Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore التواصل والتبادل - الفصل الثاني - أبو يعرب المرزوقي

التواصل والتبادل - الفصل الثاني - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-04-05 08:18:06

Description: ذكرت في الفصل الأول أن دراسة الحيل العقلية التي وضعتها لتفسير القرآن (لفهم ظاهرات التاريخ) قد تطول كثيرا: هذا فصلها الثاني حول حيلة الحيل.
درسنا دور الكلمة والعملة في التواصل والتبادل اساسي كل عمران بشري (لسد الحاجات المادية) واجتماع إنساني (لسد الحاجات الروحية): مصطلحي ابن خلدون.
وعلينا الآن أن نعمق البحث في التواصل ثم في التبادل لتحديد صلتهما بالمعادلة الوجودية التي هي كونية بالجوهر رغم أن الخصوصيات الثقافية تخفيها.
ولهذه العلة فلا بد من البدء ببيان حقيقة الخصوصيات الثقافية ودورها في إخفاء "الرحم الكوني" (النساء 1) وما يترتب على اغفاله من صراع بين البشر.

Search

Read the Text Version

‫الأسماء والبيان‬



‫‪1‬‬ ‫مقدمة‪1 :‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬



‫ذكرت في الفصل الأول أن دراسة الحيل العقلية التي وضعتها لتفسير القرآن (لفهم‬ ‫ظاهرات التاريخ) قد تطول كثيرا‪ :‬هذا فصلها الثاني حول حيلة الحيل‪.‬‬ ‫درسنا دور الكلمة والعملة في التواصل والتبادل اساسي كل عمران بشري (لسد الحاجات‬ ‫المادية) واجتماع إنساني (لسد الحاجات الروحية)‪ :‬مصطلحي ابن خلدون‪.‬‬ ‫وعلينا الآن أن نعمق البحث في التواصل ثم في التبادل لتحديد صلتهما بالمعادلة الوجودية‬ ‫التي هي كونية بالجوهر رغم أن الخصوصيات الثقافية تخفيها‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فلا بد من البدء ببيان حقيقة الخصوصيات الثقافية ودورها في إخفاء \"الرحم‬ ‫الكوني\" (النساء ‪ 1)1‬وما يترتب على اغفاله من صراع بين البشر‪.‬‬ ‫فمن المعلوم أن التنوع بكل مستوياته له ترجمة ثقافية تجعله ينقلب في التصورات إلى‬ ‫اختلاف ينسي البشر في الوحدة الأصلية فيكون مصدر أنواع التمييز‪.‬‬ ‫فالتنوع العضوي يؤدي إلى التمييز العنصري الذي يصبح ثقافة تعتبر كل فرق عرض‬ ‫فرقا جوهريا فيصبح التنوع في اللغات والألوان والعادات علة تفاضل‪.‬‬ ‫لذلك فلا بد من بيان طبيعة التنوع على أرضية الوحدة الجوهرية للنوع البشري الذي‬ ‫تصفه الآية الأولى من النساء بانتساب كل الناس إلى نفس واحدة‪.‬‬ ‫وعلى أساسه تؤسس الآية ‪ 13‬من الحجرات‪ 2‬المساواة بين البشر ولا تبقى إلا التفاضل‬ ‫بالتقوى التي هي الخضوع للشرع أي للسنن الإلهية الواحدة والكونية‪.‬‬‫ۚ‬ ‫َواْْ َلْر َحا َم‬ ‫ِب ِه‬ ‫َخ َل َق ُك ْم ِم ْن َن ْف ٍس َوا ِح َد ٍة َو َخ َل َق ِم ْنَها َزْو َج َها َوَب َّث ِم ْنُه َما ِر َجا اًل َك ِثي ارا ََوِن َسا اء ۚ َوا َّت ُقوا ال َّل َه ا َّل ِذي َت َسا َء ُلو َن‬ ‫اَاكللاََّّننََاان َُُسعسَل ِْايإَّتَّنُُكاق ْمو َاخَََلر ِرَّْقبقيَُناكبا ُاُمكَا َّمل ِ ِذمين‬ ‫اََأألَُُّّّييلََههَاها‬ ‫‪َ 1‬يا‬ ‫َذ َك ٍر َوُأن َث ٰى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُش ُعوابا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا ۚ ِإ َّن َأ ْك َرَم ُك ْم ِعن َد ال َّل ِه َأ ْت َقا ُك ْم ۚ ِإ َّن ال َّل َه َع ِلي ٌم َخ ِبي ٌَر َ‬ ‫ِإ‪ََّ 2‬ينا‬ ‫‪10 1‬‬

‫ولنبدأ بأهم ظاهرة لعلاقة الخصوصي بالكوني فبعض المدارس تنفي كل إمكانية للكوني‬ ‫معتمدة على عسر ما أوصلوه على دعوى استحالة الترجمة‪ :‬اللسان‪.‬‬‫فلا يمكن أن ننفي تعدد اللغات وتمثيلها لجوهر الخصوصيات الثقافية التي تتمايز بها‬ ‫أمتان متجاورتان إلى حد حاجتهما للتواصل بوسيط بين اللسانين‪.‬‬‫ولا يمكن أن ننفي أن اللسانين يتضمنان رؤيتين للوجود قد تتقابلان تقابلا يحول دون‬ ‫نفس التنظيم لمعطيات التجارب المعيشة وتسميات اشياء بيئتهم‪.‬‬‫ومع ذلك فأساس هذه المفهوم إيديولوجيا حداثية ازدادت عمقا بما بعد الحداثة بدعوى‬ ‫أمرين كلاهما لا يصدقه عاقل ينفيان ما يتجاوز الظاهر العيني‪.‬‬‫فدعوى حصر العلم في ظاهر الوجود دون الوجود في ذاته خلط بين عدم حصر الوجود في‬ ‫الإدراك والزعم بأن ما يدرك ليس حقيقة من الوجود‪.‬‬ ‫شتان بين الأمرين‪.‬‬‫فالوجود متجاوز للإدراك بالغيب لكن ما يدركه الإنسان منه ليس مجرد مظاهر منه بل‬ ‫هو ما يناسبه منه فالإنسان يتجاوز المعيش العيني إلى الكلي‪.‬‬‫ثم إن زعم العكس متناقض‪ :‬فما يصح على الوجود ينبغي أن يصح على العلم بالمعرفة‪.‬‬ ‫فإذا كانت معرفة الوجود تتجاوز المظاهر فمعرفة المعرفة مثلها‪.‬‬‫ذلك أن المعرفة من الموجودات هي بدورها وما يصح على علاقنا بالوجود يصح على‬ ‫علاقتنا بها فيكون ما نقوله عليها هو بدوره ظاهرا منها لا حقيقتها‪.‬‬ ‫وبهذا تسقط كل حجج كنط ولا تبقى إلا حجج الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪:‬‬ ‫في الوجود غيب لا ندركه‪.‬‬ ‫لكن ما ندركه ليس مجرد مظاهر منه بل هو حظنا منه‪.‬‬‫وهذا الحظ كلي وبفضله يتفاهم البشر بما يتجاوز الفروق اللسانية والثقافية أي إن‬ ‫الخصوصية لا معنى لها إلا بكونها تتأسس على أرضية الكلية أصلا لها‪.‬‬ ‫‪10 2‬‬

‫فكيف نميز الخصوصي والكلي في حياة البشر حتى نتجاوز الاستعمال التقابلي بين‬ ‫المفهومين فنحتج بأحدهما ضد الثاني في صدام كاريكاتوري بين أصوليتين؟‬‫وحتى يكون الجواب مفحما سأضرب أمثلة من اللغة والمعرفة والسياسة والاجتماع‬ ‫والبيولوجيا ونختمها بمثال تقني بين يفهمه أي عاقل مهما تدنى تكوينه‪.‬‬‫وقبل ذلك أذكر بان الموقف الحداثي الفاصل بين المظاهر والحقائق وصل إلى القول‬ ‫بموانع مطلقة بين الثقافات واستحالة التنافذ بينها لنفي الكلي فيها‪.‬‬‫ففي اللغات يزعمون أن الترجمة مستحيلة لتعذر المطابقة بين نظاميين لسانيين وأسلوبهما‬ ‫في تنظيم العالم‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن اللقاء يكون بين خصوصيتين‪.‬‬ ‫وأن الخصوصيتين ليس لهما وراء يجمع بين البشر هو الكلي البشري وراءهما‪.‬‬ ‫ولهذه العلة يزعمون الترجمة مستحيلة بسبب اختلاف أساليب تنظيم العالم‪.‬‬ ‫وهذا دليل قصور فهم‪:‬‬ ‫فلو كان ذلك كذلك لاستحال أن تؤدي اللغة حتى في نفس الجماعة ما تؤديه‪.‬‬ ‫فبين أن تجارب أفراد الجماعة مختلفة‪.‬‬ ‫فكيف يتفاهمون؟‬‫ما لا يفهمه أصحاب هذا الزعم باستحالة الترجمة هو أن التواصل حتى في نفس الجماعة‬ ‫بل وحتى تواصل الشخص مع نفسه هو بالأساس عملية ترجمة دائمة‪.‬‬‫والقصد بهذه الترجمة وضع مضمون معين خاص بالفرد يحدد مسمى الاسم المشترك بين‬ ‫افراد الجماعة مهما اختلفت تجاربهم مع الأشياء التي تسميها المفردات‪.‬‬‫فمثلا مآكلة بين ذوي لسانين مختلفين كل منهما لا يعلم لغة الثاني أو بين جنسين في عملية‬ ‫حميمة‪ :‬هل هما فاقدان لما يتجاوز الاختلاف اللساني؟‬ ‫وليكن مثالنا الثاني من المعرفة العلمية‪:‬‬ ‫‪10 3‬‬

‫هل نستطيع فهم ما يكتب بكل اللغات المختلفة فنترجمه للغة موحدة أم لا نستطيع؟‬ ‫فماذا تقول لغة العلم؟‬‫ولنمر إلى السياسة وليكن مثال الحرب الذي هو ذروة الصدام بين الشعوب لأسباب مادية‬ ‫أو رمزية‪:‬‬ ‫ألا يتفقان على تعليل ضرورة الحسم القتالي أم لا؟‬‫ولنأخذ مثالا اجتماعيا هل تخلوا الجماعات من مؤسسات تنظم عملية تجديد الأجيال‬ ‫وتربيتها لتواصل بقاء الجماعة وإن بطرق مختلفة لأهداف متماثلة؟‬ ‫وهنا نصل إلى بيت القصيد‪:‬‬‫ما الذي يجعل كل الكائنات الحية لها نفس الوظائف الشارطة للحياة العضوية رغم‬ ‫اختلاف الأعضاء المحققة لهذه الوظائف؟‬ ‫ألا نرى أن الخصوصي يتعلق بالأعضاء وأن الكلي يتعلق بوظائفها؟‬ ‫كلها تتنفس للحاجة إلى الاكسجين ولكن الإنسان بالأنف والسمك بالخياشيم إلخ‪...‬‬ ‫أليست العنصرية مبنية على اختلاف الأعضاء ونسيان الوظائف؟‬ ‫خذ مثال الزنجي الذي كان ينبذ لسواد بشرته‪.‬‬ ‫لكن ألا ترى أنه قد أصبح من المبجلين؟‬‫فتفوق الزنوج في الرياضة عامة وما ينسب إليهم ‪-‬وهما أو حقا‪-‬من قدرات جعلهم اليوم‬ ‫مطلوبين في الغرب فكان للعب والجنس قدرة تحريرية من العنصرية‪.‬‬‫والمثال مقصود لبيان أن إطلاق الخصوص ونسيان الكلي هو في آن علة العنصرية وعلة‬ ‫التحرر منها في آن وكلاهما خطأ من منظور عقلي وقرآني(الحجرات‪.)13‬‬ ‫والمثال الحاسم تقني لأنه جامع لكل ما سبق‪ :‬خذ مثال لعبة الشطرنج‪.‬‬ ‫من يعرفها يعرف أن قطع اللعبة يمكن أن تكون من أي مادة فهل يغير ذلك اللعبة؟‬‫اللعبة هي في مستوي الكلي الذي هو وظائف القطع وليس مادتها أو شكلها إذ يمكن أن‬ ‫تكون ورقة نكتب عليها اسم القطعة ونلعب بها فنحركها على الرقعة‪.‬‬ ‫‪10 4‬‬

‫وهكذا فقد وصلت إلى تحديد العلاقة بين الخصوصي والكلي‪:‬‬‫الخصوصي عضو والكلي وظيفة وهذا العلاقة تكذب نظرية أرسطو في القول بجوهرية‬ ‫بعض المواد‪.‬‬‫عنده أن الطبيعة والحياة المادة فيها متلاحمة مع الصورة ولا يمكن تحديد هذه من دون‬ ‫تلك والمادة بالجوهر متعينة فيكون التعين فيها مقوما للكلي‪.‬‬‫وحكمه هذا استقرائي وهو محق فيه إذا قصرنا مفهوم الطبيعة والحياة على ما كان في‬ ‫متناول التجربة حينها‪.‬‬ ‫لكننا اليوم يمكن أن نتصورهما على نحو آخر‪.‬‬‫فيكون بالوسع تصور المادة الطبيعية والبيولوجية من جنس المادة الرياضية مجرد تعين‬ ‫ليس بالضرورة وحيد النوع بل هو مجرد حامل أيا كان نظريا‪.‬‬‫أعني أنه يمكن أن يكون من جنس علاقة قطعة الشطرنج بتعينها في مادة ما بوصفها‬ ‫حاملة للكلي أي لحد القطعة وقوانين دورها بصرف النظر عن معدنها‪.‬‬‫وسأكتفي بأمثلة أرسطو‪ :‬فما ينسبه للمادة من دور في الصورة هو في الحقيقة ما أخذه من‬ ‫كلي الصورة‪ :‬فلو لم يكن الأمر كذلك لكان لخصوصياتها دور‪.‬‬‫فزعم خصوصية المادة يجعلها نوعية لا عددية ومن ثم فأرسطو ينفي تأثير لون البشرة‬ ‫ومقدار الأعضاء في الوظائف وإلا لاستحال علم البايولوجيا‪.‬‬‫ولهذه العلة قال بالتناسب في علاقة الأعضاء والوظائف فهذه أعم من تلك دون أن يقول‬ ‫بتطور الأنواع إذ لو كان للمادة دور في الصورة لاضطر للقول به‪.‬‬‫فيكون الاختلاف العضوي في نفس النوع تغيرا لا يتوقف عند الخصوصية العضوية بل‬ ‫هو مسار تطور يؤدي إلى تغير الوظائف فيكون الكمي آئلا إلى الكيفي‪.‬‬‫وهم يعللون موقفهم بدور الأعضاء في التكيف الوظيفي ومن ثم فتجويد الأعضاء ليس‬ ‫مجرد خصوصيه بل هو عين تطور الوظائف‪ :‬ثبات الأنواع أو تطورها‪.‬‬ ‫‪10 5‬‬

‫لكن أهم حجة داحضة لهذه النظرية هي كونها تفترض التغير اللامتناهي والطفرات‬ ‫للوصل بين الأنواع في مسار تطورها وهو ما لا يمكن أن يتجاوز الفرض‪.‬‬‫وحتى لو سلمنا به فإنه يفترض بداية وغاية كلتاهما فيه تمييز بين المسار العضوي أداة‬ ‫والمسار الوظيفي غاية فتكون الوظائف البيولوجية نسقا كونيا‪.‬‬‫وبوصفها نسقا كونيا في علاقة بشروط البقاء البيولوجي هي كليات متعالية على عينيات‬ ‫الظرف المتغيرة على الأقل بقانون تحويل المكتسب إلى وراثي‪.‬‬ ‫والقول بتحول المكتسب إلى وراثي هو قدم أخيل في نظرية التطور‪.‬‬ ‫فلا يوجد دليل على ذلك إلا في حالات التحويل الجيني الذي يحدث صدفة أو بقصد‪.‬‬‫ففي الزراعة وفي تربية الحيوان يمكن للمزارعين أن يحدثوا تحولا نوعيا في الشجر‬ ‫والحيوان بالتهجين وكلاهما خاضع لقوانين البايولوجيا وآليات عملها‪.‬‬‫وعلى أساسها يمكن القول إن الانتخاب الطبيعي هو رهن أحداث الطبيعة وأثرها على‬ ‫الحياة حفزا أو حبطا لما يحدث بآليات الحياة بقواعد قوانين الوراثة‪.‬‬‫فهل يمكن للقرد أن يصبح إنسانا بعملية تهجين أم إن الأمر من جنس التهجين بين الحمار‬ ‫والفرس فتكون البغال العقيمة؟‬ ‫أم تأثير بغير آليات الحياة؟‬ ‫ليس قصدي الحسم في الأمر فلست عالما في الاحياء‪.‬‬‫بحثي‪ :‬دور الكلمة والعملة في التواصل والتبادل شرطين لوجود الجماعات البشرية‬ ‫والحضارة الإنسانية‪.‬‬‫تكلمت في الفصل الأول على بعدي التواصل والتبادل المتعامدين‪ :‬بين البشر ثم بينهم‬ ‫وبين الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫فكل إنسان يتواصل ويتبادل بهذا المعنى‪.‬‬‫لكن هذا التواصل والتبادل كلاهما مادي ورمزي متعلق بهما في العالم وهمالا يكفيان‬ ‫الإنسان بل هو يطلب ما يعللهما ويضفي عليهما معنى مكتف بنفسه‪.‬‬ ‫‪10 6‬‬

‫فلكان الإنسان من حيث هو إنسان لا يرضى بالأمر الواقع بل يطلب وراءه ما يجعله أمرا‬ ‫واجبا أو ما يدفع به إلى تجاوزه إلى ما يعتبره مكتفيا بنفسه‪.‬‬‫وبذلك يتضح مفهوم المعادلة الوجودية وما يعوضها عندما يقتصر الإنسان على تواصل‬ ‫وتبادل ببعديهما حصرا في العالم طبيعة وتاريخا‪ :‬الوجود الإدماني‪.‬‬ ‫فيقف الإنسان أمام لغزي الوجود وقطبي المعادلة‪:‬‬‫الإنسان والله في شبه التمانع إذ ما ينسب إلى أحدهما وكأنه ينفى عن الثاني نزاعا لا‬ ‫يتوقف‪.‬‬‫وينتج عن ذلك قضيتان‪ :‬الأولى هي أن كل ما كان يقال باسم ما بعد الطبيعة والوجود‬ ‫أو اللاهوت صار يقال باسم الطبيعة والتاريخ باسم الناسوت‪.‬‬ ‫وما خرافة علم الكلام الجديد إلا من هذا النوع‪:‬‬‫احذف كلمة رب في الفكر الوسيط والقديم وعوضها بكلمة إنسان في فكر أصحابه ولن تجد‬ ‫جديدا أصلا‪.‬‬‫لكن القرآن يجعل القطبين متلازمين‪ :‬فهو من ألفه إلى يائه حوار بين القطبين الله‬ ‫والإنسان في منزلة يكون فيها إما خليفة الله أو بديلا منه‪.‬‬‫فإذا رأى الإنسان نفسه بديلا وليس خليفة يطبق للشرائع الطبيعية (القوانين‬ ‫الرياضية) والتاريخية (القوانين الخلقية) ذاتي التهديم يفسد ويسفك الدماء‪.‬‬‫وليس هذا حكم علته إيمانية بل لأن البديل من علاقة من القطبين السوية هو الوجود‬ ‫الإدماني الحاصل‪ :‬فالمتأله بلغة ابن خلدون مستبد وفاسد بالجوهر‪.‬‬‫فما من عوض عن العلاقة السوية بين القطبين في المعادلة الوجودية إلا الوجود الإدماني‬ ‫بالفساد في الارض وسفك الدماء قدرة أو التهديم الذاتي عجزا‪.‬‬‫فيتداول على المرء انحطاط الوجود الإدماني الاستبداد والعدوان وينتج عنهما الاستعباد‬ ‫والخضوع للعدوان والمهرب في الحالتين اللامتناهي الزائف‪.‬‬ ‫فالمعادلة الوجودية هي بنية الوعي الإنساني لكنها يمكن أن تكون سوية أو محرفة‪:‬‬ ‫والسوية متقدمة على المحرفة‪ :‬أحسن التقويم والرد إلى أسفل سافلين‪.‬‬ ‫‪10 7‬‬

‫وعندئذ يصبح التواصل والتبادل كلاهما مخمس الأبعاد‪:‬‬‫المتعامدان مع العالم والتاريخ يتضاعفان مع ما وراء العالم (الرب) وما وراء التاريخ‬ ‫(الله)‪.‬‬‫أي إن ما وراء العالم يفترض للخروج منه ربا وما وراء التاريخ يفترض للخروج منه‬ ‫إلهيا والأول خالق والثاني آمر تمييزا بين الطبائع والشرائع‪.‬‬ ‫ماذا يعني ذلك؟‬ ‫ما الذي يجعل الإنسان لا يعتبر العالم مكتفيا بنفسه؟‬ ‫ما ا لذي يجعله يبحث عن تواصل وتبادل من جنس مختلف عن الطبيعة والتاريخ؟‬‫هل التفسير الديكارتي بأن وعي الإنسان بما هو غير مطلق في ذاته دليل على وجود‬ ‫المطلق الذي يقيس به ذاته للتضايف بين المفهومين المطلق والنسبي؟‬ ‫ألم يسخر ابن رشد من المتكلمين بالقول إنهم يتصورون الله إنسانا تاما أو مطلقا؟‬ ‫أليست مدرسة اليسار الهيجلي قد اعتبرت الإنسان خالقا وهميا تمامه؟‬‫وسواء اتهمنا الكلام (التشبيه) أو الإنسان (الوهم الاستكمالي) فإن الاعتراف بوجود‬ ‫عدم القناعة بالعالم طبيعة وتاريخا مقوم للوعي لا مجرد حال نفس‪.‬‬‫فهي كلية حتى وإن جمعت بين نوعين من \"الإدمان\" إما الروحي (الدين) أو المادي‬ ‫(الملاهي والمخدرات) فهل الأمر مقصورا على المفاضلة بين إدمانين؟‬‫وإذا الحق أصحاب الوجود الإدماني الدين بحالهم فهم حينئذ يعترفون بأن المفاضلة لن‬ ‫تكون لهم بل عليهم‪ :‬فرهانهم خاسر في الدنيا وما يتجاوزها‪.‬‬‫ذلك أن ما عرف غربيا برهان باسكال وما سبقه إليه الغزالي هو أن المراهن على وجود‬ ‫الآخرة يربح كل شيء إن وجدت ولا يخسر شيئا إذا لم توجد‪.‬‬‫والرهان المقابل رهان على ربح لا شيء إن لم توجد الآخرة وعلى خسران كل شيء إن‬ ‫وجدت فضلا عن كون الوجود الإدماني تهديم مادي للذات والعالم حتما‪.‬‬ ‫والكلام على الرهان خطاب لأصحاب الوجود الإدماني وهو طبعا لا يليق بالمؤمنين‪.‬‬ ‫فالمعادلة الوجودية تبقى هي الأساس مقوما للوعي حتى الملحد‪.‬‬ ‫‪10 8‬‬

‫ذلك أن نافي القطب الأول (الله)يفقد القطب الثاني (الإنسان) لأن نفي الأول‬ ‫مستحيل من دون تأليه الطبيعة وتأليهها يعني نفي جوهر الإنسان‪ :‬الحرية‪.‬‬‫وبلغة سبينوزا ليس الإنسان دولة في الدولة (الطبيعة) بل هو خاضع لقانون الضرورة‬ ‫الطبيعية ومن ثم فلا تصور لإنسان حر من دون القطب الأول‪ :‬الله‪.‬‬‫والاستخلاف علاقة بين حريتين‪ :‬المستخلف والمستخلف علاقتهما تعاقدية وليست حتمية‬ ‫ومن ثم ففيها تكليف ومسؤولية وذلك هو جوهر الحرية والوعي الذاتي‪.‬‬ ‫نعود الآن إلى التواصل والتبادل‪.‬‬‫كلاهما ذو بعدين متعامدين في العالم (بين البشر ثم بينهم وبين الطبيعة والتاريخ) لكننا‬ ‫أضفنا بعدين آخرين‪.‬‬ ‫وهما بعدان ما ورائيان شبه تواصل حول التواصل ببعديه هو بدروه ذو بعدين‪:‬‬ ‫ما وراء التواصل بين البشر وما وراء التواصل بينهم وبين الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫وبهما يكون الإنسان رقيبا على بعدي تواصله الأول في العالم ببعدي تواصله الثاني فيما‬ ‫وراء العالم‪:‬‬ ‫وبعبارة تعبدية هي الشعور بأن الله يراك‪.‬‬‫وهذا هو الضمير ويكذب من يتصوره ثمرة سلطان الجماعة أو أنه ممكن من دون الإيمان‬ ‫بأن للتواصل قيم ومعايير لصدقه ليس لصاحبه سلطان عليه‪ :‬التقويم‪.‬‬ ‫ونفس الامر يقال عن التبادل‪.‬‬ ‫وللتقويم في الحالتين خمسة مستويات‪:‬‬ ‫▪ ثلاث منها تقليدية هي الحق والخير والجمال‪.‬‬ ‫▪ واثنان شارطان لها هما بعدا الاستخلاف‪.‬‬‫فلو كان الإنسان تابعا للطبيعة لعكس الواقع مثل المرآة فلا يستطيع له تعييره بالقيم‬ ‫الخمسة (الوعي بالحرية) ومن دون معيار لا تقويم (الوعي بالمطلق)‪.‬‬‫فلأن الإنسان متعال على الطبيعة والتاريخ يستطيع التخلص من مجراهما فيبتعد عنهما‬ ‫ليحكم في قيمته وهو التقويم المشروط بالحرية أو بقدرة التوجيه‪.‬‬ ‫‪10 9‬‬

‫والتوجيه منطقيا هو قسمة الوجود إلى ممكن وضروري وممتنع وذلك هو أول تقويم‬ ‫شارط للثلاثة التقليدية لكنه مشروط بالوعي بعلاقة نسبي مطلق سر الإيمان‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الإنسان لمجرد كونه قادرا على التقويم المعرفي والخلقي والجمالي لابد‬ ‫أن يكون قادرا على التقومي الجهوي وشرطه الوعي بعلاقة القطبين‪.‬‬‫لكن هذا الوعي يمكن أن يعتبر القطب الأول محايثا للطبيعة والتاريخ فيلغي نفسه لكنه‬ ‫لا يستطيع إلغاء ما وراءهما فيكون غافلا عما في بنية وعيه‪.‬‬‫ولذلك فالرسالة تنبيه للغافلين وتذكير وليست تعليما لشيء ليس قائما في بنية الوعي‬ ‫نفسها وهو معنى الدين فطرة فطر الله الناس عليها لا تنفك أبدا‪.‬‬ ‫‪10 10‬‬





02 01 01 02


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook