Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore استراتيجية النجاح – الاستعداد للتداول السياسي السلمي - أبو يعرب المرزوقي

استراتيجية النجاح – الاستعداد للتداول السياسي السلمي - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2022-06-12 20:56:06

Description: استراتيجية النجاح – الاستعداد للتداول السياسي السلمي - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫فعلة المآسي التي آلت إليها العولمة الملازمة للتاريخ البشري من بدايته وليست‬ ‫ظاهرة جديدة هي هذا الفصل الذي يفسد ا لطبيعة والحضارة بجعل البشر يحيون‬ ‫في مناخ الحرب الأهلية الدائمة على الثروة بتعليل يؤسسونه في التراث الذي‬ ‫يحولها من غاية إلى أداة فيكون ذلك علة تلويث الطبيعة وتلويث التاريخ ومعهما‬ ‫كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي‪.‬‬ ‫لذلك فالقرآن يرجع فشل البشر ية في رعاية ذاتها وعالمها وفي حمايتهما إلى‬ ‫هذا الفصل بين شروط الاستعمار في الأرض الذي تحول إلى علة ما بينهم من‬ ‫حرب أهلية دائمة بسبب غياب شروط الاستخلاف فيها الذي تحول إلى علة‬ ‫حب التأله عندهم بحيث إن البعض يطغى بقوة السلطة السياسية والبعض يطغى‬ ‫بقوة السلطة التقنية‪.‬‬ ‫فيكون القرآن درسا للعلاقة بين فلسفة الديني الذي يهدف إلى السمو بالإنسان‬ ‫وفلسفة التاريخي الذي يشده إلى الاخلاد إلى الأرض والهدف بغاية تحرير‬ ‫الديني والفلسفي في آن من هذين التحر يفين ببيان المشترك بينهما باعتباره شرطا‬ ‫للعيش المشترك السلمي بينهم‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فالقرآن يعرض مشروعا واستراتيجية سياسية يستعيضان عن التأسيس ما‬ ‫بعد الطبيعي لعلاقة الإنسان بالإنسان ولعلاقته بالعالم بالتأسيس المابعد تاريخي‬ ‫الذي يحقق سمو الإنسان إلى أهلية الاستخلاف‪.‬‬ ‫فتصبح الفلسفة السياسية مبنية على نظر ية في العمل وفي النظر تسعى إلى تحقيق‬ ‫هي المشروع الاستراتيجي الذي يوحد الإنسانية ليحررها من الحرب الأهلية‬ ‫الناتجة عن الاستعمار في الأرض المنفصل عن قيم الاستخلاف فيها‪ .‬وهذا‬ ‫المشروع الاستراتيجي ينقل الفكر الإنساني من التأسيس على الميتافيز يقا ‪Méta-‬‬ ‫‪ physique‬إلى التأسيس على الميتااثيقا ‪.Meta-éthique‬‬ ‫وبهذا المعنى فالقرآن ما بعد أخلاق يؤسس لشروط وحدة الإنسانية برؤ ية‬ ‫تحررها من وهم العلم المطلق والعمل التام المؤديين إلى تأله الإنسان وتوهم نفسه‬ ‫رب ال كون وهو ما يجعله مفسدا في الأرض وسافكا للدماء‪ .‬ومن ثم فهو يجعل‬ ‫العلم اجتهادا وليس معرفة مطلقة والعمل جهادا وليس قيما تامة‪.‬‬ ‫وكلاهما مشدود إلى مثال أعلى يجعل الاستعمار في الأرض لتحرير الإنسان‬ ‫من الحاجة المادية وليس للطغيان فتكون الثروة للتحرير من الحاجة وليست علة‬ ‫للفساد في الأرض وسفك الدماء فيتحرر الإنسان من العاجل السياسي في‬ ‫الأعيان استعمارا للأرض بفضل الآجل الموجود في الأذهان وهو الإيمان بقيم‬ ‫‪48‬‬

‫‪--‬‬ ‫الاستخلاف حتى يزول الفصل بين شرطي سلامة المقومين الملازمين للوجود‬ ‫الإنساني المتحرر من التلويثين‪:‬‬ ‫فالاستعمار في الأرض غايته الآجلة هي شرط قيامه الروحي لأنه من دونه‬ ‫يصبح عبدا للحاجة في غياب شروط قيامه العضوي فيخلد إلى الأرض فيصبح‬ ‫كالكلب دائم اللهيف سواء حملت عليه أو لم تحمل‪ .‬وكل صراع بين البشر علته‬ ‫هذا الاخلاد بسبب نسيان قيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫والاستخلاف في الأرض غايته الآجلة هي شرط قيامه العضوي لأنه من‬ ‫دونه يصبح عبدا للتنازع الدائم على ثمرة الاستعمار في الأرض فتزول فائدة‬ ‫الاستعمار في الأرض لأنها تذهب بالتنافس إلى تلويث الطبيعة والتاريخ وإلى‬ ‫الحروب الدائمة على الأمانة في شروط الرعاية والعدل في شروط الحماية‪.‬‬ ‫والأمانة في شروط الرعاية حفظ للحقوق والعدل في شروط الحماية قوامة لحفظ‬ ‫العيش المشترك السلمي منعا للظلم المؤدي إلى خراب العمران‪ .‬لذلك فقد عرفت‬ ‫القرآن بكونه استراتيجية توحيد الإنسانية التي تعينت في نموذج تطبيقي هو منطق‬ ‫السياسة المحمدية التي تعتبر المعمورة دولة واحدة هي التي تسعى السياسة التي‬ ‫تؤمن بكونية القيم المادية (التي تحكم الاستعمار في الأرض) والروحية (التي‬ ‫‪49‬‬

‫‪--‬‬ ‫تحكم الاستخلاف فيها) واحدة لا فرق فيها بين ما يطبق منها في الأمة الجزئية‬ ‫(أمة شعب من الشعوب) أو في الأمة الكلية (الإنسانيةكلها)‪.‬‬ ‫وما أخصص له هذا الفصل هو بيان المقصود بمنطق السياسة المحمدية التي‬ ‫تطبق هذه الاستراتيجية على الإنسانيةكلها وتجعلها غاية الفتح من حيث هو تحرير‬ ‫البشر من عبادة العباد بعبادة رب العباد دون اكراه ولا عنف إلا في حالة منع‬ ‫المخاطبين بها السماح باستعمال منطق القرآن السياسي الذي يجعل قوة المنطق‬ ‫بدلا من منطق القوة ل كنه لا يتخلف عن استعمال منطق القوة إذا منع استعمال‬ ‫قوة المنطق‪ :‬وللمنطقين نفس الاسم فيه أي \"سلطان\" شرعية المنطق و\"سلطان\"‬ ‫شوكة القوة‪.‬‬ ‫وذلك هو مضمون القرآن وما يختلف به عن الرسالات التي تستعمل‬ ‫المعجزات الخارقة للعادات بديلا من سلطان المنطق ومنطق السلطان وهما أداتا‬ ‫السياسة من حيث هي ميتااثيق أي تحقيق فعلي للقيم الخلقية في تاريخ الإنسانية‬ ‫بمعياري الأمانة لشروط القوامة التي تعمل بقيم الاستخلاف في الأرض والعدل‬ ‫لشروط الرعاية التي تعمل بقيم الاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫ولست اشك في أن تحليلي للآية ‪ 38‬من الشورى التي تبين هذا العلاج‬ ‫الاستراتيجي الذي يجعل السياسي من حيث هو سياسي أداة استراتيجية في مشروع‬ ‫‪50‬‬

‫‪--‬‬ ‫توحيد الإنسانية القرآني لن يرضى عنه لا الإسلامي التقليدي ولا الحداثي الذي‬ ‫هو أكثر منه تقليدية بخلاف ما يتوهم عن حداثته وتنويره‪ .‬فالفرق الوحيد‬ ‫بينهما يتمثل في‪:‬‬ ‫أن الأول يقلد مرحلة الانحطاط من حضارتنا التي جعلت الشورى حكرا على‬ ‫من تسميهم اهل الحل والعقد ومن تسميهم أولى الأمر وجعلها غير ملزمة للثانين‬ ‫برأي الأولين فضلا عن تغييب دور الجماعة في ما هو فرض عين في القرآن‬ ‫ال كريم بكونهم مستخلفين كلهم ومن واجبهم القيام بدورهم في الشورى المقررة‪.‬‬ ‫وأن الثاني يقلد مرحلة الانحطاط من الحضارة الغربية‪ .‬وهي مرحلة بدأت‬ ‫مع هيجل الذي تصور رؤ ية الإسلام متنافية مع تأسيس الدول المستقرة‪.‬‬ ‫واكتملت ماركس فصارت السياسة أسفل السافلين وخاصة عند اليسار العربي‬ ‫الذي جعلها من مقدسات الأميين من المنتسبين إلى أقصاه بالأقوال وهم من‬ ‫اقصى اليمين بالأفعال‪.‬‬ ‫ورغم أن تحليل نص الآية لا يمكن أن يجادل فيه من له علم بطبيعة الأنظمة‬ ‫في الممارسة وبطبيعة الفكر في النظر المحددين لطبيعتهما قبل نزول القرآن‬ ‫والمسيطرين على الإقليم قبل فتحه إذ هو قد كان مستعمرات تتقاسمهما فارس‬ ‫وبيزنطة بتراث فلسفي يوناني وروماني وبمعتقدات دينية مجوسية ومسيحية‪.‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪--‬‬ ‫ل كني مع ذلك أواصل تقديم الدلالة الصريحة فيها والمحددة لطبيعة الحكم‬ ‫واسلوبه بمصطلحات رومانية و يونانية مع تأسيسها مرجعيا على مبدأ قرآني هو‬ ‫أساس الاستخلاف المحدد لمعنى الإنساني وغائيا على مبدأ قرآني هو أساس‬ ‫الاستعمار في الأرض المحدد لعلاج ما قد يفسده‪.‬‬ ‫فأما المبدأ الأول هو الاستجابة إلى الرب و يعني أن مرجعية الحكم هي الإيمان‬ ‫بأن أساسه متعال على الأمر الواقع بالأمر الواجب وهو الاستجابة لدلالة‬ ‫الاستخلاف أي مراعاة القيم المتعالية التي تحددها‪:‬‬ ‫الآية ‪ 1‬من النساء (الأخوة البشر ية التي تعتبر رحما كونيا مقدما على الرحم‬ ‫الجزئي هوا النسب العضوي المباشرة في الأسرة والقبيلة والشعب المعين تقدم‬ ‫الربوبية الواحدة على الألوهية المتحددة بتعدد الأديان التي يعرضها القرآن عرضا‬ ‫نقديا بمنطق التصديق في ما هو كوني والهيمنة على ما هو جزئي مناف لل كونية)‪.‬‬ ‫والآية ‪ 13‬من الحجرات (التعدد والتنوع من اجل التعارف معرفة ومعروفا‬ ‫بين البشر المتساو يين لأن التفاضل الوحيد المقبول هو التقوى أي الاستجابة إلى‬ ‫الرب تحقيقا لقيم الاستخلاف) وما يترتب على الأخوة والمساواة هو جعل الحكم‬ ‫رعاية وحماية محققا لشروط هذه الاستجابة‪ ,‬وذلك بأن يكون الأمر أمر الجماعة‬ ‫من حيث طبيعته وبأن يكون أسلوب إدارته هو الشورى بينهم سواء كانوا‬ ‫‪52‬‬

‫‪--‬‬ ‫مسلمين أو غير مسلمين لأن غيرهم وإن كان فهمه للألوهية مختلف عن الربوبية‬ ‫فإن المعنيين واحد في الإسلام لتطابقه مع الدين عند الل ِّه كما يعرضه القرآن‬ ‫ال كريم‪.‬‬ ‫وعندئذ يكون هدف الحكم المحافظة على هذين المبدأين بعلاج ما قد يهددهما‬ ‫أي الاستعمار في الأرض بما يتنافى مع قيم الاستخلاف وهو هدف واحد‬ ‫سواء كان البشر مسلمين أو غير مسلمين لأن الفرق حينئذ لا يكون في الأمر‬ ‫نفسه بل في الوعي به وتسميته‪.‬‬ ‫إذ إن الأديان الطبيعية وإن بدت ملحدة أو وثنية فهي تؤمن بأن القيم لها‬ ‫أصل متعال سواء كان محايثا أو مفارقا وهي من ثم لا تخلط بين القيم من حيث‬ ‫حصولها بما هو امر واقع وواجب تحصيلها بما هو أمر واجب‪.‬‬ ‫فإذا حللنا الآية ‪ 38‬تبين أن طبيعة الحكم جمهور ية واسلوبه ديموقراطي‪ .‬وقدر‬ ‫عرفت الآية الطبيعة بمصطلح روماني \"راس بوبليكا=امر الجماعة\"‪ .‬وعرفت‬ ‫الأسلوب بمصطلح يوناني \"ديموقراطية=شورى بينهم\"‪ .‬وجعلت الاستجابة إلى‬ ‫الرب (الاستخلاف وقيمه) أساس لهذا النظام والانفاق من الرزق غاية له‬ ‫(الاستعمار في الأرض)‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫‪--‬‬ ‫فلا بمعنى للاستجابة إلى الرب في هذه الحالة إلا نسبة هذه الرؤ ية لرب متعال‬ ‫هو الذي تنسب إليه قدسية القوانين التي تجعل الأمر أمر الجماعة طبيعة وإدارته‬ ‫بشوراهم أسلوبا‪ :‬وتلك هو ثمرة استخلافها‪.‬‬ ‫ولا معنى ل \"ومما رزقناهم ينفقون\" ‪-‬والمسلمون يعلمون القصد بنسبة الرزق إلى‬ ‫الرب تحديد وجوه الانفاق منهكما هو بين من البقرة ‪ 177‬لعلل اجتماعية للرعاية‬ ‫ولعلل دفاعية للحماية‪ :‬وتلك هي ثمرة الاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫ل كن مقلدي هيجل صدقوا ما توهمه عندما ادعى في فينومينولوجيا الروح أنه‬ ‫وصل إلى العلم المطلق وادعى في فلسفة الدين أنه وصل إلى العمل المطلق‪.‬‬ ‫والأولى نكوص في نظر ية المعرفة إلى القول برد الوجود إلى الإدراك كما تحدده‬ ‫فلسفته الميتافيز يقية‪.‬‬ ‫القائلة بأن العقلي واقعي وبأن الواقعي عقلي موحدا بين تصورين كلاهما يصادر‬ ‫على معرفته ومعرفة ما يناظره دون أدنى دليل فينتهي إلى نفي ما يتجاوز عقله‬ ‫مدعيا تجاوز النقد ال كنطي الذي فيه شيء من الاعتراف بما يتعالى على عقل‬ ‫الإنسان ويشبه الغيب‪.‬‬ ‫ومن قلد منهم ماركس صدقوا ما توهمه عندما ادعى أنه أعاد الهيجلية إلى‬ ‫وضع سليم ل كي تمشي على رجليها بدلا من رأسها بتقديم المادي على الروحي‬ ‫‪54‬‬

‫‪--‬‬ ‫بعكس هيجل قاصدا أن الطبيعة لا يتعالى عليها شيء وضعا لنظر ية المادية الجدلية‬ ‫وجوديا والمادية التاريخية حضار يا‪.‬‬ ‫وينتهي إلى أن كل ما لا يطابق نظريته إيديولوجيا فيكون له نفس الموقف‬ ‫الوجودي الهيجلي ول كن بسلب ما يضفيه هيجل على الروح وفلسفة الدين‪ .‬فلا‬ ‫الليبرالي المقلد لهيجل ولا الشيوعي المقلد لماركس يمكن أن يفهم ما أحاول‬ ‫بيانه عندما نتحرر من القول بالعلم المحيط بجعل المعرفة اجتهادا ومن العمل التام‬ ‫بجعل القيمة جهادا كما تبين لكل من فهم دلالة تاريخية المعرفة العلمية والقيمة‬ ‫العملية في تاريخ الحضارات الإنسانية‪.‬‬ ‫وهي حقيقة وصل إليها الدين قبل الفلسفة فصارت مشتركة بينهما بعد بلوغها‬ ‫الرشد في تجاوز الميتافيز يقا القائلة بالعلم المطابق والعمل التام بفضل المدرستين‬ ‫النقديتين العربية (الغزالي من تلاه) والجرمانية (كنط من تلاه)‪.‬‬ ‫و يترتب عليها تحدد أخلاق التعامل بين البشر وبينهم وبين شروط بقائهم في‬ ‫عالم يحتاج مثلهم إلى الرعاية والحماية مما قد يترتب على كذبة الإنسان على نفسه‬ ‫إذ ينسب إليها ما لا قدرة عليه وهو ما يسميه ابن خلدون \"حب التأله\" أي‬ ‫الزعم بأن للإنسان علما محيطا وعملا تاما‪.‬‬ ‫‪55‬‬

‫‪--‬‬ ‫وحتى نحرر الفلسفة السياسية من هذا المرض الذي ينتج عن حب التاله‬ ‫سأعرض ما يدل على أ ن الإسلام قد حدد مقوماتها وذلك بعرض الحجج التي‬ ‫استنتجتها من فكر أكبر علماء الإسلام بخصوص الرؤ ية السياسية للسياسي من‬ ‫حيث الطبيعة والأسلوب لأداء الوظائف وأعني‪:‬‬ ‫• الغزالي‬ ‫• وابن تيمية‬ ‫• وابن خلدون‬ ‫وتنز يلهم بين من تقدم على الرؤ ية الإسلامية ومن تأخر عنها في تاريخ الفكر‬ ‫السياسي الفلسفي والديني في المعلوم من تاريخ الفكر السياسي‪ .‬وسأبدأ بالغاية من‬ ‫البحث كله انطلاقا من طبيعة الخلاف بين الرؤ ية التي كانت علة الحروب‬ ‫الأهلية التي ترتبت على الفتنة ال كبرى فحالت دون التطبيق السليم لهذه الرؤ ية‪.‬‬ ‫وستكون البداية بيان الغزالي معنى التحرر من الوساطة الروحية والوصاية‬ ‫السياسية في الفكر الباطني والغاية بيان ابن خلدون لأصناف الحكم بمقتضى العقل‬ ‫والنقل لكأنه يجمع بين رأي العلماء الثلاثة وبين مناط كلامهم فيها‪.‬‬ ‫فيكون كتاب فضائح الباطنية للغزلي وكتاب السياسة الشرعية لابن تيمية وكتاب‬ ‫المقدمة لابن خلدون ثلاثتها افضل ترجمة للرؤ ية القرآنية وأكبر دليل على التحرر‬ ‫‪56‬‬

‫‪--‬‬ ‫من الفكر السياسي اليوناني الروماني والتحر يف الشيعي للإسلام أصلا للفتنة‬ ‫ال كبرى‪.‬‬ ‫وسيكون البحث في رآهم مقصورا على عرض للفكرة المركز ية من النصوص‬ ‫الممثلة لفكرهم النصوص التي اعتبرها مرجعية في مجال الفلسفة السياسية‬ ‫الإسلامية‪.‬‬ ‫فهذه الفلسفة تجعل السياسي متعلقا باستراتيجية تحقيق شروط الرعاية ببعديها‬ ‫وأصلها وتحقيق استراتيجية الحماية ببعديها وأصلها‪ .‬وهي رؤ ية تقطع نهائيا مع‬ ‫الفلسفة اليونانية والتقاليد الشرقية في آن أعني جوهر الرؤ ية القرآنية لل كونية‬ ‫الإنسانية بمعياري الآية الأولى من النساء والآية الثالثة عشر من الحجرات وما‬ ‫يترتب عليهما منه نظام للقوامة السياسية فرض كفاية تابعة للقوامة الجماعية فرض‬ ‫عين في الآية الثامنة والثلاثين من الشورى‪.‬‬ ‫ولما كنت قد خصصت لهذه النصوص المرجعية العديد من البحوث السابقة‬ ‫فأكتفي بالإحالة إلى النصوص واصحابها واكتفي بذكر الفكرة المركز ية التي أنسبها‬ ‫إلى أصحابها لأركز هنا على دلالة تصنيف ابن خلدون لأنظمة الحكم التي تقطع‬ ‫نهائيا مع الرؤ ية اليونانية‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫‪--‬‬ ‫وتؤسس لنظر ية في الحكم تلخص أفكار كل هؤلاء العلماء المترجمين للرؤ ية‬ ‫القرآنية للحكم من حيث هو قوامة نيابية تتصف بدور وحيد هو دور الحكم فتكون‬ ‫الآية الثامنة والخمسون من النساء هي المبدأ الجامع المانع لوظائف الحكم والدولة‪:‬‬ ‫• الغزالي والمبدأ العام‪ :‬المقابلة بين الوصية والاختيار‬ ‫• ابن خلدون والمبدأ العام‪ :‬علاقة السياسي بالعقائد‬ ‫• ابن تيمية والمبدأ العام‪ :‬رد السياسي إلى دور الح َكم‬ ‫• ابن خلدون والمبدأ العام‪ :‬كما ورد في تصنيف الأنظمة‬ ‫ل كن ذلك يقتضي أن أقدم على هذه المسائل الأربع بيان ما تمت معه القطيعة‬ ‫في التاريخ الفعلي للسياسي وفي التاريخ القولي لنظريته أي مع الممارسات التي‬ ‫كانت سائدة لما نزل القرآن والنظر يات التي كان تعللها وتحللها بوصفها علمها‪.‬‬ ‫فيكون الفصل مؤلفا من خمس مسائل بإضافة المبدل منه الشرقي (فارس‬ ‫خاصة) واليوناني (بيزنطة خاصة) قبل البديل الإسلامي‪.‬‬ ‫وذلك بخلاف الرؤ ية الديموقراطية الغربية الحديثة التي هي في الحقيقة توسيع‬ ‫لمفهومها اليوناني (بضم العبيد بعد ما يزعم من تحريرهم) توسيعا محدودا في‬ ‫القبيلة التي صارت تسمى أمة وحصرا في ما يجري داخلها‪.‬‬ ‫‪58‬‬

‫‪--‬‬ ‫مع استعباد الخارج كله بتحو يل شعوبهكلها إلى مستعمرات للأمم التي تدعي‬ ‫الفضل على من سواها ممن البشر فتجعلهم عبيد مافيات هذه الديموقراطيات‬ ‫القبلية بتوسط عملائهم في الجماعات التي استعمروها‪.‬‬ ‫لذلك كانت الديموقراطية الغربية الحديثة فاشية خارج أقطارها لان ما تزعمه‬ ‫من قيم تقصره على قبيلتها دون سواها في المعمورة وما تتكلم عليه منها مقصور‬ ‫على الداخل والمعمول به في المستعمرات هو ضديدها‪ .‬وذلك هو القصد بكونها‬ ‫ذات عقلية قبلية فاقدة لل كونية التي يقول بها الإسلام‪.‬‬ ‫‪59‬‬

‫‪--‬‬ ‫تونس في ‪:2022.04.26‬‬ ‫ينبغي الانطلاق في دراسة المسائل الخمس التي تدور حول ما يملأ خانات بنية‬ ‫الدولة المجردة من تحديد هذه البنية التي تعتبر من ثوابت ما بعد الأخلاق القرآنية‬ ‫البديل المتكامل مع ما بعد الطبيعة الفلسفية‪ .‬ذلك أن المشترك ال كوني بين‬ ‫الديني والفلسفي بهو المقوم الجوهري للاستراتيجية السياسية من حيث هي طلب‬ ‫شروط بقاء الإنسان من حيث هو إنسان جهز عضو يا وروحيا بأدوات معرفة‬ ‫ونظر وأدوات تقييم وعمل يستعملهما لتحقيقها‪.‬‬ ‫ومن ثم فهذا المشترك هو ما لا يمكن أن تخلو منه حضارة وهو غاية وجود‬ ‫الدولة بما هي بنية مجردة ملازمة لوجود الجماعات البشر ية مهما كانت بدائية‬ ‫بحيث يكون تاريخها الحضاري عين ملئها بالقيمين حتى وإن لم يتحقق الملء‬ ‫المناسب إذ يمكن أن يكون ملأ تغلب عليه عوامل افسادها أو ملأ تغلب عليه‬ ‫عوامل إصلاحها‪ .‬ولا تخلو مراحل التاريخ من التداول بين لحظات تكون فيها‬ ‫الغلبة لهذه أو لتلك‪.‬‬ ‫لذلك فالتصنيف اليوناني الذي يعتمد عدد المشاركين في الحكم وقيمهم لا‬ ‫يكفي ولا يطابق ما يجري في التاريخ الفعلي ولا في الأساس النظري للتصنيف‬ ‫‪60‬‬

‫‪--‬‬ ‫بمقتضى هذين المعنيين وكأنهما قابلان لأن ينفصلا في الجماعات البشر ية أولا‬ ‫بحيث تحصل المنظومة المسدسة التي يعرضها الفكر السياسي بضرب العدد واحد‬ ‫واقلية واغلبية في قيمتي الفضيلة والرذيلة‪.‬‬ ‫فأولا لا يمكن أن يحكم الواحد ولا ال كثرة إلا في الظاهر لأن الحكم ككل‬ ‫وظائف العمل الإنساني يخضع لتقاسم العمل ومن ثم فهو دائما فرض كفاية‬ ‫مثل أي عمل تحتاج إليه الجماعات‪ .‬وثانيا لا بد من الواحد رمزيا ولا بد من‬ ‫القلة فعليا ولا بد من حيازتهما على شروط الظهور بمظهر الأغلبية حتى يتمكنا‬ ‫من الحكم وأن تحضر هذه بالأغلبية بالفعل في اذهان الطامحين من المعارضين‬ ‫فيستعدون لتغيير هذه القناعة تلك هي علة التداول على الحكم بالأسلوب العنيف‬ ‫قبل العقد الديموقراطي أو بالأسلوب اللطيف بعده حيث تكون الأغلبية ليست‬ ‫الغالبة بالسلاح بل بالناخبين‪.‬‬ ‫وهو الملء الذي درسه علماء الإسلام واستخرجوه من القرآن وشهادة التاريخ‬ ‫دون التفطن إلى بنية الدولة المجردة رغم أنها بينة من تحديد أصناف القوامة‬ ‫التي تملأ خاناتها القابلة للتحديد بصورة مجردة إذا انطلقنا من تحديد الوظائف‬ ‫التي لا غنى عنها في قيام الجماعات‪ .‬فيكون ذلك منطلقا تجريبيا يسنده منطلق‬ ‫يقبل الرد إلى المعادلة الوجودية لقيام العمران البشري والاجتماع الإنساني والتي‬ ‫‪61‬‬

‫‪--‬‬ ‫خصصت لها عدة محاولات خلال شرح مضمون الآية ‪ 57‬من سورة فصلت‪.‬‬ ‫فهي تقول إن الل ِّه يرينا آياته‪:‬‬ ‫في الآفاق‪ :‬أي في الطبيعة وفي التاريخ اللذين هما محل الآفاق‬ ‫وفي الأنفس‪ :‬أي في كيان الانسان العضوي وفي كيانه الروحي وهما محل‬ ‫الأنفس‬ ‫نتبين حقيقة القرآن‪ :‬أي إن ما نراه في هذه المحال الأربعة هي الحقيقة التي‬ ‫يقدمها القرآن‬ ‫بشهادة الل ِّه نفسه على ذلك‪ :‬أي إن قوانين الطبيعة وسنن التاريخ خارج الإنسان‬ ‫وفي كيانه هي التي تثبت أن الرسالة موجهة إلى الإنسان من حيث هو إنسان‬ ‫المجهز بأدوات معرفتها نظر يا وتقييمها لتحقيق عمليا لتحقيق شروط استعماره في‬ ‫الأرض وشروط استخلافه فيها‪.‬‬ ‫فما هي هذه البنية المجردة التي تتجلى في الآيات التي يريها الل ِّه للإنسان حتى‬ ‫يتبين له أن القرآن حق كما جاء في الآية؟ إنها ما تعالجه مؤسسات الدولة المجردة‬ ‫بوصفها وظائف القوامة التي تحرص شروط الرعاية وشروط الحماية اللتين لا‬ ‫يمكن قيام الجماعات البشر ية من دونها‪ .‬وهي مناظرة للآفاق وللأنفس لكأنها‬ ‫مناظرةكيان الإنسان العضوي والروحي لما يسد حاجاتهما في العالم‪.‬‬ ‫‪62‬‬

‫‪--‬‬ ‫ويمكن أن نعتبر بعضها مناظرا لموضوع التشريح في كيان الموجودات الحية‬ ‫وبعضها مناظرا لموضوع وظائف الأعضاء فيه لكأن الجماعة مجموعة متقومة تقوم‬ ‫الفرد الإنساني بما يشبه ما يحقق شروط قيام الإنسان العضوي في علاقته بمحيطيه‬ ‫الطبيعي التاريخي رعاية تكوينية وتموينية وحماية داخلية وخارجية‪.‬‬ ‫وبذلك تكون البنية المجردة للدولة مؤلفة من خمس مستو يات لا يمكن ان‬ ‫يخلو منها عمران بشري واجتماع إنساني بلغة ابن خلدون‪ .‬ولا تتمايز الجماعات‬ ‫بهذه المستو يات من حيث الشكل بل بما تجعله مضمونا لها أعني بنظام القوامة‬ ‫واسلوبه سواء كان التداول فيه عنيفا قبل الانتقال إلى التداول الديموقراطي أو‬ ‫لطيفا بعده‪:‬‬ ‫المقوم الأول‪:‬‬ ‫هو المرجعية الموحدة وتتعلق بما يضمن شروط الرعاية بمستو ييها التكويني‬ ‫المضاعف والتمويني التمويني المضاعف وأصلها اربعتها أي البحث والاعلام‬ ‫العلميان وشروط الحماية بمستو ييها الداخلي المضاعف والخارجي المضاعف وأصلها‬ ‫اربعتها الي الاستعلام والاعلام السياسيان‪ .‬فالشروط تعود إلى هذين الأصلين‬ ‫وتطبيقاتهما والاستعلام والاعلام السياسيان وتطبيقهما في الاستعمار في‬ ‫الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫‪63‬‬

‫‪--‬‬ ‫المقوم الثاني‪:‬‬ ‫هو القوى السياسية التي تتقدم لتحقيق هذه الشروط بالترشح للقوامة العامة‬ ‫نيابة عن الجماعة والقوامة الخاصة التي تتبعها بحسب تفرع الوظائف التي ذكرنا‬ ‫وهي غالبا ما تتعدد بتعدد الرؤى في الجماعة ل كنها لا تعدو الخمسة الممكنة التي‬ ‫تتداول على قوامة الحكم وقوامة المعارضة‪ :‬التي تطور شروط الرعاية بمستو ييها‬ ‫المضاعفين واصلها بفضل ما تضمنه شروط الحماية بمستو ييها المضاعفين واصلها‬ ‫والتي تطور شروط الحماية بمستو ييها المضاعفين واصلها بفضل ما تضمنه شروط‬ ‫الرعاية بمستو ييها المضاعفية وأصلها ومن ثم فلا يكون الاستعمار في الأرض ولا‬ ‫الاستخلاف فيها سو يين أي ضامنين للعيش المشترك السلمي في نفس الجماعة‬ ‫وبين الجماعات من دون هذا التفاعل في الاتجاهين‪.‬‬ ‫وهذا التفاعل يجعل كلا منهما شرطا في الثاني بحيث يحصل التعاون والتبادل‬ ‫والتعاوض العادل في استعمار الأرض والتفاهم والتواصل الصادق في‬ ‫الاستخلاف فيها فتصبح كل جماعة قادرة على العيش المشترك السلمي وتصبح‬ ‫الإنسانيةكلها قادرة على العيش المشترك السلمي‪.‬‬ ‫المقوم الثالث‪:‬‬ ‫‪64‬‬

‫‪--‬‬ ‫هو الدستور الذي يكون في الغالب عرفيا وهو مجموعة القوانين والسنن التي‬ ‫تمثل عقدا بين الجماعة ثم بينها وبين القيمين على الشأن العام حكما ومعاركة‬ ‫بالتداول نيابة عن الجماعة فرض كفاية مع الخضوع لمراقبتها ومحاسبتها فرض عين‬ ‫على الجماعة‪.‬‬ ‫المقوم الرابع‪:‬‬ ‫هو القوامة السياسة على الشأن العام حكما ومعارضة قوامة عامة نيابة عن‬ ‫الجماعة التي نالت الأغلبية وفي الحكم والجماعة التي نالت الأقلية في المعارضة وما‬ ‫يتفرع عنهما في قوامات فرعية بحسب مستو يات الرعاية التكوينية والتموينية‬ ‫والحماية الداخلية والخارجية وأصليهما‪.‬‬ ‫المقوم الخامس والأخير‪:‬‬ ‫هو الجماعة من حيث توز يع والتبادل الذي يقتضي التعاوض العادل وفي‬ ‫تحقيق توز يع العمل في التواصل الذي يقتضي التفاهم الصادق وتلك هي‬ ‫الوظائف العشر التي إذا صارت تابعة للقيمين على الدولة تصبح فاشية وتفقد‬ ‫الجماعة حر يتها وكرامتها‪ .‬فالدولة قيمة على حراسة القانون والأخلاق في التكوين‬ ‫بمستوييه والتموين بمستوييه وأصلها أربعتها أي البحث والإعلام العلمي‬ ‫وتطبيقاتهما وقيمة على حراسة القانون والأخلاق في الحماية الداخلية بمستويها‬ ‫‪65‬‬

‫‪--‬‬ ‫(القضاء والأمن) والخارجية بمستو ييها (الدبلوماسية والدفاع) واصلها اربعتها‬ ‫أي الاستعلام والاعلام السياسي‪ .‬والآن بوسعنا أن نتكلم في المسائل التي ختمنا‬ ‫بها الجزء الأول من هذا الفصل الخامس‪.‬‬ ‫لماذا اعتبر هذه البنية مجردة ولماذا لا تكون إلا كونية وثابتة لا تتغير في المكان‬ ‫ولا في الزمان وقد اعتمدها ابن خلدون لما جعل وجود الجماعة ذاته علاجا‬ ‫لحاجتين هما العمران البشري لسد الحاجات والاجتماع الإنساني للأنس بالعشير‪.‬‬ ‫وهو يعتمد في ذلك على فهم ضمني لما سميته المعادلة الوجودية التي صاغتها الآية‬ ‫‪ 57‬من فصلت لأنه لا يمكن أن يعتبر الطبيعة خاضعة لقانون ر ياضي لقوله إن‬ ‫كل شيء خلفناه بقدر والتاريخ لقوله إنه خاضع لسنن لا تتبدل ولا تتحول وعليهما‬ ‫يبني كل أدلته على الوحدانية؟‬ ‫إنها أشبه بالبنية المجردة لوظائف الكائن الحي التي هي كونية وثابتة في كل‬ ‫الأحياء مهما تغيرت الأعضاء التي تحققها‪ .‬وهذا القياس على الظاهرات الحية‬ ‫لا يعني أن البنية المجردة للدولةكائن حي بل القصد التمثيل للقصد بالبنية المجردة‪.‬‬ ‫ورغم انها من جنسها فهي ليست مثلها ل كونها متقدمة عليها وشارطة لها شرطها‬ ‫لحياة الحضارات الإنسانية من ادناها إلى اسماها‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫‪--‬‬ ‫وليس التراتب بين الحضارات بقابل للرد إلى فروق عرقية ولا حتى ثقافية‬ ‫بين البشر بل هي تقبل ا لتفسير بالتطور في مراحل الملء بالقيمين بمقتضى‬ ‫الوعي بضرورة تنظيم سد الحاجات بنوعيها‪ .‬فتتعين البنية المجردة بمقتضى التدرج‬ ‫في هذا الملء الذي ينتج عن توز يع العمل في الجماعة‪ .‬فتملأ خلاياها المجردة أو‬ ‫المؤسسات و يصبح كيان الدولة المجرد عينيا لأن فاعليته تتجلى في القوامة التي تتلو‬ ‫تقسيم العمل لما تختار الجماعة القيمين الذين ينوبونها في أداء وظائف الدولة‪.‬‬ ‫حينها يتم تحديد نظام الحكم المتغير والمناظر لتغير الأعضاء في الكيان الحي مع‬ ‫بقاء الوظائف ثابتة‪ .‬وإني اعتبرها كذلك لأن أصلها هو عين شروط البقاء‬ ‫العضوي والبقاء الروحي للجماعات سواء كان ذلك بوعي منها أو بغير وعي‬ ‫وذلك على النحو التالي‪:‬‬ ‫فلو رتبنا شروط البقاء العضوي للإنسان خاصة ولأي كائن حي لوجدناها‬ ‫بترتيبها بحسب تأثير فقدانها على البقاء لكانت كالتالي‪ :‬الأول الهواء والثاني الماء‬ ‫والثالث الغذاء والرابع الدواء والأخير سر تحقيقها الجمعي أي الوفاء للطبيعة‬ ‫مصدرها والتاريخ مصدر القدرة على توفيرها وهو مشروط بالولاء للجماعة لان‬ ‫الرعاية والحماية تقتضيان‪:‬‬ ‫‪67‬‬

‫‪--‬‬ ‫تقسم العمل للتعاون والتبادل والتعاوض العادل في سد الحاجات المادية وهو‬ ‫القصد بالعمران البشري بلغة ابن خلدون والاستعمار في الأرض بلغة القرآن‬ ‫وتقسيم العمل للتفاهم والتواصل والتعايش السلمي لسد الحاجات الروحية وهو‬ ‫القصد بالاجتماع الإنساني بلغة ابن خلدون والاستخلاف في الأرض بلغة‬ ‫القرآن‪.‬‬ ‫ولو رتبنا شروط البقاء الروحي للإنسان خاصة ولكل ما يمكن تصوره قريبا‬ ‫منه من الحيوانات لوجدناها بترتيب تأثير فقدانها لكانت كالتالي‪ :‬الأول هو‬ ‫الحر ية والثاني هو ال كرامة والثالث هو المل كية والرابع هو المشاركة في الأمر‬ ‫والأخير هو الولاء للمجتمع المدني والمجتمع السياسي‪ .‬وشروط البقاء الروحي‬ ‫ليست أقل أهمية في حياة البشر بل هي مقدمة على شروط البقاء المادي لأن‬ ‫الإنسان من بين كل الكائنات الحية يمكن أن يضحي بحياته العضو ية من اجل‬ ‫حياته الروحية أي ما يؤمن به من قيم‪.‬‬ ‫والمجتمع المدني كما أسلفنا هو انتظام البشر في المؤسسات الوسطى أي الاسرة‬ ‫والمدرسة والمعبد والمعمل والجماعةككل وتتحدد بمرجعيتها الحضار ية ومنها تتكون‬ ‫العلاقة بالأحياز التي هي المكان والزمان ومفعول المكان في الزمان أي التراث‬ ‫‪68‬‬

‫‪--‬‬ ‫ومفعول الزمان في المكان أي الثروة والجامع بين هذه الاحياز هو كيان الجماعة‬ ‫في المعمورة أي حصتها من جغرافيتها ومن تاريخها‪.‬‬ ‫والمجتمع السياسي كما أسلفنا هو القوى السياسية التي تتخلق إليها الجماعة المدنية‬ ‫استعدادا لقوامتها فتكون وظيفتها (القبائل أو الأحزاب الطامحة في حكم الجماعة‬ ‫بحسب تطور المجتمعات) مؤسسات تكوين القيمين في أبعاد القوامة الخمسة أي‬ ‫في التعبير عن إرادة الجماعة وعن رؤ يتها وفي تحقيقها بالعلم وتطبيقاته التقنية أداتيا‬ ‫وبالعمل وتطبيقاته القيمية غائيا والحصيلة هي القدرة الجماعية على سد الحاجات‬ ‫المادية (الاقتصاد) والحاجات الروحية (الثقافة)‪.‬‬ ‫وبذلك تكون الحصيلة عند جمع هذه المستو يات الأربع هي أصلها كلها أعني‬ ‫كون الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها ومجهزا بما يمكن من‬ ‫الاستعمار وهي المعرفة وتطبيقاتها التقنية وبما يمكن من الاستخلاف وهي العمل‬ ‫وتطبيقاته القيمية‪ .‬وكل هذه العناصر كونية والخصوصي فيها قد يكون إما‬ ‫فلكلور يا واسلوبيا أو مجرد تداول تاريخي بحسب توفر الظروف المناخية التي‬ ‫تحقق هذه المستو يات فلا تتمايز الشعوب بها بل ربما بالسبق إليها لا غير ل كنها‬ ‫جميعا لا تقوم إلا بها‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫‪--‬‬ ‫والتناظر بين المقوم الأول (مرجعية الرعاية والحماية) والمقوم الأخير (وظائف‬ ‫الجماعة في تحقيق شروط الرعاية وشروط الحماية) هو المقومان الأولان لقاعدة‬ ‫الهرم الذي تمثله الدولة من حيث هي بنية مجردة في مستوى القيام المادي‬ ‫والروحي‪ .‬فمرجعية الجماعة بداية تناظر وظائفها غاية وكلما حصل الفصل بينهما‬ ‫انهار البناء كله ولا تبقى الجماعة جماعة لأنها تصبح ذرات فاقدة للاحم المؤسس‬ ‫بداية وللغاية منه غاية‪.‬‬ ‫والتناظر بين المقوم الثاني (القوى السياسية) والمقوم الرابع (نظام القوامة‬ ‫المؤلف من الحكم والمعارضة) هما المقومان الثانيان لقاعدة الهرم الذي تمثله الدولة‬ ‫من حيث هي بنية مجردة في مستوى قوامة الرعاية والحماية‪ .‬فقوى الجماعة‬ ‫السياسية تناظر وظائفها التي هي القوامة بالفعل أو الحكم والقوامة بالقوة أو‬ ‫المعارضة سواء كان التداول على الحكم عنيفا قبل الديموقراطية أو لطيفا بعدها‪.‬‬ ‫وما بين المقومين الأولين أي المرجعية والجماعة والمقومين الأخيرين أي القوى‬ ‫السياسية والقوامة يوجد العقد الذي يصل الأولين موضوع التناظر الأول‬ ‫بالأخيرين موضوع التناظر الثاني وصلا عرفيا أو مكتوبا وهو القصد بالدستور‬ ‫الذي يحدد معايير ما قبله من تناظر ومقيم ما بعده من تناظر وعلاقة الماقبل‬ ‫بالمابعد‪ .‬وهو الحكم الأعلى في كيان الدولة المجرد الذي يتعين بمقتضى شروط‬ ‫‪70‬‬

‫‪--‬‬ ‫التداول السلمي أو الحربي بين القوى السياسية التي هي دائما في تنازع على أهلية‬ ‫تمثيل إرادة الجماعة‪.‬‬ ‫وتكون القوامة مؤلفة من قيمين يحرسون الرعاية بأبعادها الخمسة والحماية‬ ‫بأبعادها الخمسة يرأسهم قيم هو الذي تختاره الجماعة طوعا في الديموقراطية وكرها‬ ‫قبلها وتكلفه فرض كفاية بتعيين إرادتها في اختيار القيمين المختصين في كل‬ ‫مجالات الرعاية والحماية تحت رقابة الجماعة ومحاسبتها لهم وله لأن المبدأ يبدأ دائما‬ ‫لا طاعة في معصية الل ِّه ورسوله أي في معصية الشر يعة المتعلقة بالمرجعية أعني‬ ‫شر يعة الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫و يكون الرئيس صاحب السلطة الممثلة لإرادة الجماعة التنفيذية بمشاركة‬ ‫السلطة التشر يعية التي لا تخلو منها جماعة سواء كان نظام التداول فيها طوعيا أو‬ ‫كرهيا لمدة معينة تحت رقابتها ومحاسبتها‪ .‬فحتى الفاشيات لها سلطة تشر يعية غير‬ ‫السلطة التنفيذية حتى وإن كانت خفية وهي ما يسمى الدولة العميقة وهي في‬ ‫الغالب مافيات‪ .‬وتجمع هذه السلطة سلطة الأصلين أي البحث والإعلام العلميين‬ ‫لأنهما أساس الرعاية خاصة والاستعلام والاعلام السياسيين لانهما أساس‬ ‫الحماية خاصة‪.‬‬ ‫‪71‬‬

‫‪--‬‬ ‫ل كن سلطة مالية الدولة التي هي مثل الدم في البدن هي المغذي لكل ما سبق‬ ‫ينعكس فيها الأمر إذ ينبغي أن تصبح السلطة التنفيذية أكثر تقيدا بدور السلطة‬ ‫التشر يعية بخلاف الحالة الأولى إذ فتكون الأولو ية لنواب الشعب لتقيد‬ ‫التصرف في المالية إلا في الحالات الطارئة والظرفية‪ .‬ولا فرق في ذلك بين ما‬ ‫يجري في نظام التداول الطوعي وما يجري في نظام التداول ال كرهي لأن الحاجة‬ ‫إلى سرعة القرار تقتضي أن يكون السائل الممكن من العمل بيد من بيده التنفيذ‪.‬‬ ‫ولا بد من تحرير أداة التبادل أي العملة وأداة التواصل أي الكلمة من تحكم‬ ‫سلطة التنفيذ في نظامي القوامة التداولية الطوعي وال كرهي لأنهم كلتيهما يتقدم‬ ‫فيهما حاجة القرار لشرعية الدولة على شوكتها فيقدم التشر يع الجلي في الأولى‬ ‫والخفي في الثانية على التنفيذ‪ .‬و يعني تقديم الشرعية على الشوكة في التشر يع‬ ‫وتقديم الشوكة على الشرعية في التنفيذ يكفي لفهمه أن نراجع وظائف الرعاية‬ ‫ووظائف الحماية حتى نجد أمرا عجيبا حقا‪:‬‬ ‫ففي الرعاية التكوينية نجد بعدين أحدهما يمثل الشرعية والوازع الذاتي وهو‬ ‫السائد على التربية المدرسية والثاني يمثل الشوكة والوازع الأجنبي وهو السائد على‬ ‫التربية الاجتماعية التي تترتب على ثمرة التربية الأولى ل كنها تقيم بمعيار الرعاية‬ ‫‪72‬‬

‫‪--‬‬ ‫التموينية أي إن ثمرة التربية تعير بما تحققه من انجاز في الاقتصاد والثقافة أي في‬ ‫التمو ين‪.‬‬ ‫وفي الحماية الذاتية نجد بعدين أحدهما يمثل الشرعية والوازع الذاتي وهو السائد‬ ‫على القضاء الوطني والدولي والثاني يمثل الشوكة والوازع الأجنبي وهو السائد‬ ‫على الأمن التي تترتب على ثمرة القضاءين الوطني والدولي ل كنها تقيم بمعيار الحماية‬ ‫الأمنية الداخلية والخارجية أي إن ثمرة القضاءين تعير بما يتحقق من انجاز في‬ ‫الأمن الداخلي والخارجي‪.‬‬ ‫كما ينبغي أن يكون الاعلام في الأصلين أي في البحث العلمي وفي الاستعلام‬ ‫مؤطرين تأطيرا يحمي أسرار قوة الدولة لأن البحث والعلمي والاستعلام السياسي‬ ‫ليست وظيفتهما الأعلام بصورة مطلقة بل الاعلام الذي يحمي أسرار قوة الدولة‬ ‫لتجنب امرين خطيرين في العلاقات الدولية‪:‬‬ ‫الأول هو التسابق الذي يؤدي إلى سرقة الاسرار العلمية وهي أساس الرعاية‬ ‫والاسرار الاستعلامية وهي أساس الحماية‪ .‬وتلك هي علامات القوامة الناجحة‬ ‫باعتبارها حراسة سر السيادة وهو نجاح لا يتحقق من دون استراتيجية تكون‬ ‫حذرة وتعمل ب \"أعدوا لهم ما استطعتم من قوة\"‪:‬‬ ‫‪73‬‬

‫‪--‬‬ ‫مع التخلي عن المقابلة بين رعايتين تربو ية وطنية ودولية وتموينية وطنية ودولية‬ ‫المتنافية مع وحدة الإنسانية وكونية القيم التي تقتضي التعاون والتبادل العادل‬ ‫والتفاهم والتواصل الصادق‪.‬‬ ‫ومع التخلي عن المقابلة بين حمايتين داخلية وخارجية أي بين قضاءين وطني‬ ‫ودولي بنفس القوانين والقيم وبين أمنين وطني ودولي لنفس العلة أي التعاون‬ ‫والتبادل العادل والتفاهم والتواصل الصادق‪.‬‬ ‫وهذا لم يحصل إلا في الشر يعة الإسلامية التي تعتبر الدولة متأسسة على قيم‬ ‫كونية هي قيم الاستخلاف في السلم وفي الحرب على حد سواء‪ .‬وهذا يعني أن‬ ‫البشر ية حتما ستنتهي إلى نفس الرؤ ية بعد أن تبين لها أن العولمة الملازمة‬ ‫للوجود الإنساني منذ التاريخ القديم‬ ‫تعاني من الفصل بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها وهو الفصل‬ ‫الذي يجعل الاستعمار في الأرض علة للحرب الاهلية الوطنية العالمية في كل‬ ‫المجتمعات البشر ية ويحول دون العيش السلمي المشترك‪ .‬ل كن الحل هو تقاسم‬ ‫الثروة والتراث اللذين هما ثمرة جهد الإنسانية المتراكم وليس ثمرة جهد أمة دون‬ ‫أمة‬ ‫‪74‬‬

‫‪--‬‬ ‫فيتم التحرر من توز يع الثورة الطبيعية والتراث الإنساني المحرر من التغالب‬ ‫وصراع القوى في الحروب الأهلية وصدف توزعهما في المعمورة توزعا غير عادل‬ ‫فيكون علة للمزيد من الحروب والامتيازات التي لم تترتب على فروق الجهد‬ ‫الذاتي للشعوب والأفراد‪.‬‬ ‫‪75‬‬

‫––‬ ‫والآن سأبدأ علاج المسائل الخمس التي هي موضوع هذا الفصل بترتيب مختلف عن‬ ‫تحديدها السابق الذي كان ذا صلة بتاريخ ظهورها وليس بتاريخ علاجها الفلسفي في‬ ‫الفكر السياسي الإسلامي الذي حقق فيها ثورة ال كونية ومكن من صوغ شرط الوصول‬ ‫إلى ضرورة التمييز بين البنية المجردة ال كونية للدولة التي لا تخلو منها أي حضارة للدولة‬ ‫والبنية العينية التي لها تكوينية تاريخية بحسب نضوج الحضارات وتكوينيتها التاريخية‪.‬‬ ‫وقد أرجع ابن خلدون هذه التكوينية إلى ما سماه \"نحل العيش\" المتوالية والتي بدايتها‬ ‫ما تتميز به البداوة الأقصى ونهايتها ما تتميز به الحضارة الأقصى بينهما تبادل التأثير بين‬ ‫النوعين من نحل العيش المتعددة فيهما وفي ما بينهما من تفاعل داخلي وخارج‪ ،‬فالبداوة‬ ‫تفعل في الحضارة والحضارة تفعل في البداوة‪ .‬والفعلان مختلفان تماما‪.‬‬ ‫وهما في نفس الجماعة يمثلان شبه تفاعل داخلي بين الطبيعي والتاريخي بغلبة الأسلوب‬ ‫الخصوصي لتلك الجماعة‪ .‬ل كنهما يمثلان شبه تفاعلي خارجي بين الطبيعي والتاريخي بغلبة‬ ‫أسلوب الغالب على الساحة الدولية والسيطرة على فنون الاستعمار في الأرض‬ ‫والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫فالبداوة تؤثر في الحضارة بما فقدته الحضارة من العنفوان العضوي وأفضل مثال هو‬ ‫منزلة الرجل الأسود في أوروبا وخاصة في منظور نسائها ول كن حتى في منظور رجالها‬ ‫جنسيا ور ياضيا خاصة وحتى في الطابع المرح للحياة أي كانت الوضعية وهو المصدر‬ ‫الأساسي للفنون الشعبية في العالم كله‪.‬‬ ‫‪76‬‬

‫––‬ ‫والحضارة تؤثر في البداوة بما تسعى إليه من فنون المائدة والسرير الذي تحاول إضافته‬ ‫إلى ما فقدته الحضارة يكون مآلها فقدانه هي بدروها لأن ما تتميز به الحضارة هو ضياع‬ ‫العنفوان العضوي والحيوي في كيان الإنسان‪ .‬ولهذه العلة فالأغنياء من البدو سرعان ما‬ ‫يقعون في ما يؤدي إلى قتل ما لأجله تكون البداوة مرغوبا فيها فيسقطون في المجون‬ ‫والمخدرات وخاصة المنشطات الجنسية‪.‬‬ ‫وهذه الفروق لا علاقة لها بالأعراق بل هي ناتجة عن علتين احداهما بيولوجية بسبب‬ ‫شبه غياب للمؤثر الحضار ية والثاني العكس حضار ية بسبب شبه غياب المؤثر البايولوجي‪:‬‬ ‫فالبداوة بسبب نحلة العيش البدوي تكون عناصر الحياة الخمسة فيها اقل خضوعا لما‬ ‫يترتب على الحضاري من افساد طابعها الطبيعي وهي الهواء والماء والغذاء والدواء والولاء‬ ‫للجماعة‪ .‬لذلك فما يبقى من المواليد يبقى أساسا بالمناعة الطبيعية فيحصل فيها ما يشبه‬ ‫بالانتخاب الطبيعي‪.‬‬ ‫والحضارة بسبب نحلة العيش الحضري تكون عناصر الحياة الخمسة فيها أكثر خضوعا‬ ‫لما يترتب غياب الطبيعي فيكثر فيها افساد الهواء والماء والغذاء والدواء والولاء للجماعة‪.‬‬ ‫لذلك فقد يبقى من المواليد ما لا يعتمد على المناعة الطبيعية فيحصل ما يشبه توقف‬ ‫الانتخاب الطبيعي‪.‬‬ ‫ومن لم يلحظ الظاهرتين وما يترتب على تفاعلهما في وجود العنفوان العضوي وغيابه‬ ‫لا يمكن أن يحلل المحددات التي من المفروض أن تكون مطلوب علم الاجتماع الذي‬ ‫من واجبه دراسة علاقة الطبيعة بالحضارة أو علاقة الطبيعة بالتطبع في الاتجاهين لأن‬ ‫‪77‬‬

‫––‬ ‫موضوعه يجمع بين ما ينتسب إلى البايولوجيا وإلى السيميولوجيا أي علاقة العضوي‬ ‫بالرمزي في الجماعات والافراد وذلك هو معنى تأسيس علم الاجتماع على علم‬ ‫الانثروبولوجيا أي على علم الإنسان من حيث هو جامع بين العضوي والروحي‪.‬‬ ‫والإطار يكون في هذه الحالة إطار التكيف الإنسان مع أحياز وجوده الخمسة أي‬ ‫الجغرافيا الطبيعية وتاريخ فعل البشر وأثر الأولى في الثاني أي انتاج التراث العلمي والفني‬ ‫والذوقي واثر الثاني فيا الأولى أي انتاج الثورة المادية والرمزية وأخيرا أصل ذلك كله‬ ‫وهو العلاقة بين آيات الآفاق وآيات الانفس التي تجعل بقاء الإنسان رهن بقاء العالم‬ ‫الطبيعي والتاريخي مناسبين لسد حاجاته المادية والروحية‪ .‬ولهذه العلة جعل ابن خلدون‬ ‫هذه الظاهرات موضوع الباب الأول من المقدمة‪.‬‬ ‫فالعلاقة بين شروط الاستعمار في الأرض أو العمران البشري وشروط الاستخلاف‬ ‫فيها أو الاجتماع الإنساني هما موضوع ثورته في فلسفة التاريخ والاجتماع‪ .‬وسأنطق من‬ ‫المشترك بين الغاية والبداية في كل الحالات المتعلقة بما حصل فيها من انتقال مما تقدم‬ ‫على الإسلام إلى ما صار ممكنا بفضله أي بفضل تحرير الإنسان كان سائدا قبله أي من‬ ‫الوساطة ال كنسية بين المؤمن وشأنه الروحي والوصاية السياسية بين المؤمن وشأنه السياسي‬ ‫في الحكم بالحق الإلهي‪.‬‬ ‫والغاية هي دلالة الانتقال من التصنيف اليوناني للأنظمة إلى تصنيف ابن خلدون وما‬ ‫يترتب عليه من ضرورة التمييز بين تصنيف الأنظمة المتعددة بمعيار أصناف القوامة‬ ‫‪78‬‬

‫––‬ ‫وتصنيفها بمعيار نوع العصبية وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم‪ .‬فتصنيف أنظمة الحكم‬ ‫في الرؤ ية القرآنية للفلسفة السياسية له علاقة بمقومي الدولة أي بالشرعية وبالشوكة‬ ‫لعلاقتهما بمقومي الإنسان (الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها)‪.‬‬ ‫و يقتضي ذلك فهم الفرق بين التصنيف الخلدوني والتصنيف الأفلاطوني والأرسطي‬ ‫للأنظمة السياسية وما تتضمنه من تصنيف للقوى السياسية التي تتداول على الحكم‬ ‫والمعارضة في المدرسة النقدية العربية تصنيفها المعتمد على علم الاجتماع والتاريخ‬ ‫الحضاري بالمقارنة مع التصنيف اليوناني عند افلاطون وارسطو المعتمد على علم النفس‬ ‫والعلم الطبيعي‪.‬‬ ‫فالحقيقة السياسية التي ثبتناها هي أن السياسة لا يمكن ألا تكون مؤلفة من حكم‬ ‫الأغلبية ومعارضة الأقلية سواء كان ذلك بروح التداول السلمي كما يحدث في‬ ‫الديموقراطيات أو بروح التداول الحربي كما يحدث في الدكتاتور يات لأنه لا يمكن تصور‬ ‫جماعة خالية من المنافسة على الحكم بالفعل بمنطق القوة الطبيعية أو بمنطق القوة المعنو ية‪.‬‬ ‫ولا يمكن فهم هذه المعاني إذا لم نميز بين البنية المجردة للدولة والدولة المتعينة في القيمين‬ ‫عليها‪ .‬وهي بالمعنى الأول ذات معنو ية ل كنها تصبح بالقيمين وكأنها ذات فيز يائية‪.‬‬ ‫وسأبدأ بالكلام عليها من حيث هي ذات معنو ية لأحدد العناصر التي تتألف منها‬ ‫البنية ونظام تألفهما وحقيقةكونها ثابتة لا تتغير لأنها مناظرة لشروط بقاء الفرد والجماعة‬ ‫الجزئية والجماعة الكلية أي الإنسانيةكلها من حيث هي مستعمرة في الأرض ومستخلفة‬ ‫‪79‬‬

‫––‬ ‫بها بما جهزت به من أدوت التعامل مع الطبيعة والتاريخ خارج كيانها وفي كيانها لأن‬ ‫الإنسان أيضا هو حصيلة اللقاء بين الطبيعة والتاريخ‪ .‬وبهذا المعنى فهي تتألف من‪:‬‬ ‫من مؤسسات وظيفتها القوامة على الرعاية التكوينية ببعديها التربوي والاجتماعي‬ ‫والتموينية ببعديها الداخلي والخارجي وبأصلها جميعا أي البحث والإعلام العلميين لأن‬ ‫الوظائف الأربع هذه شرط تحقيقها هو العمل على علم بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ‬ ‫وبمقتضى التقييم الذي يعير كل شيء في ضوء الاستجابة إلى هذه الحاجيات‪.‬‬ ‫والمقابلة اليونانية بين النظر الخالص والنظر المطبق مثلا شديد النسبية لأنه يعود إلى‬ ‫الخلط بين العاجل والأجل من دور العلم في سد الحاجات وليس إلى ما له بها علاقة‬ ‫وما لا علاقة له بها‪ .‬ومعنى ذلك أن النظر ية هي نوع من المخزون الآجل يعد لسدا‬ ‫الحاجات التي ستظهر لاحقا لما تتطور العلاقة بين الإنسان والعالم الطبيعي والتاريخي‬ ‫وليست مطلوبة لذاتها إلا بهذا المعنى وليس بمعنى خلوها من حاجة العمل إليها‪.‬‬ ‫والتمييز اليوناني مفيد حتى لا يقتصر البحث العلمي على المباشر من الحاجات فيكون‬ ‫وكأنه مطلق الاستقلال عنها‪ .‬ل كنه ليس مطلق الاستقلال عنها ابدا‪ .‬فالحاجات هي‬ ‫بدورها متطورة وذات تكوينية هي التي بمقتضاها وضع ابن محركا للتاريخ كله مفهوم‬ ‫نحلة العيش محددة لكل ما عداها من أنشطة الإنسان المعرفية والقيمية في علاقة‬ ‫باستعماره في الأرض واستخلافه فيها وهي علاقة هي جوهر البنية المجردة ال كونية‬ ‫والثابتة البنية الجامعة لمؤسسات قوامة وظيفتها القوامة على الرعاية وعلى الحماية‪ :‬وتلك هي‬ ‫الدولة المجردة‪.‬‬ ‫‪80‬‬

‫––‬ ‫وكلا النوعين من المؤسسات أي مؤسسات وظائف الجماعة لتحقيق شروط الرعاية‬ ‫وشروط الحماية التي لا يمكن أن يخلو منها وجود أي جماعة إنسانية والتي في إطارها‬ ‫تندرج البنية المعينة للقيمين الذين تختارهم الجماعة طوعا او كرها لتمثيل إرادتها تمثيلا‬ ‫ينقل البنية المجردة من الذاتية المعنو ية إلى الذاتية الطبيعية وذلك هو المحدد للأنظمة‬ ‫الحكم والمعاركة‪.‬‬ ‫كما أن الحقيقة السياسية التي ثبتناها هي أن السياسة من حيث هي قوامة الشأن العام‬ ‫لا يمكن أن تكون للواحد ولا للكل بل هي دائما لأقلية ككل عمل يستند إلى فرض‬ ‫ال كفاية بمقتضى توز يع العمل في الجماعة وغالبا ما تكون مستندة إلى عصبية حائزة على‬ ‫الثروة وعلى أدوات حمايتها أي قوة السلاح مع قوة القانون أو قانون القوة‪.‬‬ ‫ما يعلمه اليونان هو أنظمة القوامة أو الأنظمة السياسية ل كن معنى بنية الدولة المجردة‬ ‫التي لا تكون إلا كونية وواحدة وهي ثابتة لا تتغير لم ترد في نظر ية الدولة اليونانية لأن‬ ‫الدولة غير أنظمة ملء خاناتها بأنظمة القوامة عليها‪ .‬فهي بالنسبة إلى الجماعة من حيث‬ ‫هي جماعة من جنس قيام الفرد العضوي والروحي‪:‬‬ ‫والبنيتان مجردتان وتتعينان عندما يتطور العمران البشري والاجتماع الإنساني فيقسم‬ ‫العمل ليتحدد موضوع القوامة أي حراسة الجماعة لوظائف الرعاية ولوظائف الحماية‬ ‫حراسة يكون القيمون فيها نوابا يمثلون إرادة الجماعة فرض كفايةكما في تقسيم الاعمال‬ ‫‪81‬‬

‫––‬ ‫الأخرى و يكون القيمون تحت رقابة الجماعة ومحاسبتها سواء كان التنويب طوعا او كرها‬ ‫إذ حتى في هذه الحالة فالتداول يكون عنيفا و يعبر عن رفض الجماعة بقاء من يقوم‬ ‫بالقوامة قيما لان غيره افتكها منها بقانون القوة وهو ما يصبح عند الانتقال إلى التنويب‬ ‫الطوعي خاضعا لقوة القانون‪.‬‬ ‫ومثلما أن المجتمع المدني يتألف من المؤسسات الوسطى بين الفرد والأمة أي الأسرة‬ ‫والمدرسة والمعبد والمعمل والجماعة فإن المجتمع السياسي يتألف من القوى السياسية التي‬ ‫تتنافس على قوامة وظائف المجتمع المدني التي تحرسها وظائف القوى السياسية من حيث‬ ‫هي المنتجة للقيمين الذين ترشحهم الأمة لنياتها في تحقيق غاياتها طوعا أو كرها‪ .‬ففي كل‬ ‫أمة لا بد من وجود القوى السياسية‪.‬‬ ‫ولا بد من أن تنقسم إلى حاكم ومعارض حتى قبل الوصول إلى التداول السلمي على‬ ‫السطلة في الديموقراطية وإلا لما فهمنا كيف أن من بيده الحكم يفقده لما يتغلب عليه‬ ‫غيره من معارضيه‪ .‬وإذن فهذه القسمة تكون خاضعة إما للتداول اللطيف أو للتداول‬ ‫العنيف لأن القيمين يخضعون لتوالي الأجيال ككل كائن حي مهما عمر‪ :‬لا يمكن لاي‬ ‫عصبية أن تبقى مسيطرة دائما بل إن غيرها من العصبيات تنتهي بافتكاك الحكم منها‬ ‫بمنطق المطاولةكما بين ابن خلدون‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن التداول حتمي سواء كان لطفيا أي سلميا أو عنيفا أي حربيا‪ .‬والفرق‬ ‫بين الديموقراطيات والفاشيات هو الفرق بين نوع التداول السلمي الطوعي ونوع الحربي‬ ‫ال كرهي‪ ،‬ولا علاقة لذلك للأعراق أو للطبقات أو للأجناس بل هو ثمرة النضوج‬ ‫‪82‬‬

‫––‬ ‫التاريخي لأنماط التعايش بين البشر‪ .‬وإلى الآن الحاصل هو الطوعي داخل‬ ‫الديموقراطيات وال كرهي داخل الفاشيات ل كن التداول حاصل في الحالتين إما بمنطق‬ ‫قانون القوة العضو ية أو بمنطق قانون القوة الروحية‪.‬‬ ‫والصراع سياسي في الحالتين الأول نموذجه بايولوجي اذ التداول يكون بين الحياة‬ ‫والموت الجيليين بمنطق الاقتتال والثاني نموذجه رمزي إذ التداول بيكون بين الحكم‬ ‫بالفعل والحكم بالقوة بين الحاصلين على الأغلبية الطوعية والأقلية الطوعية في الجماعة دون‬ ‫اقتتال‪ .‬ل كن الحاصل في الديموقراطيات الغربية هو الجمع بين المنطقين لأن خارج الأول‬ ‫من جنس داخل الثانية‪.‬‬ ‫وهي إذن ديموقراطية في الداخل وفاشية في الخارج‪ :‬كل بلد غربي فاشي في الخارج‬ ‫حتى إذا كان ديموقراطيا في الداخل ويسعى لجعل أهل المستعمرات خارج دائرة‬ ‫الديموقراطية ما أمكن له ذلك‪ .‬وقد يلجأ إلى تنصيب الديموقراطية الموجية فيها للخداع‪.‬‬ ‫وذلك هو الفرق بين الديموقراطية الغربية والشورى القرآنية التي تختلف عما أولها عليه‬ ‫العلماء إذ جعلوها شورى الأمراء مع العلماء دون أن يكون لهؤلاء دور النواب ودون‬ ‫أن يكون لشوراهم دور القرار‪.‬‬ ‫‪83‬‬

‫––‬ ‫تونس في ‪2022.04.28‬‬ ‫كيف نفهم الابتعاد عن هذه الرؤ ية الإسلامية التي عرضتها في الفصل السابع‬ ‫وعودة الوضع الذي كان سائدا المجال التي حرره الفتح الإسلامي من‬ ‫الاستعمارين الفارسي والبيزنطي ومن البداوة والقبلية فنكص المسلمون إليها كلها‬ ‫وصار ما يسيطر على تاريخ الأمة في مجرى التاريخ الفعلي في الأحداث بخلاف‬ ‫ما كان عليه مجرى التاريخ القولي في الأحاديث؟‬ ‫لن أطيل الكلام في ذلك لأني عالجته سابقا وخاصة خلال الرد على خرافة‬ ‫نفي عبد الرازق وجود نظر ية الدولة الإسلامية في الماضي ونفي حلاق إمكان‬ ‫وجود الدولة الإسلامية في المستقبل‪ .‬ذلك أن تحول الخلافة إلى الخضوع‪:‬‬ ‫لفكر فارس بهجرة عاصمتها أولا إلى احدى مستعمراتها (العراق‪ :‬بسبب نقل‬ ‫على لعاصمة الخلافة من المدينة إلى العراق)‬ ‫ولفكر بيزنطة بهجرة عاصمتها إلى احدى مستعمراتها (سور يا‪ :‬بسبب نقل معاو ية‬ ‫للعاصمة من العراق إلى الشام)‬ ‫‪84‬‬

‫––‬ ‫وحدهما كافيتان للدلالة على طبيعة النظامين اللذين سيطرا على دولة الإسلام‬ ‫في الأفعال وبقائها مقصورة على الأقوال‪ .‬ولما كانت الأقوال مقصورة إما على‬ ‫الرؤ ية الإسلامية في مستوى النظر في مرجعياتها دون فعلها وكان نفس الامر‬ ‫من نفس الطبيعة في الرؤ ية الفلسفية‪.‬‬ ‫فإن البحث في الفلسفة السياسة بقي إما بمعناها الروماني أو بمعناها اليوناني‬ ‫بحيث إن الصراع الكلامي والصراع الفلسفي لم يتجاوز الجدل القولي في الرؤيتين‬ ‫الدينية والفلسفية دون علاقة بما يجري في السياسة الفعلية التي بقيت إما فارسية‬ ‫أو بيزنطية نظر ية الحكم‪ :‬الجمهور ية الرومانية والديموقراطية اليونانية‪.‬‬ ‫وبذلك صار حال الرؤ ية الإسلامية مقصورا على جدل المتكلمين والفلاسفة‬ ‫نظر يا وجدل الفقهاء والمتصوفة عمليا وكلا الجدلين لا يتجاوزان الاقوال إلى‬ ‫الأفعال‪ .‬وبقيت دولة الإسلام معلقة مثلها مثل دولة الفلاسفة لتواصل السياسة‬ ‫الفعلية على الشكل الفارسي والبيزنطي‪.‬‬ ‫طبعا مع تأثير لا يمكن نكرانه لدور القرآن والسنة الذي يغير بالتدريج البطيء‬ ‫ثقافة الشعوب التي بدأت تمر إلى الفعل لأن التربية كانت تتضمن شيئا من‬ ‫الأقوال بوصفها كلاما على ما يعاب على الأفعال‪ :‬طلاق شبه تام بين الأفعال‬ ‫والاقوال‪.‬‬ ‫‪85‬‬

‫––‬ ‫ل كن السيطرة الفعلية ظلت بيد من بيدهم الأفعال فكانوا مواصلين لتقاليد‬ ‫الإقليم وتلك هي علةكونها بقيت تابعة ولم تحقق ما يمكن تحقيقه من مثل الرؤ ية‬ ‫الثور ية التي مثلها الإسلام‪.‬‬ ‫فبقيت لأنها عديمة النظام الجامع بين شروط الاستعمار في الأرض وشروط‬ ‫الاستخلاف فيها‪ .‬وتلك هي علة بقائها في حرب أهلية دائمة لعدم تجاوز مرحلة‬ ‫البداوة التي حذر منها القرآن ال كريم‪ .‬فكان أن اجتمعت البداوة القبيلة‬ ‫وحضارة فارس وحضارة بيزنطة في الأفعال ومثل القرآن والسنة في الأقوال‬ ‫دون الأفعال السياسية‪.‬‬ ‫ل كنها بفضل التربية سيطرت على الأفعال الاجتماعية والمدنية إلى أن صار‬ ‫بعض المبدعين قادرين على منافسة الثقافتين الفارسية والبيزنطية في التنظير حتى‬ ‫تمكنوا من تجاوز الرؤيتين الفارسية والبيزنطية والتحرر ليس منهما فحسب‬ ‫بل شرعت حضارة الإسلام في تحرير الحضارة الإنسانية كلها بالغوص في‬ ‫الأسس الإسلامية التي تتجاوز الممارسة والنظر ية اللتين كانتا سائدتين في‬ ‫مستعمرات فارس وبيزنطة وجاهلية العرب‪.‬‬ ‫‪86‬‬

‫––‬ ‫كيف صار المسلمون بعد وفاة الرسول أمام ثلاث خيارات‪ :‬فارس وبيزنطي‬ ‫وقبلي‪ .‬ل كن المسيطر هو ما حدث بعد الحرب الاهلية الثانية التي تلت مقتل‬ ‫عثمان‪ .‬وهي خيار تحت مظلة فارسية (الرمز خيار العراق) وخيار بيزنطي‬ ‫(الرمز خيار سور يا)‪.‬‬ ‫لذلك كان الكلام في نظام الحكم بالقياس إليهما بالتقابل مع الرؤ ية القرآنية‬ ‫هو ما يثبته شاهد من فضائح الباطنية وكيف يتصور السنة التحرر من علة‬ ‫الحرب الاهلية التي نشأت عن الفتنة ال كبرى‪.‬‬ ‫نص الغزالي‪( :‬كتابي آفاق النهضة العربية دار ا لطليعة بيروت ‪1999‬‬ ‫ص‪ )143-142.‬من (فضائح الباطنية ص‪ 177- 175 .‬نشرة عبد الرحمن‬ ‫بدوي القاهرة الدار القومية للطباعة والنشر ‪)1964‬‬ ‫\"فإن قيل بم تنكرون على من يقول‪ :‬لا مأخذ للإمامة إلا النص أو الاختيار‪.‬‬ ‫فإذا بطل الاختيار ثبت النص؟ قلنا نعم لا مأخذ للإمامة إلا النص أو‬ ‫الاختيار‪ .‬ونحن نقول مهما بطل النص ثبت الاختيار‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫––‬ ‫وقولهم إن الاختيار باطل لأنه لا يمكن اعتبار كافة الخلق ولا الاكتفاء‬ ‫بواحد ولا الحكم بتقدير عدد معين بين الواحد والكل‪ .‬فهذا جهل بمذهبنا الذي‬ ‫نختاره ونقيم البرهان على صحته‪.‬‬ ‫والذي نختاره أنه نكتفي بشخص واحد يعقد البيعة للإمام مهما كان ذلك‬ ‫الواحد مطاعا وذا شوكة لا تطال ومهما كان مال إلى جانب مال بسببه الجماهير‬ ‫ولا يخالفه من لا يكترث بمخالفته‪.‬‬ ‫فالشخص الواحد المتبوع المطاع الموصوف بهذه الصفة إذا بايع كفى إذ في‬ ‫موافقه موافقة الجماهير‪ .‬فإن لم يحصل هذا الغرض إلا لشخصين أو ثلاثة فلا بد‬ ‫من اتفاقهم‪ .‬وليس المقصود اعيان المبايعين وإنما قيام شوكة الإمام بالاتباع‬ ‫والاشياع‪ .‬وذلك يحصل بكل مستول مطاع‪.‬‬ ‫ونحن نقول‪ :‬لما بايع عمر أبا بكر ‪-‬رضيا لل ِّه عنهما‪-‬انعقدت الإمامة له بمجرد بيعته‬ ‫ول كن للتتابع الايدي إلى البيعة بسبب مبادرته‪ .‬ولو لم يبايعه غير عمر وبقي كافة‬ ‫الخلق مخالفين أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب لما‬ ‫انعقدت الإمامة‪.‬‬ ‫‪88‬‬

‫––‬ ‫فإن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المشايعة ومطابقة‬ ‫البواطن والظواهر على المبايعة فإن المقصود الذي طلبنا له الإمامة جمع شتات‬ ‫الآراء في مصطدم تعارض الاهواء‪.‬‬ ‫ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأي‬ ‫واحد إلا إذا ظهرت شوكته وعظمت نجدته وترسخت في النفوس رهبته ومهابته‪.‬‬ ‫ومدار جميع ذلك على الشوكة ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبري‬ ‫الزمان\"‪.‬‬ ‫خصصت لهذا النص دراسة مستوفية سابقا‪ .‬لذلك سأكتفي بالإشارة إلى‬ ‫مسألة واحدة فيه وهي مسألة ضرورة ما قد يترتب على قراءته بأخذ كل مرحلة‬ ‫من مراحل الاستدلال الوارد فيه لإثبات القصد بالاختيار البديل من الوصية‬ ‫بعزلها عن بقية المراحل في نسق متكامل يحدد مفهوم الاختيار وما يترتب عليه‬ ‫وما يحوج إليه‪.‬‬ ‫فإذا لم نقرأ نص الغزالي بوصفه نسقا لا يقبل الفصل بين عناصره فقد يفهم‬ ‫وكأنه مع دكتاتور ية الفرد وليس مع ما سميته الديموقراطية ال كونية التي لا بد‬ ‫فيها من الشرعية والشوكة والقيم ال كونية‪.‬‬ ‫‪89‬‬

‫––‬ ‫في مقابل الرؤ ية القائلة بالوصية بحجة استحالة تطبيق الحل اليوناني لعسر الحلول‬ ‫الثلاثة أي الواحد وال كثير والقليل مع أضافة استحالة تحديد القليل المتوسط بين‬ ‫الواحد والكل لأنه لا متناهي إلا بصورة تحكمية‪.‬‬ ‫جوابه يرفض الوصاية ويثبت الاختيار ويدحض الاعتراض على الحل اليوناني‬ ‫الذي يقدم بديلا منه شديد التميز‪ .‬فالواحد يكفي إذا كان مطاعا ل كن دليل‬ ‫كونه مطاعا هو حصوله إلى الأغلبية‪.‬‬ ‫وإذا كان الواحد لا يكفي فيمكن أن يكون أكثر من واحد يكون عددهم‬ ‫كافيا لتحقيق ما لم يحقق الواحد‪ .‬وهذا مفهوم يقرب من معنى الحزب ويختلف‬ ‫عن المعنى اليوناني لحكم القلة الثر ية أي الأليغارشية‪.‬‬ ‫هو حل يعني التعاون بين مجموعة من البشر ليست بالضرورة من الأثر ياء بل‬ ‫من المطاعين الحاصلين على الأغلبية لاتصافهم بالمهابة والرهبة اللتين تفيدان‬ ‫الشوكة الشرعية لأن المهابة ثمرة القوة الخلقية والرهبة ثمرة القوة بالمعنى السياسي‬ ‫والعسكري الكافيتين لتحقيق مدار الحكم كله على الشوكة الشرعية‪.‬‬ ‫المثال الذي ضربه يثبت هذا القصد بوضوح لأن عمر لم يكن من الأثر ياء بل‬ ‫كان من معتبري الزمان‪ .‬ومن هنا يكون المعيار هو الانتساب إلى معتبري الزمان‬ ‫‪90‬‬

‫––‬ ‫بمعيار غير مقصور على الثروة بل قد يكون معتمدا على الوصفين اللذين ذكرهما‬ ‫الغزالي و يعتبرهما شرط الحصول على الأغلبية‪.‬‬ ‫وحتى يكتمل النسق فلا بد من أن تكون ثمرة ذلك تحصيل الأغلبية التي‬ ‫تحول دون المنازعة على الحكم والشرط أن يكون الجامع لشروط الحكم قادرا على‬ ‫تحقيق ما يمكن من الشرط الأساسي في الشوكة أن \"تتفق الإرادات المتناقضة‬ ‫والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأي واحد إلا إذا ظهرت شوكته‬ ‫وعظمت نجدته وترسخت في النفوس رهبته ومهابة‪.‬‬ ‫فيكون الحكم شرطه الموجب هو تحقيق العيش المشترك السلمي وشرطه السالب‬ ‫هو الحيلولة دون الحرب الأهلية التي قد تنجر عن التكافؤ في القوة بين الحاكم‬ ‫والمعارض لحكمه‪:‬‬ ‫\" فإن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المشايعة‬ ‫ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة فإن المقصود الذي طلبنا له الإمامة جمع‬ ‫شتات الآراء في مصطدم تعارض الأهواء\"‪.‬‬ ‫فمن لا يفهم أن الغزالي قد وصف بصورة شديدة الطرافة الحل الديموقراطي‬ ‫وصفا يقر فيه الحاجة إلى الشوكة بصورة تثبت أن الجمع بينها وبين الشرعية يجعل‬ ‫‪91‬‬

‫––‬ ‫الثورة في الفلسفة السياسية متأصلة في فكر علماء المدرسة النقدية‪ .‬وهي مستمدة‬ ‫من القرآن جمعا بين‪:‬‬ ‫ما يرد إلى الوازع الذاتي عند المؤمنين ذوي النظام السياسي القائل بالاختيار‬ ‫بديلا من الوصاية السياسية على الابدان والوساطة التربو ية على الأرواح في‬ ‫الأنظمة التي كانت مسيطرة في مستعمرات فارس وبيزنطة‪.‬‬ ‫والحاجة إلى الوازع الخارجي لعدم كفاية الوازع الذاتي وحده‪ .‬فتوحيد الجماعة‬ ‫ناهيك عن توحيد الإنسان يقتضي في آن الاعتراف بتعدد الآراء مع عدم ضمان‬ ‫عمل الوازع الذاتي عند الجميع وهو العلة الوحيدة في القرآن للجمع بين المساواة‬ ‫بين البشر وحصر التفاضل بينهم بالتقوى عند الل ِّه‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫––‬ ‫تونس في ‪:2022.04.30‬‬ ‫وسأبدأ هذا الفصل بملاحظتين أولاهما أخصصها للغزالي الذي تكلمت على دوره في‬ ‫الفصل الثامن‪ .‬والثانية أخصصها لعلاقتي به وكيف صار منطلق جل محاولاتي الفكر ية‬ ‫في الفلسفة النظر ية وفي الفلسفة العملية‪.‬‬ ‫فهو عندي أفضل من يمكن من فهم حقيقة الثورة التي حدثت في الحضارة الإسلامية‬ ‫من خلال نقد الميتافيز يقا لتأسيس فلسفة النظر التي تقطع مع ما كان سائدا في تلقي‬ ‫الفلسفة النظر ية بشكلها السينوي ونقد الفلسفة العملية بشكلها الباطني‪ .‬فكان بذلك مؤذنا‬ ‫بفجر مدرسة النقد الإسلامية التي أسسها بكتابيه اللذين أهمل دورهما بسبب جمود الفلسفة‬ ‫وتوظيفها الإيديولوجي بعده‪:‬‬ ‫الأول هو تهافت الفلاسفة الذي قطع مع فلسفة النظر والابستمولوجيا القائلة بالمطابقة‬ ‫والإحاطة من منطلق التمييز بين العلمي ونموذجه المنطقي والر ياضي والميتافيز يقي الذي‬ ‫لا يتجاوز التعبير عن خيارات عقدية تعرض رؤ ية للوجود والعالم ليس لها ما للعلم من‬ ‫شروط المعرفة ذات البناء القابل للتصديق والتكذيب العقليين حتى يكون علميا يمكن‬ ‫أن يحصل على اجماع العقلاء وقادرا على تحمل امتحان التجربة العلمية‪.‬‬ ‫‪93‬‬

‫––‬ ‫والثاني هو فضائح الباطنية الذي أعاد النظر في فلسفة العمل والأكسيولوجيا من منطلق‬ ‫تمييز القيمي ونموذجه السياسي بالاختيار قبالة السياسي الذي يكون نموذجه الوصية التي‬ ‫تعبر عن خيارات عقدية ليس لها ما للديني من شروط العمل ذي بالبناء المطابق لما‬ ‫جهز له الإنسان من قدرات تجعله حرا وكريما أي غنيا عن الوسيط بينه وبين ربه في‬ ‫أدراك منزلته ودوره وعن الوصي بينه وبين أمره ليكون حاكم نفسه‪.‬‬ ‫وما يعنينا في هذه المحاولة هو هذا الوجه الثاني أعني النقلة من السياسة التي لا يكون‬ ‫فيها الإنسان حاكم نفسه غنيا عن الوسيط والوصي إلى السياسة التي تحقق له حريته‬ ‫وكرامته بجعله مشاركا في اختيار من يحكمه نيابة عن إرادة الأمة بتكليف منها سواء‬ ‫كانت جماعة جزئية أو كل الإنسانية‪ .‬وتلك هي ال كونية الإنسانية التي يكون بهذا المعنى‬ ‫حكمها جمهور يا الطبيعة ديموقراطي الأسلوب وهو المعنى العميق للآية الثامنة والثلاثين‬ ‫من الشورى‪.‬‬ ‫وقد بينت أن طبيعة الحكم جمهور ية لأن كلمة أمرهم لو ترجمناها إلى اللاتينية وعوضنا‬ ‫الضمير هم بما يحيل عليه أي الجماعة المستجيبة لربها لكان ذلك يفيد بكامل الدمة معنى‬ ‫راس بوبليكا‪ .‬كما بينت أن أسلوب الحكم ديموقراطي لأن كلمة شورى بينهم بنفس‬ ‫إحالة الضمير هو لو ترجمناها إلى اليونانية لكان ديموقراطيا‪.‬‬ ‫فإذا أضفنا أن الغاية هي ما تنتهي به الآية أي ومما رزقناها ينفقون تعني في القرآن أن‬ ‫الرزق الذي يحصله الإنسان من الاستعمار في الأرض يعود في الحقيقة إلى الخالق وأن‬ ‫لهذا الرزق مجالات انفاق هي التي يحددها القرآن في الآية مائة وسبعة وسبعين من‬ ‫‪94‬‬

‫––‬ ‫البقرة‪ .‬ولا شيء في حكم الإنسان لنفسه من حيث هو إنسان كونيا باعتباره حرا‬ ‫مسؤولا وكريما عزيزا من دون هذه الشروط التي حددتها الآية خاصة إذا لم نحرف‬ ‫امرين‪:‬‬ ‫الأول ألا نعوض المبدأ الاستجابة إلى الرب بما يفيد حصر الرب في أحد الأديان إذ‬ ‫لو قصد الل ِّه ذلك لاستعمل الل ِّه وليس الرب الذي هو الل ِّه بالنسبة المسلمين ل كن غير‬ ‫المسلم يمكن أن يفصل بينهما ولذلك تعدد الآلة ولا يمكن أن يتعدد الرب‪ .‬والقرآن‬ ‫يعتبر تعدد ه الآلهة هو علة الخلاف بين الأديان وهو امر الحسم فيه مرجأ إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫وذلك شرط التسابق في الخيرات وتبين الرشد من الغي شرطا في حر ية الإيمان الذي‬ ‫ينقل من الفصل بين المعنيين إلى التوحيد بينهما عند الوصل إلى الوحدانية خلال تبين‬ ‫الرشد من الغي‪.‬‬ ‫الثاني الا نعتبر الحكم جزءا من العقيدة من حيث كونه فن الأدوات والطرق التي‬ ‫يوصل إليها الاجتهاد لعلاج المصلحة الاجتماعية بلغة ابن خلدون أي الرعاية والحماية أو‬ ‫بلغة سورة قريش الاستعار ية لاهم ما يرمز إلى الرعاية وما يرمز إلى الحماية سلبيا أي‬ ‫الجوع والخوف‪ .‬فالرعاية تشمل كل ما يحفظ كيان الإنسان العضوي وهو ثمرة الاستعمار‬ ‫في الأرض والحماية تشمل كل ما يحفظ كيان الإنسان الروحي وهو ثمرة الاستخلاف‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫وسأقدم الكلام على علاقتي به على كلامي عليه في ما قد يظن سيرة ذاتية ل كنه في‬ ‫الحقيقة سيرة جيل كامل ممن عاصر ما حوربت به محاولات الاستئناف في الحضارة‬ ‫‪95‬‬

‫––‬ ‫العربية الإسلامية الحالية‪ .‬ومعنى ذلك أني وإن بدوت متكلما على ذاتي فإني في الحقيقة‬ ‫أصف ما كان مسيطرا على محاولات تحرير الأكاديمي العربي من التبعية الناتجة عن‬ ‫عدم التمييز بين شروط الاستئناف الواثق أصحابه من دور حضارته في التاريخ الإنساني‬ ‫قبالة الاكتفاء بتصور التحديث القشري كافيا لاستعادة دورها المستقل‪.‬‬ ‫ففي ما يخص علاقتي بالغزالي وجه الغرابة فيها أنها بدأت بما لا يكاد يصدقه من يعلم‬ ‫موقفي من ابن رشد منذ بداية درسي للفلسفة الذي مكنني من التمييز بين الشعارات‬ ‫الحداثو ية عند النخب العربية وشروط التحديث المستقل‪ .‬فقد بدأت علاقتي بالغزالي‬ ‫عن طر يق ابن رشد لما كلفني المرحوم الغنوشي‪-‬استاذنا في الفلسفة الإسلامية بالجامعة‪-‬‬ ‫بإعداد عرض حول كتابه مناهج الأدلة في عقائد الملة‪.‬‬ ‫ففيه تأكدت أن ما كان يعاني منه فكرنا الماضي من انبهار بالفلسفة وعلم الكلام القديمين‬ ‫له شبهكبير بما كنت لا أطيفه مما أعايشه من نفس الانبهار بالفلسفة والكلام الحديثين‪:‬‬ ‫كل ما في الأمر أن هيجل وماركس عوضا أفلاطون وارسطو‪.‬‬ ‫فقد كان انقسام النخبة إلى اليعقوبية والماركسية بدعوى الفكر النهائي والحديث لا‬ ‫يختلف في شيء عما نقده الغزالي من الباطنية في شكليها الفلسفي والكلامي لأن الماركسية‬ ‫عوضت ما يزعمونها فلسفة وإن بالسلب التاريخي واليعقوبية عوضت ما يزعمونه كلاما‬ ‫وإن بالسلب العلماني‪ .‬وذلك ما مثل الدافع العميق إلى دراسة الغزالي والتخلي عن‬ ‫‪96‬‬