Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-23 10:48:50

Description: شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬‫من التجارب التي كانت ضرورية لتجاوزها والعودة إلى الأصول لإعادة قراءتها القراءة‬ ‫التي تمكن من تحقيق شروط قيام الإنسان‪.‬‬‫ولست أول من بادر‪ .‬فما كان الغزالي يكتب فضائح الباطنية وإحياء علوم الدين لو لم‬‫يكن قد فهم طبيعة الانحراف‪ .‬وما كان ابن تيمية يشذ عن كل علماء عصره لو لم يكن قد‬‫فهم طبيعة الأزمة‪ .‬وأخيرا ما كان ابن خلدون يحدث المنعرج الحاسم لو لم يكن قد عمل‬ ‫بفصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬‫ولو كنت أحتمي بهؤلاء لأمرر ما اقول لما قلت ما لم يقولوه‪ :‬لا أحد منهم وضع شكوكا‬‫صريحة على علوم الملة بل سكتوا‪ .‬وسكوتهم ليس علامة على رضاهم بل لأن الظرف لم‬‫ينضج بعد لتكون الأمة في فجر الاستئناف‪ .‬كتبوا وهم يائسون لأنهم كانوا يعايشون عصر‬ ‫الانحطاط الخانق ويبحثون عن مخارج حينية‪.‬‬‫أما نحن اليوم فقد لاح لنا فجر الاستئناف‪ :‬شبابنا بدأ يغير التاريخ ويطلب تطبيق دستور‬‫القرآن المبني على الحريتين الروحية والسياسية في النظر والعمل لتحقيق شروط الاستعمار‬‫في الأرض بقيم الاستخلاف‪ .‬صحيح أن ذلك لا يبدو للعين المجردة‪ .‬لكن من كان ذا بصيرة‬ ‫يفهم أن الأمة تستأنف دورها فعلا‪.‬‬‫قد أكون الخطاف الذي يعلن عن الربيع‪ .‬لكن الشباب سبقني فهو شرع في تنفيذه فنقل‬‫الأمة من كاريكاتور التأصيل بتقليد ما كان علة الانحطاط الذاتي لماضينا ومن كاريكاتور‬‫التحديث بتقليد ما كان علة الانحطاط المستورد من المستعمر إلى حقيقة التأصيل والتحديث‬ ‫المطابقين كلية قيم القرآن وعولمته‪.‬‬‫وكلية قيم القرآن وعولمته اساسهما النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬والحريتان‪ :‬الحرية الروحية‬‫أو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه والحرية السياسية أو العلاقة غير المباشرة بينهما عن‬‫طريق العلم بالطبيعة والتاريخ والعمل بثمرات هذا العلم لتعمير الارض بقيم الاستخلاف‪:‬‬ ‫جوهر ثورة الإسلام‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪98‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وحتى يفهم القارئ القصد من هذه المحاولة فعليه الا يخلطها برأي العروي أو طه حسين‬‫من قبله أو بتخريف العلمانيين والليبراليين العرب الذين يتصورون أن نقد تراثنا يعني‬‫رمي الطفل مع ماء استحمامه‪ .‬الطفل هنا هو المرجعية القرآنية والسنية وماء الاستحمام‬ ‫هو كل محاولات فكرنا الماضية‪.‬‬‫فالطفل يبقى الأصل والماء تجارب مضت هي مما نعتز به ونعتبر أنفسنا ورثته الذين‬‫يتجاوزونه بفضله‪ :‬ففي تاريخ المعرفة والعلوم الأخطاء من شروط التجاوز والتقدم‪.‬‬‫وشرط الاستئناف تجاوز انقلابين عملي (تعطيل الدستور السياسي وفرض حالة الطوارئ)‬ ‫وعلمي (تعطيل الدستور المعرفي والتخريف حول الغيب)‪.‬‬‫وأستطيع القول الآن أن محاولات التجاوز ليست جديدة بل هي كانت موازية لمحاولات‬‫التعطيل‪ :‬كل من انتسب إلى المدرسة النقدية في تاريخ فكرنا من أهل السنة وخاصة من‬‫كان يعتبر في نظر العلمانيين والليبراليين العرب الحاليين رجعيين هم في الحقيقة ثوار على‬ ‫هذين الانقلابين على ثورتي الإسلام‪.‬‬‫لكن ثورتهم لم تتجاوز مرحلة رد الفعل‪ .‬لم يبدأ الفعل حقا إلا مع ابن تيمية في النظر‬‫وابن خلدون في العمل‪ :‬كلاهما انتقل إلى مرحلة بناء البديل لتجاوز نظرية المعرفة‬‫المطابقة عند الاول ولتجاوز نظرية العمل المطابق عند الثاني‪ .‬فالنظر المطابق والعمل‬ ‫المطابق كلاهما مما يختص به الله‪.‬‬‫ما يطلب من الإنسان ليس العلم المطابق ولا العمل المطابق بل الاجتهاد في النظر والجهاد‬‫في العمل لتحقيق شروط المهمتين اللتين يعتبر الإنسان مكلفا بهما لإثبات أهليته للاستخلاف‪:‬‬‫الحرية الروحية والحرية السياسية هما اساس الاجتهاد والجهاد ونفيهما هو الوساطة‬ ‫الروحية والوصاية السياسية‪.‬‬‫لذلك فابن تيمية أعاد النظر في فلسفة النظر فأدرك أن العلم الإنساني مشدود إلى‬‫المطلق دون أن يكون مطلقا بل كل معرفة قابلة للتجاوز وكل تصور وراءه تصور أتم منه‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪99‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫دون أن يكون الأتم‪ .‬ومثله أدرك ابن خلدون أن العمل الإنسان جهاد قابل للتجاوز وكل‬ ‫عمل وراءه عمل أتم منه دون أن يكون الأتم‪.‬‬‫فينتج عن ذلك أن الاهم في النظر والعمل هو تاريخهما أو منطق تطورهما خلال تحقيق‬‫الإنسان لمهمتيه في عالم الشهادة سعيا يختبر به أهلية الأنسان للاستخلاف في تعمير الارض‬‫بقيمه وذلك هو التكليف أو الأمانة التي حملها الإنسان‪ .‬وهذا هو مجال العلم والعمل‪:‬‬ ‫فصلت ‪ 53‬أمرا وآل عمران ‪ 7‬نهيا‪.‬‬‫لم يبق بعد الآن إلى أن ابين أن الآفاق والأنفس التي يرينا الله فيها آياته الدالة على‬‫حقيقة القرآن هي عالم الشهادة ببعديه الطبيعي والتاريخي وهما مجال البحث عن العلاقة‬‫غير المباشرة بين الإنسان وربه خليفة له في الارض وصلتها بالعلاقة المباشرة بينهما كما‬ ‫تذكر بها الرسالة الخاتمة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪100‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهنا يأتي دور مقدمة ابن خلدون‪ :‬فلكأنه طبق فصلت ‪ 53‬فطلب حقيقة مجال الأمر‬‫الإلهي الذي يوجهنا إليها القرآن في تعلقه بالخلق المأمور في القرآن من الآفاق والأنفس‪:‬‬‫الإنسان فردا وجماعة‪ .‬وخلال هذا الطلب لكأنه اهتدى إلى دلالة الشورى ‪ 38‬التي تعين‬ ‫مجال البحث عن تطبيق الإنسان مصيبا ومخطئا فيها‪.‬‬‫فهو ينطلق من مفهوم الاستخلاف في الدنيا بمعنييه عند من يحقق الأهلية ومن لا يحققها‬‫ليدرس سنن العمران البشري والاجتماع الإنساني (بداية الشورى ‪ 38‬الاستجابة إلى‬‫الرب) ويجعل مدار الاختبار كله حول مفهوم عميق أبدعه ابن خلدون ليغير كل العلوم‬ ‫العملية صاغ به غاية الآية‪ :‬الإنفاق من الرزق‪.‬‬‫فقد جعل مدار علم العمران البشري والاجتماع الإنساني وسننه السياسية كما تعينت في‬‫التاريخ الإنساني كله يدور حول هذا المعنى بعد أن سماه باسم أبدعه وبه نتبين حقيقة‬‫الشرائع التي يرينها الله في آياته في الآفاق والانفس‪\" :‬نحلة المعاش\"‪ .‬وهي ذات بعدين‬ ‫عمودي وأفقي‪.‬‬‫فنحلة المعاش علاقة عمودية بين البشر والطبيعة أو الارض التي منها المعاش وعلاقة‬‫أفقيهة بين البشر تبعا للعلاقة الاولى وما يتعلق بها من تبادل بينهم ومن تواصل حول ذلك‬‫التبادل سلما وحربا‪ .‬وقد أحصى أشكال هذه النحلة وحدد دورها بوصفها اساس تصنيف‬ ‫أنواع العمران والاجتماع‪.‬‬‫وقد لا يصدق القارئ أني ما فهمت منزلة الاقتصاد والملكية وارتباط كل المعاني القرآنية‬‫بهما إلا بفضل هذا المفهوم الثوري الذي وضعه ابن خلدون‪ .‬وما فهمت علاقته بأساس‬‫العلاقة الأفقية بين البشر أعني كل ما يتعلق بالزواج وعلاقة المرأة بالرجل ونظرية الارث‬ ‫إلا بفضل ابن خلدون‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪101‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وأهم شيء كان يحيرني هو أن اساس القانون الجنائي الذي يوجه إليه القرآن فلسفة‬‫الحق يجعل حماية الملكية أهم حتى من حماية النفس البشرية‪ .‬فحدها وخاصة إذا كانت‬‫عنيفة (الحرابة) لا تسامح فيه في حين أن حد قاتل النفس فيه تشجيع على المسامحة فجل‬ ‫جرائم القتل تتعلق بخلافات حول الحقوق والمنازل‪.‬‬‫وقد ميز ابن خلدون بين العمران البدوي والعمران الحضري بالاعتماد على معيار نحلة‬‫المعاش التي صنفها إلى خمسة أنواع اثنان للأول واثنان للثاني والوسطى هي أساس‬‫الانتقال من الاول إلى الثاني‪ :‬فالوسطى هي نحلة المعاش المعتمدة على الزراعة لأنها بداية‬ ‫الاستقرار نشأة الدولة‪.‬‬‫وما تقدم على نحلة المعاش المعتمدة على الزراعة نوعان كلاهما يميز البداوة‪ :‬جني منتج‬‫الطبيعة والرعي وهما مجال الترحال‪ .‬وما يليها نوعان هما نحلة المعاش المعتمد على‬‫الصناعة وعلى التجارة‪ .‬وعندما تنشأ الدولة في المرحلة الوسطى توجد الشرائع المنتظمة‬ ‫وجودها المتعين في مؤسسات وقوانين‪.‬‬‫ودراسة هذه التكوينية هي مجال البحث في آيات الله المتعلقة بالفقه وتأصيله أو بالقانون‬‫(الوازع الأجنبي أي الذي يأتي من خارج الذات) وبالأخلاق (الوازع الذاتي أي الذي يأتي‬‫من الضمير)‪ .‬ذلك هو أحد العلوم التي يكتشفها ابن خلدون في دراسة التاريخ خبرا عن‬ ‫العمران البشري والاجتماع الإنساني‪.‬‬‫من يدرس القانون الوضعي يتصور أن القانون الجنائي لا علاقة له بالقانون المدني ولا‬‫بالقانون الأسري ولا بالقانون العام بنوعيه (الإداري والدستوري) لكن القرآن دون أن‬‫يتضمن هذه الأنواع بجزئياتها يوجهنا إلى مجالات البحث فيها وخاصة إلى طبيعة العلاقة‬ ‫بينها ومن ثم إلى نظام الشرائع عامة‪.‬‬‫لكن الشرائع التي يمكن الوصول إليها بالبحث العلمي فيما وجهنا القرآن إليه محلا لآياته‬‫التي تتعين في الآفاق والأنفس قوانين وسننا لا يحتوي عليها القرآن بل التاريخ الإنساني‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪102‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ببعدي التشريع فيه‪ :‬كوازع أجنبي أو الاحكام السلطانية وكوازع ذاتي أو الأحكام الخلقية‬ ‫والروحية الفطرية‪.‬‬‫ولذلك جمعت فصلت ‪ 53‬بين الآفاق أي الطبيعة والتاريخ والأنفس أي ما يناظرهما في‬‫الفطرة نابعا من الضمير ولذلك فالرسالة تذكير بموجود في ذات الإنسان وليس إنشاء‬‫لمعدوم فيها‪ .‬ومن لم يفهم هذا المعنى من القرآن الكريم طبيعي ألا يقوم بالبحث العلمي‬ ‫المأمور به قرآنيا فيتجرأ على آل عمران ‪.7‬‬‫وكل من يفعل ذلك ينسى أن اختبار أهلية الإنسان للخلافة هو نفسه الوجود الدنيوي في‬‫المنظور القرآني‪ .‬فقصة الاستخلاف تبين أن إنزال آدم فيه ما يشبه الرد على التحدي‬‫الإبليسي‪ :‬ادعى أن آدم ليس أهلا للاستخلاف فلم يأتمر بأمر السجود‪ .‬وعتاة التصوف‬ ‫يعتبرون ذلك فتوة لا يسجد صاحبها لغير الله‪.‬‬‫وهذا الكلام يبدو من جنس الأساطير لأنه تعبير رمزي عن حقائق وجودية يثبتها تاريخ‬‫الإنسان والحضارة لأن مدار حياة البشر في عمرانهم وفي اجتماعهم هو الاستعمار في الأرض‬‫بقيم الاستخلاف إثباتا أو نفيا‪ .‬والأول أساسه النساء ‪1‬والحجرات ‪ 13‬والثاني اساسه دين‬ ‫العجل الذهبي أي العبودية لغير الله‪.‬‬‫ومن حسن حظي أني عشت إلى لحظة من تاريخ البشرية صارت فيها هذه المقابلة بين‬‫رؤية الإسلام للإنسانية ورؤية العجل الذهبي بمعدنه وخواره لها يصبحان مناط كل‬‫الخلافات في الجماعة البشرية مسلمة كانت أو غير مسلمة وهي معركة حاسمة في مصير‬ ‫الإنسانية وفي دور شهادة المسلمين على العالمين‪.‬‬‫وكنت واثقا من أن موقف المدافعين عن فقه عصور الانحطاط وتأصيله سيعتبرون هذا‬‫المنظور علة كافية لاخراجي من الملة وقد سبق المرحوم البوطي أبا قتادة رغم اتزانه وتهور‬‫أبي قتادة ومن لف لفه ممن أفسدوا ثورة الشباب بتفاقه يشبه ما كان يرد به ابن رشد‬ ‫على الغزالي ظنا أن علم القدامى مطلق‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪103‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولم أضحك في حياتي أكثر مما حصل عندما قرأت تعليق أبي قتادة على هذه التغريدات‪.‬‬‫يريدنا أن نتداوى بطب ابن سينا وأن نسير حياتنا بفقه كان علة كل ما حل بالأمة من‬‫نكبات‪ .‬فلا فرق عندي بين من يفسد المعارضة ‪-‬وهو منهم‪ -‬ومن يفسد الحكام من الدعاة‬ ‫الذي يتصورون التشقيق اللفظي علما‪.‬‬‫القرآن يقول صراحة أن تبين الحق يكون بما يرينه من آيات في الآفاق والانفس وهم‬‫يعكسون فلا يقومون بالبحث العلمي فيهما بل يكتفون بشرح الألفاظ‪ :‬خرافة الاعجاز‬‫العلمي‪ .‬وبكل وقاحة يزعم أن الراسخين في العلم علمهم من جنس علم الله في التأويل‬ ‫فيعطفه عليه‪.‬‬‫هؤلاء المخرفون أفسدوا ثورتي الإسلام الروحية والسياسية ويريدون فرض الاستبداد‬‫الروحي لمن يسمونهم علماء والاستبداد المادي لمن يسمونه أمراء‪ .‬والجمع بين العلماء‬‫والامراء يسمونهم أولي الأمر‪ .‬من ولاهم؟ الاقتتال بين أمراء الحرب وليس إرادة الامة‬ ‫التي تختار بحرية من يمثل إرادتها‪.‬‬‫لو كان العلم يكفي فيه تعلم العربية لكنا نحن اسياد العالم لكثرة المتقعرين في التشقيقات‬‫اللفظية العربية‪ .‬ما فتحت تفسيرا من التفاسير للقرآن الكريم إلا وأكاد أتقيأ مما يحتوي‬‫عليه من ثرثرة لا علاقة لها برسالة خاتمة تعرف نفسها بكونها تذكيرا بالفطرة ودعوة‬ ‫لرؤية آيات الله في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫وآياته في الآفاق والانفس تتعلق بالخلق وبالأمر‪ .‬والرسالة تقول لنا إن آيات الآفاق‬‫والأنفس رياضية تجريبية في الخلق وسننية تجريبية في الأمر‪ .‬ومن ثم فلا يمكن وضع علم‬‫الطبائع وعلم الشرائع من دون البحث العلمي في الرياضيات وتطبيقاتها التجريبية وفي‬ ‫السياسيات وتطبيقاتها التجريبية‪.‬‬‫وإذا كان الله وهو الخالق يقدم قوانين الخلق على قوانين الامر ‪-‬الربوبية‪-‬فإنه من‬‫الغريب أن تسمع إنسانا يدعي الرسوخ في العلم يقلب العلاقة بين الخلق والامر فيأمر من‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪104‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫دون العلم بحقائق ما يريد تنظيمه بالأمر‪ .‬التشريع أمر حول موجود وأفعال الإنسان‪.‬‬ ‫فكيف نشرع لما نجعل حقيقته؟‬‫فالله يقضي على علم بالمقادير‪ .‬ومن هنا نفهم ثنائية القضاء والقدر‪ .‬فهو لا يخلق تحكما‬‫بل بعلم وهو لا يأمر تحكما بل بمد المأمور بشروط قابلية التكليف بحكم كونه لا يكلف نفسها‬‫إلى وسعها‪ .‬لذلك فالأمر بما هو تشريع ينظم الوجود مشروط بالعلم بالوجود الذي يراد‬ ‫تنظيمه استنادا لمقومات كيانه‪.‬‬‫لذلك فأكبر عائق لنهوض الامة واستئناف دورها الكوني هم هؤلاء العلماء المزيَفون‬‫والمزيِفون‪ .‬القرآن والسنة موجهان لعلم الشرائع (السياسيات تربية وحكما) والطبائع‬‫(رياضيات وتجربة) ولا يتضمنان علم التشريع الذي هو ما نعلمه بآيات الله في الآفاق‬ ‫والأنفس اي في الطبيعة والتاريخ وفي الفطرة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪105‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وصلنا الآن إلى بيت القصيد‪ .‬لنفهم ما فهمه الفاروق‪ .‬لو كان لم يعمل بفصلت ‪ 53‬أمرا‬‫وبآل عمران ‪ 7‬نهيا لتأسيس علم الشرائع لظن قد عطل حكم السرقة وناقض الرسول‬‫الاكرم الذي بين أنه قاطع يد السارق حتى لو كان فاطمة الزهراء‪ .‬ذلك أن الرسول بخلاف‬ ‫غيره كان الاعلم بشروط تطبيق الحدود وعلم صحابته‪.‬‬‫القالبين لمعنى فصلت ‪ 53‬أمرا ولمعنى آل عمران ‪ 7‬نهيا يتجاهلون اجتهاد الفاروق فيفهمون‬‫الحدود فهم بوكو حرام وداعش وليس فهم الامة قبل أن يعطل الدستور السياسي والدستور‬‫المعرفي بوصايا القرآن والسنة‪ .‬وسأقبل جدلا أنهم على حق ولنحاول فهم حلهم لقضايا‬ ‫الأمة حاليا‪ :‬فقرروا قطع يد السراق‪.‬‬ ‫عندئذ أطرح الأسئلة ليس لهم حل‪:‬‬ ‫من سيكون القاطع؟‬ ‫وكم عدد المقطوع أيديهم؟‬‫إذا كان أكبر اللصوص هم الحكام وحاشيتهم من النخب فهم سيقطعون أيدي من جوعوهم‬‫حتى يرضوا الدجالين ممن يتصورون الشريعة هي قطع الايدي‪ .‬فيكون السارق الاكبر‬ ‫مضحيا بالسارق الاصغر الذي هو من جوعه فاستسرقه‪.‬‬ ‫ألا يكون الرسول في كلامه على الملك العضوض قد قصد ذلك ونبه إليه؟‬‫هل نقبل أن يصبح الفقه وتأصيله مجرد أداة لخدمة أغراض منافية لثورتي الإسلام أي‬‫الحرية الروحية والحرية السياسية حتى يكون المؤمن مؤمنا وعاملا صالحا والامة متواصية‬ ‫بالحق ومتواصية بالصبر؟‬ ‫هل نحن كذلك؟‬ ‫ما الفرق بين فقهاء أمراء الحرب وفقهاء حكام المحميات العربية مثلا؟‬ ‫هل منهم من يمكن أن يدعي أنه يعمل بشرع الله؟‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪106‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لكن \"العلماء\" المزعومين والدعاة هل يتجاوز دورهم الفصام بين الاقوال والأفعال مغلبين‬‫منطق الضرورات تبيح المحظورات فيجعلون الشريعة مجرد غطاء يبرر حكام الطغاة من‬ ‫النوعين؟‬‫وهبنا تصورنا ثورة من قلة مخلصة لا ينطبق عليها هذا الوصف فلا يكون أمراء حرب ولا‬ ‫حكام محميات هل يمكن للشريعة الإسلامية أن تقطع أيدي ثلاثة أرباع الشعب المسلم؟‬‫فالتسارق هو المناخ العام في المجتمع إذ ليس من الضروري أن تكون السرقة عينية‪ :‬فالغش‬ ‫والاحتكار والتطفيف كلها سرقات خفية‪.‬‬‫لكن الأهم من ذلك كله هو أن كل وظائف الدولة العشرة مبينة على أكثر من السرقة‬‫فهي حرابة‪ :‬فإذا من بيده سلطان الدولة ولو جزئيا يستعمله سلاحا للتغطية على فساده‬‫واستبداده‪ :‬فالقضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلامات جلها وفي بعض بلاد‬ ‫العرب كلها تعيش من عرق الامة وتخدم عكس دورها‪.‬‬‫والأمر لا يتوقف عند وظائف الحماية الخمسة هذه بل يتعداها لوظائف المجتمع الاهلي‬‫الخمسة أيضا فالتربية النظامية والتربية الاجتماعية والإنتاج الثقافي والإنتاج الاقتصادي‬‫والبحث العلمي كل ذلك هو وظائف الرعاية التي تعمل بعكس دورها وإلا لما انحططنا ولكنا‬ ‫في قمة الهرم الدولي‪.‬‬‫والوظائف العشر تعمل عكس دورها ومن ثم فهي تسرق أجرها مقابل عمل لم تقم به‬‫بل قامت بعكسه فصارت الامة تدفع اجر من يعمل على تخريب وظائفها والتخريب هو دائما‬‫لصالح الأعداء الذين يستفيدون من هشاشة الامة التي يريد لها الإسلام أن تسود العالم‬ ‫فصارت مسودة بأراذله وأخبث البشر‪.‬‬‫الحثالة ممن يسمون أنفسهم فقهاء المعارضين للحكام باسم الإسلام في الحركات التي‬‫تدعي الجهاد يتصورون دولة طالبان وداعش وبوكو حرام هي الدولة الإسلامية‪ .‬وهي في‬‫الحقيقة النقيض المطلق لنظرية الدولة الإسلامية كما حاولت بيان حقيقتها ظنا أن حفظ‬ ‫بعض المتون البالية علما للشرائع‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪107‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولا فرق بينهم وبين الفقهاء الذين يبررون سلوك حكام المحميات‪ .‬أولئك هم مبررو‬‫سلوك أمراء الحرب باسم الإسلام الذي شوهوه وهؤلاء هم مبررو سلوك أمراء المحميات‬‫التي اقتطعوها من دار الإسلام لتصبح مجرد قواعد لإمبراطورية مغول الغرب‪ :‬الولايات‬ ‫المتحدة الأمريكية‪.‬‬‫وهذان النوعان من الفقهاء المزعومين يمثلون شبه كنسية تضيع الحرية الروحية بوساطة‬‫تنويمية للشعوب أساسها تحريف الرسالة التي أتت للتحرير وليس للتزوير‪ .‬الوساطة‬‫الروحية تبرر الوصاية الاستبدادية لحكام المحميات باسم الدين أو باسم الفقه ولأمراء‬ ‫الحرب الذين يدعون المعارضة بنفس الاستبداد‪.‬‬‫والنوعان أخطر على الرسالة وثورتيها أي الحريتين الروحية والسياسية من كل طغاة‬‫العالم وحتى من الاستعمار وعملائه لأن هؤلاء يضاعفون قوة مقاومة العدوان بقيم الإسلام‬‫وأولئك يشوهونها فيسهمون في إضعافها ويكادون يبررون هروب الشباب إلى العلمانية‬ ‫والإلحاد بتخريفهم ونفي التطور العلمي‪.‬‬‫والاخطر من ذلك كله هو أن رؤيتهم للمعرفة هي سر التخلف الذي نزع كل الأدوات‬‫والأسلحة التي تمكن الأمة من حماية ذاتها ورعايتها‪ .‬لو أضعت كل حياتك في تقليب ألفاظ‬‫القرآن والحديث لما حققت أدنى أداة أو سلاح لتحقيق مقومات الحماية والرعاية وفي ذلك‬ ‫نفي للأنفال ‪ 60‬ليس بعده نفي‪.‬‬‫فالإنسان كلف بتعمير الارض بقيم الاستخلاف‪ .‬ومن كان جاهلا بقوانين الطبيعة وبسنن‬‫التاريخ استحالت عليه أن يحقق شروط التعمير فضلا عن قيم الاستخلاف‪ .‬ومعنى ذلك أننا‬‫لم ننحط صدفة بل لأننا تركنا توجيه فصلت ‪ 53‬وتحذير آل عمران ‪ 7‬فعكسناهما‪ :‬تركنا‬ ‫عالم الشهادة مجهولا وخرفنا حول عالم الغيب‪.‬‬‫توهم أدعياء الرسوخ في العلم عكس ما وصفتهم به آل عمران ‪ 7‬واستبدلوا الإيمان بالغيب‬‫بدعوى علم عطفوه على علم الله وهو عندي عين الكفر بكل القرآن لأن علم الإنسان ليس‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪108‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫محيطا كعلم الله حتى يكون الراسخون مثله قادرين على تأويل المتشابه‪ :‬فهذا دليل مرض‬ ‫القلب وابتغاء الفتنة‪.‬‬‫وما \"يقهرني\" حقا هو تخريف القائلين بالإعجاز العلمي‪ .‬لو صح أن القرآن يحتوي على‬‫هذا الاعجاز وكان الوصول إليه بشرح النصوص لكان أصحاب هذا الوهم أول الكاشفين‬‫على اسرار الكون الطبيعي والتاريخ ولغزوا المجرات واستخرجوا من الارض ما فيها من‬‫الثروات ولما كان منا متسولون حماية ورعاية ولكانوا هم الرواد لا ينتظرون اكتشاف غيرنا‬‫ثم يدعون وجوده بعده في تفاسيرهم الوهمية‪ .‬وهم من حيث لا يعلمون يجعلون حقائق‬‫القرآن تاريخية لأنه لا يوجد علم نهائي بل كل ا لعلوم في تطور دائم‪ .‬فهل ما يدعون‬‫وجوده في القرآن يصبح كاذبا بعد أن يتجاوزه العلم؟ الدجالون فسروا القرآن ببطليموس‪.‬‬‫وإذا كانت الطبائع لا تعلم بشرح النصوص فمن باب أولا ألا تعلم الشرائع به‪ .‬فالشرائع‬‫أكثر تعقيدا من الطبائع ومن ثم فعلمها أعسر‪ .‬وإذا كانت الطبائع لا تعلم إلا بالإبداع‬‫الرياضي والتجربة المادية فإن الشرائع تضيف إليها بسبب ما فيها من طبائع الابداع‬ ‫السياسي والتجربة الخلقية‪.‬‬‫ومن يجهل هذه الشروط المضاعفة لعلم الطبائع ولعلم الشرائع لا يحق له أن يبدى رايا‬‫في الفقه وفي تأصيله‪ .‬فالإنسان كائن طبيعي (على الاقل بمادة بدنه) وتاريخي (على الأقل‬‫بمادة عقله) وهو يعرف فردا وجماعة بعلاقة عمودية مع الطبيعة (مصدر زاده المادي)‬ ‫وعلاقة أفقيه مع التاريخ (مصدر زادة الروحي)‬‫واستعماره في الارض مشروط بإنتاجه لهذين الزادين وهما ما يطلبه القرآن منه تكليفا‬‫يؤهله للاستخلاف إذا هو حققه بقيم الاستخلاف كما حددها القرآن في النساء ‪( 1‬الاخوة‬‫البشرية) وفي الحجرات ‪( 13‬المساواة بين البشر) وشرط ذلك الحريتان الروحية‬ ‫والسياسية ليختبر المكلف بعلمه وعمله‪.‬‬ ‫وهذا هو مناط أحكام أفعال العباد وهو مجال اختبار أهلية آدم وأبنائه للخلافة‪:‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪109‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫‪ .1‬والقرآن فيه دستور سياسي للتربية والحكم بتوجيه الإنسان نحو شروط الحياة‬ ‫المنظمة في استعمار الارض‬ ‫‪ .2‬ودستور معرفي لتوجيهه نحو العمل على علم‪.‬‬ ‫والاول حددته الشورى ‪ 38‬والنساء ‪ 57‬والثاني فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬‫والتحديد التوجيهي هو الهداية التذكيرية للإنسان حتى يستعمل ما جهز به فطريا‬‫للتعامل مع الطبيعة والتاريخ بما له من إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود تؤهله لأن ينجح‬‫في الاختبار جوهر الحياة الدنيا مطية للحياة الأخرى‪ .‬ذلك هو مفهوم الرسالة الخاتمة‬ ‫والشاملة للإنسانية وشرط الشهادة عليها‪.‬‬‫ذلك ما افهم من الرسالة الخاتمة وثورتيها أي الحرية الروحية علاقة مباشرة بين المؤمن‬‫وربه والحرية السياسية علاقة غير مباشرة بينه وبين ربه لأنها تمر بعالم الشهادة الطبيعي‬‫والتاريخي الذي اختباره يكون في ما يعلمه وما يعمله للتعامل معهما تعميرا للأرض بقيم‬ ‫الاستخلاف لحساب يوم الدين‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪110‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪111‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook