Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore نسق القرآن محاولة تعد لـأكسمته بقدر الإمكان أبو يعرب المرزوقي

نسق القرآن محاولة تعد لـأكسمته بقدر الإمكان أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-11-21 06:46:09

Description: نسق القرآن محاولة تعد لـأكسمته بقدر الإمكان أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫محاولة تعد لـ\"أكسمته\" بقدر‬ ‫الإمكان‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪13 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪27 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪38 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪51 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫لما عزمت على البحث في شروط بناء القرآن‪ ،‬بناء نسقيا يجعله وكأنه ذو بنية أكسيومية‬ ‫للديني من حيث هو ديني (كما هي حقيقة الإسلام باعتباره نظام الفطرة بداية‪،‬‬ ‫واستراتيجية تحقيقها غاية) وظيفته تحديد سياسة عالم الشهادة في ضوء عالم الغيب مثالا‬ ‫أعلى يعبر عنه بلغة عالم الشهادة مع حرز أن لا شيء منه يماثله‪ ،‬اكتشفت الخيط الهادي‪،‬‬ ‫أي المبدأ الذي يم ّكن من استنتاج القرآن كله منه‪.‬‬ ‫وقد تصورت \"فرضية عمل\"‪ ،‬توضع تحت الامتحان الفعلي‪ ،‬أن أساس ذلك ينبغي أن يكون‬ ‫الحد الأدنى من الآيات‪ ،‬أي آيتين على الأكثر تؤديان هذه الوظيفة بحيث أننا لو افترضنا‬ ‫أنه لم يبق غيرهما من القرآن (مع افتراض أنه يمكن ألا يحفظ كله كما وعد الله) لأمكن‬ ‫لي أن اعيد بناء معاني القرآن كلها استنتاجا من ذلك الحد الأدنى من آياته‪ .‬وما فاجأني‬ ‫أني اكتشفت أن معنى هذا الحد الأدنى يصدق على أي زوجين من الآيات إذا اخذناهما‬ ‫مترابطتين منطقيا‪ ،‬لأن سر ترابطهما هو هذه الخاصية طالتا أو قصرتا‪.‬‬ ‫فانتقلت من مشكل طلب الزوجين بما اشترطته‪ ،‬إلى اختيارهما من بين كل أزواج آيات‬ ‫القرآن المتصفة بهذا الترابط بعد أن تأكدت أنها كلها تتصف بهذا الشرط‪ .‬ولولا ذلك‪،‬‬ ‫لاستحال أن ينجم القرآن أو لصار التنجيم غير خاضع لنظام يعلل ترتيبه خلال تعليمه‬ ‫وخلال تنفيذ معانيه في التاريخ باستراتيجية ناجعة كما حدث فعلا خلال العقدين ونيف‬ ‫من البلاغ النبوي‪ ،‬بحيث تتوالى الآيات في التنجيم توالي مراحل الخطة التي هي‬ ‫استراتيجية سياسة عالم الشهادة بمثال عالم الغيب‪.‬‬ ‫بعبارة أوضح‪ :‬كيف يمكن للإنسان أن يسوس عالم الشهادة‪ ،‬محاولا الاعتماد على مثال‬ ‫أعلى هو سياسة الله لعالم الغيب الذي يحكم عالم الشهادة‪ ،‬ليس مماثلة مطابقة بل مماثلة‬ ‫المشرئب للمثال الأعلى‪ ،‬مع العلم باستحالة المطابقة معه‪ ،‬ومع العلم أن المطلوب ليس‬ ‫الوصول إليها‪ ،‬وهو مستحيل‪ ،‬بل الاشرئباب أو الجاذبية التي تحرر من الإخلاد إلى الأرض‬ ‫بقصد السمو؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالإنسان لا يعير بنتيجة فعله وحدها‪ ،‬بل خاصة بصدق مسعاه إليها من حيث هو اجتهاد‬ ‫نظري وجهاد عملي (وهو معنى الاستثناء من الخسر في سورة العصر)‪ .‬وحينئذ س ُهل امر‬ ‫الاختيار بين المتماثلات في ذاتها والمختلفات‪ ،‬سهلا قدرتي على بيان تلك الخاصية فيها‬ ‫لغيري‪ .‬فكون لكل أزواج آيات القرآن المترابطة حدا أدنى للترابط المعنوي‪ ،‬لا يعني أن‬ ‫بيانها فيها لغيري‪ ،‬له نفس المصاعب في شرحه لغيري حتى وإن بدا ليس شبها بينا بذاته‪.‬‬ ‫فكان أن اخترت آيتين متكاملتين وجعلتهما شعار التفسير لأنهما بدوا لي أكثر يسرا وليونة‬ ‫في هذه الوظيفة العامة في كل الأزواج القرآني‪ .‬وأهم ما يسعدني في هذا الاكتشاف ما‬ ‫يضيفه لاكتشاف سابق استعملته في محاضرة لي حول الحكم والسياق في الفقه وهو‪ :‬أن كل‬ ‫حكم في القرآن يحدد القرآن طبيعته بزوجين من صفات أفعال الله متكاملين يحددان طبيعته‬ ‫مثل‪{ :‬وَ َكا َن اللهُ َع ِليمًا َح ِكيمًا}‪ ،‬فعليم وحكيم ليسا صفتين لله مباشرة‪ ،‬بل لفعله المحدد‬ ‫لطبيعة الحكم‪ .‬وفي هذه الحالة‪ ،‬أمثل لخاصية أزواج الآيات بآيتين من الإسراء‪َ {\":‬وبِا ْلحَ ِّق‬ ‫أَ ْنزَلْنا ُه َوبِالْحَ ِّق نَزَلَ وَما أَ ْر َس ْلناكَ ِإلاَّ ُم َبشِّرًا وَ َنذِي ًرا (‪َ )105‬وقُرْآنًا َف َر ْقنا ُه لِتَ ْقرَأَ ُه عَلَى‬ ‫ال َّنا ِس عَلى مُ ْك ٍث وَنَ َّزلْناهُ تَنْزِيلًا (‪ ،})106‬فهما يمثلان الزوجين الأيسر على المتأمل لإثبات‬ ‫الفرضية‪ ،‬اي وجود كل القرآن فيهما مثل { َو َكا َن اللهُ عَ ِلي ًما َح ِكيمًا} في وصف حكم الله في‬ ‫نظام الفرائض (الآية ‪ 11‬من النساء)‪.‬‬ ‫لكن الاستنتاج لن يكون من الآيتين مباشرة‪ ،‬بل من مبدا ثان وهو تعريف القرآن نفسه‬ ‫بكونه \"رسالة تذكير\" للمكلفين بأمر حاصل‪ ،‬لكن الإنسان ينساه بسبب اخلاده إلى الأرض‬ ‫اخلادا يفسد عمل جهازه الإدراكي‪ :‬ويرمز إلى تأثير مبدأ تدخل الشيطان لإثبات عدم‬ ‫أهلية آدم للاستخلاف‪ .‬فالمعنى الوسيط بين الفرضية واثباتها‪ ،‬يمكن اعتباره فرضية فرعية‬ ‫وهي الاعتماد على تعريف القرآن لذاته من حيث هو رسالة أي‪ :‬معنى التذكير ومعنى‬ ‫النسيان اللذان ُيرجعان وظيفة الرسالة إلى إيقاظ الفطرة وليس الإتيان بعلم ليس بعد‬ ‫حاصلا فيها‪ .‬لكأن في الأمر شبها بنظرية سقراط في المعرفة والتذكر‪ .‬ولما كان مفهوم الرسالة‬ ‫يعني أنها مؤلفة من بنية ممسة العناصر‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬المرسل (الله)‬ ‫‪ .2‬والمرسل إليه (الإنسان وغيره من الموجودات حتى وإن لم تكن حاملة للأمانة لأنها لم‬ ‫تقبل تحملها مثله)‬ ‫‪ .3‬والرسول المبلغ للرسالة‬ ‫‪ .4‬ومنهج التبليغ في وظيفتي التربية والحكم أي سياسة الإنسانية‬ ‫‪ .5‬ومضمون الرسالة وهو كل العناصر الخمسة من حيث هي تذكير بشروط الاستعمار في‬ ‫الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫وبهذين الفرضيتين‪ ،‬الأصلية والفرعية‪ ،‬سنستنتج مضمون القرآن ومعانيه بكل ما فيه‪.‬‬ ‫واطلب من القارئ الكريم ألا ينسى أننا فرضنا جدلا ‪ -‬لأننا نؤمن بان الله حافظه ‪ -‬أن‬ ‫القرآن قد فُ ِقدَ لسبب من الأسباب ولم يبق منه الا الآيتان اللتان وجدناهما بالصدفة‪،‬‬ ‫ونريد استنتاج ما افترضناه قد ضاع من نصه‪ ،‬ومن ثم من معانيه لنستعيدها بالاستنتاج‬ ‫كمن يعيد بناء إحدى الإحاثيات العضوية في طبقات الارض العميقة التي تعود إلى ملايين‬ ‫السنين ولم يجد إلا بعضها‪.‬‬ ‫فلكأن فرضيتي تعامل القرآن في هذه الفرضية الجدلية وكأنه كائن إحاثي وجدنا بعض‬ ‫عناصره بالصدفة‪ ،‬وهنا عنصرين فحسب‪ ،‬ومنها سنستنتج كل الكيان بعملية تنسيقية‬ ‫تفترض أن البعض فيه علامات دالة على الكل الذي نكتشفه بصورة جامعة مانعة‪ ،‬أي لا‬ ‫تغفل عن أي شيء منه ولا تضيف إليه أي شيء ليس منه بفضل النسق‪ .‬فالبحث في‬ ‫الإحاثيات يعتمد مثل هذه الفرضية لأنه من البعض يستنتج الكل الذي له في البعض‬ ‫علامات نسقه المحدد لعناصره المقومة‪.‬‬ ‫*وحتى لا يتهمني أحد بأني أفترض المستحيل لأنه يعارض وعد الله بحفظ القرآن‪،‬‬ ‫فينبغي أن أضيف أن الله وعد في القرآن بحفظه لكنه لم يقل إن ذلك الحفظ هو بالضرورة‬ ‫في عالم الشهادة‪ .‬فلعل الحفظ مقصور على عالم الغيب‪ .‬والدليل أن الكتب السماوية‬ ‫السابقة يشملها الحفظ لأنها من نفس المشكاة لكنها حرفت إما بالزيادة أو بالنقصان‪ .‬ولم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يحاول أحد وضع هذه الفرضية لاستعادة الأصل إلا القرآن في كلامه عنها بمعيار التصديق‬ ‫والهيمنة‪ .‬ومعنى ذلك أن فرضيتي لها أصل في معيار التصديق والهيمنة القرآني‪ .‬لكن‬ ‫هذا المعيار أساسه ُمسَ َّلمَة هي أن ما ليس فيها موافقا للقرآن تحريف‪ ،‬وإذن فالقرآن ينطلق‬ ‫من نسقه لإصلاح الرسالات السابقة عقديا ولا يتطرق لإصلاحها شرعيا لاعتباره الشرائع‬ ‫متعددة (المائدة ‪ ،)48‬لكني أرجح أن الحفظ يتعلق أيضا بعالم الشهادة وذلك لعلتين‪:‬‬ ‫لأن القرآن هو الرسالة الفاتحة والخاتمة مثل موضوعها‪:‬‬ ‫الذي هو التذكير بالفطرة الإنسانية ومن علاماتها شهادة الميثاق‪.‬‬ ‫ومن ثم فهو باق ما بقي الإنسان في عالم الشهادة‪.‬‬ ‫ولأنه طبعا باق في عالم الغيب‪.‬‬ ‫لأنه نسخة من اللوح المحفوظ في اعتقادنا نحن المسلمين‪.‬‬ ‫فهو إذن باق في عالم الشهادة لأنه عين ما يذكر به الإنسان وما يذكر به الإنسان مرتسم‬ ‫في كيانه العضوي والروحي وهو قابل للتلخيص في آيتي الميثاق أو شهادة المأخوذين من ظهور‬ ‫آبائهم‪ .‬وكان يمكن أن اختارهما بديلا عن آيتي الإسراء اللتين جعلتهما شعار التفسير‬ ‫الفلسفي‪ ،‬أي البحث في بنيته النسقية‪ .‬لكني فضلت هذين ليُسر الاثبات لتوضيح الفرضية‬ ‫للقارئ‪.‬‬ ‫هي إذن عملية فلسفية خالصة‪ ،‬أو بصورة أدق منطقية خالصة رغم أن لها أصلا في معيار‬ ‫التصديق والهيمنة‪ ،‬لكني لا أدعيه لأن الله مطلع عما حُ ِّرف وهو ليس في مستطاعي‪ .‬ولهذا‬ ‫شبهت العملية بطريقة البحث في الإحاثيات الحية التي دفنت منذ ملايين السنين تحت‬ ‫الارض والتي تعتمد على نسقية النظام الذاتي للكيانات العضوية وحتى نظام المبدعات‬ ‫الحضارية من التراث الإنساني في الحفريات التي تدرس التراث‪.‬فنحن نكتشف بعض‬ ‫عناصرها بالصدفة في الدراسات الجيولوجية لطبقات الأرض ومنها نستنتج كل عناصرها‬ ‫بمنطق النظام الذي يقتضي الباقي المفقود من طبيعة علاقاته بالبعض الموجود جمعا ومنعا‪.‬‬ ‫هي إذن عملية شديدة التعقيد وهي في هذه الحالة غير مسبوقة في التفاسير المعلومة إلى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حد الآن‪ ،‬إذ حتى نظرية القرآن يفسر ذاته أي بعضه ببعضه فهي استقراء من الموجود‬ ‫وليست استنتاجا لما يفترض مفقودا ويراد استعادته‪.‬‬ ‫فاستقراء وحدة الكل من الموجود أيسر‪ ،‬لكنه ليس أصلا لاستنتاج‪ ،‬بل نتيجة لاستقراء‪.‬‬ ‫وما هو نتيجة للاستقراء لو أردنا التثبت من كونه تاما (والاستقراء لا يكون تاما أبدا)‬ ‫فإنه سيعود لفرضيتنا‪ .‬إذ أنه لا شيء يثبت تمامه إلا إذا بيّنا أنه كاف لاستنتاج الباقي لو‬ ‫فرضناه مفقودا بافتراض التمام في نسق العناصر المكونة للشيء‪ .‬وذلك هو معنى الاصل في‬ ‫أي نسق عقلي وهو هدف المحاولة‪ .‬والمعلوم أن القرآن يستدل بنظام العالم الذي هو نظامه‬ ‫نظام الطبيعة ونظام التاريخ ونظام كيان الإنسان البدني ونظام كيانه الروحي‪ .‬وإذن‬ ‫فهو نسخة من هذه الأنظمة التي تمثل نسيج استدلاله الديني‪ .‬ومعنى ذلك أن نظام‬ ‫القرآن هو نظام العالم الطبيعي والتاريخي ونظام الإنسان العضوي والروحي في آن‪ .‬وهو‬ ‫جوهر الدين بالمعنى الذي تحدده فصلت ‪ 53‬التي تبين حقيقة القرآن والتي هي عين ما‬ ‫نراه في آيات الله التي تتجلى في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الانفس (كيان الإنسان‬ ‫العضوي وكيانه الروحي)‪ .‬ومنها يتبين أن التذكير بالفطرة يعود إلى التذكير بمهمتي‬ ‫الإنسان وبجهازيه لإنجازها وبتسخير العالم الذي يستمد منه الإنسان شروط قيامه في عالم‬ ‫الشهادة‪ .‬ولهذا سميت التفسير الذي شرعت فيه خلال مقامي في كوالالمبور بين ‪2002‬‬ ‫و‪ 2005‬فعنونته بـ هذا العنوان‪ :‬الجلي في التفسير‪\" :‬استراتيجية القرآن التوحيدية‬ ‫(للإنسانية) ومنطق السياسة المحمدية\"‪ .‬وهو ما يعني أن السنة هي منطق السياسة‬ ‫المحمدية من حيث هي سياسة التربية لتكوين الإنسان وسياسة الحكم لقوامة الرعاية‬ ‫والحماية‪ .‬وبذلك قطعت دابر النزعة القرآنية الدالة على الحمق لأن أصحابها يدعون‬ ‫أن القرآن مغن عن السنة التي هي عينة منه حققها الرسول‪.‬‬ ‫وما حققته السياسة المحمدية بهذا المعنى هو عينة من استراتيجية تحقيق الوحدة‬ ‫الإنسانية‪ .‬ولذلك فالإسلام حام لكل الأديان بوصفها أمرا واقعا متعددا من أمر واجب‬ ‫واحد هو الدين عند الله أول الإسلام من حيث هو الفطرة الدينية الكونية (البقرة ‪62‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والمائدة ‪ 69‬والحج ‪ ،)17‬وصحابة الرسول ممثلون لكل الأعراق التي كانت ممثلة للإنسانية‬ ‫في عصر نزول القرآن أي العرب والعجم بكل كل أصنافهم المعلومين في ذلك العصر عينة من‬ ‫الكل‪.‬‬ ‫والجامع بين عناصر هذه العينة حددته النساء ‪ 1‬من حيث الاعتماد على وحدة الإنسانية‬ ‫(مبدأ الأخوة البشرية‪ :‬كلهم من نفس واحدة ولهم رب واحد حتى لو تعدد اعتقادها في‬ ‫آلهة متلفة) وحددته الحجرات ‪ 13‬من حيث المساواة بينهم قانونيا وحصر المفاضلة في‬ ‫الأخلاق (التنوع العرقي والطبقي والجنس ليس أساسا للمفاضلة وتعددهم يقتضي التعارف‬ ‫معرفة ومعروفا) ولا تفاضل بين الأعراق لأن التفاضل الوحيد الذي يعترف به القرآن‬ ‫يكون التقوى عند الله‪.‬‬ ‫كيف سنستنتج من هاتين الآيتين القرآن الكريم كله‪ ،‬بوصفه رسالة خاتمة‪ ،‬بعد أن‬ ‫وصلناهما بوسيط هو مفهوم الرسالة التي تتحدد‪ :‬بمرسل ومرسل إليه ورسول وطريقة تبليغ‬ ‫الرسالة ومضمون الرسالة من حيث هي تذكير لأمر منسي وليست تعليما لأمر مجهول عند‬ ‫المرسل إليه‪ ،‬وكل ذلك ورد في الآيتين كما سنرى؟‬ ‫وتلك هي الإشكالية التي نريد بيان إمكانها بالاعتماد على أي زوجين من آيات القرآن‬ ‫بقيا منه إذا افترضنا أنه لم يبق غيرهما من القرآن‪.‬‬ ‫بصورة أوضح‪ ،‬فبأي ترتيب سنتبعه في عملية الاسترداد خلال كلامنا على هذه العناصر‬ ‫الخمسة التي يفيدها مفهوم الرسالة‪ :‬المرسل والمرسل إليه والرسول ومنهج تبليغ الرسول‬ ‫لمضمون الرسالة ومضمون الرسالة؟ هنا أيضا لا نحتاج إلا للمنطق‪ :‬فحتى في المراسلات‬ ‫الإنسانية أول ما نفكر فيه هو من أوصل الينا الرسالة وهو في ذكرنا للعناصر الخمسة قلبها‪،‬‬ ‫أي الثالث‪ ،‬أعني الرسول‪ .‬ونرتب بقية العناصر على جناحي القلب‪ :‬اثنين قبله‪ ،‬واثنين‬ ‫بعده‪.‬‬ ‫فقبل الرسول عنصران‪ ،‬وبعده عنصران‪ .‬وهما بالتناظر بين ما قبله وما بعده‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أول تناظر هو بين المرسل إليه وأسلوب التبليغ لأن هذا الأسلوب ينبغي أن يكون في‬ ‫علاقة بشروط التلقي الكونية عند المرسل إليه‪.‬‬ ‫تناظر ثان بين المرسل والرسالة إذ لا يمكن أن تكون الرسالة غير ما ينتظر من الخالق‬ ‫والآمر أعني حتما استراتيجية الأمر بالخير واستراتيجية النهي عن الشر‬ ‫تناظر داخلي في كلا الجناحين‪ :‬ففي ما قبل الرسول تناظر بين المرسل والمرسل إليه‬ ‫لأن الرسول ليس وسيطا يبين المرسل والمرسل إليه يتجاوز تبليغ الرسالة‪ ،‬وفي ما بعد الرسول‬ ‫تناظر بين منهج التبليغ ومضمون البلاغ‪.‬‬ ‫تناظر شامل بين الجناحين‪ :‬وهو التناظر بين عنصري الآفاق أو العالم (الطبيعة‬ ‫والتاريخ) وعنصري الأنفس أو الذات الإنسانية (الكيان العضوي والكيان‬ ‫الروحي)‪.‬ولعل أهم مميز قرآني في الرسالة هو نفي الوساطة الروحية بين الإنسان وربه‬ ‫في شؤونه الروحية‪ ،‬والوصاية المادية بين الإنسان وعالمه في شؤونه الدنيوية‪ .‬وذلك أنه‬ ‫يفسر التحريف بدور الوساطة والوصاية وجعل الدين والسياسي وكأنهما فرض كفاية‪ ،‬في‬ ‫حين أنهما فرض عين‪ .‬لذلك فالعنصران الواردان بعد الرسول في ترتيب العناصر‪ ،‬أي بين‬ ‫منهج التبليغ‪ ،‬ليس وساطة تلغي العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه‪ ،‬بل هي توقظها كما‬ ‫يحددها مضمون الرسالة الذي ليس للرسول دخل فيه‪ ،‬لأنه هو نفسه أحد المرسلين إليهم‪.‬‬ ‫فهو لا يتميز عن غيره من المخاطبين بالقرآن إلا بحيازته على شرطي الأمانة في التبليغ‪،‬‬ ‫أي البصيرة الفاهمة والصدق في الإنباء بما يتلقاه‪ :‬ولذلك‪ ،‬فأخلاقه هي أخلاق القرآن‬ ‫وهي من موضوعات الكلام في الرسول‪ .‬وهذا التناظر في الجناح الثاني بين أسلوب التبليغ‬ ‫والمضمون المبلغ‪ ،‬يتعلق ببصيرة الرسول وبأمانته وصدقه وبالتأكد من أن المضمون المبلغ جاء‬ ‫مطلق المطابقة مع الرسالة كما تلقاها من المرسل ولم يطرأ عليها تحريف أو تغيير خلال‬ ‫عملية إيصالها للمرسل إليهم بجوهر السياسة بما هي تربية وحكما‪ :‬وتلك هي عصمة الرسل‬ ‫ولا تنفي كون ما يتجاوز الرسالة هو اجتهاد وجهاد وليس هو فيه معصوما لأنه شرط ذلك‬ ‫العلم المحيط وعلم الغيب المنفيين عن غير الله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نأخذ الآيتين ونبدأ بالعنصر الثالث الذي هو قلب العناصر الخمسة أي بالرسول‪ .‬فالآيتان‬ ‫تحددان وظائفه تحديدا حصريا وصفا للغاية من اختياره بأربعة مفهومات يوحد بينها جوهر‬ ‫دوره الذي لا يكتفي بإيصال الرسالة بل بالعمل على تحقيقها (تنزيلها) بما هو جوهر‬ ‫السياسة‪ ،‬أعني بنموذج التربية وبنموذج الحكم‪ ،‬وأسلوبهما هو أسلوب الحكمة والموعظة‬ ‫الحسنة‪ ،‬لذلك فهو لا يكون إلا مبشرا ونذيرا‪ .‬وسياسة التربية مقدمة على سياسة الحكم‪.‬‬ ‫ويمكن اعتبار المرحلة المدنية هي سياسة التربية‪ ،‬والمرحلة المكية هي سياسة الحكم‪ ،‬وطبعا‬ ‫فالأولى تتواصل مع الثانية ولا تكتفي بالإعداد إليها‪.‬‬ ‫فالآية الثانية (‪ )106‬تحدد وظيفة الرسول (نموذج المربي والحاكم لتنزيل مضمون‬ ‫الرسالة على نوازل عينية تعد أمثلة من تنزيل معنى المثال الأعلى) واسلوبه (البشير‬ ‫والنذير) وأداته (قراءة الرسالة على مكث)‪ .‬وتلك هي علة اختياره من بين البشر أو علة‬ ‫اصطفائه لما حاز عليه من شروط أداء أفضل شروط البلاغ ليس التصوري فحسب بل الفعلي‬ ‫كذلك‪ .‬وبذلك‪ ،‬فصفات الرسول كفاءة فنية وجدارة خلقية قابلة كلها للاستخراج من هذه‬ ‫الآية حتى لو فقدت كل آيات القرآن الأخرى‪ .‬فـ \"وما‪ ...‬إلا\" في حصر الإرسال في \"بشيرا‬ ‫ونذيرا\" تعني الجمع والمنع‪ .‬وإذن فما حددته الآية لوصف وظيفة الرسول وأسلوبه‬ ‫وأدواته في تحقيق ما طلب منه لسياسة عالم الشهادة سياسة بالقرآن تكون عينة من مضمونها‬ ‫في التاريخ الفعلي كاف ومغن عما سواه حتى لو افترضنا أن حربا أو جائحة كونية انهت‬ ‫وجود المسلمين وآثارهم ولم يبق إلا هاتين الآيتين المتزاوجتين من آيات القرآن كلها‪ .‬وكل‬ ‫العناصر الخمسة قابلة للاستنتاج من هاتين الآيتين ومن كل زوجين من الآيات لهما صفة‬ ‫الترابط الحائز على معنى تام مكتف بذاته كما سنرى أنها ما يمكن استنتاج القرآن كله منه‬ ‫والعلة في الزوجية والاكتفاء بالذات هو أنه لا يمكن تصور الواحد المكتفي بذاته متوفرا‬ ‫لغير الله‪ .‬وكل ما عداه لا بد فيه من الزوجية التي هي شرط التخمسي البنيوي لكل معنى‬ ‫مكتف بذاته‪ :‬فلا بد من الزوجين ومن تفاعلهما في الاتجاهين أي من أول إلى ثان ثم من‬ ‫الثاني إلى الأول‪ ،‬ونظام بنية هذه العناصر الأربعة وذلك هو المخمس البنيوي المكتفي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بذاته‪ .‬والأهم من ذلك كله ‪ -‬عند افتراض انقراض المسلمين وزوال تراثهم ‪ -‬هو أن هذا‬ ‫الاستنتاج قابل للامتحان بالرجوع إلى القرآن للتأكد من صحته‪ .‬فيكون الاحتكام إلى نص‬ ‫القرآن في ما يخص الرسول ودوره كانه احتكام إلى التجربة في النظريات العلمية‪ .‬إذ لما‬ ‫نفحص كل القرآن‪ ،‬إذا أمكن لاحقا اكتشاف نسخة في مكان ما بعد البحث المستوفي‪ ،‬فلن نجد‬ ‫إلا ما توصلنا إليه بعملية الاستنتاج المنطقي المعتمد على فرضيتنا‪ .‬وهذا هو القصد‬ ‫بالتفسير الفلسفي للقرآن الكريم‪ :‬اكتشاف عدد قليل من المبادئ كافية لاستنتاج كل ما في‬ ‫القرآن بصورة نسقية تغني عن تضارب الآراء حول تأويل القرآن وكأنه فوضى وليس‬ ‫مدونة ذات نسقية قابلة لأن تقودنا في قراءته مثلما تقودنا النظرية العلمية للخروج من‬ ‫ظاهر الفوضى في الطبيعة‪ .‬وكل من عاد بهذا المعنى إلى القرآن لامتحان فرضيتنا يكتشف‬ ‫أن الإحالة على الرسول الخاتم باسمه العلم لا تتجاوز خمس آيات‪:‬‬ ‫اربعة منها باسم محمد‬ ‫والخامسة باسم أحمد وكل ما عداها من الإحالات بالوصف وهي موجودة في كل سور‬ ‫القرآن تقبل الرد إليها تؤكد صحة ما استنتجناه من الآية ‪ 106‬من الاسراء‪ .‬وقد أطنبت‬ ‫في شرح ذلك في ما صدر من التفسير الفلسفي‪ ،‬وجله لم يصدر بعد وهو متواصل ومنه هذه‬ ‫المحاولات‪ .‬وقد بينت ذلك فيه وبها حددت فلسفة السياسة في تكوين العينة المحمدية من‬ ‫استراتيجية القرآن التوحيدية للإنسانية وطبيعة المعارك التي خاضها الرسول الخاتم‬ ‫بوصفة مربيا وحاكما لهذه العينة من توحيد الإنسانية بمنطق النساء ‪( 1‬الاخوة البشرية)‬ ‫والحجرات ‪(13‬التعارف معرفة ومعروفا)‪ .‬وبذلك فالقرآن يختلف عن جميع الكتب الدينية‬ ‫لأنه يجمع بين نوع التصنيف الديني ونوع التصنيف الفلسفي إذ هو بالأول يخاطب الوجدان‬ ‫وبالثاني يخاطب الفرقان‪ .‬وتلك هي علة ماطبة لكل إنسان‪ .‬وإذن فالآية ‪ 106‬في علاقتها‬ ‫بالآية‪ 105‬قابلة لأن تكون مصدرا نستنتج منه كل ما ورد في بقية القرآن من كلام على دور‬ ‫الرسول وأسلوبه وأدواته حتى وإن كانت محاكاة ابداع القرآن مستحيلة إنسانيا لكن الامر‬ ‫لا يتعلق بالإبداع القرآني بل بمضمون الرسالة وما تطلبه من المرسل إليه‪ .‬فما نعنيه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالاستنتاج يقتصر على ذلك‪ .‬ولا يعني أننا نعتبر هذا الاستنتاج مغنيا عن نص القرآن بل‬ ‫معناه أنه طريقة في إثبات استحالة تحريف القرآن إلا إذا بدل كله‪ .‬وتلك هي علة ما يزعم‬ ‫من أن ما في المصحف العثماني غير القرآن الذي ينسب إلى غيره إما إلى علي أو إلى فاطمة‬ ‫عند غلاة الباطنية‪ .‬أما المعارك التي خاضها الرسول فيمكن استنتاجها من معنى {وَنَ َزل َنا ُه‬ ‫َت ْن ِزيلاً} بأسلوب التنجيم الذي حصل في إنزال القرآن بالحق ونزوله بالحق ما يعني أن‬ ‫أسلوب التنجيم كان الهدف منه القراءة الماكثة تربية لتكوين الإنسان بإيقاظ ما نسيه‬ ‫وحكما بقوامة شروط قيام الإنسان تعميرا واستخلافا‪ .‬وهما عين السنة أو السياسة‬ ‫المحمدية والتي شيبته سورة هود وأخواتها كما شرحتها‪ .‬وبذلك يتبين القصد من عنوان‬ ‫التفسير الفلسفي‪ :‬استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية‪.‬‬ ‫والمعارك التي صاحبت القراءة على مكث والتنزيل على النوازل التي تمثل لتعين الممكن‬ ‫من المثل هي المعارك التي أحصتها سورة نوح التي قال فيها الرسول إنها قد شيبته مع‬ ‫أخواتها‪:‬‬ ‫معركة نوح أو معركة التحرر بالتقنية والزراعة من هيمنة الطبيعة على الإنسان‪.‬‬ ‫معركة هود أو التحرر من المستبدين بالثروة وهي تابعة لعلاقة الإنسان بالطبيعة‪.‬‬ ‫ومعركة صالح أو مشكل توزيع الماء أصل الحياة الأول‪ :‬وهي تابعة لعلاقة الإنسان‬ ‫بالطبيعة‪.‬‬ ‫معركة لوط أو مشكل الجنس أصل الحياة الثاني‪ :‬وهي تابعة لعلاقة الإنسان بالسياسة‬ ‫من حيث هي تربية‪.‬‬ ‫معركة شعيب أو مشكل معايير التبادل العادل‪ :‬وهي تابعة لعلاقة الإنسان بالسياسة‬ ‫من حيث هي حكم‪.‬‬ ‫معركة موسى أو التحرر من الاستبداد بالقانون والمشاركة فرض عين للتحرر من هيمنة‬ ‫الحكام المستبدين ورمزهم فرعون‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫معركة إبراهيم وقد نزلتها هود بين المعارك الثلاث الأولى والثلاث الأخيرة أي‬ ‫معركة ابراهيم‪ :‬التوحيد‪.‬‬ ‫ومجموعها معارك محمد‪ .‬وما شيب رأس الرسول ليس فهم هود وأخواتها الأربع (الواقعة‬ ‫والمرسلات والنبأ والتكوير) فحسب بل هذه المعارك والمهام التي كلف بإنجازها وهي هذه‬ ‫التي ذكرت في هود أعني مهام رسالات نوح و هود وصالح ولوط وشعيب وموسى وخاصة مهمة‬ ‫رسالة ابراهيم قمتها وساس المهام وعلاجها بتجاوز الطبيعة والتاريخ‪ .‬فهذه المهمة مشروطة‬ ‫فيها جميعا لأنه من دونها يمكن للإنسان أن يعبد الطبيعة أو الثروة أو مصدر الحياة الأول‬ ‫أو مصدرها الثاني فيصبح مطففا ومستبدا أو عبدا بدلا من أن يكون كما عرفه ابن خلدون‬ ‫\"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو تعريف مستوحى من القرآن‪.‬‬ ‫فالمعارك الثلاث الأولى تتعلق بالحيز الطبيعي وثمرته (الطبيعة والثروة) وأصل الحياة‬ ‫(الماء)‪ ،‬والمعارك الثلاث الثانية تتعلق بالحيز التاريخي وثمرته (التاريخ والتراث) واصل‬ ‫الحياة (الجنس)‪ .‬والبداية تحرر من المعارك الثلاث الاولى والنهاية تحرر من المعارك‬ ‫الثلاث الثانية‪ .‬والتحرر شرطه عبادة الواحد الذي هو فوقها جميعا خلقا وامرا‪ .‬ومن ثم‬ ‫فالتوحيد بمعنى عبادة رب واحد هو شرط توحيد الإنسانية حول القيم الكونية التي هي‬ ‫مضمون القرآن الكريم الكوني الذي هو تدارك يصلح التحريف ويقدم بديل النهاية الذي‬ ‫هو بديل البداية للوصل بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪ .‬فيكون الرسول الخاتم قد فهم‬ ‫من هود أنها تطالبه ليس بتبليغ الرسالة والاكتفاء بالإنباء بل هي تطلعه على المعارك التي‬ ‫عليه خوضها لتحقيق ما لم يتحقق من الرسالات السبع الواردة في سورة هود‪ :‬تحرير‬ ‫الإنسانية من سلطان الطبيعة وسلطان أصحاب الثروة وسلطان المسيطرين على الماء بداية‬ ‫وتحريرها من سلطان الدولة المستبدة (الفرعونية)وسلطان المسيطرين على شروط التبادل‬ ‫العادل‪ .‬لكن التحريرين مستحيلان من دون الوصول إلى قناعة تحرر من كل هذه‬ ‫الطواغيت بعبادة رب العباد بدل العباد فلا معبود غير الله‪ :‬وذلك هو معنى الوحدانية‪.‬‬ ‫وإذن فالقرآن يشمل الإنسانية كلها من حيث علاقتها بالمكان كله أي بعلاقته بأحياز وجوده‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بصنفيها‪ ،‬أي التي هي محيطه والتي هي كيانه‪ ،‬أي كل المكان جغرافيا وكل الزمان تاريخيا‬ ‫من حيث دور الإنسان فيهما معمرا للعالم (كل الثروة) ومستخلفا فيه (كل التراث)‪.‬‬ ‫ويوحد بينها أربعتها المرجعية التي هي علاقة فلسفة الديني بفلسفة التاريخي في محيطه‬ ‫وعلاقة فلسفة العضوي بفلسفة الروحي في كيان الإنسان‪ .‬وهذا كله قابل للاستنتاج من‬ ‫الآيتين لأن الإنزال والنزول والتنزيل فعلا وفعلا مطلقا متعلق بالحق مطلقا في طريقة‬ ‫إنزاله وفي مضمون نازله وفي طريقة تنزيله وفي مضمون مفعوله المطلق أي بقيمة القيم‬ ‫الكلية‪ :‬ومحمد مكلف بتحقيق عينة في التاريخ الفعلي وليس بمجرد إبلاغ الرسالة‪ .‬ولهذه‬ ‫العلة‪ ،‬فالقرآن كتاب الإسلام الكوني يقبل التعريف بكونه فلسفة سياسة عالم الشهادة‬ ‫تربية وحكما وليس مجرد تبليغ رسالة خلقية لأن السياسة هي علم أدوات تحقيق نظام القيم‬ ‫الكونية واستراتيجيته‪ :‬ولا بد فيه من دولة معيارها القيم الكونية التي تصل بين فلسفة‬ ‫الدين وفلسفة التاريخ‪ .‬ولهذه العلة كذلك كانت أمة الإسلام مكلفة بتعميم العينة التي‬ ‫حققها الرسول في معاركه التاريخية الفعلية خلال تاريخ الإسلام كله أي من نزول القرآن‬ ‫إلى يوم الدين‪ .‬ولهذه العلة فلست خائفا على الإسلام من اعدائه فهو منتصر لا محالة لأن‬ ‫الله لا يخلف وعده وهو قد وعد بأن نكون شاهدين على العالمين ولا يمكن أن نكون شاهدين‬ ‫بحق إذا بقينا تابعين لمن وصفتهم هود‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في الفصل الأول الذي طبقنا فيه الفرضية القائلة إنه يمكن استنتاج كل القرآن ‪ -‬لو‬ ‫افترضناه جدلا قد فقد ‪ -‬ولم يبق منه إلا آيتان على الأقل (طبعا نحن لا نؤمن بأنه يمكن‬ ‫أن يفقد) لكن من دون هذه الفرضية يستحيل أن نكتشف بنية من أدنى عنصر منه‬ ‫فنستعيد القرآن كله منه بوصفه متضمنا لما يثبت النسقية المطلوبة بهذه الفرضية‬ ‫والانطلاق من مثال لإثباتها بخصوص مقومات الرسالة‪ :‬مرسلا ومرسلا إليه ورسولا ومنهج‬ ‫تبليغ ومضمون بلاغ تذكيري‪.‬‬ ‫ورغم أن ذلك ينبق على أي آيتين لهما ترابط منطقي كما بينت ذلك في الفصل الأول‬ ‫وقد اخترت الآيتين ‪ 105‬و‪ 106‬من الإسراء لأن شرح الفكرة بالاستناد إليهما أيسر لإفهام‬ ‫القارئ وجعلتهما شعارا لمحاولة تفسير القرآن فلسفيا‪ ،‬والقصد بالتفسير الفلسفي هو‬ ‫البحث عن بنائه نسقيا وكأنه نظام أكسيومي يمكن استنتاج كله من بعضه إذا اعتبرناه‬ ‫محددا للحدود البسيطة وقواعد تواليفها كما يحدث في بناء تبديهي (أكسيومي) لنص‬ ‫القرآن كما نفعل في كل عمل وخاصة في الفيزياء النظرية‪.‬‬ ‫فالتجربة في العلم تتلو النظرية لامتحانها ولا تسبقها لتستقرأ منها كما يتوهمها الكثير‪.‬‬ ‫ذلك أن نسبة عملنا التبديهي إلى نص القرآن عين نسبة العمل التبديهي المنطقي الرياضي‬ ‫بالنسبة إلى ظاهرات الطبيعة‪ .‬ولا أخفي أني اعتمدت على عينات من القرآن مثلما يعتمد‬ ‫الفيزياء على عينات من الطبيعة نموذجية في النظام(‪-‬كما يفعل الفيزيائي في البحث عن‬ ‫نظام تبديهي للطبيعة يخرجه من فوضاها الظاهرة إلى نظامها الباطن) والبداية تكون‬ ‫دائما بالأيسر ثم يأتي التعقيد المتدرج‪.‬‬ ‫والعينات في الفيزياء تؤخذ من بعض الظاهرات الفيزيائية التي يتجلى فيها أساس كل‬ ‫معرفة نظرية لموضوع طبيعي أعني بعض الظاهرات الطبيعية التي يسهل صوغها المنطقي‬ ‫الرياضي‪ .‬وكانت هذه الظاهرات في كل تاريخ الإنسانية حتى قبل اليونان هي ما في‬ ‫الظاهرات الفلكية من انتظام شبه ثابت رياضي يؤيده المعطى التجريبي‪ .‬وما زلنا إلى الآن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ندين لما بين النهرين اكتشاف القاعدة الستينية في الفلكيات وفي الساعات لاعتمادهم على‬ ‫المثلث متساوي الأضلاع ذي الزوايا الستينية‪.‬‬ ‫وتلك هي العلة التي جعلتني أنطلق من فكرتين سالبة وموجبة‪ .‬فأما السالبة فهي ما‬ ‫اعتبرته علة عقم علوم الملة أي تجنب ما أمرت آل عمران تجنبه‪ .‬وأما الإيجابية فهي‬ ‫فصلت ‪ 53‬التي تعتبر حقيقة القرآن تتبين من آيات الله في الآفاق وفي الانفس أي نظام‬ ‫الطبيعة والتاريخ (الآفاق) ونظام الكيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي (الانفس)‪.‬‬ ‫كما جعلتني اعتبر الانطلاق من تأويل المتشابه في آيات نص القرآن طريقة خاطئة أضرت‬ ‫بعلومنا‪.‬‬ ‫ولست بذلك مناقضا لنفسي إذ تجاوزت الاعتماد على زوجين من الآيات‪ .‬فما هذين‬ ‫الآيتين الأخريين إلا لأبين أن فرضية فقدان بقية القرآن تقتضيهما‪ .‬وذلك لعلتين‪ .‬الأولى‬ ‫أنه من دون بقية القرآن هل يوجد طريق أخرى لاستعادته بغير طريقة العلم الذي من‬ ‫هذا الجنس أي عدم شرح النصوص بل معاينة الأشياء من منطق فرضية نظرية؟ فالقرآن‬ ‫يقول إن حقيقته تتبين من الآفاق والأنفس وإذن فهو يوجهنا إلى حيث ينبغي أن ينصب‬ ‫بحثنا العلمي وينهانا عن تفسير نصوص قابلة لتأويلات لامتناهية وهو مطلوب آل عمران ‪7‬‬ ‫نهيا عن اتباع طريق زيغ القلوب وابتغاء الفتن‪ .‬والثانية استعمال الآيتين ‪ 106-105‬أربع‬ ‫مرات كلمة حق‪ :‬إنزال بالحق ونزول بالحق وتنزيل وتنزيلا بهما يعني أن الآيتين كافيتان‬ ‫لاستنتاج القرآن من مطلب المعرفة من حيث هي طلب الحق بالحق وتنزيل الحق تنزيلا على‬ ‫موضوع المعرفة التي لا تطلب غيره دون حاجة لغيرها هذه المبادئ الأربعة‪ .‬والأولان هما‬ ‫النظرية التي هي قول في الحق بالحق على قدر الاستطاعة والثانيان هما الاحتكام إلى‬ ‫التجربة التي هي تنزيل للنظرية على موضوعها مع الاقتصار عليه دون سواه وذلك هو‬ ‫مدلول المفعول المطلق‪ .‬وبهذا المعنى فالقرآن نفسه استعمل هذه الطريقة في نقد التحريف‬ ‫أي إنه اكتشف التحريف بالزيادة والتحريف بالنقصان بالاستخراج من نسق الديني من‬ ‫حيث هو ديني وهو معنى التصديق والهيمنة‪ :‬فهو يصدق ما في الكتب السماوية بالهيمنة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التي تعني أن نظامها هو أساس المراجعة التي تصدق ما فيها من أصلي وما أضيف إليه أو‬ ‫أنقص منه في عملية التحريف التي يرجعها في آل عمران إلى حلف فاسد بين الوسطاء‬ ‫الدينيين بين المؤمن وشأنه الأخروي والاوصياء السياسيين بين المؤمن وشأنه الدنيوي حتى‬ ‫بلغ الأمر إلى تأليه عيسى أساسا للوساطة الكنسية في التربية والوصاية السياسية في الحكم‬ ‫با لحق الإلهي المزعوم‪.‬‬ ‫وهو ما جعلني أعتبر القرآن يجمع خصائص النص الديني والنص الفلسفي أو بصورة أدق‬ ‫هو نص الواحد في الديني وفي الفلسفي وتلك هي علة رد القرآن على المعاجزين‪ :‬فكلما‬ ‫طلبوا من الرسول الإتيان بمعجزة يكتفي بالقول إن المعجزات التي من جنس خرق النظام‬ ‫الطبيعي أو التاريخي ليست ضرورية لأنها للتخويف وليست للتعليم الديني الذي هو تذكير‬ ‫وايقاظ ما فطر عليه الإنسان‪ .‬وما قص المعجزات السابقة بدال على أنها دليل الاعتقاد‬ ‫فيها بل هي ضمن ارجاء الفصل بين اصحاب الأديان إلى يوم الدين (البقرة ‪ 62‬والمائدة‬ ‫‪ 69‬وحتى الحج ‪.)17‬‬ ‫وبهذا المعنى فالبحث في حقيقة الكتب السماوية في الوجه النقدي من القرآن هو عينه‬ ‫الذي أطبقه في استرجاع القرآن لو افترضناه قد فقد ليس من خلال تأويل آياته النصية‬ ‫المتشابهة لعدم إحالتها إلى مرجعية من عالم الشهادة وتعلقها بالغيب في كلام الرسالة‬ ‫الموجهة إلى الإنسان ولا يمكن من فهم عناصرها الخمسة‪ .‬والنسبة بين هذا المسعى الثاني‬ ‫والمسعى الذي يريد أن يستمد قوانين الطبيعة من المزاوجة بين افتراض النظرية‬ ‫والاحتكام إلى التجربة هي عين النسبة بين بناء علم الطبيعة بالاعتماد على المقدرات‬ ‫الذهنية النظرية نموذجا لصوغ التجربة الطبيعية وبين عكس ذلك أي الانطلاق من‬ ‫التجربة التي هي حمالة أوجه ولا يمكن بها اكتشاف قوانين الطبيعة‪.‬‬ ‫وبعبارة أوضح فإن علة عقم علوم الملة كلها هي كونها اعتمدت على عكس أمر فصلت ‪53‬‬ ‫بجعله وكأنه نهي وعكس نهي آل عمران ‪ 7‬بجعله وكأنه أمر وانغمست في زيغ القلوب‬ ‫وابتغاء الفتنة لأن التأويلات ليس لها مرجعية تحتكم إليها إذ الغيب ليس الغائب فيقاس‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫على الشاهد مثله‪ .‬ولهذه العلة اعتمدت طريقة الصعود من التجربة الغفل إلى التأويل‬ ‫\"التحكمي\"‪.‬‬ ‫فالتجربة في هذه الحالة ليس لها أساس نظري متين بل هي غفلة لاعتمادها على الحواس‬ ‫العادية‪.‬‬ ‫لم تعتمد على فرضيات مستمدة من نماذج رياضية هي المقدرات الذهنية النظرية التي‬ ‫تمكن من اكتشاف قوانين الظاهرات الفلكية وهي البداية الأبسط‪ .‬وقد اضطررت لوضع‬ ‫نظيرا للمقدرات الذهنية النظرية سميته المقدرات الذهنية العملية أي حيث تكون‬ ‫القيميات في العمل مؤدية لوظيفة الرياضيات في النظر‪ .‬وهي لا تتعلق بنظام الموجود بل‬ ‫تضيف تعلقا بنظام المنشود وهما بعدا الظاهرة الإنسانية التي هي في آن طبيعية وما بعد‬ ‫طبيعية أو قيمية بكل معاني القيم التي هي الحدود البسيطة وقوانين التوليف واحدة‪.‬‬ ‫وهي واحدة بمعنى أنها تعود إلى جنسي المنطق‪:‬‬ ‫‪ .1‬منطق الضرورة الشرطية عندما يغلب مفهوم النظام الطبيعي على الظاهرات‬ ‫أعني النظام المضطر‬ ‫‪ .2‬ومنطق الحرية الشرطية عندما يغلب مفهوم النظام التاريخي على الظاهرات أي‬ ‫النظام الحر‪.‬‬ ‫والنظام الاول بعدد بنى الظاهرات الطبيعية والنظام الثاني بعدد الظاهرات‬ ‫الإنسانية‪.‬‬ ‫وفي هذه الحالة تكون الأديان أو على الأقل الإسلام نظام ما بعد تاريخي روحي كون‬ ‫الفلسفات نظام ما بعد طبيعي مادي‪.‬‬ ‫ومنطق الحرية الشرطية أوسع من منطق الضرورة الشرطية لأن الثاني يعتبر حالة‬ ‫خاصة من الاول‪ .‬وهما في النهاية مثل غاية التلاقي بين خطوط الإسقاط الهندسي في الرسم‬ ‫بوان دو فويت‪-‬بمعنى أن العلم سيكتشف أن النظام الضروري الشرطي محدود وأنه في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الغاية يرد إلى النظام الحر الشرطي فيلتقي نوعا العلوم الطبيعية والإنسانية لأن قوانين‬ ‫الطبيعة هي نفسها اختيارية لأنها بعض الممكن رياضيا‪:‬‬ ‫‪ .1‬فهي خيار بين الوجود والعدم‬ ‫‪ .2‬وهي خيار لكيفية من الكيفيات اللامتناهية للوجود‪.‬‬ ‫والقصد أن العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية لا تتمايزان إلا لأن العلم ما يزال دون‬ ‫الغاية التي هي حقيقته والتي هي وحدة النظامين في الموضوعين الطبيعي والإنساني‪ .‬وهو‬ ‫معنى صفة الشرطية فيهما‪ .‬فلا يمكن تصور الضرورة إلا بوصفها نظاما مشروطا بكون‬ ‫العناصر تخضع لبنية ذات وظيفة أي العمل على علم‪ .‬وقرآنيا ذلك هو معنى الجمع بين‬ ‫مفهومي القضاء القدر في مفهوم واحد‪ :‬فكل موجود خاضع لهذين الخيارين أحدهما يقضي‬ ‫بإيجاد الشيء والثاني يقدر كيف وجوده‪ .‬وهذا يصح حتى على أفعال الإنسان‪ :.‬تقرر‬ ‫بناء بيت تكن فيه وتقدر كيفه‪.‬‬ ‫نظام الطبيعة مثل نظام التاريخ يشترط أن يكون عملا على علم حتى يعمل‪ :‬لا بد من‬ ‫افتراض \"أمر\" ما من جنس الشيء الذي لا بد منه في علم الإنسان للطبيعة وللتاريخ ونسبة‬ ‫ذلك إلى عقل جبار لا يكون تاليا عن الطبيعة والتاريخ يستمد منهما النظام بل يكون سابقا‬ ‫عنهما يضفي عليهما النظام خلقا وأمرا‪ .‬والفرق بين المؤمن والملحد هو أن المؤمن يشخص‬ ‫هذا العقل ويعتبره مفارقا للعالم والملحد يتركه مهملا فيعتبره حينا صدفة وأحيانا نظاما‬ ‫محايثا للطبيعة والتاريخ نفسيهما‪.‬‬ ‫فيصبح العلم الإنساني للطبيعة والتاريخ وكأنه مشروط بأن يتأله الإنسان أي أن‬ ‫يفترض أنه لو كان في منزلة الخالق والآمر فماذا يكون النظام الذي يضعه في الطبيعة وفي‬ ‫التاريخ فيجعل علمهما ممكنا دون أن يزعم أن له القدرة التي لهذا العقل الجبار الذي لا‬ ‫يكتفي بعلم الموجود بعديا بل هو يعلم قبليا فيخلق ويأمر‪ .‬الفرضيات العلمية هي من هذا‬ ‫الجنس‪ :‬أي إن الإنسان يتخيل نفسه وكأنه هو صانع الظاهرة ويبحث في شروط إيجادها‬ ‫أولا وكيفها ثانيا ثم يمتحن ما تخيله فإذا أيدته التجربة اعتبر فرضيته علما لكن بصورة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مؤقتة لأنه قد يتجاوز هذا العلم‪ .‬ومن فالعلم الإنساني تاريخي بالجوهر لأن المطابقة‬ ‫المطلقة مستحيلة‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فلا يمكن علم الضرورة الشرطية إلا بافتراض الحرية الشرطية قبلها‬ ‫وأصلا لها لأنها هي التي تختار النظام الذي تخلق بمقتضاه الموجود وتأمره أي تضع قانونه‬ ‫قبل أن يصبح موجودا أي إنها تتخيله في وضع المنشود قبل الموجود‪ .‬والإنسان لا يعلم أي‬ ‫شيء إلا بمثل هذا الافتراض‪ :‬يضع نفسه محل من يبدع النظام الذي يخلق بمقتضاه ويأمر‬ ‫المنشود ليوجده‪ .‬وكل الصناعات الإنسانية منشود يتحول إلى موجود‪ .‬والأول وجود ذهني‬ ‫في مستوى الروامز والثاني وجود فعلي في مستوى المرموزات‪.‬‬ ‫وتلك هي علة اعتبار ابن تيمية المعاني الكلية لغة سابقة متقدمة عن اللسان وهي مثله‬ ‫مثل الكتابة‪ .‬ومنها استمددت الفكرة التي فرضت علي وضع نظرية المقدرات الذهنية‬ ‫العملية التي تؤسس العمل حتى في النظر إذا تصورناه تفسيرا لما يحصل من عمل النظر‬ ‫المبدع للموجود خلقا وأمرا‪ .‬ومن هنا جاء أنه لا يوجد نظام للعالم الطبيعي والتاريخي في‬ ‫المعرفة الإنسانية ليس مستمدا من التكنولوجيا الإنسانية‪ .‬فالمقدرات الذهنية النظرية لا‬ ‫تكفي إذا لم نعتبرها هي بدورها حالة من المقدرات الذهنية العملية لأن الحقيقة قيمة هي‬ ‫بدروها أي إنها منشود يفرض سلفا للموجود خلفا‪.‬‬ ‫ومن هنا كانت كل النظريات الدينية والفلسفية قيسا للخلق والأمر على الصناعات‬ ‫الإنسانية وتتصور الخالق والآمر صانعا للمخلوق المأمور لنقله من المنشود إلى الموجود‪ .‬وهو‬ ‫ما يعني أن الحرية الشرطية متقدمة على الضرورة الشرطية‪ .‬وذلك لاستحالة تصور الخلق‬ ‫المطلق عن عدم وهو غاية إبداع الموجود المأمور من المنشود الذي يكون عدما قبل إيجاده‪:‬‬ ‫كيف ينقلب العدم وجودا‪ .‬ولولا فهم هذه العلاقة العميقة لاستحال أن يقلب ابن خلدون‬ ‫علاقة الفلسفة العملية بالفلسفة النظرية‪ :‬الميتافيزيقا حالة خاصة من الميتااثيقا‪.‬‬ ‫لكن الدين المنزل‪-‬والإسلام خاصة‪-‬يعتبر هذا المعنى هو الغيب ذاته‪ .‬فالله موجود فعلا‬ ‫وليس مجرد اسقاط لصورة الإنسان على الطبيعة والتاريخ والقرآن كلام الله حتى وإن كان‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫قد اختار التعبير عن أفعال الله بالقياس إلى افعال الإنسان مع التوكيد على أن الغيب لا‬ ‫مثيل له وأن أفعال الله تشرح للإنسان بالقياس إلى أفعاله دون ان تكون من جنسها‪ .‬ولهذه‬ ‫العلة فكل نظرياتنا حتى لما تبدو مطابقة للتجربة ليست مطابقة لحقيقة الأشياء بل هي‬ ‫مطابقة لمرحلة من مراحل إدراكنا لها‪ :‬وذلك هو تجهيز الإنسان بما يمكنه من تحقيق شروط‬ ‫مهمتيه مستعمرا ومستخلفا في الأرض‪.‬‬ ‫وإذن فالقرآن ليس تألها محمديا أي إنه ليس مجرد أسقاط لخصائص أفعال الإنسان على‬ ‫خصائص أفعال الله لكأنه \"جنس أدبي\" ينتحل مؤلفه صفة الإله الذي يخاطب البشر ‪-‬بطل‬ ‫خيالي‪ -‬فيكون من جنس الميثولوجيا أي مجرد جنس أدبي المتكلم فيه يدعي النطق باسم‬ ‫الإله‪ .‬فيكون في الإنسانيات وما بعدها من جنس الرياضي في الطبيعيات وما بعدها‪ .‬وهذه‬ ‫مسالة عقدية وليست هم البحث‪ .‬لكنها جوهرية‪ :‬ذلك أن المقدرات الذهنية النظرية‬ ‫والعملية لا يمكن ردها هي بدورها إلى مجرد موجودات خيالية بل هي ذات وجود فعلي‬ ‫ندركه إذا تحررنا من حصر الموجود في المحسوس‪.‬‬ ‫وعندما أقول \"مسألة عقدية\" وليست هم البحث فذلك استكمالا للفرضية التي انطلق‬ ‫منها حتى استعيد القرآن الذي افترضت ‪-‬بعكس عقيدتي‪-‬أنه قد فقد ولم تبق منه إلى‬ ‫نتف قليلة وأخذت مثال بقاء الآيتين اللتين جعلتهما شعار التفسير الفلسفي الذي شرعت‬ ‫فيه سنة ‪ 2002‬في كوالالمبور لما كنت وحيدا دون الأسرة‪ .‬وفي الحقيقة فكرة ان القرآن‬ ‫موجود كله في بعضه ليست جديدة‪ .‬إذ يقال إن الشافعي مثلا كان يعتبر سورة العصر لو‬ ‫لم تنزل إلا هي لكانت كافية‪.‬‬ ‫وإذن فالقصد ليس الكلام في عقيدتي الإسلامية بل في اثبات ما يقوله القرآن عن نفسه‬ ‫من أن حقيقته تتبين من رؤية الآفاق والأنفس (فصلت ‪ )53‬وليس من آيات نصه التي‬ ‫يؤدي تأويلها الذي ليس فيه مرجعية يحتكم إليها باعتباره حمال أوجه لعدم القدرة على‬ ‫التمييز بين الغيب الشهادة مع خطر الخلط بينهما إثباتها بخصوص مقومات الرسالة‪ .‬وهذا‬ ‫وحده كاف للفصل بين المحكم والمتشابه‪ .‬فكل كلام في آيات الله في الآفاق والأنفس محكم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لأن فيه شرط الاحتكام إلى مرجعية تفصل بين التأويلات فصلا غير مطلق لكنه كاف لتجنب‬ ‫زيغ القلب وابتغاء الفتنة‪ :‬وذلك هو معنى آل عمران ‪ .7‬وكل كلام في الآيات النصية التي‬ ‫ليس لها هذا الشرط متعلقة بالمتشابه أو الغيب‪.‬‬ ‫وتجنب الخلط بين المتشابه والمحكم هو مدلول آل عمران‪ 7‬لأن الخلط هو الذي ينتج عن‬ ‫زيغ القلوب وابتغاء الفتنة بالعلم الزائف تماما كمن يريد أن يبني علم الطبيعة من التجربة‬ ‫الغفلة التي تقال باللغة الطبيعية التي ليس لدلالاتها مرجعية تحيل على تجربة علمية‬ ‫احتكم إليها لتعيير فرضيات مستمدة من المقدرات الذهنية النظرية نموذجا لصوغ قوانين‬ ‫الطبيعة بالاعتماد على التجربة العلمية المقابلة للغفلة‪ .‬وهذا مقصود رؤية آيات الله في‬ ‫الآفاق وفي الأنفس من فصلت ‪.53‬‬ ‫ولما كانت المقدرات الذهنية النظرية قد مكنت من هذه النقلة النوعية في البحث عن‬ ‫قوانين الطبيعة فإن تحقيق نفس النقلة في البحث عن سنن التاريخ (العلوم الإنسانية)‬ ‫يحتاج إلى مقدرات ذهنية علمية تكمل فيها المقدرات الذهنية النظرية لجمع الإنسانيات‬ ‫بين الطبيعي والروحي وتجاوزها الطبيعيات‪ .‬فما من ظاهرة إنسانية إلا وفيها نوعا‬ ‫الشروط التي تحددها الضرورة والتي تحددها الحرية‪ .‬وهذا بين في كيان الإنسان نفسه‬ ‫لأنه محكوم بقوانين الظاهرات الحية وبقوانين الظاهرات الرمزية التي هي مستوى من‬ ‫الحي لكنها أرفع من الضرورة الشرطية لأن فيها حرية شرطية‪ .‬ورمزها القرآني \"علمه‬ ‫الأسماء كلها\"‪.‬‬ ‫حددت مجال البحث في النظام النسقي للقرآن الذي أنوي استخراجه من الآيتين ‪105‬‬ ‫و‪ 106‬من الإسراء باستنتاجه من مفهوم الرسالة بوصفها تذكيرا وفروعها الخمسة اي‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل‬ ‫‪ .2‬والمرسل إليه‬ ‫‪ .3‬والرسول‬ ‫‪ .4‬ومنهج التبليغ‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬ومضمون الرسالة أي التذكير بمهمتي الإنسان والتجهيز الذي يساعده على‬ ‫تحقيقهما إذا استعمله كما ينبغي له استعماله‪.‬‬ ‫وعلي الآن تحديد الترتيب الذي سأتبعه في عملية الاستخراج الذي افترضت امكانه‪.‬‬ ‫انجزت في الفصل الأول من المحاولة عملية استنتاج مفهوم الرسول الذي هو المركز في‬ ‫مصفوفة العناصر وه قلبها أي العنصر الثالث‪ .‬استخرجت كل ما يتصف به الرسول من‬ ‫الآيتين دون حاجة لبقية القرآن وبينت أنها جامعة ومانعة لكل ما نحتاج إلى معرفته من‬ ‫القرآن حول صفات الرسول ومقومات سياسة عالم الشهادة التي عليه القيام بها في التربية‬ ‫وفي الحكم بنماذج من الغيب لكأنه يحاكي أفعال الله في الخلق والأمر ليس للوجود الحاصل‬ ‫بل للمنشود المطلوب تحصيله بالاجتهاد النظري والجهاد العملي بوصف الإنسان مستعمرا في‬ ‫الارض ومستخلفا فيها‪.‬‬ ‫وبقي علينا أن نقوم بنفس العمل لاستخراج العنصرين المتقدمين عليه والعنصرين‬ ‫المتأخرين عنه أي بالترتيب التالي‪:‬‬ ‫‪2.‬المرسل إليه (الإنسان)‬ ‫‪1.‬والمرسل (الله) قبله‪ .‬ثم‬ ‫‪4.‬منهج التبليغ‬ ‫‪5.‬ومضمون الرسالة بعده أي التذكير بمهمتي الإنسان (تعمير الأرض والاستخلاف)‬ ‫وتجهيزه المساعد على ذلك (النظر والعقد والعمل والشرع) ‪ :‬وتلك هي بقية البحث‪.‬‬ ‫فإذا حققنا استخراج العناصر الخمسة انتقلنا في اختبار الفرضية بتصورنا قد اكتشفنا‬ ‫نسخة من القرآن في مكان ما لم ننتبه إليه قبل الشروع في عملية الاسترجاع‪.‬‬ ‫ولا أعتقد أنه يوجد دار بالرسالة الخاتمة‪-‬اي القرآن‪ -‬يمكن بنزاهة أن يدعي أن‬ ‫القرآن فيه شيء آخر غير هذه العناصر الخمسة ‪-‬أي الكلام في المرسل (الله وأفعاله)‬ ‫والمرسل إليه (الأنسان وأفعاله) والرسول (كل رسول وأفعاله المكلف بها) ومنهج التبليغ‬ ‫(أي بعدا سياسة عالم الشهادة تربية وحكما ) ومضمون الرسالة (أي ما تذكر الإنسان به‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مهمتيه وتجهيزه للتعامل معا الآفاق والأنفس) ومع أعراضها الجامعة بين فلسفة الدين‬ ‫وفلسفة التاريخ وهما مجموعين يمثلان سياسة عالم الشهادة ‪-‬تربية وحكما‪-‬بالانشداد إلى‬ ‫مثل عليا تنتسب إلى الإيمان بعالم الغيب وراءه‪.‬‬ ‫وما اعتبره تحريفا للإسلام في علوم الملة هو توهم القدرة على مقايسة علمهم بعلم الله‪.‬‬ ‫تصوروا أن ما يفعله الله مع الإنسان يضاهيه ما يمكن أن يفعله الإنسان مع الله‪ .‬فالله لما‬ ‫يخاطب الإنسان يخاطبه بلغته أي بما يفهمه الإنسان مع الإشارة الصريحة بأن عالم الغيب‬ ‫لا يقبل القيس على عالم الشهادة‪ .‬والإنسان الذي في قلبه زيغ ويبتغي الفتنة يقيس الغيب‬ ‫على الشهادة فيتأله‪ .‬والتأله مفهوم خلدوني متلف تماما عن مفهومه الصوفي فهو ذم وليس‬ ‫مدحا للمتأله‪ :‬لأن مرادف لعلة الطغيان سواء عند الحاكم الذي يعتقد أنه ذو قدرة مطلقة‬ ‫والعالم الذي يعتقد أنه ذو علم محيط‪.‬‬ ‫مفهوم \"حب التأله\" مفهوم خلدوني سلبي جدا‪ .‬وهو يعني به أمرين‪ :‬سياسيا هو أصل‬ ‫الاستبداد عندما يتوهم الحاكم أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ورؤيته لها ما لإرادة‬ ‫الله وعلمه وقدرته وحياته ورؤيته من إطلاق‪ .‬وذلك هو جوهر ما تعنيه البقرة ‪ 256‬التي‬ ‫تقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله تقدم الشرط على المشروط‪ .‬فلا يمكن أن يؤمن‬ ‫الإنسان بالله من دون الكفر بالطاغوت لأن الإيمان بالله يعني الا يعبد سواه والا يخاف‬ ‫سواه‪ .‬وذلك هو بالذات معنى الشهادة الأولى‪ :‬لا إله إلا الله‪.‬‬ ‫ومعرفيا \"حب التأله\" هو ادعاء \"العلماء\" المزيفين أن معرفتهم محيطة إحاطة علم الله‬ ‫ومن ثم الإيمان بنظرية في المعرفة يدعي أصحابها المطابقة‪ .‬وكل الفلسفة القديمة ‪-‬إذا ما‬ ‫استثنينا بعض الشكاكين‪-‬تتأسس على وهم المطابقة‪ .‬وعند علمائنا هو علة قراءة آل عمران‬ ‫‪ 7‬قراءة تعطف تأويل من يزعمون أنفسهم راسخين في العلم على تأويل الله للمتشابه‪.‬‬ ‫وكل تحريفات الإسلام مردها إلى هذا التأله عند ادعياء الرسوخ في العلم|‪ .‬فالمتشابه هو‬ ‫كلام الله في الغيب المحجوب الذي يدعي المؤولون الغاءه بعطف علم الراسخين المزعوم ;ن‬ ‫على علم الله بعطف علم تأويلهم على علم تأويله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالله لا يمكن أن يكلم الإنسان إلا بلغته وإلا فمهوم الرسالة يصبح مستحيلا لأن من‬ ‫شرطها أن تكون مفهومة من المرسل إليه‪ .‬لكن الإنسان لا يستطيع مكالمة الله بلغته فيكون‬ ‫كلامه مع الله مستندا إلى أن الله يفهم كلام كل ملوقاته دون أن يكون كلامهم مطابقا‬ ‫للغته إذا افترضنا أن لله له لغة تطابق المعاني التي هي مقاصده‪ .‬وتلك هي العلة التي‬ ‫تجعلني أرفض نظرية المقاصد لأنها تعني ضمنيا أن ما يفهمه الفقيه هو ما قصده الله‪.‬‬ ‫لذلك فالقرآن ينفي أن يكون لعالم الغيب نظائر في عالم الشهادة فيقاس الغيب على‬ ‫الشاهد‪ .‬لكن ادعياء الرسوخ في العلم خلطوا بين الغائب والغيب‪ .‬والغائب لا يقبل‬ ‫الحضور‪ .‬والغيب هو ما لا يقبله ولا يقاس على الشاهد‪.‬‬ ‫وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يعلم الشاهد من الموجود وما يترتب عليه مما‬ ‫يقبل الشهود من المنشود بل حدد القرآن محل طلبه ومناط فهمه‪ :‬إنه ما عينته فصلت ‪.53‬‬ ‫فالله يرينا آياته التي تقبل العلم في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الأنفس (كياننا‬ ‫العضوي والروحي) لنعلم حقيقة الرسالة دون أن يكون علمنا محيطا بما وراء الشاهد وبما‬ ‫في الشهود من محجوب وتلك علة استحالة القول بالمطابقة دون المعنى المذموم من التأله أي‬ ‫معناه الخلدوني‪ :‬فلا علم للإنسان إلى اجتهادي ولا عمل إلا جهادي بمعنى أنهما غير‬ ‫مطابقين للموجود وللمنشود حتما لما فيهما من الغيب المحجوب‪.‬‬ ‫ومضمون الرسالة تذكير بمهمتي الإنسان بوصفه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‬ ‫وحائزا على شروط تحقيق تلكما المهمتين أي النظر والعقد لمعرفة قوانين الطبيعة والعمل‬ ‫والشرع لمعرفة سنن التاريخ مع بيان المناسبة للقوانين التي هي خلق بقدر(رياضيات) وأمر‬ ‫بسنن (قيم) والتجربة الطبيعية والتاريخية‪ .‬وانطلاقا من هذا الفهم لمضمون الرسالة بات‬ ‫من الواجب أن أضع نظرية المقدرات الذهنية العملية استكمالا لنظرية المقدرات الذهنية‬ ‫النظرية‪ .‬والأولى شرط قول ما ندركه من القيم جهادا قيميا عامة وخلقيا خاصة والثانية‬ ‫شرط قول ما ندركه من الحقائق اجتهاد معرفيا عامة ومعرفة بالممكن من الحقيقة خاصة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فإذا كانت الفرضية التي اعتمدتها صحيحة فإن البحث في القرآن إذا افترضنا أننا وجدنا‬ ‫نسخة من المصحف العثماني بعد فقد واستطعنا أن نقارن ما اكتشفناه من الآيتين في هذه‬ ‫المجالات الخمسة التي هي عناصر الرسالة تكون المقارنة بين ما توصلنا إليه بالفرضية وما‬ ‫نجده في المصحف نظيرا لمحاكمة النظرية بمعطيات التجربة العلمية فيتبين حينها القصد‬ ‫بالتفسير الفلسفي للقرآن‪ .‬فالقصد هو أن القرآن من حيث هو رسالة نص له خاصية النسيج‬ ‫الخطابي في الدين وفي الفلسفة والفرق الوحيد هو أن الثاني ينزل من النظر والعقد إلى‬ ‫العمل والشرع والأول يصعد من العمل والشرع إلى النظر والعقد‪.‬‬ ‫ولأني قمت بذلك وتأكدت منه عنونت محاولتي في التفسير كالتالي‪\" :‬استراتيجية القرآن‬ ‫التوحيدية (توحيد الإنسانية) ومنطق السياسة المحمدية (لتكوين العينة من هذا‬ ‫التوحيد)‪ .‬وهو إذن وبالجوهر استراتيجية سياسية بمعنى استراتيجية في تربية الإنسان‬ ‫وحكمه لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬فكان التعريف جامعا مانعا‬ ‫لمضمون القرآن ومضمون السنة في آن أي لدور الإسلام في سياسة عالم الشهادة بمثل عالم‬ ‫الغيب‪ .‬وكل فصل بين القرآن والسنة من حماقات من لم يكتشف بنية القرآن العميقة من‬ ‫حيث هو رسالة تذكير بهذا المعنى‪ :‬استخراج سياسة عالم الشهادة تربية وحكما للإنسان من‬ ‫حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها‪.‬‬ ‫والمقدرات الذهنية العملية (القيميات) هي المثل العليا التي تنشدها هذه السياسية وهي‬ ‫مناظرة للمثل النظرية التي هي مقدرات ذهنية نظرية (الرياضيات)‪ .‬وهذه كان أول من‬ ‫اعتبرها ابن تيمية الوحيدة القابلة للعلم الكلي والبرهاني والمحض الذي لا يوجد في أعيان‬ ‫المدركات الحسية‪ .‬وقد وضعت مفهوم المقدرات الذهنية العملية (القيميات) التي لا تتعين‬ ‫في الحسيات كذلك مثلها مثل المقدرات الذهنية النظرية بمعنى أن القيم المثلى في القرآن‬ ‫ليست مما يمكن للإنسان أن يحققه تحقيق مطابقة بل هي مما ينشده الإنسان لئلا يخلد إلى‬ ‫الارض إذ بفضلها يكون مشدودا لما يتعالى على الفاني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومثلما أن كل الكائنات الرياضية لا تتعين في الحسيات أبدا وما يتعين منها يصبح بمجرد‬ ‫تعينه محدودا بكيان مكاني وزماني محسوسين لأنها هي غير قابلة للحس بل إدراكها عقلي‬ ‫خالص دون أن يكون لها قيام عيني محسوس لكأنها كائنات عدمية إذا تصورنا الوجود هو‬ ‫المتمدد المحسوس فإن الكائنات القيمية لا تتعين في الحسيات أبدا وما يتعين منها يصبح‬ ‫بمجرد تعينه محدودا بكيان مكاني وزماني‪.‬‬ ‫كلا النوعين من المقدرات الذهنية غير متمدد وغير محسوس بل إن كليهما معقول لا‬ ‫غير‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن أفعال أي إنسان بمن في ذلك الرسل اجتهادية في النظر وجهادية في العمل‬ ‫وليست مطابقة للمثل لأنها تعينات منها تبقى دائما دونها كمالا‪.‬‬ ‫وما يقال عن المقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات) يقال مثله عن المقدرات الذهنية‬ ‫العملية (القيميات)‪.‬‬ ‫كلا النوعين من المقدرات الذهنية ليس لها وجود متمدد ومحسوس لكنه يمتنع على العقل‬ ‫الإنساني أن يدرك الوجود المتمدد والمحسوس إدراكا عليما من دونهما \"لغة\" نعبر بها عنه‬ ‫اجتهادا دون مطابقة‪ .‬وإذا كان ما قاله ابن تيمية عن المقدرات الذهنية النظرية ثورة‬ ‫غير مسبوقة فإنها ظلت غير مفهومة أولا وناقصة ثانيا لأنها لا تكفي لإدراك ما يلتقي فيه‬ ‫الديني والفلسفي وينهي الخصومة بينهما وهي خصومة ناتجة عن وهم المطابة في نظرية‬ ‫المعرفة وفي نظرية القيمة‪.‬‬ ‫وهكذا فقد شرحت ما أعنيه بالتفسير الفلسفي للقرآن الكريم‪ .‬وهو عمل لا أدعي فيه‬ ‫شيئا آخر غير التطبيق الحرفي لما يقوله القرآن عن نفسه بوصفه رسالة موجة إلى الموجودات‬ ‫كلها من حيث هي مكلفة وخاصة لمن لم يخلق إلا للعبادة التي هي تعمير الارض والاستخلاف‬ ‫فيها امتحانا لأهليته لحمل الأمانة‪ .‬فلا يمكن للرسالة ألا تكون علاقة بين مرسل ومرسل‬ ‫إليه وبينهما المبلغ أي الرسول الذي له طريقة في التبليغ ومضمون يبلغه‪ .‬وذلك عندي كاف‬ ‫لفهم النسيج العميق لنص القرآن بعد أن استخرجه من هذه التصورات عقلا ثم أمتحنه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بعرضه على نص القرآن بالعودة إليه عودة عالم الطبيعة إلى التجربة لامتحان فرضياته‬ ‫النظرية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا أنكر أن محاولة البحث في نسق القرآن لتبديهه برد كله إلى أدنى قدر من أبعاضه‬ ‫يوضع فرضيا حدودا أولية مع قواعد توليف بينها واستنتاج بقية نصه من هذا البعض من‬ ‫العناصر البسيطة باستعمال القواعد القليلة للاستنتاج فيها الكثير من المغامرة بل والمقامرة‬ ‫على صبر القارئ وخاصة على سماحة الاحبار الذين يدعون حماية القرآن وسعة البال‪.‬‬ ‫ومع ذلك فإني أقدم عليها تحديا لكل من يعمم التشكيك السائد عند ناقدي الحديث ‪-‬وقد‬ ‫بينت حمقهم‪-‬يعممونه على القرآن‪.‬‬ ‫فهذا النوع الثاني من الأوصياء على الإسلام هم أقل الناس احتراما لوعد الله بحفظه‬ ‫دون حاجة إليهم‪ .‬وهم يولون أهمية للمشككين في تضمن القرآن ما يحول دون ذلك أعني‬ ‫حصانة ذاتية في القرآن علتها نسقيته‪.‬‬ ‫فعبارة \"تفسير فلسفي\" للقرآن عندهم عنوان كفران وليس عرفان بحقيقته آن لكأن أبا‬ ‫يعرب هو الذي ألف فصلت ‪ 53‬حتى ولو اراد قراءتها بما يتلاءم مع امنطق القرآن استدلالا‬ ‫على وجود الله ووحدانيته‪.‬‬ ‫ولما كنت قد ربيت على الا أخشى في ما أعتقده حقا لومة لائم فإني أتحدى فأبين أن‬ ‫القرآن ذاتي التحصين بنسقه الثابت في كل جزء من أجزائه مهما قل وقد اعتمدت شرطا‬ ‫واحدا‪ :‬الزوجية بين الآيات المترابطة‪ .‬ذلك أن وصلت إلى قناعة لن أحيد عنها وهي أنت‬ ‫القرآن يجمع بين خصائص النص الديني والنص الفلسفي بمعنى أنه ذو نسيح ونسقية‬ ‫مجانسة لنسقية الفكر الفلسفي ونسيجه‪ .‬ولا أعتقد أني أول من فهم تفطن لهذه‬ ‫الخاصية‪ .‬فالغزالي مثلا استخرج منطق أرسطو من أدلة القرآن في كتاب سماه القسطاس‬ ‫المستقيم‪.‬‬ ‫وطبعا فمحاولة الغزالي كانت قاصرة وقصورها هو علة رفض ابن تيمية لرؤيته‪ .‬فهو لم‬ ‫يميز بين التحليلات الأوائل التي تنتسب إلى المقدرات الذهنية لأنها تعمل بمتغيرات بالمعنى‬ ‫الرياضي دون مضمون وجودي والتحليلات الأواخر التي تطبقه على قيم لتلك المتغيرات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فيصبح قولا بالمطابقة في نظرية المعرفة وهو أمر مطلق التنافي مع رؤية القرآن‪ :‬وإدراك‬ ‫ذلك هو سر ثورة ابن تيمية الفلسفية‪.‬‬ ‫وكل المتكلمين على نقد ابن تيمية للمنطق الأرسطي يجهلون هذه الحقيقية متصورين أن‬ ‫ما يعني ابن تيمية هو التحليلات الأوائل في حين أنه لا يجادل فيها لأنه يعتبرها من جنس‬ ‫الرياضيات مقدرات ذهنية نظرية (لعملها بالمتغيرات التي هي خانات خالية من المضمون‬ ‫الوجودي الذي هو قيم المتغيرات إذ تتعين كما في التحليلات الأواخر) بل إن ما يبحث فيه‬ ‫ابن تيمية هو التحليلات الأواخر التي شرط \"صحتها\" المفترضة في الميتافيزيقا الأرسطية‬ ‫نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة وما يترتب عليها حتما من سفسطة في النظر وزندقة في‬ ‫العمل كما بين ذلك‪.‬‬ ‫فأما السفسطة في النظر فهي القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وتعني ادعاء العلم‬ ‫المحيط‪ .‬وأما الزندقة في العمل فهي القول بالمطابقة في نظرية القيمة وتعني القدرة‬ ‫المطلقة وتمام العمل‪ .‬وذلك هو معنى السفسطة في النظر والزندقة في العمل لأن فيهما ما‬ ‫سماه ابن خلدون \"بحب التأله\" الذي هو علة الطغيان السياسي عند الحكام والمعرفي عند‬ ‫الفلاسفة والتصوف المتفلسف القائل بالكشف‪.‬‬ ‫استأنف الآن في هذا الفصل الثالث استنتاج بقية العناصر التي تتألف منها رسالة التذكير‬ ‫القرآنية من آيتي الاسراء ‪105‬و ‪ 106‬في فرضية فقدان نص القرآن وكأنه لم يبق منه إلا‬ ‫هذان الآيتان‪ .‬وهي فرضية العمل التي انطلق منها لتبديه نص القرآن أي لجعله نسقا يرد‬ ‫إليهما لكأنه كله موجود فيهما وجودا يغني عن بقيته إذ نستطيع استخراجه منهما اعتمادا‬ ‫على أكسمته في حالة فقدان بقية نص القرآن‪ .‬وقد بينت أن ذلك أيضا ممكن بالنسبة على‬ ‫أساسيات السيرة القولية والفعلية بنفس الطريقة‪.‬‬ ‫وعبارة \"يغني عن بقيته\" لا تعني أننا نحن مستغنون عنها بل تعني أننا مطمئنون إلى أن‬ ‫القرآن لا يمكن أن يحرف بالزيادة ولا بالنقصان لأنه كله موحود في أي زوجين من آياته‬ ‫مترابطتين ترابطا تام المعنى ومكتفيا بذاته‪ .‬وله شبه بمبدأ آخر وضعته في تفسر أحكام‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫القرآن‪ .‬فكل حكم من احكامه مؤسس على زوجين من أفعال الله التي ظنها المفسرون‬ ‫والمتكلمون صفات لذات الله وهي أسماء لأفعاله‪.‬‬ ‫وقد ضربت مثال نظرية المواريث أو الفرائض في القرآن‪ .‬فالآية الحادية عشرة من‬ ‫النساء تنتهي بقوله جل وعلا \"وكان الله عليما حكيما\" بمعنى أن نظرية الفرائض تستند‬ ‫إلى فعلين إلهيين هم فعل العلم وفعل الحكمة‪ .‬والأول فعل معرفي من النظر والثاني فعل‬ ‫قيمي من العمل‪ .‬وجميع الأحكام تنتهي على نفس المنوال‪.‬‬ ‫ولاكتف بمثال ثان أبلغ لعله أبلغ في الدلالة على هذا المعنى‪.‬‬ ‫فآية حرية المعتقد ‪ 256-‬من البقرة‪-‬وشرطها تبين الرشد من الغي تبينا ذاتيا نابعا من‬ ‫اجتهاد المؤمن ختمت بقوله تعالى \"والله سميع عليم\"‪ .‬فهما فعلان إلهيان وليسا صفتين‬ ‫لذاته كما يتوهم المتكلمون لأنهما صيغة مبالغة من سامع وعالم‪ .‬إنهما اسما فاعل وليسا‬ ‫صفتين لله‪ :‬فالله سامع وعالم تعني أنه يصغي لتفكر الإنسان ويعلم سره فيميز الصادق من‬ ‫المنافق‪.‬‬ ‫والآن فبعد كلامي في مركز العناصر الخمسة اي ثالثها والمتعلق بالرسول الذي بينا دوره‬ ‫انطلاقا من الآيتين ‪ 105‬و‪ 106‬من الإسراء رتبنا الزوجين المذكورين قبله في تحديد عناصر‬ ‫الرسالة أي المرسل إليه (الإنسان) والمرسل (الله) ورتبنا الزوجين المذكورين بعده فيها‬ ‫أي منهج التبليغ (السياسة تربية وحكما) ومضمون الرسالة (مهمتا الإنسان وجهازا‬ ‫تحقيقهما)‪ .‬ووصلنا المرسل إليه بالمنهج والمرسل بالمضمون‪.‬‬ ‫والرسالة بمسائلها الخمس هي كل القرآن ولا شيء يمكن أن يضاف إليها أو ينقص منها‪.‬‬ ‫ولهذه المسائل وجهان‪:‬‬ ‫‪ .1‬وجه العلاقة بما وراء العالم الشاهد أو عالم الغيب وهو الديني الخالص‬ ‫‪ .2‬وجه العلاقة بالعالم الشاهد أو عالم الأنسان الطبيعي والتاريخي (الآفاق‬ ‫الخارجية حول الإنسان) والإنسان العضوي والروحي (الآفاق الداخلية في كيان‬ ‫الإنسان)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وذلك هو معنى الآيات التي يرينها الله لتبين حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫بينا طبيعة العلاقة بين الزوجين الأولين ثم العلاقة بين الزوجين الأخيرين ثم بين‬ ‫الاربعة ثم بين عناصر الرسالة ممسة الأبعاد في الفصلين السابقين‪ .‬وسنخصص هذا الفصل‬ ‫الثالث للزوجين الموجودين مباشرة حول القلب أي حول الرسول أعني أولهما مما قبل‬ ‫الرسول (المرسل إليه أي الإنسان) وثانيها مما بعده (منهج التبليغ) والفصل الرابع‬ ‫نخصصه للأول قبله (المرسل أي الله) وللأخير بعده (أي مضمون الرسالة)‪ .‬والخامس‬ ‫لنظام عناصر الرسالة الخمسة وهي عين معادلة الإنسان الوجودية (مفهوم شرحته سابقا)‪.‬‬ ‫ما القصد بـ\"الفصل الخامس للكل\"؟‬ ‫القصد هو للقرآن ككل بعناصر الرسالة الخمسة والنسيج التي تؤلفه بوصفه هو النسق‬ ‫الذي انتهيت إلى رده إلى مفهوم واحد سميته \"معادلة الإنسان الوجودية\" التي هي حبكة‬ ‫القرآن ولحمته وسداه‪ .‬وإليها يرد المقصود بالأكسيومية أو بناء نص الرسالة بناء تبدييها‬ ‫(مرادف أكسمة)‪ :‬فنظام القرآن هو معادلة الإنسان الوجودية (الأنفس) وهو معادلة‬ ‫العالم الذي يحيط به (الآفاق)‪ .‬وهما موضوع الفصل الخامس والاخير‪.‬‬ ‫والآن فما علاقة المرسل إليه (الإنسان) الوارد في ترتيب عناصر الرسالة بين الله‬ ‫(المرسل) والرسول (مبلغ الرسالة) في ترتيب عناصر الرسالة الخمسة ما علاقته بمنهج‬ ‫التبليغ في القرآن وهو الرابع في ترتيب عناصرها؟ أو بعبارة أدق ما طبيعة ما عرفنا‬ ‫بمقتضاه الرسول بكونه بشيرا ونذيرا وقارئ على مكث للقرآن المنزل بالحق والنازل بالحق‬ ‫والمنزل للحق في القرآن على الحق قي التاريخ تنزيلا به جمعا بين بعديه؟‬ ‫وكيف يكون تقديم المرسل إليه على الرسول في الترتيب إذا لم يكن في ذلك التوكيد على‬ ‫كونه إنسانا أولا وكونه هو بدوره مرسلا إليه مثله مثل غيره من البشر؟ فلنلخص ما توصلنا‬ ‫إليه‪:‬‬ ‫عندنا أولا أربع مفهومات تعرف وظيفة الرسول‪ :‬بشير ونذير وقارئ بمكث للقرآن‬ ‫ولتنزيله تنزيلا ومجموعها هو السياسة من حيث هي تربية وحكم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وعندنا أربع مفهومات تعرف القرآن وحقيقته‪ :‬مضمونه حق طريقة انزاله حق وتنزيله‬ ‫في التاريخ حق ولا شيء غيره بدلالة المفعول المطلق تنزيلا‪ .‬والحصيلة هي أن المجموع هو‬ ‫مضمون الرسالة وموضوع البلاغ‪.‬‬ ‫فتكون العلاقة بين المرسل إليه وطريقة التبليغ من حيث هي تحقيق الرسالة الفعلي في‬ ‫التاريخ ما يجعل علاقة الديني بالتاريخي أو علاقة مضمون الرسالة بأفعال السياسة التي‬ ‫تحققها في التاريخ الفعلي هي جوهر الإسلام‪ .‬وإذن فالعلاقة بين الإنسان وسياسة تكوينه‬ ‫تربية وحكما يحددان الرسالة الخاتمة كما حددها القرآن جوهر العلاقة بين فلسفة الدين‬ ‫وفلسفة التاريخ القرآنيتين‪ :‬مهمة الرسول تحقيق عينة من المشروع القرآن من حيث هو‬ ‫استراتيجية توحيد الإنسانية‪ .‬فيكون ذلك مدخلا لفهم سيرة الرسول القولية والفعلية‪:‬‬ ‫فيكون مشروع الأكسمة في آن مدخلا لدحض التشكيك في سلامة القرآن والسنة وحمايتهما‬ ‫من كل تحريف بالإضافة أو بالنقصان‪.‬‬ ‫وهنا سأسكت وأترك الكلمة لابن خلدون ليحدد لنا هذه السياسة ببعديها تربية وحكما‬ ‫كما يقتضي ذلك الإسلام وذلك باعتماد نصه الوارد في الباب الثاني من المقدمة‪ .‬وفيه‬ ‫نكتشف أول ثورة فلسفية في معنى التربية والحكم في القرآن أعني المقابل المطلق لنظرية‬ ‫هيجل وماركس ولكل فلاسفة التربية والحكم بوصفهما نظام تدجين الإنسان لنقله من‬ ‫الحيوانية إلى الإنسانية‪ .‬فقد عرفه ابن خلدون الإنسان بكونه \"رئيسا بطبعه بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬والرئيس عنده مقابل تماما للسيد‪ :‬هذا متضايف مع العبد‪.‬‬ ‫والإنسان من حيث هو إنسان حر ولا سيد له لأن لا يعبد غير الله‪.‬‬ ‫وذلك هو القصد بتكريم الإنسان في القرآن واعتباره مكلفا وليس حيوانا شرك أهليته‬ ‫للحرية‪-‬رؤية هيجل وماركس‪ -‬سياسة التدجين في التربية والحكم أي إن كل ما حصل في‬ ‫تاريخنا كان منافيا للإسلام منافاة مطلقة إذ كان الأولياء لما يأخذون الطفل إلى الكتاب‬ ‫يقولون للمؤدب \"حاسبنا بالجلد\" أي استعمل معه كل العنف الممكن حتى تربيه وتعلمه‪.‬‬ ‫وهذه الرؤية التحررية المكرمة للإنسان هي مما لا يمكن أن يكتشفه الباحث عن ماركس أو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هيجل أو كونت في فكر ابن خلدون‪ :‬فهذا البحث الناتج عن عقدة نقص المغلوب تعميه فلا‬ ‫يرى حقيقة الثورة الإسلامية في عمل ابن خلدون‪.‬‬ ‫ونفس الامر بالنسبة إلى الحكم‪ :‬فهو عنف محض في كل تاريخنا باستثناء ما كان عليه‬ ‫قبل الفتنة الكبرى‪ .‬ولنورد الآن نص ابن خلدون وصفا لتربية الرسول وحكمه‪ .‬فلنورد‬ ‫النص في التغريدات ‪-21‬إلى ‪:26‬‬ ‫‪ \":‬أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من وسرة بأسهم‬ ‫وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس= المضطهدة كما نبيه (في فصل التربية‬ ‫من بالباب السادس ‪..)6.40‬أما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية لأن وقوع‬ ‫العقاب به ولم يدفع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك‪ .‬وأما إذا‬ ‫كانت الأحكام تأديبية وتعليمية واخذت من عهد الصبا اثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه‬ ‫على المخافة والانقياد فلا يكون مدلا ببأسه ‪...‬ونحد أيضا الذين يعانون الاحكام وملكتها‬ ‫من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم‬ ‫كثيرا ولا يكادون يدافعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه وهذا شأن طلبة العلم‬ ‫المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأيمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار‬ ‫والهيبة فيهم هذه الاحوال وذهابها بالمنعة والبأس\"‪ .‬ثم يأتي الكلام على تربية الرسول‬ ‫وحكمه \"ولا تستنكر ذلك بما وقع للصحابة من اخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص‬ ‫ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخط المسلمون عنه‬ ‫دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب ولم يكن بتعليم‬ ‫صناعي ولا تأديب تعليمي وإنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا يأخذون أنفسهم بها‬ ‫بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق‪ .‬فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم‬ ‫تخدشها اظفار التأديب والحكم‪ .‬قال عمر رضي الله عنه \"ومن لم يؤدبه الشرع لا أدبه‬ ‫الله\" حرصا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح‬ ‫العباد‪ .‬ولما تناقص الدين في الناس واخذوا بالأحكام الوازعة ثم صار الشرع علما وصناعة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يؤخط بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت‬ ‫بذلك سورة البأس فيهم‪ .‬فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن‬ ‫الوازع فيها أجنبي وانما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي‪ .‬ولهذا كانت الأحكام‬ ‫السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم في‬ ‫وليدهم وكهولهم\" (المقدمة الباب الثاني الفصل السادس)‪.‬‬ ‫فنفهم حقيقة المبابلة الخلدونية بين مفهوم السيد ومفهوم الرئيس‪ .‬فالسيد علاقة‬ ‫تضايف بين غالب ومغلوب‪ .‬وهي علاقة بين سيد وعبد‪ .‬وعليها يبني هيجل وماركس نظرية‬ ‫الإنسان وتكوينية الحضارة‪ .‬لكن ابن خلدون يرى العكس تماما لأن الإنسان رئيس‬ ‫بالتكريم والتكليف‪ .‬وهذه الرؤية هي التي يفقدها من يترك نص ابن خلدون وما فيه من‬ ‫ثورة قيمية ويبحث فيه شبها لا يوجد ليشفي عقدة يعاني منها وهي تقييم كل الحضارة‬ ‫الإسلامية بما يعتبره فاضلا عليها فيعميها عن فضلها الكوني‪.‬‬ ‫من لم يفهم هذا النص الخلدوني بالنظر في ما يجري في شعوبنا لن يفهم علة الأدواء التي‬ ‫تعاني منها الأمة‪ .‬فلكأن ابن خلدون يعيش بيننا ويصف الخنوع والذل والمهانة والكسل‬ ‫والخبث والدناءة الخلقية الغالبة على شعوب ربيت وحكمت بما يجعلها فاقدة لما يسميه ابن‬ ‫خلدون سورة البأس رمز عزة الإسلام وانفة المسلم‪ .‬وسورة البأس هي الرمز الدال على‬ ‫صلاح معاني الإنسانية لأن فقدانها سماه ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" بسبب التربية‬ ‫والحكم العنيفين المدجنين للإنسان‪.‬‬ ‫فما الحصيلة من فحص العلاقة بين المرسل إليه أو الإنسان المخاطب بالرسالة ومنهج‬ ‫التبليغ الذي كلف به الرسول؟ من يفهم هذه العلاقة يفهم قولي إن عبارة \"إسلام سياسي\"‬ ‫بليوانسم أي إن كلمة إسلام كافية وتغني عن وصفه بالسياسي وكلمة سياسة الأحرار كافية‬ ‫تغني عن ردها إلى الإسلام‪ .‬فكلتاهما تعني تدبير عالم الشاهدة ممن استعمره الله في‬ ‫الأرض واستخلفه فيها بمعيار المثل العليا التي يحيل عليها القرآن باعتبارها عين ما فطر‬ ‫عليه الإنسان وجوهر الإسلام‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن يفهم ذلك يفهم خاصة أن القرآن ليس كتابا دينيا بمعنى ما يقابل عادة بالكتاب‬ ‫الفلسفي بل هو في آن كتاب الواحد فيهما أي ما يشتركان فيه من الصفات التي يقابل بينهما‬ ‫من لم يفهم معنى طلب الحقيقة (التواصي بالحق) وطلب تحقيقها في التاريخ الفعلي‬ ‫(التواصي بالصبر) بالنسبة إلى الإنسان المؤمن والعامل صالحا ليتجنب الخسر أو الاخلاد‬ ‫إلى الأرض (مضمون سورة العصر)‪ .‬والقرآن كما هو بين غني عن المعجزات الخارقة‬ ‫للعادات إذ كل استدلالاته تعتمد على بيان النظام الذي يوجد في عالم الطبيعة وفي عالم‬ ‫التاريخ وفي كيان الإنسان العضوي وفي كيانه الروحي أي بالآيات التي حددتها فصلت ‪53‬‬ ‫بوصفها ما نتبين به حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫وأخيرا فهو يفهم إن كان ذا بصيرة وفطنة أن القرآن متن في فلسفة الديني وفي فلسفة‬ ‫التاريخي اللتين بهما يعلم الإنسان طبيعة تكليفه بعمارة الأرض ليكون منتج شروط بقائه‬ ‫والاستخلاف فيها ليكون ذا نظام قيمي يحول دونه والاخلاد إلى الأرض ويعلم طبيعة‬ ‫تجهيزه المعرفي والقيمي الذي يمكنه من إنجاز مهمتيه في الوجود وهما جوهر العبادة التي‬ ‫لم يخلق إلى لأجلها أي تعمير الارض والاستخلاف فيها وههما مهمتان كونيتان تعرفان‬ ‫نظرية الإنسان‪.‬‬ ‫وأسمح لنفسي دون فخر أني لو كنت في أمة تقدر العلم حقا لاعتبرت ما أحاوله إحياء‬ ‫لجهد سعت إليه المدرسة النقدية في فلسفة الإسلام إليه وإن لم تصغه بهذا الوضوح لأنها‬ ‫كانت في صراع مع تحريف علوم الملة الغائية الخمسة (التفسير وفروعه في الكلام والفلسفة‬ ‫نظريا وفي الفقه والتصوف عمليا)‪ .‬فالمدرة النقدية تمكنت من تجاوز الفلسفة القديمة‬ ‫(لرفضها القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية)‪ .‬ولست أبالغ عندما أقول إن الفلسفة‬ ‫الحديثة ما تزال دونها بسبب نكوصها الذي نتج عن فلسفة هيجل وماركس اللتين آلتا إلى‬ ‫ما يسمى ما بعد الحداثة فعملت على فهم الإنسان وطبيعة الحاجات التي تقتضي الوصل‬ ‫بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا أخفي سرا عندما اقول إني بدأت انشر أهم أفكار التفسير الفلسفي بوسائل الاتصال‬ ‫الاجتماعي لأني اعتقد أن ذلك واجبي إزاء القراء حتى تكون الخدمة التي أسديها لوجه‬ ‫الله فلا أنتظر منها ربحا أو اطلب مقابلها أجرا علما‪ .‬والمعلوم أن ذلك حتى لو كان مطلوبا‬ ‫مصدر رزق فالنشر العادي يكلف القارئ لكنه لا يفيد المؤلف ومن ثم فهو كاف لتجنبه‪.‬‬ ‫وأحمد الله أني غني عما يتجاوز ما يقنع به الإنسان الحر والكريم الذي لا يخلد إلى‬ ‫الأرض‪.‬‬ ‫ولا أنكر أن مثل هذه الأعمال قد لا تكون في متناول القراء العاديين اي الذين ليس لهم‬ ‫لذة في الجهد الكافي للتغلب على عسر الفكر وتعقيده‪ .‬فالثقافة الحالية أشبه بالنكوص إلى‬ ‫الثقافة الشفوية التي لا تتحمل التعقيد النظري‪ .‬وغالبا من يطلب مني البث التلفزي‬ ‫بمعنى استعمال طريقة أمجها طريقة الدعاة‪ .‬ولما كان الفكر العميق مستحيلا من دون‬ ‫الانتقال من الشفوي إلى الكتابي فإني أرفض رفضا قاطعا استعمال التواصل الشفوي في‬ ‫مثل هذه المسائل‪.‬‬ ‫فلست داعية ولا أريد أن يقرأني من لا يتحمل معي مسؤولية التفكير بذاته فيزاحمني‬ ‫في متابعة استدلالاتي ويناقشها ليس معي بل مع نفسه ثم يكتب ما يراه فيها فيكون ذلك‬ ‫ابداعه الشخصي وليس مناكفات جنيسة لما يترتب على الخلط بين الفكر والمواقف منه‪.‬‬ ‫فهذه ليست فكرا فاعلا بل رد فعل انفعالي تافه‪ .‬وأكاد اجزم أن جل المعتمدين على‬ ‫المشافهة لا يتجاوز فكره عرض مواقفهم دون مضمون علمي يتجاوز ترديد ما لا يحتاج إلى‬ ‫جهد فكري لأنه عرض محفوظات أكل عليها الدهر وشرب‪ :‬وجلها وعظ وإرشاد إما خرافي‬ ‫يحرف الدين يزعمه أصحابه دينيا أو خرافي يحرف الفلسفة يزعمه أصحابه فلسفيا‪.‬‬ ‫فحصر الوجود في عالم الشهادة سجن للإنسان لا يطابق كيانه الذي لا يرضيه الموجود‬ ‫لكون الإنسان السوي مشدودا للمنشود أكثر من انشداده للموجود‪ .‬ولا يوجد شيء احتقره‬ ‫أكثر من قول بعض الفقهاء الذين يتصورون أنفسهم مجددين بخرافة فقه الواقع‪ .‬ولو‬ ‫سألتهم ما الذي يفهمونه بـ\"الواقع\" لردوه إلى الإدراك الغفل للأمر الواقع‪ .‬فقه الواقع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ليس شيئا آخر عندهم إلا تبرير السائد‪ .‬لكأنه يمكن الكلام على \"واقع\" من دون معرفة‬ ‫سر الوقع الذي هو كثافة ما في الوقوع من قيم هي عين التحرر من الأمر الواقع‪.‬‬ ‫وإذن فما يسمونه فقه الواقع هو جوهر الهزيمة الروحية التي تترتب على عدم فهم‬ ‫السامي من المعاني‪ .‬فالأمر الواقع ليس حقيقة ما به كرم الله الإنسان وكلفه ليثبت جدارته‬ ‫بالحرية والاستخلاف بل هو فرض إرادة الغالبين على المغلوبين لأنهم أخلدوا إلى الارض‬ ‫ولم يبق لديهم اشرئباب لما يتعالى على الفاني من الوجود الإنساني وهو في الحقيقة خيانة‬ ‫لقيم الإسلام أي حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬ ‫وذلك عين ما يسميه أبن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\"‪.‬‬ ‫وهو عين ما قصده ابن خلدون بكلامه على فقدان سورة البأس الذي يجعل الإنسان يكفر‬ ‫بالطاغوتين طاغوت الاستبداد في الحكم وطاغوت العنف في التربية‪ .‬وهما الداءان اللذان‬ ‫يجعلان شعوبنا خانعة لأمثال مجرم مصر الذي يتحكم في رقابة مائة مليون مصري خانعين‬ ‫ومجرم سوريا الذي شرط جل شعبه وهدم جل حضارته ومجرمي العراق الذين حوله إلى‬ ‫مزبلة للحاقدين على الاسلام من مليشيات الملالي ومجرم السعودية الذي أهان منزلة‬ ‫الحرمين وكل مجرمي حكام العرب والنخب المطبلة لهم‪.‬‬ ‫وأغلب النخب الدينية ‪-‬ناهيك عن العلمانية‪ -‬لا يعلم أن بذلك ينفي كل القيم السامية‬ ‫حتى لو تمحض للعبادة ولم يغادر المسجد أو تمحض للحرب عليها باسم الحداثة التي هو‬ ‫أبعد الناس عنها لأن كبار فلاسفتها قبل هيجل وماركس كلهم مؤمنون‪ .‬ذلك أن الإنسان لم‬ ‫يكرمه الله بالمشاعر التعبدية بل بما تثمره في كيانه أعني حرية الإرادة وصدق العلم وخير‬ ‫القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪ .‬وهذه كلها منعدمة في أكثر من ‪ 90‬في المائة من شعوبنا‬ ‫ونخبنا‪.‬‬ ‫وعدمها هو الذي يسميه ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\"‪ .‬فالشعوب صارت تعبد‬ ‫الطغاة لكونها أصبحت بمفعول التربية والحكم العنيفين جبانة وكسولة ومنافقة ومادعة‬ ‫وعابدة للحاجات النباتية وليس لها اشرئباب لما يخلصها من الاخلاد إلى الأرض بسبب سياسة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تربية وحكم ليس لها شرعة بل هي قائمة على عنف الشوكة والعمالة للمستعمر الحامي‪.‬‬ ‫وقد وصف ابن خلدون ذلك بأن من ربي هذه التربية وحكم بهذا الحكم يصبح عالة على‬ ‫غيره ويرد أسفل سافلين وهو ما تعرفه سورة العصر بكونه الخسر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كان الوصل بين المرسل إليه (الثاني في ترتيب عناصر الرسالة الخمسة‪ :‬الإنسان عامة)‬ ‫ومنهج التبليغ تربية وحكما (الرابع في ترتيبها‪ :‬مهمة الرسول) وبينهما الرسول (الثالث‬ ‫فيه وهو من ثم المركز والقلب في الترتيب) أمرا ميسورا حدوثا وتفهيما لمن يبحث عن فهم‬ ‫البنية العميقة للرسالة‪ .‬فكيف سيكون الحال بين المرسل (الاول في الترتيب‪ :‬الله) ومضمون‬ ‫الرسالة (العنصر الخامس والأخير في الترتيب)؟‬ ‫كيف نصل بين المرسل (الله) وما يطلبه من المرسل إليه (الإنسان) وما جهزه به من قدرة‬ ‫على النظر والعقد في علاج علاقته بشروط مهمته الأولى أي شرط قيامه العضوي‬ ‫(مستعمرا في الأرض) ومن قدرة على العمل والشرع في علاقته بشروط مهمته الثانية أي‬ ‫شرط قيامه الروحي (استخلافه في الأرض) ليكون قادرا على تحقيق اما كلف به بوصفه‬ ‫حرا ومسؤولا وذلك هو معنى تكريمه‪.‬‬ ‫والقرآن يعتبر ذلك يحول دون الإنسان والاحتجاج بأنه قد كلف بما لما يجهز له ليستطيع‬ ‫انجازه فيدعي أنه مجبر وليس ميرا في سلوكه ومنع التنصل فيتنصل من المسؤولية‪ .‬ذلك‬ ‫هو رهان الوصل بين العنصر الاول والعنصر الاخير من عناصر الرسالة الخمسة‪ .‬وهو‬ ‫موضوع الفصل الرابع من البحث في أكسمة القرآن برد كله إلى أدنى بعضه ممثلا بكل‬ ‫آيتين متلازمتين اخترت للتمثيل الآيتين ‪ 105‬و ‪ 106‬من الإسراء‪.‬‬ ‫وكان يمكن أن اختار أي آيتين لهما خاصية الترابط الكافي لأداء معنى تام‪ .‬لكني فضلت‬ ‫هذين لجعلهما شعارا لمحاولة التفسير الفلسفي‪ .‬وما اعنيه بالتفسير الفلسفي للقرآن‬ ‫الكريم هو في الغاية قابليته للصوغ الأكسيومي أي التبديهي باعتماد بعض الحدود البسيطة‬ ‫وبعض القواعد القليلة للتوليف بينها توليفا يمكن من استنتاج مضمون القرآن في حالة‬ ‫افتراض فقدانه وامتحان فرضية الأكسمة بالعودة إليه وكأننا وجدنا نسخة لعرض ثمرة‬ ‫المحاولة عليها كما تعرض النظرية علة التجريب العلمي في الطبيعيات‪.‬‬ ‫وللوصل بينهما وجهان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬وجه أول مضمونه هو ما الذي ينتظره الله من الإنسان‬ ‫‪ .2‬ووجه ثان هو كيف يمكن استنتاج طبيعة أفعال الله مما ينتظره من الإنسان لأن‬ ‫الحر المكلف تترتب عليه مسؤوليته عن افعاله لا غير غفي الجزاء إيجابا وسلبا‪.‬‬ ‫ومن له دراية بما كان لوثر مثلا يعيبه على الإسلام فينفي عنه طابع الدين السماوي‬ ‫بسبب هذه الرؤية المكتفية بالمعيار العقلي إلى حد الاستغناء عن معنى اللطف الإلهي أو‬ ‫\"الجراس\" في حساب الإنسان ومساءلته إيجابا وسلبا بمقتضى اعماله دون أي شيء آخر‪.‬‬ ‫والحساب المقتصر على الاعمال هذا تعريفه الذي لا يعتبره لوثر مقبولا لتنافيه مع‬ ‫الحاجة اللطف أو الجراس الإلهية ‪Rechtschaffenheit wird beschrieben als die‬‬ ‫‪Neigung und das Bestreben, den Pflichten seines Standes gegenüber Gott und‬‬ ‫‪\" .den Menschen Genüge zu tun‬فلكأنه يكفي الإنسان أن يعمل بمقتضى القانون‬ ‫باعتباره ميلا واشرئبابا لتحديد واجبات منزلته إزاء الرب والبشر\"‪ .‬بعبارة أخرى أساس‬ ‫العدل في التكليف والحرية في القرآن هو المشكل عنده‪.‬‬ ‫وطبعا فالحساب بحسب الاعمال في الإسلام لا علاقة له بالمنزلة الاجتماعية أو السياسية‬ ‫بل هي ذات علاقة بمنزلة الإنسان من حيث هو إنسان مكرم وحر‪ .‬فلا يفضل أحد أحدا‬ ‫عند الله إلا بالتقوى (الحجرات ‪ .)13‬وفي ذلك نفي للفروق العرقية والطبقية والجنسية‬ ‫والاكتفاء بالصفات الخلقية والدينية للأعمال‪ .‬وكان هيجل يعتبر ذلك دليلا كافيا على‬ ‫استحالة أن يؤسس القرآن دولة مستقرة بسبب هذه المساواة النافية لكل تراتب بين البشر‬ ‫غير هذا المعيار‪.‬‬ ‫فالموقف من الله ومن الإنسان والمنزلة التي يترتب عليها الموقف تؤديهما عبار \"شتند\" في‬ ‫هذا التعريف التي هي منزلة وموقف في آن وهي إذن متعلقة بمسألة التراتب المستند إلى‬ ‫معايير غير التقوى التي هي احترام القانون أو الشريعة‪ .‬لكنها في الإسلام لا يبقى منها‬ ‫إلى الموقف بمقتضى المنزلة الوجودية عند الله التي تنبني على تقوى شرعه (المجاهدة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الاولى مجاهدة التقوى بمصطلح ابن خلدون) وليس من المنزلة الاجتماعية أو العرقية أو‬ ‫الجنسية أو القانونية بل معنى الحجرات ‪ 13‬حصرا أي \"تقوى احترام الشريعة\"‪.‬‬ ‫هو معنى مرادف للمساواة أمام القانون في الدولة الحديثة ولا تفاضل بين البشر إلا‬ ‫باحترام القانون الذي هو عقد ذو اتجاهين‪ :‬عقد بين الله والإنسان ضامن للعقد بين‬ ‫الإنسان والإنسان‪ .‬ما يعني أن الله لا يفاضل ببين الناس بغير هذين الوجهين من التعاقد‬ ‫ذي الوجهين‪ .‬وحتى إذا عفا الله عن اخلال بالوجه الأول من العقد فهو لا يعفوا عن‬ ‫الاخلال بالوجه الثاني منه‪ .‬فلا وجود لتدخل الشفعاء أو اللطف التحكمي فيه‪ .‬وحتى ما‬ ‫يبدو لطفا في الفقه الاسلامي فهو ليس لطفا بالمعنى المسيحي بل هو حصيلة ما نجهله من‬ ‫سلوك الإنسان لكوننا لا نعلم ما كان خفيا في سريرته من صدق أو نفاق‪.‬‬ ‫فيتبين أن العلاقة بين العنصر الأول (المرسل‪ :‬الله) والعنصر الاخير (مضمون الرسالة‪:‬‬ ‫ما كلف به الإنسان ويسأل عنه وما جهز به حتى لا يحتج يوم الدين بأنه مظلوم إذ كلف بما‬ ‫لا يستطيع أو كان مجبرا وليس حرا) من العناصر الخمسة هو وقاية من التشكيك الممكن‬ ‫في عدل الله خلقا وأمرا‪ :‬وهو ما يسمى في الاصطلاح الفلسفي بالعدل الإلهي \"ثيودوسيا\"‪.‬‬ ‫والمعلوم أن جل حجج الملحدين مصدرها التشكيك فيه بناء على ظنهم أن علم الإنسان‬ ‫محيط وعمله تام فيجعلوهما معيار لتقييم الخلق والامر‪.‬‬ ‫فتكون مهمة الرسالة تذكير الإنسان بمهمتيه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها وبما جهز‬ ‫به ليحققهما أي جهاز القدرة على النظر والعقد للمعرفة وجهاز القدرة على العمل والشرع‬ ‫للقيمة‪ .‬والقدرة الاولى تناسب استعماره في الأرض‪ .‬والقدرة الثانية تناسب استخلافه‬ ‫فيها‪ .‬والأولى لمعرفة قوانين الطبيعة اجتهادا معرفيا وتطبيقها جهادا قيميا والثانية لتقييم‬ ‫سنن التاريخ اجتهادا معرفيا وتطبيقها وجهادا قيميا‪ .‬والتذكير بالتربية مستغن عن الوسيط‬ ‫الروحي (دون كنسية) والتذكير بالحكم مستغن عن الوصي المادي (دون سلطة ذات حق‬ ‫إلهي) كما عليه الشأن في الأديان الاخرى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك لا تبقى للإنسان حجة على الله الذي لم يضعه في امتحان من دون الشروط‬ ‫الضرورية للنجاح فيه خاصة باعتبار انجازها فرضا عينيا لا يعتمد فيه على وسيط ولا على‬ ‫وصي‪ .‬ثم هو في الفرصة الثانية إذ إن الفرصة الأولى أضاعها لما عصى الأمر هو وحواء‬ ‫فأكلا من الشجرة التي توهما أنها ستمدهما \"بالتأله\" أي بالخلود الذي يمتنع على المخلوقات‬ ‫قبل الانتقال لعالم الخلد فيصبح البصر حديدا ويدرك ما كانت تخفيه سرائره التي لا‬ ‫يعلمها إلا الله‪.‬‬ ‫فتكون العلاقة هي حرفيا ما توقعته آيتا الميثاق عند اخذ أبناء آدم من ظهور آبائهم‬ ‫(الأعراف ‪ )173-172‬ليشهدهم على أنفسهم على التزامهم بمضمونه فلا يحجوا بسنهم أو‬ ‫بتربية سلفهم لهم تحميلا إياهم لمسؤولية أفعالهم بعد أن أتاهم التذكير بما في ما فطروا‬ ‫عليه مع التوكيد على أن الله لا يحاسب أحدا دون التذكير أي على ما يتقدم عليه‪ .‬وهو‬ ‫مزيد من ضمانة شروط العدل والحؤول دون التذرع بالنسيان‪ .‬وقد يعترض معترض‬ ‫فينفي بذلك امكانية ختم الرسالة‪ :‬وكان ذلك محيرا قبل أن أفهم دلالة فصلت ‪.53‬‬ ‫فهي جعلت التذكير كونيا وغنيا عن مواصلة التذكير برسالة بعد أن عرفته هذه الآية‬ ‫بكونه حاصلا دائما في الآيات التي يرينها الله في الآفاق والأنفس وهي عين ما يحتج به‬ ‫القرآن على الديني الكوني أو تبين حقيقة القرآن الذي هو الرسالة الخاتمة المذكرة‬ ‫بالرسالة الفاتحة أو الفطرة‪ .‬وهذا أيضا مطابق لمعنى عدم رجعية القانون على ما تقدم‬ ‫على وضعه في القانون الحديث‪ .‬ولهذه العلة فالقرآن يؤكد على كونية التذكير بمعنيين‪:‬‬ ‫كونية توزيعية كل أمة لها رسول بلسانها‪ .‬والإنسانية كلها لها رسالة كونية أخيرة تذكر‬ ‫بالرسالة الكونية الأولى المرسومة في كيان الإنسان العضوي والروحي فطره الله عليها وفي‬ ‫آفاقه الطبيعة والتاريخية‪.‬‬ ‫وتلك هي عناصر المعادلة الوجودية التي نخصص لها الفصل الخامس والأخير من هذه‬ ‫المحاولة‪ .‬وهذه المعادلة لا تكتمل لو لم يكن ما جهز به الإنسان مناسبا لما جهزت به الطبيعة‬ ‫والتاريخ خارج الإنسان وما جهز به كيان الإنسان العضوي والروحي المناظرين للطبيعة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والتاريخ من مناسبة لقيامه مع ما يتوفر في هما من شروط بقائه فتكون الطبيعة والتاريخ‬ ‫مصدر غذائه العضوي (الثروة خاصة) والروحي (التراث خاصة) حصيلتين لفعل جهازي‬ ‫المعرفة والعقد في النظر والقيمة والشرع في العمل‪.‬‬ ‫ولو كان الرسول يأتيه بمضمون علمي وعملي غير مرسوم في كيانيه العضوي والروحي‬ ‫وفي علاقتهما بالآفاق الطبيعية والتاريخية لكان ذلك يعني أن التراسل بين الله والإنسان‬ ‫مستحيل‪ .‬فلا بد من وجود إنسان يتذكر من دون حاجة إلى مذكر وإلا لكان الرسول بحاجة‬ ‫إلى رسول فلا يتوقف التسلسل‪ .‬ومن المتذكرين بأنفسهم يصطفي الله المذكرين لغيرهم‪.‬‬ ‫وإذن فتذكر البعض ومنهم الرسل وذوو البصيرة سابق على تذكير من يحتاجون بسبب‬ ‫غفلتهم ونسيانهم إلى مذكر‪ .‬ولذلك ففي القرآن تجد دائما شخصا ‪-‬راجع يس مثلا‪-‬يدعو‬ ‫الناس إلى اتباع الرسول دون أن يكون رسولا‪ .‬ومن هؤلاء الرجل الصالح الذي سماه‬ ‫المتصوفة كذبا الخضر وزعموه أعلم من موسى مثل زعم ابن عربي أنه خاتم الأولياء لبنة‬ ‫ذهبية ومحمد لبنة فضية‪.‬‬ ‫والظاهرة مطابقة لعموم الوحي وخصوص النبوة والرسالة‪ .‬فالوحي متقدم على النبوة‬ ‫والنبوة متقدمة على الرسالة‪ .‬والوحي تلق لآيات الله بالبصيرة والتحرر من الإخلاد إلى‬ ‫الارض الذي ينسي الإنسان ما هو مرسوم في الأنفس من حيث هي كيان الإنسان العضوي‬ ‫والروحي وفي كيان العالم الطبيعي والتاريخي‪ :‬وتلك هي الآفاق والأنفس التي جعل الله‬ ‫آياته فيها مصدر تبين حقيقة القرآن تبينا يفهمنا ختم الرسالات‪ .‬لكن البصيرة التي تدرك‬ ‫آيات الله في الآفاق وفي الأنفس وحي كوني أو تلق بالبصيرة وهو ليس مقصورا على البشر‬ ‫بل هو يشمل كل الموجودات (النحل مثلا أو ماطبة السماء والأرض) بخلاف النبوة‬ ‫والرسالة الخاصتين بالإنسان‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فغالبا ما يكون أول المؤمنين بالرسالات من هذا الجنس من ذوي البصيرة‬ ‫فيؤيدون الرسل مباشرة دون تلكؤ‪ .‬ولهم رمز في القرآن بأول المؤيدين للرسل ومنهم في‬ ‫تاريخ الاسلام الصديق وخديجة‪ .‬ولهذه العلة فالإكراه في الدين مستحيل وهو مناف للغاية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من التذكير الذي يوقظ التذكر ليفعل‪ .‬ونفس هذا المشكل نجده في الاخراج من الكهف في‬ ‫فلسفة أفلاطون‪ .‬والتعليم فلسفيا كان أو دينا لا يمكن أن يعتمد على الإكراه المنفر والحائل‬ ‫دون التذكر‪ .‬وتلك هي علة اعتبار ابن خلدون التربية العنيفة والحكم العنيف منافيان‬ ‫لحقيقة الإنسان وهما علة فساد معاني الإنسانية‪ .‬ويذكر خمس نتائج ضارة برئاسة الإنسان‬ ‫طبعا واستخلافا‪.‬‬ ‫والادواء الخمسة هي‬ ‫‪ .1‬انكماش النفس بالكسل عن النشاط العضوي‬ ‫‪ .2‬النفاق أو التناقض بين الظاهر والباطن‬ ‫‪ .3‬الخبث أو الكيد للغير دون علة وجيهة كالدفاع عن النفس‬ ‫‪ .4‬الخنوع وعدم الدفاع عن الذات والأهل‬ ‫‪ .5‬فقدان كل طلب للفضائل وتفضيل طلب الرذائل‪.‬‬ ‫وهي صفات تؤدي إلى تحول المرء إلى عالة على غيره فيرد أسفل سافلين عضويا وروحيا‬ ‫ويفقد كل إنسانية فيه ككل الشعوب الخانعة التي لا يبقى لها الا الحياة النباتية للبهائم‪.‬‬ ‫وهذه صفات الشعوب التي قبلت ذل الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي‪.‬‬ ‫فتكون العلاقة الحية بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب المرسومة في كيان الإنسان‬ ‫العضوي والروحي في كيان العالم الطبيعي والتاريخي هي جعل إرادة الإنسان حرة وعلمه‬ ‫صادقا وقدرته خيرة وحياته جميلة ورؤيته جليلة‪ .‬وكل هذه الصفات هي أخلاق القرآن‬ ‫وهي معنى اليقظة التي تمثل الواحد المشترك بين الديني والفلسفي‪ .‬وهي التي لا تتحقق‬ ‫للإنسان إلا إذا بقي في علاقة مباشرة بربه صاحب الحرية المطلقة والعلم المحيط والقدرة‬ ‫الخيرة بإطلاق والحياة السرمدية والوجود الذي يجود بكل ذلك‪ .‬وهي علاقة لا تفارق‬ ‫الوعي الإنساني إذ حتى نفيها فهو تذكر سلبي بمعنى أن النافي لا بد أن يذكر ثم يرفض‬ ‫الذكرى النافعة بلسانه عكس وجدانه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ذلك كله يجري في مناخ درامي هو حبكة نص القرآن وفيه قطبان هما الله والإنسان‪.‬‬ ‫ومدار الدراما حول ما يبدو من خروج الإنسان عن السيطرة بسبب ما يوفره له جهازاه‬ ‫المعرفي والقيمي من حرية الاختيار وميله لأيسر الخيارين أي الاستسلام لأدنى جهد في‬ ‫مقاومة الاخلاد إلى الأرض بحيث صار وكان ما قالته فيه الملائكة أقرب إلى طبعه وصار‬ ‫الأمر وكأن تحدي الشيطان لبيان عدم أهليته للاستخلاف أقرب إلى حقيقته‪ .‬لكن القرآن‬ ‫يعول على استثناء العصر للبعض من الخسر بفضل الوعي الموجب وثمراته الاربع أي‬ ‫الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫فيكون التاريخ الإنساني كله هو هذه الدراما التي بطلها الإنسان من حيث هو في تنازع‬ ‫دائم مع ذاته تذكرا ونسيانا اقترافا للسيئات وتداركا بالحسنات مشدودا إلى قطبين هما‬ ‫قطب الاخلاد إلى الأرض وقطب التشوف إلى ما يسمو عليها‪ .‬وكل ذلك مادة لحوار دائم‬ ‫بين الإنسان وربه عرفانا بعلاقة مباشرة وكفرانا بها‪ .‬والكفران بها لا ينفي وجودها بل‬ ‫يرفض التصديق بها‪ .‬ولذلك فالإلحاد ليس نفيا لهذه المقومات في وعي الإنسان بل إن عدم‬ ‫الاعتراف بها من أدلة استحالة التخلص من وجودها في كيان الإنسان وكيان عالمه‪.‬‬ ‫ولا يمكن قرآنيا أن يكون ذلك مفهوما لو أن الله أراد أن يثبت أهلية آدم مع ذلك‬ ‫للاستخلاف ولذلك فالدراما القرآنية تجعل الله قد قبل تحدي ابليس فانظره إلى يوم‬ ‫الدين لأن غاية الرهان هي فعلا اثبات أهلية آدم للاستخلاف‪ .‬والمعلوم أن القرآن يعلمنا‬ ‫بأن الله إنما خلق الإنس للعبادة (ومعهم الجن) أي لتحقيق شروط أهلية آدم للتعمير‬ ‫والاستخلاف‪ .‬وذلك هو علة اقتناع كل مسلم بالفلاح في الغاية لتكون الأمة شاهدة على‬ ‫العالمين‪ .‬وهو سر استحالة يأس المسلم وعلة تفاؤله الدائم الذي يظنه الكثير فاتاليسم كما‬ ‫توهم لايبنتس‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فيعسر أن تجد مسلما يشك في النصر في أي معركة تدخلها الامة حتى لو‬ ‫حدثت انكسارات لإيمانه بأنه منصور في الغاية وعدا من الله الذي لا يخلف وعده‪ .‬ولعل‬ ‫أفضل مثال في عصرنا حروب الأمة مع اسرائيل والسند الغربي الذي يبدو وكأنه ضام‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لنصرها علينا ولاستحالة نصرنا عليها‪ .‬لكن لا يوجد مسلم بحق يشك لحظة في دلالة الإسراء‬ ‫وذلك بعض من علل اختياري شعار تفسيري الفلسفي منها (الآيتان ‪ .)106-105‬فلا يمكن‬ ‫أن يكون القرآن حقا إنزالا ونزولا (فلسفة الدين) وتنزيلا على النوازل (فلسفة‬ ‫التاريخ) ثم لا يصدق في ما جاء في الإسراء حول نصرنا الحتمي على أعدى أعداء الأمة‪.‬‬ ‫واستبدال فهم أسماء الله على أنها محيلة إلى صفات تنسب إلى الذات بأفعال الله التي‬ ‫تتعلق بأنواع فعلي الخلق والأمر هو ما يلغي كل إمكانية للقول بالتعدد في ذات الله والبحث‬ ‫عن علاقة بين الذات والافعال التي تقبل إلى الرد إلى فعلين هما فعل الخلق وفعل الأمر‬ ‫الغيبيين‪ .‬وهما موازيان في القرآن لمعنى القضاء (فعل الخلق) والقدر (فعل الامر)‪ .‬ومن‬ ‫الثاني الشرائع‪ .‬ومن الاول الطبائع‪ .‬وكل المخلوقات زوجية حتما لأن فيها بعد الخلق (أي‬ ‫تعين الوجود الفعلي أو الإنية‪ :‬تعين الموجود‪ )Dasein-Existence‬وبعد الأمر أي كيفية‬ ‫الوجود الماهوية (الماهية‪ :‬هوية الموجود ‪.)Sein-Etre‬‬ ‫وما جهز به الإنسان فيه شيء منهما لأنه ما مكن منه من قدرة على الاستعمار في الأرض‬ ‫شرطا لقيامه العضوي وقدرة على الاستخلاف فيها شرطا لقيامه الروحي‪ .‬فالاستعمار‬ ‫بحاجة إلى خلق نسبي يمكن الإنسان من استمداد ما يعيله منها بعمل على علم بقوانينها‪.‬‬ ‫والاستخلاف بحاجة إلى أمر نسبي يمكن الإنسان من استمداد ما به ينظم علاقته بغيره‬ ‫وبالطبيعة وبالتاريخ وقبل ذلك بذاته وبربه‪ .‬فالإنسان معمر للأرض شرط بقاء ومستخلف‬ ‫فيها شرط خيرية البقاء وحسن الخاتمة‪.‬‬ ‫إنها السياسة بالمعنى العميق للكلمة وفيها وجهان أحدهما يكون الإنسان والثاني وهو‬ ‫التربية العضوية والروحية والثاني يحميه من غيره إنسانا كان أو أي ملوق آخر يمكن أن‬ ‫يعتدي عليه وهو الحكم أي الوزع الأجنبي والذاتي (بلغة ابن خلدون)‪ .‬فالسياسة هي‬ ‫رعاية الإنسان وحمايته من حيث كيانه العضوي وكيانه الروحي ويحتاجهما كذلك عالمه‬ ‫الطبيعي والتاريخي‪ .‬وتلك هي علة علاقته بالطبيعة شرط قيامه المستمد منها بالنظر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والعقد وتطبيقاتهما ومن التاريخ شرط بقائه المستمد منه بالعمل والشرع وتطبيقاتهما‪:‬‬ ‫وذلك هو مضمون ما تذكر به الرسالة الإنسان ليحقق وظيفتي للاستعمار والاستخلاف‪.‬‬ ‫فتكون سياسة عالم الشهادة المشدودة إلى عالم الغيب هي جوهر العبادة التي لم يخلق‬ ‫الله الإنسان (والجن) إلا من اجلها‪ .‬وإذن فيمكن تعريف الإنسان قرآنيا بكونه الكائن‬ ‫المستعمر في الارض والمستخلف فيها والذي هو \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬ ‫له\" (تعريف ابن خلدون) لأنه مكرم وحر ولا معبود له سوى الله وحده‪ .‬وهذا التعريف‬ ‫الذي يلخص كل ما تذكر به الرسالة هو الذي يجعلها خاتمة لأنه لا يمكن تصور إنسان يمكن‬ ‫أن ينسى هذا الفهم لكيانه وعلاقته بكيان عالمه إذ هو ملازم له والرسالة الأخيرة أطلعته‬ ‫على ذلك وخيرته بينه وبين الاخلاد إلى الأرض دون عذر يحتج به يوم الدين‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن المشاركة في سياسة عالم الشهادة بهذا المعنى فرض عين وليست فرض‬ ‫كفاية‪ .‬وكل من تنوبه الجماعة لا يجعل فرض العين يلغي بل هو يتحول إلى مهمتين هما‬ ‫التنويب ومراقبة النائب فرضا عين وهو معنى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬ومن ثم‬ ‫فكما لا يوجد وسيط في الفروض التعبدية من حيث هي شعائر‪-‬في المسيحية واليهودية‬ ‫والتشيع القداس يكون فيه رجل الدين وسيطا‪ -‬فإنه لا يوجد وصي في الفروض السياسية‬ ‫(في المسيحية واليهودية والتشيخ الحاكم بالحق الإلهي) وذلك هو معنى الامر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر شرط إيمان (آل عمران ‪ )104‬وشرط الانتساب إلى خيرية الأمة (آل‬ ‫عمران ‪.)110‬‬ ‫فيمكن القول إن العلاقة بين المرسل (الله) ومضمون الرسالة (ما تذكر به) هي بيان‬ ‫فضل الله على الإنسان تكريما وتكليفا وبيان ما على الإنسان إنجازه لإثبات أهليته‬ ‫للاستخلاف الذي هو معنى ما لأجله خلق الله الإنسان أي عبادته دون سواه‪ .‬وتعني عبادته‬ ‫دون سواء التحرر من كل معبود سواه‪ :‬وهو معنى الانشداد إلى القيم المثالية الخمسة‪.‬‬ ‫وهذا المضمون الواصل بين جود الله وعرفان الإنسان مستمد من الآيتين ‪ 106-105‬أي من‬ ‫علاقة الحق النازل مضمونا ومنهجا (فلسفة الدين) والحق المنزل على النوازل تنزيلا يعين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook