-- أمثلة منه في التاريخ الفعلي حتى لا يبقى معاني مجردة مع استحالة التطابق بين الأمثلة والمثل (فلسفة التاريخ) وقد رأينا أن المعاني الكلية في شكل المقدرات الذهنية النظرية والعملية لا يمكن أن تتعين في الأمثلة العينية من المثل المجردة لكنها تصلها بالتجربة الطبيعية وبالتجربة التاريخية شرطا في علمهما .وذلك يتبين أن الإنسان مشدود إلى حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود رغم نسبية ما يحققه منها بالقياس إلى مثلها العليا التي يؤمن بوجودها في أفعال الله حتى عندما يضل فتخلط عليه الأمور فيفقد حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وحمال الحياة وجلال الوجود لأنه لا يمكن أن يعتبر خضوعه وكذبه وشره وقبحه وذله بهذه الصفات ينفيها ويدعي عكسها اقلهن في الظاهر. فكيف نستخرج كل ذلك من الآيتين؟ إذا اخذنا الآية 105وجدنا وصف القرآن من حيث وجهه المتعلق بفلسفة الديني المحض :فالرسالة أنزلت بالحق أداة (بالحق أنزلناه) وبالحق مضمونا (بالحق نزل) أي إنها شكلا ومضمونا حق خالص .إنها تعريف لوظيفة المثل الدينية الضرورية لحياة البشر .والتذكير يعني أنها مرسومة في ما فطر عليه الإنسان :نزلناه على أمثلة عينية (من نوازل التاريخ الإنساني) تنزيلا (أي إن الأمثلة ليس لها معنى آخر غير التنزيل للمثل في أمثلة تحيل عليها ولا تطابقها). لكن الرسالة ومثلها لا ترد في ذاتها إلى علاقتها بالإنسان لأنها تتوجه إلى كل الموجودات التي هي لا متناهية مثل كلمات الله التي هي لامتناهية .وإذن فما يعني الإنسان هو ما يحدده المضمون الذي تذكره به في العنصر الخامس والأخير أي ما تكلمت عليه قبل قليل. وهو شروط قيام الإنسان بتجهيز يمكنه من تعمير الارض والاستخلاف فيها وتجهيز العالم بما يناسب ذلك وهو معنى التسخير .ومن دون العلاقة بين تجهيز الإنسان بقدرة النظر والعقد للتعمير وبقدرة العمل والشرع للاستخلاف لا يمكن فهم القرآن والإنسان والوجود وختم الرسالات وكونية اسلام البداية (الفطرة) وإسلام الغاية (رسالة محمد). أبو يعرب المرزوقي 47 الأسماء والبيان
-- وهذا ينقلنا من الديني الخالص وفي ذاته دون اعتبار لعلاقته بالتاريخ الإنساني إلى الديني كنظام مثالي يستمد منه التاريخ الإنساني نماذجه القيمية وندرك الأول بوصفه مقدرات ذهنية نظرية وعملية بها يمكن أن يصوغ الإنسان ما يطلبه في انشداده إليه خلال تاريخيه الفعلي ومنه يستمد امثلة نموذجية لسياسة عالم الشهادة المشدود إلى مثل عالم الغيب وهو معنى التنزيل :ونزلناه تنزيلا أي ما ينتج عن الاجتهاد الإنساني في النظر والعقد وتطبيقهما وفي الجهاد في العمل والشرع وتطبيقهما .وذلك سواء كان مؤمنا أو ملحدا :لأن الإيمان والألحاد لا يتعلق بوجود النظام في كل ذلك بل بعلته التي هي الله عند المؤمن والصدفة عند الملحد. والمقابلة بين المؤمن والملحد ليس بين الإيمان وعدمه بل بين طبيعة موضوع الإيمان هل هو الله أم الصدفة .وبين أن المؤمن أكثر عقلانية من الملحد لأن ما يفسر به العقل الأشياء ينبغي أن يكون عقلا أتم مما يفسره بها .وإذن فالمضمون الحقيقي لهذه العلاقة بين العنصر الأول والعنصر الأخير هو هذه العلاقة بين المثالي والتاريخي .إنه طبيعة المسافة اللامتناهية بينهما والتي يقدر به مستوى اجتهاد الإنسان في النظر والعقد ومستوى جهاده في العمل والشرع أعني مستوى سعيه المشرئب إلى المثال والمتحرر من التاريخي وذلك هو معنى علاقة فلسفة الدين بفلسفة التاريخ في القرآن. فلكأن الإسلام يجعل سياسة الإنسان لعالم الشهادة محاكاة سياسة الله للخلق والأمر ويجعل مقاضاة الإنسان على عمله خيرا وشرا بقيمة مسعاه لإثبات جدارته للتعمير والاستخلاف وهو معنى التكريم والتكليف ووقاية من التعلل يأتي التذكير ضد النسيان لئلا يبقى للإنسان حجة يوم الدين فيكون القضاء العادل .وهو ما لم يفهمه لوثر عندما يعيب على الإسلام عقلانية العدل الإلهي المستند إلى الجزاء على أساس الافعال اجتهادا في النظر والعقد وجهادا في العمل والشرع وليس على اساس التحكم لكأن الله طاغية بدعوى اللطف \"الجراس ديفين\". أبو يعرب المرزوقي 48 الأسماء والبيان
-- ولا يمكن أن يحمل الإنسان مسؤولية اجتهاده في النظر والعقد وتطبيقهما لتحقيق شروط التعمير وجهاده في العمل والشرع وتطبيقهما لتحقيق شروط الاستخلاف إذا وجد وسيطا بينه وبين ربه يسيطر على حريته الفكرية فيلغي واجبه الذي هو فرض عين في علاقته بسياسة عالم المثل الغيبي التي يقيس عليها عالم الأمثلة الشاهد وإذا وجد وصيا بينه وبين عالمه في علاقته يسيطر على حربيته السياسية في سياسة عالم التاريخ الشاهد :لذلك فالإسلام ألغى الكنسية في التربية والحق الإلهي في الحكم. وتلك هي العلة الحقيقية التي جعلت المؤمنين بالمسيحية واليهودية والزرادشتية والصابئية والشيعة وحتى المؤمنين برؤية الفلسفة اليونانية التي سادت في فكر المسلمين لا يقبلون بالإسلام رؤية للوجود وللتاريخ لأنه يتنافى مع تصورهم نظرية المطابقة في المعرفة اطلاقا لعلم الوسيط ونظرية المطابقة في القيمة اطلاقا لإرادة الوصي :وهما معنى \"حب التأله\" الخلدوني عند أصحاب الطاغوتين المعرفي والسياسي بدلا من النظر الاجتهادي والعمل الجهادي. وبهذا المعنى فالرسول نفسه مجتهد في النظر والعقد خلال التبليغ بالتربية (ما غلب على المرحلة المكية) وهو مجاهد في العمل والشرع خلال التبليغ بالحكم (ما غلب على المرحلة المدنية) أي خلال فهمه للتنزيل وتحقيقه استئناسا بالأمثلة التي ضربها القرن لأفهام البشر المثل التي تحكم نظام كيان العالم الطبيعي والتاريخي ونظام كيان الإنسان العضوي والروحي .