–– غرامي حينها بهيجل الذي كان أول عمل سجلت فيه أو بحث جامعي حول الشك في فينومينولوجيا الروح. وطبعا كان السبب الرئيس للتخلي هو عدم التمكن الكافي بعد من الألمانية وليس هذا الدافع الذاتي وحده لأن \"عيافتي\" للشعارات الحداثو يةكانت مؤثرة ل كنها لم تكن كافية لأن اتخلى عن البحث في طبيعة العلاقة بين العلم والمطلق والدين المطلق مقومين رئيسيين من فكر هيجل جعلاني أهتم به. ل كني لما عدت إلى الغزالي واعددت بحثي حول خصومة التهافتين في مسألة السببية سنة 1972في باريس انفتحت أمامي ضرورة العودة الفعلية للفخ الأول الذي حصل في شباكه الفكر الفلسفي الأول في حضارتنا (جمود المدرسية العربية القديمة) لتجاوز الفخ الثاني الذي أراه بالعين المجردة والذي حصل في شباكه الفكر الفلسفي الثاني في حضارتنا (جمود المدرسية العربية الحديثة). لذلك فيمكن أن أزعم أن مساري الفكري كله هو ما أدين به لهذه الصدمة التي عشتها لما تبين لي الفرق بين ابن رشد والغزالي ليس في الفلسفة النظر ية (فلسفة النظر والطبيعة في نقد الميتافيز يقا :تهافت الفلاسفة) فحسب بل خاصة في الفلسفة العملية (فلسفة العمل والتاريخ في نقد السياسة :فضائح الباطنية) .وكل ما عانيت منه في الجامعة علته موقف النخبة الحداثية من موقفي النافي لصحة موقف النخبة منه. فهي كلها مجمعة على تفضيل تهافت التهافت على تهافت الفلاسفة وتتجاهل فضائح الباطنية أو تجهله وعلى القول بثور ية ابن رشد إما تقليدا لصاحب ابن رشد اللاتيني 97
–– (ارناست رونون) أو لصاحب ابن رشد اليساري الأرسطي (ارنست بلوخ) .ورغم التقابل بين المرجعيتين فهم يجمعون على أن الغزالي ظلامي وعلة تخلف المسلمين إذ يعتبرون نقده قتلا للفلسفة وتأسيسا لمعاداتها في حين أنه هو الذي أدخلها لكل علوم الملة فقها وتصوفا فضلا عن الكلام والفلسفة النقدية. ل كني اعتبره قد كان كله لصالح ما سعيت إليه .تركتهم يعمهون وشرعت في مواصلة البحث بالعودة إلى مناقشة ال كذبتين أعني كذبة البداية الفلسفية والعلمية بما يسمونه المعجزة اليونانية لكأن بدايتهما يمكن أن يبدأ بمعجزة غايتها إخفاء ما تقدم عليهما وكذبة الاستئناف الفلسفي والعلمي بما يسمونه المعجزة الأوروبية لكأن الاستئناف يمكن أن يحصل بمعجزة غايتها إخفاء ما توسط بينهما .وتلك هي محصلة ما أحاول القيام به منذ ذلك اليوم أي منذ سنتي الثانية بدار المعلمين العليا إلى اليوم. ولأمر الآن إلى الغزالي .فقد جمع بين موقفين أحدهما فيه تمحض للعلم مع التحذير من العلاقة بالحكام والثاني يبدو نقيضه هو أن أهم كتبه الفلسفية كانت بالجوهر سياسية. وهو ما يعني أنه وضع نفسه في ما عابه ابن خلدون على ذوي القدرة من العلماء إذ يبتعدون عن خدمة الجماعة بسبب ما يصفه يمكن اعتباره صدام بين \"تكبرين\" يعبران عما سماه حب التأله عند الحكام الذين يستعبدون من يخدمهم وحب التاله عند العلماء لاعتدادهم بعلمهم ورفضهم خدمة الجماعة لرفضهم نتيجة القبول بالخدمة. وابن خلدون يعتبر صراع السلطانين سلطان المعرفة وسلطان الحكم من أهم أسباب انحطاط الأمم لأن تكبر أولئك يؤدي إلى تقديم هؤلاء حثالة النخبة .فيكون في ذلك 98
–– سر الانحطاط لأن الحكام بسبب تكبرهم يفضلون التوابع والعبيد على ال كفاءات القادرة على علاج ما تحتاج إليه الدولة من النخب القادرة على تنظيم وظائف القوامة التي تسهر على شروط الرعاية تكوينا وتموينا والحماية الداخلية والخارجية. ل كن مزية الغزالي هو أنه قبل حصر الخدمة في عمله العلمي في مجال الفلسفة والدين والفلسفة السياسة خاصة .فقد كان أهم مفكر خدم العهد السلجوقي الذي تمكن من انهاء سيطرة البويهيين والباطنية فكان من أساطين المدرسة التي أسسها ثاني أكبر شهيد الدفاع عن السنة اقصد وزير الخلافة العملاق مؤسس نظام التعليم الذي مكن من الصمود الفكري أمام الباطنية. ل كنه -وهذا ما لم يفهمه من تصورني قد صرت غزاليا اقتصارا على و يل للمصلين كعادة العجلين-سرعان ما فهمت علل نكوص الغزالي إلى ما نقده فتبنى أهم أداتين يحاربان ما كان يهدف إليه نقده من تحرير منهما: فهو انتهى إلى القول برؤ ية ابن سينا الميتافيز يقية وبرؤ ية ال كشف الصوفية التي هي أخطر من الميتافيز يقا. فبالتبني الأول صار قائلا بالمطابقة فيكون العقل محيطا بالحقيقة المطلقة وبالتبني الثاني صار قائلا بقول بإمكانية علم الغيب بالمجاهدة الصوفية. فتخلى عن أهم اكتشاف كان يمكن أن يجعله قادرا على تحقيق ما حققه ديكارت أعني مفهوم \"طور ما وراء العقل\" الذي يبقى ممكنا حتى لو كان \"قدف النور في قلبه الثقة بالأوليات\" فلا يحافظ على المطابقة والاحاطة: 99
–– وإذن فهو يشارك ديكارت في الشك و في القول إن أساس الإيمان بالعقل نور بقذفه الل ِّه في القلب يمكن من الثقة في الأوليات حتى وإن كان ديكارت قد عبر عنه بمفهوم مختلف هو \"الضمانة الإلهية\" التي تمكنه من الخروج من الحقيقة الوحيدة التي اثبتها أي ال كوجيتو متحررة من كل شك لتكون معيار تحديد الحقيقة ل كنه معيار لا يكفي لضمانة عدم ا لخداع فيها. فكيف الخروج من الذات والانتقال إلى إدراك حقيقة الوجود الخارجي أي ليعلم العالم :ذلك هو العنصر الذي لا بد فيه من ضمانة إلهية وتلك هي علة الحاجة إلى النور الذي يقذف في القلب دون أن يؤدي المطابقة والإحاطة. وفي ذلك كان شك ديكارت مثمرا ومؤسسا لبداية الفلسفة ا لحديثة وشك الغزالي معطلا دون هذه البداية ل كنه ليس ظلاميا كما يزعم من لا يفقهون غير الشعارات الجوفاء التي تجعلهم من العجلين والقائلين بو يل للمصلين. فديكارت لم يستنتج من \"الضمانة الإلهية\" لحقيقة ما يدركه الإنسان للحقيقة دليل قدرة على ال كشف بالمجاهدة الصوفية بل غير منهج العبارة عما يدركه الإنسان منها بجعلها ر ياضية دون أن يزعم أن ما يدركه الإنسان يكون مطابقا ولا محيطا مثل العلم الإلهي. ما كان يعنيني من عمل الغزالي هو \"مفهوم طور ما وراء العقل\" حتى وإن كان قد تخلى عنه .ما يعنيني هو أن رده على الميتافيز يقا في تلقيها السينوي كان تحريرا للفكر الفلسفي من القول بالمطابقة والاحاطة في النظر ومن الهيمنة الباطنية في العمل. 100
–– وما ترتب عليهما من رده على الوصية في الحكم في عرضها من قبل داعي الدعاة المعاصر له -دعما للرؤ ية السنية للسياسة في بغداد عاصمة الخلافة ضد الرؤ ية الباطنية في دولتها في القاهرة عاصمة الإمامة-اشبه ما يكون بتحرير السياسة من الهيمنة الباطنية. وتل كما هما البدايتان اللتان تمثلان دور الغزالي في حضارة الإسلام أولا في حضارة العصر لأن تلازم دوره مع دور ابن سينا كان البديل المنتظر في الغرب الذي بدا يدرس الفلسفة بصوت مختلف يحرر من المشائية في شكلها الذي يشد الفكر إلى ما يحول دونه وتجاوز الباطنيتين بإصلاح الفلسفة والدين. تلك هي بداية الثورة عليهما لتجاوزها وإن لم يثمر ذلك لأن التعامل التقليدي معها بمنطق \"اكتمال العلم ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم\" لم يكن راي الفارابي وحده وزعم تحو يلها إلى علم بمنطق ابن سينا بحيث إن ما تلا نكوص الغزالي أنجب المدرسيتين اللتين مثلهما رابوع القرن السادس الهجري الثاني عشر السادس الميلادي أي السهروردي المقتول والرازي مشرقا وابن رشد وابن عربي مغربا. وتلك غاية الجمود الفلسفي والديني بشكليهما الكلامي والصوفي دينيا والمشرقي والمشائي فلسفيا .والحصيلة التي مكن منها استئناف النقد الذي شرع فيه الغزالي إلى أن بلغ الغاية في الخروج من الجمود بفصل ثورتين في فلسفة النظر وفي فلسفة العمل تم اكتشافهما بالعودة إلى تدبر القرآن ال كريم تدبرا أدى إلى التحرر من الوساطة الروحية في التربية والوصاية السياسة في الحكم. 101
–– وما يعنينا منهما هو الاساس الذي صاغه ابن خلدون عندما أشار إلى طبيعة حضور مسألة الحكم في علم الكلام السني خلال محاولته التحرر من فكر الباطنية :فهو ينطلق من مبدأ الفرق بين الموقفين السني والباطني من هذه القضية .فقد كان لا بد من ثورة فلسفية حقيقية لحسم أصل الفتنة ال كبرى تنطلق من الحسم في هذا الفرق بين الرؤيتين. ومن دون هذا الحسم الذي سنخصص له الفصل الموالي ما كان حل الغزالي لصالح سياسة الخيار أي اعتبار مصدر الحكم إرادة الجماعة ذا أساس مستمد من القرآن نفسه فيكون الأساس مخلصا في آن من الرؤ ية الباطنية والرؤ ية اليونانية. فالحل الذي قدمه الغزالي من خلال الموقفين من الفلسفة النظر ية والفلسفة العملية لا يكفي فيه الموقف من الباطنية بل لا بد من الموقف من منزلة مشاركة الشعب في حكم نفسه بنفسه بمعنى لا يجعله دالا على حكم النزوات بل هو حكم العقل الوحيد الممكن بمنطق السياسة التي تسعى لتحرير الإنسان من التبعية الروحية للوسطاء بين الإنسان وربه والتبعية المادية للأوصياء في أنظمة الحكم بين الإنسان وشأنه. ل كن التركيز هو التحرير من الحكم بالوصية التي تلغي دوريها السياسيين أي دورها في التربية للحاجة إلى وساطة ما يشبه ال كنيسة هي سلطة المرجعية الباطنية ودورها في الحكم للحاجة إلى وصاية ما يشبه بالحق الإلهي في الحكم لأسرة مختارة نظير الشعب المختار في اليهودية التي تبنت منها المسيحية نظر ية الحق الإليه في الحكم والتي دحضها لوك في فلسفته السياسية لتأسيس الديموقراطية الغربية الحديثة .ونظر ية الأنظمة اليونانية. 102
–– لذلك كان لا بد من ثورة فلسفية حقيقية هي تحديد طبيعة المنطق الذي تعمل به السياسة وهو متخلف تماما عن المنطق الأرسطي ويمكن أن نطلق عليه اسم المنطق السياسي .وهو رد السياسي إلى المعرفة الاجتهادية وليس إلى المعرفة القائلة بالإحاطة والمطابقةكالتي يتأسس عليها المنطق الميافيز يقي. فالاجتهاد السياسي لا يخضع لعدم التناقض ولا الثالث المرفوع ولا للهو ية الثابتة للأفعال السياسية التي هي تصرف في الأدوات خاصة لتحقيق الغايات التي تحددها إرادة الجماعة على الأقل من حيث هي المؤولة لها حتى عندما تدمة الغايات من النوع الذي يستند إلى مرجعية دينية تقول بالوحي (فصل ولاية العهد). ل كن شرط ذلك التسليم بصحة الموقف الذي سماه الغزالي بالاختيار في الإسلام السني ودحض الوصية في الإسلام الشيعي .و يكفي لذلك نفي أن يكون الحكم منتسبا إلى العقيدةكما يزعمون .وسأورد النص الذي يقرر فيه ابن خلدون هذا المبدأ .فقد ورد في فصل علم الكلام العاشر من الباب السادس: \"وألحق بذلك (مسائل الكلام) الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ بدعة الإمامية في قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة فيها لمن هي له وكذلك على الأمة .وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجماعية ولا تلحق بالعقائد فلذلك الحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعه علم الكلام\". 103
–– فهذا هو الفرق الجوهري بين الخلافة بمعناها السني الذي يؤسسها على الاختيار والإمامة بمعناها الشيعي الذي يؤسسها على الوصية .والنص المتمم لهذه الثورة ورد في فصل ولاية العهد من الباب الثالث وهو ما سيأتي تحليله في الفصل العاشر من المحاولة. 104
–– مرة أخرى سأبدأ هذا الفصل كذلك بما يشبه إحالة إلى السيرة الذاتية .فما كنت لانشغل بابن تيمية أصلا لولا أني تحيرت في فهم النقلة من الغزالي إلى ابن خلدون من دون وساطة لم اجدها في المدرستين اللتين عادتا إلى جمود الفكر الفلسفي والكلامي والصوفي والفقهي في القرن السادس والسابع الهجر يين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين رغم أن العلوم لم تتوقف فيهما ول كن بالأسلوب الذي يواصل ما كان سائدا في الحضارات السابقة دون تغيير جدري في تأسيسها القديم الذي يبدو قد بلغ الاشباع الذي لم يكن بوسعه تجاوز ما تحقق عند اليونان فضلا عن كونه قد على هامش الثقافة الإسلامية دون أن تندرج بحق فيها لتصبح جزءا من تربيتها النظامية ودون أن تتدخل الرؤ ية الفلسفية التي تحاول تجاوز هذا الجمود بنقده الذي بدأ مع الغزالي إلى الجمع السوي بين الديني والفلسفي بما يشتركان فيه أي بعلاج شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. فالإصلاح الذي يقدمه الغزالي نكص إلى التصوف والسينو ية ولم يثمر تبني العلوم على أساس الرؤ ية التي دافع عنها في محاولة التحرر من الميتافيز يقا وما تنبني عليه من القول بالمطابقة في النظر والتمام في العمل دون مسافة بين ما في الأذهان وما في الأعيان. 105
–– فكان لا بد من هذه الحلقة الواصلة بين نقد الغزالي قبل نكوصيه وبين ابن خلدون مؤسس فلسفة التاريخ ونظر ية العمران البشري والاجتماع الإنساني. بوصف الأول فلسفة في الاستعمار في الأرض بشروطه والثاني فلسفة في الاستخلاف فيها بشروطه .وتلك هي الفرصة التي كان ينبغي أن تجعل العلم الممكن من الأولى جزءا من العلم الممكن من الثانية ومن ثم تحقيق الثورة التربو ية التي تصبح تكوينا للإنسان في علوم قوانين الطبيعة وعلوم سنن التاريخ تطبيقا لفصلت 53أي رؤ ية آيات الل ِّه في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الأنفس (كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي). فما هو منطق السياسة المتحرر من الثالث المرفوع ومن عدم التناقض ومن ثبات الهو ية المتعلقة بالأدوات التي تعالج طرق تحقيق الغايات؟ إنه الاجتهاد في اختيار الأدوات أو الحلول باختيار أفضل الطرق واقلها كلفة لتحقيق الغايات التي هي عقدية سواء في الأديان المنزلة أو في الأديان الطبيعية أو حتى عند الملحدين :إذ السياسية هي كما يحددها ابن خلدون هنا بالقول :وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجماعية. وهكذا نصل إلى التأسيس الفلسفي للتعددية التي لا تخضع لمنطق عدم التناقض والثالث المرفوع وثبات الهو ية .والنص ورد في فصل ولاية العهد من الباب الثالث\": ( )...شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين .فاعلم أن اختلافهم يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة. 106
–– والمجتهدون إذا اختلفوا .فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإنه جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ منهما والتأثيم مدفوع عن الكل اجماعا. وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ والتأثيم .وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية .وهذا حكمه\". لن أطيل الكلام في شرح هذا النص شديد الوضوح لأني خصصت له عدة محاولات لبيان طابعه الثوري :ذلك أن الكلام على الاختيار يمكن أن يبقى عديم الحجة إذا قلنا بأن التعدد فيه مناف لهذه المبادئ الثلاثة في المنطق الذي يخص معرفة الحقيقة أو إذا قلنا إن السياسة لا تعنيها الحقيقة لأن كلا الحلين هما علة ما يبدو من قوة حجة الباطنية: قلنا بالأول بات من الواجب أن نخضع المواقف السياسية لمنطق البحث عن الحقيقة فيكون الحل هو وجود من يقدر على اكتشاف الحقيقة المطلقة دون سواه .ولما كان ذلك شبه مستحيل في السياسة باتت الحاجة إلى الإمام المعصوم الذي يدعي العلم بالحقيقة المطلقة بما يشبه الوحي المتواصل والموروث في الأسرة المختارة مثل نظر ية شعب الل ِّه المختار. وإن قلنا بالثاني بات من الواجب أن نقول بالحل السوفسطائية بمعنى أن الحقيقة لا وجود لها وإن وجدت فلا يعلمها أحد وإذا علمها فلن يستطيع قولها وإقناع الناس بها ومن ثم ففي هذه الحالة يصبح الحل الوحيد هو العنف فتكون حجة القوة بديلا من قوة 107
–– الحجة .ولما كان البشر يريدون بالحكم تجنب حجة القوة واستبدالها بقوة الحجة نعود إلى حل الوصاية. إما إذا كان الحل هو ما يقدمه ابن خلدون أي إن السياسة اجتهاد في الطرق والأدوات التي تحقق الغايات وكانت الغايات هي شروط الرعاية وشروط الحماية فإن هذهكونية سواء في الأديان السماو ية أو في الأديان الطبيعية أو حتى في الالحاد :الحاجة إلى السياسة هي موضوع العمران البشري لرعايةكيان الإنسان المادي والروحي وموضوع الاجتماع الإنساني لحمايةكيان الإنسان المادي والروحي. ولما كانت وظائف الرعايةكونية ووظائف الحمايةكونية فإن الخلاف لا يتعلق بهما بل بالأدوات والطرق التي تحققها وهذه لا بد فيها من التعدد والتشاور لتحقيقها والخلاف فيها اجتهادي وليس علميا وليس فيها من هو مصيب بإطلاق ومن هو مخطئ بإطلاق بل من هو أكفأ لتحقيق الغايات بأقل كله ومن هو أردأ ولا أحد يستطيع تحديد ذلك غير الاختيار الذي يشارك فيه الجميع وهو معنى الحكم بالشورى بين المواطنين بطرق يمكن تنظيمها بحسب ما يتوفر من وسائل لتحقيق هذه الشورى. فينتج من ثم ليس تعدد القوى السياسية فحسب بل التعدد في كل حزب منها حتى لو كانت في شكلها البدائي أعني القبلية .والتعدد قابل للحصر وهو دائما لا يحتوي على الواحد ولا على الكل بل هو ناتج عن تقاسم العمل في الجماعات البشر ية والسياسي بمعنى قوامة الشأن العام منها وليس مختلفا عنها. 108
–– وما يقوله ابن خلدون عن تصنيف الأنظمة السياسية يعتبره في الحقيقة حاصلا في كل نظام منها بحيث إنها دائما مؤلفة من الخمسة التي يذكرها و يضعها بين العصبية المفضية للهرج قبلها والحرب الاهلية بعدها فيكون النظام السياسي والدولة متجاوزة للعصبية المفضية للهرج وهي في الغالب كثرتها والعصبية الموصلة إلى الحرب الأهلية وهي بعدها. فلنورد النص الباب الثالث الفصل 51في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره: \"اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حكم يرجعون إليه .وحكمه فيهم: تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الل ِّه يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به ملبغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليهكل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسا .ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع 109
–– بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع. وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير. ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين: أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة مل كه على الخصوص .وهذهكانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة .وقد أغنانا الل ِّه تعالى عنها في الملة ولهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب واحكام الملك مدرجة فيها. والوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعا .وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر. إلا أن ملوك المسلمين يحرون منها على ما تقتضيه الشر يعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية واشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرور ية .والاقتداء فيها بالشرع أولا ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سرهم\". اعتبر هذا النص الصوغ الأوضح لنظر ية الدولة في الإسلام لأنه يبين ما به تختلف عنها في النظامين السابقين عليه والمسيطيرين على الإقليم الذي كان تحت استعمارهما وخلصه الإسلام منهما :نظام فارس ونظام بيزنطة وإن كان الأول قد ذكر صراحة والثاني ضمنيا وبتغييب التناظر بين الأول والثاني. 110
–– فقد وصف النظام الفارسي بكونه يستند إلى الحكمة الدنيو ية وقسمه إلى قسمين صالح وفاسد .وذلك النظام الإسلامي بأنه يستند إلى الديني الذي يتجاوز نظام الحكمة الدنيوي ل كنه لم يشر إلى قسم ثان فيه يناظر الثاني في الأول .كما أنه لم يشر إلى النظام المستند إلى الحكمة الدنيو ية له دين وليس عديم الدين ومن ثم فهو يعتبر الدين الطبيعي أي غير المنزل ليس دينا بل هو تابع للحكمة الدنيو ية أي التي لا تجمع بين عاملين دنيوي واخروي. ولو أشار إلى هذه التبعية لفهم أن الديني المنزل هو بدوره يمكن أن ينقسم بنفس المعيار الذي قسم به النظام الدنيوي أي إلى ما يكون لصالح الحاكم والمحكوم وإلى ما يكون لصالح الحاكم دون المحكوم فيدرك حينها أن التحر يف الباطني للإسلام هو جعل الدين لصالح الحاكم دون المحكوم لأن يكون تابعا للوساطة الروحية والوصاية السياسية أعني نفس النظام الذي كان سائدا في بيزنطة .وهو ما يعني أن إيران الحالية لا يستند نظامها إلى الإسلام بل إلى الجمع بين نظام فارس القديمة ونظام بيزنظة الذي عوضوا حرفوا الإسلام ليصبح مطابقا له في الحاجة إلى الوساطة الروحية (ال كنسية) والوصاية السياسية (الحق الإلهي في الحكم لأسرة مصطفاة). وأهم نتيجة وصل إليها ابن خلدون هي أن الحكم في العالم كله فيهكل ما سلف بمعنى أن القوى السياسية التي تحكم تنقسم نفس هذه القسمة فبعضها يحكم وليس في ذهنه إلا المصالح الدنيو ية إما احتكارا في مصلحة الحكام أو اسهاما للمحكومين فيها وبعضها يحكم وفي ذهنه المصالح الاخرو ية ول كن إما احتكارا في مصلحة الحكام أو اسهاما للمحكومين مع حاجة الحكم إلى الشوكة فيها جميعا. 111
–– وهذه النظر ية قد لا يكون ابن خلدون واعيا بالصوغ النسقي لها ل كنها قابلة لهذا الصوغ الذي اقترحه حتى يكون ذلك مطابقا للتاريخ السياسي الفعلي في كل الحضارات أولا وحتى يطابق دور المقابلة القرآنية بين النظام الخاضع لبعدي دين العجل والنظام الساعي للتحرر منهما: فالنظام الخاضع لبعدي دين العجل هو النظام الذي يحكم بتحو يل أداة التبادل أي العملة إلى أداة سلطان على المتبادلين وهو تحر يف العملة بربا الأموال وجعل أداة التواصل أي الكلمة إلى أداة سلطان على المتواصلين وهو تحر يف الكلمة بربا الأقوال: وربا الاقوال هو سلطان الوساطة ال كنيسة التي يرمز إليها خوار العجل أي كل توظيف إيديولوجي للقيم الروحية سواء كانت دينية أو لا دينية للسيطرة على الوعي الإنساني وتلك هي الوساطة بين المؤمن وربه سواء كان مفارقا أو محايثا. وربا الأموال هو سلطان الوصاية السياسة التي يرمز إليها معدن العجل (الذهب) أي كل توظيف فعلي للقيم المادية سواء كانت في الوصاية ذات التأسيس على ربا الاقوال الدنيو ية (كما في الماركسية) أو الاخرو ية (كما في الباطنية). وحينها يصبح من اليسير فهم طبيعة الثورة الإسلامية في نظام الحكم بتحريره من العجل الذهبي أي من مصدر ربا الأقوال الذي هو خوار العجل وال كنسية سواء كانت دينية أو علمانية (الحزب الشيوعي كنسية علمانية ومثلها الرؤ ية اليعقوبية هي علمنة للكاثوليكية). 112
–– تونس في :2022.04.04 إن تأسيس الحصيلة التي عرضتها في الفصل العاشر والتي مثلتها نظر ية ابن خلدون في عدم التأثيم شرطا في التعدد السياسي ورؤيته لتصنيف الأنظمة السياسية في كل دولة مجردة لم يكن بالوسع فهمها انطلاقا من فلسفة الرؤى اليونانية والرومانية والفارسية التي كانت سائدة قبل نزول القرآن. ل كن الفلاسفة التقليديين لم يكن لهم القدرة على التخلص من القول بالمطابقة في النظر والتمام في العمل الموروثين عن الفكر المشائي حتى بعد محاولة تعديله بالفكر الافلاطوني استنادا إلى محاولة افلوطين بل ظل فكرهم جامدا لا يميز بين ما في الأذهان من التصورات وما في الاعيان من الموجودات. وللمرة الثالثة لا بد من تعريج إلى السيرة الذاتية لان مسار البحث الأكاديمي لا يكفي فيه انشغال صاحبه به إذا كان حقا يطلب علاج قضية يعتبرها محددة لأهم ما يعنيه في حياته بل لا بد فيه من نوع من الجهاد بسبب تسلط من يستغلون النفوذ الناتج عن ولائهم للسلطان الجائر فيصبح عرضة للاضطهاد وقد يناله من التهميش ما لا يجهله ال كثير من الباحثين في جامعات تعكس طبيعة الفاشيات الحاكمة بل لعلها أكثر فاشية من الفاشية الحكمة. 113
–– تلك هي العلة التي جعلتني ابحث عما حدث في الفكر الفلسفي والكلامي فجعل ابن خلدون يصل إلى ما توصل إليه الغزالي قبل نكوصه إلى السينو ية وال كشف الصوفي. فوضع هذا السؤال أوصلني بالصدفة إلى ابن تيمية الذي كنت أجهله تماما ولم يدر بخلدي أبدا أن يوجد مثله في فكرنا الفلسفي القديم لفرط ما \"عفت\" سماع مثيله في فكرنا الفلسفي الحديث. فما كان يقدسه القدامى من مفكرينا ورمزهم قولة الفارابي الشهيرة بأن العلم انتهى في عهد أرسطو ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم (الحروف) وموقف ابن رشد الأشهر في شبه تاليه لفكر أرسطو خاصة لم يكن أفلاطون ولا أرسطو يعتقدانه .فكلاهما كان يعتقد أنه يجتهد ولا يزعم علمه مطلقا ولا محيطا. ل كن ما صار يقدسه المحدثون تفوق على هذا التقديس إذ إن فكر هيجل وخاصة فكر ماركس صار عندهم أكبر من دين العجائز .ثم اجتمع التقديسان عند من يزعمون العقلانية ومعرفة الواقع .وطبعا فما ذلك إلا للجهل بأن تقديس أي فكر إنساني وظنه محيطا دليل حمق لا تجده إلا عند المتوهمين أن العلم الإنساني يمكن أن يكون مطلقا والعمل الإنساني أن يكون تاما. لذلك كنت أعجب من وصف من يعتقدون ذلك أنفسهم بالتنوير لكأنهم لم يسمعوا بالنقد بالشك الديكارتي الذي توهموا ما تقوله عنه الرواية الرسمية مطابقا لرؤيته فلم يفهموا أن غايته لم تكن الدغمائية اليعقوبية التي جعلته ملحدا قادرة على فهمه بوصفه البداية التي انتهت النقد ال كنط. 114
–– وطبعا لا يمكن لهؤلاء أن يصدقوا أنه يمكن أن توجد مدرسة نقدية عربية لا بد من معرفتها والنظر في آرائها بدلا من اعتبارها ممثلة للظلامية تصديقا لما قال بلوخ في قياس معركة التهافتين على معركة اليمني واليسار الهيجلي .فصار ال كثير منهم يعتبرني أخطر على الفلسفة من الغزالي لأني فضلته على ابن رشد في رسالتي حول مفهوم السببية. فعزمت على تحدي التخر يفين حول تاريخ فكرنا وتاريخ الفكر الحديث وتحمل النتائج التي كنت اعلم أنها ستكون باهظة .ل كنها في الحقيقة صارت مناسبة ل كي اتخلص مما تصوروا حرماني منه قد يوقف نشاطي .فالقائلون بحصر البحث العلمي في راي الفلاسفة بالمعنى الرسمي واستثناء معارضيهم وناقديهم ممن لا يعتقدون أن العلم يمكن أن يكون مطابقا ومحيطا وان العمل يمكن أن يكون تاما ومطلقا لم يحولوا دوني والغوص في تاريخ هؤلاء المهمشين بسبب دغمائية متخلفة عند من يتصورون أنفسهم تنوير يين وحداثيين. كانت حجتي التي تثبت موقفي ليست وجود المدرسة النقدية الألمانية فحسب بل خاصة تاريخية النظر والعمل وتطورهما اللذين لا ينكرهما إلا الحمقى .فلو كان القول بالإحاطة والمطابقة معرفيا وبالتمام والإطلاق عمليا صحيحا لما كان العلم متطورا وذا تاريخ ولما كان العمل متطورا وذا تاريخ .لو كان العلم محيطا والعمل تاما لكانت المرحلة الأولى منهما كافية ولا وجد تاريخ العلم والعمل وتطورهما. وانطلاقا من هذين القناعتين أقدمت على قراءة أعمال ابن تيمية التي يدحض فيها القولين اللذين كانا مسيطرين على فكرنا القديم وأصبحا أكثر سيطرة في فكرنا الحديث. 115
–– حينها وجدت ضالتي أي علة النقلة من نقد الغزالي العام رغم نكوصه دونه لاحقا إلى نقد ابن خلدون المتعلق بالفلسفة العملية وتخطي نكوصي صاحب تهافت الفلاسفة. ل كن فهم ابن تيمية الذي هو أكثر عمقا من كل فلاسفة الإسلام ومتكلميه كان يقتضي التغلب على عائق الشذوذ وخاصة على تحمل ما يترتب عليه من الخروج على الرؤ ية السائدة على فكر النخب العربية التي تدعي الحداثة والتنوير ومحاربة القدامة والتظليم. والمقابلةكانت بالأساس بين كتابين هما تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت أي بين الغزالي وابن رشد رغم نكوص الغزالي إلى السينو ية فلسفيا وإلى ال كشف صوفيا. ولما كان ابن تيمية اكثر \"تطرفا\" من الغزالي في نقده وأكثر قدرة وبرهانية من تشكيك الغزالي الذي انتهى إلى محو ثمرة نقده فيا لمنقذ صوفيا وفي تبني فلسفة ابن سينا فلسفيا انطلاقا من هذين النكوصين كان من العسير المغامرة خاصة وابن تيميةكما هو معلوم كان يظن مؤسسا للوهابية عند الحمقى ممن يتصورون ابن عبد الوهاب كان قادرا على فهم ابن تيمية حتى في مستوى فتاواه. لذلك فكرت الشروع في تسجيل البحث في السوربون قبل التسجيل في تونس مباشرة. سياتي ما يؤيد ذلك بنشر المراسلات مع من قبل الإشراف على بحثي .وقد تمت الموافقة منه وهو أكبر كالأبستمولوجيين الفرنسيين بمساعدة مستشرق فرنسي .وكان ذلك كافيا للتسجيل في تونس لتجنب كلفة العودة إلى فرنسا وإيقاف عملي مرة أخرى ول كي أكتب البحث بالعربية بدلا من الفرنسية فكانت رسالة منزلة الكلي في الفلسفة بجزيها النظري 116
–– (في الكلي) والتطبيقي (في اصلاح العقل) إذ كنت اريدها بالعربية بخلاف رسالة التعمق في البحث حول الر ياضيات في علم ارسطو. فيم تتمثل إضافة ابن تيمية في الفلسفة السياسية؟ إن الإضافة التيمة مضاعفة .فهي فلسفيا تمكن من الوصل بين بداية النقد عند الغزالي لكتاب المتيافيز يقا في تلقيه السينوي مدخلا لتأسيس نظر ية العلم الطبيعي دون الحاجة إلى القول بالضرورة الطبيعية ونفي الحر ية الإلهية وغايته عند ابن خلدون في نقد فلسفة التاريخ وتأسيس العلوم الإنسانية دون الحاجة إلى القول بالضرورة الطبيعية ونفي الحر ية الإنسانية. وهي دينيا تمكن من فهم معنى أنهم ثلاثتهم يستنتجون النظر ية السياسية ونظر ية الدولة من القرآن ال كريم بوصلها مباشرة مع الانثروبولوجيا القرآنية أي نظر ية الإنسان في القرآن من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها: والخاصية الأولى تجعل السياسية فن الاستعمار في الأرض والدولة قيمة على شروط سد الحاجة الاقتصادية لقيام الإنسان العضوي أي قوامة انتاج الثروة المادية والرمزية. والخاصية الثانية تجعل السياسة فن الاستخلاف فيها والدولة قيمة على شروط سد الحاجات القيمية لقيام الإنسان الروحي أي قوامة انتاج التراث العلمي والعملي. وهما تعر يف ابن خلدون لإبداعه في المقدمةكما يتبين من اسمها المضاعف :فهي \"علم العمران البشري (=فن الاستعمار في الأرض) و(علم) الاجتماع الإنساني (=فن الاستخلاف)\". 117
–– ِإ ِّن الل ِّه َي َْأمُرُكُ ْم َأن ت ُؤ َ ِّدواْ ال َأمَان َا ِت ِإل َى َأهْل ِهَا وَِإذَا حَكَمْت ُم ب َي ْنَ الن ِّا ِس َأن َتحْكُم ُواْ ب ِال ْعَ ْد ِل ِإ ِّن الل ِّه َ ن ِع ِمِّا ي َع ِظُكُم ب ِهِ ِإ ِّن الل ِّه َ كَانَ سَم ِيعًا ب َ ِصيرًا. ي َا َأ ِّيه َا ال ِّذِي َن آمَن ُواْ َأطِيعُواْ الل ِّه َو َأطِيعُواْ الر ِّ ُسو َل وَأول ِي ال َأ ْمرِ مِنكُ ْم ف َِإن ت َن َازَ ْعت ُمْ ف ِي ش َ ْيءٍ ف َر ُدِّوهُ ِإل َى الل ِّهِ وَالر ِّ ُسو ِل ِإن ُكنت ُمْ ت ُؤْمِن ُونَ ب ِالل ِّهِ وَال ْي َوْ ِم الآ ِخرِ ذَل ِ َك خَيْرٌ و َأ ْحسَ ُن ت َْأوِ يلا ً. الآية الأولى فيها وظيفتان :أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل الآية الثانية فيها وظيفتان :المرجعية الشرعية وعلاج النزاعات والأصل فيها جميعا التعاكس بين مضمون الآيتين :بمعنى أن دور الراعي في الآية الأولى ودور الرعية في الآية الثانيةكلاهما فيه شيء من تأثير رديفه. فالراعي لا يمكن أن يقوم بالوظيفتين ألأوليين من دون أن المرجعية الشرعية والرعية لا يمكن أن تؤدي الوظيفتين الثانيتين من دون أن تتصرف كراعية .فيكون الراعي مشدودا بواجب الرعية في فرض ال كفاية مضمون الآية الأولى وتكون الرعية مشدودة بفرض ال كفاية في فرض العين مضمون الآية الثانية .وذلك هو معنى كل كم راع وكل كم رعية. وهذا هو الترجمة الحرفية للآية الثامنة والثلاثين من الشورى :فالأمر أمر الجماعة وتلك طبيعة النظام السياسي وهي تديره بالشورى أسلوبا للحكم يحدد القوامة الأصلية فرض عين على الجميع حتى وإن كان لا بد من انتداب من ينوب الجماعة في القوامة الفرعية 118
–– لتحقيق ما توصل إليه الشورى .وذلك هو فرض ال كفاية الناتج عن ضرورة تقسيم العمل السياسي في رعاية الشأن العام. فتكون القوامة نوعين أصلية هي التي تكون الجماعة صاحبة القرار والقوامة الفرعية هي التي يكون فيها نوابها الممثلين لإرادتها أصحاب القرار الذي يكون تطبيقا للنوع الأول من القرار .ومراقبة التطابق بين القوامة الفرعية والقوامة الأصلية هو معنى فرض العين السياسي وتنظيمه مشروط بالمتابعة والمحاسبة. والأولى هي دور الرأي العام وغالبا ما يمثله نقد المعارضة للحكم والثانية هي دور التداول على الحكم الذي يقرره الشعب عندما يغير الأغلبية فيعطيها لغير من لم يبق راضيا عنه من القوى السياسية .فيكون هرم السلطة السياسية التي تعنى بالقوامة مؤلفة من العناصر التالية .فالقاعدة مربعة وتتألف من: ركنين يخصان القوامة الفرعية بمستو ييها :أحدهما يتعلق بالأمانة والثاني بالعدل وهي وظيفة القوامة الفرعية الأولى أي من تعينه الامة لنيابتها أي الخليفة ووظيفة القوامة الفرعية الثانية أي قوامة من يعينه من عينته الامة لنيابتها أي كل أعوان الخليفة المكلفين بإدارة مؤسسات الدولة المتكلفة بقوامة الرعاية والحماية. وركنين يخصان مرجعية القوامة الأصلية بمستو ييها :أحدهما يتعلق بالقوامة الاصلية وهي مشاركة الجماعةكلها في الشورى والثاني يتعلق بمراقبة التطابق بين القوامة الأصلية بمستو ييها والقوامة الفرعية بمستو ييها. 119
–– وعلى هذه القاعدة يتأسس الهرم لان سنامه هو الشورى الدائمة التي تجعل كل مرعي راع في آن وهو حقيقة النظام السياسي الذي اختاره الإسلام وعرفه في الآية الثامنة والثلاثين من الشورى الذي أطلت في شرحه مبينا أنه نظام جمهوري الطبيعة (الأمر أمر الجماعة) وديموقراطي الأسلوب (شورى بينهم) مرجعيته الاستجابة للرب ومشكله الانفاق من الرزق. فالسياسة ليس دورها شيئا آخر غير علاج معضلتي الوجود الجمعي لجعل العيش المشترك سلميا ما أمكن ذلك .وهما تعودان إما لخلافات فلسفية دينية حول المبدأ الرئيس أي أعلى سلطة في الوجود ربا كان أو طبيعة (الاستخلاف) أو لخلافات حول الرزق حقا كان او اغتصابا (الاستعمار في الأرض) سواء كانت في علاقة صدق أو في علاقة خداع بين الراعي والرعية على النحو الذي وصفت في الفصل السابق خلال تحليل العرض الخلدوني للأنظمة السياسية. وهو ما يعني أن جعل الشورى خاصة بمن يسمونهم العلماء وجعل خيار ية وليست ضرور ية يمكن للأمراء الذين هم نواب الجماعة أن يحكموا من دونها أو عكس ما تصل إليه تحر يف صريح لمدلول الآية لان ذلك لا يبقي على الأمر أمر الجماعة و يفقد معنى نسبة الأمر كله إلى المستجيبين لربهم ما يجعلهم عند القبول بهذا التحر يف قد أخلوا بالعلاقة بين تعر يفهم بالاستجابة للرب ونسبة الأمر إليهم يديرونه بالشورى لعلاج مصدر الخلافات كلها وهي تتعلق إما بالمرجعية وهي الاستجابة للرب. 120
–– وهي الأساس المرجعي للسياسة (الاستخلاف) والانفاق من الرزق وهي الأساس الغائي من السياسية (الاستعمار في الأرض). ويمكن ان نستمد الشاهد من كتاب السياسة الشرعية من حيث التطبيق السياسي ومن كتاب منهاج السنة من التأسيس العقدي وهما أوضح كتب ابن تيمية في الخلاف العقدي والسياسي بين السنة والباطنية استنادا إلى الرؤ ية القرآنية في العقد والحكم من حيث كون الأول أصل المرجعية وقيمها والثاني أصل تطبيقاتها من حيث هي محددة لقوامة الشأن العام بمنظور يمكن اعتباره أفضل تجسيد لما حاول الغزالي قبله وابن خلدون بعده صوغه فلسفيا دون استخراجه صراحة من نص القرآن بكل وظائف القومة التي تعود إلى الراعي والرعية في آن. ولهذه العلة فالرؤ ية التيمية هي في آن حصيلة الفكر الذي يمثلانه وهي اكثره تعقيدا وأوضحه فهما لنظام الحكم الإسلامي وهو كله تفسير لآيات من القرآن ال كريم .وتلك هي علة كونه شديد التعقيد ل كونه جامعا لكل ما ورد عند الغزالي قبله وعند ابن خلدون بعده ويرد إلى تفسير آيتين نمن سورة النساء هما الآية 58الآية .59وتعقيده مصدره أن ابن تيمية يورد الأفكار فيها وكأنها تفسير للقرآن جاعلا لكل فكرة شاهدا من آياته وموظفا الاحكام والقصص القرآنيين في آن. وأهم فكرة فيه هي أن الراعي والرعيةكلاهما يعير في هذه الرؤ ية بكونه حَكم في الرعاية وفي الحماية بين المواطنين وبينهم ومؤتمن عليهما من حيث شمولهما لكل ما يتعلق بأمر الجماعة بمقتضى الاحكام القرآنية والممارسة السنية كما تعينت في سياسة الرسول نفسه 121
–– بحيث إن هذه السياسة تعتبر العينة الأمثل لنظر ية القرآن في الدولة والحكم بما هو تراع يكون فيهكل فرد راعيا ومرعيا في آن. فالراعي حكم في الأمانات والعدل .والرعية حكم في شروط الطاعة والعصيان بحسب طاعة الراعي المعين منها في تمثيل إرادتها التي لا تطيعه إلا إذا أطاع المرجعة وتعصيه إذا عصاها ما يعني أنها ليس عليها واجب الطاعة عندما يطيع الراعي مرجعية الرعاية فحسب بل لها واجب العصيان عندما يخالفها الراعي أي واجب الثورة عليه (آيتان من النساء متواليتان 58و.)59 وتتعلق نظريته بخصائص القيمين الذين يكلفون بالقوامة العامة نيابة أولى للأمة بالبيعة وبالقوامة القطاعية بحسب الأمانات لمن يعينهم فيها المكلف القوامة العامة مثل الولاة والجباة والقضاة والأمنيين إلخ .ورغم أنه لم يحدد ببنية الدولة تحديدا صريحا فإن حدها يمكن استنتاجه من هذه الوظائف التي درسها في الكتاب دراسة مفصلة وتلك هي علة عسر فهم مضمونه. وبدلا من أن ينطلق بحثه من بينة الدولة المجردة يمكن أن نعتبره قد عكس فانطلق من ممن يملؤون خاناتها .فذلك فإنه بوسعنا أن نستنتج من وظائف القوامة السياسية على وظائف الجماعة في الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها رعاية وحماية .من هنا أهمية العلاج التيمي رغم هذه الثغرة: 122
–– اعتبار القوامة ولاية أمر أي رعاية من جنس دور الح َكم بمعيارين هما تطبيق مفهوم الأمانة في القوامة ومفهوم العدل في الفصل في النزاعات بين المواطنين وبينهم وبين القيمين محددين للقوامة لأهلية ولاية الأمر. اعتبار الرعية من جنس دور الح َكم في أهلية المكلف بولاية الأمرة الشامل من قبل الامة نيابة عنها ومن يكلفهم صاحب القوامة الشامة من قيمين على وظائف القوامة الجزئية .والأمة في الحالتين هي الحكم بمقتضى طاعة الل ِّه ورسوله وعدمها أي التشر يع الذي تخضع له الدولة. الحصيلة المتعلقة بالقوامة :الانطلاق من موقف ابن تيمية لوضع المبدأين الأمانة والعدل. فالأمانة علاقة بين المكلف من الجماعة أولا وممن كلفته الجماعة ثانيا وشروط أداء الوظيفة .والعدل علاقة بين القيم والمختلفتين إما في ما بينهم أو بين الجماعة والقيم وهو مهمة الحكم في هذه الحالة :أي القضاء المدني والجنائي والقضاء الإداري والدستوري. ولا بد من قضاء يتعلق بالأمانة في الولايات في علاقة بالحقوق من حيث علاقة القيمين عليها بتطبيق القانون في تصرفهم في الأمانات وهو القانون الإداري .ومن قضاء يتعلق بالأمنة في الولاية ال كبرى أي قوامة الدولة في علاقة بالدستور وهو القانون الدستور .وأصلها جميعا هو مراقبة الشعب للقيمين ومحاسبتهم عن طر يق هذه الكيانات القانونية فتكون الحسبة شرطا في مراقبة الأمانات و يكون مبدأ لا طاعة في معصية شرطا في مراقبة العدل والأمانة. 123
–– قوامة ولي الأمر وقوامة من يعينهم ولي الأمر وكلتاهما نيابة ل كن الأولى مباشرة والثانية بتوسطها غير مباشرة… وكلتاهما خاضعة لدور الحكم النهائي بمعيار الطاعة وعدمها: لأن الأول طاعته مشروط بطاعة الل ِّه ورسوله والثانية مشروطة بطاعته المشروطة بكونهكان مطيعا لل ِّه ورسوله في تعيينهم وبكونهم يطيعون الل ِّه ورسوله .وبتوسط النيابة الثانية يتم حصر كل الامانات التي هي قوامة وظائف الدولة على وظائف الأمة نيابة عنها. 124
–– تونس في 2022.04.05 قد يفهم من كلام الغزالي وابن خلدون أن الحكم بالاختيار بدل الوصية وأنه ليس من العقيدة بل من الاجتهاد الإجماعي أن نظام الحكم علماني بالمحنى الذي يراوح بين نوعيها اليعقوبي الذي يقبل التعر يف بال كنسية الملحدة أو قبل الكاثوليكية والجرماني الذي يفهم بإصلاح ال كنيسة. ولولا التأو يل التيمي للموقفين المتقدم عليه (الغزالي) والمتأخر عنه (ابن خلدون) لمقومات النظام السياسي الإسلامي باستنتاج كل وظائفه من القرآن التي بينا الهرم الذي تتألف منه لا ستحال فهم مقصديهما. فهذا الهرم الذي بينا قاعدته المربعة وذروته التي ترد إلى الاستناد إلى ما يسد حاجة مقومي كيان الإنسان العضوي أي الاستعمار في الأرض والروحي أي الاستخلاف فيها وخمستها الفروع الأربعة والاصل الذي يوحد بينها. وكلها تتعلق بقوامة الوظائف ال كونية للجماعة من حيث هي جماعة مجهزة بإنتاج ما يسد هذين النوعين من الحاجات أي بالدولة التي هي نظام القوامة لا ستحال الخروج عن هذين الحلين لتعر يف طبيعة الحكم في الرؤ ية القرآنية. 125
–– ولولا ذلك لاستحال أن نفهم أن الدولة من حيث هي دولة لها ضربان من الوجود. فهي بنية مجردة تتألف من المؤسسات التي تنظم القوامة في الدولة من حيث هي دولة وهي ثابتة لا تتغير ولا فرق فيها بين الحضارات سواء بالمكان أو بالزمان بل هي من جنس الكيان نظام التعديل الذاتي في الكيان العضوي الذي هو قيم على وظائفه أعني من جنس المناعة اللاواعية والجهاز العصبي اللاواعي في كيان الإنسان العضوي والروحي. ل كن وظائف القوامة هذه تتغير بمن يؤديها لأن البنية المجردة لا تفعل بذاتها بل بمن يملأ مؤسساتها .ومن يملأ مؤسساتها هم القيمون الذين تختارهم الجماعة: والأول يشبه نظام المناعة العضوي اللاإرادي والجهاز العصبي اللاواعي في الكائن العضوي والثاني يشبه نظام المناعة العضو ية الإرادية والجهاز العصبي الواعي اللذين يشرفان على أداء الجماعة وظائفه باختيارها القيمين كرها أو طوعا. فيكون النظام السياسي الذي يتكلمون عليه ممثلا في الأخيرين أي المناعة والجهاز العصبي الإراديين في الجماعة .وتلك هي القوامة التي يكون فيها الأمر أمر الجماعة (طبيعة النظام) تديره بالشورى (أسلوب النظام) انطلاقا من مرجعية روحية هي الاستجابة إلى الرب وغاية اقتصادية اجتماعية هي الانفاق من الرزق شرطين للعيش السلمي المشترك. 126
–– ومن الأوهام تصور الإنسان قابلا للاستغناء عن أحد مقوميه وشروط وجوده فضلا عن بقائه أي ثمرة الاستعمار في الأرض أي الثروة المادية وما تستجيب له من حاجات وثمرة الاستخلاف فيها التراث الروحي وما يستجيب له من حاجات. ل كن الميلين يوجدان في سلوك البشر .فمنهم من يزعم الاستغناء عن الثاني وهم الملحدون المخلدون إلى الرض ومنهم من يتوهم الاستغناء عن الأول وهم المتصوفون المخلدون إلى ما ورائها ,.وكلاهما كاذب لحاجةكل منهما للثاني: فالملحد أكثر الناس ميلا للخرافات العامية التي تعوض الديني عنده فيتردى وعيه الروحي إلى الخرافات العامية التي من أهم علاماتها الاعتقاد في الأولياء والمشاعر الشكلية الدالة على وعي بخلل روحي. والمتصوف لا يعيش إلا على فضلات الملحد لأن تخليه عن العمل يعني أنه غيره يمكنه من شروط بقائه بصدقاته وغالبا ما يكون لهم دور تبرير كل الظلم والقهر في الجماعة بتحر يف معنى قضاء الل ِّه وقدره. ونفي اهتمام الدين بالاستعمار في الأرض وتركه لقيصر لان الدين مقصور على الاستخلاف فيها رؤ ية أول من جعلها جوهر المسيحية هو بولص في رسائله لغير اليهود مقسما وجود الإنسان إلى كيانه العضوي التابع للدنيا وقيصر وكيانه الروحي التابع للآخرة والل ِّه. 127
–– وهذه الرؤ ية منافية للإسلام وهي ناتجة عن القسمة المسيحية التي وضعها بولص عندما نسب إلى المسيح قولة أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لل ِّه لل ِّه .وهي منافية للإسلام لأنها ضديدة الإسلام السياسي الذي هو الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف. وبهذا المعنى فالدين ينشغل بالاستعمار في الأرض ليس بوصفه سدا للحاجات العضو ية فحسب بل بوصفه خاصة امتحانا لأهلية الإنسان للاستخلاف بما يتحقق فيه من قيمه فيكون حضور الدنيا فيه شرطا في حضور ما يتعالى عليها و يكون السياسي في هذه الحالة لا يتجاوز هذا المعنى من علاقتهما بحيث يكون ما يعنيه هو الديني في الأديان وليس أحد الأديان :الإسلام ليس دينا من بين الأديان بل هو الديني فيها جمعا وهو معنى الدين عند الل ِّه .والديني فيها هو العمل بمعيار الأمانة والعدل بمرجعية الرد إلى الل ِّه والرسول لتجاوز الخلافات التي تنتج في الغالب عن الاستعمار من دون الاستخلاف. وهو معنى الاخلاد إلى الأرض .وبهذا المعنى فالحكم لا ينبغي أن يتدخل في الحر ية الدينية من حيث هي عقائد متعددة بالطبع تعددا مطلوبا بوصفه شرط التسابق في الخيرات وشرط تبين الرشد من الغي طر يقا إلى الإيمان الصادق الذي يكون في أفق الرسالة الخاتمة باعتبارها تشرئب إلى كونية القيم الني يذكر بها القرآن (المائدة .)48 وتلك هي الرؤ ية القرآنية التي تعتبر الحسم في الخلاف بين الأديان مرجأ إلى يوم الدين لأنه شرط تبين الرشد من الغي خلال البحث عن الحقيقة الدينية المشروط بعدم الاكراه في الدين. 128
–– وهذه المحاولة هي الأمل الوحيد لتوحيد الإنسانية هو ما سيقع من تغير في رؤ ية الحداثيين لما يتبين لهم ما يترتب على توحيد الطيف الإسلامي من قوة سياسية لا قبل لهم بها بعد أن يفقدوا الاعتماد على قوتي الدولة أي الأمن والدفاع والسند الأجنبي الذي نراه بصدد فقدان الزخم بعد أن يئست قائدة الغرب من الاعتماد على الأنظمة الفاشية العميلة التي اختارت الاحتماء بالفاشيات المنافسة لها. ل كن الشرط الأساسي هو الجواب عن السؤال التالي :هل يمكن للعلماني أن يتحرر من الثقة العمياء في ما يؤسسها عليه من دغمائية القول بالمطابقة المعرفية للنظر والتمام القيمي للعمل بحيث ينتهي أصحابها إلى التسليم الدغمائي بأن اثبات عبادة الوجود الدنيوي وعبادته أعسر من اثبات الوجود الأخروي وعبادة ما يتعالى عليها؟ كيف يمكن أن نفهم تأسيس العلمانية التي لا يمكن أن تتجاوز الصراع المادي فيكون ما يمكن للإنسان أن يموت لأجله لا يتجاوز بعدي العجل الذهبي أي معدنه وخواره؟ هل يمكن تأسيس حقوق الإنسان والبعد الخلقي من القانون على مجرد المصلحة المادية والعقد الإيديولوجي أي نزوات الإرادة الإنسانية من دون دعو يين كلتاهما لا شيء يثبتهما غير دغمائية الإخلاد إلى الأرض: الأولى هي نكوص هيجل إلى المطابقة المعرفية ودعوى العلم المطلق بحيث يعتبر ما يعلمه من الطبيعة حقيقة مطلقة مطابقة للدين المطلق أي المسيحية. 129
–– الثانية هي نكوص ماركس إلى المطابقة القيمية ودعوى العمل التام بحيث يعتبر ما يريده من التاريخ قيمة مطلقة مطابقة للادين المطلق أي الإلحاد. فإذا كانت العلمانية مؤسسة على نسبية المعرفة ونسبية القيمة فكيف تنفي إمكانية ما يتعالى على الدنيا معرفيا وقيميا في حين أن النسبية تفترض التسلم بأن ذلك من الممكن الذي لا يوجد ما يثبت استحالته؟ هل يوجد ما يثبت أن الاكتفاء بالمعرفة النسبية وبالقيمة النسبية دليل اكتفاء الحقيقة بظاهرها الذي يعلمه الإنسان واكتفاء القيمة بظاهرها الذي يريده الإنسان؟ كيف يكون العيش المشترك السلمي بين البشر ممكنا في هذه الحالة من دون علاقة تسلطية من الأقو ياء على الضعفاء فيزول معنى الأمانة والعدل والتفاهم والتناصف لأن التسلط والعنف يصبحان الحكم النهائي بين البشر ولا يمكن أن يتحقق تكوين قوى سياسية من مواطنين احرار يشتركون في قيم لا تستند إلى منطق القوة والباطل بدل قوة المنطق والحق؟ هل يمكن تصور وجود الجماعة بهذه المعاني من دون أن تكون في حرب أهلية دائمة كما هو بين تاريخيا لأن ذلك هو جوهر منطق العولمة وليس نظر يا فحسب؟ كيف يمكن تكوين قوى سياسية غير مافياو ية الكل يتآمر على الكل إذ حتى عندما تعمل الديموقراطية في بعض الأقطار فهي تبقى محلية ولا تقبل أن تكون كونية لأن الديموقراطي في بلده فاشي ومستبد في مستعمراته؟ 130
–– كيف يمكن تأسيس نظر ية التعاقد العادل إذا كان التعاقد المزعوم يحصل في غياب حَكم أمين يتساوى عنده طرفا العقد فيكون عادلا في التحكيم إذ يعسر ان نفهم عقدا بين طرفين غير متساو يين ووجود حكم محايد إذا كان هو بدوره تابعا للأقوى .وهنا لا بد من فهم شروط الحكم المحايد التي تعتمد على خمسة عناصر في التعامل مع القانون بافتراض اخلاق متعالية تقود المتدخلين في عملية الاحتكام إلى الحكم: فلا بد من الحكم الأمين لما يحدده القانون من مسؤوليات للقيمين والعادل في حسم الخلاف بين المتنازعين سواء كانوا المواطنين عامة أو أي مواطن والقيمين الأصليين الذي انتخبهم المواطنون أو القيمين الذين عينهم الصنف الأول من القيمين. ورد الأمانات لأصحابها يعني أن القيمين الذين يردوها إلى أصحابها يكونوا عالمين بها وبهم ومستقلين عن إرادة الأقو ياء الذين يستبدون بالأمر. ولا بد من وجود طرفي النزاع اللذين يعتبران عنده شاهدين على صحة دعواهما وخطأ دعوى خصمهما لأن كل طرف في النزاع يفترض فيه القاضي حسن النية والإيمان بوجود حكم مطلق لا تخفى عنه خافية. فيتعامل معه ليس كمدع أو مدعى عليه فحسب بل باعتباره شاهدا في النزاع لا بد من سماعه بهذه الصفة لأن سلامة القانون تقتضي التزام المواطنين به ما كانوا حسني النية. 131
–– ولا بد من وجود محاميين يساعدان المتنازعين على بيان حججهما أي إنهما مستشاران قانونيان وليس ملبسين للباطل بما يحول دون الوصول إلى الحقيقةكما هو معمول به في غالب أنظمة المحاماة لتمكينهما من التحيل على القانون بحجة البراءة الأصلية ما لم تثبت الإدانة بأدلة مادية غالبا ما يكون الأقو ياء أقدر على تحر يفها عن دلالتها وخاصة في القانون الجنائي حيث إن الاحكام القاصية تجعل أصحابه يدفعون أكثر للمحامين المشاركين في الجريمة بالتحيل القانوني. ولا بد من وجود ملجأ أخير قبل وبعد انهاء المسار القانوني العادي هو المسار القانوني الدستوري عندما يكون التأو يل منحرفا إلى حد يجعل القانون يصبح أداة تحيل على أسس الوجود الجماعي السلمي. وطبعا الحكم النهائي بالنسبة إلى المؤمنين ليس في هذا العالم بل هو الحكم يوم الدين وهو الذي يجعل من الواجب اعتبار المواطن حسن النية وشاهدا في حالتي الادعاء والادعاء عليه بافتراض أنه لا ينسى هذا الحكم النهائي. ل كن ذلك لا وجود له في حالة العلمانيين .فلا يبقى حكما نهائيا إلا الحكم السياسي وهو ما يلغيه الطابع الدكتاتوري في كل علمانية بالمعنى الثاني الذي يلغي ما يتعالى على الأمر الواقع. وفي السياسة يكون الحكم بين القوى السياسية بالتداول أي حكم الناخب الذي من المفروض ألا يكون شاهد زور في تقييم المرشحين .ل كن بعدي العجل يجعلانه في النهاية في وضعية القضاء الذي وصفت: 132
–– فتدخل الأعلام الذي هو خوار العجل في السياسة يشبه تدخل المحاماة فيه فيكون من يدفع أكثر أقدر على استمالة قضاء الشعب في الانتخابات. وتدخل المال الذي هو معدن العجل في السياسة يشبه الرشوة في القضاء فيكون من يدفع أكثر أقدر على استمالة قضاء الشعب في الانتخابات. ومن ثم فالعلمانية التي تفصل شروط الاستعمار في الأرض عن شروط الاستخلاف فيها هي التي تحول المسألة إلى مبدأ واحد هو فساد القضاء في كل مستو ياته في القضاء بأصنافه الخمسة أي: القضاء المدني وهو بين المواطنين ويتعلق بنزعات حول الثروة مباشرة وبالتراث بصورة غير مباشرة والقضاء الجنائي وبين المواطنين ويتعلق بالثروة بصورة غير مباشرة وبالتراث مباشرة والقضاء الإداري ومنه قضاء مراقبة التصرف في مالية الدولة لأنه يمس حقوق الجماعةككل ولا يختلف عن الإداري بالمعنى التقليدي إلا بكون هذا المعنى يتعلق بهم فردا فردا أي علاقة المواطن كفرد بالقيمين ممثلين للدولة في إجراءات تطبيق قانون الحقوق. والقضاء الدستوري ويشملها جميعا من حيث المطابقة مع المرجعيةكما صاغها الدستور وهو الملجأ الأخير لاي قضاء إذا كان القاضي بحق مستقلا ويريد أن يكون أمينا لمرجعية القانون الذي عليه تطبيقه بشرط اثبات شرعيته .والشرعية الوحيدة للقانون هي 133
–– مرجعيته الدستور ية في غياب حق القاضي في تجاوزها إلى الشرعية الأسمى والتي هي الشرعية الخلقية والروحية التي تحدد الأمانة والعدل. والقضاء الاصلي المشروط في الأربعة السابقة وهو أصلها سواء كان طوعيا أو كرهيا هو القضاء الشعبي الذي يكون بمقتضاه التداول على الحكم إما كرها وهو القضاء الشعبي في الفاشيات أو طوعا أو القضاء الشعبي الديموقراطيات داخليا والتي هي فاشية خارجيا. فكل القوانين سالفة الذكر تتبع هذا القانون بنوعيه ال كرهي والطوعي .وال كرهي نوعان: فهو كرهي بمقتضى توظيف الدين تقية ليخفي الاستبداد باسم الوساطة الروحية والوصاية السياسة مثل الباطنية أو بمقتضى توظيف الدنيا ليخفي الاستبداد باسم الوساطة الطبقية والوصاية الحزبية مثل الماركسية. ولذلك فهما متحالفان دائما لأن الوساطة الطبقية قول بالاصطفاء وإن بإلحاد والوصاية الحزبية قول بال كنسية وإن بالحاد. ل كن إذا كان الأمر المعتبر الوحيد هو المصلحة المادية فإن العلاقة أيضا تصبح صراعية بين أصحابها وتغيب المصلحة العامة التي ترعى الجماعة تكوينا وتموينا وتحميها داخليا وخارجيا. فلا يبقى إلا النظام المافياوي الذي يعتبر كل شيء عملية تجار ية ولو على حساب المصالح الوطنية والإنسانية .وهذا النظام المافياوي هو الذي وصفته بنظام العجل الذهبي 134
–– أي الأبيسيوقراطيا وهي البنية العميقة للنظامين المتحيل بالدين كما في الفاشيات الدينية والمتحيل بالدنيا كما في الفاشيات الدنيو ية. 135
–– تونس في 2022.05.06 وهكذا فقد وصلنا إلى غاية المحاولة .وبها يمكن أن نفسر أهم ظاهرة سياسية حول أصناف أنظمة تعيين القوامة السياسية التي تملأ خانات بنية الدولة المجردة سواء كانت وطنية أو دولية. فقد سبق أن بينت أن القوى السياسية هي التي تعين القيمين كرها قبل الديموقراطية وطوعا بعدها .ل كن الثانية تبقى جامعة بين الديموقراطية في الداخل والفاشية في الخارج بحيث إن عودتها إلى الداخل ممكنة ومن ثم فلا بد من الوصل بين ذلك وما يجعل أنظمة تعيين القيمين من قبل القوى السياسية سواء كانت احزابا او حتى قبائل مخمسة دائما. فقد بينت أن تصنيف أنظمة التعيين خمسة سواء انطلقنا من التسمية التي حصلت بالصدفة وقابلت بين اليمين واليسار في جلوس نواب برلمان الثورة الفرنسية أو حصلت بمنطق المحددات العميقة لطبيعة السياسي من حيث هو سياسي في أي دولة منذ نشأة الجماعات البشري. ومعنى ذلك أن البنية المجردة للدولة الخالية من القوامة التي هي عينية وتاريخية وليست ثابتة مثل البنية المجردة موجودة منذ ما نعلمه من تاريخ الإنسانية وخاصة في الدولة الفرعونية والبابلية مثلا إلى اليوم :ثابت لا يتغير لكأنه أشبه بمحددات الكيان الحي. 136
–– ل كن القوامة التي تملأ خانات الدولة المجردة ليست ثابتة بل هي متغيرة وهي التي لها تاريخ يؤدي بعض العجلين إلى الخلط بينهما .فالقوامة تملأ خاناتها بالتدريج بحسب تطور الوعي بشرطي قيام الإنسان فردا وجماعة أي نظام الاستعمار في الأرض والثروة وشروط انتاجها ونظام الاستخلاف والتراث العلمي والروحي الذي يعتبر انتاجه شرط الإنتاجين ثروة وتراثا. فتكون القوى السياسية مؤلفة من التي تعتبر مهمتها انتاج الثروة من منطلق العلاقة بالطبيعة ومن التي تعتبر انتاج مهمتها توز يع الثروة من منطلق العلاقة بالتاريخ .فيكون المنطلق الأول غالبا على موقف رجال الأعمال والمنطلق الثاني غالبا على موقف العمال. ل كن هذا الفهم الذي هو جوهر الموقف الهيجلي والماركسي في مستوى أول هو علاقة السادة (رجال الاعمال) بالعبيد (العمال) قبل ثورة هؤلاء على أولئك ثم ينقلب الأمر فيصبح العبد سيدا والسيد عبدا. ل كن هذا التأو يل الهيجلي والماركسي يتنافى مع ما عليه الأمر فعليا لأن المقابلة سيد عبد تتعلق بالرؤ ية الفاشية إذ إن الثورة لن تجعل الكل سادة بل هي تقلب العلاقة فحسب فيصبح العبيد سادة والسادة عبيدا ولن يتساووا أبدا. وحينها لن تزول الفاشية :كانت بيد السادة ثم صارت بيد العبدي الذين صاروا سادة فيبقى التلازم الجدلي المزعوم والذي يلغي ذاته إذا تصور نهاية لعمله ما يعني أن التحرير والاعتراف المتبادل يصبح وهميا عند كلا الفيلسوفين هيجل وماركس. 137
–– وذلك هو الفرق الذي يجعل ابن خلدون -فهما منه عميقا للقرآن-لا يعتبر العلاقة بين البشر قابلة لهذه الرؤ ية لأنه يعرف الإنسان كما يعرفه القرآن \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\". والرئاسة غير السيادة لأنها من البداية اعتراف متبادل بين البشر بمجرد فهم العلاقة بين ما بالطبع وما بالاستخلاف :هي إذن تطبيق حرفي: للآية الأولى من النساء كون البشر من نفس واحدة (الاخوة البشر ية) وما يترتب عليها أي المساواة في المنزلة الوجودية التي تحددها الآية الثالثة عشرة من الحجرات (المساواة بين البشر) فلا يكون التعدد العرقي والطبقي والجنسي أساسا للتمييز بين سيد وعبد بل التعارف معرفة ومعروفا هو الذي يحدد أن البشر كلهم عباد الل ِّه مستخلفون في الأرض وهم لا يتفاضلون إلا بتقواه. وعندئذ يدركون أن انتاج الثروة لا معنى له من دون توز يعها لأنها لسد الحاجة فإذا امتنع سدها للأغلبية بات انتجاها لا يصلح لشيء ومن ثم فإنتاجها عرض يقتضي الز يادة في الطلب فيصبح الطلب هو المحرك الفعلي للإنتاج .وحينها يصبح رجال الاعمال أحرص الناس على التوز يع حتى يزداد الطلب على منتوجهم عند عرضه. ويدركون أن طلب سد الحاجة الذي يقتضي عدل التوز يع لا معنى له من دون انتاجها .فإذا لم يقع تشجيع الإنتاج قل العرض فلا يستجيب للحاجة إذا لو كان التوز يع عادلا فهو سيكون توز يع القليل فيصبح ظلما للجميع. 138
–– وليس عدلا لأن توز يع القليل على ال كثير ليس عدلا إلا في الفقر والجوع .وحينها يصبح تشجيع الإنتاج المحرك الفعلي لعدل التوز يع .وحينها يصبح العمال احرص الناس على تشجيع الإنتاج حتى يزداد المنتج الذي يستجيب للطلب. فتكون الأحزاب بذلك أربعة والخامس إما الوسط الانتهازي أو عامة الشعب قبل الانتساب الحزبي الذي تقوده الغالبيات المتداولة: الرأسمالي الخالص وهو اليمين المتطرف والرأسمالي الذي يفهم علاقة انتاج الثروة بتوز يعها وهو اليمين الوسطي :فيكون الحزبان اليمينيان هما اليمين ويسار اليمين. ثم الاشتراكي الخالص وهو اليسار المتطرف واليسار الذي يفهم علاقة توز يع الثروة بإنتاجها وهو اليسار الوسطي .فيكون الحزبان اليسار يان هما اليسار ويمين اليسار. وبين هذه الأربعة بوجود الحزب الذي يراوح بينها اربعتها بحسب المصلحة الحزبية بالنسبة إلى المتحزبين وبحسب الخيارات الظرفية بالنسبة إلى الأغلبية الصامتة التي ليس لها تحزب والتي تمثل معين كل الأحزاب. وطبعا الأساس في ذلك كله هو كون الإنسان في علاقة بالاستعمار في الأرض والحاجة لسد الحاجات العضو ية وهو موضوع العمران البشري بلغة ابن خلدون .كما هو كون الإنسان في علاقة بالاستخلاف في الأرض والحاجة لسد الحاجات الروحية وهو موضوع الاجتماع الإنساني بنفس اللغة. 139
–– وتلك هي العلة التي من اجلها سمى علمه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" وهو مصدر تعر يفه للإنسان قرآنيا لأن الأول يتعلق بالإنسان المستعمر في الأرض والثاني يتعلق بالإنسان المستخلف فيها. ومن هنا تعر يفه للإنسان بكون \"رئيسا بالطبع (أي من حيث طبيعته العضو ية) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (أي من حيث منزلة الروحية\" .وبذلك فابن خلدون متقدم جدا جدا جدا على هيجل وماركس .اللذين لا يمكن أن يخرجا من علاقة السيد والعبد والتي لا تزول حتى في الديموقراطية لأنها قائمة في علاقة دولها بمستعمراتها وتعود إليها في حالة الازمات الاقتصادية فتكون فاشية حتى في الداخل. وهو ما يترتب عليه الحرب الدائمة بين طرفي اليمين .فطرف اليمين الخالص وطرف اليمين المعدل (يسار اليمين) يتناهشان الشعب للحصول على الاغلبية فيحصل عليها الثاني ليكون حاكما في حالة البحبوحة إذ يقل عدد المصوتين لليمين المتطرف ثم ينعكس الأمر في الأزمات الاقتصادية. كما يترتب عليه الحرب الدائمة بين طرفي اليسار .فطرف اليسار الخالص وطرف اليسار المعدل (يمين اليسار) يتناهشان الشعب للحصول على الأغلبية فيحصل عليها الثاني ليكون حاكما في حالة الازمات الاقتصادية إذ يزداد عدد الناقمين على الوضع ثم ينعكش الأمر في حالة البحبوحة. 140
–– وهكذا تعمل القوى السياسية الخمس في كل مجتمع سواء كان فاشيا أو ديموقراطيا وسواء كان تعيين القيمين لملء خانات الدولة المجردةكرهيا أو طوعيا لأن القوانين التي تحدد سلوك البشر لا تتغير بتغير العرضيات في السلوك بل هي محكومة بما يترتب على علاقة الإنسان بالطبيعة مصدرا لشروط قيامه العضوي وعلاقته بالتاريخ مصدرا لشروط قيامه الروحي .وهو ما بنى عليه القرآن تفسير التاريخ الإنساني. فالتاريخ الإنساني كما يعرضه القرآن خلال كلامه على تحر يف الأديان التي ينقدها بمعيار التصديق والهيمنة يرد المشكل إلى هذه العلاقة بين فلسفة الدين التي تذكر بما يترتب على الاستخلاف في الأرض منزلة وجودية للإنسان وفلسفة التاريخ التي تذكر بما بترتب على كونه خاضعا للاستعمار في الأرض. فيكون التاريخ الإنساني كله ناتجا عن تحر يف المنزلة الاستخلافية في الأرض بسبب الوضع الاستعماري فيها سواء نظرنا إليه في داخل نفس الجماعة أو بين الجماعات. وقد ذلك عديد المرات في شرحي لسورة هود التي هي العرض النسقي الذي يتخلل القرآن كله لهذه العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ والتي يحدد القرآن انطلاقا منها معنى الديني في كل دين والفلسفي في كل فلسفة أي طبيعة العلاقة بين الاستعمار في الأرض بالعمل بقيم الاستخلاف فيها أو بعدم العمل بها. 141
–– فكل ما حاولت بيانه في هذه العلاقة انتهيت إلى ان كونية نظر ية الدولة في الإسلام هي عين كونية استراتيجية توحيد الإنسانية بقلب العلاقة بين التعدد في كل الموجودات وفي البشر خاصة التعدد المضنون مناقضا للوحدة إلى ضرورة التعدد للوحدة. ومعنى ذلك أن الحاجة إلى التوحيد شرطها القبول بالتعدد في الأديان (المائدة )48 وفي اللغات وفي الأعراق وفي الألوان ومن ثم في سياسة البشر التي من شرطها تبين الرشد من الغي مطلبا ذاتيا لكل فرد هدفه الأساسي اكتشاف ما يؤمن به بحر ية فلا يكون الإيمان كرها بل طوعا ومن ثم فلا يصبح التعدد الديني سببا لعدم التعايش السلمي بينهم لان الحسم في الخلافات العقدية مرجأ في القرآن إلى يوم الدين بخلاف كذبة القول بنسخ الآيات الثلاث التي تشير إليه في البقرة والمائدة والحج .ذلك أن النسخ المشروط مقصور على شرطه ولا يعمم وإلا لصار القرآن كله منسوخا. فمن أخطاء مؤولي مفهوم النسخ في القرآن جعله ملغيا للمنسوخ بإطلاق وليس بالإضافة على علة استثناء الحالة التي نسخ فيها لاستثنائه من القانون العام هي الحالة التي تعلله والتي هي دائما من جنس الانتقال من التحريم المطلق إلى الاباحة بسبب الضرورة التي تبيع المحظور بمقتضى القانون العام. والمثال الأعم في ذلك هو الموقف من التعدد الديني .فلا يفرض الإسلام حتى بعد الفتح الذي علته الوحيدة هي منع تبليغ الرسالة التي تسعى لتوحيد البشر ية بتخليصها من عبادة العباد للعباد بعبادة رب العباد تبليغها سلميا. 142
–– وهي لا تضطر لاستعمال القوة إلا بسبب منعه وحتى بعد هزيمة المانع فهي لا تفرض عليه الإسلام بل تضمه إلى دولته التي تحترم التعدد الديني حتى إن الآيتين اللتين تعللان جهاد الطلب تقتصران على حماية الأديان وحماية المستضعفين. وباقي الجهاد دفاعي .وليس هجوميا علتها .وإذن فآية السيف التي تظن ملغية للتعدد الديني أسيء تأو يلها فهي من جنس الاضطرار الذي يبيح أكل الميتة :تعطيل المبدأ العام للتعدد الديني دفاعي وليس هجوميا أي إن من يحارب الإسلام من حق المسلمين محاربته ليس بسبب دينه بل بسبب حربه على الدين. ولولا ذلك لاستحال أن نفهم المبدأين القرآنيين اللذين يضعان أساس العيش المشترك السلمي بين البشر بفضل التعدد وليس بنفيه وجعل دور الديني في السياسي متعلقا بالقيم الاستخلافية المعدلة لما قد يترتب على القيم الاستعمار ية في الأرض أي على الإخلاد على الأرض بسبب الاكتفاء بالاستعمار دون قيم الاستخلاف: فالمبدأ الأول يحدد الأخوة البشر ية في الآية الأولى من النساء التي تقابل بين رحمين كلي وجزئي مع تقديم الكلي على الجزئي وتضع تصورين للمبدأ الأسمى أي الربوبية والالوهية والأولى تناسب الرحم الكلي والثانية الرحم الجزئي إلى في الدين عند الل ِّه حيث يتطابقان وهو ما يختص به الإسلام من حيث هو الدين الفطري بداية وغاية. والمبدأ الثاني يحدد المساواة بينهم في الآية الثالثة عشر من الحجرات دون تمييز عرقي أو طبقي أو جنسي بينهم لان التعدد هدفه التعارف معرفة ومعروفا وحصرا للتفاضل عند الل ِّه في التقوى. 143
–– فالتعارف معرفة يقتضي التعدد والتنوع وإلا لزالت دلالة المشاركة والتعدد معروفا يقتضي التعدد والتنوع وإلا لزالت دلالة المعاملة بالمعروف بين المختلفين. والسؤال هو كيف وصل الإسلام إلى هذه الرؤ ية وكيف يؤسسها من خلال نظر ية الإنسان فيه أي من خلال الانثروبولوجيا القرآنية التي تجعل الدين ليس أمرا ينزل من السماء بل ما ينزل هو التذكير بما هو مرسوم في كيان الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها. والتذكير بخلاف ما يقصه القرآن عما حصل في الأديان التي توسطت بين الدين الفاتح والدين الخاتم وكلاهما تذكير بما هو مرسوم في كيان الإنسان ليس هو شيئا آخر غير ما لا يمكن لاي إنسان أن يكون إنسانا من دونه لأنه ملازم لمجرد وعيه بذاته وبما حوله من العالم. في المعادلة الوجودية المستخرجة من فصلت الآية الثالثة والخمسين. إن المبدأين هذين هما جوهر التأسيس القرآني ل كونية الرسالة الخاتمة بوصفها من مرسل هو الل ِّه إلى مرسل إليه هو الإنسان لتذكيره بمضمون رسالة هو مضمون التذكير القرآني الذي يحيل على محل وجودها في آيات الل ِّه التي ير ينها في الآفاق وفي الانفس. وهو إذن مضمون مرسوم في ما حددته الآية الثالثة والخمسين من فصلت والتي يؤدي تحليلها إلى المعادلة الوجودية التي هي عين بنية القرآن وبنية الإنسان والعالم. والرسول لم يأت بمضمون الرسالة الذي يرينه الل ِّه في الآفاق وفي الأنفس بل بتذكير المخلدين إلى الأرض والناسين منزلة الاستخلاف .لذلك فهو مرسل إليه مثله مثل غيره 144
–– وهو مخاطب به مثل كل البشر الذين يكفيهم أن يروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم و يفقهوا بعقولهم حتى يتذكروا وليس بالصدفة أن كل رسالة يلتقي فيها المرسل مع إنسان غير مرسل يسنده أو أكثر ما يعني أن التذكر موجود ليس عند الرسل وحدهم بل كل إنسان يمكن أن يرى آيات الل ِّه في الآفاق وفي الانفس ولولا ذلك لاستحال ختم الوحي وتوقف بعث الرسل. ومن ثم فالعلاقة مباشرة بين الإنسان عامة ولا وساطة روحية للرسول بين الإنسان وربه في شأنه الأخروي ولا وصاية له بين الإنسان وشأنه الدنيوي إلا بوصفه مذكرا تذكير النذير والبشير فيكون المنهج محكوما بقوله تعالى :فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر. وقد اعتبرت الآية الثالثة والخمسين ممثلة للمعادلة الوجودية التي تترجم كل ما حاولت بيانه شهادة من الل ِّه على أن القرآن حق وأن الإنسان يمكن أن يتبين ذلك إذا رآي آيات الل ِّه في الآفاق وفي الأنفس أي ما يستند إليه كل استلال القرآن الذي قطع مع المعجزات التي تستدل بخرق النظام إلى معجزة أبلغ هي معجزة الاستدلال بالنظام الذي يرينه الل ِّه بآياته في الآفاق وفي الأنفس. • المستوى الأول :من يرينا الآيات هو سنام الهرم أي الل ِّه وهو الواحد المطلق. • المستوى الثاني :الإنسان الواعي بكونه رئيسا بمقتضى الاستخلاف يراها 145
–– • المستوى الثالث مضاعف :آيات الل ِّه في الآفاق وهي الطبيعية والتاريخية • المستوى الرابع مضاعف :آيات الل ِّه في الانفس وهي العضو ية والروحية • المستوى الخامس :المشترك بين الطبيعي والعضوي والمشترك بين التاريخي والروحي هو الحصيلة التي تنتج عن المعادلة الوجودية المتعينة في علاقة الشهادة والغيب بالاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها .وتلك هي المعادلة الوجودية التي لا يمكن أن يوجد إنسان أو جماعة يخلوان منها. فحتى أعتى الملحدين لا يمكن أن ينفوها حتى لو كفروا بسنام الهرم أي الل ِّه الواحد. ذلك أنهم لا ينفونه بل ينفون تعاليه .فيضعون ما ينسبه إليه المؤمن في ما دونه أي في الطبيعة الخارجية والذاتية للإنسان وفي التاريخ الخارجي والذاتي للإنسان ناسبين ما ينسيه المؤمن إلى الرب إلى الطبيعة والتاريخ الخارجيين والذاتيين للإنسان. ولعل أبرز دليل على ذلك هو أن كل الميثولوجيات هذا أصلها بحيث إن الإلحاد والعلمانية اليعقوبية والماركسية تعود إلى ميثولوجيا تفسر الطبيعة والإنسان بذاتهما بأن ينسبوا إليهما ما تنسبه الأديان المنزلة والفلسفات إلى مبدأ متعال وهو المشترك بين الفلسفة والدين بحيث إن كل نفاة هذا المشترك أديان طبيعية وليست كفرانا بالمبدأ بل بتعاليه فحسب. استحالة أن يكون الأمر بخلاف ذلك جمعا بينها كلها باعتبار ذلك ناتجا عن التفاعل بين بعد الإنسان العضوي وبعده الروحي في علاقتهما ببعد العالم الطبيعي وببعد العامل التاريخي والأول هو الثروة والثاني هو التراث مقومين لكل حضارة إنسانية. 146
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152