في \"التأله\" أو في استبداد السياسي والمثقف الأسماء والبيان
في \"التأله\" أو في استبداد السياسي والمثقف
لم يكتف ابن خلدون بتحليل المرض النفسي الخلقي الذي يصيب الأمم بمفعول استبدادالحكم والتربية ،وهما يتضمنان الاستبداد في المقومات الـثلاثة الأخرى ،فاستبداد الحكميجعل صورة العمران الفعلية قاتلة لبقية الوظائف ماديا ،واستبداد التربية يجعل صورة العمران الرمزية قاتلة لبقية الوظائف روحيا.استبداد الحكم يقتل المعرفة والقدرة والحياة والوجود فعليا ،واستبداد التربية بتحريف رؤية الدين والفلسفة يقتلها روحيا: -1يقتل الأمل -2يقتل العملولما كانت الدولة تتعين في فاعليتي الحكم والتربية ،ويسميها ابن خلدون صورة العمران، مضمرا أنها صورة الاجتماع كذلك ،فإن الاستبدادين يفسدان الدولة.فكانت المقدمة محاكمة لواقع الدولة في تاريخ المسلمين ،وتاريخ كل أمة أصيبت بالاستبدادين بمثالها القرآني ،ومن ثم فهو قد صاغ نظرية الدولة السوية.وهذه المحاكمة لا تستهدف نقد واقع الانحطاط فحسب ،بل هي تقدم العلاج لهذا المرض النفسي الخلقي ،الذي يصيب المتألهين بالمعنى المحرف للنخب الخمس.والداء يصفه ابن خلدون من وجهه الفاعل (التأله المزيف = الاستبداد) ومن وجهه المنفعل (العبودية الزائفة = عبادة العباد) ،وجها فساد معاني الإنسانية.وإذن ففساد معاني الإنسانية الذي عالجناه في أكثر من موضع ينتج عن الغفلة عن قطبيالمعادلة :فغياب وعي الإنسان بالله يتبعه غياب الوعي بالذات ،وهذا التلازم يعني أن 61
الإنسان لا يكون إنسانا داريا بكرامته وحريته إلا إذا لم يكن له معبود غير الله ،فلا يقبل أن يستبد بأحد أو أن يستبد به أحد.والنتيجة المنطقية الصارمة هي أن الانحطاط النفسي والخلقي للفرد والجماعة ،ليس هو شيئا آخر غير المعادلة الوجودية المبتورة والفاقدة لقطبيها.فلا يبقى منها إلا الوسيطان الطبيعي والتاريخي ،اللذين يغرق فيهما الإنسان في صراعينمتعامدين :مع الطبيعة ليفسدها ،ومع التاريخ ليسفك الدماء ،ويفقد الإنسان وظائفالدولة السوية التي تضمن التواصل والتبادل -وهما أمران عالجناهما مرات عدة-بضمان الحماية والرعاية في العمران والاجتماع.وسأسمح لنفسي بما قد يبدو مدحا لذاتي ،لكنه اعتراف بفضل ابن خلدون وابن تيمية والغزالي ،أعلام مدرسة النقد الفلسفي والديني :فهذه حكم مستقاة منهم.علاج ابن خلدون بعد الكشف عن الأدواء ،أو علل الانحطاط ،هو نظرية الدولة القرآنية، أو صورة العمران والاجتماع وشروط التصوير السوي لمادتهما.سيرد الكثير من الحمقى :لم يحدد الإسلام نظرية في الدولة ،وما الخلافة إلا اختلاقمتأخر ،ومقابلة ابن خلدون لها بالملك من أوهامه وتحيزه العقدي ،فيكون العهد الراشديمجرد استمثال خيالي ،بل وخرافة أبدعها المسلمون تعزية لأنفسهم عن وضعهم المرير بما سميته حالة الطوارئ بعد الفتنة الكبرى.لكن أي باحث جدي يعلم أنه حتى في شكل فقهي مبسط -الأحكام السلطانية-لا يمكن ألايلحظ وجود مقومات الدولة السليمة ،رغم حكم الطوارئ الدائم ،ففيها تحديد الصورةالمجردة ،وفيها تعيينها بنظام يحدد شروط ملئها بمن يشرف على وظائفها .ففيها من يرعىالتشريع ومن يرعى التنفيذ ومجالات عملها ،وفيها شروط انتخابهم (البيعة) ،والمجلسالترشيحي (أهل الحل والعقد) ،والمجلس الانتخابي الأعم (كل معتبري الزمان) ،وفيها تحديد مجال سلطانهم ومداه،وفيها السلطة المعدلة ،وهي الحق المطلق لكل المنتسبين إليها في النقد والمعارضة بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب واللسان واليد. 62
والاحتساب بالقلب واللسان يمكن أن يصل إلى اليد ،إذا وجد ما يفيد ان المنكر لم يكن خطا غير مقصود ،بل صار نتيجة للاستبداد في الحكم أو في التربية.والأهم من ذلك كله ،فيها ما يحتاج إلى الآن إلى تحليل دقيق يبين ثورة تحديد وظائفالدولة بما هي صورة العمران ووظائفها ،وبما هي صورة الاجتماع ،وبما هي صورة العمران،وظائفها كلها تدور حول التبادل والتعاوض العادل .وبما هي صورة الاجتماعي وظائفها كلها تدور حول التواصل والتفاهم الصادق.والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدولة بدوريها ،صورة للعمران (التبادل) وللاجتماع (التواصل) ،هو دور المجتمع المدني مترجما بلغتنا الحديثة.وقد لطفت هذا الدور بان تكلمت على نظام تفعيله ،فقدمت القلب واللسان على اليد ،لكن الرسول عرضه بما عبر عنه الصحابي ردا على الفاروق :الرفض باليد.وهو ما يعني أن الشرع القرآني يشرع للثورة على الاستبداد ،إذا لم يجد القلب واللسان. وهذا هو الردع الحقيقي للاستبداد والفساد :فالضامن الجماعة.ولأحلل الآن دور الدولة بماهي صورة العمران ،لضمان شروط التبادل بالتعاوض العادل. ثم دورها بما هي صورة الاجتماع ،لضمان شروط التواصل بالتفاهم الصادق.وسلبا ،فالدور الأول يحمي المنتسبين إليها من بعضهم البعض ،ومن غيرهم من الجماعات الأخرى ،ويرعاهم .والثاني ،يحميهم من القيمين على الدور الاول.وفهم الدور الأول أيسر ،لأن من اختير للقيام عليه ليسوا طرفا فيه ،بل هم حكم .لكن بمجرد أن يخرجوا عن دور الحكم ويصبحوا طرفا ،يضيقون عليهم.ويمكن أن نقول إن دور صورة العمران تتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية ،وحماية الناس بعضهم من البعض حتى يحصل التعاون والتبادل العادل.وعندئذ يكون العمران وكأن الجماعة شركة للإنتاج المادي والرمزي لسد الحاجات، بمصطلح ابن خلدون ،ووظيفة الدولة تيسير هذه العملية الانتاجية.وسنرى الوظائف التي تحقق العمران من حيث هو مؤسسات انتاج مادي ورمزي ،يسد الحاجات بشروط متعلقة بالأحياز ،وشروط التبادل العادل حماية ورعاية. 63
لكن من اختارتهم الجماعة ،أو من استبد بالأمر ،يتجاوز دور الحكم فيصبح طرفا في وظائف التبادل ،ويضيق على الناس ،فيفسد التواصل ووظيفة الاجتماع.وظيفة الاجتماع بخلاف وظيفة العمران ،ليس سد الحاجات ،بل الأنس بالعشير أي العيش السعيد بالحريات التي تحد من سلطان المكلفين بالحماية والرعاية.وصورة الاجتماع اعسر تنظيما من صورة العمران ،لأنها تتعلق بالحريات الروحية وبالاستمتاع بالحياة ،من خلال سلطان للفرد والجماعات الأدنى من الدولة.والجماعات الأدنى من الدولة هي الأسرة ،والعشيرة ،والجمعيات ،والمدارس الفكرية، وكل الحريات التي تحظر على من بيده الحكم ،كالتجسس على الحياة الخاصة.لم يبق إلا أن احدد وظائف صورة العمران ،وهي الوجه الأول من الدولة ،ثم وظائف صورة الاجتماع ،وهي الوجه الثاني من الدولة في نظريتها الإسلامية.وعندما أقول في نظريتها الإسلامية ،فقصدي كما حددها ابن خلدون ،وبعض الوقائع التي حصلت في الصدر ،والتي أزالتها حالة الطوارئ ،كما يحدث في كل دولة.فعندما أصدر بوش الثاني قانون الوطنية ،حد من الحريات الدستورية للمواطن شكلا من أشكال حالة الطوارئ ،بمنطق الضرورة التي تبيح المحظور مؤقتا.المشكل هو أن المسلمين بعد الصدر ،فرضت عليهم حالة طوارئ دامت أربعة عشر قرنا،فصار المؤقت دائما ،وعطل الدستور القرآن = نقلة من الخلافة إلى الملك ،وما اظن أحداقرأ المقدمة ولو سطحيا ،لم يلحظ أمورا عجيبة لم يكتشفها العقل الإنساني الحديث إلامؤخرا ،حول منع القيمين على الدولة من عدة أشياء ،وأهمها التدخل في الحياةالاقتصادية ،وكثرة الضرائب ،والتسخير ،وفرض الأسعار ،والتدخل في العملة والمكاييل والموازين ،التي ينبغي أن تستقل عنهم تماما.وترد الممنوعات إلى منعهم تجاوز دور الحَكم ،شرطا في مساواة المتبادلين المشروطة في عدالة التعاوض :حماية ورعاية للتعاون والتبادل العادل.وإذا تم ذلك ،صار بوسع الجماعة أن تتجاوز مجرد كونها شركة إنتاج مادي ورمزي لسد الحاجات ،إلى الاجتماع الذي يهدف إلى الأنس بالعشير بحرية تامة. 64
فتكون الدولة مؤلفة من نظامين: -1نظام الإنتاج المادي والرمزي لسد الحاجات. -2نظام الحياة المادية والروحية للاستمتاع بالحياة الفكرية والذوقية.حالة الطوارئ صارت بديلا من الدستور القرآني لدولة الإسلام ،فأفسد استبداد الحكم النظام الأول ،وأفسد استبداد التربية النظام الثاني :ذلك واقع المسلمين.والحمقى يزعمون أن الإسلام لم يحدد نظام حكم معين ،متجاهلين ذلك كله ،ويعتقدون أن سطحية أحكامهم وجهلهم بالبعائد والاعماق مقنعان لغير الحمقى.فلنعين وظائف صورة العمران الحامية والراعية للجماعة داخليا وخارجيا ،بما هي نظام الانتاج المادي والرمزي المشروط في سد حاجات العيش الأساسية. عشر وظائف: خمس للحماية شروط التبادلوخمس لرعايتها :داخليا القضاء ،والأمن وخارجيا الدبلوماسية والدفاع ،وأصلها كلها نظام الاستعلام والإعلام.وظائف الرعاية :التربية النظامية ،والتربية العامة لتكوين الإنسان وتغدية الروح(الثقافة) ،وتغذية البدن (الاقتصاد) ،وأصلها البحث والإعلام العلميين.وظيفة الدولة من حيث هي صورة العمران وحكما في تسيير هذه الأدوات مشروطة ،بألا تكون طرفا فيها ،وبمجرد أن تصبح طرفا يسيطر الاستبداد والفساد.لكن دورها الميسر للتبادل بوظيفة الحكم ،يقتضي أيضا تحقيق ما يمكن تسميته بالبنيةالتحتية والبنية الفوقية :تذليل الأحياز للتبادل والتواصل ،فالبنية التحتية تحقق الاتصالفي الأحياز ،لنقل الأبدان (الطرقات والمواصلات) ،والبنية الفوقية تحقق التواصل في الأحياز ،لنقل الأذهان (وسائل الاتصال).والبنيتان التحتية والفوقية يسيطر بهما الإنسان على المكان والزمان ،لتحقيق وحدة حية تصبح فيها الجماعة والدولة وكأنهما كائن حي تبادلا وتواصلا. ونأتي إلى المستوى الثاني من نظرية ابن خلدون كما يحددها عنوان \"المقدمة\": 65
علم: -1العمران البشري -2والاجتماع الإنساني :وظيفة الدولة في الاجتماع.وهذه الوظيفة سلبية :هي منع القيمين على الدولة من التدخل في الحريات والحياة الخاصة .ومثالها الأبرز ،افحام بعض السكارى الفاروق الذي تجسس عليهم.تدخل الدولة في الحياة الخاصة ،وتحولها إلى طرف في التبادل ،بدلا من بقائها حكما ،هو جوهر الاستبداد الذي يؤول حتما إلى الفساد :حماية الحريات.وحماية الحريات هي جوهر الشريعة ،أو مقاصدها الضرورية الخمسة :حماية العقل والمال والعرض والعقيدة والنفس ،وتلك هي حقوق الإنسان الطبيعية.والمعلوم أني لا أقول بالمقاصد ،لكني استعملها هنا لتيسير الكلام على البعد الثاني من وظائف صورة العمران أو الدولة :حماية المنتسب إليها منها.والغاية هي تبليغ المعنى الثوري التالي :حماية هذه المقومات الخمسة لحرية الإنسان ،هي حقه الذي يعتبر الدفاع عنه ضد الاستبداد ،جهادا وفرض عين.فيتبين أن نظرية الدولة ،التي استخرجها ابن خلدون من قراءة معمقة للقرآن ،نظرية ثورية حقا ،وهي قائمة رغم عمى البصر والبصيرة لحمقى أدعياء الحداثة. 66
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages: