Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-23 10:48:50

Description: شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬‫ومن ثم فالجماعة المؤمنة التي تتألف من أفراد يؤمنون ويعملون صالحا تكون متواصية‬‫بالحق وبالصبر في النظر والعمل ويكون تشريعها منطلقا من الاستجابة إلى ربها وساعيا إلى‬‫الانفاق من ثمرة التعمير بقيم الاستخلاف هي السلطة التشريعية التي يكون تشريعا قانونا‬ ‫بمعزل عن المقابلة وضعي‪-‬ديني‪.‬‬‫وبذلك تتحرر الأمة في مرحلة الاستئناف من حالة الطواري التي نتجت عن الفتنة الكبرى‬‫بداية واستأنفت عن الفتنة الصغرى غاية وتحررت مما يعوق الحريتين بين الفتنتين ولن‬‫تقع فيما يعوقهما بعد عودتهما وتحالف أصحابهما في حرب ضروس ضد هذا الدستور الذي‬ ‫عطلته الفتنة الكبرى وتريد الصغرى إلغاؤه‪.‬‬‫فالفتنة الكبرى كان مدارها الدستور القرآني لفرض دين التقية الباطني المتعين في‬‫التشيع‪ .‬والفتنة الصغرى مدارها الدستور القرآن لفرض دي العجل المتعين في العلمانية‪.‬‬‫وهما الآن متحالفان ضد الإسلام في دلالته الأصلية التي يشير إليها القرآن ويترك لنا‬ ‫واجب خوض اختبار الاهلية باجتهادنا‪.‬‬‫والاختبار شامل‪ :‬القرآن وفهمه الأسمى (السنة) يفرضان على المؤمنين ما حددته سورة‬‫العصر للخروج من الخسر أو للنجاح في اختبار الاهلية‪ .‬وهذا الاختبار هو التعمير بقيم‬‫الاستخلاف وهو يشمل كل شروط التعمير علما بالطبائع والشرائع وعملا بهذا العلم‬ ‫وتنظيم الحياة (الأمر)بإرادة مؤمنين أحرار‪.‬‬‫والفقه الناتج عن علوم آيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس لنعلم حقيقة القرآن‬‫هو الذي علينا تأصيله ليكون عودة إلى الصدر بمرحلتيه‪ :‬فقه الرسول وفقه الخلفاء‬‫الراشدين الثلاثة الاول (لأن الرابع لم يحكم بسبب الحرب الأهلية)‪ :‬شرعية الفقه من‬ ‫شرعية الدولة التي حددها الدستور القرآني‪.‬‬‫لذلك فالفقه وتأصيله خلال حالة الطواري ليس شرعيا لأنه مبني على قلب فصلت ‪53‬‬‫وآل عمران ‪ 7‬وقلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية التي فرضتها حالة الطواري‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫على الاقل في الأفعال‪ .‬فصار الكلي في مبادئه يعير الجزئي وأصبح القانون الجزئي ناسخا‬ ‫للقانون الكلي في كل مجالات الفقه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫في هذا الفصل التاسع أريد أن أبين أن القانون ليس شرعيا لأنه مستمد من المرجعية‬‫الدينية في الظاهر بل لأنه بحق منتسب إلى ما بمقتضاه تعتبره المرجعية الدينية شرعيا‪.‬‬‫والقرآن الكريم لا يمكن أن يعتبر الشرع شرعيا لمجرد كونه في الظاهر ذا مرجعية دينية‬ ‫استنادا إلى ما ضربه من أمثلة‪.‬‬‫فالأمثلة التي يضربها القرآن شارعها هو قاضيها في \"دولته\" التي القيم عليها لا يأتيه‬‫الباطل لأنه يحدد دلالتها القرآنية انطلاقا من آيات الله التي يراها في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫وهو ما يصدق على الرسول وعلى الراشدين‪ .‬وحينها كانت المرجعية هي ما حدده الدستور‬ ‫قبل أن يعطل ويعوضه قانون الطوارئ‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الدستور المحدد لدولة الرسول وعمل الراشدين بمقتضى ما تعلموه منه‬‫قد حدد مصادر التشريع ليس في تلك الأمثلة بل في النظام السياسي الذي وصفنا في الفصل‬‫السابق والذي يتبعه النظام القانوني المترتب عليه بين حدين الاستجابة للرب والانفاق‬ ‫من الرزق بنظام طبيعته جمهورية وأسلوبه شورى‪.‬‬‫فالأمر أمر الجماعة المستجيبة لربها بشروط الاستثناء من الخسر كما حددتها سورة‬‫العصر لتحقيق دولة الأحرار روحيا (لا وساطة بين المؤمن وربه) وسياسيا (لا وصاية على‬‫أمة أفرادها أحرار)‪ .‬لكن الأمر صار بسبب تعطيل الدستور أمر من لم يعد مستجيبا للرب‬ ‫إلا في الظاهر والجماعة خاضعة لوساطة ووصاية‪.‬‬‫وهذا ما أعنيه بحالة الطوارئ التي فقد فيها المسلم حريته الروحية وحريته السياسية‬‫وصار الفقه وتأصيله وكأنه فرض كفاية لكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا فرضي‬‫عين‪ .‬وفرض العين في هذه الحالة هو واجب مضاعف هو اختيار المشرع ومراقبته لأن‬ ‫التشريع ليس مسألة علم بل مسألة إرادة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فالتشريع هو التعبير عن الإرادة الحرة روحيا وسياسيا للجماعة صاحبة الامر بمعايير‬‫الاستجابة للرب من أجل إدارة أمرهم بالشورى حتى يتمكنوا من إزاحة ما يحول دونهم‬‫والأخوة (النساء ‪ )1‬بقيم المساواة والعدل (الحجرات ‪ )13‬فيكون نظام دولة الإسلام‬ ‫وقانونها مشدودين لنظام دولة الله (الكون) وقانونها‪.‬‬‫ومفهوم الأمة لا تجمع على خطا يعني مفهوم المستجيبين للرب إرادتهم مشرعة في نظام‬‫يكون الامر فيه أمرهم (طبيعة النظام) وتكون إدارتهم له بالشورى التي تطبق الوعي‬‫بشروط الاستثناء من الخسر أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي‬ ‫بالصبر‪.‬‬‫وهو ما يعني أن البشرية خسرها في اتباع دين العجل الذهبي ذي الخوار‪ :‬سلطان المال‬‫(مادة العجل ذهب) وسلطان الأيديولوجيا الدهرية (صوت العجل خوار)‪ .‬فالنظام‬‫الإسلامي الذي وصفت هو البديل الوحيد للنظام العلماني الموحد للإنسانية بدين العجل‬ ‫مقدما نفسه بديلا من توحيدها الإسلامي بالدين الخاتم‪.‬‬‫وهو ما يعني أن المعركة الكونية الحالية ليست بنت الصدفة بل هي تحدث في مرحلة‬‫التاريخ الإنساني الذي يصبح فيه نظام الإنسانية السياسي والقانوني مخير بين العلمانية‬‫والإسلام بعد أن يتحرر مما آل إليه نظامه الروحي والسياسي إلى موقف باطني أو ظاهري‬ ‫لم يبق من الإسلام فيه إلا القشور‪.‬‬‫ففي الحقيقة لا يوجد فرق كبير بين فقه داعش وفقه الانظمة الإسلامية سواء ادعت‬‫الحكم بالشرع أو بالوضع لأن النتائج واحدة ما دام ليس معبرا عن إرادة المؤمنين الأحرار‬‫روحيا وسياسيا بل هو إرادة دول خالية من الشرعية التي تجعل قضاءهم تأسيسا وحكما‬ ‫وتنفيذا ظالما بالجوهر وغير أمين لقيم الإسلام‪.‬‬‫وهو ما يبين أن كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث من نفس الطبيعة‪ :‬فلا فرق بين‬‫القانون الذي يدعونه شرعيا والقانون الذي يدعونه وضعيا ما دام كلاهما لا يعبر عن‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫جماعة مؤلفة من أفراد أحرار روحيا وسياسيا حتى يكون وجودهم بمنزلة امتحان أهلية‬ ‫الإنسان للاستخلاف التي تتحدد الوزع الذاتي‪.‬‬‫فإذا لم يكن مصدر القانون شرعيا كان أو وضعيا صادرا عن الوزع الذاتي كان مطلق‬‫الأجنبية وفاقدا للأساس المستمد من كون الامر أمر الجماعة المستجيبة لربها والحرة روحيا‬‫وسياسيا لتديره بالشورى كما حددت ذلك الآية ‪ 38‬من الشورى فهو صادر عن عبادة العباد‬ ‫لا عبادة رب العباد‪.‬‬‫ولست غافلا عن الدور الذي أقع فيه‪ :‬فكيف أجعل القانون يستمد شرعيته من ارادة‬‫المستجيبين لربهم وأنسب إليه وظيفة تربية الإنسان وحكمه حتى يصبح أهلا للاستخلاف‬‫خلال امتحان الاهلية؟ من أين لي بمن يكون مستجيبا للرب ليكون صاحب الامر الحر روحيا‬ ‫وسياسيا ليكون بالشورى مصدر التشريع والتنفيذ؟‬‫كيف لإنسانية فسدت فيها معاني الإنسانية سواء حكمت بالعلمانية أو بالدين أن تحقق‬‫هذه الرؤية القرآنية للنظام القانوني التابع للنظام السياسي الذي أهل الإنسان للعلم به‬‫وللعمل على علم به فيكون صاحب الامر الذي يدرك ضرورة نظام قانوني الشورى سيقع‬ ‫في الخسر لخلوه من شروط الاستثناء منه؟‬‫والجواب هو أن ذلك ممكن وإلا لما وضعه القرآن وقدم منه الرسول عينة حاول‬‫الراشدون محاكاتها بقدر الوسع فصارت الامة قابلة لأن تكون شاهدة على العالمين بشهادة‬‫الرسول عليها‪ .‬وإذا فهمنا نظام سياسة الرسول وأسلوب حكمه أمكن لنا تحقيق هذه الثورة‬ ‫لاستئناف دورنا والخروج من حالة الطوارئ‪.‬‬‫لذلك أؤمن بلا حد بأن القرآن مستقبل الإنسانية ونظامه السياسي والقانوني هو أساس‬‫شريعته وأن تأصيل الفقه في غايته نظرية المقاصد ليس نابعا مما وجهنا للبحث فيه عن‬‫حقيقته وأن الأمثلة الواردة لا يقاس عليها لأن شارعها ليس المك َلفين بل المك ِلف فلا يقاس‬ ‫على عينيتها بعلم غير محيط‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والمعلوم أن عينيتها لا يحيط بها إلا علم محيط لكن خصائصها الكلية في متناول علم‬‫الإنسان النسبي‪ .‬وهذه هي التي يمكن استخراجها من آيات الله في الآفاق والأنفس بما‬‫أمدنا الله به من قدرة الاستنباط في ضوء مقومات دولة الإسلام التي تخول للأمة التشريع‬ ‫والتنفيذ الشوريين في التربية والحكم‪.‬‬‫فالعلم بقوانين الآفاق (الطبيعة رياضية القوانين) والعلم الأنفس (التاريخ سياسي‬‫القوانين) مع الحريتين الروحية والسياسية وبالدستور القرآني بحديه (الأصل الاستجابة‬‫للرب والغاية الإنفاق من الرزق) وطبيعة الأمر (أمر الأمة) وأسلوبه (الشورى) يكون‬ ‫تأصيل الفقه في إرادة أمة الاحرار بالمعنيين‪.‬‬‫ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو تشريع الأحرار بمقتضى التكليف‬‫لاختبار الأهلية بالخلافة لا يتعلق بالأفعال كتال فحسب بل بها كمقدم كذلك وإلا فإن‬‫التكليف يصبح منقوصا لأن يقتصر على تطبيق لوازع أجنبي حتى لو كان نصا مقدسا ما لم‬ ‫يكن نابعا من الوازع الذاتي تشريعا وتنفيذا‪.‬‬‫لذلك اشترطت الآية ‪ 38‬من الشورى الاستجابة للرب مقدما ونظرية الدولة طبيعة‬‫وأسلوبا تاليا والتغلب على العائق (عبادة العجل تؤدي إلى عكس الأنفاق من الرزق فتكون‬‫استعماله للاستعباد) الذي قد يحول دون تحقيقها في التاريخ الفعلي بوصفها رسالة الإسلام‬ ‫الخاتمة‪ :‬ومنها النظام القانوني المناسب‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن الفقه وتأصيله قد مر بعصرين مضموني وآلي كلاهما خلط أصحابه بين‬‫دور المرجعية التي تشير إلى مجال البحث فيما يتأسس عليه التكليف في التعمير والاستخلاف‬‫ليس في المرجعية المشيرة بل المرجعية المشار إليها‪ .‬القرآن حدد محل تجلي حقيقته‪ :‬ليس‬ ‫نصه بل آيات الله في الآفاق والانفس‪.‬‬‫تأصيل الفقه مثل أي علم لا يطلب من نص القرآن بل من آيات الله في الخلق والأمر‬‫آياته التي يرينها في الآفاق والأنفس أي في الطبيعة والتاريخ القائمين في الأعيان ليصبحا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫قائمين في الأذهان‪ :‬لا يمكن تأسيس الفقه وتأصيله إلى في مجال عمله الذي هو أمر‬ ‫الجماعة‪ .‬مرجعية الفقه هي نظام أمر الجماعة‪.‬‬‫وقوانين الطبيعة الرياضية وقوانين التاريخ السياسية هي الآيات المتجلية في الآفاق‬‫والأنفس والعمل بها هو شرط سياسة أمر الإنسان من حيث كيانه الطبيعي ككائن حي‬‫والروحي ككائن حي مكلف وفي إطار النظام المحقق لغايتي التكليف (التعمير والخلافة)‬ ‫يكون الإنسان مكلفا بعمل تام تختبر فيه أهليته‪.‬‬‫والعمل التام لا يمكن أن يكون مجرد تطبيق لتشريع وإلا لكان ما فيه من روحي حر‬‫ومسؤول مردودا لما فيه من طبيعي خاضع للضرورة‪ .‬إبداع التشريع من التكليف الذي‬‫يتجاوز تطبيق تشريح خارجي وأجنبي‪ .‬فالرسالة لم توجد المضمون كان معدوما بل ذكرت‬ ‫بما كتب منه في الفطرة مع شروط الاستثناء من الخسر‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وصلنا الآن إلى الفصل العاشر والأخير من الشكوك وفيه بيت القصيد‪ .‬فالقرآن لا‬‫يتضمن القوانين العينية بل يكتفي ببيان طبيعتها ونظرية العلم التي توصل إليها في مجال‬‫حددتها الآية ‪ 53‬من فصلت أمرا وآل عمران‪ 7‬نهيا لا في نصه حدا يصح على كل العلوم‬ ‫وخاصة علم شروط الحياة الجماعية شرط بقاء الفرد‪.‬‬‫والعلة بينة لأن القرآن جعل حقيقته تعلم من آيات الله في الآفاق والانفس بوصفهما‬‫بعدي عالم الشهادة الذي علمه في متناول الإنسان لأنه شرط تحقيق التكليف الذي هو‬‫شرط اختبار أهلية الإنسان للاستخلاف‪ .‬والتكليف له بعدان‪ :‬تعمير الأرض شرطا لقيام‬ ‫الإنسان والاستخلاف فيها شرطا لأهلية الإنسان‪.‬‬‫وهذان الشرطان لا يتحققان من دون السياسة كفعل والدولة كجهاز لهذا الفعل بوظائفه‬‫العشر‪ :‬خمس هي ابعاد الوظيفة الاولى للدولة (اثنان للحماية الداخلية القضاء والأمن‬‫واثنان للحماية الخارجية‪ :‬الدبلوماسية والدفاع‪ .‬يوحد هذه الاربعة الاستعلام والإعلام‬ ‫السياسيين في نسبته للجماعة نسبة جهاز الفرد العصبي)‪.‬‬‫وخمس للرعاية هي أبعاد الوظيفة الثانية للدولة (اثنان للتكوين التربية النظامية‬‫والتربية المرسلة في المجتمع واثنان للتموين الانتاج الرمزي أو الثقافة العلمية والعملية‬‫والانتاج المادي أو الاقتصاد العلمي والعملي‪ .‬ويوحد هذه الوظائف الأربعة الاستعلام‬ ‫والإعلام العلمي أو البحث العلمي أصل كل رعاية)‪.‬‬‫وهذا هو موضوع السياسة تربية وحكما وما الدولة إلى الوجود المتعين للسياسة بهذا‬‫المعنى‪ .‬وقد جمع القرآن ذلك في سورة قريش‪ :‬أطعمهم من جوع (رمز الرعاية) وآمنهم‬‫من خوف (رمز الحماية)‪ .‬لكنها سياسة مكلف ببعدي التكليف المشروط في قيام الإنسان وفي‬ ‫منزلته الوجودية‪ :‬معمر للأرض ومستخلف فيها‪.‬‬‫وقد حدد القرآن نظام الحماية والرعاية فسماه \"الأمر\" ونسبه إلى الجماعة وأسسه على‬‫الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وهو تأسيس خلقي لوظائف النظام السياسي العام ولنظام‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫القانون الذي يعمل بمقتضاه النظام السياسي العام‪ .‬وذلك هو مضمون الآية ‪ 38‬من‬ ‫الشورى كما سبق أن بينت‪.‬‬‫ولا يمكن تأسيس النظام القانوني والنظام الخلقي (الفقه يجمع بين النظامين) إلا في‬‫إطار هذه السياسة عملا والدولة جهاز عمل يحقق هذه الرؤية لمهمة الإنسان المكلف بتعمير‬‫الأرض (مستعمرا فيها) بقيم الاستخلاف (خليفة فيها) فعلين كاملين اجتهادا تشريعيا‬ ‫وتنفيذيا وبينهما قضائيا مع العلاقتين‪.‬‬‫والاولى تصل القضاء بالتشريع والثانية تصله بالتطبيق‪ .‬وإذن فالقضاء بمقتضى الفقه‬‫مشروط بشورى تكليف من له أهلية التشريع وبشورى تكليف من له أهلة التنفيذ‪ .‬وتكليف‬‫ذي أهلية التشريع وأهلية القضاء وأهلية التنفيذ هي مهمة الأمة المؤلفة من المستجيبين‬ ‫لربهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر‪.‬‬‫وتوسط القضاء بين التشريع والتنفيذ يجعل التنفيذ في الحقيقة محيطا بالقضاء من كلا‬‫طرفيه التشريعي والتنفيذي لأن التشريعي في الحقيقة تابع للتنفيذي في الانظمة‬‫الديموقراطية‪ :‬فالقوانين قابلة للتغيير بتشريعات بديلة يضعها الحزب الأغلبي لتحقيق‬ ‫برنامجه هذا فضلا عن طرق الضغط على القضاة‪.‬‬‫وحتى الدساتير قابلة للتغيير إذا كانت وضعية وليست مقدسة مثل الدساتير الدينية‬‫المتعالية على منطق القوى السياسية المتنافسة في النظام الديموقراطي العلماني‪ .‬وكل ذلك‬‫يعتبر من فضائل تحرير السياسة من سلطان الدين بل هو من أهم حجج المدافعين عن‬ ‫الفصل بينهما‪.‬‬‫وعندما يصبح القانون العام والخاص خاضعا لمنطق التنافس بين القوى فإن ينتهي في‬‫الغاية ليس إلى تحرير السياسي من الديني بل إخضاعه للدين العجل الذهبي أي سلطان‬‫المال على الإرادة وسلطان الإعلام على العقل وكلاهما يمثل أداة تزييف الحقيقة وتحكيم‬ ‫الباطل بمنطق المافيات‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وعندما يصبح القانون العام والخاص خاضعا لمنطق التنافس بين القوى فإنه ينتهي في‬‫الغاية ليس إلى تحرير السياسي من الديني بل إخضاعه لدين العجل الذهبي أي سلطان‬‫المال على الإرادة وسلطان الإعلام على العقل وكلاهما أداة منافية للحريتين تزييفا‬ ‫للحقيقة وتحكيم الباطل بعد إلغاء الحريتين‪.‬‬‫فالوساطة بعد الكنسية صارت حزبية والوصاية بعد الحكم بالحق الإلهي صارت حكما‬‫بالحق الطبيعي أي بسلطان المال على الإرادة وبسلطان الإعلام على العقل تزييفا للوعي‬‫وتسويدا للباطل‪ .‬فالحكم العلماني والحكم الديني من دون الوزع الذاتي كلاهما وازع‬ ‫أجنبي وتوظيف مناف للحريتين الروحية والسياسية‪.‬‬‫ولا يتحرر القضاء من التوظيف السياسي المنافي لوظيفة الفصل بين المتحاكمين من دون‬‫تحقق صفتيه فيه أعني الأمانة والعادل ولا ضامن لهذا التحقق إلا بالوزع الذاتي المصاحب‬‫له بوصفه وزعا أجنبيا‪ .‬والوزع الذاتي هو حضور الله في وعي الإنسان المدرك للأخوة‬ ‫الإنسانية مراقبا (النساء ‪.)1‬‬‫وهذا الوعي بحضور الله مراقبا للأقوال والأفعال هو التقوى التي تحصل في القضاء‬‫عندما يكون الحكم أمينا وعادلا‪ .‬وتلك العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه(القرآن)التي‬‫تسدد العلاقة غير المباشرة أو ما نراه من آيات الله في الآفاق والأنفس بعلمها وعلم التطابق‬ ‫بين العلاقتين‪.‬‬‫وذلك يعني أن عصري الفقه الأولين لا يختلفان من حيث الطبيعة ما يتوهمه أصحاب‬‫الاعجاز العلمي من وجود القوانين العلمية العينية في القرآن وتوهم البحث عنها في نصه‬‫بالشروح اللفظية لبعض الإشارات التي توجه فكر الإنسان إلى محال البحث العلمي فيما‬ ‫يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫والفقه وتأصيله علم يوجهنا القرآن لمحل طلبه الذي يبين حقيقة القرآن متعينة فيما‬‫يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس وهو ما يغني عن وهم الإعجاز العلمي الذي يطلب‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫قوانين الفقه وأصوله في نص القرآن‪ .‬لكن القرآن هو العلاقة المباشرة (بين الله والإنسان)‬ ‫المسددة للعلاقة غير المباشرة‪.‬‬‫ومثلما حدد القرآن حقيقة الخلق والأمر التي ينبغي طلبها من الآيات التي نراها في‬‫الآفاق والانفس لنتبين من حقيقة القرآن‪ .‬والقرآن لم يعين قوانين الآفاق والأنفس‬‫العينية بل حدد طبيعتها‪ .‬فهو يبين أن الخلق حقيقة قوانينه رياضية وأن الأمر حقيقة‬ ‫قوانينه سياسية أي نظام الطبيعة ونظام التاريخ‪.‬‬‫وفي إطار هذين النظامين الرياضي للطبيعة والسياسي للتاريخ حدد القرآن طبيعة‬‫قوانين الفقه أو القانون بالمعنى السياسي بكونها خلقية تصف الحكم والحكم‪ :‬فكلاهما‬‫ينبغي أن يتصف بالأمانة والعدل‪ .‬والأمانة هي حفظ الحقوق والواجبات إذ القاضي يفصل‬ ‫بين المتنازعين فيهما تمثيلا للطرف الثالث‪.‬‬‫والطرف الثالث هو حضور الله في فعل الحكم وهو الضامن الحقيقي لحياد القاضي‬‫ولاتصافه وحكمه بالأمانة والعدل‪ .‬ولما كان هذا الحضور في الضمير من أسرار النفوس‬‫التي لا يعلمها إلا الله وجبت الحروز التي تتعلق بأحكام القضاء الظاهرة التي تضمن بقدر‬ ‫معقول شروط الحياد والموضوعية‪.‬‬‫فتكون الضمانات الأجرائية مقدمة على القانون المضموني وهي أهم ما جاء في القرآن‬‫لضمان شروط قيام القضاء بواجبه على أحسن وجه‪ .‬وتبقى كلها من جنس العلاقة غير‬‫المباشرة التي لا بد فيها من علامات المطابقة مع العلاقة المباشرة بين الله والإنسان‪ .‬وذلك‬ ‫في وظيفتي الدولة بفروعهما‪.‬‬‫فالقضاء يشمل الحماية وفروعها الخمسة والرعاية وفروعها الخمسة وهو إذن لا يستثني‬‫نفسه من الخضوع لأحكامه فهو قاض في القضاء قبل أن يكون قاضيا في الأمن والدبلوماسية‬‫والدفاع والاستعلام لتتحقق شروط الحريتين الروحية والسياسية فيكون المكلف بحق قابلا‬ ‫لاختبار أهليته للتعمير والاستخلاف‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهو قاض في التكوين أي التربية النظامية والتربية المرسلة في الجماعة وفي التموين‬‫الروحي بالإنتاج الرمزي أو الثقافة العلمية والعملية وفي التموين المادي أو الاقتصاد‬‫العلمي والعملي وفي البحث العلمي أصلا لها جميعا‪ .‬والحماية والرعاية بوصفها موضوع‬ ‫قانون تعير بالأمانة والعدل‪.‬‬‫والحماية والرعاية كلتاهما تتعلقان بعلاقة التبادل وبعلاقة التواصل والتفاهم بين البشر‬‫في الداخل والخارج وبينهم وبين الطبيعة وبحدي التبادل والتواصل بين إنسانين أو بين‬‫أنسان والطبيعة‪ .‬والمدار هو العلاقة بالأحياز وما يدور حولها من تعاقدات وخلافات‬ ‫يضبطها القانون بقيمتي الأمانة والعدل‪.‬‬‫والأحياز التي يضبط القانون والفقه شروط التحاكم فيما يدور حولها خلاف بين البشر‬‫هي تقاسم المكان وتقاسم الزمان وتقاسم مفعول الأول في الثاني (ثمرة الإنتاج الرمزي أو‬‫التراث) أو مفعول الثاني في الأول (ثمرة الإنتاج المادي أو الثروة)‪ .‬والثروة والمكان‬ ‫والتراث والزمان أصل كل النزاعات‪.‬‬‫والنزاعات هي بين الإنسان والإنسان على ما بينهما من علاقات أو ما بينهما وبين الطبيعة‬‫من علاقات فيكون الإنسان والطبيعة هما بدورهما موضوعا للقانون المنظم للعلاقات‪ .‬وكل‬‫ذلك قانون مدني‪ .‬وعن الظلم في الحكم بين المتنازعين فيه تنتج القوانين الأخرى‪ :‬الأسري‬ ‫والجنائي والإداري والدستوري‪.‬‬‫وكل ما نكتشفه في آيات الله في الآفاق والأنفس أو في العلاقة غير المباشرة بين الله‬‫والإنسان يثبت حقيقة ما جاء في القرآن‪ .‬فهو يحدد مجال القانون أو الفقه بهذه المعاني‬‫كلها ويعين قيمتي الحكم أي الأمانة والعدل تاركا تحديد مقدار الجزاء والعقاب العيني‬ ‫الدنيوي للمتنازعين لاجتهاد القاضي‪.‬‬‫ولو لم يكن الأمر كذلك لما غير الفاروق الذي هو أكثر الناس أمانة وعدلا العقاب الذي‬‫هو وسيلة الحكم وليس الحكم بحسب ظرف الجناية الحاصلة في السرقة‪ :‬ذلك أن الفاروق‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫كان يميز بين الحكم ووسيلة العقاب‪ .‬فالحكم هو عقاب الجناية والوسيلة هي تقدير العقاب‬ ‫بحسب ظرفها‪ :‬شرطا في الأمانة والعدل‪.‬‬‫ومن ثم فالثابت هو الحكم والمتغير هو تقدير الوسيلة المحققة للعدل الأمين في أعيان‬‫النوازل‪ .‬ومعنى ذلك أن الفاروق كان يدرك أن حقيقة القرآن تتعين في آيات الله في الآفاق‬‫والأنفس وأن العلاقة المباشرة بين الله والإنسان أو القرآن وظيفتها مراقبة العلاقة غير‬ ‫المباشرة بتوسط وظيفتي المكلف‪.‬‬‫فالمكلف وظيفته الأولى تنتج عن كونه مستعمرا في الأرض أو مكلفا بتعميرها مصدرا‬‫لقيامه ووظيفته الثانية كونه مستخلفا فيها أي مكلفا برعايتها بمقتضى الأمانة والعدل‬‫جوهر شرع الله الذي ينبغي أن يكون حضوره الدائم كرقيب على اقوال الإنسان وافعاله‬ ‫هو عين الوزع الذاتي‪ :‬بمعيار الامانة والعدل‪.‬‬‫وقد يظن بعض القراء أن هذا البديل فيه شيء من الاستغناء عن النصوص والاكتفاء‬‫بالآفاق والأنفس‪ .‬لكن اتهامي بهذه الرؤية اتهام للقرآن نفسه‪ :‬ذلك أن فصلت ‪ 53‬صريحة‬‫والذهاب المباشر للنصوص تعد عن آل عمران ‪ 7‬لأن قلب فصلت ‪ 53‬يجعل المنطلق النص‬ ‫بداية وتحرير المناط غاية في حين أنها ترى العكس‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الفصول العشر السابقة من شكوك على المقاصد كان عرض إشكالية الفقه وتأصيله بما‬‫هي أزمة ناتجة عن فهم أولي للعقد بين الله والإنسان أو ما يمكن تسميته بعقد الاستخلاف‪.‬‬‫وهذا العقد هو القرآن الكريم‪ .‬وهو الديني في كل دين غير محرف‪ .‬والفهم الأولي كان‬ ‫عكس توجيهات المستخلف للخليفة لمعرفة حقيقته‪.‬‬‫والأمر طبيعي‪ :‬وهو يتبين من المقابلة بين فهمه قبل الفتنة الكبرى وفهمه بعدها‪ .‬فقبل‬‫الفتنة لم يكن ممكنا أن يساء فهم توجيهات العقد لأن الرسول كان على صلة مباشرة بالوحي‬‫والراشدين كانوا على صلة مباشرة بالرسول وربوا على نفس الصلة التي تعتبر العقد‬ ‫لتوجيه العلم والعمل واختبار أهلية الخليفة‪.‬‬‫لكن ما حصل بعد الفتنة الكبرى والحروب الأهلية الأربع التي ترتبت عليها هو تعطيل‬‫الدستور او العقد في النظر والعمل وخاصة في شروط اختبار أهلية الإنسان للخلافة التي‬‫يحددها العقد أو الميثاق وتقبل الرد إلى مضمون القرآن بوصفه التذكير بهذا العقد كما‬ ‫رسمته آيات الأعراف ‪.173-172‬‬‫{وإذ أخذ ربك من بين آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم‪ :‬ألست بربكم؟‬‫قالوا بلى‪ :‬شهدنا‪ .‬أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (‪ )172‬أو تقولوا إنما‬‫أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟} الرسالة تذكير‬ ‫بهذا الميثاق وبمضمون اختبار أهلية الإنسان للخلافة‪.‬‬‫ومضمون الاختبار هذا هو كل ما يتعلق بالخلافة‪-‬خلافة الإنسان‪-‬في الحياة الدنيا أو ما‬‫سيعرض منها في الحياة الأخرى لتقييم نتيجة الاختبار‪ .‬ولما كان القرآن الذي هو هذا الميثاق‬‫قد نجم من أجل تعليمه (الإسراء ‪ 105‬و‪ )106‬فإن تحديد طبيعة القرآن كله لم يكن‬ ‫ميسورا إلا للنبي وللراشدين من بعده‪.‬‬‫وقلب العلاقة بينه كدستور أو ميثاق بين الخليفة والمستخلف توجيها لشروط النجاح في‬‫الاستخلاف وبين الأعمال النظرية والعملية التي حاول العلماء استخراجها منه ظنت اعمالا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مباشرة محددة في القرآن نفسه بدل ما وجه إليه لمعرفة حقيقة القرآن (فصلت ‪ )53‬وما‬ ‫نهى عنه من توهم استنتاجها (آل عمران ‪.)7‬‬‫وذلك هو مدلول ترك ما وجهت إليه فصلت ‪ 53‬أمرا والانشغال بما أشارت إليه آل عمران‬‫‪ 7‬نهيا وكان ما حدث بعد الفتنة من قلب للعلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية مناظرا‬‫لقلب فهم القرآن الأمر نهيا والنهي أمرا‪ .‬تركوا طلب حقيقة القرآن في آيات الله في الآفاق‬ ‫والانفس وطلبوها من المتشابه‪.‬‬‫ويمكنني القول إني لم أفعل شيئا من عندي‪ :‬كل ما أحاوله هو التحرر من هذا القلب‬ ‫المضاعف‪:‬‬‫‪ .1‬في الممارسة السياسية للخروج من حالة الطوارئ التي تعيشها الأمة منذ الفتنة‬ ‫الكبرى (الباطنية) ومكنت الفتنة الصغرى الحالية (العلمانية) من بيان طبيعتها‬ ‫‪ .2‬وفي علوم الملة قلبا لفصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬‫وانطلاقا من الفتنتين الكبرى والصغرى (الباطنية والعلمانية) بينت طبيعة المآل النظري‬ ‫والعملي‪:‬‬‫‪ .1‬قلب للعلاقة بين الدستور أو العقد القرآني والقوانين الاستثنائية في الممارسة‬ ‫السياسية‬‫‪ .2‬قلب لعلاقة بين ما أمر به القرآن وما نهى عنه وفي مجال اختبار أهلية الاستخلاف‬ ‫بالحريتين الروحية والخلقية‬‫واختبار الحرية الروحية (العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه) وأثرها في الحرية السياسية‬‫(العلاقة غير المباشرة بين المؤمن وربه) تربية وحكما في الدنيا بوصفهما اختبارا لأهلية‬‫الإنسان كخليفة ذلك هو مجال كل علم وكل عمل يحاسب عليه الإنسان في الآخرة‪.‬‬ ‫والتكليف إذن مشروط بهذين الحريتين‪.‬‬‫وتلك هي الشريعة التي تضبط الطبيعة‪ :‬فالإنسان من حيث هو مخلوق يتبع الطبيعة‬‫ومن حيث هو مكلف يتبع الشريعة والقرآن هو إذن الميثاق بين الله والإنسان وهو إن صح‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫التعبير تعليمات إلهية للإنسان حتى يبدع شروط قيامه الطبيعي والتشريعي‪ .‬هو ما بعد‬ ‫شريعة وما بعد طبيعة وليس شريعة ولا طبيعة‪.‬‬‫ومن ثم فما نتج عن قلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية وبين المأمور به‬‫والمنهي عنه في علاقة القرآن بمجال الاختبار (العلم والعمل الإنسانيين) هو الخلط بين ما‬‫بعد الطبيعة وما بعد الشريعة اللذين في القرآن والطبيعة والشريعة في مجال امتحان اهلية‬ ‫الإنسان للاستخلاف‪ :‬فصلت ‪.53‬‬‫وهذا القلب لفصلت ‪ 53‬ولآل عمران ‪ 7‬جنيس لما يسمى بالإعجاز العلمي‪ :‬فأصحاب‬‫الإعجاز العلمي يبحثون عن قوانين الطبيعة في شرح نص القرآن‪ .‬لكن فصلت ‪ 53‬تقول إن‬‫حقيقة القرآن توجد في آيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس‪ .‬ومعنى ذلك أن قوانين‬ ‫الطبيعة ليست في القرآن بل في العالم نفسه‪.‬‬‫إنها لا تعلم بشرح نص القرآن بل تعلم بالبحث العلمي في الطبيعة وآيات الله فيها هي‬‫القوانين‪ .‬والقرآن حدد طبيعتها دون أن يحدد أعيانها‪ .‬فكل مخلوق خلق بقدر ومن ثم فهو‬‫يعني أن قوانين الطبيعة لا تعلم إلا بالإبداع الرياضي المشفوع بالتجربة العلمية‪ .‬القول‬ ‫بالأعجاز العلمي تكذيب للقرآن‪.‬‬‫وهذا الحكم يصح على كل علم بما في ذلك علم الشريعة‪ .‬ومن ثم فأول من فهم هذا‬‫الانحراف وأعاد وجهة العلم الشرعي هو ابن خلدون‪ :‬لم يعد يطلب الشرائع من شرح آيات‬‫القرآن بل من تطبيق التوجيه القرآني في فصلت ‪ 53‬فطلب الشرائع من آيات الله في الآفاق‬ ‫والانفس آياته التي نتبين بها حقيقته المابعدية‪.‬‬‫وقد حاولت تحديد مقومات المجال الذي يختبر فيه الإنسان من حيث أهليته للاستخلاف‬‫كما يحددها القرآن الكريم تحديدا جامعا مانعا وسميت ذلك \"المعادلة الوجودية\" وهي على‬‫النحو التالي‪ :‬القرآن تذكير بنص الميثاق أو العقد بين الله والإنسان إما كعلاقة مباشرة‬ ‫بينهما أو كعلاقة غير مباشرة بينهما‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والعلاقة غير المباشرة بين الله والإنسان ذات بعدين هما الطبيعة والتاريخ أو بلغة‬‫القرآن تجلي آيات الله في الآفاق والانفس وتحكمها العلاقة المباشرة بين الله والإنسان‪.‬‬‫والميثاق يتكلم على تواصلين بين الله والإنسان مباشر وغير مباشر‪ .‬والأول هو عالم الغيب‬ ‫والثاني أثره في عالم الشهادة‪.‬‬‫فإذا طبقنا فصلت ‪ 53‬تبين لنا أن قوانين الطبيعة وسنن الشريعة لا توجد في نص القرآن‪.‬‬‫فهو مابعد الطبيعة وما بعد الشريعة‪ .‬فقوانين الطبيعة توجد فيها وهي رياضية تجريبية‪.‬‬‫وسنن الشريعة توجد في التاريخ وهو سياسي تجريبي‪ .‬وكونهما كذلك يعني أن طلب هذه‬ ‫القوانين والسنن والعمل بها هو مجال الاختبار‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن التكليف ‪-‬الاستخلاف‪-‬لا يقتصر على العمل بل هو يشمل النظر كذلك‪.‬‬‫فهما أداتا القيام بمهمة الخليفة وهما ما تختبر فيه أهلية الإنسان للاستخلاف والتقييم حتى‬‫يجازى إيجابا أو سلبا لأن حكمها هم حكم الاجتهاد (النظر) والجهاد (العمل) كما حددت‬ ‫ذلك صراحة سورة العصر‪.‬‬‫وبهذا يتبين أن القرآن يمكن فهم طبيعته التي غفلت عنها علوم الملة رغم أنه حددها‬‫صراحة تجعله ذا بعدين مباشر هو التذكير بالميثاق أو الديني في كل دين وهو معنى كون‬‫الإسلام هو الدين الخاتم وغير مباشر هو تذكير بشروط أهلية الإنسان للاستخلاف في‬ ‫مستوى ما بعدها‪.‬‬‫ومستوى ما بعد شروط الاستخلاف هو ما بعد الطبيعة وما بعد الشريعة وهما غير‬‫الطبيعة وغير الشريعة‪ .‬ما يوجد في القرآن هو ما بعد الطبيعة وما بعد الشريعة‪ .‬والخطأ‬‫الذي حصل وكان ينبغي أن يحصل هو الخلط بينهما وبين ما بعدهما‪ :‬فتعاملت الأمة مع نص‬ ‫القرآن والسنة وكأنهما علم طبيعة وعلم شريعة‪.‬‬‫وهما ليسا علما بل عقد أو ميثاق يحدد الشروط التي تمكن من تحصيل أهلية الإنسان‬‫للخلافة وهي شروط متعلقة بنظره وعمله في الدنيا التي هي مطية الآخرة لأن نظريه‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫(الاجتهاد) وعمله (الجهاد) هما ميدان أقواله وأفعاله التي تعير بمقتضى عقد الاستخلاف‬ ‫أو الميثاق الذي شهد به أبناء آدم‪ :‬دين الفطرة‪.‬‬‫وهذا هو قصدي بأن الديني والفلسفي شيء واحد‪ :‬كلاهما ينطلق من تعاقد بين الإنسان‬‫والحق‪ .‬فالإنسان بالجوهر كائن لا يمكن أن يكون لوجوده معنى إلا بهذا الانشداد الدائم‬‫للحق لأن كيانه الروحي بمجرد أن يدكر ذاته يدرك أن حياته هي هذا الانشداد سواء‬ ‫علمه بعقله(فلسفة)أو بوجدانه(دين)‪.‬‬‫وسأخصص الفصل المقبل لمحاولة ابن خلدون في تأسيس علم الشرائع أو سنن السياسة‬‫بمقتضى فصلت ‪ 53‬فطلبه من آيات الله في الآفاق والأنفس أي آياته في التاريخ الشامل‬‫والمديد الذي هو علم العمران البشري والاجتماع الإنساني بمقتضى طبيعته الجامعة بين‬ ‫طبيعة مضطرة وطبيعة حرة‪ :‬قانون التكليف وسننه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لكن الكلام في محاولة ابن خلدون ينبغي تأجيله إلى ما يصلها بما تقدم في الفصول العشرة‬‫حول الشكوك لأنه لا يمكن الانتقال من عرضها بطريقة أرسطو في مقالة الدال إلى علاجها‬‫فيما بعد الشريعة‪-‬وهي طريقته التي خصصت لها بابا كاملا من رسالتي في الحلقة الثالثة‬ ‫حول منزلة الرياضيات في علمه‪.‬‬‫وعلاج الشكوك فيما بعد الشريعة يعني ردها إلى المعادلة الوجودية والوصل بين العلاقة‬‫المباشرة بين الله والإنسان فيها والعلاقة غير المباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ بينهما‪.‬‬‫فالقرآن تذكير بهذه المعادلة وبما يترتب عليها في العقد بين الخليفة والمستخلف بتواصل‬ ‫موضوعه قوانين التواصل والتبادل‪.‬‬‫ما بعد الشريعة التي تذكر بالعلاقتين المباشرة وغير المباشرة بين قطبي المعادلة‬‫الوجودية (الله والإنسان) هي ما بعد التكليف أو بنود الاستخلاف وصلا للإنسان الخليفة‬‫بالله المستخلف في العلاقة المباشرة وهي مقومات العبادة المباشرة وفي العلاقة غير المباشرة‬ ‫وهي مقومات اختبار الخليفة نظرا وعملا‪.‬‬‫فلأذكر بالمعادلة الوجودية موضوع التكليف والاختبار التي هي بنية العقد أو الميثاق بين‬ ‫قطبيها الله والإنسان ما بينهما من علاقة مباشرة وبتوسط الآفاق والأنفس‪:‬‬ ‫‪ .1‬الله‬ ‫‪ .2‬الإنسان‬ ‫‪ .3‬الطبيعة‬ ‫‪ .4‬التاريخ‬‫‪ .5‬العلاقة المباشرة وغير المباشرة أو التواصل والتبادل المباشرين وغير المباشرين‬ ‫بين القطبين‪.‬‬‫وكل هذه العناصر التي تتألف منها المعادلة الوجودية حاضرة في القرآن بذاتها وبما‬‫بعدها إنها في آن حاضرة بوصف عام يحدد طبيعتها وطبيعة ما يمكن للإنسان إدراكه منها‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫بما جهز إليه من قدرة على الإدراك فيما يتعلق باختبار أهليته للاستخلاف خلال تحقيقه‬ ‫شروط قيامه المادي والروحي‪.‬‬‫وذلك هو التكليف الذي يضاف إلى قيام الإنسان المادي باعتباره قيامه الروحي الذي‬‫يمكن اعتباره علاقة أخلاقه بخلقته المرسومين في فطرته والمتعين في نظره وعمله مجالين‬‫لامتحان أهليته لأن يكون خليفة بفضل ما يترتب على قدرة التسمية التي أهلته للاستخلاف‬ ‫مبدئيا كما في مشهد الاستخلاف‪.‬‬‫فهذه الإضافة ‪-‬القدرة على التسمية‪ -‬هي ما جهلته الملائكة التي وصفته من حيث هو‬‫حيوان بكونه مفسدا للأرض وسافكا للدماء‪ .‬وإذن فالتكليف هو النظير الخلقي للنظير‬‫المعرفي الذي يرمز إليه تعليمه الأسماء كلها أسماء المخلوقات أعني قدرة التسمية التي تنقل‬ ‫المسمى من الأعيان إلى الاذهان‪.‬‬‫وهذه النقلة من الأعيان إلى الاذهان قلبت العلاقة بين الطبيعة والتكليف‪ :‬فبفضل‬‫الاسماء يتحرر الإنسان المسميات ليصبح مفارقا لها وكأنه صار فطريا قادرا على التعيير‬‫القيمي بمستوياته الخمسة‪ :‬وجوديا هو التوجيه (يميز بين الجهات الوجودية) ثم الجمالي‬ ‫والمعرفي والخلقي والوجودي أو العلاقة بالله‪.‬‬‫وهذه القدرة على الانفصال عن مجرى الوجود العيني والارتقاء إلى الوجود الذهني‬‫بفضل قدرة التسمية هي أصل كل وعي تقييمي ومنه يستمد الوزع الذاتي (بلغة ابن‬‫خلدون) الذي لا يكون الوزع الأجنبي أو الخارجي ذا معنى من دونه‪ :‬إنه جوهر الانشداد‬ ‫إلى المطلق أو الى طلب الحقيقة بالوجدان أو بالفرقان‪.‬‬‫وطلب الحقيقة بالوجدان هو الديني المفطور في الإنسان وطلبها بالفرقان هو الفلسفي‬‫المفطور فيه‪ .‬والتطابق بين هذين المفطورين في الآفاق وفي الأنفس هو الجزء الثاني من‬‫فصلت ‪ 53‬التي تبين أن معرفة حقيقة القرآن لا تكون إلى بما نراه من آيات فيها وفي‬ ‫الآفاق‪ :‬حقيقة القرآن تتجلى في الأعيان وفي الأذهان‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وما يتجلى فيهما هو آيات الله التي هي قوانين الأعيان وقوانين الأذهان المتعلقة بالطبيعة‬‫والتاريخ وإدراك تجليها هو البصيرة والحكمة التي هي ضالة المؤمن هي الجمع بين النظر‬‫والعمل بها تدركه البصيرة من تجلي القوانين الرياضية في الطبيعيات والسنن السياسية في‬ ‫الأخلاقيات أو الإنسانيات‪.‬‬‫ولما كانت الشرائع التي هي موضوعنا متعلقة بالإنسان بوصفه مكلفا بمهمة الخليفة فإنها‬‫ليست معطاة في القرآن الذي هو المعادلة الوجودية وما بعدها بوصفها ما بعد مضمون الميثاق‬‫فإن الشرائع بهذا المعنى هي شرائع أفعال الأنسان وأقواله التي عليه إبداعها جزءا من‬ ‫موضوع اختبار الاهلية للخلافة‪.‬‬‫ولو كانت معطاة بأعيانها وليس بمبادئها فحسب لكان الإنسان مجرد كائن طبيعي غير‬‫مكلف ولكان خاضعا للضرورة كأي حيوان ليس له القدرة على التسمية أو قدرة التعالي‬‫على الضرورة لتحقيق مطالب التكليف التي تختبر بها الاهلية أي إبداع أدوات النظر‬ ‫والعمل أي وظائف الدولة تعينا للتربية والحكم‪.‬‬‫فماذا نجد في هذه المعادلة الوجودية التي هي ما بعد نظرية الله ونظرية الإنسان‬‫ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصلين والتبادلين لأنها الرسالة الخاتمة‪.‬‬‫فمن يؤمن بان القرآن كلام الله وأن ما يقوله عن نفسه وعن الرسول الخاتم ينبغي أن‬ ‫يعتقد أن القرآن يتضمن سر كل شيء في الوجود‪.‬‬‫وهذه هي حقيقته التي تقول فصلت ‪ 53‬أنها ما يرينها الله من خلال آياته في الآفاق‬‫والانفس أي في عالم الشهادة وينهانا عن طلبها من عالم الغيب المحجوب (آل عمران ‪)7‬‬‫الذي القول فيه متشابه وينهانا عن تأويله لأن الإقدام عليه دليل مرض القلوب وابتغاء‬ ‫الفتنة‪ .‬لذلك فواوها ليست عطفية بل استئنافية‪.‬‬‫وإذن فكل من عمل بما يعارض فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬عملوا بالإسلام موضوعا للعلم ما‬‫عمله ما عمل به أصحاب تعطيل الدستور والاعتماد على القوانين الاستثنائية موضوعا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫للعمل‪ .‬والاستئناف لا يمكن أن ينطلق من حالة الطوارئ التي حكمت الأمة منذ الفتنة‬ ‫الكبرى إلى الفتنة الصغرى الحالية‪.‬‬‫والفتنة الكبرى بطننت الإسلام والفتنة الصغرى تحاول علمنته‪ .‬ولما كنت ضد البطننة‬‫والعلمنة فإن همي هو إخراج الأمة منهما وإعادة التأسيس من رأس‪ :‬علوم الأمة وأعمالها‬‫التي حصلت خلال حكم الطوارئ كلها قوانين استثنائية نتجت عن تعطيل الدستور العملي‬ ‫(سياسة) والدستور النظري (معرفة)‪.‬‬‫وطبعا فما حصل بسبب هذه القوانين الاستثنائية في العمل والنظر لا يمكن نفيها فهي‬‫جزء لا يتجزأ من تاريخ تراثنا السياسي والمعرفي وهي تجربة طويلة مكنت الأمة من تحقيق‬‫قدر لا يستهان به من التعمير والاستخلاف لكنها في الحقيقة كانت باطنية النظر وعلمانية‬ ‫العمل حولتا الدين إلى إيديولوجيا‪.‬‬‫فذلك من قضاء الله وقدره ليرزقها بتاريخ طويل حتى تتمكن من تجربة تاريخ البشرية‬‫حتى تخرجها من الغفلة بإشارة سورة يوسف فتدرك رهانات دنياها ودوره الاختباري للأهلية‬‫الاستخلافية في الحب ونظام الحاجات المادية والحاجات الروحية فتخطط للمستقبل بالوصل‬ ‫بين الحلم والعلم برقابة برهان الرب‪.‬‬‫ونظرية الله ونظرية الإنسان ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصل‬‫والتبادل المباشر بين الله والإنسان وغير المباشر بينهما بتوسط الطبيعة والتاريخ لم ترد في‬‫القرآن بوصفها علوما عينية في القرآن بل هي وردت فيه بوصفها ما بعد علومها العادية‬ ‫لتوجه البحث فيها والعمل اختبارا للأهلية‪.‬‬‫وذلك هو معنى \"خلق ثم هدى\"‪ .‬والهداية إشارات الله إلى الطريق القويمة في النظر‬‫والعمل وليس القيام بالنظر والعمل بدلا من الإنسان‪ .‬لذلك فالشريعة بوصفها علم الفقه‬‫وتأصيله تخضع لنفس المنطق‪ :‬القرآن لا يتضمن إلا الإشارات الموجهة إلى الطريق القويمة‬ ‫لإبداع الإنسان فيها نظريا وعمليا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وإبداع الإنسان للشريعة نظريا هو الفقه وأصوله‪ .‬وإبداعه لها عمليا هو الدولة‬‫وأصولها‪ .‬الفقه هو نظرية الدولة ووظائفها أو حرزا الوجود الإنساني في الأعيان‬‫والاذهان خلال الاختبار‪ :‬والشريعة هي مقومات حمايته ورعايته‪ .‬وفروعهما هي وظائف‬ ‫الدولة متعينة في الأعيان والأذهان هي الشريعة‪.‬‬‫وهذه هي مادة التاريخ الإنساني الذي هو توليفة بين ما في الإنسان من طبيعي ومن‬‫روحي إذ يلتقيان مرتين‪ :‬فيه كفرد وحرزه الإيمان والعمل الصالح‪ .‬وفي الجماعة وحرزها‬‫التواصي بالحق والتواصي بالصبر‪ .‬فتكون الشريعة بهذا المعنى هي هذه الحروز الخمسة‪:‬‬ ‫إرادة الخروج من الخسر بما حددته سورة العصر‪.‬‬‫لابد إذن ما بعد العلم وما بعد العمل الهادية للإنسان في اختبار أهليته للاستخلاف‬‫بتعامله مع مقومات المعادلة الوجودية‪ :‬الله والإنسان والطبيعة والتاريخ وما بين الله‬‫والإنسان من تواصل وتبادل مباشرين ثم ما بين الإنسان والطبيعة وما بين الإنسان‬ ‫والتاريخ علاقة غير مباشرة بين الله والإنسان‪.‬‬‫نظرية الله ‪Théologie‬ونظرية الإنسان ‪ Anthropologie‬ونظرية الطبيعة‬‫‪ Cosmologie‬ونظرية التاريخ ‪ Historiologie‬نظرية التواصل ‪Communication‬‬‫والتبادل ‪ Echange‬بين الله والإنسان المباشرين ثم غير المباشرين بتوسط الطبيعة‬ ‫والإنسان والتواصل والتبادل هي موجهات القرآن لكل علم وعمل‪.‬‬‫والشريعة كنظر هي الفقه وتأصيله وكعمل هي أفعال العباد أفرادا وجماعات في التاريخ‬‫ومن ثم فهي مثل كل العلوم والأعمال لا نصل إليها إلى بأمر فصلت ‪ 53‬ونهي آل عمران ‪7‬‬‫وبالدستور وليس بتعطيله واستبداله بقانون الطوارئ المعتمد على كل ما هو قوانين‬ ‫استثنائية في القرآن والسنة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مزقوا القرآن شر تمزيق متصورين أنه معين مضمونات ما يزعمونه علما حقيقيا ولم‬‫يدروا أنهم ناقضوا أمره (فصلت ‪ )53‬ونهية (آل عمران ‪ )7‬فشوهوه وطلبوا منه ما نفى‬‫أن يكون فيه لأنه ما بعد ما تتعين فيه آياته أي الآفاق والانفس اللذين أهملوهما وطلبوا‬ ‫المستحيل‪ :‬علم الغيب بقيسه على عاداتهم الشاهدة‪.‬‬‫لم يفهموا أن القرآن يوجههم لعلم الشاهد كشاهد ليفهموا بعديه الطبيعي (رياضيات‬‫تطبيقية) والتاريخي (سياسيات تطبيقية) وكلما أصابوا في علمهما تبينت لهم حقيقة القرآن‬‫التي هي المثال الاعلى المطلق الذي به يعير الشاهد ولا يعلم بقيسه الغيب عليه لأن مثال‬ ‫أعلى لا يدركه إلا الله بعلمه المحيط‪.‬‬‫ومن ثم فالمنطلق هو الطبيعة التي تتجلى فيها قوانينها الرياضية وتلك هي آيات الله‬‫التي يرينها فيها والتاريخ الذي تتجلى فيه سننه السياسية وتلك هي آيات الله التي يرينها‬‫فيه‪ .‬فنرى القوانين والسنن بما نبدع عبارة ما تلقته البصيرة والسميعة والشميمة‬ ‫والذويقة واللميسة حوادس وراء حواسنا‪.‬‬‫وهذه الحوادس التي تمكن الحواس من تجاوز ظاهر الآفاق والانفس إلى قوانينها وسننها‬‫هي التي جهز الإنسان بها ليتجاوز كيانه الطبيعي الخاضع للضرورة إلى كيانه الروحي‬‫المتعالي عليها بالحرية والقدرة على تدبر الكون والتاريخ عودة مما في الأنفس إلى ما في‬ ‫الآفاق‪ .‬فالأنفس تدرك صفاتها المقومة‪.‬‬‫فالإنسان يدرك أن له إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجود هي شروط هذا التلقي والتعبير‬‫عنه للتواصل والتبادل المباشرين مع الله الذي ينسب إليه إرادة وعلما وقدرة وحياة‬‫ووجودا كلها مطلقة وهي جوهر المثال الاعلى الذي لا يمكن للإنسان أن يعيش لحظة من‬ ‫دون انشداده إليه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فينسب إليه الخلق والامر الذي يذكره به القرآن خلق كل شيء وأمره فتتحدد لديه‬‫معايير علمه وعمله في عالم الشهادة ومن ثم فالاتجاه الأصوب في المعرفة هو قيس الشاهد‬‫على الغائب وليس العكس‪ .‬فالمثال الأعلى غيب لكن منه ينبجس نور يضيء الشاهد بشهوده‬ ‫الحاضر والماضي والمستقبل شهود التقدير الذهني‪.‬‬‫وإذا أيدت التجربة العلمية والعملية بعض مقدرات الذهني حصل العلم جمعا بين‬‫التقدير الذهني والتحقق العيني في النظر والعمل‪ .‬وهذا الجمع بين التقدير الذهني‬‫والتحقق العيني لأفعال العباد هو اختبار أهلية الأنسان في الخلافة أو عدم أهليته‪ .‬لذلك‬ ‫كان موضوع الفقه كل أفعال الإنسان وتعاملاته‪.‬‬‫وأفعال العباد بهذا المعنى ترد إلى العمران والاجتماع مادة للسياسي بما هو تربية وحكم‬‫بشروط انتظام هذه الأفعال وما يترتب عليها من ثمرات وتعاملات يمكن أن تكون مجال‬‫توافق أو خلاف بين البشر ما يقتضي حكما بينهم يكون فيه الوازع الأجنبي متمما للوازع‬ ‫الذاتي وخاصة عندما يغفو فلا يزع ذاتيا‪.‬‬‫والآن صار بوسعنا أن ندرس الثورة الخلدونية‪ :‬فهي مستحيلة الفهم من دون أن يكون قد‬‫تفطن إلى الانقلابين اللذين منعا تحقيق ذلك في المستوى العملي (التخلي عن الدستور‬‫السياس وتعويضه الطوارئ) وفي المستوى النظري التخلي عن فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬في‬ ‫كل علوم الملة التي أرجعها إلى الصواب‪.‬‬‫وكانت الثمرة الثورية متمثلة في أن ما بعد العلم والعمل الفلسفيين اللذين كان يرد إلى‬‫الميتافيزيقا أصبح يرد إلى المتاأخلاق‪ :‬لم يبق مابعد الطبيعة (أرشيتاكتونيك قانون‬‫الضرورة) وحتى ما بعد التاريخ (أرشيتاكتونيك سنة الحرية) ممثلين للعلم الرئيس بل‬ ‫مابعد الأخلاق أو المعادلة الوجودية‪.‬‬‫وهذا العلم الرئيس البديل هو الذي يؤسس للعلاقة بين القوانين الطبيعية (رياضيات‬‫مطبقة) والسنن التاريخية (سياسيات مطبقة) بوصفها علاقة تواصل وتبادل بينهما في ضوء‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫علاقة مباشرة بين الله والإنسان هي عين كيان الإنسان أو عين انشداد صفاته النسبية إلى‬ ‫صفات الله المطلقة التي وصفنا‪.‬‬‫وهذا هو الميثاق أو العقد الوجودي الذي يترجم قرآنيا بعقد الاستخلاف‪ :‬الإنسان يعير‬‫ما ينسب إلى الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود من أفعال العباد بمعايير تليق بإرادة‬‫الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده مع العلم باستحالة التطابق بين النوعين النسبي‬ ‫والمطلق‪ :‬وهذه الاستحالة هي الغيب‪.‬‬‫المقدمة مبنية على عناصر المعادلة الوجودية الخمسة‪ :‬نظرية الله ونظرية الإنسان‬‫ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصل والتبادل المباشرين بين الله والإنسان‬‫وغير المباشرين بينهما بتوسط الطبيعة والتاريخ وكل ذلك على أساس عقد الاستخلاف‬ ‫واختبار أهلية الإنسان للاستخلاف نظرا وعملا‪.‬‬‫وهي مبنية على دور الاحياز في تحقيق شروط الاهلية‪ :‬فتحويل المكان إلى جغرافيا‬‫والزمان إلى تاريخ حضاريين بما يحققه الإنسان بعلمه وعمله فيهما وما ينتجه هذا العلم‬‫والعمل من تفاعل بين الجغرافيا والتاريخ في الاتجاهين من الجغرافيا إلى التاريخ (تراث‬ ‫شعب) ومن التاريخ إلى الجغرافيا (ثروته)‪.‬‬‫وهذه الأحياز الاربعة‪-‬الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة‪-‬يوحدها عامل روحي‬‫متعين في منظومة من القيم لها قيام في الأذهان والاعيان هي المرجعية التي تجمع الجماعة‬‫روحيا وهي عندنا القرآن والسنة وما يمثلهما في المعالم ذات الدلالة الروحية كالحرمين‬ ‫والمساجد والشعائر ومراسم الحياة والموت‪.‬‬‫وهذه المرجعية الموحدة للأحياز هي بدورها حيز يتضمن البعد الروحي من حياة الجماعة‬‫أو ما يجعلها أمة لأنها هي في الحقيقة حصيلة الما بعد العام أو ما بعد الطبيعة والتاريخ‬‫والعلاقة بينهما وبين القطبين الله والإنسان أعني المعادلة الوجودية التي تحرر الإنسان‬ ‫من الوجود المحدود والفاني‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولا توجد جماعة‪-‬ذات دين وثني أو منزل‪-‬تخلو من التحدد بهذه الاحياز التي وصفت‪.‬‬‫وهي الإطار الذي يجري فيه الاختبار بالنسبة إلى كل إنسان‪ .‬وواضح أن حياة الإنسان‬‫مشدودة إلى هذه الأحياز‪ :‬فمن الجغرافيا يستمد مادة حياته ومن التاريخ صورة حياته‬ ‫ومن الثروة زاده المادي ومن التراث زاده الروحي‪.‬‬‫وبذلك فكل إنسان يحتوي في كيانه العضوي والروحي كل البشرية لأن الزادين‬‫ومصدريهما كلاهما واحد وكلاهما يتحدد في المرجعية إما مصدرا مكتفيا بذاته لأنه هو‬‫المعبود (الدهرية) أو مصدرا غير مكتف بذاته بل هو مسخر من إله مفارق هو صاحب‬ ‫الرزقين المادي والروحي وهو المعبود الوحيد‪.‬‬‫ويتعين ذلك في السياسة تربية وحكما‪ :‬التربية والحكم المؤسسين على الدهرية التي تؤله‬‫الطبيعة والتاريخ ويتعين الإله في أصحاب السلطان عليهما أي إن الدولة هي التي تمثل‬‫النظام الإلهي‪ .‬فالحاكم والكاهن بشكل دولة فرعون وهامان هم أصحاب العطاء والمنع في‬ ‫الرزقين فيؤله الاقوى منهما‪ :‬فرعون‪.‬‬‫فصارت الدولة مبينة على نفي الحريتين اللتين من دونهما لا معنى للاختبار‪ :‬الحرية‬‫الروحية تزول بسبب الوساطة التي يرمز إليها ممثل السلطة الروحية (الكنسية) والحرية‬‫السياسية تزول بسبب الوصاية التي يرمز إلها ممثل السلطة المادية (الحكم بالحق‬ ‫الإلهي)‪ .‬والإسلام ثورة على الوساطة والوصاية‪.‬‬‫ومن دون هذه الثورة على وساطة السلطة الروحية ووصاية السلطة المادية (بعدا الدولة‬‫أو التربية والحكم) لا يمكن أن يختبر الإنسان من حيث الاهلية للاستخلاف‪ .‬لذلك فالدولة‬‫التي يسعى الإسلام إلى تحقيقها هي ما حددته الآية ‪ 38‬من الشورى وفيها يكون الامر أمر‬ ‫الجماعة تسيره بالشورى‪.‬‬‫ومدار الامر روحي ومادي‪ :‬فهو الاستجابة للرب بداية والانفاق من الرزق غاية‪ .‬والأمر‬‫الروحي هو المحرر لأن الاستجابة إلى الرب هي الحرية الروحية والحرية السياسية والأمر‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪74‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫المادي هو التحرر من سلطان الدهرية أو دين العجل الذي يكون فيه الأمر بيد المتحكمين‬ ‫في الرزق المادي‪.‬‬‫وما أعرضه هنا في شكل شرح فلسفي للرؤية التي يمثلها القرآن هو ما وضعه ابن خلدون‬‫في شكل نظرية العمران البشري والاجتماع الإنساني بوصفه تعين حقيقة الإنسان في‬‫التاريخ بوصفه مستخلفا وممتحنا من حيث نظره في شروط الاستعمار في الأرض بقيم‬ ‫الاستخلاف وعمله باجتهاده النظري‪.‬‬‫وهذا ما نبينه في الفصل الموالي (‪ )14‬من خلال تحليل المقدمة مضمونيا وبنيويا وفيها‬‫محاكاة لأسلوب القرآن في قراءة تاريخ الإنسانية وجه نقدي للموجود وعرض نظري‬‫للمنشود بوصفه بديلا يحرر من الموجود المشدود إلى الغرق في المحدود والفاني ويجذب نحو‬ ‫اللامحدود والباقي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪75‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫قد يظن القارئ أني ادعي أن ابن خلدون استمد علمه من شرح نصوص القرآن‪ .‬فيكون‬‫كلامي متناقضا إذ أعيب على أصحاب الأعجاز العلمي ومن جنسهم أصحاب علوم الملة الذين‬‫يشاركونهم وهم استخراج العلوم من شرح نص القرآن ثم أزعم ذلك في المقدمة علما‬ ‫للعمران البشري والاجتماع الإنساني‪.‬‬‫لكن المضمون العلمي في المقدمة لا يوجد منه شيء في القرآن الكريم ولا يمكن أن‬‫يستخرج من نصوصه‪ .‬ما فيها من القرآن يقتصر على توجيهه للبحث نحو آيات الله في الآفاق‬‫والأنفس (فصلت ‪ )53‬ويتخلى نهائيا عما سبق من الجرأة على آل عمران ‪ .7‬وذلك ما فعل‬ ‫ابن خلدون في بحثه صراحة‪.‬‬‫فبعد إعلانه أنه لن يبحث في السياسة بمنطق أفلاطون ‪-‬المدن الفاضلة‪ -‬ولا بمنطق‬‫الأحكام السلطانية بل بطريقة جديدة لم يسبق إليها حتى من أرسطو الذي يرفض منهج‬‫أفلاطون‪-‬المدن الفاضلة‪-‬ويحاول أن يبحث بطريقة قريبة مما توخاه ابن خلدون ولكن‬ ‫بأسلوب سنرى أنه لم يتجاوز أفلاطون كثيرا‪.‬‬‫وهذا هو سر ما أزعمه من منعرج تاريخي كوني غير تغييرا كيفيا البحث في فلسفة العمل‬‫والتاريخ بصورة لم يكن في مستطاع الفلسفة اليونانية الوصول إليه لأنه في الحقيقة مبني‬‫على ثورة الإسلام في النظر كما صاغها ابن تيمية وفي العمل كما صاغها ابن خلدون‪ :‬الجمع‬ ‫بين نظر وعمل متجاوزين لليونان‪.‬‬‫وعلامة المنعرج مضاعفة‪ :‬فأولا ضم ابن خلدون التاريخ إلى الفلسفة التي كانت تستثنيه‬‫من نظامها المعرفي لعلتين أولاها أنه يتعلق بالعيني والعرضي من الوجود وثانيتها لأن العلوم‬‫العملية تقتصر في منظومتها على ثلاثة هي السياسة والأخلاق والاقتصاد المنزلي واعتبر‬ ‫الفلسفة نفسها تاريخية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪76‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فهي عنده تاريخية لأنها حصيلة التجربة وتراكمها وما عدا ذلك ليس من العلم بل هو‬‫من الفرضيات الشاملة التي يدعي الفلاسفة بها تجاوز عالم الشهادة والمعلوم من قوانينه‬‫بقدر الاستطاعة (انظر فصل الفلسفية وفساد منتحليها)‪ .‬ويرفض هذه الفرضيات الشاملة‬ ‫لأنها مبنية على نظرية المطابقة في المعرفة‪.‬‬‫ودون أن يذهب إلى ما ذهب إليه كنط من رد العلوم العقلية إلى الاقتصار على مظاهر‬‫الأشياء فهو يعتبرها مدركة لحقيقة ما يمكن للإنسان إدراكه من الوجود الحقيقي دون أن‬‫يرد الوجود إلى إدراكه‪ .‬وما لا يدركه منه هو الغيب وهو موجود في كل معرفة بوصفه حدا‬ ‫لا يتجاوزه علم الإنسان غير المحيط‪.‬‬‫فدور ابن خلدون في العلوم الإنسانية مماثل لدور أرسطو في العلوم الطبيعية‪ .‬فهو مثله‬‫جعل التاريخ وما بعده نظير الطبيعة وما بعدها‪ .‬ومثلما تجاوزت علوم الطبيعة‬‫والاستراتيجيات الرياضية تأسيس أرسطو فعلوم الإنسان والاستراتيجيات السياسية‬ ‫تجاوزت تأسيس ابن خلدون‪ .‬كلامنا لا يتوقف عند ثورته‪.‬‬‫ثورته كانت منعرجا بالنسبة إلى الفلسفة اليونانية إلى حدود مرحلتها العربية التي‬‫أصبحت مدرسية قبله بأعلام النكوص فيها إليها (ابن رشد فيلسوف متفقه والسهروردي‬‫المقتول فيلسوف متصوف والرازي متكلم متفلسف وابن عربي متصوف متفلسف) فهم عادوا‬ ‫إلى الهلنستية الجامعة بين العلم والميثولوجيا‪.‬‬‫وقد تمثل المنعرج الخلدوني لتأسيس علوم الإنسان مرحلة اخراج دراسة التاريخ وعلم‬‫الإنسان من الميثولوجيا لدراسة العوامل الطبيعية والروحية التي يتأسس عليها المنطق‬‫الجديد المبني على نظرية المعرفة النافية للمطابقة‪ .‬فكل العلوم اجتهادية بالجوهر لا تحيط‬ ‫بالوجود الطبيعي والتاريخي‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالإنساني مثله مثل الطبيعي فيه ما يقبل الصوغ العلمي وليست العلوم‬‫العملية (التاريخ) بأقل قابلية لذلك من العلوم النظرية (الطبيعة) لأن في التاريخ‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪77‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الموضوع طبيعي وروحي وفي الطبيعة علم الموضوع طبيعي وروحي‪ .‬والجامع بين الطبيعي‬ ‫والتاريخي هو الإنساني ذو الكيان المزدوج‪.‬‬‫وبهذه النتيجة تبدأ المقدمة‪ :‬فالباب الاول منها يدرس الشرط الطبيعي الواصل بين‬‫الطبيعة والإنسان أي (المكان) كعامل جغرافي شارط لكيان الإنسان الطبيعي وتدرس‬‫الشرط الروحي الواصل بين الإنسان والطبيعة أي الزمان كعامل تاريخي شارط لكيان‬ ‫الإنسان الروحي‪ .‬وهذا هو منعرج التأسيس الخلدوني‪.‬‬‫ويبقى مع ذلك وجه شبه عميق بين أرسطو وابن خلدون‪ :‬فالأول أخرج البحث العلمي‬‫اليوناني من الميثولوجيا إلى بدايات علوم الطبيعة والثاني أخرج البحث العلمي الإسلامي‬‫من الدين إلى بدايات علوم الإنسان‪ .‬والفرق بين الميثولوجي والديني في التأسيسين هو‬ ‫دور المرجعية الروحية في عقل الرجلين‪.‬‬‫وهو دور متعاكس تماما‪ :‬ارسطو حرر الطبيعة من تأليهها الميثولوجي ليجعلها منطلق علمه‬‫المستند إلى التجريد من المحسوسات الطبيعية لتأسيس علم الطبيعة العقلي وابن خلدون‬‫حرر الدين من تطبيعه الميثولوجي ليجعله منطلق لتأسيس علمه المستند إلى المتعاليات‬ ‫الإنسانية موضوعا لعلم الإنسان العقلي‪.‬‬‫كلاهما ينطلق من رؤية ما بعد طبيعية عند أرسطو وما بعد تاريخية عند ابن خلدون‪.‬‬‫ولولا ما بعد الطبيعة الميثولوجية لما استطاع أرسطو تأسيس علوم الطبيعة‪ .‬ولولا ما بعد‬‫التاريخ الديني لما استطاع ابن خلدون تأسيس علوم الإنسان‪ .‬الميثولوجيا تستثني التاريخ‪.‬‬ ‫الدين يفرضه حتى على الطبيعة‪.‬‬‫فالمنعرج الارسطي حصر العلم في الطبيعي واعتبر العلوم العملية توابع لها‪ .‬والمنعرج‬‫الخلدوني عكس فاعتبر العلوم النظرية توابع للعلوم العملية‪ .‬ومعنى ذلك أن الطبيعة في‬‫علاقة تفاعل مع التاريخ لأنها في ذاتها غاية لا تدرك وما يدرك منها تابع لتاريخ المعرفة‬ ‫الإنسانية أحد عناصر العمران‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪78‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ما يعلمه الإنسان من الطبيعة ليس الطبيعة بل علاقته بها أو ما إليه يرد مقومات حياته‬‫أولا وأخيرا مهما بدا عليه العلم وكأنه للطبيعة في ذاتها بصرف النظر عما يشغل الإنسان‬‫من شروط قيامه فيها‪ .‬علوم الطبيعة هي علوم العلاقة العمودية بين الإنسان والعالم اساسا‬ ‫للعلاقة الأفقية بين البشر‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن العلم النظري للطبائع جزء لا يتجزأ من العلوم العملي للشرائع وابن‬‫خلدون يؤسسه في علاقة الإنسان بالمكان والخوف من المستقبل‪ .‬وهذا هو مضمون الباب‬‫الأول من المقدمة‪ :‬الميثولوجيات والأديان علتها الخوف من المستقبل (الزمان) في علاقة‬ ‫بشروط قيام الإنسان في الجغرافيا (المكان)‪.‬‬‫فالباب الأول درسا لما في المكان من جغرافيا مفيدة لقيام الإنسان موارد ومناخا ولما في‬‫الزمان من تاريخ مفيد لقيام الإنسان توقعا وتخطيطا للتعامل مع الشروط الطبيعية ودرسا‬‫لأثر الاول في الثاني وأثر الثاني في الأول ومن ثم لتأسيس شروط السيطرة على المكان‬ ‫والزمان‪ :‬العمران والاجتماع‪.‬‬‫وبهذين المنعرجين يمكن القول إن الصراع بين الفلسفة والديني قد انتهى وأن شروط‬‫ظهور الفلسفة الحديثة قد تحققت وكان الدور الاول فيها لابن خلدون‪ .‬فتأسيس الفلسفة‬‫الحديثة (ديكارت) جعل غاية العلم عين ما اعتبره ابن خلدون من أدوات العمل‪ :‬العمران‬ ‫هو أن يصبح الإنسان سيدا ومالكا للطبيعة‪.‬‬‫وهو ما يعتبره ابن خلدون معنى الاستخلاف ببعديه النظري والعملي‪ .‬المقدمة هي‬‫الاستدلال النظري والتاريخي على هذه النظرية الخلدونية التي حررت الإسلام من‬‫تطبيعه في الفكر الديني واعتبره ما بعد التاريخ وليس جزءا منه‪ .‬وذلك عينه ما قصدته‬ ‫فصلت ‪ 53‬أمرا وما قصدته آل عمران ‪ 7‬نهيا‪.‬‬‫وهذا المنعرج يعني أن علوم الملة الخمسة المتقدمة على ابن خلدون وابن تيمية كلها علوم‬‫مزيفة‪ :‬فهي \"طبعنت\" و\"ارخنت\" القرآن مدعية أنها تستمد من شرح ألفاظه علوم الملة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪79‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مباشرة فكانت من جنس \"الإعجاز العلمي\" بدلا من فهم أمر فصلت ونهي آل عمران فتتوجه‬ ‫لآيات الله في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫وأزعم أن هذا المنعرج لم يعمل به إلى الآن في علوم الملة التي لم تتجاوز العودة إلى‬‫هذا الانحراف المنافي لما أمر به القرآن ولما نهى عنه‪ .‬ما زال الكثير من فقهاء عصر‬‫الانحطاط ومتكلميه يقودون فكر الامة بما تحرر منه ابن خلدون في نظرية القانون‬ ‫والأخلاق للتربية والحكم الإسلاميين‪.‬‬‫و\"تمطيط\" هذه الشروح اللفظية بلغت حدها فانقلبت إلى ضدها في نظرية المقاصد‪ .‬التي‬‫هي في الحقيقة مجرد تبعية لتطويع فكر الأمة إلى ما يرضى عنه المتغلبون لتأسيس تشريعات‬‫رد الفعل على ما يسمونه واقعا دون تمييز بين الواقع والأمر الواقع‪ :‬تطويع الإسلام لقيم‬ ‫الغالبين سر ازدهار خرافة المقاصد‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪80‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أصحاب نظرية المقاصد الأول غير اصحابها الحاليين وإن كانت النتيجة واحدة‪ :‬تمطيط‬‫الاستناد إلى شرح نصوص المرجعية مصدرا لعلم الفقه وتأصيله بخلاف ما تأمر به المرجعية‬‫وتنهى عنه‪ .‬فالفقه وتأصيله منطلقه آيات الله في الآفاق والانفس لتتبين حقيقة القرآن‬ ‫وليس من شرح آيات القرآن والكلام في الغيب‪.‬‬‫والأمثلة المضروبة في آيات القرآن لا تصح إلى لعلتين‪ :‬الأولى لأنها أحكام صاحب العلم‬‫المحيط وردت في القرآن والثانية لأن مطبقها الأول هو مبلغها ومن ثم فهي تؤخد على‬‫حرفيتها‪ .‬ولا تقبل التطبيق من قضاة علمهم ليس محيطا وشروط تطبيقها لا متناهية التعين‬ ‫بحسب آيات الله في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫تطبيق الاحكام القرآنية المباشرة غير ممكن لغير النبي‪ .‬وكل العلماء يدركونها بصورة‬‫غير مباشرة من خلال ما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس مع حرز آل عمران ‪ 7‬التي‬‫تحذرنا من الجرأة على المتشابه بدعوى رسوخ في العلم يعطي للعلماء ما يختص به الله‪:‬‬ ‫علومنا اجتهادية لشاهد الوجود‪.‬‬‫وبذلك تكون حقيقة القرآن هي ما بعد التاريخ وليست من التاريخ وكل ما فيه علاقة‬‫مباشرة بين الله والإنسان تهدي علاقة الإنسان غير المباشرة به من خلال علم الطبائع‬‫وعلم الشرائع والعمل بهما وهما لا يدركان إلا في عالم الشهادة بما أمرت به فصلت ‪53‬‬ ‫ونهت عنه آل عمران ‪.7‬‬‫لذلك فكل علوم الملة التي لم تتأسس بما حددته الآيتان لم تتبين حقيقة القرآن بل هي‬‫انحرفت عنها وأسست علوما زائفة لا يمكن للأمة أن تبني عليها حضارة قادرة على حماية‬‫ذاتها ورعايتها خاصة وقد ساوق ذلك قلب للعلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية التي‬ ‫فرضتها في حالة الطوارئ بعد الفتنة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪81‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫كل علوم الملة هي بنت هذين القلبين‪ :‬قلب الآيتين وقلب العلاقة بين الدستور والقوانين‬‫الاستثنائية بعد الفتنة والحرب الاهلية التي تلتها‪ .‬والاستئناف لا يمكن أن يتحقق من دون‬‫التحرر من هذين القلبين‪ .‬وهو إذن قد بدأ فكريا منذ المقدمة لكنه لم يصبح فكرا ذا أثر‬ ‫على العمل بعد‪.‬‬‫وآخرة العلامات على هذين القلبين نظرية المقاصد التي تريد تمديدهما بمحاولة تمطيط‬‫الاستناد المباشر على شرح النصوص بل البحث في آيات الله في الآفاق والانفس‪ .‬ومما زاد‬‫الطين بلة هو توظيف المقاصد لكي تبرر الخضوع لشروط المستعمر باسم فقه الواقع‬ ‫السخيف‪.‬‬‫وهو سخيف لأن أصحابه يخلطون بين الواقع والامر الواقع‪ .‬فالواقع اسم فاعل من الوقع‪.‬‬‫لكن الامر الواقع هو الموقوع الذي يفرض من موقعه على الموقعين عليه خضوعا وتبعية‬‫وليس اختيارا وحرية‪ .‬كل ما يسمونه مقاصد هو ما به يبررون تطويع الإسلام لغلبة‬ ‫الحضارة الغربية ودين العجل الذهبي ذي الخوار‪.‬‬‫والدليل القاطع على أن ما في القرآن من أمثلة مباشرة ليس مما يقاس عليه إنسانيا‬‫ليكون أساس للفقه وأصوله المباشر وأن المطلوب هو ما أمرت به فصلت ‪53‬وما نهت عنه آل‬‫عمران ‪7‬هو مواقف الفاروق الذي كان أدرى الناس بهذا الامر‪ :‬لم يعطل الحكم القرآني‬ ‫بل عمل بهذين الآيتين منطلقا مما يعلم منهما‪.‬‬‫فقد أدرك أن آيات الله في الآفاق والانفس هي المنطلق حتى عند الرسول‪ :‬فهو كان‬‫يؤسس دولة في جاهلية لا تعترف بأي قانون غير قانون النهب والسلب والحرب الدائمة‪.‬‬‫وهذا لا يمكن صده لتأسيس دولة القانون إلا بقانون استثنائي خاص بشروط الانتقال من‬ ‫عدم دولة الجاهلية إلى وجود دولة الإسلام‪.‬‬‫ودولة الإسلام تحمي الإنسان وترعاه ومن ثم فتشريعاتها تنبني على الدستور القرآني‬‫وليس على الاحكام الاستثنائية لمرحلة بنائها الناقلة من عدم الدولة في الجاهلية إلى الدولة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪82‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫في الإسلام‪ .‬لذلك فهم الفاروق أنه عليه أن ينطلق من آيات الله في الآفاق والأنفس وليس‬ ‫من الفهم الحرفي للنصوص‪.‬‬‫وهو إذن لم يعطل الحكم ولا النص بل طبق فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬المحددتين لما يترتب‬‫على علم الإنسان الذي يمر حتما بقوانين الآفاق والأنفس أي الطبيعة والتاريخ ليؤسس‬‫فهمه لحقيقة القرآن‪ :‬سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم‬ ‫يكفي بربك أنه على كل شيء شهيد\"‪.‬‬‫علم الطبيعة غير علم ما بعده‪ .‬وعلم الشريعة غير علم ما بعدها‪ .‬المابعد في الحالتين‬‫ليس منطلق العلم العيني بل هو منطلق أسسه المنهجية والمفهومية‪ .‬القرآن ما بعد الشرائع‬‫وما بعد الطبائع ولا يعلم ما فيه مباشرة بل بتوسط ما يوجه إليه في الطبائع والشرائع من‬ ‫مجالات بحث تمكن من فهم حقيقته‪.‬‬‫وأي إنسان له ذرة من عقل ينبغي أن يفهم أن الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس‬‫والتي تتبين بها حقيقة القرآن هي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ‪ .‬والأولى رياضية مطبقة‬‫على تجربة الطبيعة والثانية سياسية مطبقة على تجربة التاريخ‪ .‬ذلك ما فهمه الرسول‬ ‫فطبقه وما فهم الصديق والفاروق فطبقاه‪.‬‬‫وللنظر فيما فعله مؤسسو المذاهب الفقهية‪ .‬فأبو حنيفة قدم الرأي متوهما أن دلالة‬‫الألفاظ والرأي المرسل كافيان لوضع المذاهب الفقهية من دون علم للشرائع كما تتجلى في‬‫الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس‪ .‬ومثله فعل مالك ظنا أن عادات أهل المدنية‬ ‫ممثلة لحقيقة الشرائع‪.‬‬‫ولننظر فيما فعله مؤسسو المذاهب الفقهية‪ .‬فأبو حنيفة قدم الرأي متوهما أن دلالة‬‫الألفاظ والرأي المرسل كافيان لوضع المذاهب الفقهية من دون علم للشرائع كما تتجلى في‬‫الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس‪ .‬ومثله فعل مالك ظنا أن عادات أهل المدنية‬ ‫ممثلة لحقيقة الشرائع‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪83‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وابن حنبل حاول تجنب القصورين فضاعف دور الحديث لعلمه أن الرسول كان يقرأ‬‫القرآن بمقتضى فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ .7‬وذلك لم يكف لأن علم الآفاق والانفس لم‬‫يتحقق بعضه إلا في منعرج ابن خلدون‪ .‬وجمع ما حصلته المحاولات السابقة في رسالة‬ ‫الشافعي‪ :‬تأسيس مباشر على شرح النص و\"الواقع الغفل\"‪.‬‬‫ومثلما أن هذه المحاولات مكنت الامة من تنظيم شؤونها لمدة أربعة عشر قرنا تماشيا مع‬‫حالة الطوارئ التي فرضتها الحرب الاهلية بعد الفتنة الكبرى فقلبت العلاقة بين الدستور‬‫والقوانين الاستثنائية فإن هذا التنظيم أصبح يقتضي محاولات جنسية لما حققه ابن خلدون‬ ‫بتطبيق الدستور والمعرفة القرآنيين‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن نظرية المقاصد لم تعد صالحة وهي وضعت لأنها تعتبر ما تقدم عليها‬‫غير صالح‪ .‬وهي في الحقيقة أنهت ذاتها وأنهت ما قبلها بأن صارت في الحقيقة قولا بعلمانية‬‫وباطنية بتقية دينية‪ :‬فعلم مقاصد الله في التشريع لا يعلمها غيره‪ .‬فعلمنا لا يتجاوز يوجد‬ ‫بين ما حددته فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬‫والمشكل ان الكثير من المتعجلين يتصورني أؤسس لفقه علماني ما دمت اعتبر الاحكام‬‫مقصورة على مرحلة الرسول مربيا وحاكما بوصفه المبلغ الأدرى بدلالة ما يبلغه‪ .‬لكن ذلك‬‫من وهم المتعجلين‪ .‬فابن خلدون لم يؤسس لفقه يؤصله على نفي الدين بل هو يؤسسه على‬ ‫ما بعد التاريخ‪ :‬مفهوم الاستخلاف‪.‬‬‫وبصورة ادق على اعتبار التاريخ محل اختبار أهلية الإنسان للخلافة‪ .‬وذلك ينطبق على‬‫نظريه وعمله في تحقيق شروط مهمتيه‪ :‬تعمير الارض بقيم الاستخلاف‪ .‬الاختبار هو كل‬‫التاريخ‪ .‬لكن الفقهاء السابقين ظنوا الاختبار مجرد تطبيق لنص يمكن أن يفهم كنص وليس‬ ‫كتذكير بمقومات فطرية في الإنسان الخليفة‪.‬‬‫وهذه المقومات الفطرية هي بالذات شروط قيام الإنسان في العالم أو في الآفاق والأنفس‬‫بما جهز به الإنسان من قدرة على رؤية آيات الله فيهما أي قوانين الطبائع وسنن الشرائع‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪84‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهي موجودة في الطبيعة والتاريخ وليست في ألفاظ القرآن‪ .‬والقرآن هو الذي يقول ذلك‬ ‫معتبرا حقيقته في الآفاق والانفس‪.‬‬‫والقرآن لم يكتف بذلك بل حدد طبيعة الآيات التي يرينها في الآفاق والأنفس لنتبين‬‫أنه الحق‪ :‬فاعتبر الخلق ذا طبيعة رياضية تجريبية واعتبر الأمر(التاريخ)ذا طبعية سننية‬‫تجريبية‪ .‬وبطبيعة الخلق وبطبيعة الأمر يستدل القرآن على ما بعد الطبيعة وما بعد‬ ‫التاريخ ليوجه الخليفة نحو شروط الأهلية‪.‬‬‫ذلك ما فهمته من المنعرجين النظري عند ابن تيمية والعملي عند ابن خلدون‪ :‬فالأول‬‫وضع شروط علم صريح المعقول والثاني علم صحيح المنقول وبهما يمكن القول إن الأمة‬‫تجاوزت حالة الطوارئ وآن أوان عودتها إلى الدستور وإلى نظرية المعرفة التي تنفي‬ ‫الإحاطة على الاجتهاد الإنساني‪.‬‬‫وإذا كان لي من فضل في هذه المحاولة فهو التنبيه إلى أن قلب العلاقة بين الدستور‬‫والقوانين الاستثنائية التي فرضتها الحرب الاهلية بعد الفتنة الكبرى وقلب العلاقة بين‬‫الآيات النصية في القرآن والآيات المتجلية في الآفاق والانفس يؤديان إلى أن علم هذه‬ ‫شرط في منع القلبين بفضل الحريتين‪.‬‬‫فالحرية الروحية التي تمكن المؤمن من العلاقة المباشرة بربه هي التي تجعله في كل لحظة‬‫مبدعا في رؤية ما يريه الله من آيات الآفاق والانفس وبهذا الإبداع المعبر عن الحرية‬‫الروحية يمكن للإنسان أن ينظم شروط الحرية السياسية أو المشاركة الفعلية في تحقيق‬ ‫شروط الأهلية للاستخلاف‪ :‬دولة الإسلام‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪85‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪–-‬‬‫كل ذي بصيرة قرأ الشورى ‪ 38‬يعلم أن نظرية الحكم الإسلامية وضعت بين قطبين‪:‬‬‫بداية مؤسسة على العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه وغاية مؤسسة على العلاقة غير المباشرة‬‫بين المؤمن وربه‪ :‬الذين استجابوا لربهم بداية والذين ينفقون مما رزقهم الله مجال‬ ‫الاختبار الاول لأهلية الاستخلاف‪.‬‬‫لذلك أسس ابن خلدون فلسفة التاريخ التي هي أساس تأسيسه لعلوم الإنسان على هذه‬‫البداية (نظرية الاستخلاف) وعلى هذه الغاية (ما سماه نحلة المعاش) وعلى اساسها ميز‬‫بين نوعي العمران بمراحلهما المتعددة‪ :‬العمران البدوي والعمران الحضري يتميزان بنحلة‬ ‫المعاش وعلاقتها باختبار أهلية الاستخلاف‪.‬‬‫والقرآن وضع طبيعة نظام الحكم وطبيعة أسلوبه بين هذين القطبين فحدد طبيعة‬‫النظام بكونه \"أمر الجماعة\" وأسلوبه بكونه \"شورى بينهم\"‪ .‬وإذا قرأنا ذلك بنظرية أنظمة‬‫الحكم وأساليبه تبين لنا أن امر الجماعة يعني راس بوبليكا أي جمهورية وشورى بينها تعني‬ ‫حكم الشعب لنفسه أي ديموقراطية‪.‬‬‫وهذا هو متقضى الحرية الروحية ‪-‬المسؤولية فردية‪-‬ليكون لاختبار الأهلية معنى (كلكم‬‫يأتي ربه فردا) (التحرر من الوساطة الكنسية) ويترتب عليها الحرية السياسية (التحرر‬‫من وصاية الحكم بالحق الأهلي) وهما تحريفان نتجا عن قلب فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪7‬وحالة‬ ‫الطوارئ التي علقت الدستور بعد الفتنة‪.‬‬‫ولا معنى لاختبار الاهلية من دون هذين الحريتين الروحية والسياسية لأن الإنسان‬‫المستخلف يكون فاقدا لشرطي التكليف والتقييم عمله‪ .‬ليس هو من يعمل التاريخ فكرا‬‫ويدا بل هو تابع لوسيط روحي ولوصي سياسي هما من يفعل تشريعا وتطبيقا وقضاء فيكون‬ ‫الفقه كما نراه منذ الفتنة مبررا لعبودية لغير الله‪.‬‬‫والرسول لم يغفل عن ذلك بل توقعه وتكلم على الملك العضوض الذي لم يتأخر كثيرا‬‫على لحظته إذ هو قد بدأ مباشرة بعد الفتنة وانقسم إلى نوعين‪ :‬النوع الذي نكص عن‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪86‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪–-‬‬‫هذا التحديد القرآني لنظام الحكم واسلوبه بالوساطة والوصاية (التشيع والباطنية)‬ ‫والنوع الذي نكص بالأفعال دون الأقوال أي السنة‪.‬‬‫فالسنة في أفعالها رغم بقاء أقوالها مطابقة لنظرية القرآن‪ .‬فأصيبت بفصام حرف كل‬‫الاعمال لأنها عوضت الوساطة بالدور الذي ادعاه علماؤها للرسوخ في العلم فصاروا وسطاء‬‫وبالوساطة الروحية برروا الوصاية السياسية وأضفوا الشرعية على تقديم الشوكة على‬ ‫الشرعية حالا لم نبرحها إلى الآن‪.‬‬‫والعبودية لله هي الوازع الذاتي بلغة ابن خلدون‪ .‬أما الوازع الأجنبي أو الأحكام‬‫السلطانية فهو يمكن أن يكون عبودية تابعة للأولى إذا كانت نظرية التربية والحكم تابعة‬‫لها‪ .‬أما في حالة ما حصل بداية من الانتقال من الخلافة على منهاج النبوة إلى الملك‬ ‫العضوض فهي عبودية لغير الله‪ :‬للمتغلب‪.‬‬‫وهذا القول لا يمكن أن يعد علمانية حتى وإن كان بمقتضى فصلت ‪ 53‬وآل عمران‬‫‪7‬يرفض أن يكون الفقه مؤسسا مباشرة على تفسير ألفاظ القرآن بل هو يؤسسه على سنن‬‫التاريخ وقوانين الطبيعة كما حددت ذلك عبارة آيات الله في الآفاق والانفس أي في قوانين‬ ‫الطبيعة وسنن التاريخ مجالي اختبار الاهلية‪.‬‬‫فالله لا يكلف نفسها إلا وسعها‪ .‬والله حجب الغيب‪ .‬وآيات القرآن النصية تتضمن غيبا‬‫محجوبا يحول دون علم الإنسان النسبي والإحاطة‪ .‬لذلك فالتكليف لا يتعلق بمعرفة‬‫مقاصدها الغيبية بل هو يتعلق بدلالة ما يرينه الله في الآفاق وفي أنفسنا من آياته التي‬ ‫تهدينا أعني قوانين الطبيعة وسنن التاريخ‪.‬‬‫والقرآن هو المابعد الإيماني الذي يهدينا إلى سبل معرفة هذه القوانين الطبيعية والسنن‬‫التاريخية من خلال الاختبار الذي نحن مطالبون به خلال القيام بمهمتين مناظرتين‬‫للتكليف‪ :‬استعمرنا في الأرض واستخلفنا فيها‪ .‬واستعمارنا في الأرض شرطه علم قوانين‬ ‫الطبيعة واستخلافنا شرطه علم سنن التاريخ‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪87‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪–-‬‬‫ذلك هو الانقلاب الكوبرنيكي الخلدوني‪ :‬اعتبر البحث فيما بين الطبيعة والإنسان‬‫وتبادل الفعل والانفعال بينهما هو مجال البحث لفهم حقيقة الشرائع التي تتعلق بالاختبار‬‫والتي هي مدار التكليف‪ .‬وحدد هذا المجال بكونه العمران البشري والاجتماع الإنساني‪.‬‬ ‫علمه والعمل به هو اختبار الأهلية‪.‬‬‫ولست غافلا على أن ما احاول بيانه في هذه المحاولة يمكن أن يعتبره علماء الملة كلهم‬‫خروجا عن الملة لأن فيه نفيا لكل ما بنوا عليه علومهم الزائفة خضوعا للانقلاب على‬‫الدستور بعد الفتنة‪ .‬وكل محاولات الإصلاح والإحياء ضميرها الوعي به لكن حلوها ما‬ ‫تزال موالية لعلوم مطبوعة به دون وعي بزيفها‪.‬‬‫وقد فعلها المرحوم البوطي في حواره معي حول أزمة أصول الفقه‪ .‬وفيه بينت أن نظرية‬‫المقاصد من العلوم الزائفة‪ .‬فالقانون والاخلاق (وحدتهما هي الفقه) لا يمكن أن نستند‬‫فيهما إلى العلم بالغيب الذي هو ليس في متناولنا‪ .‬وكل تفسير للقرآن يتجاوز عالم الشهادة‬ ‫ليس علما رغم وهم الرسوخ في العلم‪.‬‬‫ما نعلمه هو ما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس اي في عالم الشهادة الطبيعي‬‫والتاريخي‪ .‬والاول هو عالم الخلق المشهود والثاني هو عالم الامر المشهود‪ .‬والاول من‬‫طبيعة رياضية تجريبية يستدل به القرآن على وجود الله ووحدانيته بنظام العالم والثاني‬ ‫سياسية تجريبية للاستدلال بنظام أمره‪.‬‬‫وكل علمنا اجتهادي وليس فيه شيء من دعوى القطعيات‪ .‬هو اجتهاد مأجور إذا صدفت‬‫النية حتى لو لم يصب‪ .‬والاختبار يعتبره جزء من إثبات الاهلية أو من سلبها‪ .‬فيمكن للأمة‬‫أن تشهد على العالمين‪ .‬فشهادتها لا تقتصر على الإيمان بمقومات الاسلام النصية بل تتضمن‬ ‫الاختبار التاريخي فيما يترتب عليه‪.‬‬‫وللمرة الألف أعيد فأذكر بعلم الإنسان اجتهادي ولا قطعي فيه سواء كان من علوم‬‫الدين أو من علوم الدنيا‪ .‬هو اجتهاد في حدود الشاهد لا يتجاوزه وكل ادعاء للقطعيات‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪88‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪–-‬‬‫غير الإيمانية وهم‪ .‬العلمي لا يحتاج للقطعي الإيماني بل هو بحاجة لقطع التسلسل والدور‬ ‫في عملية تأسيس نظرياته على فرضيات‪.‬‬‫والفرضيات تبقى صالحة ما ظلت قادرة على تفسير الظاهرة المدروسة تفسيرا يرضى‬‫عنه العقلاء وتؤيده التجربة‪ .‬لكنها ليس علما مطلقا بل هو في صيرورة دائمة بصيرورة‬‫تقدم المعرفة وخاصة معرفة أدوات الأدراك الطبيعي والصناعية وهي ما نرى به مع‬ ‫البصيرة آيات الله في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫فإذا توهمنا أن هذا المطالب موجودة في ألفاظ القرآن فنحن نكون قد ألغينا كل معنى‬‫للاختبار الذي يرمز إليه مشهد الاستخلاف ومزاعم ابليس حول عدم أهلية الإنسان‬‫للاستخلاف‪ .‬وهذا الكلام ما كنت لاستعمله لولا أن المشكل هو مع من يزعمون تمثيله حتى‬ ‫صار أبو قتادة يحاكم آرائي بتخريفه حول العلم‪.‬‬‫لو كان الحوار مع العلمانيين لكان مجال الخطاب غير‪ .‬فدعواهم الاستغناء عما وراء‬‫الطبيعة والتاريخ من حاجة إلى الدين والله وظنهم أن القرآن مثل غيره من المراجع‬‫الدينية هما موضوع النقاش معهم‪ .‬وهم في كلا الأمرين أكثر لاعقلانية من أبي قتادة‪ :‬هو‬ ‫يعيش في التحريف الجزئي وهم في الكلي‪.‬‬‫فحتى أكثر الابداعات الإنسانية متانة ‪-‬علوم المقدرات الذهنية (الرياضيات والمنطق)‬‫وأعمالها الفنية (السياسيات والتاريخ) ‪-‬ليست غنية عن الإيمان بأمرين على الاقل‪ :‬الأول‬‫أن العالم ذو نظام يقبل المعرفة وأن الإنسان ذو عقل يقدر على ذلك‪ .‬فمن دون هذين‬ ‫الشرطين لا إمكانية ولا حاجة للعلم والعمل‪.‬‬‫ومجرد هذه الحاجة والإمكانية تعني أن للعالم نظاما لا يبدعه عقل الإنسان بل يتلقاه‬‫أمرا واقعا لا سلطان له عليه وهو إذن إيمان أسمى بأن الإنسان مهما ألحد لا يمكنه أن ينفي‬‫أنه محوط بما لا سلطان له عليه وأنه لا يمكن أن يدركه وأن يفهمه وأن يعتبره ذا نظام‬ ‫قابل للعلم والعمل فيه على علم‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪89‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪–-‬‬‫وتلك هي ثورة الإسلام‪ .‬وهو الديني في كل الاديان التي لا تختلف عنه إلا بما فيها من‬‫تحريف للديني‪ .‬ولذلك فهو لا يرفضها بل يراجعها بمعيار التصديق والهيمنة حتى يحررها‬‫من الاغترابين الروحي (وساطة الاستبداد الروحي في التربية) والسياسي (وصاية‬ ‫الاستبداد السياسي في الحكم)‪ :‬لا عبودية لغير الله‪.‬‬‫فالتحرر من الفتنة الكبرى وما ترتب عليها مداره عين مدار التحرر من الفتنة الصغرى‬‫وما يترتب عليهما حاليا من الوقوع تحت وساطة الاستبداد الروحي (الخداع الإعلامي لمافية‬‫العالم وعملائها) ووصاية الاستبداد السياسي (الخداع السياسي لمافية العالم وعملائها)‪:‬‬ ‫الإسلام يحدد القبلة من جديد‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪90‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لما شرعت في الكلام في الشكوك على المقاصد لم أكن أنوي علاج مسألة تأسيس الفقه‬‫وتأصيله بوصفه في آن فلسفة القانون عامة عامه وخاصه ومن ثم تحديد صلته بفلسفة‬‫السياسة ببعديها تربية (وظيفة الرعاية‪ :‬العلاقة بالتكوين والتموين) وحكما (وظيفة‬ ‫الحماية‪ :‬العلاقة بالحماية الداخلية والخارجية)‪.‬‬‫ظننت أني سأقتصر على تدوين الشهادة المرتجلة التي قدمتها بمناسبة تكريم الصديق‬‫والزميل أحمد الريسوني يوم ‪ 28‬نوفمبر بجامعة الجديدة بالمغرب التي نظمها مخبر‬‫الدراسات الفقهية وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية فيها‪ .‬وللأمانة والتقدير المتبادل فإني لم‬ ‫أخف عن الصديق شكوكي حول المقاصد‪.‬‬‫لكن المقام لم يكن مناسبا لتفصيل ذلك‪ .‬وتلك هي علة اضطراري لهذه المحاولة التي‬‫تبدو قد طالت أكثر من المنتظر‪ .‬لكن لا بد مما ليس منه بد‪ .‬فلا يمكن للأمة أن تستأنف‬‫دورها بفقه الحركات الإسلامية الذي هو متخلف حتى على فقه قرون الانحطاط إذ شتان‬ ‫بين هذا وبين فقه داعش وبوكو حرام‪.‬‬‫فهذا الفقه حتى لو مطط بفقه المقاصد هو الذي يجعل حجج العلمانيين والليبراليين‬‫مؤثرة حتى وإن كانوا نوعا مضاعفا من الدعشنة والبوكوية الحرامية‪ .‬فكلاهما كاريكاتور‬‫مما يدعيه مرجعية‪ :‬فلا هؤلاء يمثلون الحداثة ولا أولئك يمثلون الأصالة‪ .‬كلاهما مقلد‬ ‫بليد لتراث عتيد ولا ثورة تتأسس على التقليد‪.‬‬‫وحتى لا يكون ما أحاول اثباته وكأنه صادر عن نزعة دخيلة كان لا بد من أن أثبت‬‫العلاقة بين النكوصين اللذين حدثا بسبب الحرب الأهلية التي تلت الفتنة (أربعة حروب‬‫أهلية بدأت بين أم المؤمنين والإمام علي وانتهت بالحرب بين ابن الزبير وابن مروان مرورا‬ ‫بالحرب بين معاوية وعلي والحرب بين ابنيهما)‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪91‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والنكوص الاول سياسي وقد تمثل في قلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية‬‫كالحال في كل حالات الطوارئ التي تعطل الدستور وتجيز المحظور بوصفها مجمع‬‫الضرورات‪ .‬ومنذئذ ظلت الأمة تحكمها حالة الطوارئ التي عطلت الدستور وحكمت‬ ‫القوانين الاستثنائية فصار الأخص ينسخ الأعم‪.‬‬‫والنكوص الثاني معرفي وقد تمثل في قلب مناظر لما حصل في السياسة‪ :‬فبدلا من تأسيس‬‫المعرفة بحقيقة القرآن بين ما أمر به (فصلت ‪ )53‬وما نهى عنه (آل عمران ‪ )7‬حصرا‬‫للمعرفة في عالم الشهادة وللإيمان في عالم الغيب قلب العلماء المعرفة فأهملوا عالم الشهادة‬ ‫وشرعوا في التخريف حول الغيب المحجوب‪.‬‬‫وهو ما جعل كل علوم الملة تنحرف على منظور القرآن نفسه الذي حدد كيفية تبين‬‫حقيقته (فصلت ‪ )53‬المتعلقة بشروط تحقيق الإنسان لمقومي ذاته ومجالي تكليفه‪:‬‬‫الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬فهما مجال علمه وعمله اجتهاده وجهاده اللذين‬ ‫تمتحن بهما أهليته للاستخلاف ويحاسب عليهما يوم الدين‪.‬‬‫ونتج عن ذلك تغيير دلالة الـ\"و\" في آل عمران ‪ 7‬ليجعلوها عطفية حتى يتحول الرسوخ‬‫في العلم إلى عكس ما يفيده‪ :‬بدلا من الإيمان بالغيب المحجوب صار قدرة على تأويل‬‫المتشابه لكأن علم الراسخ يضاهي علم الله المحيط‪ .‬ومن ثم قال الكلام والفقه والتصوف‬ ‫وحتى التفلسف بنظرية المعرفة المحيطة والمطابقة‪.‬‬‫فغرقوا في وهم العلم المستحيل وتركوا العلم الممكن للإنسان أعني الاجتهاد في معرفة‬‫الآفاق والانفس لتبين حقيقة القرآن من حيث هو رسالة تذكير للإنسان بما جهز به من‬‫قدرات (العلم والعمل) وبما كلف به من مهام لا تعدو شروط بقائه واختبار أهليته الذي‬ ‫شرطه تعمير الارض بقيم الاستخلاف الكوني‪.‬‬‫وهذا التوصيف كان يمكن أن يظن ناتجا عن منظور علماني لو كنت أنا صاحبه‪ .‬لذلك‬‫فبيان دور المتقدمين على الفتنة الصغرى (المقابلة بين الديني والعلماني) وبعد الفتنة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪92‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الكبرى (المقابلة بين الحريتين الروحية والسياسية في المنظور السني ونفيهما في المنظور‬ ‫الشيعي بالوساطة والوصيتين النافيتين لهما)‪.‬‬‫وهو ما أنسبه إلى من اعتبرتهم ممثلين لمدرسة الفلسفة النقدية العربية (الغزالي وابن‬‫تيمية وابن خلدون)‪ .‬فالغزالي بين الفرق بين الشيعة والسنة في فضائح الباطنية‪ :‬المقابلة‬‫بين الوصية والاختيار‪ .‬وابن تيمية بينه في الرد على ابن المطهر وفي السياسة الشرعية‪.‬‬ ‫وابن خلدون تحرر من الانقلابين‪.‬‬‫فالمقدمة دليل على تجاوزه للانقلابين السياسي والمعرفي‪ .‬المقدمة هي بداية التحرر من‬‫حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية والعودة إلى الدستور سياسيا وبداية التحرر من‬‫الخوض في الغيب أو العلم الزائف والعودة إلى ما أمر به القرآن (فصلت‪ )53‬وما نهى عنه‬ ‫(آل عمران ‪ )7‬لاكتشاف شروط قيام الإنسان‪.‬‬‫ولم يبق علي الآن إلا بيان دور الرسالة التوجيهي نحو المطلوب دون تضمنها إياه‪ :‬ليس‬‫في القرآن أي من علوم الملة بل هو ما بعدها الذي يوجه إلى موطنها وطرقها دون أن يتضمن‬‫أيا من قوانينها أو سننها لأنه يعتبر اكتشافها (الاجتهاد) والعمل بها (الجهاد) بعدي اختبار‬ ‫أهلية الإنسان للاستخلاف‪.‬‬‫القرآن ما بعد يوجه وليس مجلة قوانين أو علوم‪ .‬وذلك هو دور المرجعية الروحية التي‬‫تعرف نفسها بكونها تذكيرا بما هو مرسوم في الفطرة وليست إمدادا بما ليس فيها‪ .‬وما في‬‫الفطرة هو ما سميناه المعادلة الوجودية‪ :‬القطبان الله والإنسان والوسيطان الطبيعة‬ ‫والتاريخ وما يصلها التواصل بمستوييه‪.‬‬‫والمستوى الاول من التواصل بين القطبين الله والإنسان هو الرسالة التذكيرية ورد‬‫الإنسان عليها‪ .‬وهي ما بعدية وتوجيهية نحو مجال التكليف والاختبار دون أن تتضمن ما‬‫يغني عن الاجتهاد والجهاد لتعمير الارض بقيم الاستخلاف‪ .‬لكن الانقلابين تصور‬ ‫أصحابهما أن القرآن فيه ما يغني الإنسان عنهما‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪93‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فحولوا القرآن إلى مدونة قوانين يمكن اكتشافها بمجرد التفسير اللفظي بخلاف ما أمر‬‫به في فصلت ‪ 53‬وما نهى عنه في آل عمران ‪ .7‬وابن خلدون تحرر من هذين الانقلابين‬‫بوعي تام ذكره عندما بين في فصل الكلام أن رعاية المصالح العامة (السياسة) ليست من‬ ‫العقيدة بل من اجتهاد الجماعة‪.‬‬‫وأكد أن ضم المسألة إلى علم الكلام (الأشعري) لم يكن بسبب كونها من العقائد بل‬‫بسبب الحاجة إلى دحض النظرية الشيعية التي تعتبر الأمر جزءا من العقيدة‪ .‬وعندما‬‫ينفي نسبتها إلى العقيدة بالمنظور الشيعي فهو لا يعني أنها لا علاقة لها بالعقيدة بل‬ ‫العقيدة هي التي جعلتها اجتهادا للجماعة‪.‬‬‫وإذن فالمقابلة ليست بين العقيدة والسياسية بل بين نوعين من تصور العلاقة بينهما‪:‬‬‫السني يعتبرها جزءا من التكليف الذي تختبر أهلية الإنسان للاستخلاف به أي الاجتهاد‬‫السياسي والخلقي (لتنظيم حياة البشر جزء من التكليف والحرية) والجهاد لتعمير الارض‬ ‫والاستخلاف بمقتضاه كلاهما فرض عين‪.‬‬‫وكونهما فرض عين يعني الحريتين‪ :‬الحرية الروحية أو التواصل المباشر بين الله‬‫والإنسان دون وساطة كنسية والحرية السياسية دون وصي يحكم بالحق الإلهي بالتواصل‬‫غير المباشر بتوسط علم الطبيعة وعلم التاريخ اللذين بهما ينظم الإنسان شروط تعمير‬ ‫الأرض بقيم الاستخلاف عملا بفصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬‫وهذا الفهم الخلدوني الذي أعد إليه الغزالي وابن تيمية لا يمكن أن ينسب إلى مضمونه‬‫بل اكتشافه الذي ظل مخفيا بسبب سلطان العادة السائدة التي فرضها اعتبار الـ\"و\" في آل‬‫عمران ‪ 7‬عطفية وليست استئنافية فصار الرسوخ في العلم اصلا لكل العلوم الزائفة التي‬ ‫هي سبب الانحطاط والتخلف‪.‬‬‫وتحرر ابن خلدون من عائقي الحريتين الروحية والسياسية هو الذي جعله يعلن صراحة‬‫نهاية نظرية المعرفة المطابقة مبينا أن الوجود أوسع من الإدراك وأن المعرفة الإنسانية‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪94‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مقبولة في حدود ما يسد حاجاته في تعمير الارض بقيم الاستخلاف والباقي إيماني وليس‬ ‫علميا‪ :‬اجتهاد يعلم الشاهد ويؤمن بالغيب‪.‬‬‫لذلك فالمقدمة هي أول ثمرة علمية لهذا المنظور الذي صحح التحريفين السياسي والمعرفي‬‫فأعاد العمل السياسي والمعرفي إلى ما كان ينبغي أن يكونا عليه لو اعتمد المنظور القرآني‬‫الوارد في فصلت ‪ 53‬وفي آل عمران ‪ .7‬أصبحت العلوم ثمرة للبحث العلمي في الطبيعة‬ ‫والتاريخ وليس في شرح ألفاظ القرآن‪.‬‬‫والبحث العلمي في الطبيعة والتاريخ في أعيانهما وفي أذهان البشر هو الاجتهاد والعمل‬‫على علم بنتائجه هو الجهاد في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪ .‬والقرآن يذكرنا بأن ذلك‬‫مرسوم في فطرة الله التي فطر الناس عليها وهو عين التكليف الذي تختبر به أهلية الإنسان‬ ‫للاستخلاف ويحاسب عليه يوم الدين‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪95‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫السؤال الاستنكاري الذي انتظره هو‪ :‬ما هذا؟ هل يعقل أن تكون علوم الملة الخمسة‬ ‫(الفقه والتصوف والكلام والفلسفة وأصلها التفسير) علوما زائفة؟‬‫هل يعقل أن تدعي أنك في آخر الزمان وتثبت ذلك وتعتبره شرطا للاستئناف باقتراح‬ ‫بداية جديدة تعيد العمل بالدستور ونظرية المعرفة الممكنة قرآنيا؟‬‫ويتبع هذا السؤال اتهامي بالاستناد إلى المدرسة النقدية لأبعد عني تهمة الخروج عن‬ ‫الملة بهذا الرأي العجيب‪ .‬وطبعا فواضعو هذا السؤال لا يمكن أن يجادلوا في أمرين‪:‬‬‫الأول هو أن النبي نفسه توقع حصول الانقلاب السياسي والتخلي عن الدستور القرآني‬ ‫وتعويضه بحالة الطوارئ أو الملك العضوض‪.‬‬‫والثاني هو أن علوم الملة كلها تأسست بعد هذا الانقلاب السياسي الذي عوض الدستور‬‫المعطل بالقوانين الاستثنائية لحالة الطوارئ‪ .‬فأقوالها حول العلم لا تطابق افعالها فيه‬‫التي كانت مطابقة لحالة الطوارئ وليس لحالة الشرعية‪ .‬وما كان للأفعال أن تكون كذلك‬ ‫من دون قلب فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬‫وما كنت لأعني بهذه العلوم التي لم يعد أحد يعمل بها أو يهتم بها إذا ما استثنينا‬‫طائفتين (أصحاب كاريكاتور التأصيل من جنس بوكو حرام وداعش مدحا وأصحاب‬‫كاريكاتور التحديث من جنس العلمانيين والليبراليين العرب هجوا) لولا الاصرار على‬ ‫إحيائها لكان المريض يريد أن يتطبب بالطب الرعواني‪.‬‬‫والكثير من أصحاب السؤال الاستنكاري والاتهام المترتب عليه يفعلون بحسن نية‪ .‬فهم‬‫يتصورون الشكوك على علوم الملة شكوك على المرجعية التي انطلق اصحاب هذه العلوم‬‫منها لكأني من يشكك في الملك العضوض الموالي للخلافة على منهاج النبوة ويشكك في منهاج‬ ‫النبوة‪ :‬الملك العضوض يندثر بنفس المرجعية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪96‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فالتحريف الشيعي الذي نفى الحريتين بإعادة الوساطة الروحية في التربية والوصاية‬‫السياسية في الحكم يدعي تمثيل المرجعية‪ .‬والملك العضوض يقول بالحريتين لكنه يعمل بما‬‫يشبه التشيع لأن الوساطة الروحية صارت للعلماء مقابل أن تصير الوصاية السياسية‬ ‫للأمراء في الافعال المتدثرة بكاذب الاقوال‪.‬‬‫وما يدعيه التشيع لتأسيس الوساطة الروحية هو عصمة الأئمة وما يدعيه التسنن‬‫لتأسيسها هو دعوى وراثة العلماء للأنبياء وما يدعيه التشيع لتأسيس الوصاية السياسية هو‬‫آل شرعية آل البيت وما يدعيه التسنن لتأسيها هو دعوى شرعية المتغلب‪ .‬تحريف مضاعف‪:‬‬ ‫معارضة باسم واجب زائف وحكم باسم واقع زائف‪.‬‬‫فكان سر الانحطاط كامنا في هذين التزييفين الشيعي والسني لدستور العمل القرآني‬‫سياسيا ولدستور النظر القرآني معرفيا‪ .‬وقد من الله علي بإدراك شرط الاستئناف عندما‬‫تأملت فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬ففهمت أن القرآن هو الذي حدد المخرج من هذه المآزق التي‬ ‫توقعها الرسول عندما تكلم على الملك العضوض‪.‬‬‫الاستئناف لا يكون بإحياء ما كان شرطا في تحريف النشأة الاولى‪ .‬لا يمكن للنشأة الثانية‬‫للعودة إلى منهاج النبوة أو الاستئناف أن يعتمد على عمل (دستور العمل السياسي) وعلم‬‫(دستور النظر العلمي) أفسدا النشأة الأولى التي اخرجت الامة من الخلافة على منهاج‬ ‫النبوة إلى الملك العضوض‪.‬‬‫فإذا كان هذا المعنى هو ما يعاب علي فأهلا بكل التهم‪ .‬وعلى كل فكل المعرفة الإنسانية‬‫النظرية والعملية سواء كانت من منطلق ديني أو من منطلق طبيعي مرت بمثل هذه الحالة‪:‬‬‫لا أحد اليوم يعتمد فلك بطليمس لفهم نظام العالم ولا أحد يعتمد طب ابن سينا لعلاج‬ ‫الأمراض‪ .‬ومثلها علوم الملة‪ .‬كلها ماتت‪.‬‬‫وتدريسها ليس علما بموضوعاتها بل هو علم بتاريخها ككل الآثار التراثية التي ندرس‬‫تاريخها ونعلم أنها آثار لماض مضى وانتهى وأنه علينا أن نستأنف البحث من رأس معتبرينها‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪97‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook