Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore علوم الملة وتحريفها، ضروبها الغائية وضروبها الآلية - أبو يعرب المرزوقي

علوم الملة وتحريفها، ضروبها الغائية وضروبها الآلية - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-08-26 17:36:02

Description: علوم الملة وتحريفها، ضروبها الغائية وضروبها الآلية - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫علوم الملة وتحريفها‬ ‫ضروبها الغائية وضروبها الآلية‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪7 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪13 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪20 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪26 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫استسنحت فرصة ما قاله أحد الباحثين المدافعين عن علم السلفيين وجهل الحداثيين‬ ‫وعدني من هؤلاء في مسالة أصول الفقه موردا شاهدا استدل به على دافعي الذي يعتبره‬ ‫نتيجة الجهل لبيان التحريف الجوهري للفقه وأصوله عامة وليس السلفي منه فسحب‬ ‫وسأستعمله كذلك لبيان تحريف علم الملة كلها ومنها خاصة علم الكلام كله وليس بعضه‪.‬‬ ‫وسيكون الوصل بين السانحتين تحريف الحديث فيهما كليهما لتعلقه من حيث طبيعته‬ ‫(حديث) ومضمونه (السياسة)‪ .‬وهذا هو المشترك بين نوعي الأصول الشرعية (في‬ ‫الفقه) والأصول العقدية (في الكلام)‪ .‬ولا يهمني إن كان الحديث صحيحا أو منحولا على‬ ‫الرسول لأن دلالته من دون التحريف قابلة للنسبة إلى الرسول‪.‬‬ ‫وأعني به الحديث الذي يعتبر أصل أصول الجامية عند التحريف وأصل أصول الثورة‬ ‫الإسلامية عند تخليصه من التحريف‪ .‬وهو حديث مفاده \"من أطاعني في فقد أطاع الله‬ ‫ومن أطاع ولي الأمر فقد أطاعني وأطاع الله‪ .‬ثم العكس من عصاني إلخ‪ .\"...‬وتحريفه‬ ‫ينتج عن مبدأ أصولي يصاغ عادة \"المعنى في الأحكام الشرعية والعقدية بعموم اللفظ\"‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن التحريف مصدره الاستعمال الرديء لأحد علوم الآلة‪-‬اللسان‪-‬لأن عموم‬ ‫معنى اللفظ فيه خطآن‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول هو ربط المعنى باللفظ وعمومه بعمومه وهو خطأ أساسه توهم ألفاظ اللغة لها‬ ‫دلالة بذاتها خلطا بين غلبة بعض الوصل بينها وبين الدلالات الغالبة إلى حد الالتصاق‬ ‫بالألفاظ منعزلة عن سياقاتها‪ .‬لكن الألفاظ ليس لها معنى بذاتها بل بمنزلتها في النظام‬ ‫الرمزي أولا وفي نظام التناظر رمع نظام المرموز ثانيا‬ ‫‪ .2‬والعموم ليس مرسلا بل يتحدد بمجال الخطاب ومعنى ذلك أن الألفاظ تخضع وإن‬ ‫بشيء من المرونة بمجال استعمالاتها الغالبة على مجال من المجالات فتصبح لها دلالة شبه‬ ‫اصطلاحية فيه فيكون عمومها مقصورا علية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكني لا أعتقد أن الأصوليين من الجنسين يجهلون بإطلاق هذين الاعتراضين بل هم‬ ‫يتياسرون حتى يجعلوا التحريف المراد ممكنا‪ .‬وهو تحريف مقصود لتدجين المعاني الصارمة‬ ‫للشرع خدمة للمستبدين‪ .‬وقد أخذت هذا الحديث ‪-‬بصرف النظر عن صحته أو عدمها‬ ‫ولن أبحث في ذلك لأن الأمر ثانوي إذ يمكن أن يكون الرسول قد قاله بمعناه غير المحرف‬ ‫ويستحيل أن يكون قد قاله إذا فهمناه \"جاميا\"‪.‬‬ ‫فجاميا يقرأ الحديث من نهايته إلى بدايته بمنطق أعرج‪ :‬طاعة ولي الأمر من طاعة الله‬ ‫لأنها من طاعة رسول الله‪ .‬وهو قياس مخاتل‪ .‬هكذا يفهم الحديث المنسوب إلى الرسول‬ ‫والمعلوم أنهم في الممارسة يقدمون الحديث على القرآن والبخاري عندهم مصدر شبه مقدم‬ ‫على القرآن على الأقل كما إن لم يكن كيفا‪ .‬إذ هو أهم أركان فقههم‪ .‬وليست ضد ذلك‪.‬‬ ‫\"لست ضد ذلك\" لا تعني أني معه ما دمت أرفض نوعي الأصول جملة وتفصيلا لأنها عندي‬ ‫محرفة للقرآن في أحكامه الشرعية والعقدية بالجوهر‪ .‬وقد بينت ذلك بالنسبة إلى أصول‬ ‫الفقه في حواري مع الشيخ البوطي وفي عديد المحاولات التي ولته‪ .‬وكذلك فعلت بالنسبة‬ ‫إلى علم الكلام وأصوله الذي هو أكثر تحريفا من الفقه وأصوله‪ .‬وأبدأ بتوضيح أول‬ ‫بمجرد وضع المقدرات في النص‪:‬‬ ‫• فالمقدر الأول من أطاعني فقد أطاع الله ضميرها لأني رسوله وأطبق أوامره ونواهيه‬ ‫بأمانة وعدل وقد عرفت بأني الصادق الأمين‪.‬‬ ‫• والمقدر الثاني من أطاع ولي الأمر فقد أطاعني ضميرها لأني لا أولي إلا من كان‬ ‫حائزا قدر الإمكان هذه الصفات‪.‬‬ ‫المقدر الثالث هو النتيجة ‪-‬مع فرض التعدية في القياس‪-‬من أطاع ولي الأمر أطاعني ومن‬ ‫أطاعني أطاع الله‪ .‬وإذن فمن أطاع ولي الأمر فقد اطاع الله ضميرها مبدأ التعدية في‬ ‫التولية السياسية المتعلقة بالتربية والحكم من حيث انتقال سلطة المبادئ الشرعية من مكلف‬ ‫أول بإنفاذها إلى مكلف ثان‪ :‬أساس الإنابة في السلطة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والمقدر الرابع هو بعد وفاة الرسول انتقلت الإنابة الأولى من الرسول إلى صفاته ومنها‬ ‫إلى من يقرب منها باستثناء تلقي الوحي معايير تحدد بها الامة من يمكن أن يخلفه‪ .‬فكان‬ ‫الحاصل على ما يقرب منها جديرا بالخلافة‪ .‬لكن اختياره يكون بالانتخاب الحر أو البيعة‬ ‫التي هي شبه تحديد للأهلية الاستخلافية‪ .‬وهو الضمير الرابع‪.‬‬ ‫المقدر الأخير الجامع لكل هذه الضمائر التي أحصيتها والتي يهملها الجامي والفقه عامة‬ ‫تستمد أصلها من ضمير كوني قرآني‪ :‬الإنسان الحر مكلف بأمره وذلك هو أصل الأهلية‬ ‫للخلافة من حيث هي نيابة سلطة الأمة التي لأن الأمر أمرها بمقتضى الشورى ‪ .38‬وإلغاء‬ ‫هذه الضمائر التي تجعل الحديث قابلا لأن يكون صحيحا هو ما أسميه تحريفا \"جاميا\" في‬ ‫الفقه وأصوله‪ .‬فيصبح كل من يتولى الأمر بالاغتصاب وكأنه مولى من الرسول المولى من‬ ‫الله ثم مولى من الأمة بعد وفاة الرسول ثم مولى كإنسان مكلف رغم أنه ليس له أي من‬ ‫هذه الصفات المضمرة في الحديث‪.‬‬ ‫ومثلما أن التحريف يقرأ الحديث من غايته إلى بدايته دون اعتبار للضمائر التي فيه‬ ‫فإن القراءة السوية هي التي تقرأه من بدايته إلى غايته بضمائره‪ :‬فيكون الحديث الله‬ ‫ولى رسوله مهمة التربية والحكم لما يتصف به من تمثيل حقيقي لحقيقة الإنسان المكلف‬ ‫أمانة وعدلا وهو لا يكلف إلا من أتصف بهما وذكره بصورة حصرية أنه‪:‬‬ ‫• ليس إلا مذكرا بمعنى أنه ليس وسيطا بين الله والمؤمنين لتبقى العلاقة مباشرة بينهم‬ ‫وبين ربهم‪.‬‬ ‫• وليس مسيطرا عليهم في أمرهم لتبقى العلاقة مباشرة بينهم وبين حريتهم في اختيار‬ ‫من يولونه أمرهم نائبا عنهم وخاضعا لشوراهم‪.‬‬ ‫وتلك هي شروط الإنابة التي بعد وفاته تصبح من واجابات الأمة صاحبة الأمر دون سواه‬ ‫وليست من حقوقها فحسب‪ .‬وهذا هو النقض التام للجامية‪ .‬ودليله الآية ‪ 38‬من الشورى‪.‬‬ ‫فالأمر أمر الجماعة وإدارته تكون بشوراها وذلك أولا لأنه بذلك تكون قد استجابت لربها‬ ‫وعالجت علـة أمراض الجماعة بالأمانة والعدل في الانفاق من الرزق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبهذا المعنى فالفقه كله وليس الجامية وحدها جعلت الحديث يبرر الموجود ويحول دون‬ ‫المنشود على الأقل في الأفعال لأن الأقوال ما تزال تتكلم على العصر الراشدي بوصفه مثالا‬ ‫أعلى وتنسى أنه ليس أعلى لأنه عصر السلف بل لأن السلف كانوا أقرب ما يكون للفهم‬ ‫الذي لم يلغ ضمائر هذا الحديث الخمسة التي بينا دلالتها‪.‬‬ ‫وهم كانوا خاصة يمارسونه ولا يسمعونه حديثا قابلا للتحريف‪ .‬وقد حاولت أن أجد‬ ‫مخرجا مشرفا للفقهاء الأول بفكرة قانون الطوارئ المؤسسة على الضرورة التي تبيح‬ ‫المحظور شرطا في التغلب على ما ترتبت على الفاتنة الكبرى من حروب أهلية تقتضي حالة‬ ‫الطوارئ وتعطيل الدستور والحكم بقوانين خاصة‪.‬‬ ‫لكن تعطيل الدستور وحالة الطوارئ التي عللته ظلت قائمة إلى اليوم أي أكثر من ‪14‬‬ ‫قرنا وصار تبريرها الفقهي هو الغالب على الأصل الذي هو نقيضها المطلق كما بينت في شرح‬ ‫هذا الحديث من منظور محرفيه ثم من منظور نسبته إلى الرسول‪ .‬فبشار أو السيسي أو‬ ‫أي من حكامنا لا يمكن أن يكون نائبا شرعيا للأمة فيطاع كما يطاع الرسول ويسمى ذلك‬ ‫طاعة لله بتوسط طاعة الرسول‪.‬‬ ‫وما حدث في أصول الشرع ناظره ما هو أخطر في أصول العقد‪ .‬لكن التحريف هنا لم‬ ‫يقتصر على الحديث في مسألة الحكم بل ذهب إلى أصل التحريف فيهما كليهما أعني في‬ ‫مسألة الفرق بين العلم الإلهي المحيط والعلم الإنساني الذي هو نسبي ولا يحيط بعلم الله‬ ‫إلا بما شاء وهو قليل‪.‬‬ ‫فقد حرفوا آل عمران ‪ 7‬فكانوا بذلك مصابين بزيغ القلوب وابتغاء الفتنة لما قلبوا\"واو\"ـها‬ ‫من معنى الاستئناف إلى معنى العطف مدعين أن الرسوخ في العلم يجعلهم قادرين على تأويل‬ ‫المتشابه بضمير علم الغيب مثل الله الذي عطفوا تأويلهم على تأويله للمتشابه‪ .‬فـكانوا في‬ ‫ذلك مثلهم مثل الفلاسفة وصاروا باطنية مثلهم‪.‬‬ ‫وقد عرف ابن خلدون هذا التحريف بلغة فلسفية لم تعرف في الفكر الغربي الحديث إلا‬ ‫بفضل النقد الكنطي فسمى هذا التحريف بـ\"وهم رد الوجود إلى الإدراك\" مبينا أن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإدراك لا يطابق الوجود ولا يحيط به بل هو منظور نسبي إلى ما يمكن للإنسان علمه‬ ‫منه‪ .‬وهو معنى حاول الغزالي وابن تيمية صوغه بوضوح أقل‪.‬‬ ‫فبمفهوم قريب من هذا المفهوم الحد الخلدوني شكك الغزالي في الإحاطة العقلية بالوجود‬ ‫مستعملا مفهوم \"طور ما وراء العقل\" في المنقذ‪ .‬لكنه نقص دونه عندما تصور أن الإحاطة‬ ‫ممكنة بالكشف الصوفي‪ .‬لكن ابن تيمية أخذ طريقا أخرى عندما وضع مفهوم التكامل‬ ‫اللامتناهي في التصور ومن ثم امتناع المطابقة‪.‬‬ ‫ورغم أن حل ابن تيمية أقل وضوحا من حل ابن خلدون فإنه أبعد غورا وأشد عمقا لأنه‬ ‫جعل الإحاطة الإلهية في العلم تنتسب إلى اللامتناهي والإدراك العلمي الإنساني إلى‬ ‫النسبية دائما دون أن يقضي في امتناع المطابقة بإطلاق لأنها مذكورة في الإسلام باعتبارها‬ ‫حاصلة في الحياة الأخرى يوم يصبح البصر حديدا‪.‬‬ ‫وإذن فعلم الكلام الذي يدعي أصحابه الدفاع عن الدين بالحجج العقلية وقعوا ضحية‬ ‫لحكمين مسبقين ورثتهما الثقافة الإسلامية عن الفلسفة اليونانية هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬العالم الطبيعي هو العالم الوحيد ولا يوجد غيره إذ حتى ما بعد الطبيعة فهو البحث‬ ‫في مبادئه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وعلمنا بهذا العالم في ذاته وعلى ما هو عليه ممكن للإنسان ما يعني تجاهل وجود ا‬ ‫لغيب الذي ظن من نفس طبيعة الغائب الذي يقيسونه على الشاهد‪.‬‬ ‫وهذا الموروث أفلاطوني أرسطي‪ .‬وهـما يزعمـان تأسيسه على دحض السفسطة‪ .‬لكنه‬ ‫دون الرؤية السفسطائية بكثير لأن كبار السفسطائيين لم يقولوا ذلك بل قالوا إن الإنسان‬ ‫مقياس كل شيء موجوده ومنشوده دون أن يردوا الوجود إلى ما يقاس على الإنسان بل‬ ‫ردوا علمه إلى ما يقاس عليه دون سواه بمعنى أن علم الإنسان لا يتجاوز ما هو إضافي إليه‪:‬‬ ‫وإذن فهم أقل سفسطة من أفلاطون وأرسطو‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن السفسطائيين بخلاف ما يقول عنهم أفلاطون وأرسطو ليسوا أولا كلهم‬ ‫سواء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وثانيا هم لم يدعو أن ما يعلمونه هو الحقيقة المطلقة بل هم يقولون إن ما يعلمونه هو‬ ‫الممكن للإنسان علمه من الوجود وما عداه إما غير موجود أو غير معلوم أو غير قابل للقول‪.‬‬ ‫وهي ثلاث مستويات انفتاحية مهمة‪.‬‬ ‫وهذا الانفتاح بمستوياته فيه تواضع كبير وفيه عدم إطلاق للعلم وفيه خاصة انفتاح على‬ ‫تعدد الرؤى وعدم الزعم بأن علمنا للحقيقة واحد حتى لو سلمنا بوحدة الحقيقة‪ .‬لكن‬ ‫حتى لو سلمنا بوحدة الحقيقة فإن ذلك ليس كافيا ليجعلنا ندعي أن علم الإنسان مطابق‬ ‫لها‪ .‬فإذا وجدت فعلمها لا يمكن لغير الله‪ :‬وذلك هو مفهوم ولا يحيطون بشيء من علمه‬ ‫إلا بما شاء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ضروب علوم الملة الغائية الخمسة (التفسير وفروعه الأربعة‪ 2 :‬نظريان الكلام‬ ‫والفلسفة‪ .‬واثنان عمليان‪ :‬الفقه والتصوف وما عداهما فروع الفروع لا حاجة لذكرها)‬ ‫وضروب علومها الآلية الخمسة (الوسميات وفروعها الأربعة‪:‬‬ ‫• اثنان يغلبان في الدين وهما اللغة والتاريخ‬ ‫• واثنان يغلبان في الفلسفة وهما المنطق والرياضيات)‪.‬‬ ‫وهذه العلوم عالجتها جميعا وبينت التحريف في العلوم الغائية والتقصير في العلوم الآلية‪.‬‬ ‫لكن العلاج كان بصورة شديدة التعيد والتجريد‪ .‬وفي هذه المحاولة والتي تقدمت عليها في‬ ‫تحريف أصول الفقه سأهتم بشيء من التعيين‪ .‬وقد يكون فيه بعض التبسيط بفضل ضرب‬ ‫أمثلة يفهمها حتى القارئ غير المختص في هذه الفنون وما ترتب عليها من فشل‪.‬‬ ‫وما أعنيه بالفشل محدد بدقة‪ .‬فإذا كانت هذه العلوم متعلقة بتحقيق شروط تعمير‬ ‫الأرض (وهي مهمة الإنسان الأولى قرآنيا) بشروط جعل التعمير يكون بقيم الاستخلاف‬ ‫(وهي مهمته الثانية لامتحان أهليته للاستخلاف خلال إنجاز المهمة الأولى) فلا أحد منها‬ ‫حقق شروط التعمير ولا شروط الاستخلاف‪ .‬وتلك هي علة الانحطاط والتخلف الذي آل‬ ‫إليها أمرنا لحظة المنعرج الذي حصل في أوروبا التي تجاوزتنا بالتعمير خاصة‪.‬‬ ‫وقد يعجب الكثير عندما يسمعني أقول إن علة هذا الفشل هـي بخلاف ما يتوهم‬ ‫الحداثيون عين العلة التي جعلتهم هم بدورهم يصبحون علة الفشل الثاني في قرني‬ ‫محاولات النهوض‪ .‬فالفلسفة في التقائنا بها أول مرة حولتها الباطنية إلى أداة أيديولوجية‬ ‫لا علاقة لها بالتعمير والعلم‪ .‬وكذلك يفعل أدعياء التحديث من النخب العربية الآن‪.‬‬ ‫وقصدي أن ما جناه أفلاطون وأرسطو لما تحولا إلى مدرسية إيديولوجية على \"الفلاسفة‬ ‫والمتكلمين\" في النظر والعقد وعلاقتهما الطبيعة وما بعدها وعلى \"الفقهاء والمتصوفة\" في‬ ‫العمل والشرع وعلاقتهما بالتاريخ وما بعده تكرر ثانية بما جناه هيجل وماركس على‬ ‫حداثيينا الذين هم من جنس باطنية الماضي وفلاسفته إيديولوجيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وحتى لا يساء فهمي فلست أقصد بذلك أن علماء السنة و\"فلاسفتها\" كانوا عباقرة بل هم‬ ‫من حيث العلم المحقق للتعمير والاستخلاف لا يقلون عن الباطنية و\"فلاسفتها\" تخلفا لأن كل‬ ‫ما فعلوه كان \"الرد بالتحريم\" وليس اكتشاف البديل أو التجاوز من جنس سخافات ردود‬ ‫أدعياء التأصيل الحاليين على ماركس وفرويد وداروين والملحدين‪.‬‬ ‫وحتى ردود الغزالي وابن تيمية وابن خلدون على أهميتها وثورية حدوسها فإنها ظلت‬ ‫ردود فعل لم تطور هذه الحدوس والفتوحات النقدية التي كانت دفاعية في الغالب وتنتهي‬ ‫دائما إلى ما يشبه سد الذرائع وليس إلى البحث عن بدائل تؤسس لمرحلة جديدة في تأسيس‬ ‫العلم لاكتشاف شروط التعمير والاستخلاف المؤثرة حقا‪.‬‬ ‫ولست أشك لحظة واحدة أن نوعي النخب ‪-‬التي تدعي التأصيل والتي تدعي التحديث‪-‬‬ ‫ستعتبر محاولاتي فيها الكثير من الاعتداد بالنفس لأنه ليس من اليسير قبول اعتبارهما‬ ‫كليهما يمثلان كاريكاتورين مما يزعمون تمثيله خاصة والتدليل عليه قد يعسر اتباعه‬ ‫لفرط ما فيه من تجريد فضلا عما فيه من دقيق التخصص‪.‬‬ ‫فالكلام على فلسفة أرسطو وأفلاطون في فلسفة المسلمين الوسيطة والكلام على هيجل‬ ‫وماركس في فلسفة المسلمين الحديثة بدراية فعلية تتجاوز ثقافة الصحافة ليست بعد مما‬ ‫توفره الجامعات العربية والإسلامية إلا بمعنى تدريس عموميات التاريخ السريع الذي لم‬ ‫نعد لشروط تجاوزه في أنظمة التكوين‪.‬‬ ‫وعندما أقول دقيق التخصص فلست أعني بذلك علما لدنيا أو مهارة خارقة للعادة بل هي‬ ‫اطلاع على ما في متون هؤلاء الفلاسفة الأربعة من علاقة بشروط التعمير والاستخلاف أي‬ ‫علوم الطبيعة وما بعدها للأولين وعلوم الإنسان وما بعدها للثانيين ومجموعهما عند هؤلاء‬ ‫الأربعة الذين مثلوا سجن فكرنا الوسيط والحديث‪.‬‬ ‫وسأكتفي بمثالين من علوم القدامى وبمثالين من علوم المحدثين‪ .‬ألا يعتبر ابن رشد غاية‬ ‫ما وصل إليه فهم الفلسفة الأرسطية؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حسن‪ :‬هل يمكن لأحد أن يقدم لي مثالا واحدا أسهم فيه ابن رشد وكان ذا فائدة في‬ ‫تعمير الارض أو في تحقيق شروط الاستخلاف حتى بمستوى ما قدمه أرسطو قبله بـ‪ 16‬قرنا؟‬ ‫وحتى لا يحتج بأني ضد الرشدية مبدئيا وخاصة الرشدية المحدثة التي يمثلها الجابري‬ ‫فلأقدم مثالا من الغزالي الذي اعتبر من مفضليه عليه‪ .‬هل تجاوز أحد ما أقحمه هو وقبله‬ ‫ابن حزم وحتى الفارابي في أصول الفقه من اعتماد على منطق أرسطو في التصديق والتصور‬ ‫مع عدم الوعي بضرورة تجاوزه في نظرية القيم الـخمس لأفعال العباد القرآنية؟‬ ‫ولأمر للمثالين من المحدثين فلاسفة ومتكلمين‪ .‬فمن من الفلاسفة في ثقافتنا الحديثة‬ ‫يمكن اعتباره أضاف شيئا للماركسية وساهم في تطورها بالنقد الذاتي الذي نجده عند كثير‬ ‫من الماركسيين الغربيين؟‬ ‫أم هم ببغاوات مثل ما كان القدامى ببغاوات لأرسطو بالمعنى الذي جعل الفارابي يقول‬ ‫قولته الشهيرة في كتاب الحروف \"العلم اكتمل مع أرسطو ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم\"؟‬ ‫ومن من متكلمينا في ثقافتنا الحديثة تجاوز مأزق تبني كل \"مفكري\" الإسلام السياسي‪-‬‬ ‫وهم متكلمون جدد بل أقل من ذلك بكثير ولا يتعدى مستواهم مستوى الصحافيين همهم‬ ‫التكيف مع الموجود حتى يقال إنهم حداثيون بالشعارات على الأقل لتبرير التقليد البليد‪-‬‬ ‫يدري أنه مركس رؤية الإسلام بتبني مفهوم الصراع الجدلي بـما يظن معاني قرآنية وهو‬ ‫ضده تماما أعني مفهوم التدافع الذي يكثر الإسلاميون من استعماله بغير وعي بدلالته‪.‬‬ ‫فما أظن أحدا يجهل أن التدافع يعني علاقة بين طرفين كلاهما يدفع الثاني وتلك دلالة‬ ‫المشاركة في الدفع‪ .‬فهل القرآن فيه هذا المعنى أم عكسه تماما؟‬ ‫فهو يتكلم على دفع الله الناس بعضهم بالبعض‪ .‬هل هذه علمية جدلية بالمعنى الهيجلي‬ ‫أو الماركسي أم هي لتحرير الإنسانية من المنطق الصدامي فيهما؟‬ ‫فالناس يدفعون ولا يتدافعون والله يَدفع ولا ُيدفع‪.‬‬ ‫ولست ألومهم على ذلك بل أصف ما هو حاصل حتى نفهم أن الفكر في الحقبتين ولدى‬ ‫الاتجاهين الغالبين على الصفين المزعومين للتأصيل وللتحديث لم يتجاوز ما عليه بقية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الشؤون عندنا‪ :‬نستورد كل شيء بما في ذلك المضمونات الفكرية التي ماتت عند أهله‬ ‫وبقيت عندنا من جنس اللوبانة الممضوغة والمرمية في المزابل الفكرية‪ .‬من يعمر الأرض‬ ‫بفكر الماركسية؟ هو يخربها ولا يعمرها‪ .‬وهو ينفي مفهوم الاستخلاف من أصله‪.‬‬ ‫ولأعد إلى القدامى‪ .‬من يمكن أن يعمر الأرض والعالم بالفيزياء الأرسطية؟ من يمكن‬ ‫أن يكون ذا عقل ويعود إلى فلك أدقسس حتى بالمقارنة مع بطليموس؟‬ ‫ذلك ما تصوره ابن رشد ممكنا في شرحه للمقالة ‪ 12‬من ما بعد الطبيعة بتفسير سياسي‬ ‫لوحدة نظام العقول المحركة للأفلاك أمراء عند المحرك الأول‪.‬‬ ‫ولو كان حقا كما يزعمون فاهما لأرسطو وممثلا لمدرسته لما اعتمد على تفسير نظام‬ ‫العقول المحركة الأرسطي بنموذج سياسي لعلة بسيطة وهي أن أرسطو يعتبر حركة الأفلاك‬ ‫خاضعة للضرورة الطبيعية التي هي من جنس القوى الطبيعية والتي لها القدرة على فعل‬ ‫واحد وليس عليه وعلى ضده كما في افعال القوى العاقلة ومنها الإنسانية‪ :‬فالعقول الفلكية‬ ‫الارسطية ليست مختاره بل مضطرة‪ .‬ولو كانت العقول أمراء عند العقل الأول المحرك‬ ‫للكل لوجد بينها من لا يطيع فلا يوجد نظام طبيعي‪.‬‬ ‫أما لو عدت إلى نجوم قراء التراث ‪-‬وما أكثرهم‪-‬وخاصة نقاد القرآن والسنة والإسلام‬ ‫فمن يدرك سخافاتهم قد يموت من الضحك على دعواهم مقارنة النص بالواقع وتأويله في‬ ‫ضوء الواقع‪ .‬والغريب ألا أحد من هذه النجوم تساءل من أين له دراية بالواقع؟ هل‬ ‫الرؤية الماركسية للواقع هي الواقع كما يتوهم أبو زيد؟‬ ‫هل يوجد أحد له ذرة من الفكر العلمي يمكن أن يعتبر ما يكتبه أركون أو الشرفي أو‬ ‫الصديق أو الطالبي معرفة فضلا عن أن يكون علما؟ هؤلاء خرافون من أدنى درجات‬ ‫الخرافة التي ليس فيها غير شعارات تسمى حداثية وهي من روبافيكيا الحداثة ولم يعد‬ ‫أحد يعيرها اهتماما في النقد الديني‪.‬‬ ‫والحقيقة التي انتهي إليها هي أن سوق الفكر سوق الروبافيكيا تستورد الملبوس من‬ ‫الشعارات مثلما تستورد الخردة لبيعها لمستهلك يخلط بين الإبداع في النظر والعقد شرطا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للتعمير والإبداع في العمل والشرع شرطا في الاستخلاف وما يحاكيهما من تقليد بليد لمن‬ ‫يمكن وصفهم بانتحال الصفة الـ\"د\" المزيفة لوصف أنفسهم‪.‬‬ ‫وكم من صديق اعتبر الكتابة في ما كتب هؤلاء من واجبـي ما دمت أصفهم بما أصفهم به‪.‬‬ ‫ولو كنت مستعدا لإضاعة الوقت في متابعتهم والرد عليهم لكنت مغفلا ولكنت تنازلت على‬ ‫مبدأ وضعه ديكارت ويعلمه من يطيح بالخرب من البناءات الواهية‪ .‬فالكلام في الأصول‬ ‫يغني عن الكلام في الفروع وبيان فساد الأسس يغني عن إسقاط ما اسس عليها لأنه يسقط‬ ‫بسقوطها‪.‬‬ ‫ولست أنوي إضاعة الوقت فأجعل محاولاتي ردودا على أحد بل سأطبق ‪-‬مع حفظ‬ ‫الفروق‪-‬منطق \"التصديق والهيمنة\" على الأشياء نفسها كما تتعين في مجال البحث فيها‬ ‫وليس على ما كتبه غيري فيها‪ .‬وأول شروط هذا المنهج القرآني في النقد هو تطبيقه على‬ ‫ما يعترف له الناقد بالصفة التي يدعيها‪ :‬القرآن طبقها على الأديان التي يعترف بها‪.‬‬ ‫وليس هذا فقط بل عليها بوصفها من شروط الإيمان به‪ .‬ومعنى ذلك أن القرآن الكريم‬ ‫نقد تحريف الأديان التي من شروط إيمان المسلم الإيمان بها بعد أن تتحرر من التحريف‬ ‫وأقصد اليهودية والمسيحية بعد ردهما إلى ما يعتبره الإسلام أصلا فيهما وقع تحريفه‪.‬‬ ‫وهذا الأصل هو الإسلام من حيث هو الدين الكوني عند الله‪.‬‬ ‫فاستنتجت من \"الدين الحق هو الدين عند الله\" أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬أنه ليس دينا من الأديان بل الديني في الأديان كلها ومنها أحد الأديان الطبيعية‬ ‫(الصابئة) وعدهم بألا خوف عليهم ول هم يحزنون إذا آمنوا بالله وباليوم الآخر وعملوا‬ ‫صالحا‪.‬‬ ‫‪ .2‬وأن فلسفة الحق مطابقة له من حيث إن نسبتها إلى الفلسفات كنسبة الإسلام إلى‬ ‫الأديان‪ .‬ومن ثم فالقول بوحدة السعي إلى الحقيقة سواء صيغت فلسفيا أو دينيا هو‬ ‫الأصل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك أصبح بوسعي أن أطبق هذا المنهج على الفلسفات قياسا على تطبيق القرآن له‬ ‫على الأديان‪ .‬فالقرآن طبقه على تحريف الوحي وهو ما ليس ممكنا لي لأن الله يحق له أن‬ ‫ينقد تحريف ما صدر عنه لعلمه بأصله‪ .‬ولست أزعم علم الأصل لأن فيه من الغيب ما لا‬ ‫يمكن أن أعلمه‪ .‬وبوصفي إنسانا من حقي أن أطبقه على ما يصدر عن الإنسان من فهم‬ ‫وتأويل للديني والفلسفي بوصفهما اجتهادين إنسانيين‪ :‬المنهج واحد لكن الموضوع مختلف‬ ‫إلهي وإنساني‪ .‬وفي الحقيقة فنقد القرآن للتحريف لا يتعلق بالوحي ذاته بل بما أضافه‬ ‫إليه الإنسان أو بما انقصه منه ومن ثم فهو قابل لأن يكون نموذجا أقيس عليه عملي‪.‬‬ ‫فالقرآن يرد التحريف إلى عاملين إما منفصلين أو متصلين‪:‬‬ ‫‪ .1‬عامل القيمين على الدين يحرفون نظامه لاستمداد سلطة روحية‪ :‬وهو نقد الفكر‬ ‫الديني من حيث تحريفه الناتج عن توظيفه السياسي‪.‬‬ ‫‪ .2‬عامل الحكام القيمين على الدنيا يحرفون نظامها لاستمداد سلطة مادية‪ :‬وهو نقد‬ ‫الفكر الفلسفي من حيث تحريفه الناتج عن توظيفه السياسي‪.‬‬ ‫وإذن فالنقد بمنهج التصديق والهيمنة القرآني لا يرفض التراثين الديني والفلسفي‬ ‫بل هو يرفض الأدلجة التي توظفهما سياسيا‪ .‬وهو جعل الدين والفلسفة في خدمة دين‬ ‫العجل باستعمال أداتي الاستعباد‪ :‬العملة والكلمة كما بينا في محاولات سابقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ورغم أنه لا فرق بين أدعياء التأصيل وأدعياء التحديث من حيث تمثيل ما يدعونه فإن‬ ‫مسؤولية الأولين أكبر من مسؤولية الأخيرين وذلك في الحقبتين الوسيطة والحديثة‪ .‬فلا‬ ‫يمكن لمنصف أن ينكر أنهم قد بقوا في موقع رد الفعل والتهرب بما يسمى سد الذرائع‪.‬‬ ‫والتحدي الفعلي لم يبدأ حقا إلا مع الغزالي‪.‬‬ ‫فهو الوحيد الذي‪ -‬وعلى علم بما في التراث الفلسفي الذي كان زاد المتفلسفين عامة‬ ‫والباطنية منهم صراحة خاصة‪ -‬نقل المعركة إلى عقر دارهم فخصص كتابين لعلوم الآلة‬ ‫(المنطق وبداية الوسميات أو نظرية التأويل) وكتابين لعلوم الغاية (تهافت الفلاسفة‬ ‫للفلسفة النظرية وفضائح الباطنية للفلسفة العملية)‬ ‫ورغم أن الغزالي نكص دون هذا النهج لما تصور \"طور ما وراء العقل\" الذي وضعه في‬ ‫المنقذ مفهوما حدا يمكن من نقد العقل بما بعده نقده للحس بوصفها ما بعده هو \"الكشف‬ ‫الصوفي\" فبقي حبيس القول بنظرية المعرفة المطابقة التي يشترك فيها مع الفلاسفة في‬ ‫الإسلام ومع مصادرهم اليونانية فإني اعتبره البداية الفعلية للتفلسف الجدي في فكر‬ ‫الحضارة الإسلامية خلال سعيها لإعادة النظر في الأصول‪.‬‬ ‫وأهم علامة على ذلك أنه هو الوحيد الذي أخذ العلاقة بين الفلسفة والدين مأخذ الجد‪.‬‬ ‫فهو لم يكتف بما كان سائدا عند كل فلاسفة الإسلام حتى بعده إزاء الدين بوصفه \"تعبيرا‬ ‫شعبيا وخياليا\" عن الحقيقة التي هي ما توصلت إليه الفلسفة اليونانية وهو عين الموقف‬ ‫الأفلاطوني الأرسطي إزاء كل ما يختلف عن علاجهما‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فالغزالي لم يكتف بخوض المعركة مع الفلاسفة في عقر دارهم بل هو خاض‬ ‫المعركة أيضا مع المتكلمين في عقر دارهم‪ .‬ورغم أنه يعتبر علوم الآلة واحدة في الفنين‬ ‫وتبنى المنطق والتأويل فيهما كليهما فإنه مع ذلك كتب في نقد الكلام كتابين ضد المتكلمين‬ ‫من وزن التهافت والفضائح‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالوجه النقدي من إحياء علوم الدين يناظر فضائح الباطنية وهو موجه لنقد الفقهاء‬ ‫والمتكلمين والفقه والكلام‪ .‬ومن غاب عنه هذا المعنى فليعد قراءته وسيرى أن الكتاب مثله‬ ‫مثل فضائح الباطنية يبين فضائح الفقه والكلام السنيين‪ .‬والاقتصاد في الاعتقاد يناظر‬ ‫تهافت الفلاسفة في بيان نسبية علم الكلام‪.‬‬ ‫وسأقول دون مجازفة إن الغزالي قد أسس الفلسفة النقدية للفلسفة‪ .‬وذلك هو جوهر‬ ‫الفكر الفلسفي‪ .‬والكلام النقدي للكلام وذلك هو جوهر الفكر الديني‪ .‬وبعبارة أوضح‬ ‫فالفلسفة هي نقد العقل وليست علما عقليا والكلام هو نقد النقل وليست علما نقليا‪ .‬فلا‬ ‫الأولى علم للدنيا ولا الثاني علم للدين‪ :‬كلاهما موقف نقدي منهما‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى يمكنني أن أقول إن هدفي هو عمل ما عمله الغزالي وتجاوزه إلى ما أضافه‬ ‫ابن تيمية وابن خلدون بمعنى تجنب ما آل إليه فكره بعد نكوصه إلى توهم الكشف ممثلا‬ ‫ما سماه طور ما وراء العقل في المنقذ‪ .‬فليس لي طموح البحث في ما ينقذ الإنسان من‬ ‫الضلال‪ .‬فالمنقذ الوحيد منه هو الهداية الإلهية وليس المعرفة الإنسانية مهما بلغت من‬ ‫نفاذ‪.‬‬ ‫وليس لي نية الوقوف عند اضافة ابن تيمية وابن خلدون من موقف سلبي ضد الفلسفة‬ ‫بمنطق سد الذرائع‪ :‬فعندي أن الفلسفة جزئ لا يتجزأ من فلسفة الدين والدنيا أو من‬ ‫علاقة وجود الأنسان الفاني واشرئبابه للوجود الباقي‪ :‬فالموجود من الإنسان يغلب عليه‬ ‫المنشود والإنسان لا يعي نفسه إلا بوصفه العلاقة بين موجوده ومنشوده‪.‬‬ ‫ولو لم يتكرر المشهد الفلسفي والكلامي ولكن هذه المرة بالاستناد إلى هيجل وماركس مع‬ ‫بقاء الاستناد إلى أفلاطون وأرسطو لما سلكت ما يشبه مسلك الغزالي الذي كان أول مفكر‬ ‫من حضارتنا انشغل به في حياتي العلمية بعد هيجل من الثقافة الغربية ولبقيت في العمل‬ ‫الأكاديمي التدريسي دون الدخول في هذا المعترك المعيق للاستئناف‪.‬‬ ‫فأول عمل أكاديمي شرعت فيه كان حول الشك في فينومينولوجيا الروح سنة ‪ 1969‬ولم‬ ‫أنهه لأني لم أكن قادرا على قراءته في نصه ولا راضيا عن قراءته بتوسط الترجمة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الفرنسية (ترجمة هيبوليت)‪ .‬وكان ثاني عمل حول مفهوم السببية عند الغزالي مذكرة‬ ‫لإتمام الأستاذية في السوربون سنة ‪1972‬‬ ‫ولست بناكر للجميل فالعرفان به من شيم الكرام‪ .‬ذلك أن ما أقدمه ليس تنكرا لأفلاطون‬ ‫وأرسطو ولا لهيجل وماركس لأني مدين لهم جميعا بتكويني في الاختصاص بل هو محاولة‬ ‫لفهم انطلاق الأولين من القول بالمطابقة وعودة الثانيين إليه بعد النقد الكنطي في‬ ‫الفلسفة الغربية وبعد النقد التيمي والخلدوني في فلسفتا العربية‪ .‬فـما علة القول‬ ‫بالمطابقة أولا وما علة العودة إليه بعد فهم خطئه أي وعي العقل بمحدودية علمه؟‬ ‫وجواب هذا السؤال يعود إلى الجواب عن سؤال أعمق هو الذي كان جواب هيجل عليه‬ ‫بداية الطريق عندي لكن نكوصه إلى القول بالمطابقة علة تحرري منه ما يعني أني مدين‬ ‫لهيجل بالبداية ومدين لما أوصلني إليه ابن تيمية وابن خلدون بالغاية التي تحول دون‬ ‫النكوص الهيجلي إلى القول بالمطابقة‪ .‬وهذا شديد الغرابة لكنه هو ما حصل فعلا أو على‬ ‫الأقل ما أعيه من علل خروجي من جبة هيجل وأرسطو الأكثر تأثيرا في تكويني‪.‬‬ ‫ولو لم يحصل لكان مآل فكري ما يشبه تكرار الموقفين الفلسفي والكلامي الوسيطين بمنظور‬ ‫ما يسمى الآن بالفلسفة الحديثة وعلم الكلام الجديد أي بتمسيح الفكر الإسلامي دون‬ ‫وعي‪ .‬وهو تأثير النكوص الهيجلي الماركسي إلى القول بالمطابقة أي بنظرية في المعرفة‬ ‫تزعم علمها محيطا بالوجود بضمير تأليه الإنسان‪.‬‬ ‫وما أدين به لهيجل هو بيانه سطيحة المقابلة \"عقل‪-‬نقل\"‪ .‬فما يوصف بالعلوم العقلية فيه‬ ‫وجه نقلي حتما‪ .‬وهو مضمونه الوجودي أي ما يستمده من التجربة مضمونا للمعرفة‬ ‫العقلية‪ .‬وأن ما يوصف بالعلوم النقلية فيه وجه عقلي حتما وهو شكله العقلي إي ما يستمده‬ ‫من البناء العقلي‪ .‬وهذا المشترك بينه وبيني‪.‬‬ ‫ولا أريد أن يفهم القارئ من هذا الكلام أني أقص سيرتي الذاتية حتى وإن بدا للأمر‬ ‫وجه شبه به‪ .‬ما أقصه هو سيرة الأزمة التي يعيشها فكرنا والتي من الله علي بأن أكون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من الذين عانوها معاناة ملاصقة لسيرتي الذاتية التي هي في الأغلب ثمرة صدف ولعلها‬ ‫ثمرة توفيق إلهي خفي‪ :‬وسرها هو علاقتي الـخاصة بالقرآن‪.‬‬ ‫فهذه العلاقة مكنت من اكتشاف حقيقة مذهلة‪ .‬فالدراما التي يقصها القرآن لتحديد‬ ‫منزلة الإنسان الوجودية هي سر القطيعة مع هيجل وتمسيح الفلسفة الحديثة ومع أرسطو‬ ‫وعلمنة الدين بجعله مصدر التحريك المادي لا غير وعديم الصلة بالوجود وبالإنسان‪ .‬وهما‬ ‫بداية تكويني الفلسفي وغايته قبل هذا الاكتشاف‪ .‬فالتمانع في القرآنـي ليس من جنس ما‬ ‫يحدث بين الألهة كما في الميثولوجيا بين الآلهة وعلاجه بالطبعنة الأرسطية وليس بين الكلي‬ ‫والعيني وعلاجه بالمصالحة الهيجلية التي تتحقق بوحدة الوجود المذوتة بل هي علاقة بين‬ ‫مستخلف وخليفة فريدة النوع‪.‬‬ ‫فكان هذا الاكتشاف بداية البحث في \"منقذ\" ليس من الضلال بل من التحريف المضاعف‪:‬‬ ‫‪ .1‬تحريف هذه العلاقة بين المستخلف والخليفة في الطبعنة الارسطية والتمسيح الهيجلي‬ ‫والأول مسيطر على فكرنا الوسيط‪.‬‬ ‫‪ .2‬تحريف العلاقة بين الفلسفي والديني في الفكر الإنساني في الأرخنة التمسيحية‬ ‫الهيجلية وفي الطبعنة الماركسية‪.‬‬ ‫وهما تحريفان يمكن القول إن القرآن كله علاج لهما لبيان أصلهما في دراما هذا التمانع‬ ‫بين الخليفة والمستخلف بوصفها علاقة بين حريتين متراتبتين تراتب اللامتناهي والمتناهي‬ ‫والمطلق والنسبي‪ .‬وهو يعالجهما بهذا النموذج الذي يعود إلى جوهر السياسي في عالمين‬ ‫لهما نفس العلاقة بين اللامتناهي والمتناهي‪.‬‬ ‫ولم يكن بالوسع تجاوز الحل الأرسطي والحل الهيجلي إلا بالعودة إلى وجه الشبه بين فهم‬ ‫فيورباخ لدور الإله في رؤية الإنسان لنفسه وفهم أرسطو لدور الإله في \"رؤية\" العالم‬ ‫الطبيعي لنفسه‪ .‬فعند ارسطو العالم الطبيعي يصبح موجودا بالفعل بفضل شوق مادته‬ ‫للانتقال إليه بفضل محرك لا يتحرك هو مثال التمام اللامبالي بها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما أحله هيجل في الإنسان ‪-‬هذا الإله اللامبالي الذي اعتبرته المسيحية قد تعين إنسانا‬ ‫وضحى بنفسه من أجل الإنسانية‪ -‬جعله فيورباخ فكرة وليس حقيقة وهي فكرة الإنسان‬ ‫عن صورة كماله وهو بنوع ما فهم صوفي لنظرية الإنسان على صورة الله‪ .‬ولكنها صورة‬ ‫وفكرة وليست حقيقة خارج الإنسان بل هي مثاله عن ذاته في ذاته‪.‬‬ ‫وإذن فالمدرسة الهيجلية اليسارية هي التي نقلت الإشكالية من المسيحية بتأويل هيجل‬ ‫صريح إلى المسيحية بتأويل ماركس ضمني‪ .‬ومن ثم فمن اليسير أن نفهم ما يسمى باللاهوت‬ ‫المؤسس لم يمكن تسميته بعلم الكلام الجديد الذي طبق في أمريكا اللاتينية وما يطبقه‬ ‫بعض الإسلاميين السنة دون أن يفهموا أنه يمكن أن يكون ذا معنى شيعيا ولكنه لا يمكن‬ ‫أن يقبل سنيا لأنه يجعل الغاية وسيلة بقلب العلاقة بين الديني والدنيوي فيجعل الأول‬ ‫أداة الثاني‪.‬‬ ‫هل معنى هذا أني أرفض أن يكون للدين دور في المسائل الاجتماعية والسياسية؟‬ ‫كلا وألف كلا‪ .‬ما أرفضه هو أن يكون ذلك بمعنى أن الوجود الدنيوي مطلق وأن علمنا‬ ‫محيط وأن الحل الهيجلي للعلاقة بين الإلهي والإنساني هو حلول الله في الإنسان وزوال‬ ‫الفرق بين المستخلف والخليفة‪ :‬صلح هيجل بين الله والعالم صلح مغشوش‪.‬‬ ‫فما يسميه هيجل صلحا بين الآله والمألوه‪-‬في وحدة الوجود التاريخانية التي يتجاوز بها‬ ‫وحدة الوجود الطبعانية عند سبينوزا بتذويت الجوهر‪-‬ليس صلحا بل مطابقة بين الخليفة‬ ‫والمستخلف بتوسط المسيح ومن ثم بحلول الإله في الإنسان‪ .‬ورفض ذلك هو بالذات سر ثورة‬ ‫الإسلام الكونية التي تعتبره تحريفا للمسيحية كما يبتين من آل عمران ‪.79‬‬ ‫وحصيلة هذا الصلح المغشوش هي جعل العالم \"عين الله\" التي يدركها الإنسان بلغة ابن‬ ‫عربي‪Das Bewusstsein des endlichen Geistes ist das konkrete Sein, das :‬‬ ‫‪Material der Realisierung des Begriffs Gottes\" (Vorlesungen, Teil 3 Die‬‬ ‫‪vollendete Religion Bd. 5 Walter Jeschke s.275 Felix Meiner Verlag‬‬ ‫)‪Hamburg1984‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهذا النص الذي يعلل به هيجل الدليل الوجودي على وجود الله غاية لما يسميه المصالحة‬ ‫ترجمته\" إن وعي الروح الجزئي بذاته (الإنسان) هو الوجود العيني (المتعين) وهو القيام‬ ‫المادي لتحقيق مفهوم الرب\"‪ .‬وما يضيفه هيجل لوحدة الوجود الطبعانية لدى سبنوزا هو‬ ‫هذا الوسيط الذي يمثله وعي الروح الجزئي (الإنسان) بالوجود العيني (العالم)‪ :‬ورمز‬ ‫هذا الإنسان هو المسيح‪.‬‬ ‫لكن هذا التصور للمصالحة لا يمكن أن يقبل في نظرية المستخلف والخليفة لعلاج علاقة‬ ‫التمانع بين الحريتين الإلهية والإنسانية‪ .‬وهو لم ينجح في المسيحية لأنه انتهى إلى حقيقته‬ ‫مرتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأولى في المسيحية قبل غاية الهيجلية أو الماركسية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثانية في المسيحية بعد غاية الهيجلية في الماركسية‪.‬‬ ‫كيف ذلك؟‬ ‫فقبل الهيجلية كان لا بد لهذا الحل المسيحي أن يؤدي إلى‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوساطة سلطة روحية تستعبد الإنسان بالتربية (وذلك هو دور الكنيسة)‪.‬‬ ‫‪ .2‬وإلى الوصاية المادية تستعبده بالحكم بالحق الإلهي (وذلك هو دور الدولة)‪.‬‬ ‫وفي ذلك يشبه التشيع الكاثوليكية‪ .‬وبعدها علمنتهما الماركسية‪ :‬حزب البروليتاريا‬ ‫ودولتها‪.‬‬ ‫وبعد الهيجلية والماركسية علمنت المؤسستان اللتان تستبدان بالإنسان والعالم‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوساطة الروحية بالدين صارت بفلسفة المادية سواء كانت ماركسية أو ليبرالية‬ ‫هيجلية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والوصاية المادية بالدين صارت بفلسفة المادية سواء كانت ماركسية أو ليبرالية‬ ‫هيجلية‪.‬‬ ‫ولا أحد يجهل أن الإنسان في الحالتين يصبح مجرد منفعل بمؤسسات آلية تسحقه سحقا‬ ‫سواء أوهموه بانه صاحب السلطان فيها أو لم يوهمونه‪ .‬ويتجلى ذلك في الماركسية وما نتج‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عنها من تطبيقات سياسية‪ .‬لكن الرأسمالية ليست دونها استعبادا للإنسان لأن ما يسمى‬ ‫بالديموقراطية لا يحكمه المواطن بل سيطرة وساطة الاحزاب وهي مافيات ووصاية الدولة‬ ‫وهي أداة سلطان المافيات في العالم كله وليس عندنا نحن وحدنا‪ .‬الفرق الوحيد هو أن‬ ‫غيرنا المافية منه وذات سلطان فعلي وعندنا المافية ليست سيدة بل هي عملية للمافية التي‬ ‫نصبتها علينا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سيعاب على تحليلي ما يبدو من مقارنات غريبة في الظاهر لكنها تصف سلوكين من طبيعة‬ ‫واحدة رغم أنهما يبدوان متنافيين‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما علاقة الحزب الشيوعي بالكنسية وهو نقيضها؟‬ ‫‪ .2‬وما علاقة دولة البروليتاريا بالحكم بالحق الإلهي رغم نفس التناقض؟‬ ‫وعندما نرى التحول الفكري من الأولين إلى الثانيين سنفهم العلاقة وخاصة بين‬ ‫الكاثوليكية والعلمانية توسط الإصلاح البروتستانتي وبما تزايد عليه الثورة الفرنسية‬ ‫بوصفه ثورة على الكاثوليكية‪ .‬تلك هي القصة وليس سيرتي‪ .‬أما كونها ذات علاقة بسيرتي‬ ‫فأمر يرد إلى صدف حياتي الروحية أو إلى سر أجهله فيها‪ .‬فآل عمران ‪ 79‬هي التي حسمت‬ ‫وجهتي‪َ \" :‬ما كَانَ لِ َبشَ ٍر َأن يُ ْؤتِ َي ُه اللَّ ُه الْ ِكتَا َب وَا ْل ُحكْمَ وَالنُّ ُب َّوةَ ثُ َمّ َيقُو َل لِلنَّا ِس ُكو ُنوا ِعبَادًا‬ ‫ّلِي ِمن ُدونِ اللَّ ِه وَ َٰل ِكن كُو ُنوا َر َّبانِ ِّيينَ ِب َما كُن ُت ْم تُعَ ِّلمُونَ الْ ِك َتا َب َوبِمَا ُكنتُ ْم تَدْ ُر ُسونَ \"‪.‬‬ ‫فما القصد بالمصالحة الهيجلية والتي يؤسس بها وحدة الوجود الناسوتية بالمقابل مع‬ ‫وحدة الوجودية الطبيعية (سبينوزا) والتي يعتبرها جوهر المسيحية؟ فلنورد النص الحاسم‬ ‫لنفهم طبيعة الثورة الإسلامية في تحرير الإنسان مما سيترتب عليها في غايتها الهيجلية وما‬ ‫ترتب قبلها رغم أنها لم تكن قد تحددت فلسفيا‪.‬‬ ‫نص هيجل في المصالحة من خلال مقابلة مماثلة للمقابلة الصوفية بين ظاهر الدين العامي‬ ‫وباطنه الخاصي لتأسيس نظرية وحدة الوجود الناسوتية تجاوزا لوحدته الطبيعية عند‬ ‫سبينوزا‪:‬‬ ‫‪Diese Versöhnung ist die Philosophie. Die Philosophie ist insofern‬‬ ‫‪Theologie. Sie stellt die Versöhnung Gottes mit sich selbst und mit der Natur,‬‬ ‫‪dar, dass die Natur, das Andersein an sich göttlich ist und dass de endliche‬‬ ‫‪Geist teils an ihm selbst dies ist, sich zur Versöhnung zu erhreben, teils in der‬‬ ‫‪Weltgeschichte zu dieser Versöhnung kommt, diese Versöhnung‬‬ ‫‪hervorbringt.Diese Ver-söhnung ist dann der Friede Gottes, der nicht höher‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ist als alle Vernunft, sondern der durch die Vernunft erst gewusst, dedacht und‬‬ ‫)‪als da Wahre erkannt wird\" (Vorlesungen idem s.269‬‬ ‫\"إن هذه المصالحة هي الفلسفة‪ .‬الفلسفة في حدود كونها قولا في الربوبية (ثيولوجيا)‪.‬‬ ‫إنها تعرض مصالحة الرب مع نفسه ومع الطبيعة بحيث تكون الطبيعة كونها الوجود المغاير‬ ‫الذي هو إلهي في ذاته وبحيث يكون الروح الجزئي (الإنسان) من ناحية إلى متساميا إلى‬ ‫هذه المصالحة بذاته عينها ومن ناحية ثانية يصل إلى هذه المصالحة في تاريخ العالم‬ ‫فينتجها‪ .‬وهذه المصالحة هي اذن سكينة الرب التي هي ليست أسمى من كل عقل بل هي لا‬ ‫تدرك ذاتها إلا بالعقل ولا يدركها ولا يعترف بها إلا العقل بوصفها حقيقة\"‪ .‬هذا هو النص‬ ‫في معناه الجملي ويمكن التدقيق في الترجمة لاحقا لإحكامها في حالة النشر‪.‬‬ ‫ما يعنيني من هذه المصالحة هي دلالتها التي تجعل المسيحية قائلة بوحدة الوجود بين‬ ‫اللاهوت والناسوت وبينهما العالم من حيث هو تعين الذات الإلهية في الدنيا التي لا يوجد‬ ‫شيء وراءها أي إن الطبيعة والتاريخ هما عين الله أو الروح الكلي والإنسان هو الروح‬ ‫الجزئي‪.‬‬ ‫والمنطق الجدلي الذي يظنه هيجل نقلة من مبادئ العقل الارسطية إلى مبادي جديدة‬ ‫ومن العقل الاستريائي إلى العقل التأملي في نظرية القضية الحملية بتغيير مهوم الماهية‬ ‫التي لم تبق ذات لها صفات بل هي عين تجليها في صفاتها‪.‬‬ ‫وقد بينت أن ذلك لا يختلف عن المنطق الأرسطي لذي هو بدوره جدلي لأن مقومات‬ ‫الذات التي لها هوية أو ماهية هي الجواهر الثواني ولا يوجد وراءها شيء غير كون الذات‬ ‫واحدة وهي وحدة جدلية لأن ما يطره الجنس ينفي الفرق النوعي عمومه ليبقي على‬ ‫التوليف بينهما وهو النوع‪ .‬ومن ثم فكل ما يدعيه هيجل ليس جديدا عن المنطق الارسطي‬ ‫بل هو تأويل بظن العلاقة تناقضية وصراعية وهي ليست كذلك بل هي بنيوية وتكاملية‪.‬‬ ‫والإشكال الحقيقي مع الماهية هو ما اكتشفه ابن تيمية‪ :‬هل هي حقا عين وجود الشيء‬ ‫أم هي مجرد اسم يحد الشيء في حدود ما ندرك منه أو في حدود التصور الذي يمكن أن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يتغير بحسب تطور المعرفة إذا كان رسما لما يميز الشيء ويحده وليس مطابقا له مطابقة‬ ‫ترد حقيقة الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫كـل ما يهمني هو هذا النفي لغير الدنيا والقول إن \"الماهنا‪ \"Diesseit‬ليس له \"ما‬ ‫هناك‪ \"Jenseit‬أي إن الدنيا ليس لها أخرى وأن العالم الموجود منحصر في هذا العالم وأن‬ ‫علمنا حتى لو سلمنا جدلا بأن الوجود يقتصر على هذا العالم محيط به كل ذلك هو جوهر‬ ‫الإشكال الذي لا يختلف عما كان عند أرسطو‪ :‬الإنسان مقياس كل شيء‪.‬‬ ‫فيصبح التمييز بين الخليفة والمستخلف أو المحافظة على الفرق بين وجودييهما بوصفهما‬ ‫حريين بينهما دراما تمانعية من جنس ما يقص القرآن شرطا في كل ما يحرر الإنسان من‬ ‫السلطانين المستعبدين له‪:‬‬ ‫• الحرية الروحية في التربية‪.‬‬ ‫• والحرية المادية في الحكم‪.‬‬ ‫وبهما يكون الإنسان خليفة ومكلفا دون تأله‪ .‬وذانك هما مجالا ممارسة الحرية الإنسانية‬ ‫التعاقدية مع الحرية الإلهية قرآنيا‪ :‬فالحرية الروحية هي شرط النظر والعقد وبهما يكون‬ ‫الإنسان في علاقة بالطبيعة والحرية المادية هي حرية العمل والشرع وبهما يكون الإنسان‬ ‫في علاقة مع التاريخ‪ .‬والعلاقتان تعاقد مع ما ورائهما خالقا وآمرا ومستخلفا‪.‬‬ ‫وبذلك يتأكد أي قارئ محايد أن النقد القرآني للمسيحية لم يصبح بهذا الوضوح الذي‬ ‫أحاول شرحه إلا بفضل الهيجلية والماركسية رغم أن قصد الرجلين ليس بيان النقد‬ ‫القرآني بل بيان ما يعتقد الأول أنه جوهر المسيحية لإيمانه بالبعد الروحي ولا يعتقد‬ ‫الثاني أنه من وهم المثالية الهيجلة وصاغها كمادية تاريخية صرفه‪.‬‬ ‫أي إن الرجلين يعتبران تحريف المسيحية الذي حددته آل عمران ‪ 79‬عين الحقيقة‬ ‫المسيحية عند هيجل وعين حقيقة ما يتخيله الإنسان الجاهل بالحقيقة أي الماركسية من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حيث هي نزع للروحـي من الهيجلية لجعلها مادية تاريخية بضمير تأويل فيورباخ لمفهوم‬ ‫الرب باعتباره ليس خالق الإنسان بل مخلوقه‪.‬‬ ‫وهذه المعاني يمضغها من نسميهم بمفكري الحداثة العرب الحاليين مضغ مفكري العصر‬ ‫الوسيط الناطقين بالعربية للمعاني الأرسطية ونظرية العقول المحركة للأفلاك‪ .‬ويكفي أن‬ ‫تقرأ محاولات حسن حنفي لتعلم أن كل ما قدمه في مشروعه أو ما سماه لانتقالا من العقيدة‬ ‫إلى الثورة نقل حرفي لخرافة فيورباخ حول مفهوم الربوبية بوصفها استكمال الإنسان لذاته‬ ‫بمثال أعلى \"ربا\" هو في الحقيقة من صنع خياله‪.‬‬ ‫وبجملة واحدة‪ :‬خذ فلسفة القرون الوسطى وعلم كلامها وأزع الرب من المركز وعوضه‬ ‫بالإنسان فيكون عندك ما يسمى بفلسفة هيجل وماركس في الغرب وبنسخها الباهتة في‬ ‫مشروعات النجوم العربية بمن في ذلك من يدعون الكلام في الخصوصيات نقلا غير مفهوم‬ ‫لما يسمى بفكر ما بعد الحداثة‪.‬‬ ‫والآية ‪ 79‬من آل عمران لا تقول شيئا آخر عن تحريف المسيحية غير ما يقوله هيجل‬ ‫عما يعتبره حقيقتها بمعنى أنه يعتبر حقيقتها ما يعتبره القرآن تحريفها‪ .‬والنهاية هي أن‬ ‫هذا التحريف هو أهم ما تقوله آل عمران عما يترتب عليه أي الوساطة الروحية للمؤسسة‬ ‫الكنسية والوصاية المادية في المؤسسة السياسية‪.‬‬ ‫وما كان تابعا لفهم هيجل للمسيحية وحافظ على التعبير الروحي لوساطة الكنيسة في‬ ‫التربية ووصاية الدولة في الحكم بالحق الإلهي نيابة عن المسيح ابن الله صار بعد ما اعتبره‬ ‫ماركس تصويبا للهيجلية نفس الشيء بصيغة علمانية إلحادية فصارت عقيدة الكنيسة‬ ‫فلسفة الحزب وصارت الدولة دكتاتورية أصحاب هذه الفلسفة‪.‬‬ ‫ويجمع بين الشكلين ما اكتشفته من بنية عميقة تجمع بين \"الثيوقراطيا\"‬ ‫والانثروبوقراطيا (أو الديموقراطية) التي تظن بديلا منها مرحلة وسطى هي الإصلاح‬ ‫المسيحي الذي هو نقطة انطلاق القراءة الهيجلية الروحانية التاريخية وقلبها الماركسي إلى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المادية التاريخية‪ .‬وهذه البنية العميقة هي ما سميته بدين العجل‪ :‬إيديولوجيا‬ ‫(خواره)‪+‬المال (الذهب)‪.‬‬ ‫واجتماع العاملين متعين في كل الدول لكنه واضح في خمس دول‪:‬‬ ‫‪ .1‬إسرائيل‬ ‫‪ .2‬وإيران‬ ‫‪ .3‬والسعودية‬ ‫‪ .4‬وأمريكا‬ ‫‪ .5‬ورمزها جميعا ما بقي من الكاثوليكية أو دولة الفاتيكان‪.‬‬ ‫فهذه جميعا ثيوقراطية الباطن وبعضها لا يزال كذلك وانثروبوقراطية الظاهر‪ .‬لكنها‬ ‫خمستها تعين صريح لدور الخوار والمال‪ :.‬الابيسيوقراطيا = بنية عيقة في الثيوقراطيا‬ ‫والأنثروبوقراطيا‪.‬‬ ‫وليس المال من حيث هو مال هو المشكل‪ .‬ولا العقائد من حيث هي عقائد هي المشكل‪.‬‬ ‫المشكل هو الربا المادي في المال والربا الروحي في الرؤى‪ .‬ولذلك كتبت في المسألة محاولة‬ ‫مطولة حول دور العملة ودور الكلمة في إخضاع التبادل والتعاوض إلى الربا وفي إخضاع‬ ‫التواصل والتعارف إلى الخداع‪ .‬وهذا يثبت نصف نصف ما تبديه نظرية ماكس فيبر وما‬ ‫تخفيه‪.‬‬ ‫فتحليل الربا ماديا يتبعه تحليل الخداع روحيا‪ .‬ومن ثم فالسياسة لم تعد تنكر أنها‬ ‫مؤسسة على نقل دور الكلمة من أداة للتواصل إلى سلطان على المتواصلين واقتصادها مبني‬ ‫على نقل دور العملة من أداة للتبادل إلى سلطان على المتبادلين‪ .‬ومثلما أن سلطان العلمة‬ ‫هو الربا المادي فإن سلطان الكلمة هو الربا الروحي وهو الإيديولوجيا‪ .‬وكلاهما خداع‬ ‫بأداة التبادل وبأداة التواصل اللتين تتحولان إلى سلطان على كيان الإنسان العضوي‬ ‫(بالاقتصاد الربوي) والروحي (بالثقافة الربوية)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والربا بمعناه المطبق على العملة لا يحتاج لشرح‪ .‬المحتاج إليه هو الربا بمعناه المطبق على‬ ‫الكلمة‪ .‬فسلطانها على المتواصلين تمثله الأيديولوجيا التي هي خداع في القيم المعنوية مثلما‬ ‫أن الربا المادي خداع في القيم المادية‪ .‬ولعل أبرز ما يثبت ذلك هو دور الإعلام فاجبه خبر‬ ‫حقيقي وواقعه عكسها‪.‬‬ ‫وحتى يفهم القاري المشكل فلنقل إن أبرز شيء في ما يسمى ديموقراطية هو دور المال‬ ‫ودور الإعلام‪ .‬وكلاهمـا تزييف للإرادة الشعبية‪ .‬ونفس الأمر يقع في الثيوقراطية‬ ‫(إيران مثلا) ومن ثم فالفرق بين الديموقراطية والثيوقراطية في الأسماء وليس في‬ ‫المسميات‪ :‬تلك تحكم بأوهام التقدم المادي الدنيا وهذه بأوهام التقدم الروحي في الآخرة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لم أذكر فيبر بغير قصد بعيد‪ .‬فالقراءة السطحية لنظريته تجعله وكأنه ضد الرؤية‬ ‫المادية الماركسية لأنه يفسر نشأة الرأسمالية بدوافع دينية مصدرها الرؤية الإصلاحية في‬ ‫مسيحية النقلة من القرون الوسطى إلى الحداثة أو من الكاثوليكية إلى البروتستنتية‬ ‫ومنزلة العمل والادخار وتركيم الثورة فيها التي صارة مطلوبة دينيا‪.‬‬ ‫لكن عندما نعيد دور الوسيطين في ما لا يتطرق له تفسيره الديني‪-‬أعني تحليل الربا‬ ‫المادي في الاقتصاد (خداع العملة) وتحليل الربا الروحي في السياسة (خداع الكلمة) ‪-‬‬ ‫ندرك أن تفسيره بالدوافع الدينية لا يختلف عن تفسير ماركس بالدوافع المادية‪ .‬فكلاهما‬ ‫يرد الأمر إلى رؤية لم تعد تحرمهما بل تفسر بهما الوجود الذي صار العالم الأخروي فيه‬ ‫أداة في خدمة العالم الدنيوي الوحيد‪ :‬والمعلوم أن اليهودية ليس فيها عالم أخروي‪.‬‬ ‫والملاحظ أن المسلمين اليوم هم بصدد البحث عن طرق لتحليل الربا المادي والربا الروحي‬ ‫بحلول أشنع من الحلول الليبرالية لأنها غير مصحوبة بروادع تحد من فسادها وخطرها‪.‬‬ ‫فما يسمى بالبنك الإسلامي وما يسمى بالديموقراطية الإسلامية أكثر ربوية بالمعنيين من‬ ‫الربا المادي والروحي في الغرب‪.‬‬ ‫ذلك أن المال والإعلام في بلادنا بيد للمافية الحاكمة أو المتحكمة في الحاكمة وهي على‬ ‫مستويين‪ :‬داخلي وخارجي‪ .‬فالشعب ليس له أدنى سلطان للحد من اطلاقهما ولا يوجد أدنى‬ ‫سلطان مضاد يقلل من تغولهما الذي يسحق المواطن لأن الحامي هو الحرامي في كل بلاد‬ ‫المسلمين‪ .‬وليس موضوعي الآن تقديم البدائل ‪-‬وقد فعلت سابقا‪-‬بل مواصلة البحث في‬ ‫تحريف علوم الأمة الغائية والآلية التي سيطرت عليها رؤية أفلاطون وأرسطو في العصر‬ ‫الوسيط ونظيرتها التي سيطر عليها رؤية هيجل وماركس في العصر الحديث بفكرتين في‬ ‫الموجود والمنشود‪:‬‬ ‫• وحدة العالم انطولوجيا‪.‬‬ ‫• المطابقة أبستمولوجيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولما كان الأمر متعلقا بمسألتين كلتاهما مضاعفة فهي إذن أربع مسائل‪ .‬ولا بد أن يكون لها‬ ‫أصل يصل بينها وهي متفرعة عنه‪-‬وسأخصص بحثا لشرح هذه البنية التي تتكرر كثيرا في‬ ‫محاولاتي والتي نتجت عن تخلص من المنطق الجدلي‪-‬وهذا الأصل في هذه الحالة هو موضوع‬ ‫الوسميات أو السيميوتكس التي تتفرع إلى علاج الانطولوجي بمستوييه والأبستمولوجي‬ ‫بمستوييه بنظرية الرمز والترميز‪.‬‬ ‫فنحن لا نعلم الوجود ما هو ولا المنشود ما هو‪ .‬والأول نعتبره موضوع المعرفة التي هي‬ ‫مادة الإبستمولوجيا‪ .‬والثاني نعتبره موضوع القيمة التي هي مادة الأكسيولوجيا‪ .‬وما‬ ‫يوحد بينها أربعتها هو القدرة الرمزية التي هي في آن قدرة وضع الرمز والمرموز والتناظر‬ ‫بينهما دليل تعاكسهما تعاكس مرآتين‪.‬‬ ‫ولا نعلم إن كان العالم الذي نعيش فيه بمنطق الأعيان ويعيش فينا بمنطق الأذهان هل‬ ‫هو واحد كما تفترض الحلول الأربعة التي سيطرت على الفلسفة والدين أم إن العوالم‬ ‫متكثرة وقد تكون لامتناهية‪ .‬وهو ما يمكن أن نقتنع به إذا تخلصنا من وهم كوننا مقياس‬ ‫كل شيء وكون علمنا محيطا بالموجود والمنشود‪ .‬وهذه هي الرؤية البديل التي يقتنع بها‬ ‫كل من يتدبر القرآن التدبر المتحرر من تحريف علوم الملة‪.‬‬ ‫المشكل الأعوص هو هذه القدرة الإنسانية على الترميز الذي يبدع الرمز الدال والمرموز‬ ‫المدلول والذي قد لا يكون موجودا حقا داخلنا ولا خارجنا إلا هذه الظاهرة التي يلفها‬ ‫الالتباس والغموض وخاصة عندما تجعل من نفسها موضوعا قابلا لأن يكون مرموز رمز‬ ‫وراءه‪ .‬وذلك بلا حد ولا توقف فلكل ماوراء ما وراء‪.‬‬ ‫وقد حاولت تحليل هذه الظاهرة في كتاب الشعر المطلق والإعجاز القرآني وصلا لها‬ ‫بملاحظتين مهمتين في فكرنا‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولاهما هي ملاحظة بن سينا حول لا تناهي توالي الوعي بالوعي أو الفكر بالفكر إذ‬ ‫إن المرء يفكر ثم يفكر في ما فكر فيه وهذا بلا حد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬والثانية هي ملاحظة الجرجاني حول معنى المعنى التي لم يماشيها وإلا لوجد نفس‬ ‫مشكل ابن سينا إذ يوجد وراء كل معنى المعنى معنى المعنى بلا حد‪.‬‬ ‫وقد استنتج ابن خلدون نفس المعنى‪-‬لم أتابع مسار التفكر الذي أوصله إلى هذه النتيجة‬ ‫بعد‪ -‬وهو أن الفكر لا يتوقف عن التفكير طيلة الحياة بمقتضى ما يشبه ما تكلم عليه ابن‬ ‫سينا وما تكلم على مناظره الرمزي الجرجاني وإن كان ذلك دون توكيد على لا تناهي‬ ‫التوالي‪.‬‬ ‫فما سر إمساك الإنساني بخيط اللاتناهي الإمكاني؟‬ ‫وهل حياتنا هي شيء آخر غير هذا التوالي المتراكم للوعي بالوعي بالذات من الميلاد إلى‬ ‫الممات؟‬ ‫وما السر في أن الإنسان لا يستطيع التخلص من تخيل قسمة الوحدة دون توقف وجمع‬ ‫الوحدات دون توقف حتى لو اكتفينا بهذه المسألة البسيطة في العدد الكسري والطبيعي‬ ‫فضلا عما هو أقوى منهما مثل الحقيقي أو المركب إلخ؟‬ ‫ولماذا عندما نطبق ذلك على شيء معين نسلم بأن للقسمة أو للجمع نهاية؟ ما هذه القدرة؟‬ ‫وما السر في كوننا نعتقد أنه توجد النقطة وأنها وحدة متحيزة في المكان وأنه توجد‬ ‫الوحدة التي تشبه النقطة لكنها غير متحيزة في المكان؟‬ ‫كيف نتصور شيئا ليس له قيام متحيز في المكان؟‬ ‫وكيف نميزه عن تصوره فنعتبره موضوعا له ونرمز للأمرين له ولتصوره؟‬ ‫لكن الأمر صار أعمق بتقدم علوم المادة‪.‬‬ ‫وكيف نفهم تجاوز الذرة إلى ما دونها في لامتناهي الصغر وتجاوز المجرة إلى ما فوقها في‬ ‫لامتناهي الكبر؟‬ ‫أليس هذا يمكن أن يحررنا من اعتبار الإنسان مقياس كل شيء وأن نفهم أن المقابلة بين‬ ‫المادي واللامادي لم يعد لها معنى معتبر لأن تحول المادة إلى طاقة وتحول الطاقة إلى مادة‬ ‫وتحول الموجة إلى جسيم والجسيم إلى موجة محرر ومحير؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن السذاجة بعد ذلك أن يبقى الإنسان معتقدا في رؤية أفلاطون وأرسطو قديما ووسيطا‬ ‫وفي رؤية هيجل وماركس حديثا وفي خرافات السرديين أو ما بعد الحدثيين في قيس الخيال‬ ‫العلمي على الخيال الأدبي مطابقة للوجود والمنشود‪ .‬ما نفعله في ذلك كله أشبه بما تنسجه‬ ‫الرتيلاء من بيوت شرطا في قيامها‪.‬‬ ‫وإذن فعندنا قدرة ترميزية أصلا تتفرع عنه أربعة فروع اثنان ينتجان صورتين من‬ ‫الموجود والمنشود في الأذهان ويعتبرانهما انعكاسا لما يناظرهما من خارجها واثنان ينتجان‬ ‫صورتين من رمزيهما في الأذهان ويعتبرانهما مطابقين ليس للصورتين في الأذهان بل لـما‬ ‫ورائهما في الأعيان‪ :‬فكيف حصلت هذه القفزة؟‬ ‫وهي قفزة تبدو ثانية بعد الأولى التي تضع ما ندركه في أذهانا موجودا خارج أذهاننا‪.‬‬ ‫لكنها هي الأولى‪ .‬فتصورنا لصورنا مطابقة لمتصورنا هو الذي يجعله ينتقل من متصورنا إلى‬ ‫الموضوع الخارجي‪ .‬ومعنى ذلك أننا نعتقد أن ما نتصوره ليس ما ننتجه بمداركنا بل ما‬ ‫تعكسه مداركنا من وجود نضعه خارجنا‪.‬‬ ‫والأشد عسرا على الفهم هو أننا نتصور أنفسنا ونتصورها هي بدورها خارج تصورنا بحيث‬ ‫إن لنا علاقة بذاتنا شبيهة بعلاقتنا بغيرنا سواء كان إنسانا أو أي شيء آخر‪ .‬فلي منظور‬ ‫على ذاتي من داخلها ولي منظور على ذاتي من خارجها‪ .‬أراني في ذاتي داخلها وأراني في‬ ‫العالم خارجها في مكانه وفي زمانه الموجودين خارجي وأراني جارا لغيري‪ .‬وليس هذه‬ ‫الأحوال لعبة مرايا متعاكسة بل هي ما أعيشه حقيقة‪.‬‬ ‫وهذه المناظرية التي تشبه حزام موبيوس لتوالي الداخل والخارج‪ .‬ففيها ما هو داخل‬ ‫يصبح خارجا وما هو خارج يصبح داخل‪ .‬ولكن الأمر أكثر تعقيدا من هذا الحزام لأن‬ ‫الوجهين ليسا متخارجين خلال التوالي بل هما دون توال ودائما معا حتى وإن كان يمكن أن‬ ‫يلتفت المرء إلى أحدهما ويغفل الثاني بحرية كاملة‪.‬‬ ‫وأعتقد أن متابعة هذه الظاهرة تجعل كل المعجزات التي تبدو غير معقولة بالمنظور الذي‬ ‫يظن عقلانيا وهو عامي أمرا قابلا للتفسير‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فـمن اليسير مثلا تفسير الأسراء والمعراج بمجرد ملاحظة أن القرآن يتكلم على ما يراه‬ ‫الفؤاد وليس على ما تراه العين‪ .‬ما يعني أن ما يراه كله في الداخل أو في الأذهان وليس‬ ‫في الخارج في الأعيان وأن الحقيقة الوجودية ليست ما في الأعيان وحدها بل ما في الأذهان‪.‬‬ ‫وقد يكون وراء الأذهان والاعيان في عالم الشهادة ما في الأذهان وما في الأعيان في عالم‬ ‫آخر لعله عالم الغيب‪.‬‬ ‫وحتى في قضية عصا موسى القرآن يقول يخيل لهم كأنها حية تسعى‪ .‬ولما كان الداخل‬ ‫والخارج متعاكسين تعاكس المرأتين ولما كانت المرآتان صقيلتين وصادقتين في حالة الرسول‬ ‫فإن ما يراه في داخله حقيقي في خارجه لكن خارجه ليس خارج الحواس في عالم الشهادة‬ ‫بل هو خارج الحوادس في عالم الغيب ‪-‬مفهوم شرحته سابقا‪-‬فيكون القرآن قد دلنا على‬ ‫القصد بالكلام على رؤية الفؤاد بالبصيرة وليس رؤية العين بـالبصر‪.‬‬ ‫وهذا يثبت تعدد العوالم إيجابا لأن ما تقدم يثبتها سلبا بمعنى أن ما تقدم يبين الإمكان‬ ‫وهذا يبين الحصول‪ .‬لكن الحصول ليس عاما في حين أن الإمكان عام بمعنى أني يمكن أن‬ ‫أثبت الإمكان عامة بمجرد بيان عدم المطابقة في كل علومنا لكني لا أستطيع أن اثبت‬ ‫الحصول للأنبياء إيمانا مثلا أو عيانا للمبدعين عامة‪.‬‬ ‫وحتى في حالة الأنبياء ورغم هذا الصفاء في المرآتين المتعاكستين فإن المطابقة جزئية وهي‬ ‫لا تشمل كل الوجود بمعنى أنه لا يمكن تصور الإنسان حتى لو كان نبيا أو مبدعا لما لم يكن‬ ‫معلوما من المعرفة أو مذوقا من القيم قادرا على علم أو ذوق محيطين وإلا لكان إدراكه‬ ‫المحدود عين اللامحدود‪.‬‬ ‫ما يعني أن إمكان تجاوز عالم الشهادة ممكن في عوالم أخرى‪ .‬لكنه لا يعني المطابقة مع‬ ‫ما يتجاوز ما هو ممكن للإنسان من حيث هو إنسان محدود الإرادة والعلم والقدرة والحياة‬ ‫والوجود لأن لا تناهي هذه المقومات الخمس هي التي يمكن أن تكون مطابقة للموجود‬ ‫والمنشود بمقتضى حدهما بالمقابل مع ما للإنسان منها‪ .‬وختاما فهذان الأمران‪:‬‬ ‫‪ .1‬القول بوحدة العالم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬والقول بالمطابقة‪.‬‬ ‫هما أصل التحريف في الدين وفي الفلسفة للموجود والمنشود من حيث علمهما والعمل بهما‬ ‫ويرجعان إلى جعل الإنسان مقياسا لهما خلطا بين قدرة الترميز وقدرة الاحاطة بالحقيقة‬ ‫المطلقة التي نؤمن بوجودها ولا نصدق القول بإمكان علمها المطلق لغير الله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