Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore استراتيجية النجاح – الاستعداد للتداول السياسي السلمي - أبو يعرب المرزوقي

استراتيجية النجاح – الاستعداد للتداول السياسي السلمي - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2022-06-12 20:56:06

Description: استراتيجية النجاح – الاستعداد للتداول السياسي السلمي - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫––‬ ‫غرامي حينها بهيجل الذي كان أول عمل سجلت فيه أو بحث جامعي حول الشك في‬ ‫فينومينولوجيا الروح‪.‬‬ ‫وطبعا كان السبب الرئيس للتخلي هو عدم التمكن الكافي بعد من الألمانية وليس هذا‬ ‫الدافع الذاتي وحده لأن \"عيافتي\" للشعارات الحداثو يةكانت مؤثرة ل كنها لم تكن كافية‬ ‫لأن اتخلى عن البحث في طبيعة العلاقة بين العلم والمطلق والدين المطلق مقومين رئيسيين‬ ‫من فكر هيجل جعلاني أهتم به‪.‬‬ ‫ل كني لما عدت إلى الغزالي واعددت بحثي حول خصومة التهافتين في مسألة السببية‬ ‫سنة ‪ 1972‬في باريس انفتحت أمامي ضرورة العودة الفعلية للفخ الأول الذي حصل‬ ‫في شباكه الفكر الفلسفي الأول في حضارتنا (جمود المدرسية العربية القديمة) لتجاوز‬ ‫الفخ الثاني الذي أراه بالعين المجردة والذي حصل في شباكه الفكر الفلسفي الثاني في‬ ‫حضارتنا (جمود المدرسية العربية الحديثة)‪.‬‬ ‫لذلك فيمكن أن أزعم أن مساري الفكري كله هو ما أدين به لهذه الصدمة التي عشتها‬ ‫لما تبين لي الفرق بين ابن رشد والغزالي ليس في الفلسفة النظر ية (فلسفة النظر والطبيعة‬ ‫في نقد الميتافيز يقا‪ :‬تهافت الفلاسفة) فحسب بل خاصة في الفلسفة العملية (فلسفة‬ ‫العمل والتاريخ في نقد السياسة‪ :‬فضائح الباطنية)‪ .‬وكل ما عانيت منه في الجامعة علته‬ ‫موقف النخبة الحداثية من موقفي النافي لصحة موقف النخبة منه‪.‬‬ ‫فهي كلها مجمعة على تفضيل تهافت التهافت على تهافت الفلاسفة وتتجاهل فضائح‬ ‫الباطنية أو تجهله وعلى القول بثور ية ابن رشد إما تقليدا لصاحب ابن رشد اللاتيني‬ ‫‪97‬‬

‫––‬ ‫(ارناست رونون) أو لصاحب ابن رشد اليساري الأرسطي (ارنست بلوخ)‪ .‬ورغم‬ ‫التقابل بين المرجعيتين فهم يجمعون على أن الغزالي ظلامي وعلة تخلف المسلمين إذ‬ ‫يعتبرون نقده قتلا للفلسفة وتأسيسا لمعاداتها في حين أنه هو الذي أدخلها لكل علوم‬ ‫الملة فقها وتصوفا فضلا عن الكلام والفلسفة النقدية‪.‬‬ ‫ل كني اعتبره قد كان كله لصالح ما سعيت إليه‪ .‬تركتهم يعمهون وشرعت في مواصلة‬ ‫البحث بالعودة إلى مناقشة ال كذبتين أعني كذبة البداية الفلسفية والعلمية بما يسمونه‬ ‫المعجزة اليونانية لكأن بدايتهما يمكن أن يبدأ بمعجزة غايتها إخفاء ما تقدم عليهما وكذبة‬ ‫الاستئناف الفلسفي والعلمي بما يسمونه المعجزة الأوروبية لكأن الاستئناف يمكن أن‬ ‫يحصل بمعجزة غايتها إخفاء ما توسط بينهما‪ .‬وتلك هي محصلة ما أحاول القيام به منذ‬ ‫ذلك اليوم أي منذ سنتي الثانية بدار المعلمين العليا إلى اليوم‪.‬‬ ‫ولأمر الآن إلى الغزالي‪ .‬فقد جمع بين موقفين أحدهما فيه تمحض للعلم مع التحذير من‬ ‫العلاقة بالحكام والثاني يبدو نقيضه هو أن أهم كتبه الفلسفية كانت بالجوهر سياسية‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أنه وضع نفسه في ما عابه ابن خلدون على ذوي القدرة من العلماء إذ‬ ‫يبتعدون عن خدمة الجماعة بسبب ما يصفه يمكن اعتباره صدام بين \"تكبرين\" يعبران‬ ‫عما سماه حب التأله عند الحكام الذين يستعبدون من يخدمهم وحب التاله عند العلماء‬ ‫لاعتدادهم بعلمهم ورفضهم خدمة الجماعة لرفضهم نتيجة القبول بالخدمة‪.‬‬ ‫وابن خلدون يعتبر صراع السلطانين سلطان المعرفة وسلطان الحكم من أهم أسباب‬ ‫انحطاط الأمم لأن تكبر أولئك يؤدي إلى تقديم هؤلاء حثالة النخبة‪ .‬فيكون في ذلك‬ ‫‪98‬‬

‫––‬ ‫سر الانحطاط لأن الحكام بسبب تكبرهم يفضلون التوابع والعبيد على ال كفاءات القادرة‬ ‫على علاج ما تحتاج إليه الدولة من النخب القادرة على تنظيم وظائف القوامة التي تسهر‬ ‫على شروط الرعاية تكوينا وتموينا والحماية الداخلية والخارجية‪.‬‬ ‫ل كن مزية الغزالي هو أنه قبل حصر الخدمة في عمله العلمي في مجال الفلسفة والدين‬ ‫والفلسفة السياسة خاصة‪ .‬فقد كان أهم مفكر خدم العهد السلجوقي الذي تمكن من‬ ‫انهاء سيطرة البويهيين والباطنية فكان من أساطين المدرسة التي أسسها ثاني أكبر شهيد‬ ‫الدفاع عن السنة اقصد وزير الخلافة العملاق مؤسس نظام التعليم الذي مكن من‬ ‫الصمود الفكري أمام الباطنية‪.‬‬ ‫ل كنه ‪-‬وهذا ما لم يفهمه من تصورني قد صرت غزاليا اقتصارا على و يل للمصلين‬ ‫كعادة العجلين‪-‬سرعان ما فهمت علل نكوص الغزالي إلى ما نقده فتبنى أهم أداتين‬ ‫يحاربان ما كان يهدف إليه نقده من تحرير منهما‪:‬‬ ‫فهو انتهى إلى القول برؤ ية ابن سينا الميتافيز يقية‬ ‫وبرؤ ية ال كشف الصوفية التي هي أخطر من الميتافيز يقا‪.‬‬ ‫فبالتبني الأول صار قائلا بالمطابقة فيكون العقل محيطا بالحقيقة المطلقة‬ ‫وبالتبني الثاني صار قائلا بقول بإمكانية علم الغيب بالمجاهدة الصوفية‪.‬‬ ‫فتخلى عن أهم اكتشاف كان يمكن أن يجعله قادرا على تحقيق ما حققه ديكارت‬ ‫أعني مفهوم \"طور ما وراء العقل\" الذي يبقى ممكنا حتى لو كان \"قدف النور في قلبه‬ ‫الثقة بالأوليات\" فلا يحافظ على المطابقة والاحاطة‪:‬‬ ‫‪99‬‬

‫––‬ ‫وإذن فهو يشارك ديكارت في الشك و في القول إن أساس الإيمان بالعقل نور بقذفه‬ ‫الل ِّه في القلب يمكن من الثقة في الأوليات حتى وإن كان ديكارت قد عبر عنه بمفهوم‬ ‫مختلف هو \"الضمانة الإلهية\" التي تمكنه من الخروج من الحقيقة الوحيدة التي اثبتها أي‬ ‫ال كوجيتو متحررة من كل شك لتكون معيار تحديد الحقيقة ل كنه معيار لا يكفي‬ ‫لضمانة عدم ا لخداع فيها‪.‬‬ ‫فكيف الخروج من الذات والانتقال إلى إدراك حقيقة الوجود الخارجي أي ليعلم‬ ‫العالم‪ :‬ذلك هو العنصر الذي لا بد فيه من ضمانة إلهية وتلك هي علة الحاجة إلى النور‬ ‫الذي يقذف في القلب دون أن يؤدي المطابقة والإحاطة‪.‬‬ ‫وفي ذلك كان شك ديكارت مثمرا ومؤسسا لبداية الفلسفة ا لحديثة وشك الغزالي‬ ‫معطلا دون هذه البداية ل كنه ليس ظلاميا كما يزعم من لا يفقهون غير الشعارات‬ ‫الجوفاء التي تجعلهم من العجلين والقائلين بو يل للمصلين‪.‬‬ ‫فديكارت لم يستنتج من \"الضمانة الإلهية\" لحقيقة ما يدركه الإنسان للحقيقة دليل قدرة‬ ‫على ال كشف بالمجاهدة الصوفية بل غير منهج العبارة عما يدركه الإنسان منها بجعلها‬ ‫ر ياضية دون أن يزعم أن ما يدركه الإنسان يكون مطابقا ولا محيطا مثل العلم الإلهي‪.‬‬ ‫ما كان يعنيني من عمل الغزالي هو \"مفهوم طور ما وراء العقل\" حتى وإن كان قد‬ ‫تخلى عنه‪ .‬ما يعنيني هو أن رده على الميتافيز يقا في تلقيها السينوي كان تحريرا للفكر‬ ‫الفلسفي من القول بالمطابقة والاحاطة في النظر ومن الهيمنة الباطنية في العمل‪.‬‬ ‫‪100‬‬

‫––‬ ‫وما ترتب عليهما من رده على الوصية في الحكم في عرضها من قبل داعي الدعاة المعاصر‬ ‫له ‪-‬دعما للرؤ ية السنية للسياسة في بغداد عاصمة الخلافة ضد الرؤ ية الباطنية في دولتها في‬ ‫القاهرة عاصمة الإمامة‪-‬اشبه ما يكون بتحرير السياسة من الهيمنة الباطنية‪.‬‬ ‫وتل كما هما البدايتان اللتان تمثلان دور الغزالي في حضارة الإسلام أولا في حضارة‬ ‫العصر لأن تلازم دوره مع دور ابن سينا كان البديل المنتظر في الغرب الذي بدا يدرس‬ ‫الفلسفة بصوت مختلف يحرر من المشائية في شكلها الذي يشد الفكر إلى ما يحول دونه‬ ‫وتجاوز الباطنيتين بإصلاح الفلسفة والدين‪.‬‬ ‫تلك هي بداية الثورة عليهما لتجاوزها وإن لم يثمر ذلك لأن التعامل التقليدي معها بمنطق‬ ‫\"اكتمال العلم ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم\" لم يكن راي الفارابي وحده وزعم تحو يلها إلى‬ ‫علم بمنطق ابن سينا بحيث إن ما تلا نكوص الغزالي أنجب المدرسيتين اللتين مثلهما‬ ‫رابوع القرن السادس الهجري الثاني عشر السادس الميلادي أي السهروردي المقتول‬ ‫والرازي مشرقا وابن رشد وابن عربي مغربا‪.‬‬ ‫وتلك غاية الجمود الفلسفي والديني بشكليهما الكلامي والصوفي دينيا والمشرقي والمشائي‬ ‫فلسفيا‪ .‬والحصيلة التي مكن منها استئناف النقد الذي شرع فيه الغزالي إلى أن بلغ الغاية‬ ‫في الخروج من الجمود بفصل ثورتين في فلسفة النظر وفي فلسفة العمل تم اكتشافهما‬ ‫بالعودة إلى تدبر القرآن ال كريم تدبرا أدى إلى التحرر من الوساطة الروحية في التربية‬ ‫والوصاية السياسة في الحكم‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫––‬ ‫وما يعنينا منهما هو الاساس الذي صاغه ابن خلدون عندما أشار إلى طبيعة حضور‬ ‫مسألة الحكم في علم الكلام السني خلال محاولته التحرر من فكر الباطنية‪ :‬فهو ينطلق من‬ ‫مبدأ الفرق بين الموقفين السني والباطني من هذه القضية‪ .‬فقد كان لا بد من ثورة‬ ‫فلسفية حقيقية لحسم أصل الفتنة ال كبرى تنطلق من الحسم في هذا الفرق بين الرؤيتين‪.‬‬ ‫ومن دون هذا الحسم الذي سنخصص له الفصل الموالي ما كان حل الغزالي لصالح‬ ‫سياسة الخيار أي اعتبار مصدر الحكم إرادة الجماعة ذا أساس مستمد من القرآن نفسه‬ ‫فيكون الأساس مخلصا في آن من الرؤ ية الباطنية والرؤ ية اليونانية‪.‬‬ ‫فالحل الذي قدمه الغزالي من خلال الموقفين من الفلسفة النظر ية والفلسفة العملية‬ ‫لا يكفي فيه الموقف من الباطنية بل لا بد من الموقف من منزلة مشاركة الشعب في‬ ‫حكم نفسه بنفسه بمعنى لا يجعله دالا على حكم النزوات بل هو حكم العقل الوحيد‬ ‫الممكن بمنطق السياسة التي تسعى لتحرير الإنسان من التبعية الروحية للوسطاء بين‬ ‫الإنسان وربه والتبعية المادية للأوصياء في أنظمة الحكم بين الإنسان وشأنه‪.‬‬ ‫ل كن التركيز هو التحرير من الحكم بالوصية التي تلغي دوريها السياسيين أي دورها في‬ ‫التربية للحاجة إلى وساطة ما يشبه ال كنيسة هي سلطة المرجعية الباطنية ودورها في الحكم‬ ‫للحاجة إلى وصاية ما يشبه بالحق الإلهي في الحكم لأسرة مختارة نظير الشعب المختار في‬ ‫اليهودية التي تبنت منها المسيحية نظر ية الحق الإليه في الحكم والتي دحضها لوك في فلسفته‬ ‫السياسية لتأسيس الديموقراطية الغربية الحديثة‪ .‬ونظر ية الأنظمة اليونانية‪.‬‬ ‫‪102‬‬

‫––‬ ‫لذلك كان لا بد من ثورة فلسفية حقيقية هي تحديد طبيعة المنطق الذي تعمل به‬ ‫السياسة وهو متخلف تماما عن المنطق الأرسطي ويمكن أن نطلق عليه اسم المنطق‬ ‫السياسي‪ .‬وهو رد السياسي إلى المعرفة الاجتهادية وليس إلى المعرفة القائلة بالإحاطة‬ ‫والمطابقةكالتي يتأسس عليها المنطق الميافيز يقي‪.‬‬ ‫فالاجتهاد السياسي لا يخضع لعدم التناقض ولا الثالث المرفوع ولا للهو ية الثابتة‬ ‫للأفعال السياسية التي هي تصرف في الأدوات خاصة لتحقيق الغايات التي تحددها‬ ‫إرادة الجماعة على الأقل من حيث هي المؤولة لها حتى عندما تدمة الغايات من النوع‬ ‫الذي يستند إلى مرجعية دينية تقول بالوحي (فصل ولاية العهد)‪.‬‬ ‫ل كن شرط ذلك التسليم بصحة الموقف الذي سماه الغزالي بالاختيار في الإسلام السني‬ ‫ودحض الوصية في الإسلام الشيعي‪ .‬و يكفي لذلك نفي أن يكون الحكم منتسبا إلى‬ ‫العقيدةكما يزعمون‪ .‬وسأورد النص الذي يقرر فيه ابن خلدون هذا المبدأ‪ .‬فقد ورد في‬ ‫فصل علم الكلام العاشر من الباب السادس‪:‬‬ ‫\"وألحق بذلك (مسائل الكلام) الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ بدعة الإمامية في‬ ‫قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة فيها لمن‬ ‫هي له وكذلك على الأمة‪ .‬وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجماعية ولا تلحق‬ ‫بالعقائد فلذلك الحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعه علم الكلام\"‪.‬‬ ‫‪103‬‬

‫––‬ ‫فهذا هو الفرق الجوهري بين الخلافة بمعناها السني الذي يؤسسها على الاختيار والإمامة‬ ‫بمعناها الشيعي الذي يؤسسها على الوصية‪ .‬والنص المتمم لهذه الثورة ورد في فصل ولاية‬ ‫العهد من الباب الثالث وهو ما سيأتي تحليله في الفصل العاشر من المحاولة‪.‬‬ ‫‪104‬‬

‫––‬ ‫مرة أخرى سأبدأ هذا الفصل كذلك بما يشبه إحالة إلى السيرة الذاتية‪ .‬فما كنت‬ ‫لانشغل بابن تيمية أصلا لولا أني تحيرت في فهم النقلة من الغزالي إلى ابن خلدون من‬ ‫دون وساطة لم اجدها في المدرستين اللتين عادتا إلى جمود الفكر الفلسفي والكلامي‬ ‫والصوفي والفقهي في القرن السادس والسابع الهجر يين الثاني عشر والثالث عشر‬ ‫الميلاديين‬ ‫رغم أن العلوم لم تتوقف فيهما ول كن بالأسلوب الذي يواصل ما كان سائدا في‬ ‫الحضارات السابقة دون تغيير جدري في تأسيسها القديم الذي يبدو قد بلغ الاشباع‬ ‫الذي لم يكن بوسعه تجاوز ما تحقق عند اليونان فضلا عن كونه قد على هامش الثقافة‬ ‫الإسلامية دون أن تندرج بحق فيها لتصبح جزءا من تربيتها النظامية ودون أن تتدخل‬ ‫الرؤ ية الفلسفية التي تحاول تجاوز هذا الجمود بنقده الذي بدأ مع الغزالي إلى الجمع السوي‬ ‫بين الديني والفلسفي بما يشتركان فيه أي بعلاج شروط الاستعمار في الأرض‬ ‫والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫فالإصلاح الذي يقدمه الغزالي نكص إلى التصوف والسينو ية ولم يثمر تبني العلوم على‬ ‫أساس الرؤ ية التي دافع عنها في محاولة التحرر من الميتافيز يقا وما تنبني عليه من القول‬ ‫بالمطابقة في النظر والتمام في العمل دون مسافة بين ما في الأذهان وما في الأعيان‪.‬‬ ‫‪105‬‬

‫––‬ ‫فكان لا بد من هذه الحلقة الواصلة بين نقد الغزالي قبل نكوصيه وبين ابن خلدون‬ ‫مؤسس فلسفة التاريخ ونظر ية العمران البشري والاجتماع الإنساني‪.‬‬ ‫بوصف الأول فلسفة في الاستعمار في الأرض بشروطه والثاني فلسفة في الاستخلاف‬ ‫فيها بشروطه‪ .‬وتلك هي الفرصة التي كان ينبغي أن تجعل العلم الممكن من الأولى جزءا‬ ‫من العلم الممكن من الثانية ومن ثم تحقيق الثورة التربو ية التي تصبح تكوينا للإنسان في‬ ‫علوم قوانين الطبيعة وعلوم سنن التاريخ تطبيقا لفصلت ‪ 53‬أي رؤ ية آيات الل ِّه في الآفاق‬ ‫(الطبيعة والتاريخ) وفي الأنفس (كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي)‪.‬‬ ‫فما هو منطق السياسة المتحرر من الثالث المرفوع ومن عدم التناقض ومن ثبات الهو ية‬ ‫المتعلقة بالأدوات التي تعالج طرق تحقيق الغايات؟ إنه الاجتهاد في اختيار الأدوات‬ ‫أو الحلول باختيار أفضل الطرق واقلها كلفة لتحقيق الغايات التي هي عقدية سواء في‬ ‫الأديان المنزلة أو في الأديان الطبيعية أو حتى عند الملحدين‪ :‬إذ السياسية هي كما يحددها‬ ‫ابن خلدون هنا بالقول‪ :‬وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجماعية‪.‬‬ ‫وهكذا نصل إلى التأسيس الفلسفي للتعددية التي لا تخضع لمنطق عدم التناقض‬ ‫والثالث المرفوع وثبات الهو ية‪ .‬والنص ورد في فصل ولاية العهد من الباب الثالث‪\":‬‬ ‫(‪ )...‬شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين‪ .‬فاعلم أن اختلافهم يقع‬ ‫في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة‪.‬‬ ‫‪106‬‬

‫––‬ ‫والمجتهدون إذا اختلفوا‪ .‬فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين‬ ‫ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإنه جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة‬ ‫ولا يتعين المخطئ منهما والتأثيم مدفوع عن الكل اجماعا‪.‬‬ ‫وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ والتأثيم‪ .‬وغاية‬ ‫الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية‪ .‬وهذا‬ ‫حكمه\"‪.‬‬ ‫لن أطيل الكلام في شرح هذا النص شديد الوضوح لأني خصصت له عدة محاولات‬ ‫لبيان طابعه الثوري‪ :‬ذلك أن الكلام على الاختيار يمكن أن يبقى عديم الحجة إذا قلنا بأن‬ ‫التعدد فيه مناف لهذه المبادئ الثلاثة في المنطق الذي يخص معرفة الحقيقة أو إذا قلنا‬ ‫إن السياسة لا تعنيها الحقيقة لأن كلا الحلين هما علة ما يبدو من قوة حجة الباطنية‪:‬‬ ‫قلنا بالأول بات من الواجب أن نخضع المواقف السياسية لمنطق البحث عن الحقيقة‬ ‫فيكون الحل هو وجود من يقدر على اكتشاف الحقيقة المطلقة دون سواه‪ .‬ولما كان‬ ‫ذلك شبه مستحيل في السياسة باتت الحاجة إلى الإمام المعصوم الذي يدعي العلم‬ ‫بالحقيقة المطلقة بما يشبه الوحي المتواصل والموروث في الأسرة المختارة مثل نظر ية شعب‬ ‫الل ِّه المختار‪.‬‬ ‫وإن قلنا بالثاني بات من الواجب أن نقول بالحل السوفسطائية بمعنى أن الحقيقة لا‬ ‫وجود لها وإن وجدت فلا يعلمها أحد وإذا علمها فلن يستطيع قولها وإقناع الناس بها‬ ‫ومن ثم ففي هذه الحالة يصبح الحل الوحيد هو العنف فتكون حجة القوة بديلا من قوة‬ ‫‪107‬‬

‫––‬ ‫الحجة‪ .‬ولما كان البشر يريدون بالحكم تجنب حجة القوة واستبدالها بقوة الحجة نعود إلى حل‬ ‫الوصاية‪.‬‬ ‫إما إذا كان الحل هو ما يقدمه ابن خلدون أي إن السياسة اجتهاد في الطرق‬ ‫والأدوات التي تحقق الغايات وكانت الغايات هي شروط الرعاية وشروط الحماية فإن‬ ‫هذهكونية سواء في الأديان السماو ية أو في الأديان الطبيعية أو حتى في الالحاد‪ :‬الحاجة‬ ‫إلى السياسة هي موضوع العمران البشري لرعايةكيان الإنسان المادي والروحي وموضوع‬ ‫الاجتماع الإنساني لحمايةكيان الإنسان المادي والروحي‪.‬‬ ‫ولما كانت وظائف الرعايةكونية ووظائف الحمايةكونية فإن الخلاف لا يتعلق بهما بل‬ ‫بالأدوات والطرق التي تحققها وهذه لا بد فيها من التعدد والتشاور لتحقيقها والخلاف‬ ‫فيها اجتهادي وليس علميا وليس فيها من هو مصيب بإطلاق ومن هو مخطئ بإطلاق‬ ‫بل من هو أكفأ لتحقيق الغايات بأقل كله ومن هو أردأ ولا أحد يستطيع تحديد ذلك‬ ‫غير الاختيار الذي يشارك فيه الجميع وهو معنى الحكم بالشورى بين المواطنين بطرق يمكن‬ ‫تنظيمها بحسب ما يتوفر من وسائل لتحقيق هذه الشورى‪.‬‬ ‫فينتج من ثم ليس تعدد القوى السياسية فحسب بل التعدد في كل حزب منها حتى‬ ‫لو كانت في شكلها البدائي أعني القبلية‪ .‬والتعدد قابل للحصر وهو دائما لا يحتوي على‬ ‫الواحد ولا على الكل بل هو ناتج عن تقاسم العمل في الجماعات البشر ية والسياسي بمعنى‬ ‫قوامة الشأن العام منها وليس مختلفا عنها‪.‬‬ ‫‪108‬‬

‫––‬ ‫وما يقوله ابن خلدون عن تصنيف الأنظمة السياسية يعتبره في الحقيقة حاصلا في‬ ‫كل نظام منها بحيث إنها دائما مؤلفة من الخمسة التي يذكرها و يضعها بين العصبية المفضية‬ ‫للهرج قبلها والحرب الاهلية بعدها فيكون النظام السياسي والدولة متجاوزة للعصبية‬ ‫المفضية للهرج وهي في الغالب كثرتها والعصبية الموصلة إلى الحرب الأهلية وهي بعدها‪.‬‬ ‫فلنورد النص الباب الثالث الفصل ‪ 51‬في أن العمران البشري لا بد له من سياسة‬ ‫ينتظم بها أمره‪:‬‬ ‫\"اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران‬ ‫الذي نتكلم فيه وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حكم يرجعون إليه‪ .‬وحكمه فيهم‪:‬‬ ‫تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الل ِّه يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب‬ ‫والعقاب عليه الذي جاء به ملبغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما‬ ‫يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم‪.‬‬ ‫فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة‬ ‫العباد في الآخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط‬ ‫وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب‬ ‫أن يكون عليهكل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام‬ ‫رأسا‪ .‬ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة والقوانين‬ ‫المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع‬ ‫‪109‬‬

‫––‬ ‫بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع‪.‬‬ ‫وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير‪.‬‬ ‫ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين‪:‬‬ ‫أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة مل كه على‬ ‫الخصوص‪ .‬وهذهكانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة‪ .‬وقد أغنانا الل ِّه تعالى عنها‬ ‫في الملة ولهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة‬ ‫والآداب واحكام الملك مدرجة فيها‪.‬‬ ‫والوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر‬ ‫والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعا‪ .‬وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل‬ ‫الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر‪.‬‬ ‫إلا أن ملوك المسلمين يحرون منها على ما تقتضيه الشر يعة الإسلامية بحسب جهدهم‬ ‫فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية‬ ‫واشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرور ية‪ .‬والاقتداء فيها بالشرع أولا ثم الحكماء في‬ ‫آدابهم والملوك في سرهم\"‪.‬‬ ‫اعتبر هذا النص الصوغ الأوضح لنظر ية الدولة في الإسلام لأنه يبين ما به تختلف‬ ‫عنها في النظامين السابقين عليه والمسيطيرين على الإقليم الذي كان تحت استعمارهما‬ ‫وخلصه الإسلام منهما‪ :‬نظام فارس ونظام بيزنطة وإن كان الأول قد ذكر صراحة‬ ‫والثاني ضمنيا وبتغييب التناظر بين الأول والثاني‪.‬‬ ‫‪110‬‬

‫––‬ ‫فقد وصف النظام الفارسي بكونه يستند إلى الحكمة الدنيو ية وقسمه إلى قسمين صالح‬ ‫وفاسد‪ .‬وذلك النظام الإسلامي بأنه يستند إلى الديني الذي يتجاوز نظام الحكمة الدنيوي‬ ‫ل كنه لم يشر إلى قسم ثان فيه يناظر الثاني في الأول‪ .‬كما أنه لم يشر إلى النظام المستند‬ ‫إلى الحكمة الدنيو ية له دين وليس عديم الدين ومن ثم فهو يعتبر الدين الطبيعي أي غير‬ ‫المنزل ليس دينا بل هو تابع للحكمة الدنيو ية أي التي لا تجمع بين عاملين دنيوي واخروي‪.‬‬ ‫ولو أشار إلى هذه التبعية لفهم أن الديني المنزل هو بدوره يمكن أن ينقسم بنفس‬ ‫المعيار الذي قسم به النظام الدنيوي أي إلى ما يكون لصالح الحاكم والمحكوم وإلى ما‬ ‫يكون لصالح الحاكم دون المحكوم فيدرك حينها أن التحر يف الباطني للإسلام هو جعل‬ ‫الدين لصالح الحاكم دون المحكوم لأن يكون تابعا للوساطة الروحية والوصاية السياسية‬ ‫أعني نفس النظام الذي كان سائدا في بيزنطة‪ .‬وهو ما يعني أن إيران الحالية لا يستند‬ ‫نظامها إلى الإسلام بل إلى الجمع بين نظام فارس القديمة ونظام بيزنظة الذي عوضوا‬ ‫حرفوا الإسلام ليصبح مطابقا له في الحاجة إلى الوساطة الروحية (ال كنسية) والوصاية‬ ‫السياسية (الحق الإلهي في الحكم لأسرة مصطفاة)‪.‬‬ ‫وأهم نتيجة وصل إليها ابن خلدون هي أن الحكم في العالم كله فيهكل ما سلف بمعنى‬ ‫أن القوى السياسية التي تحكم تنقسم نفس هذه القسمة فبعضها يحكم وليس في ذهنه إلا‬ ‫المصالح الدنيو ية إما احتكارا في مصلحة الحكام أو اسهاما للمحكومين فيها وبعضها يحكم‬ ‫وفي ذهنه المصالح الاخرو ية ول كن إما احتكارا في مصلحة الحكام أو اسهاما للمحكومين‬ ‫مع حاجة الحكم إلى الشوكة فيها جميعا‪.‬‬ ‫‪111‬‬

‫––‬ ‫وهذه النظر ية قد لا يكون ابن خلدون واعيا بالصوغ النسقي لها ل كنها قابلة لهذا الصوغ‬ ‫الذي اقترحه حتى يكون ذلك مطابقا للتاريخ السياسي الفعلي في كل الحضارات أولا‬ ‫وحتى يطابق دور المقابلة القرآنية بين النظام الخاضع لبعدي دين العجل والنظام الساعي‬ ‫للتحرر منهما‪:‬‬ ‫فالنظام الخاضع لبعدي دين العجل هو النظام الذي يحكم بتحو يل أداة التبادل أي‬ ‫العملة إلى أداة سلطان على المتبادلين وهو تحر يف العملة بربا الأموال وجعل أداة‬ ‫التواصل أي الكلمة إلى أداة سلطان على المتواصلين وهو تحر يف الكلمة بربا الأقوال‪:‬‬ ‫وربا الاقوال هو سلطان الوساطة ال كنيسة التي يرمز إليها خوار العجل أي كل‬ ‫توظيف إيديولوجي للقيم الروحية سواء كانت دينية أو لا دينية للسيطرة على الوعي‬ ‫الإنساني وتلك هي الوساطة بين المؤمن وربه سواء كان مفارقا أو محايثا‪.‬‬ ‫وربا الأموال هو سلطان الوصاية السياسة التي يرمز إليها معدن العجل (الذهب) أي‬ ‫كل توظيف فعلي للقيم المادية سواء كانت في الوصاية ذات التأسيس على ربا الاقوال‬ ‫الدنيو ية (كما في الماركسية) أو الاخرو ية (كما في الباطنية)‪.‬‬ ‫وحينها يصبح من اليسير فهم طبيعة الثورة الإسلامية في نظام الحكم بتحريره من العجل‬ ‫الذهبي أي من مصدر ربا الأقوال الذي هو خوار العجل وال كنسية سواء كانت دينية‬ ‫أو علمانية (الحزب الشيوعي كنسية علمانية ومثلها الرؤ ية اليعقوبية هي علمنة للكاثوليكية)‪.‬‬ ‫‪112‬‬

‫––‬ ‫تونس في ‪:2022.04.04‬‬ ‫إن تأسيس الحصيلة التي عرضتها في الفصل العاشر والتي مثلتها نظر ية ابن خلدون في‬ ‫عدم التأثيم شرطا في التعدد السياسي ورؤيته لتصنيف الأنظمة السياسية في كل دولة‬ ‫مجردة لم يكن بالوسع فهمها انطلاقا من فلسفة الرؤى اليونانية والرومانية والفارسية التي‬ ‫كانت سائدة قبل نزول القرآن‪.‬‬ ‫ل كن الفلاسفة التقليديين لم يكن لهم القدرة على التخلص من القول بالمطابقة في‬ ‫النظر والتمام في العمل الموروثين عن الفكر المشائي حتى بعد محاولة تعديله بالفكر‬ ‫الافلاطوني استنادا إلى محاولة افلوطين بل ظل فكرهم جامدا لا يميز بين ما في الأذهان‬ ‫من التصورات وما في الاعيان من الموجودات‪.‬‬ ‫وللمرة الثالثة لا بد من تعريج إلى السيرة الذاتية لان مسار البحث الأكاديمي لا يكفي‬ ‫فيه انشغال صاحبه به إذا كان حقا يطلب علاج قضية يعتبرها محددة لأهم ما يعنيه في‬ ‫حياته بل لا بد فيه من نوع من الجهاد بسبب تسلط من يستغلون النفوذ الناتج عن‬ ‫ولائهم للسلطان الجائر فيصبح عرضة للاضطهاد وقد يناله من التهميش ما لا يجهله‬ ‫ال كثير من الباحثين في جامعات تعكس طبيعة الفاشيات الحاكمة بل لعلها أكثر فاشية‬ ‫من الفاشية الحكمة‪.‬‬ ‫‪113‬‬

‫––‬ ‫تلك هي العلة التي جعلتني ابحث عما حدث في الفكر الفلسفي والكلامي فجعل ابن‬ ‫خلدون يصل إلى ما توصل إليه الغزالي قبل نكوصه إلى السينو ية وال كشف الصوفي‪.‬‬ ‫فوضع هذا السؤال أوصلني بالصدفة إلى ابن تيمية الذي كنت أجهله تماما ولم يدر بخلدي‬ ‫أبدا أن يوجد مثله في فكرنا الفلسفي القديم لفرط ما \"عفت\" سماع مثيله في فكرنا الفلسفي‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫فما كان يقدسه القدامى من مفكرينا ورمزهم قولة الفارابي الشهيرة بأن العلم انتهى في‬ ‫عهد أرسطو ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم (الحروف) وموقف ابن رشد الأشهر في شبه‬ ‫تاليه لفكر أرسطو خاصة لم يكن أفلاطون ولا أرسطو يعتقدانه‪ .‬فكلاهما كان يعتقد أنه‬ ‫يجتهد ولا يزعم علمه مطلقا ولا محيطا‪.‬‬ ‫ل كن ما صار يقدسه المحدثون تفوق على هذا التقديس إذ إن فكر هيجل وخاصة فكر‬ ‫ماركس صار عندهم أكبر من دين العجائز‪ .‬ثم اجتمع التقديسان عند من يزعمون‬ ‫العقلانية ومعرفة الواقع‪ .‬وطبعا فما ذلك إلا للجهل بأن تقديس أي فكر إنساني وظنه‬ ‫محيطا دليل حمق لا تجده إلا عند المتوهمين أن العلم الإنساني يمكن أن يكون مطلقا‬ ‫والعمل الإنساني أن يكون تاما‪.‬‬ ‫لذلك كنت أعجب من وصف من يعتقدون ذلك أنفسهم بالتنوير لكأنهم لم يسمعوا‬ ‫بالنقد بالشك الديكارتي الذي توهموا ما تقوله عنه الرواية الرسمية مطابقا لرؤيته فلم يفهموا‬ ‫أن غايته لم تكن الدغمائية اليعقوبية التي جعلته ملحدا قادرة على فهمه بوصفه البداية‬ ‫التي انتهت النقد ال كنط‪.‬‬ ‫‪114‬‬

‫––‬ ‫وطبعا لا يمكن لهؤلاء أن يصدقوا أنه يمكن أن توجد مدرسة نقدية عربية لا بد من‬ ‫معرفتها والنظر في آرائها بدلا من اعتبارها ممثلة للظلامية تصديقا لما قال بلوخ في قياس‬ ‫معركة التهافتين على معركة اليمني واليسار الهيجلي‪ .‬فصار ال كثير منهم يعتبرني أخطر على‬ ‫الفلسفة من الغزالي لأني فضلته على ابن رشد في رسالتي حول مفهوم السببية‪.‬‬ ‫فعزمت على تحدي التخر يفين حول تاريخ فكرنا وتاريخ الفكر الحديث وتحمل النتائج التي‬ ‫كنت اعلم أنها ستكون باهظة‪ .‬ل كنها في الحقيقة صارت مناسبة ل كي اتخلص مما تصوروا‬ ‫حرماني منه قد يوقف نشاطي‪ .‬فالقائلون بحصر البحث العلمي في راي الفلاسفة بالمعنى‬ ‫الرسمي واستثناء معارضيهم وناقديهم ممن لا يعتقدون أن العلم يمكن أن يكون مطابقا‬ ‫ومحيطا وان العمل يمكن أن يكون تاما ومطلقا لم يحولوا دوني والغوص في تاريخ هؤلاء‬ ‫المهمشين بسبب دغمائية متخلفة عند من يتصورون أنفسهم تنوير يين وحداثيين‪.‬‬ ‫كانت حجتي التي تثبت موقفي ليست وجود المدرسة النقدية الألمانية فحسب بل خاصة‬ ‫تاريخية النظر والعمل وتطورهما اللذين لا ينكرهما إلا الحمقى‪ .‬فلو كان القول بالإحاطة‬ ‫والمطابقة معرفيا وبالتمام والإطلاق عمليا صحيحا لما كان العلم متطورا وذا تاريخ ولما كان‬ ‫العمل متطورا وذا تاريخ‪ .‬لو كان العلم محيطا والعمل تاما لكانت المرحلة الأولى منهما‬ ‫كافية ولا وجد تاريخ العلم والعمل وتطورهما‪.‬‬ ‫وانطلاقا من هذين القناعتين أقدمت على قراءة أعمال ابن تيمية التي يدحض فيها‬ ‫القولين اللذين كانا مسيطرين على فكرنا القديم وأصبحا أكثر سيطرة في فكرنا الحديث‪.‬‬ ‫‪115‬‬

‫––‬ ‫حينها وجدت ضالتي أي علة النقلة من نقد الغزالي العام رغم نكوصه دونه لاحقا إلى‬ ‫نقد ابن خلدون المتعلق بالفلسفة العملية وتخطي نكوصي صاحب تهافت الفلاسفة‪.‬‬ ‫ل كن فهم ابن تيمية الذي هو أكثر عمقا من كل فلاسفة الإسلام ومتكلميه كان‬ ‫يقتضي التغلب على عائق الشذوذ وخاصة على تحمل ما يترتب عليه من الخروج على الرؤ ية‬ ‫السائدة على فكر النخب العربية التي تدعي الحداثة والتنوير ومحاربة القدامة والتظليم‪.‬‬ ‫والمقابلةكانت بالأساس بين كتابين هما تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت أي بين الغزالي‬ ‫وابن رشد رغم نكوص الغزالي إلى السينو ية فلسفيا وإلى ال كشف صوفيا‪.‬‬ ‫ولما كان ابن تيمية اكثر \"تطرفا\" من الغزالي في نقده وأكثر قدرة وبرهانية من تشكيك‬ ‫الغزالي الذي انتهى إلى محو ثمرة نقده فيا لمنقذ صوفيا وفي تبني فلسفة ابن سينا فلسفيا‬ ‫انطلاقا من هذين النكوصين كان من العسير المغامرة خاصة وابن تيميةكما هو معلوم كان‬ ‫يظن مؤسسا للوهابية عند الحمقى ممن يتصورون ابن عبد الوهاب كان قادرا على فهم‬ ‫ابن تيمية حتى في مستوى فتاواه‪.‬‬ ‫لذلك فكرت الشروع في تسجيل البحث في السوربون قبل التسجيل في تونس مباشرة‪.‬‬ ‫سياتي ما يؤيد ذلك بنشر المراسلات مع من قبل الإشراف على بحثي‪ .‬وقد تمت الموافقة‬ ‫منه وهو أكبر كالأبستمولوجيين الفرنسيين بمساعدة مستشرق فرنسي‪ .‬وكان ذلك كافيا‬ ‫للتسجيل في تونس لتجنب كلفة العودة إلى فرنسا وإيقاف عملي مرة أخرى ول كي أكتب‬ ‫البحث بالعربية بدلا من الفرنسية فكانت رسالة منزلة الكلي في الفلسفة بجزيها النظري‬ ‫‪116‬‬

‫––‬ ‫(في الكلي) والتطبيقي (في اصلاح العقل) إذ كنت اريدها بالعربية بخلاف رسالة‬ ‫التعمق في البحث حول الر ياضيات في علم ارسطو‪.‬‬ ‫فيم تتمثل إضافة ابن تيمية في الفلسفة السياسية؟‬ ‫إن الإضافة التيمة مضاعفة‪ .‬فهي فلسفيا تمكن من الوصل بين بداية النقد عند الغزالي‬ ‫لكتاب المتيافيز يقا في تلقيه السينوي مدخلا لتأسيس نظر ية العلم الطبيعي دون الحاجة‬ ‫إلى القول بالضرورة الطبيعية ونفي الحر ية الإلهية وغايته عند ابن خلدون في نقد فلسفة‬ ‫التاريخ وتأسيس العلوم الإنسانية دون الحاجة إلى القول بالضرورة الطبيعية ونفي الحر ية‬ ‫الإنسانية‪.‬‬ ‫وهي دينيا تمكن من فهم معنى أنهم ثلاثتهم يستنتجون النظر ية السياسية ونظر ية الدولة‬ ‫من القرآن ال كريم بوصلها مباشرة مع الانثروبولوجيا القرآنية أي نظر ية الإنسان في القرآن‬ ‫من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها‪:‬‬ ‫والخاصية الأولى تجعل السياسية فن الاستعمار في الأرض والدولة قيمة على شروط‬ ‫سد الحاجة الاقتصادية لقيام الإنسان العضوي أي قوامة انتاج الثروة المادية والرمزية‪.‬‬ ‫والخاصية الثانية تجعل السياسة فن الاستخلاف فيها والدولة قيمة على شروط سد‬ ‫الحاجات القيمية لقيام الإنسان الروحي أي قوامة انتاج التراث العلمي والعملي‪.‬‬ ‫وهما تعر يف ابن خلدون لإبداعه في المقدمةكما يتبين من اسمها المضاعف‪ :‬فهي \"علم‬ ‫العمران البشري (=فن الاستعمار في الأرض) و(علم) الاجتماع الإنساني (=فن‬ ‫الاستخلاف)\"‪.‬‬ ‫‪117‬‬

‫––‬ ‫ِإ ِّن الل ِّه َي َْأمُرُكُ ْم َأن ت ُؤ َ ِّدواْ ال َأمَان َا ِت ِإل َى َأهْل ِهَا وَِإذَا حَكَمْت ُم ب َي ْنَ الن ِّا ِس َأن َتحْكُم ُواْ ب ِال ْعَ ْد ِل‬ ‫ِإ ِّن الل ِّه َ ن ِع ِمِّا ي َع ِظُكُم ب ِهِ ِإ ِّن الل ِّه َ كَانَ سَم ِيعًا ب َ ِصيرًا‪.‬‬ ‫ي َا َأ ِّيه َا ال ِّذِي َن آمَن ُواْ َأطِيعُواْ الل ِّه َو َأطِيعُواْ الر ِّ ُسو َل وَأول ِي ال َأ ْمرِ مِنكُ ْم ف َِإن ت َن َازَ ْعت ُمْ ف ِي ش َ ْيءٍ‬ ‫ف َر ُدِّوهُ ِإل َى الل ِّهِ وَالر ِّ ُسو ِل ِإن ُكنت ُمْ ت ُؤْمِن ُونَ ب ِالل ِّهِ وَال ْي َوْ ِم الآ ِخرِ ذَل ِ َك خَيْرٌ و َأ ْحسَ ُن ت َْأوِ يلا ً‪.‬‬ ‫الآية الأولى فيها وظيفتان‪ :‬أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل‬ ‫الآية الثانية فيها وظيفتان‪ :‬المرجعية الشرعية وعلاج النزاعات‬ ‫والأصل فيها جميعا التعاكس بين مضمون الآيتين‪ :‬بمعنى أن دور الراعي في الآية‬ ‫الأولى ودور الرعية في الآية الثانيةكلاهما فيه شيء من تأثير رديفه‪.‬‬ ‫فالراعي لا يمكن أن يقوم بالوظيفتين ألأوليين من دون أن المرجعية الشرعية والرعية‬ ‫لا يمكن أن تؤدي الوظيفتين الثانيتين من دون أن تتصرف كراعية‪ .‬فيكون الراعي‬ ‫مشدودا بواجب الرعية في فرض ال كفاية مضمون الآية الأولى وتكون الرعية مشدودة‬ ‫بفرض ال كفاية في فرض العين مضمون الآية الثانية‪ .‬وذلك هو معنى كل كم راع وكل كم‬ ‫رعية‪.‬‬ ‫وهذا هو الترجمة الحرفية للآية الثامنة والثلاثين من الشورى‪ :‬فالأمر أمر الجماعة وتلك‬ ‫طبيعة النظام السياسي وهي تديره بالشورى أسلوبا للحكم يحدد القوامة الأصلية فرض‬ ‫عين على الجميع حتى وإن كان لا بد من انتداب من ينوب الجماعة في القوامة الفرعية‬ ‫‪118‬‬

‫––‬ ‫لتحقيق ما توصل إليه الشورى‪ .‬وذلك هو فرض ال كفاية الناتج عن ضرورة تقسيم العمل‬ ‫السياسي في رعاية الشأن العام‪.‬‬ ‫فتكون القوامة نوعين أصلية هي التي تكون الجماعة صاحبة القرار والقوامة الفرعية‬ ‫هي التي يكون فيها نوابها الممثلين لإرادتها أصحاب القرار الذي يكون تطبيقا للنوع الأول‬ ‫من القرار‪ .‬ومراقبة التطابق بين القوامة الفرعية والقوامة الأصلية هو معنى فرض العين‬ ‫السياسي وتنظيمه مشروط بالمتابعة والمحاسبة‪.‬‬ ‫والأولى هي دور الرأي العام وغالبا ما يمثله نقد المعارضة للحكم‬ ‫والثانية هي دور التداول على الحكم الذي يقرره الشعب عندما يغير الأغلبية‬ ‫فيعطيها لغير من لم يبق راضيا عنه من القوى السياسية‪ .‬فيكون هرم السلطة السياسية‬ ‫التي تعنى بالقوامة مؤلفة من العناصر التالية‪ .‬فالقاعدة مربعة وتتألف من‪:‬‬ ‫ركنين يخصان القوامة الفرعية بمستو ييها‪ :‬أحدهما يتعلق بالأمانة والثاني بالعدل وهي‬ ‫وظيفة القوامة الفرعية الأولى أي من تعينه الامة لنيابتها أي الخليفة ووظيفة القوامة‬ ‫الفرعية الثانية أي قوامة من يعينه من عينته الامة لنيابتها أي كل أعوان الخليفة المكلفين‬ ‫بإدارة مؤسسات الدولة المتكلفة بقوامة الرعاية والحماية‪.‬‬ ‫وركنين يخصان مرجعية القوامة الأصلية بمستو ييها‪ :‬أحدهما يتعلق بالقوامة الاصلية‬ ‫وهي مشاركة الجماعةكلها في الشورى والثاني يتعلق بمراقبة التطابق بين القوامة الأصلية‬ ‫بمستو ييها والقوامة الفرعية بمستو ييها‪.‬‬ ‫‪119‬‬

‫––‬ ‫وعلى هذه القاعدة يتأسس الهرم لان سنامه هو الشورى الدائمة التي تجعل كل مرعي‬ ‫راع في آن وهو حقيقة النظام السياسي الذي اختاره الإسلام وعرفه في الآية الثامنة‬ ‫والثلاثين من الشورى الذي أطلت في شرحه مبينا أنه نظام جمهوري الطبيعة (الأمر‬ ‫أمر الجماعة) وديموقراطي الأسلوب (شورى بينهم) مرجعيته الاستجابة للرب ومشكله‬ ‫الانفاق من الرزق‪.‬‬ ‫فالسياسة ليس دورها شيئا آخر غير علاج معضلتي الوجود الجمعي لجعل العيش‬ ‫المشترك سلميا ما أمكن ذلك‪ .‬وهما تعودان إما لخلافات فلسفية دينية حول المبدأ‬ ‫الرئيس أي أعلى سلطة في الوجود ربا كان أو طبيعة (الاستخلاف) أو لخلافات حول‬ ‫الرزق حقا كان او اغتصابا (الاستعمار في الأرض) سواء كانت في علاقة صدق أو‬ ‫في علاقة خداع بين الراعي والرعية على النحو الذي وصفت في الفصل السابق خلال‬ ‫تحليل العرض الخلدوني للأنظمة السياسية‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن جعل الشورى خاصة بمن يسمونهم العلماء وجعل خيار ية وليست‬ ‫ضرور ية يمكن للأمراء الذين هم نواب الجماعة أن يحكموا من دونها أو عكس ما تصل‬ ‫إليه تحر يف صريح لمدلول الآية لان ذلك لا يبقي على الأمر أمر الجماعة و يفقد معنى‬ ‫نسبة الأمر كله إلى المستجيبين لربهم ما يجعلهم عند القبول بهذا التحر يف قد أخلوا‬ ‫بالعلاقة بين تعر يفهم بالاستجابة للرب ونسبة الأمر إليهم يديرونه بالشورى لعلاج مصدر‬ ‫الخلافات كلها وهي تتعلق إما بالمرجعية وهي الاستجابة للرب‪.‬‬ ‫‪120‬‬

‫––‬ ‫وهي الأساس المرجعي للسياسة (الاستخلاف) والانفاق من الرزق وهي الأساس‬ ‫الغائي من السياسية (الاستعمار في الأرض)‪.‬‬ ‫ويمكن ان نستمد الشاهد من كتاب السياسة الشرعية من حيث التطبيق السياسي‬ ‫ومن كتاب منهاج السنة من التأسيس العقدي وهما أوضح كتب ابن تيمية في الخلاف‬ ‫العقدي والسياسي بين السنة والباطنية استنادا إلى الرؤ ية القرآنية في العقد والحكم‬ ‫من حيث كون الأول أصل المرجعية وقيمها والثاني أصل تطبيقاتها من حيث هي‬ ‫محددة لقوامة الشأن العام بمنظور يمكن اعتباره أفضل تجسيد لما حاول الغزالي قبله وابن‬ ‫خلدون بعده صوغه فلسفيا دون استخراجه صراحة من نص القرآن بكل وظائف القومة‬ ‫التي تعود إلى الراعي والرعية في آن‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فالرؤ ية التيمية هي في آن حصيلة الفكر الذي يمثلانه وهي اكثره تعقيدا‬ ‫وأوضحه فهما لنظام الحكم الإسلامي وهو كله تفسير لآيات من القرآن ال كريم‪ .‬وتلك هي‬ ‫علة كونه شديد التعقيد ل كونه جامعا لكل ما ورد عند الغزالي قبله وعند ابن خلدون‬ ‫بعده ويرد إلى تفسير آيتين نمن سورة النساء هما الآية ‪ 58‬الآية ‪ .59‬وتعقيده مصدره‬ ‫أن ابن تيمية يورد الأفكار فيها وكأنها تفسير للقرآن جاعلا لكل فكرة شاهدا من آياته‬ ‫وموظفا الاحكام والقصص القرآنيين في آن‪.‬‬ ‫وأهم فكرة فيه هي أن الراعي والرعيةكلاهما يعير في هذه الرؤ ية بكونه حَكم في الرعاية‬ ‫وفي الحماية بين المواطنين وبينهم ومؤتمن عليهما من حيث شمولهما لكل ما يتعلق بأمر‬ ‫الجماعة بمقتضى الاحكام القرآنية والممارسة السنية كما تعينت في سياسة الرسول نفسه‬ ‫‪121‬‬

‫––‬ ‫بحيث إن هذه السياسة تعتبر العينة الأمثل لنظر ية القرآن في الدولة والحكم بما هو تراع‬ ‫يكون فيهكل فرد راعيا ومرعيا في آن‪.‬‬ ‫فالراعي حكم في الأمانات والعدل‪ .‬والرعية حكم في شروط الطاعة والعصيان بحسب‬ ‫طاعة الراعي المعين منها في تمثيل إرادتها التي لا تطيعه إلا إذا أطاع المرجعة وتعصيه‬ ‫إذا عصاها ما يعني أنها ليس عليها واجب الطاعة عندما يطيع الراعي مرجعية الرعاية‬ ‫فحسب بل لها واجب العصيان عندما يخالفها الراعي أي واجب الثورة عليه (آيتان من‬ ‫النساء متواليتان ‪ 58‬و‪.)59‬‬ ‫وتتعلق نظريته بخصائص القيمين الذين يكلفون بالقوامة العامة نيابة أولى للأمة بالبيعة‬ ‫وبالقوامة القطاعية بحسب الأمانات لمن يعينهم فيها المكلف القوامة العامة مثل الولاة‬ ‫والجباة والقضاة والأمنيين إلخ‪ .‬ورغم أنه لم يحدد ببنية الدولة تحديدا صريحا فإن حدها‬ ‫يمكن استنتاجه من هذه الوظائف التي درسها في الكتاب دراسة مفصلة وتلك هي علة‬ ‫عسر فهم مضمونه‪.‬‬ ‫وبدلا من أن ينطلق بحثه من بينة الدولة المجردة يمكن أن نعتبره قد عكس فانطلق‬ ‫من ممن يملؤون خاناتها‪ .‬فذلك فإنه بوسعنا أن نستنتج من وظائف القوامة السياسية على‬ ‫وظائف الجماعة في الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها رعاية وحماية‪ .‬من هنا أهمية‬ ‫العلاج التيمي رغم هذه الثغرة‪:‬‬ ‫‪122‬‬

‫––‬ ‫اعتبار القوامة ولاية أمر أي رعاية من جنس دور الح َكم بمعيارين هما تطبيق مفهوم‬ ‫الأمانة في القوامة ومفهوم العدل في الفصل في النزاعات بين المواطنين وبينهم وبين‬ ‫القيمين محددين للقوامة لأهلية ولاية الأمر‪.‬‬ ‫اعتبار الرعية من جنس دور الح َكم في أهلية المكلف بولاية الأمرة الشامل من قبل‬ ‫الامة نيابة عنها ومن يكلفهم صاحب القوامة الشامة من قيمين على وظائف القوامة‬ ‫الجزئية‪ .‬والأمة في الحالتين هي الحكم بمقتضى طاعة الل ِّه ورسوله وعدمها أي التشر يع‬ ‫الذي تخضع له الدولة‪.‬‬ ‫الحصيلة المتعلقة بالقوامة‪ :‬الانطلاق من موقف ابن تيمية لوضع المبدأين الأمانة والعدل‪.‬‬ ‫فالأمانة علاقة بين المكلف من الجماعة أولا وممن كلفته الجماعة ثانيا وشروط أداء‬ ‫الوظيفة‪ .‬والعدل علاقة بين القيم والمختلفتين إما في ما بينهم أو بين الجماعة والقيم وهو‬ ‫مهمة الحكم في هذه الحالة‪ :‬أي القضاء المدني والجنائي والقضاء الإداري والدستوري‪.‬‬ ‫ولا بد من قضاء يتعلق بالأمانة في الولايات في علاقة بالحقوق من حيث علاقة‬ ‫القيمين عليها بتطبيق القانون في تصرفهم في الأمانات وهو القانون الإداري‪ .‬ومن قضاء‬ ‫يتعلق بالأمنة في الولاية ال كبرى أي قوامة الدولة في علاقة بالدستور وهو القانون‬ ‫الدستور‪ .‬وأصلها جميعا هو مراقبة الشعب للقيمين ومحاسبتهم عن طر يق هذه الكيانات‬ ‫القانونية فتكون الحسبة شرطا في مراقبة الأمانات و يكون مبدأ لا طاعة في معصية‬ ‫شرطا في مراقبة العدل والأمانة‪.‬‬ ‫‪123‬‬

‫––‬ ‫قوامة ولي الأمر وقوامة من يعينهم ولي الأمر وكلتاهما نيابة ل كن الأولى مباشرة‬ ‫والثانية بتوسطها غير مباشرة… وكلتاهما خاضعة لدور الحكم النهائي بمعيار الطاعة وعدمها‪:‬‬ ‫لأن الأول طاعته مشروط بطاعة الل ِّه ورسوله‬ ‫والثانية مشروطة بطاعته المشروطة بكونهكان مطيعا لل ِّه ورسوله‬ ‫في تعيينهم وبكونهم يطيعون الل ِّه ورسوله‪ .‬وبتوسط النيابة الثانية يتم حصر كل‬ ‫الامانات التي هي قوامة وظائف الدولة على وظائف الأمة نيابة عنها‪.‬‬ ‫‪124‬‬

‫––‬ ‫تونس في ‪2022.04.05‬‬ ‫قد يفهم من كلام الغزالي وابن خلدون أن الحكم بالاختيار بدل الوصية وأنه ليس‬ ‫من العقيدة بل من الاجتهاد الإجماعي أن نظام الحكم علماني بالمحنى الذي يراوح بين‬ ‫نوعيها اليعقوبي الذي يقبل التعر يف بال كنسية الملحدة أو قبل الكاثوليكية والجرماني‬ ‫الذي يفهم بإصلاح ال كنيسة‪.‬‬ ‫ولولا التأو يل التيمي للموقفين المتقدم عليه (الغزالي) والمتأخر عنه (ابن خلدون)‬ ‫لمقومات النظام السياسي الإسلامي باستنتاج كل وظائفه من القرآن التي بينا الهرم الذي‬ ‫تتألف منه لا ستحال فهم مقصديهما‪.‬‬ ‫فهذا الهرم الذي بينا قاعدته المربعة وذروته التي ترد إلى الاستناد إلى ما يسد حاجة‬ ‫مقومي كيان الإنسان العضوي أي الاستعمار في الأرض والروحي أي الاستخلاف فيها‬ ‫وخمستها الفروع الأربعة والاصل الذي يوحد بينها‪.‬‬ ‫وكلها تتعلق بقوامة الوظائف ال كونية للجماعة من حيث هي جماعة مجهزة بإنتاج ما‬ ‫يسد هذين النوعين من الحاجات أي بالدولة التي هي نظام القوامة لا ستحال الخروج‬ ‫عن هذين الحلين لتعر يف طبيعة الحكم في الرؤ ية القرآنية‪.‬‬ ‫‪125‬‬

‫––‬ ‫ولولا ذلك لاستحال أن نفهم أن الدولة من حيث هي دولة لها ضربان من الوجود‪.‬‬ ‫فهي بنية مجردة تتألف من المؤسسات التي تنظم القوامة في الدولة من حيث هي دولة‬ ‫وهي ثابتة لا تتغير ولا فرق فيها بين الحضارات سواء بالمكان أو بالزمان‬ ‫بل هي من جنس الكيان نظام التعديل الذاتي في الكيان العضوي الذي هو قيم على‬ ‫وظائفه أعني من جنس المناعة اللاواعية والجهاز العصبي اللاواعي في كيان الإنسان‬ ‫العضوي والروحي‪.‬‬ ‫ل كن وظائف القوامة هذه تتغير بمن يؤديها لأن البنية المجردة لا تفعل بذاتها بل بمن‬ ‫يملأ مؤسساتها‪ .‬ومن يملأ مؤسساتها هم القيمون الذين تختارهم الجماعة‪:‬‬ ‫والأول يشبه نظام المناعة العضوي اللاإرادي والجهاز العصبي اللاواعي في الكائن‬ ‫العضوي والثاني يشبه نظام المناعة العضو ية الإرادية والجهاز العصبي الواعي اللذين‬ ‫يشرفان على أداء الجماعة وظائفه باختيارها القيمين كرها أو طوعا‪.‬‬ ‫فيكون النظام السياسي الذي يتكلمون عليه ممثلا في الأخيرين أي المناعة والجهاز‬ ‫العصبي الإراديين في الجماعة‪ .‬وتلك هي القوامة التي يكون فيها الأمر أمر الجماعة (طبيعة‬ ‫النظام) تديره بالشورى (أسلوب النظام) انطلاقا من مرجعية روحية هي الاستجابة‬ ‫إلى الرب وغاية اقتصادية اجتماعية هي الانفاق من الرزق شرطين للعيش السلمي‬ ‫المشترك‪.‬‬ ‫‪126‬‬

‫––‬ ‫ومن الأوهام تصور الإنسان قابلا للاستغناء عن أحد مقوميه وشروط وجوده فضلا‬ ‫عن بقائه أي ثمرة الاستعمار في الأرض أي الثروة المادية وما تستجيب له من حاجات‬ ‫وثمرة الاستخلاف فيها التراث الروحي وما يستجيب له من حاجات‪.‬‬ ‫ل كن الميلين يوجدان في سلوك البشر‪ .‬فمنهم من يزعم الاستغناء عن الثاني وهم‬ ‫الملحدون المخلدون إلى الرض ومنهم من يتوهم الاستغناء عن الأول وهم المتصوفون‬ ‫المخلدون إلى ما ورائها‪ ,.‬وكلاهما كاذب لحاجةكل منهما للثاني‪:‬‬ ‫فالملحد أكثر الناس ميلا للخرافات العامية التي تعوض الديني عنده فيتردى وعيه‬ ‫الروحي إلى الخرافات العامية التي من أهم علاماتها الاعتقاد في الأولياء والمشاعر‬ ‫الشكلية الدالة على وعي بخلل روحي‪.‬‬ ‫والمتصوف لا يعيش إلا على فضلات الملحد لأن تخليه عن العمل يعني أنه غيره‬ ‫يمكنه من شروط بقائه بصدقاته وغالبا ما يكون لهم دور تبرير كل الظلم والقهر في‬ ‫الجماعة بتحر يف معنى قضاء الل ِّه وقدره‪.‬‬ ‫ونفي اهتمام الدين بالاستعمار في الأرض وتركه لقيصر لان الدين مقصور على‬ ‫الاستخلاف فيها رؤ ية أول من جعلها جوهر المسيحية هو بولص في رسائله لغير اليهود‬ ‫مقسما وجود الإنسان إلى كيانه العضوي التابع للدنيا وقيصر وكيانه الروحي التابع للآخرة‬ ‫والل ِّه‪.‬‬ ‫‪127‬‬

‫––‬ ‫وهذه الرؤ ية منافية للإسلام وهي ناتجة عن القسمة المسيحية التي وضعها بولص‬ ‫عندما نسب إلى المسيح قولة أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لل ِّه لل ِّه‪ .‬وهي منافية للإسلام‬ ‫لأنها ضديدة الإسلام السياسي الذي هو الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالدين ينشغل بالاستعمار في الأرض ليس بوصفه سدا للحاجات‬ ‫العضو ية فحسب بل بوصفه خاصة امتحانا لأهلية الإنسان للاستخلاف بما يتحقق فيه من‬ ‫قيمه فيكون حضور الدنيا فيه شرطا في حضور ما يتعالى عليها و يكون السياسي في هذه‬ ‫الحالة لا يتجاوز هذا المعنى من علاقتهما‬ ‫بحيث يكون ما يعنيه هو الديني في الأديان وليس أحد الأديان‪ :‬الإسلام ليس دينا‬ ‫من بين الأديان بل هو الديني فيها جمعا وهو معنى الدين عند الل ِّه‪ .‬والديني فيها هو العمل‬ ‫بمعيار الأمانة والعدل بمرجعية الرد إلى الل ِّه والرسول لتجاوز الخلافات التي تنتج في‬ ‫الغالب عن الاستعمار من دون الاستخلاف‪.‬‬ ‫وهو معنى الاخلاد إلى الأرض‪ .‬وبهذا المعنى فالحكم لا ينبغي أن يتدخل في الحر ية‬ ‫الدينية من حيث هي عقائد متعددة بالطبع تعددا مطلوبا بوصفه شرط التسابق في‬ ‫الخيرات وشرط تبين الرشد من الغي طر يقا إلى الإيمان الصادق الذي يكون في أفق‬ ‫الرسالة الخاتمة باعتبارها تشرئب إلى كونية القيم الني يذكر بها القرآن (المائدة ‪.)48‬‬ ‫وتلك هي الرؤ ية القرآنية التي تعتبر الحسم في الخلاف بين الأديان مرجأ إلى يوم‬ ‫الدين لأنه شرط تبين الرشد من الغي خلال البحث عن الحقيقة الدينية المشروط بعدم‬ ‫الاكراه في الدين‪.‬‬ ‫‪128‬‬

‫––‬ ‫وهذه المحاولة هي الأمل الوحيد لتوحيد الإنسانية هو ما سيقع من تغير في رؤ ية‬ ‫الحداثيين لما يتبين لهم ما يترتب على توحيد الطيف الإسلامي من قوة سياسية لا قبل‬ ‫لهم بها‬ ‫بعد أن يفقدوا الاعتماد على قوتي الدولة أي الأمن والدفاع والسند الأجنبي الذي‬ ‫نراه بصدد فقدان الزخم بعد أن يئست قائدة الغرب من الاعتماد على الأنظمة الفاشية‬ ‫العميلة التي اختارت الاحتماء بالفاشيات المنافسة لها‪.‬‬ ‫ل كن الشرط الأساسي هو الجواب عن السؤال التالي‪ :‬هل يمكن للعلماني أن يتحرر من‬ ‫الثقة العمياء في ما يؤسسها عليه من دغمائية القول بالمطابقة المعرفية للنظر والتمام القيمي‬ ‫للعمل بحيث ينتهي أصحابها إلى التسليم الدغمائي بأن اثبات عبادة الوجود الدنيوي‬ ‫وعبادته أعسر من اثبات الوجود الأخروي وعبادة ما يتعالى عليها؟‬ ‫كيف يمكن أن نفهم تأسيس العلمانية التي لا يمكن أن تتجاوز الصراع المادي فيكون‬ ‫ما يمكن للإنسان أن يموت لأجله لا يتجاوز بعدي العجل الذهبي أي معدنه وخواره؟‬ ‫هل يمكن تأسيس حقوق الإنسان والبعد الخلقي من القانون على مجرد المصلحة المادية‬ ‫والعقد الإيديولوجي أي نزوات الإرادة الإنسانية من دون دعو يين كلتاهما لا شيء‬ ‫يثبتهما غير دغمائية الإخلاد إلى الأرض‪:‬‬ ‫الأولى هي نكوص هيجل إلى المطابقة المعرفية ودعوى العلم المطلق بحيث يعتبر ما‬ ‫يعلمه من الطبيعة حقيقة مطلقة مطابقة للدين المطلق أي المسيحية‪.‬‬ ‫‪129‬‬

‫––‬ ‫الثانية هي نكوص ماركس إلى المطابقة القيمية ودعوى العمل التام بحيث يعتبر ما‬ ‫يريده من التاريخ قيمة مطلقة مطابقة للادين المطلق أي الإلحاد‪.‬‬ ‫فإذا كانت العلمانية مؤسسة على نسبية المعرفة ونسبية القيمة فكيف تنفي إمكانية ما‬ ‫يتعالى على الدنيا معرفيا وقيميا في حين أن النسبية تفترض التسلم بأن ذلك من الممكن‬ ‫الذي لا يوجد ما يثبت استحالته؟‬ ‫هل يوجد ما يثبت أن الاكتفاء بالمعرفة النسبية وبالقيمة النسبية دليل اكتفاء الحقيقة‬ ‫بظاهرها الذي يعلمه الإنسان واكتفاء القيمة بظاهرها الذي يريده الإنسان؟‬ ‫كيف يكون العيش المشترك السلمي بين البشر ممكنا في هذه الحالة من دون علاقة‬ ‫تسلطية من الأقو ياء على الضعفاء فيزول معنى الأمانة والعدل والتفاهم والتناصف لأن‬ ‫التسلط والعنف يصبحان الحكم النهائي بين البشر ولا يمكن أن يتحقق تكوين قوى سياسية‬ ‫من مواطنين احرار يشتركون في قيم لا تستند إلى منطق القوة والباطل بدل قوة المنطق‬ ‫والحق؟‬ ‫هل يمكن تصور وجود الجماعة بهذه المعاني من دون أن تكون في حرب أهلية دائمة‬ ‫كما هو بين تاريخيا لأن ذلك هو جوهر منطق العولمة وليس نظر يا فحسب؟‬ ‫كيف يمكن تكوين قوى سياسية غير مافياو ية الكل يتآمر على الكل إذ حتى عندما‬ ‫تعمل الديموقراطية في بعض الأقطار فهي تبقى محلية ولا تقبل أن تكون كونية لأن‬ ‫الديموقراطي في بلده فاشي ومستبد في مستعمراته؟‬ ‫‪130‬‬

‫––‬ ‫كيف يمكن تأسيس نظر ية التعاقد العادل إذا كان التعاقد المزعوم يحصل في غياب‬ ‫حَكم أمين يتساوى عنده طرفا العقد فيكون عادلا في التحكيم إذ يعسر ان نفهم عقدا‬ ‫بين طرفين غير متساو يين ووجود حكم محايد إذا كان هو بدوره تابعا للأقوى‪ .‬وهنا لا‬ ‫بد من فهم شروط الحكم المحايد التي تعتمد على خمسة عناصر في التعامل مع القانون‬ ‫بافتراض اخلاق متعالية تقود المتدخلين في عملية الاحتكام إلى الحكم‪:‬‬ ‫فلا بد من الحكم الأمين لما يحدده القانون من مسؤوليات للقيمين والعادل في حسم‬ ‫الخلاف بين المتنازعين سواء كانوا المواطنين عامة أو أي مواطن والقيمين الأصليين‬ ‫الذي انتخبهم المواطنون أو القيمين الذين عينهم الصنف الأول من القيمين‪.‬‬ ‫ورد الأمانات لأصحابها يعني أن القيمين الذين يردوها إلى أصحابها يكونوا عالمين بها‬ ‫وبهم ومستقلين عن إرادة الأقو ياء الذين يستبدون بالأمر‪.‬‬ ‫ولا بد من وجود طرفي النزاع اللذين يعتبران عنده شاهدين على صحة دعواهما وخطأ‬ ‫دعوى خصمهما لأن كل طرف في النزاع يفترض فيه القاضي حسن النية والإيمان‬ ‫بوجود حكم مطلق لا تخفى عنه خافية‪.‬‬ ‫فيتعامل معه ليس كمدع أو مدعى عليه فحسب بل باعتباره شاهدا في النزاع لا بد‬ ‫من سماعه بهذه الصفة لأن سلامة القانون تقتضي التزام المواطنين به ما كانوا حسني‬ ‫النية‪.‬‬ ‫‪131‬‬

‫––‬ ‫ولا بد من وجود محاميين يساعدان المتنازعين على بيان حججهما أي إنهما مستشاران‬ ‫قانونيان وليس ملبسين للباطل بما يحول دون الوصول إلى الحقيقةكما هو معمول به في‬ ‫غالب أنظمة المحاماة لتمكينهما من التحيل على القانون بحجة البراءة الأصلية‬ ‫ما لم تثبت الإدانة بأدلة مادية غالبا ما يكون الأقو ياء أقدر على تحر يفها عن دلالتها‬ ‫وخاصة في القانون الجنائي حيث إن الاحكام القاصية تجعل أصحابه يدفعون أكثر‬ ‫للمحامين المشاركين في الجريمة بالتحيل القانوني‪.‬‬ ‫ولا بد من وجود ملجأ أخير قبل وبعد انهاء المسار القانوني العادي هو المسار القانوني‬ ‫الدستوري عندما يكون التأو يل منحرفا إلى حد يجعل القانون يصبح أداة تحيل على‬ ‫أسس الوجود الجماعي السلمي‪.‬‬ ‫وطبعا الحكم النهائي بالنسبة إلى المؤمنين ليس في هذا العالم بل هو الحكم يوم الدين وهو‬ ‫الذي يجعل من الواجب اعتبار المواطن حسن النية وشاهدا في حالتي الادعاء والادعاء‬ ‫عليه بافتراض أنه لا ينسى هذا الحكم النهائي‪.‬‬ ‫ل كن ذلك لا وجود له في حالة العلمانيين‪ .‬فلا يبقى حكما نهائيا إلا الحكم السياسي‬ ‫وهو ما يلغيه الطابع الدكتاتوري في كل علمانية بالمعنى الثاني الذي يلغي ما يتعالى على‬ ‫الأمر الواقع‪.‬‬ ‫وفي السياسة يكون الحكم بين القوى السياسية بالتداول أي حكم الناخب الذي من‬ ‫المفروض ألا يكون شاهد زور في تقييم المرشحين‪ .‬ل كن بعدي العجل يجعلانه في النهاية‬ ‫في وضعية القضاء الذي وصفت‪:‬‬ ‫‪132‬‬

‫––‬ ‫فتدخل الأعلام الذي هو خوار العجل في السياسة يشبه تدخل المحاماة فيه فيكون‬ ‫من يدفع أكثر أقدر على استمالة قضاء الشعب في الانتخابات‪.‬‬ ‫وتدخل المال الذي هو معدن العجل في السياسة يشبه الرشوة في القضاء فيكون من‬ ‫يدفع أكثر أقدر على استمالة قضاء الشعب في الانتخابات‪.‬‬ ‫ومن ثم فالعلمانية التي تفصل شروط الاستعمار في الأرض عن شروط الاستخلاف‬ ‫فيها هي التي تحول المسألة إلى مبدأ واحد هو فساد القضاء في كل مستو ياته في القضاء‬ ‫بأصنافه الخمسة أي‪:‬‬ ‫القضاء المدني وهو بين المواطنين ويتعلق بنزعات حول الثروة مباشرة وبالتراث بصورة‬ ‫غير مباشرة‬ ‫والقضاء الجنائي وبين المواطنين ويتعلق بالثروة بصورة غير مباشرة وبالتراث مباشرة‬ ‫والقضاء الإداري ومنه قضاء مراقبة التصرف في مالية الدولة لأنه يمس حقوق‬ ‫الجماعةككل ولا يختلف عن الإداري بالمعنى التقليدي إلا بكون هذا المعنى يتعلق بهم‬ ‫فردا فردا أي علاقة المواطن كفرد بالقيمين ممثلين للدولة في إجراءات تطبيق قانون‬ ‫الحقوق‪.‬‬ ‫والقضاء الدستوري ويشملها جميعا من حيث المطابقة مع المرجعيةكما صاغها الدستور‬ ‫وهو الملجأ الأخير لاي قضاء إذا كان القاضي بحق مستقلا ويريد أن يكون أمينا‬ ‫لمرجعية القانون الذي عليه تطبيقه بشرط اثبات شرعيته‪ .‬والشرعية الوحيدة للقانون هي‬ ‫‪133‬‬

‫––‬ ‫مرجعيته الدستور ية في غياب حق القاضي في تجاوزها إلى الشرعية الأسمى والتي هي‬ ‫الشرعية الخلقية والروحية التي تحدد الأمانة والعدل‪.‬‬ ‫والقضاء الاصلي المشروط في الأربعة السابقة وهو أصلها سواء كان طوعيا أو كرهيا‬ ‫هو القضاء الشعبي الذي يكون بمقتضاه التداول على الحكم إما كرها وهو القضاء الشعبي‬ ‫في الفاشيات أو طوعا أو القضاء الشعبي الديموقراطيات داخليا والتي هي فاشية خارجيا‪.‬‬ ‫فكل القوانين سالفة الذكر تتبع هذا القانون بنوعيه ال كرهي والطوعي‪ .‬وال كرهي نوعان‪:‬‬ ‫فهو كرهي بمقتضى توظيف الدين تقية ليخفي الاستبداد باسم الوساطة الروحية‬ ‫والوصاية السياسة مثل الباطنية‬ ‫أو بمقتضى توظيف الدنيا ليخفي الاستبداد باسم الوساطة الطبقية والوصاية الحزبية‬ ‫مثل الماركسية‪.‬‬ ‫ولذلك فهما متحالفان دائما لأن الوساطة الطبقية قول بالاصطفاء وإن بإلحاد والوصاية‬ ‫الحزبية قول بال كنسية وإن بالحاد‪.‬‬ ‫ل كن إذا كان الأمر المعتبر الوحيد هو المصلحة المادية فإن العلاقة أيضا تصبح صراعية‬ ‫بين أصحابها وتغيب المصلحة العامة التي ترعى الجماعة تكوينا وتموينا وتحميها داخليا‬ ‫وخارجيا‪.‬‬ ‫فلا يبقى إلا النظام المافياوي الذي يعتبر كل شيء عملية تجار ية ولو على حساب‬ ‫المصالح الوطنية والإنسانية‪ .‬وهذا النظام المافياوي هو الذي وصفته بنظام العجل الذهبي‬ ‫‪134‬‬

‫––‬ ‫أي الأبيسيوقراطيا وهي البنية العميقة للنظامين المتحيل بالدين كما في الفاشيات الدينية‬ ‫والمتحيل بالدنيا كما في الفاشيات الدنيو ية‪.‬‬ ‫‪135‬‬

‫––‬ ‫تونس في ‪2022.05.06‬‬ ‫وهكذا فقد وصلنا إلى غاية المحاولة‪ .‬وبها يمكن أن نفسر أهم ظاهرة سياسية حول‬ ‫أصناف أنظمة تعيين القوامة السياسية التي تملأ خانات بنية الدولة المجردة سواء كانت‬ ‫وطنية أو دولية‪.‬‬ ‫فقد سبق أن بينت أن القوى السياسية هي التي تعين القيمين كرها قبل الديموقراطية‬ ‫وطوعا بعدها‪ .‬ل كن الثانية تبقى جامعة بين الديموقراطية في الداخل والفاشية في الخارج‬ ‫بحيث إن عودتها إلى الداخل ممكنة ومن ثم فلا بد من الوصل بين ذلك وما يجعل‬ ‫أنظمة تعيين القيمين من قبل القوى السياسية سواء كانت احزابا او حتى قبائل مخمسة‬ ‫دائما‪.‬‬ ‫فقد بينت أن تصنيف أنظمة التعيين خمسة سواء انطلقنا من التسمية التي حصلت‬ ‫بالصدفة وقابلت بين اليمين واليسار في جلوس نواب برلمان الثورة الفرنسية أو حصلت‬ ‫بمنطق المحددات العميقة لطبيعة السياسي من حيث هو سياسي في أي دولة منذ نشأة‬ ‫الجماعات البشري‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن البنية المجردة للدولة الخالية من القوامة التي هي عينية وتاريخية وليست‬ ‫ثابتة مثل البنية المجردة موجودة منذ ما نعلمه من تاريخ الإنسانية وخاصة في الدولة‬ ‫الفرعونية والبابلية مثلا إلى اليوم‪ :‬ثابت لا يتغير لكأنه أشبه بمحددات الكيان الحي‪.‬‬ ‫‪136‬‬

‫––‬ ‫ل كن القوامة التي تملأ خانات الدولة المجردة ليست ثابتة بل هي متغيرة وهي التي لها‬ ‫تاريخ يؤدي بعض العجلين إلى الخلط بينهما‪ .‬فالقوامة تملأ خاناتها بالتدريج‬ ‫بحسب تطور الوعي بشرطي قيام الإنسان فردا وجماعة أي نظام الاستعمار في الأرض‬ ‫والثروة وشروط انتاجها ونظام الاستخلاف والتراث العلمي والروحي الذي يعتبر انتاجه‬ ‫شرط الإنتاجين ثروة وتراثا‪.‬‬ ‫فتكون القوى السياسية مؤلفة من التي تعتبر مهمتها انتاج الثروة من منطلق العلاقة‬ ‫بالطبيعة ومن التي تعتبر انتاج مهمتها توز يع الثروة من منطلق العلاقة بالتاريخ‪ .‬فيكون‬ ‫المنطلق الأول غالبا على موقف رجال الأعمال والمنطلق الثاني غالبا على موقف العمال‪.‬‬ ‫ل كن هذا الفهم الذي هو جوهر الموقف الهيجلي والماركسي في مستوى أول هو علاقة‬ ‫السادة (رجال الاعمال) بالعبيد (العمال) قبل ثورة هؤلاء على أولئك ثم ينقلب الأمر‬ ‫فيصبح العبد سيدا والسيد عبدا‪.‬‬ ‫ل كن هذا التأو يل الهيجلي والماركسي يتنافى مع ما عليه الأمر فعليا لأن المقابلة سيد‬ ‫عبد تتعلق بالرؤ ية الفاشية إذ إن الثورة لن تجعل الكل سادة بل هي تقلب العلاقة‬ ‫فحسب فيصبح العبيد سادة والسادة عبيدا ولن يتساووا أبدا‪.‬‬ ‫وحينها لن تزول الفاشية‪ :‬كانت بيد السادة ثم صارت بيد العبدي الذين صاروا سادة‬ ‫فيبقى التلازم الجدلي المزعوم والذي يلغي ذاته إذا تصور نهاية لعمله ما يعني أن التحرير‬ ‫والاعتراف المتبادل يصبح وهميا عند كلا الفيلسوفين هيجل وماركس‪.‬‬ ‫‪137‬‬

‫––‬ ‫وذلك هو الفرق الذي يجعل ابن خلدون ‪-‬فهما منه عميقا للقرآن‪-‬لا يعتبر العلاقة بين‬ ‫البشر قابلة لهذه الرؤ ية لأنه يعرف الإنسان كما يعرفه القرآن \"رئيس بطبعه بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫والرئاسة غير السيادة لأنها من البداية اعتراف متبادل بين البشر بمجرد فهم العلاقة بين‬ ‫ما بالطبع وما بالاستخلاف‪ :‬هي إذن تطبيق حرفي‪:‬‬ ‫للآية الأولى من النساء كون البشر من نفس واحدة (الاخوة البشر ية)‬ ‫وما يترتب عليها أي المساواة في المنزلة الوجودية التي تحددها الآية الثالثة عشرة من‬ ‫الحجرات (المساواة بين البشر)‬ ‫فلا يكون التعدد العرقي والطبقي والجنسي أساسا للتمييز بين سيد وعبد بل التعارف‬ ‫معرفة ومعروفا هو الذي يحدد أن البشر كلهم عباد الل ِّه مستخلفون في الأرض وهم لا‬ ‫يتفاضلون إلا بتقواه‪.‬‬ ‫وعندئذ يدركون أن انتاج الثروة لا معنى له من دون توز يعها لأنها لسد الحاجة فإذا‬ ‫امتنع سدها للأغلبية بات انتجاها لا يصلح لشيء ومن ثم فإنتاجها عرض يقتضي الز يادة‬ ‫في الطلب فيصبح الطلب هو المحرك الفعلي للإنتاج‪ .‬وحينها يصبح رجال الاعمال أحرص‬ ‫الناس على التوز يع حتى يزداد الطلب على منتوجهم عند عرضه‪.‬‬ ‫ويدركون أن طلب سد الحاجة الذي يقتضي عدل التوز يع لا معنى له من دون‬ ‫انتاجها‪ .‬فإذا لم يقع تشجيع الإنتاج قل العرض فلا يستجيب للحاجة إذا لو كان التوز يع‬ ‫عادلا فهو سيكون توز يع القليل فيصبح ظلما للجميع‪.‬‬ ‫‪138‬‬

‫––‬ ‫وليس عدلا لأن توز يع القليل على ال كثير ليس عدلا إلا في الفقر والجوع‪ .‬وحينها‬ ‫يصبح تشجيع الإنتاج المحرك الفعلي لعدل التوز يع‪ .‬وحينها يصبح العمال احرص الناس‬ ‫على تشجيع الإنتاج حتى يزداد المنتج الذي يستجيب للطلب‪.‬‬ ‫فتكون الأحزاب بذلك أربعة والخامس إما الوسط الانتهازي أو عامة الشعب قبل‬ ‫الانتساب الحزبي الذي تقوده الغالبيات المتداولة‪:‬‬ ‫الرأسمالي الخالص وهو اليمين المتطرف والرأسمالي الذي يفهم علاقة انتاج الثروة‬ ‫بتوز يعها وهو اليمين الوسطي‪ :‬فيكون الحزبان اليمينيان هما اليمين ويسار اليمين‪.‬‬ ‫ثم الاشتراكي الخالص وهو اليسار المتطرف واليسار الذي يفهم علاقة توز يع الثروة‬ ‫بإنتاجها وهو اليسار الوسطي‪ .‬فيكون الحزبان اليسار يان هما اليسار ويمين اليسار‪.‬‬ ‫وبين هذه الأربعة بوجود الحزب الذي يراوح بينها اربعتها بحسب المصلحة الحزبية‬ ‫بالنسبة إلى المتحزبين وبحسب الخيارات الظرفية بالنسبة إلى الأغلبية الصامتة التي ليس‬ ‫لها تحزب والتي تمثل معين كل الأحزاب‪.‬‬ ‫وطبعا الأساس في ذلك كله هو كون الإنسان في علاقة بالاستعمار في الأرض‬ ‫والحاجة لسد الحاجات العضو ية وهو موضوع العمران البشري بلغة ابن خلدون‪ .‬كما هو‬ ‫كون الإنسان في علاقة بالاستخلاف في الأرض والحاجة لسد الحاجات الروحية وهو‬ ‫موضوع الاجتماع الإنساني بنفس اللغة‪.‬‬ ‫‪139‬‬

‫––‬ ‫وتلك هي العلة التي من اجلها سمى علمه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‬ ‫وهو مصدر تعر يفه للإنسان قرآنيا لأن الأول يتعلق بالإنسان المستعمر في الأرض والثاني‬ ‫يتعلق بالإنسان المستخلف فيها‪.‬‬ ‫ومن هنا تعر يفه للإنسان بكون \"رئيسا بالطبع (أي من حيث طبيعته العضو ية)‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (أي من حيث منزلة الروحية\"‪ .‬وبذلك فابن خلدون‬ ‫متقدم جدا جدا جدا على هيجل وماركس‪ .‬اللذين لا يمكن أن يخرجا من علاقة السيد‬ ‫والعبد والتي لا تزول حتى في الديموقراطية لأنها قائمة في علاقة دولها بمستعمراتها وتعود‬ ‫إليها في حالة الازمات الاقتصادية فتكون فاشية حتى في الداخل‪.‬‬ ‫وهو ما يترتب عليه الحرب الدائمة بين طرفي اليمين‪ .‬فطرف اليمين الخالص وطرف‬ ‫اليمين المعدل (يسار اليمين) يتناهشان الشعب للحصول على الاغلبية فيحصل عليها الثاني‬ ‫ليكون حاكما في حالة البحبوحة إذ يقل عدد المصوتين لليمين المتطرف ثم ينعكس الأمر‬ ‫في الأزمات الاقتصادية‪.‬‬ ‫كما يترتب عليه الحرب الدائمة بين طرفي اليسار‪ .‬فطرف اليسار الخالص وطرف اليسار‬ ‫المعدل (يمين اليسار) يتناهشان الشعب للحصول على الأغلبية فيحصل عليها الثاني ليكون‬ ‫حاكما في حالة الازمات الاقتصادية إذ يزداد عدد الناقمين على الوضع ثم ينعكش الأمر‬ ‫في حالة البحبوحة‪.‬‬ ‫‪140‬‬

‫––‬ ‫وهكذا تعمل القوى السياسية الخمس في كل مجتمع سواء كان فاشيا أو ديموقراطيا‬ ‫وسواء كان تعيين القيمين لملء خانات الدولة المجردةكرهيا أو طوعيا لأن القوانين التي‬ ‫تحدد سلوك البشر لا تتغير بتغير العرضيات في السلوك‬ ‫بل هي محكومة بما يترتب على علاقة الإنسان بالطبيعة مصدرا لشروط قيامه العضوي‬ ‫وعلاقته بالتاريخ مصدرا لشروط قيامه الروحي‪ .‬وهو ما بنى عليه القرآن تفسير التاريخ‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫فالتاريخ الإنساني كما يعرضه القرآن خلال كلامه على تحر يف الأديان التي ينقدها‬ ‫بمعيار التصديق والهيمنة يرد المشكل إلى هذه العلاقة بين فلسفة الدين التي تذكر بما‬ ‫يترتب على الاستخلاف في الأرض منزلة وجودية للإنسان وفلسفة التاريخ التي تذكر بما‬ ‫بترتب على كونه خاضعا للاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫فيكون التاريخ الإنساني كله ناتجا عن تحر يف المنزلة الاستخلافية في الأرض بسبب‬ ‫الوضع الاستعماري فيها سواء نظرنا إليه في داخل نفس الجماعة أو بين الجماعات‪.‬‬ ‫وقد ذلك عديد المرات في شرحي لسورة هود التي هي العرض النسقي الذي يتخلل‬ ‫القرآن كله لهذه العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ والتي يحدد القرآن انطلاقا منها‬ ‫معنى الديني في كل دين والفلسفي في كل فلسفة أي طبيعة العلاقة بين الاستعمار في‬ ‫الأرض بالعمل بقيم الاستخلاف فيها أو بعدم العمل بها‪.‬‬ ‫‪141‬‬

‫––‬ ‫فكل ما حاولت بيانه في هذه العلاقة انتهيت إلى ان كونية نظر ية الدولة في الإسلام‬ ‫هي عين كونية استراتيجية توحيد الإنسانية بقلب العلاقة بين التعدد في كل الموجودات‬ ‫وفي البشر خاصة التعدد المضنون مناقضا للوحدة إلى ضرورة التعدد للوحدة‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الحاجة إلى التوحيد شرطها القبول بالتعدد في الأديان (المائدة ‪)48‬‬ ‫وفي اللغات وفي الأعراق وفي الألوان ومن ثم في سياسة البشر التي من شرطها تبين‬ ‫الرشد من الغي مطلبا ذاتيا لكل فرد هدفه الأساسي اكتشاف ما يؤمن به بحر ية‬ ‫فلا يكون الإيمان كرها بل طوعا ومن ثم فلا يصبح التعدد الديني سببا لعدم التعايش‬ ‫السلمي بينهم لان الحسم في الخلافات العقدية مرجأ في القرآن إلى يوم الدين بخلاف‬ ‫كذبة القول بنسخ الآيات الثلاث التي تشير إليه في البقرة والمائدة والحج‪ .‬ذلك أن‬ ‫النسخ المشروط مقصور على شرطه ولا يعمم وإلا لصار القرآن كله منسوخا‪.‬‬ ‫فمن أخطاء مؤولي مفهوم النسخ في القرآن جعله ملغيا للمنسوخ بإطلاق وليس‬ ‫بالإضافة على علة استثناء الحالة التي نسخ فيها لاستثنائه من القانون العام هي الحالة التي‬ ‫تعلله والتي هي دائما من جنس الانتقال من التحريم المطلق إلى الاباحة بسبب الضرورة‬ ‫التي تبيع المحظور بمقتضى القانون العام‪.‬‬ ‫والمثال الأعم في ذلك هو الموقف من التعدد الديني‪ .‬فلا يفرض الإسلام حتى بعد‬ ‫الفتح الذي علته الوحيدة هي منع تبليغ الرسالة التي تسعى لتوحيد البشر ية بتخليصها من‬ ‫عبادة العباد للعباد بعبادة رب العباد تبليغها سلميا‪.‬‬ ‫‪142‬‬

‫––‬ ‫وهي لا تضطر لاستعمال القوة إلا بسبب منعه وحتى بعد هزيمة المانع فهي لا تفرض‬ ‫عليه الإسلام بل تضمه إلى دولته التي تحترم التعدد الديني حتى إن الآيتين اللتين تعللان‬ ‫جهاد الطلب تقتصران على حماية الأديان وحماية المستضعفين‪.‬‬ ‫وباقي الجهاد دفاعي‪ .‬وليس هجوميا علتها‪ .‬وإذن فآية السيف التي تظن ملغية للتعدد‬ ‫الديني أسيء تأو يلها فهي من جنس الاضطرار الذي يبيح أكل الميتة‪ :‬تعطيل المبدأ‬ ‫العام للتعدد الديني دفاعي وليس هجوميا أي إن من يحارب الإسلام من حق المسلمين‬ ‫محاربته ليس بسبب دينه بل بسبب حربه على الدين‪.‬‬ ‫ولولا ذلك لاستحال أن نفهم المبدأين القرآنيين اللذين يضعان أساس العيش المشترك‬ ‫السلمي بين البشر بفضل التعدد وليس بنفيه وجعل دور الديني في السياسي متعلقا بالقيم‬ ‫الاستخلافية المعدلة لما قد يترتب على القيم الاستعمار ية في الأرض أي على الإخلاد‬ ‫على الأرض بسبب الاكتفاء بالاستعمار دون قيم الاستخلاف‪:‬‬ ‫فالمبدأ الأول يحدد الأخوة البشر ية في الآية الأولى من النساء التي تقابل بين رحمين‬ ‫كلي وجزئي مع تقديم الكلي على الجزئي وتضع تصورين للمبدأ الأسمى أي الربوبية‬ ‫والالوهية والأولى تناسب الرحم الكلي والثانية الرحم الجزئي إلى في الدين عند الل ِّه‬ ‫حيث يتطابقان وهو ما يختص به الإسلام من حيث هو الدين الفطري بداية وغاية‪.‬‬ ‫والمبدأ الثاني يحدد المساواة بينهم في الآية الثالثة عشر من الحجرات دون تمييز عرقي‬ ‫أو طبقي أو جنسي بينهم لان التعدد هدفه التعارف معرفة ومعروفا وحصرا للتفاضل‬ ‫عند الل ِّه في التقوى‪.‬‬ ‫‪143‬‬

‫––‬ ‫فالتعارف معرفة يقتضي التعدد والتنوع وإلا لزالت دلالة المشاركة والتعدد معروفا‬ ‫يقتضي التعدد والتنوع وإلا لزالت دلالة المعاملة بالمعروف بين المختلفين‪.‬‬ ‫والسؤال هو كيف وصل الإسلام إلى هذه الرؤ ية وكيف يؤسسها من خلال نظر ية‬ ‫الإنسان فيه أي من خلال الانثروبولوجيا القرآنية التي تجعل الدين ليس أمرا ينزل من‬ ‫السماء بل ما ينزل هو التذكير بما هو مرسوم في كيان الإنسان من حيث هو مستعمر‬ ‫في الأرض ومستخلف فيها‪.‬‬ ‫والتذكير بخلاف ما يقصه القرآن عما حصل في الأديان التي توسطت بين الدين الفاتح‬ ‫والدين الخاتم وكلاهما تذكير بما هو مرسوم في كيان الإنسان ليس هو شيئا آخر غير ما‬ ‫لا يمكن لاي إنسان أن يكون إنسانا من دونه لأنه ملازم لمجرد وعيه بذاته وبما حوله‬ ‫من العالم‪.‬‬ ‫في المعادلة الوجودية المستخرجة من فصلت الآية الثالثة والخمسين‪.‬‬ ‫إن المبدأين هذين هما جوهر التأسيس القرآني ل كونية الرسالة الخاتمة بوصفها من‬ ‫مرسل هو الل ِّه إلى مرسل إليه هو الإنسان لتذكيره بمضمون رسالة هو مضمون التذكير‬ ‫القرآني الذي يحيل على محل وجودها في آيات الل ِّه التي ير ينها في الآفاق وفي الانفس‪.‬‬ ‫وهو إذن مضمون مرسوم في ما حددته الآية الثالثة والخمسين من فصلت والتي يؤدي‬ ‫تحليلها إلى المعادلة الوجودية التي هي عين بنية القرآن وبنية الإنسان والعالم‪.‬‬ ‫والرسول لم يأت بمضمون الرسالة الذي يرينه الل ِّه في الآفاق وفي الأنفس بل بتذكير‬ ‫المخلدين إلى الأرض والناسين منزلة الاستخلاف‪ .‬لذلك فهو مرسل إليه مثله مثل غيره‬ ‫‪144‬‬

‫––‬ ‫وهو مخاطب به مثل كل البشر الذين يكفيهم أن يروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم و يفقهوا‬ ‫بعقولهم حتى يتذكروا‬ ‫وليس بالصدفة أن كل رسالة يلتقي فيها المرسل مع إنسان غير مرسل يسنده أو أكثر‬ ‫ما يعني أن التذكر موجود ليس عند الرسل وحدهم بل كل إنسان يمكن أن يرى آيات‬ ‫الل ِّه في الآفاق وفي الانفس ولولا ذلك لاستحال ختم الوحي وتوقف بعث الرسل‪.‬‬ ‫ومن ثم فالعلاقة مباشرة بين الإنسان عامة ولا وساطة روحية للرسول بين الإنسان‬ ‫وربه في شأنه الأخروي ولا وصاية له بين الإنسان وشأنه الدنيوي إلا بوصفه مذكرا‬ ‫تذكير النذير والبشير فيكون المنهج محكوما بقوله تعالى‪ :‬فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم‬ ‫بمسيطر‪.‬‬ ‫وقد اعتبرت الآية الثالثة والخمسين ممثلة للمعادلة الوجودية التي تترجم كل ما حاولت‬ ‫بيانه شهادة من الل ِّه على أن القرآن حق وأن الإنسان يمكن أن يتبين ذلك إذا رآي‬ ‫آيات الل ِّه في الآفاق وفي الأنفس‬ ‫أي ما يستند إليه كل استلال القرآن الذي قطع مع المعجزات التي تستدل بخرق‬ ‫النظام إلى معجزة أبلغ هي معجزة الاستدلال بالنظام الذي يرينه الل ِّه بآياته في الآفاق‬ ‫وفي الأنفس‪.‬‬ ‫• المستوى الأول‪ :‬من يرينا الآيات هو سنام الهرم أي الل ِّه وهو الواحد المطلق‪.‬‬ ‫• المستوى الثاني‪ :‬الإنسان الواعي بكونه رئيسا بمقتضى الاستخلاف يراها‬ ‫‪145‬‬

‫––‬ ‫• المستوى الثالث مضاعف‪ :‬آيات الل ِّه في الآفاق وهي الطبيعية والتاريخية‬ ‫• المستوى الرابع مضاعف‪ :‬آيات الل ِّه في الانفس وهي العضو ية والروحية‬ ‫• المستوى الخامس‪ :‬المشترك بين الطبيعي والعضوي والمشترك بين التاريخي والروحي‬ ‫هو الحصيلة التي تنتج عن المعادلة الوجودية المتعينة في علاقة الشهادة والغيب‬ ‫بالاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬وتلك هي المعادلة الوجودية التي لا يمكن‬ ‫أن يوجد إنسان أو جماعة يخلوان منها‪.‬‬ ‫فحتى أعتى الملحدين لا يمكن أن ينفوها حتى لو كفروا بسنام الهرم أي الل ِّه الواحد‪.‬‬ ‫ذلك أنهم لا ينفونه بل ينفون تعاليه‪ .‬فيضعون ما ينسبه إليه المؤمن في ما دونه أي في‬ ‫الطبيعة الخارجية والذاتية للإنسان وفي التاريخ الخارجي والذاتي للإنسان ناسبين ما ينسيه‬ ‫المؤمن إلى الرب إلى الطبيعة والتاريخ الخارجيين والذاتيين للإنسان‪.‬‬ ‫ولعل أبرز دليل على ذلك هو أن كل الميثولوجيات هذا أصلها بحيث إن الإلحاد‬ ‫والعلمانية اليعقوبية والماركسية تعود إلى ميثولوجيا تفسر الطبيعة والإنسان بذاتهما بأن‬ ‫ينسبوا إليهما ما تنسبه الأديان المنزلة والفلسفات إلى مبدأ متعال وهو المشترك بين‬ ‫الفلسفة والدين بحيث إن كل نفاة هذا المشترك أديان طبيعية وليست كفرانا بالمبدأ بل‬ ‫بتعاليه فحسب‪.‬‬ ‫استحالة أن يكون الأمر بخلاف ذلك جمعا بينها كلها باعتبار ذلك ناتجا عن التفاعل‬ ‫بين بعد الإنسان العضوي وبعده الروحي في علاقتهما ببعد العالم الطبيعي وببعد العامل‬ ‫التاريخي والأول هو الثروة والثاني هو التراث مقومين لكل حضارة إنسانية‪.‬‬ ‫‪146‬‬