وهو تنزيل تاريخي لإنزال الحق شكلا ولنزوله مضمونا لأن التنزل الإلهي مثالي غيبي والتنزيل الرسول تاريخي شاهد :وتلك هي علاقة السنة بالقرآن وهي المعيار لنقد متن الحديث أو السنة القولية المنسوبة إلى الرسول أو متن التاريخ المنسوب إلى مؤلفي السنة الفعلية. وهوما قصدته عندما سميت التفسير الفلسفي الذي شرعت فيه بهذا العنوان\" استراتيجية القرآن التوحيدية (للإنسانية) ومنطق السياسة المحمدية (للعينة من التوحيد والتي تمثلها السنة القولية والفعلية) وجعلت شعار هذه المحاولة الآيتين اللتين انطلقت أبو يعرب المرزوقي 49 الأسماء والبيان
-- منها هنا لشرح الفرضية التي اعتبرها بداية لأكسمة القرآن الكريم لإثبات حصانته الذاتية .وعندما يتم بناء الأكسمة فإن النقد العلمي لرواة السنتين القولية (رواية أقوال الرسول) والفعلية (رواية أفعال الرسول) يصبح مؤسسا على قواعد لا تكتفي بالثقة في الرواة ذاكرة وأخلاقا. أبو يعرب المرزوقي 50 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى غاية البحث -الفصل الخامس والاخير -في محاولة الاعداد لأكسمة نص القرآن اكسمة تمكن استنتاج كله من بعضه الأدنى مقدارا لا قدرا لأن كل الازواج من آياته المترابطة لها نفس المنزلة في أداء هذه الوظيفة .وقد اخترت الآيتين -105و106 من الإسراء لكونها أوضح مثال يبين هذا المعنى جمعا ومنعا .والمحاولة يمكن أن تؤتي أكلها عندما ينتهي بناؤها المتدرج وامتحانها بعرضها على نص القرآن وبيان قدرتها على استخراج كل ما فيه بالاستنتاج مما انتخبته من حدود بسيطة وقواعد التوليف بينها. ففي هذين الآتيين عناصر الرسالة المقومة الخمسة: .1المرسل هو المتكلم (الله) .2والمرسل إليه هو المخاطب (الإنسان) .3والرسول هو المبلغ (محمد) .4ومنهج التبليغ .5واخيرا مضمون الرسالة (تنزيل النص على نوازل التاريخ الإنساني تنزيلا لتوكيد طبيعة وظيفة الرسالة ودورها في سياسة عالم الشهادة تربية وحكما. وأزعم أن القرآن لا يحتوي إلا ذلك مرتين. • المرة النقدية وهي بمنهج التصديق والهيمنة لنقد التجارب الدينية السابقة ونقد تحريفها خلال تنزيلها في التاريخ الفعلي .وقد حصرت في سبعة تجارب وردت في سورة هود هي تجربة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى .ويتوسط بين الثلاثة الأولى والثلاثة الثانية تجربة ابراهيم التي تتضمن المفتاح الكوني لعلاج أسباب عدم نجاح التجارب الست: وفي ذلك وضع أول للعلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ .وهي البنية العميقة لنص القرآن الكريم. • والمرة الإيجابية لتقديم البدائل التي تحقق شروط نجاح التجربة الدينية تنزيلا في التاريخ .وهي العينة المحمية للتاريخ الإنساني الكوني في المستقبل .وهي عولمة سياسة عالم أبو يعرب المرزوقي 51 الأسماء والبيان
-- الشهادة في ضوء مُثل عالم الغيب .وذلك لحل مشكل العلاقة بسلطان الطبيعة (نوح) وبسلطان المال (هود) وبسلطان الماء (صالح) وبسلطان الجنس (لوط) وبسلطان التبادل الاقتصادي (شعيب) وبسلطان الدولة (موسى) .والمفتاح هو الوحدانية الإبراهيمية التي تتحرر من كل سلطان ليكون السلطان لرب العالمين فيتحرر الإنسان من بقية السلاطين التي تستعبده فيكون \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" (ابن خلدون). وهذا الفصل الأخير نخصصه لوحدة العناصر الخمسة المقومة لمنظومة الرسالة بعد أن درسنا مركزها (الرسول) وزوجها الأول (ما قبله مباشرة وما بعده مباشرة) ثم زوجها الثاني (ما قبل ما قبله وما بعد ما بعده) هو الوحدة التي تمثل كما سأبين ما سميته معادلة الإنسان الوجودية التي تصف وجوده باعتباره عين الوصل بين العالمين عالم الشهادة أو وجوده الدنيوي وعالم الغيب أو وجوده الاخروي وهما مما لا يمكن التنصل منهما حتى لعتاة الإلحاد. بل يمكن القول إن الملحدين أكثر ارتباطا بهذه المنزلة المشدودة إلى العالمين حتى لو كان أحدهما موجودا بالسلب وليس بالإثبات :فحرص الملحد على سلب العالم الأخروي أكثر من حرص المؤمن على إثباته .والادمان على العنصر المسلوب عند الملحد يجعل حضوره في حياته شبه ملزومة-لايتموتيف-شبيه بالهذيان العصابي .فأنت لو قارنت الماركسيين العرب مع الإسلاميين لوجدت الأولين أكثر كلاما في الاديان وتعبيرا عن الحقد والنقمة الدالة فعلا على عاهة نفسية. وقصدي أن معادلة الإنسان الوجودية ليست مقصورة على المؤمن من البشر بل هي تشمل كل البشر من آمن منهم ومن ألحد .كل من يتابع كتابات الماركسيين مثلا يعلم أنهم أكثر النخب كلاما في الأديان ولو بالسلب والنفي والتحقير والحقد على المؤمنين بحيث إنهم أكثر البشر تعصبا إلى حد ذهان المرض النفسي .وهذه الظاهرة عامة لكنها بلغت حدا هذيانيا عند النخب الماركسية العربية وهي لا تتكلم في الدين عامة بل تصب جام نقمتها على الإسلام ما يعني أن الدافع هو العجز السياسي في اقناع الجماهير التي يحتقرونها. أبو يعرب المرزوقي 52 الأسماء والبيان
-- ولهذه العلة فأصدق قول ورد في تعليق أحد علماء الاجتماع متص في وحدة البنية الاقتصادية سواء كانت رأسمالية أو شيوعية (ريمون هارون :فرنسي ذو ثقافة فلسفية ألمانية خاصة) هو الرد على القائلين إن الدين هو أفيون الشعوب (القصد المؤمنة) قوله إن الماركسية هي أفيون النخب (القصد الملحدة) .وهي أفيون بالمعنيين :روحيا وهو الإدقاع إلى حد النكوص إلى التوحش الحيواني في الاخلاد إلى الأرض وماديا إلى حد الاستعداد لبيع كل شيء مقابل كسكروت أو قنينة جعة. وإذن فكلامنا عن معادلة الإنسان الوجودي لا يستثني أحدا بل الإنسان من حيث هو إنسان أيا كانت رؤيته دينية أو لا دينية يخضع لهذه المعادلة التي هي في آن معادلة القرآن ومعادلة أي ملوق كما يقتضي ذلك تعريفه مضمونه بالقول إنه الحق الحق الذي أنزل بالحق ثم نزل في الوجود الفعلي تنزيلا. و\"نزلناه تنزيلا\" تعني الانتقال من الإنزال والنزول بالحق في مستوى فلسفة الدين إلى مستوى فلسفة التاريخ أي في الوجود الفعلي .وهي تعني أن الحق الذي نزل بالحق لا يمكن أن نتبين أنه حق إلا بعرضه على هذا التنزيل الفعلي الحصري في الوجود الفعلي مثلما أن النظرية تبقى فرضية ما لم تؤيدها التجربة المتكررة والثابتة .وهو ما يحيل مباشرة إلى فصلت 53إيجابا وإلى آل عمران 7سلبا :أي أنه ينهى عن تأويل المتشابه لعدم القدرة على الاحتكام إلى عالم الغيب ويأمر بالبحث في ما يرينه الله في الآفاق ولأنفس لإمكانه في عالم الشهادة. وإذن آيات الآفاق الطبيعية والتاريخية وآيات الأنفس العضوية والروحية هي الشاهد من الوجود الفعلي الذي نزل الله فيه الحق الذي أنزل بالحق نزله تنزيلا والذي لا يمكن أن يوجد في تأويل المتشابه لأنه يفيد العكس أي ليس طلب الحق في الشاهد بل تأويل الغيب بسبب زيغ القلب وابتغاء الفتنة .وهو ما يعني أن علوم الملة التي أولت المتشابه تؤول حتما إلى تحريف الرسالة بسبب ما يدعيه من يزعمون الرسوخ في العلم من اعتبار علمهم الذي يعطفوه على علم الله مساويا له في تأويله. أبو يعرب المرزوقي 53 الأسماء والبيان
-- وبذلك فيكفي أن نفهم معنى تنزيل القرآن معاني القرآن تنزيلا بكونها تعني ما يتجلى من آيات الله في الآفاق ببعديها الطبيعي والتاريخي والأنفس ببعديها العضوي والروحي حتى نفهم أن طلب الحق القرآني لا يكون من نصه الذي يضع هذين المبدأين في شكل إشارة إلى العلاج المصيب والعلاج الخاطئ فيكون تبين حقيقة القرآن صادرا عما يحيل عليه نصه في الوجود الشاهد بأنواعه الخمسة أي آيات الآفاق وآيات الانفس وما يصل كليهما في تزواجهما وفي وحدتهما. وتلك الوظيفة استعرت لها اسم \"السبابة\" التي تشير والتي لا يمكن أن تكون بديلا مما تشير إليه .فآيات الآفاق زوجان: .1آيات الطبيعة .2وآيات التاريخ وهي الآفاق التي تحيط بكل موجود وخاصة بالإنسان .وآيات الانفس زوجان: .3آيات كيان الإنسان العضوي .4وآيات كيانه المدرك لكيانه العضوي وآيات الآفاق ولذاته أي كيانه الروحي .5وأخيرا فأصل هذه الآيات كلها ومبدأ وحدتها وسر ترابطها هو كونها آيات من علمها يمكن أن نتبين حقيقة القرآن. وهي دعوة للبحث العلمي بخلاف تأويل النصوص دون مرجعية يحتكم إليها تكون وظيفتها من جنس وظيفة التجربة العلمية .فكونها آيات يعني أنها تحيل إلى ما وراء هو سر نظامها. والقرآن يسميه فعل الخلق أي ما يجعلها موجودة بدلا من أن تكون معدومة وفعل الأمر أي ما يجعلها موجود على ذلك الكيف الوجودي من بين ما لا يتناهى من الكيفيات الممكنة عقلا. فهي إذن آية بوجودها بدل عدمها وبكيف وجودها بدلا من غيره الممكن. ولا يتصورن أحد أن الملحد يمكنه التنصل من طابع الآية أو الإحالة إلى غير شهودها. إذ حتى لو قال بالصدفة فهو قد وضع مبدأ يعلل به الامر الواقع الطبيعي والتاريخي في الآفاق والأمر الواقع العضوي والروحي في الأنفس بما لا يمكن أن يكون هو بدوره أمرا أبو يعرب المرزوقي 54 الأسماء والبيان
-- واقعا .ولا مفر من ذلك حتى وإن تمترس بنفي معنى الآية .فالموجود وكيفه ليسا ضروريين بل هما خيار من بين الوجود والعدم خلقا وبين ما لا يتناهى من الإمكانات أمرا. بل أكثر من ذلك .فالقائل بالصدفة أكثر حاجة للتعليل من القائل بالإيمان .فهذا يمكن أن يعتبر الوجود بديلا من العدم والكيف الحاصل بديلا من الاكياف اللامتناهية الممكنة ناتجين عن حرية الخلق والأمر الإلهيين .لكن الملحد يقول بالصدفة .ولا يمكن أن يعتبر ما يحصل ضروريا من دون بيان تواتر الصدفة لتحصيله :فتواترها واستقرارها الموصل إلى نظام ثابت ولو نسبيا يتنافى مع الصدفة. فالصدفة لا تتوافق مع الانتظام والاتساق حتى في حالة القول بالتطور :فهبنا سلمنا بتطور الانواع لكن ذلك لا ينفي اضطراد قوانين الوراثة ولو لأعصار تدوم آلاف القرون ولا ينفي توارث ما يناسب شروط التاريخ الطبيعي التي تحدد التحول المفيد فتبقيه والتحول أو الجمود غير المفيد فتلغيه بالانتخاب الطبيعي .فما يجعل الانتخاب يحصل هو حفظ المفيد واسقاط غير المفيد وفي ذلك قول بالغائية وهي منافية للصدفة. ولا تعنيني مناقشة الملحدين في خيارهم العقدي -لأن الإلحاد حتى وإن ظن أصحابه أنه نفي للدين دين بمعنى أن أصحابه يؤمنون بأن الصدفة مبدأ لما عليه الوجود وهي إذن تؤدي دور مبدأ حاصل النظام المتناهي على أرضية فوضى الممكن اللامتناهي-بل ما يعنيني أنه لا مفر من هذا المخمس في المعادلة .فالخانات التي ينيها الملحد تبقى حتى بعدمها لأنه يبقى يكافح لإثبات ترجيح بلا مرجح واختيار بلا متار وهو معنى الصدفة. وبذلك تتبين طبيعة البنية العميقة التي سنؤسس عليها أكسمة القرآن أي صوغه التبديهي برده إلى الحد الأدنى من عناصره أعني الأزواج المترابطة من آياته النصية بوصفها تشير إلى عناصر الرسالة الخمسة أي المرسل والمرسل إليه والرسول ومنهج التبليغ ومضمون الرسالة .إنها في آن بنية القرآن وبنية الإنسان وبينة كل المخلوقات بوصفها جميعا آيات دالة على فعلي الخلق والأمر الإلهيين أو في غياب الإيمان المنسوبين إلى الصدفة اصلا للنظام في رؤية الملحدين. أبو يعرب المرزوقي 55 الأسماء والبيان
-- وما يعنينا من هذه البنية التي سميناها \"المعادلة الوجودية\" هو كونها معادلة الإنسان من حيث هو البرزخ الواصل بين عالم الشهادة وعالم الغيب بكيانه العضوي (بدنه) وبكيانه الروحي (وعيه بذاته وبغيره) بهذه البرزخية أو انشداد وجوده الشهودي بوجوده الغيبي فيكون شهوده الوجودي آية تحيل إلى الوجود الغيبي :فالغيب في حياة الإنسان ليس ما يجهله ويمكن أن يعلمه بل ما يعلم أنه لا يمكن أن يعلمه لعلمه بحدود علمة وبلا تناهي المعلوم الممكن وبعدم اكتفاء الموجود بذاته سواء كان الإنسان أو عالم الشهادة كله. ولا فرق في هذه الحالة بين الإحالة التي تؤدي إلى الإيمان بالوجود الغيبي وتعتبره مفارقا للوجود الشهودي وبين الإحالة التي تؤدي إلى نفي الوجود الغيبي ولا تؤمن بما يفارق عالم الشهادة أي العالم المادي الحسي .فأصحابها مضطرون لوضع مبدأ محايث هو نظام هذا العالم الذي لا تكفي الصدفة لتفسره .وهما بين امرين لا ثالث لهما :إما تأليه الطبيعة ورد التاريخ إليها معتبر بها \"كاوزا سوي\" أي علة ذاتها أو القول بالصدفة التي لا تفسر شيئا بل هي نفي للضرورة الشرطية اساس كل نظام في الوجود وينبغي أن ينتهوا إلى نفي الحرية الشرطية فيصبح الإنسان مؤمنا بالفاتاليسم وهو غير الإيمان بالقضاء والقدر الذي يؤمن القائلون بهما بان صاحبهما أي الله عليم حكيم. حان الآن عرض المعادلة كاملة مع تعديل يزيدها وضوحا لأني عروضي السابقة لها فيها الكثير من التجريد الذي يجعل فهمها عصيا :فلنضع «مبدأ التفسير أو الخالق والآمر\" في مركز المعادلة أو في قلبها سواء كان إيمانا برب أو بصدفة تحيل عليها الآفاق الطبيعية والتاريخية والانفس العضوية والروحية بوصفها أربعتها ممثلة لعالم الشهادة الذي له ماوراء فتكون آيات محيلة إلى ما وراء هو علاقتها بهذا المبدأ الذي ينسب إليه النظام فيها .ثم نضع على أحد جناحي المبدأ بدن الإنسان وعلى الجناح الثاني وعيه أو روحه. ثم نضع الطبيعة بوصفها المكون الاول لعالم الإنسان الشاهد تحت المكون الأول للأنفس أي البدن أو كيان الإنسان العضوي ونضع المكون الثاني لعالم الإنسان أي التاريخ المكون الثاني للأنفس أي الوعي أو كيان الإنسان الروحي .فنحصل على المخمس الذي تتألف منه أبو يعرب المرزوقي 56 الأسماء والبيان
-- معادلة الإنسان الوجودية وهي في آن معادلة القرآن ومعادلة كل موجود إذا نسبنا إليه ما نسبناه إلى الإنسان في عرضنا فاعتبرها ذا كيان بدني وكيان روحي .ويبقى الفرق بين المؤمن والملحد متعلقا بالغيب ومفارقة مبدأ التفسير الوجودي. فالمؤمن يؤمن بالعيب ومفارقة المبدأ التفسيري والملحد يؤمن بنفي الغيب وبنفي المفارقة. لكنه لا ينفي الحاجة إلى مبدأ يعلل به النظام الذي هو متناه على أرضية الإمكان اللامتناهي بين الوجود والعدم من حيث الخلق وبين كيف الوجود الحاصل وكيفياته اللامتناهية الممكنة الذي اختارته الصدفة من بينها .وهذا الفرق المضاعف يثبت أن المؤمن هو العقلاني وأن الملحد فاقد للعقل .فالعقل معناه أن يكون لترجيح الوجود على العدم ولاختيار أحد الممكنات اللامتناهية تعليل لتفضيل الوجود على العدم ولانتخاب أحد الممكنات. ولذلك فهو لا مفر للملحد من النكوص إلى الحيوانية أو إلى التسليم بعدم التعليل ويكون المفر بالإدمان على الغيبوبة الوجودية الدائمة في الملهيات والمخدرات التي هي ما يطابق مفهوم الإخلاد إلى الارض بالمعنى القرآني ومفهوم التخلي عن الفهم والعقل :صم بكم عمي فهم لا يعقلون .لا يمكن للملحد أن يستقر روحيا ولا عضويا بل هو في تآكل وجودي دائم :وذلك هو التلضي في جهنم .ومع ذلك فلا يوجد مؤمن صادق لم يعش تجربة الشك والإلحاد لأنها هي لحظة الخيار الحر للإيمان والتخلي عن كفران الحقيقة. وهي التجربة التي تصفها سورة العصر :فتجربة الشك والإلحاد تسميها السورة \"الخسر\". وهي تعتبر الاستثناء منه مشروطا بخمسة شروط هي: .1الوعي بالخسر الذي هو الاستسلام لتجربة الإلحاد .2الإيمان الصادق .3العمل الصالح (وهما علاج للفرد ولذلك فهما دجون مشاركة) .4التواصي بالحق للاجتهاد النظري أبو يعرب المرزوقي 57 الأسماء والبيان
-- .5التواصي بالصبر للجهاد العملي (هما علاج الجماعة ومن هنا المشاركة) .ولهذه العلة اعتبر الشافعي سورة العصر ملخص القرآن كله. فلنقرأ المعادلة بعد أن رسمناها في ممس قمته المبدأ وقاعدته على جانبيه كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي وتحتهما كيان العالم الطبيعي وكيانه التاريخ بوصفها أربعتها لا تفهم إلا بما يستمد منها من دلالة على فعل المبدأ فيها خلقا (وجودها بدل عدمها) وأمرا (كيفها من بين لامتناهي الممكن) .وقد عممت هذه المعادلة على كل الموجودات لأنها جميعا ماطبة بالرسالة التي تركز على الإنسان وتذكيره لأنه لا يستجيب كرها بل طوعا وهو معنى حريته وأساس مساءلته يوم الدين. وإذن فكيان الإنسان الروحي هو حتما وعيه بعلاقته بالمبدأ وبكيانه العضوي وبكيانه الروحي وبكيان العالم الطبيعي وبكيان العالم التاريخي .وإذن فبنية الأنفس وبنية الأفاق التي يقول القرآن إنها تدل بما يرينه الله من آياته فيها على حقيقة القرآن هي في آن بنية كل موجود وإذن فآياته تدل بهذه الإحالة .والاحالة عليها تعطينا مرجعية الدلالة التي علينا طلبها بالبحث العلمي فيها وليس في تأويل آيات النص التي تذكرنا بما علينا فعله ولا تعوضنا فتقدمه لنا كما يتوهم أصحاب الاعجاز العلمي .ولو كانوا صادقين لسبقوا غيرهم في معرفة قوانين الطبيعة بدل انتظار اكتشاف غيرهم لهما ثم يؤولون النص في ضوئها زاعمين أنها ما قصده .ويذهلون عن أكبر جريمة يوقعون فيها المسلمين إذ يجعلون القرآن تاريخيا مثل العلم لأن الحقائق العلمية تاريخية بالجوهر وهي متبدلة في حين ان القرآن ليس تاريخيا وهو صالح لكل زمان ومكان :فهل نكذب القرآن إذا تبين كذب النظريات التي يزعمون أنها من ادلة الاعجاز؟ اليس هذا بلا وعي منهم تأييد للقائلين بتاريخية القرآن وبأنه انتهى مع انتهاء صلوحيته لزمانه فحسب أم هم ينفون تاريخية العلم فيجعلون نظرياته مثل إشارات القرآن صالحة لكل زمان ومكان؟ أبو يعرب المرزوقي 58 الأسماء والبيان
-- فما يريه الله للمخلوقات كلها واحد وكوني ومطلق لتعاليه على المكان والزمان .لكن بعض البشر يراه وبعضهم لا يراه فيطلبه ويعلم أن ما يصل إليه اجتهاد وليس علما مطابقا وجهاد وليس عملا تاما .فيكون التذكير هو إيقاظ ما يمكن من رؤية ما يرينه الله. وهذا الإيقاظ يعني التذكير بوظائف ما جهز به الإنسان لرؤيتها وهو البحث العلمي والطلب العملي .وهو ما فقدناه لما تركنا فصلت 53وانشغلنا بآل عمران .7إنه التحريف. ولست أشك في أن المعترضين سيرون في ما أقدمه تناقضا مع موقفي الرافض لعلم الكلام. وذلك لأنهم لا يرون أن ما أكتبه هنا هو لإثبات عقم علم الكلام واستحالته .فأساسه مصادرة على المطلوب المستحيل :وهو أن الممكن لله ممكن للإنسان طنا منهم أن ماطبة الله للإنسان بما يفهمه من عالمه الشاهد منعكس فيكون قيس الغيب على الشاهد ممكنا لكأن الغيب هو الغائب أي ممكن الحضور بخلاف الغيب الذي لا يحضر للإنسان إلى في الآخرة. فيكون العلم المتناهي علما محيطا والعمل المتناهي عملا تاما. ذلك أن علم الكلام كله مبني على قراءة آل عمران ُ \" 7ق َو الَّذِي َأن َز َل عَلَ ْي َك ا ْل ِك َتابَ مِ ْنهُ آ َياتٌ مُّ ْحكَ َما ٌت ُهنَّ ُأ ّمُ الْكِتَابِ َو ُأخَرُ ُم َتشَابِهَا ٌت ۖ فَ َأ َّما ا َّل ِذينَ ِفي قُ ُلو ِب ِه ْم زَ ْيغٌ فَ َيتَّ ِبعُو َن مَا تَ َشا َب َه ِمنْهُ ابْ ِتغَاءَ الْ ِف ْتنَةِ َوا ْبتِ َغاءَ تَأْوِيلِ ِه ۖ َومَا َيعْلَ ُم تَأْ ِويلَ ُه ِإلَّا ال َلّهُ ۖ وَال َّراسِ ُخونَ ِفي ا ْلعِلْ ِم يَ ُقولُونَ آمَ َّنا بِ ِه كُ ٌّل مِّ ْن ِعندِ رَ ّبِ َنا ۖ وَ َما َي ّذَ ّكَرُ إِ ّلَا ُأولُو ا ْل َأ ْلبَا ِب \" قراءة تعطف قدرة تأويل المتشابه عند من يدعون الرسوخ في العلم على تأويل الله له بدلا من فهمها كما تفيده قواعد العربية ومضمون الآية بكونه الكلام عليهم استئنافي وليس عطفيا في الآية. ومن دون هذه القراءة السقيمة للآية يستحيل أن يتنصل المتكلمون والمفسرون لنص القرآن والفقهاء والمتصوفة من خديعة قيس الغيب على الشاهد خلطا بين الغائب والغيب. ومن هذا الخلط كل التخريف حول الاعجاز العلمي في تفسير نص القرآن المغني عن البحث العلمي والمقتصر على شرح الالفاظ التي تشير آيات خارجها .يمكن قيس الغائب على الشاهد لأن الغائب هم ممكن الشهود .لكن الغيب مستحيل الشهود في عالم الشهادة لأنه ليس كمثله شيء. أبو يعرب المرزوقي 59 الأسماء والبيان
-- ولهذه العلة اعتبرت آيات النص سبابة تشير إلى محل دلالة القرآن ولا تحتوي عليها. وهي تشير إلى المحل وإلى الشرط :بمعنى أنها تطلب من الإنسان أن يقوم بالبحث العلمي في الآفاق بفرعيها الطبيعي لاكتشاف قوانينه والتاريخي لاكتشاف سننه وفي الأنفس بفرعيها العضوي لاكتشاف قوانينه والروحي الاكتشاف سننه حتى يرى بالنظر والعمل وتطبيقاتهما آيات الله التي تبين حقيقة القرآن التي لا توجد في نصه بل في ما تحيل عليه الإشارات إلى عناصر المعادلة التي حاولت صوغها صوغا نسقيا. ولذلك فكل علوم الملة التي اعتمدت على شرح آيات النص على أنها مصدر علم بالقرآن ودليل اعجاز علمي وبوظيفة الرسالة التي يوهمون أنها تتضمن العلم بالغيب -لكأن الله يبعث رسالة فيها ما يؤكد على استحالة علمه فتصبح الرسالة عملا سدى-تحريف لهما لأنها لا تتجاوز نسيج رتيلاء ثرثارة لا تبحث عن قوانين الطبيعة وعن سنن التاريخ من كيان العالم وعن قوانين العضوي وسنن الروحي من كيان الإنسان رغم أن القرآن لا يستدل إلا بما فيها من انتظام خلقا وأمرا. ما أقدمه ليس علم كلام بل هو دحض لإمكانه وإثبات للاستغناء عنه بمجرد تطبيق آل عمران 7لتجنب زيغ القلوب وابتغاء الفتنة اللذين يدل عليهما تأويل المتشابه أي قيس الغيب على الشاهد وتطبيق ما تطلبه فصلت 53من بحث علمي عن حقيقة القرآن في الانظمة الأربعة التي تحيل إلى مبدأ النظام أي الله .وما أنسبه إلى ابن خلدون مثلا من عبقرية هو أنه لم يستخرج علمه من تفسير نصوص القرآن رغم تأييد ما توصل إليها بالإشارات القرآنية بل اعتمد البحث في قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وبالتفاعل بينهما ليكتشف \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\". الآية 53من فصلت لا تقول إن حقيقة القرآن نراها في آيات نصه التي يغلب عليها التشابه بل تقول إن نصه يرينا بإشارات محكمه -ما دام يستثني المتشابه من العلم الإنساني يعتبر تأويله دليل زيغ القلب وابتغاء الفتنة (آل عمران )7أين ينبغي أن نبحث علميا وعمليا عن الحق الذي أ نزل بالحق ونزل به وعن تنزيل إشاراته تنزيلا في الآفاق أبو يعرب المرزوقي 60 الأسماء والبيان
-- ببعديها الطبيعي والتاريخي وفي الانفس ببعديها العضوي والروحي .وذلك بدعوة الإنسان لاستعمال ما جهز به فطريا أعني جهاز النظر والعقد للمعرفة وجهاز العمل والشرع للقيمة جهازيه لتعمير الأرض بالعلم وتطبيقاته التقنية وللاستخلاف فيها بالعمل وتطبيقاته الخلقية. لكن علوم الملة أي \"التفسير والكلام والفلسفة والفقه والتصوف\" التي هي علوم الملة الغائية الخمسة كلها كنت كلاما على كلام من جنس ما نهت عنه آل عمران 7من تأويل المتشابه ظنا أن المقصود من خطاب القرآن للإنسان هو إشارات النص وليس ما تشير إليه خارج النص أعني ما قال الله جل وعلا إنه ما يرينا من آياته فيه وهو ما يجعلنا نتبين أن القران حق :نبحث فيها لفهمه وهي دعوة للبحث العلمي في قوانين الطبيعة والاحياء وفي سنن التاريخ والأرواح. وذلك ما حاوله ابن تيمية في نظرية النظر والعقد وما فعله ابن خلدون في نظرية العمل والشرع .فكانت إبداعاتهما ثورة تجاوزت بأشواط الفلسفة اليونانية القائلة بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة وقلدهما فلاسفتنا كلهم بلا استثناء .لا أحد من ابن تيمية وابن خلدون استخرج القوانين والسنن من شرح الالفاظ بل اكتشف القوانين والسنن من البحث العلمي في الآفاق وفي الانفس ليفهم الألفاظ التي تشير إلى محلها وإلى منهج البحث عنها فيها .وتلك هي علة ثورتيهما اللتين قطعتا مع المطابقتين في النظر والعقد وفي العمل والشرع. ولولا اكتشافي ذلك في عملهما أو على الأقل بذراته الأولى ما اهتممت بهما ولما خصصت لهما أكثر من أربعة عقود من البحث والتمحيص (منذ 1979إلى اليوم) لأفهم علل تمكنهما من تجاوز القول بالمطابقتين في الفلسفة اليونانية وفي الفلسفة الإسلامية وفي علم الكلام اليهودي والمسيحي والإسلامي وكلها تعتمد على القول بالمطابقتين في النظر والعمل .وهذا الاعتماد هو الذي جعل ابن تيمية يعتبر المنطق الأرسطي شرط تطبيقه السفسطة في النظر أبو يعرب المرزوقي 61 الأسماء والبيان
-- لأنه يقتضي جعل عقل الإنسان مقاس كل شيء بالمطابقة المعرفية والزندقة في العمل لأن يقتضي جعل إرادة الإنسان مقياس كل شيء في المطابقة العملية. وفي الحالتين تنفي الغيب وترد الوجود إلى الإدراك بلغة ابن خلدون .والحمقى لا يفهمون هذا الكلام لأنهم يعتبرونه حربا على \"العقلانية\" وتكفيرا .ولا يدرون أن عكسه نفي للعقل وليس للعقلانية فحسب .والان ما معنى التطابق بين بنية كيان الإنسان وبنية كيان العالم وبنية كيان القرآن؟ وهل هذا الكلام يعني أني اعتبر ذلك حقيقي في ذاته- فاناقض نفسي وادعي المطابقة لكأني أعلم الغيب أم اقتصر على اعتبار ذلك هو أولا ما يقوله القرآن وأنه هو ما لا يمكن للإنسان العاقل تجاوزه فيدعي أن علمه محيط لعلمه أن ما يجعل لا متناهي وما يعلمه متناهي بحيث لا أستطيع أن أزعم إن حقائق الأشياء عند الله قابلة للاستنتاج من آيات القرآن أو من آيات الآفاق والأنفس :كل ما اعلمه اجتهاد في حدود الممكن للإنسان (...ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء \"...البقرة .)255 لو ادعيت غير هذا المعنى لكان كل ما قمت به سدى :فما ادعيه هو الممكن للإنسان بمقتضى القرآن أولا ثم بمقتضى ما انتهى إليه العقل لما بلغ الرشد ثانيا وخاصة في النقد الكنطي الذي أساسه بيان الممكن للعقل النظري واشتراط ذلك الحد من قدرته لتأسيس الأخلاق والفلسفة العملية .وما أعنيه ببلوغ العقل الرشد هو وعيه بأن علمه ليس محيطا وعمله ليس تاما .ومن ثم تسليمه بأن ما يعلمه وما يعمله لا يكاد يساوي صفرا بالقياس إلى ما يجهله من الموجود وما يأمله من المنشود .وهذا هو المعنى الذي يعتبره القرآن تبين الرشد من الغي شرطا في الاعتقاد الحر. ذلك هو مبدئي في نظرية المعرفة للنظر والعقد وفي نظرية القيمة للعمل والشرع\" ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء\" عقديا وهو مبدأي فلسفيا لأني فهمت ما وضحه ابن خلدون بصورة لا لبس فيها في علة خطأ الميتافيزيقا والكلام :الوجود لا يرد إلى الإدراك والمنشود لا يرد إلى الإرادة .ودعوى الرسوخ في العلم إذا أطلقت هي الوجه الثاني من أبو يعرب المرزوقي 62 الأسماء والبيان
-- \"حب التأله\" بمعناه الخلدوني وهي المتمم للاستبداد السياسي بالاستبداد المعرفي :وهما سلطان كاذب يدعيه الإنسان الذي لم يتبين الرشد من الغي فيكون عبدا لهواه ولدنياه. والآن أريد أن أشرح ما أشرت إليه بوصفه تعديلا بسيطا على عرض المعادلة الوجودية. فقد نقلت مكوني الإنسان -كيانه العضوي وكيانه الروحي-من وضعه مباشرة تحت المبدا للرمز إلى علاقة الإنسان المباشرة بربه مميزا أساسيا للإسلام عن الأديان التي تقول بالوساطة الروحية وقبل الطبيعة والتاريخ مكوني عالمه على جناحي هذه العلاقة مميزا له عن القائلين بالوصاية السياسية .ولولا ذلك لكانت وساطة الكنسية في التربية ووصاية الحكم بالحق الإلهي موجودتين في سياسة عالم الشهادة في الإسلام كما تقول المسيحية واليهودية. والتشيع بهذا المعنى لا علاقة له بالإسلام .فهو تحريف خالص لبعدي ثورته ومحاكاة بينة للتحريف المسيحي واليهودي للديني وجعله مجرد أداة لاستعباد الإنسان بدل تحريره كما تقتضي ذلك ثورة الإسلام .فالعلاقة المباشرة بين المؤمن وربه روحيا مستغنية عن الوسطاء والعلاقة بين الإنسان وعالمه ماديا مستغنية عن الاوصياء :والاستغناءان هما شرط حريته وكونه لا يعبد غير الله .وكان ذلك غير كاف لبيان دور بعدي الأنفس أي كيان الإنسان العضوي والروحي بالقياس إلى بعدي العالم أي كيانه الطبيعي وكيانه التاريخي رغم أني عوضت ما ينقص في الصوغ السابق للمعادلة بما اعتبرته ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وهما يرمزان إلى بعدي كيان الإنسان في علاقتهما اللامباشرة بالمبدأ .والعرض الحالي أوضح. والمعادلة الوجودية تبقى واحدة رغم هذا التغيير في الصياغة إذ يمكن قراءتها في شكلها الوارد في كلامي عليها كما ورد في كل المحاولات السالفة أو في شكلها الوارد في هذه المحاولة مع تفضيلي هذا العرض الاخير لأنه أوضح ويبين خاصة علاقة كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي بكيان العالم الطبيعي وكيانه التاريخي وتعالي المبدأ .فما وضعته في المركز سابقا هو العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه دون التمييز بين بعدي الإنسان العضوي أبو يعرب المرزوقي 63 الأسماء والبيان
-- والروحي ثم وضعت الطبيعة والتاريخ على جناحي القلب ووضعت وراءهما لكونهما يمثلان علاقة غير مباشرة بين الإنسان وربه وهو دور لا عودة العلاقة المباشرة بتوسط المابعدين. أما تفضيلي لهذا العرض الاخير فعلته خاصة هي قربه إلى ضروب الاستدلال القرآني على وجود الله ووحدانيته وعلى أفعاله التي ظنها الكثير صفات للذات .لكنها ليست كذلك بل هي أسماء لتجليات فعليه الخالق والآمر تجلياتهما التي صارت أسماء يدعى بها من قبل المؤمنين بحسب ما ينتظرونه من الله بمنظور إنساني فيها نوع من أسقاط ما يطلبه الإنسان من ربه عليه :كما يتبين من الآية 110من الاسراء\" قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ۖ أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ۖ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا.\". فتكون :الأفعال التي تقبل الرد إلى جنس فعل الخلق بأنواعه اللامتناهية وإلى مفعوله أي المخلوقات اللامتناهية والافعال التي تقبل الرد إلى جنس فعل الأمر بأنواعه اللامتناهية وإلى مفعلوه أي المأمورات اللامتناهية هي الأساس لهذه المعادلة .ويمكن أن اعتبر الاولى تجليات القضاء والثانية تجليات القدر .وفي كل واحد من الأفعال الخالقة والأفعال الأمرة والمخلوقات والمأمورات يتزاوج الخلق والأمر تزاوج \"أن يكون الشيء\" و \"أن يكون على كيف معين\" :لكأن كينونة الشيء مادة وكيفها الذي تتعين به صورة مع عدم القول بفواصل بينهما. وهذا فيه قلب للرؤية اليونانية مرتين :فأولا المادة ملوقة بالقضاء والصورة مأمورة بالقدر والفعلان متلازمان بمعنى أن \"قرار\" الخلق لا ينفصل عن قرار الأمر إذ كلاهما رمزه كن الذي له هذان الوجهان في المفعول لأن المخلوقية تخص عين المخلوق والمأمورية تخص نظام الاشتراك في حيز المخلوقات أو نظام العالم أي اشتراكه في المكان والزمان لغيره من الخلوقات .والفعل ليس له شريك ولا حيز مكاني ولا زماني .ولا يمكن اعتبار أحدهما قابلا للقيام من دون الثاني كما أنهما لا ينفصلان بزمان بين الخلق والامر إذ يتلازم البعدان في الموجود ملوقتيه ومأموريته: أبو يعرب المرزوقي 64 الأسماء والبيان
-- • ومعنى ذلك أنه لا يمكن تصور خلقا سابقا للأمر أو أمرا سابقا للخلق في المخلوق والمأمور بل هما فعل واحد للخالق والآمر له هذان الأثران اللامتناهين في الموجود • الذي هو بذاته ملوق وبعلاقاته مأمور -نظام الأحياز التي تتعايش فيها المخلوقات- ويرمز إليهما كلمات الله من جنس علاقة تلازم اللفظ والتلفظ. وكل من يحاجج في مسألة حدوث العالم أو قدمه في علاقة بقدم الله وسرمدية أفعاله بجنسي مفعولها وأنواعها اللامتناهية ينسون أمرا أهم وهو مسألة علاقة علمه المحيط واللامتناهي وقدرته التامة واللامتناهية بعلمنا وقدرتنا المتناهية فيريدون فهم لغز العلاقة الأولى دون فهم لغز العلاقة الثانية .ففيهما نحن أمام لغز المتناهي باللامتناهي :فكميا كل متناه طبيعيا لا متناه حقيقيا بالقسمة اللامتناهية .ولنا مثال في ذلك من المقدرات الذهنية النظرية عندما نقارن مجموعة الأعداد الطبيعية المعدودة بمجموعة الاعداد الحقيقية اللامعدودة .وقياسا عليها مجموعة العلوم والقيم والمنتجات الإنسانية المعدودة إذا قارناها بمجموعة العلوم والقيم والمخلوقات الإلهية اللامعدودة .ولذلك فيمكن أن أقسم أفعال الله أو أسماءه بهذا المعنى إلى جنسين يوحد بينهما اسم العلم -الله. لكن اللغز الكيفي ابعد غورا :إنه قفزة وجودية لا ترد إلى العدد الحقيقي الرياضي غير القابل للعد .وهذا هو أصل كل أدلة وجود الله لأنها تعود لعلاقة المحدود الفاني باللامحدود الباقي .فلا يمكن للإنسان أن يقنع بالموجود المحدود بل هو في أفعاله الخمسة -أن أريد وأن أعلم وأن أقدر وأن أحيا وأن أوحد -يتجاوز الموجود المحدود منها إلى المنشود اللامحدود منها .صحيح أننا لا نستطيع الجزم بحدوث العالم وإن اعتقدناه ذا بداية ونهاية .لكننا دون شك نستطيع الجزم بحدوث علمنا بداية وغاية دون تردد لعلمنا اليقيني ببدايتنا ونهايتنا على الأقل من حيث وجودنا الدنيوي .فلا يكون المشكل إذن متعلقا به بل بأصل الفكرة القائلة بوجود علم لا متناه يكون علمنا بالقياس إليه متناهيا. ومثل ذلك أصل فكرة وجود لامتناه يكون وجود العالم بالقياس إليه متناهيا. أبو يعرب المرزوقي 65 الأسماء والبيان
-- فيكون الإشكال في الحالتين ليس أصل تناهي أعالنا الخمسة (أن أريد أن أعلم أن أقدر أن احيا وأن أوجد) ولا أصل تناهي عالمنا الطبيعي والتاريخي بل أصل لا تناهي علم الله وأصل لا تناهي وجوده .فيتبين أن الأمر كله هو أن الإنسان لا يمكن أن يقبل اكتفاء المتناهي بذاته فيستنتج أنه متضايف مع المكتفي بذاته أي اللامتناهي علما ووجودا .وهذه العلاقة بين القدم الخالق والآمر وحدوث المخلوق والمأمور ليست مسألة كمية فنتردد بين حديها إما جعل اللامتناهي متناهيا أو المتناهي لا متناهيا بل هي معنى علاقة الغيب بالشهادة: • والمشكل ليس في العلاقة بل في كون الإنسان لا يستطيع تصور ذاته وعالمه الشاهدين من دون ما وراء غير شاهد .وهذه الاستحالة هي كون الإنسان ذا وعي برزخي بذاته وبعالمه بين المتناهي واللامتناهي. • فيدرك تناهيه وتناهي عالمه ويدرك أنهما لا يكتفيان بذاتهما فينسبهما إلى فعلين خالق وآمر لا متناهيين لذات لا تقاس بالزمان والمكان لأن هذين بعدان من المخلوق والمأمور وليس من فعل الخلق والأمر اللامتناهيين. سيقال لكننا لا نفهم علاقة المتناهي باللامتناهي إلا برد الأول إلى الثاني أو الثاني إلى الأول .وأفهم ألا يفهم الإنسان هذه العلاقة .وكان ذلك يكون محيرا لو كان علم الإنسان محيطا وعمله تاما .لكن الإنسان يعلم أن علمه ليس محيطا وأن عمله ليس تاما .وتلك هي علة استحالة القول بالمطابقتين: • فنحن نعلم استحالة المطابقة في نظرية المعرفة لمحدودية علمنا. • واستحالة المطابقة في نظرية القيمة لمحدودية عملنا. • ويترتب على ذلك الإيمان بالغيب حتى عند الملحد الذي يدعي تعليل الموجود والمنشود بالصدفة. • لأنه يؤمن بها ولا يستطيع تفسيرها بغيرها باعتبارها لغزا غيبيا يفسر ما ليس بلغز شاهدا. أبو يعرب المرزوقي 66 الأسماء والبيان
-- • فالمعادلة الوجودية تشمل كل الكائنات وهي معادلة القرآن ولا علاقة لها بالفروق العقدية بينهم. أبو يعرب المرزوقي 67 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 68 الأسماء والبيان
Search