يحددها قانون العلاقة بين العرض والطلب‪.‬‬ ‫وكلاهما يحدده سلم القيم الذي يحدث الطلب حتى ولو كان قصديا‪.‬‬‫ولولا ذلك لما كان للإشهار دور في الاقتصاد‪ ،‬ولولا ذلك لما كانت الاستراتيجيات‬ ‫الاقتصادية مبنية على دراسة ثقافة المستهلك وشروط تغيير قيمه‪.‬‬‫وتلك هي علة الفرق بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية‪ ،‬فضلا عن كون القيم لها‬ ‫خمسة مستويات‪ :‬الاستعمالي والتبادلي وهما حد القيم الأدنى‪.‬‬‫وفوقهما القيم التي لا تقبل الاستعمال ولا تقبل التبادل‪ ،‬وهي قيم وسيطة بين الروحي‬ ‫والمادي‪ :‬لا يستعمل الكريم ابنه أو زوجته ولا يتبادلهما‪.‬‬‫وفوق هذين المستويين‪ ،‬القيم التي تسمو حتى على الحياة‪ ،‬أي القيم التي يقبل المرء أن‬ ‫يموت من أجلها وهي خمس‪ ،‬عين ما نسميه مقاصد الشريعة الخمسة‪.‬‬‫واستعملها رغم أني لا اسميها كذلك (حواري مع المرحوم الشيخ البوطي) لأفيد بها‬ ‫شروط المنزلة التي يعطيها الإسلام للإنسان‪ :‬كرامة الخلافة والتكليف‪.‬‬‫فالحر يقدمها على حياته فيقبل الموت في الدفاع عنها‪-1:‬حرية فكرة ‪-2‬وحرية عقده ‪-3‬‬ ‫وسيادته على ماله ‪-4‬وسيادته على عرضه ‪-5‬وسيادته على حياته‪.‬‬‫وهي حقيقة الإنسان التي اعتبرتها المنطلق الثاني لبيان دور الإسلام في التاريخ الكوني‬ ‫المقبل اعتمادا على دوره في التاريخ الإنساني الماضي‪.‬‬‫وهكذا فهذا الاستطراد حول القيمة هو الجسر الواصل بين المنطلقين‪ :‬أحياز الوجود‬ ‫الإنساني وأبعاده‪ .‬ولنأت الآن إلى الأبعاد المقومة لكيان الإنسان‪.‬‬‫رأينا أن الأبعاد المقومة لكيان الإنسان فردا كان أو جماعة‪ ،‬هي النزر النسبي من صفات‬ ‫الله المطلقة والتي هي عين كون الإنسان أهلا للاستخلاف‪.‬‬‫لكأنها هي النفخ في الإنسان بمنظور الانثروبولوجيا القرآنية‪ :‬الإنسان فيه شيء من‬ ‫نفس الله‪ .‬وهذا الشيء هم المقوم الجوهري لكيانه بأبعاد خمسة‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫ولا يوجد مسلم لا يعتقد في أن كيانه يتقوم بهذه الأبعاد‪ .‬حتى إن أول قضية خلافية في‬ ‫علم الكلام كانت حول أفعال العباد هل هي حرة أم مضطرة‪.‬‬‫والسنة التي هي غالبية المسلمين تقول بأنها حرة وإن حدتها بالحرية المطلقة الخاصة‬ ‫بالخالق والآمر وذلك هو الفرق بين صفات المستخلف والخليفة‪.‬‬‫فإرادة الإنسان وعلمه وقدرته وحياته ووجودها كليها متناهية ونسبية وفانية‪ ،‬لكن‬ ‫إرادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده كلها لامتناهية ومطلقة‪.‬‬‫ومن ث ّم‪ ،‬فكل مسلم يؤمن بحريته كخليفة فيها جميعا دون أن يطلقها لإيمانه كذلك‬ ‫بالحرية الأسمى التي للمستخلف‪ :‬وهو لا يمكن أن يخضع لغير الله أبدا‪.‬‬‫وهو ما يريد اعداء الإسلام تغييره بتشويهه لأنه يمثل الحصن الحصين للهوية الحضارية‬ ‫والروحية لأي مسلم في أي شعب مهما كان بدائيا وفي كل المعمورة‪.‬‬‫وما ظلت دار الإسلام كما وصفت وروح المسلم كما أوضحت فإنه لا توجد قوة في العالم‬ ‫يمكن أن تنتصر على المسلمين رغم ضعفهم الحالي‪ :‬ذاتيا وموضوعيا‪.‬‬‫فما في مقومات الكيان‪ ،‬اعتقاد المسلم بان الله معه وبأن نصره لا ريب فيه يجعله ذاتيا‬ ‫ونفسيا غير قابل للهزيمة وأحيازه حائلة ماديا دون الهزيمة‪.‬‬ ‫‪88‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook