Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore حقيقة الإسلام أو العبادات غير المباشرة شرط المباشرة – أبو يعرب المرزوقي

حقيقة الإسلام أو العبادات غير المباشرة شرط المباشرة – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-28 08:35:52

Description: حقيقة الإسلام أو العبادات غير المباشرة شرط المباشرة – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫حقيقة الاسلام‬‫أو العبادات غير المباشرة شرط المباشرة‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪6 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪12 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪17 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪22 -‬‬

‫‪--‬‬‫إذا تجاوزنا الكلام في الشاهد من الوجود ليس عندي فرق بين شحرور والرادين عليه‬‫وخاصة ممن يذهبون إلى حد تكفيره‪ .‬فكلاهما يقلب ما يطلب القرآن اتباعه من منهج‬‫لتبين حقيقته إيجابا في فصلت ‪ 53‬وسلبا في آل عمران ‪ .7‬ولهذه العلة لم أطل في الكلام على‬ ‫تخريفاته التأويلية لأن الرد عليها من جنسها‪.‬‬‫والمشترك بين شحرور والرادين عليه في ما يتجاوز ما يتعلق من خطاب القرآن بعالم‬ ‫الشهادة أمران‪:‬‬ ‫‪ .1‬نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة فلسفيا في ما أمرت به فصلت ‪.53‬‬‫‪ .2‬ثم نفي الغيب في كل محاولات الكلام في ما نهت عنه آل عمران‪.7‬ومن ثم فكلاهما من‬ ‫جنس واحد يحاولان المستحيل فلسفيا ودينيا‪.‬‬‫وهما إذن متكلمان أي يتصورون علم الكلام أمرا ممكنا ومفيدا‪ .‬وعندي أنه غير ممكن في‬‫الجليل منه وغير مفيد في الدقيق منه‪ .‬فلا جليله علم بالله وصفاته ولا دقيقه علم بالطبيعة‬‫والتاريخ‪ .‬ومن ثم فهو لغو كلام نهى عنه القرآن في آل عمران ‪ 7‬وقدم البديل في فصلت‬ ‫‪ .53‬علوم الملة حرفت لعكسها إياهما‪.‬‬‫ولما كان الله لا يؤاخذ الإنسان بلغو كلامه فإني اعتبرهما مثل الادباء والفنانين يمثلون‬‫حديث النفس الذي رفع عنه القلم ولا يعتد به في موازين الإنسان لأن الله لا يحاسب الناس‬‫إلا في حدود المهمة التي كلفهم بها وهي تعمير الارض والاستخلاف‪ .‬وعملهم لا يفيد وقد‬ ‫يضر أحيانا إذا كان بقصد‪.‬‬‫فتعمير الأرض يكون بما أمرت به فصلت ‪ 53‬أعني رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس لتبين‬ ‫حقيقة القرآن التي تتعلق بتذكير الإنسان بمهمتيه اللتين يحاسب عليهما‪:‬‬‫‪ .1‬تعمير الارض بالعلم بقوانين الآفاق الطبيعية وبسنن الآفاق التاريخية في الاعيان وفي‬ ‫الأذهان(الانفس)‬ ‫‪ .2‬ثم تحقيق ذلك بقيم الاستخلاف‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقيم الاستخلاف مناظرة لمقومات الإنسان التي جهز بها ليكون قادرا عليها أي‪:‬‬ ‫‪ .1‬حرية الإرادة‬ ‫‪ .2‬وحقيقة العلم‬ ‫‪ .3‬وخير القدرة‬ ‫‪ .4‬وجمال الحياة‬ ‫‪ .5‬وجليل الوجود‪.‬‬‫وعكسها العبودية والباطل والشر والقبح والذل‪ .‬وهذه السوالب تحصل لمن لا يعمل‬ ‫بفصلت ‪ 53‬وبآل عمران ‪.7‬‬‫سيعاب علي الجزم بأنه لا فرق بين شحرور والرادين عليه وخاصة مكفريه وتعليل جزمي‬‫بهذا التحريف المتعلق بترك عالم الشهادة والكلام في الغيب الذي هو دائما من جنس‬‫الرجم‪ .‬ولكن إذا كان القائم به من العلماء الذين يتصورون أنفسهم راسخين فهم حقا كما‬ ‫تصفهم آل عمران ‪.7‬‬‫أما من هو دونهم مثل كل الدعاة وخاصة المحدثين منهم فكلامهم كما وصفت يعتبر من‬‫اللغو الذي لا يعد من العمل التابع للمهمتين وهو عديم الاثر في فهم الإسلام والقرآن ومن‬‫ثم فلا يختلف عن ثرثرة المثرثرين في فروع الشريعة التي ما وضعت إلا لملء فراغ‬ ‫المثرثرين والدجالين‪.‬‬‫فكل الجزئيات المتعلقة بالشعائر ليست من الدين في شيء لأن أهم شيء فيه هو صدق‬‫النية والإيمان الصادق أما أن يحدد الفقهاء جزئيات معينة بمعنى تقليد القدامى فهو إذا‬‫بولغ فيه ولم يعامل بمقتضى القصد والنية يكون من النوافل التي لا معنى لها في أهم شيء‬ ‫في العبادة وهي عين البصير بالسرائر‪.‬‬‫وقد أزعم أن المبالغات في هذه الشكليات هو الذي ينفر الكثير من الشباب في العبادات‬‫ويزهدهم في خطاب الشيوخ الذين قد يعتبرون صلاة المرء باطلة لأنه توضأ بغير الترتيب‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫المعتاد إما سهوا أو عادة‪ .‬فالصلاة لقاء مع الله ولا هذا اللقاء مشروطا بالجزئيات بل‬ ‫النظافة المادية والروحية لا غير‪.‬‬‫ولا جدال في أن بعض الشروط التي يضعها من لا يفهم جوهر العبادة هي من العادات‬‫وليست من العبادات حتى وإن كان بعضها فيه تعبير عن محبة الرسول واقتداء بأساليب‬‫عيشه مثل اللحية والهندام إلخ‪ ..‬مما لا علاقة له بجوهر العبادة التي تسبيح باسم الله‬ ‫وتقديس له شرطه الصدق والنية‪.‬‬‫وما لم نرب أبناءنا بإفهامهم هذا الفرق سيبقى المسلمون كما نراهم الآن يكثرون من‬‫القشور لا يعتنون باللب‪ .‬والدليل أن الغش والكذب والنفاق والتظاهر في العبادات كله‬‫يدل على عكس ما لأجله كانت العبادات من أدوات التربية الروحية فإذا لم تكن دالة عليها‬ ‫في الكفر بعينه مثل صلوات الحكام‪.‬‬‫وبالمناسبة ودون أن يكون ما سأقوله تأييدا لأصحاب الحملة على الابواق في المساجد فإن‬‫هذه من أفسد العادات‪ .‬فالعبادة إذا لم يصحبها الهدوء وحتى الصمت تكون هرجا وليست‬‫عبادة‪ .‬والإسلام نفسه يفرض ذلك لأن صلاح الجماعة شرطه صمت الجميع والاستماع إلى‬ ‫القرآن في صلوات الجهر‪.‬‬‫كما أن كثرة النوافل إذ لم تكن لمن تجاوز سن العمل ليست من الدين في شيء بل هي‬‫منافية لشروط تحقيق المهمتين اللتين كلف بهما الإنسان واللتين يحاسب عليهما أعني العبادة‬‫غير المباشرة الشارطة لصدق العبادة المباشرة‪ :‬العمل المنتج ماديا ورمزيا شرطي كل القيم‬ ‫التي أسلفت ذكرها‪.‬‬‫وهذا المفهوم ‪-‬العبادات غير المباشرة‪ -‬وضعته حتى أدرس هذه العلاقة بين العبادات‬‫بالمعنى المعتاد وقد وصفتها بالمباشرة وشروطها التي تجعله خالصة لوجه الله‪ :‬فمن دون‬‫العمل الذي هو فرض عين لسد حاجات الإنسان المادية والروحية لن يخلو ذهنه في العبادات‬ ‫المباشرة في توجهه إلى الله‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وحتى أبين هذه العلاقة وضعت التمييز بين نوعين من الفقر‪ :‬الفقر الوجودي والفقر‬‫المادي الذي هو المعنى المعتاد من الفقر‪ .‬فالفقر الوجودي لا يدركه من لا يدرك الفرق بين‬‫العبادتين‪ .‬فما سميته العبادة غير المباشرة هي التي تحرر الإنسان من الفقر المادي ليشعر‬ ‫بالفقر الوجودي على كل إيمان صادق‪.‬‬‫وللشعور بالفقر الوجودي فائدتان‪ :‬الأولى التوجه إلى الغني المطلق أو الله والثانية هي‬‫الارتفاع بالذات إلى أهلية الاستخلاف ومن ثم اختار حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير‬‫القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود وعدم القبول بالعبودية لغير الله وبالباطل وبالشر‬ ‫وبالقبح والذل‪ .‬والأمة ليست كذلك‪.‬‬‫والعلة قلب الترتيب الذي وضعه جل وعلا في البقرة ‪ 177‬عندما عرف البر غاية التقوى‪:‬‬‫عرفها بالسلب فنفى تقديم العبادات على رمزا إليها بالتوجه نحو القبلة ثم عدد الرتب‬‫فذكر عناصر العقيدة ثم البعد الاجتماعي من الانفاق ثم العبادات رمزا بالصلاة والزكاة‬‫ثم شرط العلاقات البشرية وهذا الشرط ‪-‬الوفاء بالعهد‪-‬يشمل العلاقة في الجماعة‬‫الواحدة وبين الجماعات في المعمورة كلها ثم الصبر عامة والصبر في الجهاد ويعتبر هذا‬‫التحديد دليل الاتصاف بالصدق والتقوى‪ .‬هذا هو الإيمان وتلك هي رتب ما فرضه الله‬ ‫على الإنسان‪ .‬ولست أدري ما الذي قلب كل ذلك راسا على عقب‪.‬‬‫ولا علاقة لهذا الكلام بما هو من المنكرات التي تصنف الإسلام إلى معتدل ومتطرف‬‫فأمريكا لا يهمها أن يغرق المسلمون في قشور العبادات والدليل أنها أكثر الناس تشجيها‬‫للتصوف الفرقي وتصوف وحدة الوجود كما نرى دجاليه ممن يوهمون بأن دافعهم السلام‬ ‫لكأن المسلمين لهم القدرة على تعكيره‪.‬‬‫فلو كان الدافع هو السلام لكانت هذه الدعوات أولى بأن توجه إلى الامريكيين الذين‬‫يحتلون العالم كله بالسلاح المدمر وبماخرات البحار في كل الاقانيس والمحيطات‪ .‬وحتى‬‫الجهاديين بغير بصيرة فهي التي تجندهم ومن ثم فإذا كان يوجد تطرف في الإسلام فهما‬ ‫هذان وهما مفروضان عليه وليسا منه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ما أتكلم فيه لا علاقة له إذن فحملة المنافقين ممن يخفون حربهم على الإسلام بدعوى‬‫الوسطية والليبرالية والعلمانية وهم في الحقيقة نفس الطغاة والمستبدين والفاسدين لم‬‫يعد الإسلام الذي ثار أهله يغطي على بشائعهم فأرادوا أن يحاربوا الافاضل باسم الأراذل‬ ‫باسم الليبرالية والعلمانية‪.‬‬‫فالبقرة ‪ 177‬لم تكتف بالتعريف السلبي للبر بما ذكرته بل عرفته إيجابا كذلك بما ذكرت‬‫ولا أحد يمكن أن يعرف المنازل في الواجبات الدينية أفضل من كلام الله‪ .‬فأن يرد الأنفاق‬‫بالمعنى الاجتماعي في الوجوه المذكورة مباشرة بعد العقيدة ليس بالأمر الهين وينبغي أن‬ ‫نلتزم بذلك إذا كنا صادقين‪.‬‬‫ولو التزمنا به لزال الفقر المادي ولأصبح المسلم واعيا بالفقر الوجودي فكان بذلك كما‬‫وصفت مؤمنا صادقا يطلب التحرر من الأخلاد إلى الأرض فلا يقبل العبودية والباطل‬‫والشر والقبح والذل كحال غالبية المسلمين حاليا بسب الحكام ونخبهم الذين يأكلون‬ ‫الأخضر واليابس ويبقون شعوبهم غرقى في الفاني‪.‬‬‫وما الحرب على الإسلام السياسي ‪-‬الذي هو ليس الاخوان‪-‬إلا لأنهم بدأوا يدركون هذه‬‫المنازل فتوجهوا إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي حتى يحققوا شروط الحرية والكرامة‬‫شعاري ثورة الشباب بجنسيه ‪-‬ولا بد من تثمين دور المرأة فيها فهن المتظاهرات إلى الآن‬ ‫في مصر‪-‬تلك هي على الحرب عليهم‪.‬‬‫والتطرف نوعان وكلاهما صناعة مخابراتية‪ :‬التطرف الذي يسمونه إرهابا والتطرف‬‫الصوفي وهو أكثر إرهابا من الاول لأنه يؤدي إلى العبودية لمن يسيطرون على العالم بمجرد‬‫كونه يريد من ألأمه أن تصبح مثل الهنود الحمر تكتفي بالرقص وتدخين الكالومي أو‬ ‫مخدرات الباطنية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لم أقدم على هذه المحاولة لأن شحرور يعنيني هو أو من يرد عليه‪ ،‬بل لأن الامر يتعلق‬‫بما طرأ على التربية والحكم في الأمة من فساد جعل مثل شحرور والرادين عليه بما وصفت‬‫انطلاقا من نسيان مهمتي الإنسان اللتين جاء القرآن للتذكير بهما بوصفها الاختبار الذي‬ ‫يمر به الإنسان في شكل رهان عليه من خالقه‪.‬‬‫وما من أحد قرأ القرآن ببصيرته لا يعلم أن الأمر كله في وجود الإنسان الارضي حدده‬‫القرآن بوصفه شبه رد على الملائكة أولا وعلى الشيطان ثانيا ويتعلق في الحالتين بأهلية‬‫الإنسان للاستخلاف‪ .‬وقد فشل آدم وحواء في الاختبار الاول ويبدو أن التحريف كله يرد‬ ‫إلى ما يجعله يفشل في الفرصة الثانية‪.‬‬‫وكل العرض النقدي للرسالات التي حرفت من أصحابها تتعلق بفشل الإنسان في الفرصة‬‫الثانية أعني في المهمتين اللتين هما موضوع اختبار الاهلية للاستخلاف بمعنى تكذيب ما‬‫حكمت به الملائكة وما نظر إبليس من أجل اختبار الفرصة الثانية‪ .‬وكل ذلك تصوير رمزي‬ ‫لطبيعة الإنسان ومهمته الوجودية‪.‬‬‫ما يدهشني فلا أجد له تفسيرا هو أن تربيتنا وحكمنا فسدا إلى حد يمكن معه القول إن‬‫المسلمين حرفوا الإسلام مثل الأمم السالفة التي قصها القرآن لأن كل ما حصل هو إعادة‬‫الوساطة التي تربي ليس بالعنف المعنوي أو المادي بل بحصر الحفز في الجنة والوزع في النار‬ ‫لكأن الأطفال هم بالجوهر المجرمون‪.‬‬‫فصار الاستثناء هو القاعدة واعتبر الامر كله متعلقا بالعبادات لكأنهم ما قرأوا البقرة‬‫‪ 177‬ابدا وأصبحت علل الخلقية وغايتها المتعلقة بالمهمتين عديمة الوجود والدور في تكوين‬‫الشباب الذي بات يعتقد أن المطلوب منه هو الفهم العقيم للثورة الإسلامية التي تستهدف‬ ‫القيم الخمس موجبها وتجنب سالبها‪.‬‬‫لم يعد أحد يفهم أن الجنة والنار لا يستعملهما القرآن الكريم إلا في الحالات التي‬‫يستعصي عليه تحقيق الهداية بأفضل الطرق الإقناعية وترك الحرية المطلقة الروحية‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والسياسية للإنسان حتى يكون لمخاطبة الله للرسول بـ\"وما ارسلناك إلى بشيرا ونذيرا\"‬ ‫معنى‪ .‬وغيابه أصل كل فساد في التربية والحكم‪.‬‬‫ولا يمكن أن يستعمل هذا الوعد والوعيد إلا الله في خطابه بوصفهما آخر الحلول مع من‬‫أخلد إلى الارض ففقد منزلة الخليفة وصدق فيه رأي الملائكة وما لأجله نظر الشيطان‬‫ليوم الدين وليس هو أداة التربية ولا أداة الحكم‪ .‬أما أن تتأسس التربية والحكم بإطلاق‬ ‫لكأن الجميع طامعين فمناف للإسلام قطعا‪.‬‬‫ورغم أني ارفض الكلام في الغيب فإن تأويل عناصر الجنة الثلاثة وعناصر جهنم الثلاثة‬‫تفيد أمرا بينا لكل ذي عقل وبصيرة‪ .‬فالجنة فيها ثلاثة أشياء‪ :‬فن المائدة وفن السرير‬‫ورية وجه الله‪ .‬فالجزاء هو لإدراك القيم المتعلقة بشروط قيامه المادي والروحي إذا عمر‬ ‫الارض بقيم الاستخلاف‪ :‬اثبت الأهلية‪.‬‬‫وعناصر جهنم الثلاثة هي الحرمان من فن المائدة وفن السرير ورؤية وجه الله بمعنى أنه‬‫يجازى على عدم اثبات الاهلية لأنه لم يعمر الارض ولم يحقق قيم الاستخلاف‪ .‬فهو كان‬‫عبدا واتبع الباطل وكان شريرا وقبيلا وذليلا‪ .‬وبدلا من الحظ على رفض ذلك أصبحت‬ ‫وظيفة الجنة والنار للتطميع والتخويف‪.‬‬‫ثم أصبح ما هو مقصور على الله وحده لعلمه بالسرائر أي الجزاء الموجب والسالب على‬‫أهلية الاستخلاف وعدمها أو النجاح في الامتحان للفرصة الثانية من أدوات التربية‬‫بالوساطة والحكم بالوصاية فأصبح الترهيب بهما في التربية والحكم وكأنه من حق غير الله‬ ‫لكأن الجميع مرضى القلوب وعمي البصائر‪.‬‬‫الجنة جزاء موجب والنار جزاء سالب لمن لم ينفع معهم العلاج القرآن بالتبصير والهداية‬‫وبالمنطق يعاملون بما فقدوه دلالته في الدنيا فيجازون به إيجابا إذا تابوا وفهموا ما لأجله‬‫جاءت الرسالة الخاتمة وبعدمه سلبا إذا لم ينفع معهم‪ .‬والعبادة في الجنة وفي النار هي أثر‬ ‫العرفان وأثر النكران‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وأثر العرفان وأثر النكران كلاهما مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر‬‫لكن الله يرمز إليهما بما يعتبره الإنسان غاية ما يعتبر من شروط السعادة دون أن يكون‬‫بالضرورة القصد هو ما نفهم من فن المائدة وفن السرير في الدنيا والدليل هو أن الغاية‬ ‫هي رؤية وجه الله‪.‬‬‫ورؤية وجه الله هي غاية ما يمكن أن تتعين فيه قيم الاستخلاف الإيجابية‪ :‬الحرية والحق‬‫والخير والجمال والجلال التي يستحقها من رآى فيها سعادته في الدنيا وفي الأخرة ولا‬‫يستحقها من رأى سعادته في الدنيا وفي الآخرة في عكسها اي في رموزها العبودية والباطل‬ ‫والشر والقبح والذل‪.‬‬‫فلا شيء يمكن للعقل والوجدان الإنسانيان أن يتصورا فيه غاية الكمال الذي يرمز إليه‬‫معنى وجه الله أن يحدساه إلا الوجه الموجب من القيم التي يؤمن بها من أثبت بتحقيق‬‫مهمتيه تعميرا واستخلافا في الفرصة الثانية أي في الوجود الدنيوي بعد أن عفا الله عن‬ ‫آدم وحواء وتاب عن ضياع الفرصة الأولى‪.‬‬‫وهذا الكلام هو الصوغ الرمزي القرآني لمراحل حياة الإنسان بوصفه ذا منزلة ترفعه‬‫فوق الملائكة وتعتبره مكرما له من صفات الله المطلقة نزر هو أساس قدرته على تحقيق هذه‬‫القيم أو عكسها وحسابه عليها بقيمها‪ :‬فله إرادة وله علم وله قدرة وله حياة وله وجود‬ ‫كلها نسبية وهي مطلقة عند الله‪.‬‬‫وكل التذكير في القرآن المصحوب بنهي الرسول في تجاوز هذه المهمة بشيرا ونذيرا دون‬‫أن يكون له على المخاطبين سلطان (لست عليهم بمسيطر‪-‬وما أرسلناك إلا بشيرا ونذيرا)‬‫لأن الهدف هو امتحان الإنسان في فرصته الثانية وليس التعامل معه وكأنه مكلفا يربيه‬ ‫وسيط ويحكمه وصي‪.‬‬‫ولولا فهمي للجزاء الموجب والسالب على نتيجة الاختبار في الفرصة الثانية لكفرت‬‫بالتأويلات البدائية التي تجعل الله جزارا مثل ملوك الأرض يتلذذ بالتعذيب في حين أن‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫العذاب الأخروي مثل النعيم كلاهما من كيان الإنسان سعادة بما حصل من قيم موجبة أو‬ ‫من قيم سالبة إثباتا لمقوماته أو نفيا لها‪.‬‬‫فلا معنى لمقومات الإنسان الخمسة أي الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود إذا لم‬‫تكن الاولى حرة والثانية حقيقة والثالثة خيرا والرابعة جمالا والأخيرة جلالا‪ .‬فمن كان‬‫كيانه كذلك في الفرصة الثانية أثبت جدارته بالاستخلاف فوصل إلى النعيم رؤية وجه‬ ‫الله‪ .‬والعذاب الأخروي سوالبها‪.‬‬‫فبدلا من الإنسان الحر ينتكس على عبودية الإخلاد إلى الأرض وظلام الباطل وبشاعة‬‫الشر وشناعة القبح وحقارة الذل وهي جميعا كامنة في كيانه الذي تبين عجزه عن استسناح‬‫الفرصة الثانية ويكون ذلك خالدا في جهنم ولا جهنم أشد على الإنسان بعد أن يدرك‬ ‫تفريطه في الفرصة الثانية اشد من هذه النار‪.‬‬‫وأريد أن اعتذر عن خروجي عن مبدأي الاساسي في كلامي على المسائل الدينية‪ .‬فمبدأي‬‫ألا أتكلم في الغيب وما يحدث في اليوم الآخر من الغيب‪ .‬لكني اكتفيت بالوصف الوارد في‬‫القرآن ولم أضف شيئا من عندي وأعني أن المهمتين اللتين تحققان فن المائدة وفن السرير‬ ‫هما ما يتعلق بالتعمير والاستخلاف‪.‬‬‫وهما المتوفران في الجنة والمنعدمان في جهنم وفوقهما حضور القيم الخمسة موجبها في الجنة‬‫وسالبها في جهنم‪ :‬فرؤية وجه الله في الاولى عند الإنسان هي رؤية حرية مطلقة وعلم‬‫مطلق وخير مطلق وجمال مطلق وجلال مطلق‪ .‬وعدمها هو عدم رؤيتها ولا عذاب يمكن أن‬ ‫يقاس بالخلود في هذا العدم‪.‬‬‫ذلك أن أنزه الله أن يكون كما يصفه من يقيس الله على ملوك الأرض فيعتبره جزارا في‬‫الجنة ولا يتكرم إلا في الجنة‪ .‬فعلاقته بمخلوقاته كلها رحمة وهو لا يتدخل في ما يفعل‬‫الإنسان بنفسه‪ :‬فمن يستفيد من الفرصة الثانية بإثبات جدارته بالاستخلاف تكون صفاته‬ ‫الحرية والحق والخير والجمال والجلال‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ومن يفرط فيها رغم تذكير الله بقرآنه وتبليغ نبيه بشيرا للأول ونذيرا للثاني دون‬‫فرض يتنافى مع التكليف والامتحان تكون صفاته عبودية لا حرية وباطلا لا حقا وشرا لا‬‫خيرا وقبحا لا جملا وذلا لا جلالا ولا يوجد عذاب أشد من هذه الصفات التي يعاني منها‬ ‫في أخراه نابعة من ذاته وهي أحرق نار‪.‬‬‫وهذا هو المعنى الذي قصده المحاسبي في التوهم عندما اعتبر أن الله يعطي لنازلي الجنة‬‫القدرة على خلق كل ما يتخيلونه بمعنى أن الله يمد الإنسان بكن الموجبة وقياسا عليه يمكن‬‫القول إن الله يعطي لنازلي جهنم نفس القدرة وكل لا يبدع بها إلى جنسه أي ما يطابق‬ ‫اهلية الخلافة وعدمها‪.‬‬‫ولا أخفي أنى لم أطمئن لأي فهم آخر لان الحساب جزاء وعقابا هو من الغيب أو مما لا‬‫عين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر لكن القرآن بين عناصر الجزاء وعناصر‬‫العقاب وجل كل أعضاء الإنسان نطفة وهو رمز إلى أن الجزاء والعقاب من جنس الأعمال‬ ‫في اختبار الفرصة الثانية‪.‬‬‫وما يطمأنني حقا في هذا الفهم هو مطابقة ذلك لمفهوم رؤية وجه الله وعدم رؤيته‪ .‬فوجه‬‫الله لا يمكن أن يعني وجها كوجوهنا بل هي تعني الحرية والحق والخير والحمال والجلال‬‫في عالم لا يوجد ما هو أوسع للحرية واوضح للحقيقة وأفضل للخير وأصبح للجمال وأسمى‬ ‫للجلال وتلك هي الجنة‪.‬‬‫أما جهنم فهي عكس ذلك فعدم رؤية وجه الله تعني العيش في العبودية والباطل والشر‬‫والقبح والذل وتلك هي جهنم التي هي الظلام الدامس الدائم والذي من شروط الوعي‬‫به كما في حالة الجنة أن يبعث الإنسان كيانا كاملا أعني بدنا وروحا بعد أن يكون البدن‬ ‫مثل الروح خالدا في ما ناله صاحبه من عمله‪.‬‬‫بهذا وبهذا دون سواه يمكن للمسلمين أن يخاطبوا البشرية شاهدين عليها بما بلغهم‬‫الرسول الخاتم من التذكير الإلهي المضاعف‪ :‬فهو تبشير لمن ينجح في اختبار الاهلية‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫للاستخلاف وتحذير لمن يفشل‪ .‬ولولا هذا لكذبنا ما يقوله القرآن عن الله المستخلف‬ ‫وصدقنا ما قالت الملائكة وراي إبليس في أبناء آدم‪.‬‬‫ولا أخفي حقيقة ينبغي أن اعترف بها للقراء قد تكون هذه هي الليلة الأولى التي سأنام‬‫فيها هادئ البال للحل الذي هداني الله وفتح بصيرتي عليه‪ :‬كنت بكل قواي أبحث عن‬‫مخرج من الصورة القاتمة التي ربينا عليها والتي مصدرا التخويف من جهنم والتطميع في‬ ‫الجنة‪ .‬وهو منهج لا أعقم منه‪.‬‬‫فهو تبين أفشل المناهج في تحقيق الإيمان العميق وتحويله إلى نوع من التجارة بالغيب بدلا‬‫من أن يكون الغيب داعما بالإيمان ودافعا لتحقيق شروط الأهلية في الاستخلاف في الفرصة‬‫الثانية أو مرحلة الدنيا بعد الفشل في الوجود الاول في الجنة‪ .‬وإن شاء الله سأبينه حقيقة‬ ‫الإسلام وثورته الروحية‪.‬‬‫فبهذا الحل يتبين أننا نحن بأنفسنا من يصنع منزلته في الآخرة بمجرد أن يجعل منزلته في‬‫الدنيا مطابقة لما وصفه به القرآن الكريم من قيم موجبة وقيم سالبة هو مخير بينها وكأنه‬‫في الفرصة الثانية (بعد إنزاله إلى الدنيا) وضع في امتحان ثان ليثبت بحرية جدارته‬ ‫بالمنزلة التي أعده الله لها‪.‬‬‫ولا يوجد عدل يفوق هذا العدل‪ .‬فمن فرط في الفرصة الثانية يكون هو صاحب المنزلة‬‫التي تكون له في الحياة الخالدة إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا‪ .‬والشهود يوم الدين هو‬‫كل كيان الإنسان ومن ثم فالكتاب مرسوم في كيانه الذي سينطق بكل ما سجل فيه كأنه‬ ‫حاسوب لا يمحى منه شيء مما دخله فعلا وانفعالا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ليس من شك في أن الكثير من المتسرعين وخاصة من عوام الدعاة والفقهاء والمتكلمين‬‫من سيتهم هذه الرؤية بكونها تنفي الجزاء والعقاب يوم الحساب خلطا بين تنزيه الله مما‬‫ينسب إليه مما لا يليق برحمته وعدله وما بينا أنه من معنى الحرية التي تجعل الإنسان‬ ‫معذب نفسه بما يترتب على علمه من حرمان‪.‬‬‫فالجزاء والعقاب واقعان لا محالة وكما يصفهما القرآن ولكن ليس الله هو المعذب ولا هو‬‫المجازي بل صاحب العمل هو الذي يلقى قيم فعله الموجبة التي في الوعد وسلوبها التي في‬‫الوعيد‪ .‬ومثلما أن كيان الأنسان بكل خلية من خلاياه تشهد عليه فكذلك هي التي تتحول‬ ‫إلى جزاء أو عقاب فعليين‪.‬‬‫ومن ثم فهذا الفهم لا يقلل من مفعول الوعد والوعيد ولا يجعلهما وكأنهما من مجال‬‫الخيال بل هما فعليان لأن كيان الإنسان ليس خيالا بل هو كيانه الفعلي بدنا وروحا بعد‬‫البعث وما يحصل فيهما من سعادة الخلود في الجنة ومن شقاء الخلود في جهنم هو ما يحدث‬ ‫في الكيان ذاته مما يترتب على عمله‪.‬‬‫ومن يشكك في ذلك فينبغي أن ينسب كل افعال الإنسان في الدنيا لله لا إلى صاحبها‬‫فيزيح عنه كل مسؤولية لأنه حينها يجازى أو يعاقب على فعل الله وليس على فعله وهذا‬‫ظلم لا يوجد من يؤمن بالله وبعدله يقول به‪ .‬ونفس الامر في الآخرة‪ :‬طبيعة عمل الإنسان‬ ‫المرتسم في كيانه هي طبيعة جزائه أو عقابه‪.‬‬‫وهذا أكثر فاعلية في الوعد والوعيد لأنه يجعل الإنسان يرى في حياته الدنيوية ما‬‫ينتظره في حياته الاخروية لأن الجزاء والعقاب من جنس العمل وكل ما يعمله الإنسان‬‫مرسوم في كيانه الذي سيكون شاهدا عليه ويكون بما شهد به كفيلا لجعله يتحول إلى نوع‬ ‫القيم التي تترتب عليه بمقتضى شرع الله وعدله‪.‬‬‫وبهذا أكون قد نزهت الله عما قد ينسب إليه من عذاب الوعيد وجزاء الوعد فنسبتهما‬‫إلى أعمال الإنسان نفسه في الآخرة كما في الدنيا وهو معنى ما للإنسان من تكليف شرطه‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫التخيير بين الإرادة الحرة والمعرفة الصادقة والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود‬ ‫الجليل واضدادها امتحانا لأهلية الخلافة‪.‬‬‫وأصبح بوسعي أن أتكلم على معنى التعالق التام بين الدنيوي والاخروي في الإسلام‬‫والارتباط الضروري بين الديني في كل دين (الإسلام أو دين الله التام) وسياسة حياة‬‫الإنسان في الدنيا التي هي بهذا المعنى مطية الآخرة لأنها امتحان بمقتضى النجاح أو‬ ‫الفشل فيه يكون الجزاء والعقاب‪.‬‬‫ومن العجائب التي يدهشني أن علماء الدين لم يتساءلوا عليها‪ :‬لماذا وصف الجنة وجهنم‬‫ليس فيهما عبادات لا صادقة في الاولى ولا منافقة في الثانية بل فيها الموجبات في الجنة وهي‬‫ثلاثة كما أسلفت ويمكن أن نضيف إليها أمرين آخرين هما طبيعة الآفاق وطبيعة الانفس‪:‬‬ ‫أجمل طبيعة وأتم صداقة بين النزلاء‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن العلاقتين العمودية مع الطبيعة والأفقية بين البشر عندما يصبح البصر‬‫حديدا ويحدث ذلك في ظل النور الأهلي أو رؤية وجهه تعالي تتحقق العلاقتان دون‬‫المنغصات التي هي مادة الامتحان في الدنيا لأن كل ما يحاسب عليه الإنسان هو الظلم في‬ ‫التبادل والخداع في التواصل‪.‬‬‫كيف لهؤلاء العلماء الذي فلوا القرآن وغرقوا في جزئيات تفاقهية لغوية وبلاغية‬‫وخرافية من الإسرائيليات ومن الصوفيات والباطنيات ومن فضلات علوم عصر انحطاط‬‫فكرهم ولم يروا هذه المعاني الواضحة في المشروع القرآني إذا نظر إليه ككل بوصفه نظام‬ ‫تربية ونظام حكم متحررين من الوسطاء والأوصياء؟‬‫فالرسول الخاتم لم يكن متصوفا ولا فقيها ولا متكلما ولا فيلسوفا من نوع ما عم حضارتنا‬‫بل كان مبلغا لتذكير ومكلفا بتحقيق عينة من الدولة الكونية التي يكون فيها البشر اخوة‬‫(النساء ‪ )1‬ومتساوين لا تفاضل بينهم بغير معيار التقوى (الحجرات ‪ )13‬وهو ما يقتضي‬ ‫الاجتهاد والجهاد في التاريخ الفعلي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فهو كان يعلم أن العبادة غير المباشرة شرط العبادة المباشرة وأن مهمة الإنسان هي تعمير‬‫الارض والاستخلاف فيها امتحانا لأهليته للخلافة في التعمير ومن ثم فالدنيا هي مطية‬‫الآخرة ولا يمكن للمرء أن يمتطيها من دون العلم بقوانين الطبيعة وسنن التاريخ للتعمير‬ ‫بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالعبادة نوعان مباشرة وهي علامات الإيمان إذا كانت صادقة والمؤمن‬‫الصادق عابد في كل نفس من أنفاسه إذا بحق قد بلغ معنى الشعور بالفقر الوجودي لأنه‬‫يعلم أن بقاء زمانين مهما تقاربا معجزة إلهية هي بنحو ما خلق مستمر يعيشه في كيانه إذا‬ ‫بحق حرا وصادقا وخيرا وجميلا وجليلا‪.‬‬‫ولا علاقة لهذا الكلام بالتصوف بل إن كيان الإنسان إذا كان واعيا بذاته عبادة خالصة‬‫لأنه في وجدانه لذاته ولما يقيمها من علاقة عمودية بالطبيعة وأفقيه بالتاريخ يدرك أنه‬‫مجرد ذرة من الوجود الذي لا يمكن النفاذ إلى سره إلا بوصفه ينشد الحرية والحقيقة‬ ‫والخير والجمال والجلال قياما لكيانه‪.‬‬‫وذلك هو المعنى الحقيقي لعبارة أقرب إلينا من حبل الوريد‪ .‬أما إله علم الكلام فهو كلمة‬‫خاوية وليس حقيقة يشعر الإنسان بأنه قيامه مستمد منه وكأن الله ينفخ فيه من روحه ما‬‫ظل حيا وأنه حي بهذا النفخ المستمر الذي هو خلق مستمر في كل ثانية يغوص فيها الإنسان‬ ‫في وجدانه أيا كان انشغاله‪.‬‬‫ومن كانت هذه حالة لا ينطوي على نفسه كما يتوهم المتصوف فيتصور أنه الوحيد الذي‬‫بلغها بالرياضة‪-‬وتلك هي علة هذه الرؤية منافية تماما للوحدانيات التي لا تنقال (شفاء‬‫السائل) ‪-‬بل هي عين قيام الإنسان وبقائه مدة بقائه والشعور بالفناء الدائم الملازم للحياة‬ ‫وكأنها عد تنازلي نحو الموت الحتم‪.‬‬‫ولا يمكن أن يكون عبدا لغير الله وطالبا لغير الحقيقة وعاملا لغير الخير وذائقا لغير‬‫الجمال ومتشوفا لغير الجلال ليس أهلا لأن يكون خليفة ومن ثم فهو الذي يحدد منزلته‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الوجودية من خلال موقفه الموجب من هذه القيم فبها يكون حرا وصادقا وخيرا وجميلا‬ ‫وجليلا وعكسها بالموقف السالب منها‪.‬‬‫فوعي الإنسان بكونه حيا ووعيه بأنه مائت هما جوهر الوعي بهذا القرب المطلق من‬‫مصدر قيامه سواء بمعناه المباشر كعلاقة بالطبيعة (مصدر قيامه المادي) أو بالتاريخ (مصدر‬‫قيامه الروحي) أو بمعناه الصادر عما ورائها المعلل لما فيهما من حياة وموت أو علاقتهما‬ ‫بالخالق‪ :‬وهذا هو الديني‪.‬‬‫وهذا الوعي لا يشغل الإنسان عن المشاركة الفعلية في التعمير بقيم الاستخلاف لأن‬‫النظر والعقد شرطي معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ عبادة غير مباشرة وعرفانا‬‫بفضل الله على الإنسان من حيث هو يستمد منهما مصدر قيامه المادي والروحي وبهما يكون‬ ‫متحرر من الفقر المادي ليدرك الفقر الوجودي‪.‬‬‫ونفس الامر يقال عن مشاركته في العمل والشرع شرطين للعلاقة الافقية بالتاريخ‬‫الإنساني كله لأن هذه العلاقة شارطة لتلك شرط الصورة لتعين المادة في وجود الإنسان‪.‬‬‫فلا يمكن لاقتسام العمل في التعاون الذي يستند إليه التبادل والتعاوض العادل من دون‬ ‫تعايش سلمي وتواصل صادق بين البشر‪.‬‬‫وذلك هو مضمون التذكير الكوني في القرآن والوصل بين العبادة غير المباشرة تعميرا‬‫واستخلافا والعبادة المباشر بالمعنى التقليدي للعبادات‪ .‬والكلام على هذه من دون تلك‬‫وخاصة ما تثقل به من قشور تؤدي إلى إهمال العبادات الشارطة باسم التفرع للعيادات‬ ‫المشروطة هو علة الانحطاط في كل حضارة‪.‬‬‫وكذلك كل توهم للتعمير من دون القيم الكونية للاستخلاف والتي هي الحرية والحقيقة‬‫والخير والجمال والجلال ليس إلا ظاهرا من التعمير لأنه في الحقيقة تدمير حتى وإن كان‬‫لا تظهر تبعاته إلا في التاريخ المديد لأن آثاره تتراكم بما يشيه جمع لامتناهيات الصغر‬ ‫من المفاسد الملازمة لنقائض القيم‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فيصبح الوجود عبودية مطلقة لأنه يخضع تربية وحكما إلى دين العجل‪ :‬الجميع يصبح‬‫عبيد المال والأيديولوجيا التي تزين له ما يسميه هيجل باللامتناهي الفاسد فلا يبقى‬‫للإنسان من غاية إلا ما وصف به القرآن المخلدين إلى الأرض فيكون كلابا لاهثة حملت‬ ‫عليها أم لم تحمل‪.‬‬‫وسنبين في الفصلين المقبلين كيف أن التعمير من دون قيم الاستخلاف يكون تدميرا لأنه‬‫يحول العلاقتين بالطبيعة والتاريخ إلى علاقتين مغنيتين عما يتعالى عليهما بوصفه ما‬‫ورائهما الذي منه تستمد قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وهما معنى آيات الله التي يرينها‬ ‫في الآفاق وفي الأنفس (فصلت ‪.)53‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ما التعمير؟ وكيف ينقلب إلى تدمير من دون قيم الاستخلاف؟ ذلك هو معنى العبادة‬‫غير المباشرة التي تحقق شروط العبادة الأسمى التي هي تغليب الوجه الموجب من القيم‬‫المناسبة لمقومات كيان الإنسان من حيث هو خليفة يتحرر من الاخلاد إلى الأرض بعلاقته‬ ‫العمودية بالطبيعة والأفقية بالتاريخ‪.‬‬‫وأول من أجاب عن هذا السؤال هو ابن خلدون‪ :‬فهو يصنف العمران بما يسميه \"نحلة‬‫العيش\" وهو مفهوم شديد الأهمية في ثورته الفلسفية التي كان يمكن أن تكون بداية‬‫لإخراج علوم الملة من انحرافها الناتج عن قلب أمر فصلت ‪ 53‬نهيا وقلب نهي آل عمران ‪7‬‬ ‫أمرا عند من يتصورون أنفسهم راسخين في العلم‪.‬‬‫ورغم أنه عدد الكثير من نحل العيش فإن القانون العام في نظريته هو أن تطور نحل‬‫العيش بدايته من الإنسان الذي يعيش بما تنتجه الطبيعة وغايته الإنسان الذي يعيش‬‫بما ينتجه هو بعمله على علم بقوانينها ثم يعود من الغاية إلى البداية فيتدرج الإنسان في‬ ‫غير المباشر إلى المباشر من العبادة‪.‬‬‫وهذا التدرج هو في آن اجتهاد في النظر والعقد للتعمير وجهاد عملي وشرع لجعله تحقيقا‬‫لموجب القيم أي حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة جمال الحياة وجلال الوجود‬‫وتحريرا من سوالبها أي عبودية الإرادة وباطل العلم وشر القدرة وقبح الحياة وذل‬ ‫الوجود‪ .‬وبذلك يثبت الإنسان جدارته بالخلافة‪.‬‬‫فيكون الأمر كله مرتبطا بالعلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة والأفقية بين‬‫الإنسان والإنسان‪ .‬والأولى هي مجال التبادل والثانية هي مجال التواصل‪ .‬فالتبادل‬‫يؤسس للتعاون وتقاسم العمل لإنتاج شروط البقاء المادية والروحية وهو مشروط بالعدل‬ ‫والتواصل شرطه لأنه شرط تراكم الخبرة في الإنجاز‬‫ما يعني أن علاقة الإنسان بالطبيعة ليست محددة بمكانه حصرا بل بكل الطبيعة وأن‬‫علاقة الإنسان بالإنسان ليست محددة بزمانه حصرا بل بكل التاريخ الإنساني‪ .‬ولا يظهر‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ذلك في البداية لأن الإنسان قبل أن يحقق \"نحلة العيش\" المستقلة عن مكانه وزمانه إلى‬ ‫بتدريج غايته العولمة المادية والروحية‪.‬‬‫وهذا المعنى هو جوهر المشروع الإسلامي القائل بالكونية وبمخاطبة الإنسانية كلها‬‫بوصفها جماعة واحدة بمبدإ الأخوة الروحية (النساء ‪ )1‬وبقيمة المساواة بين البشر والا‬‫تفاضل عند الله إلا بالتقوى (الحجرات ‪ )13‬غاية لتدرج الإنسان في تحقيق شروط الأهلية‬ ‫للخلافة أي موجب القيم والتحرر من سوالبها‪.‬‬‫ولذلك فليس بالصدفة أن سمى ابن خلدون علمه الثوري باسمين يحيلان إلى الكونية‬‫البشرية والإنسانية‪\" :‬علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" ولم يقتصر على الحضارة‬‫الإسلامية إلا بوصفها عينة من هذا المسار الإنساني تماما كدولة الإسلام بوصفها عينة من‬ ‫الدولة الكونية مشروع الإسلام‪.‬‬‫وأغرب ما في الامر هو أن العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الافقية بين‬‫الإنسان والإنسان تجعلان بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان كل الحضارة‬‫الإنسانية ما يعني أن التبادل والتواصل ليس بين الاحياء في مكان معين من المعمورة بل هو‬ ‫يشمل كل من أسهم في الحضارة‪.‬‬‫فالخبرة التي تعالج العلاقة العمودية والتي تعالج العلاقة الافقية هي تراكم كوني‬‫حصيلة لاجتهاد الحضارات المتعاصرة والحضارات المتوالية منذ أن أصبحت الإنسانية قادرة‬‫على توثيق الخبرة المتعلقة بالنظر والعقد وبالعمل والشرع‪ :‬وهذا دليل قاطع أن العالم‬ ‫بيت الإنسان وشرط قيامه العضوي والروحي‪.‬‬‫فنفهم حينئذ معنى مهمتي الإنسان‪ :‬استعمر في الأرض أي كلف بتعميرها واستخلف فيها‬‫أي كلف بأن يكون هذا التعمير بقيم الخلافة موجبها تحقيقا وسالبها تحررا من أضدادها‪.‬‬‫والآن وقد حددنا القصد بالعلاقتين فلنشرع في اثبات ما كيف يكون ذلك في العلاقة‬ ‫العمودية وفي العلاقة الافقية كعبادة غير مباشرة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والمقصود بالعبادة غير المباشرة شروط العبادة المباشرة التي هي التحرر روحيا من‬‫الوسطاء وسياسيا من الأوصياء فيكون الإنسان في علاقة مباشرة بربه ومتحررا من الوسطاء‬‫وواعيا بما وراء الطبيعة وفي علاقة مباشرة بأمره ومتحررا من الأوصياء وواعيا بما وراء‬ ‫التاريخ‪.‬‬‫وتلكما هما ثروتا الإسلام اللتين يتحققان بفضل تربية متحررة من الوساطة وحكم متحرر‬‫من الوصاية فيكون عمل الأنسان التحريري هذا هو العبادة المباشرة أو منزلة الخلافة التي‬‫يكون الإنسان قد أثبت جدارته بها مستفيدا من الفرصة الثانية أي من وجوده في الأرض‬ ‫كاختبار وليس كعقاب كما في المسيحية‪.‬‬‫فقصة الإخراج وما تلاها من عفو على آدم يحرره من الحاجة إلى شفيع ووارث لدوره‬‫كوسيط (الكنسية) وإلى صاحب حق إلهي في حكمه نيابة عن شعب مختار أو أسرة مختارة‬‫أو طبقة مختارة (النظام السياسي) فيكون الإنسان قد أعطي الفرصة كاملة ليكون تام‬ ‫المسؤولية على عمله ويجزى بثمرته إيجابا أو سلبا‪.‬‬‫وهذه الرؤية تحرر مما يسمى بالخطيئة الموروثة ومن اعتبار الإنزال عقابا بل هو فرصة‬‫ثانية وبذلك يصبح الحساب والعقاب مرتبطين مباشرة بمهمتي الإنسان في وجوده الدنيوي‪:‬‬‫التعمير والاستخلاف‪ .‬وهذا الإنزال تعده القصة فرضة ثانية وفيه شبه تقابل بين رهانين‬ ‫واثق من أهلية الإنسان ومشكك فيها‪.‬‬‫فمن يستفيد من الفرصة الثانية وينحاز للرهان الاول بإثبات جدارته بالخلافة تحقيقا‬‫لموجب القيم وتجنبا قدر المستطاع لسوالبها فيكون جزاؤه الجنة والذي لا يستفيد منها‬‫وينحاز للرهان الثاني بعدم إثباتها غرقا في سؤال القيم وتجنب موجبها يكون عقابه جهنم‬ ‫وهي ما حل فيه من الشيطان‪.‬‬‫وتلك هي النار التي لا أشد منها لأن صاحبها يحرم من وجه الله ومن كل ما يصبو إليه‬‫الإنسان من الحياة الخالدة وعلامتاها فن المائدة وفن السرير في عالم نقي طبيعيا (العلاقة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫العمودية) وأخوي تاريخيا (العلاقة الافقية)‪ .‬وتكون الجنة وجهنم نموذجين لمنشود‬ ‫للمطلوب من الإنسان في دنياه قبل أخراه‪.‬‬‫والنموذج خال من منغصات الحياة الفانية وفيه تصبح الحياة خالدة سواء كانت في عالم‬‫الجنة أو في عالم جهنم ويكون عمل الإنسان الموجب هو عين الخلود في الجنة وعلمه السالب‬‫هو عين الخلود في جهنم‪ .‬وكلاهما صادر عن عمل الإنسان ومن نفسه المطمئنة أو من نفسه‬ ‫المتحيرة‪.‬‬‫وهذا الحكم ليس تحكميا فالتذكير القرآني مليء به‪ :‬فالكلام على الخسر في العصر‬‫وتحديد شروط الاستثناء منه التي هي خمسة أكير دليل على أن ما يجازى به الإنسان‬‫إيجابا أو سلبا هو عين ما عمل ليس ظاهر العمل بل ما يعلمه الله علام السرائر شرط تحرير‬ ‫الإنسان من حكم الإنسان له أو عليه في الإيمان‪.‬‬‫وهو ما يعني أن العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه تحرره من أحكام غير الله في تحديد‬‫حقيقة ما في ضميره من حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال‬‫الوجود لأن ذلك كله من السرائر التي لا يعلمها غير الله بل حتى صاحبها لا يعلمها العلم‬ ‫اليقيني ففي الذات من الغيب ما لا يقدر‪.‬‬‫ومجرد العلم بهذه الحقيقة من المفروض أن يحول دون الإنسان والحكم على ما في ضمير‬‫غيره من البشر فينتج عن ذلك التعامل بتقديم حسن النية على سوئها فتقل العداوات بين‬‫البشر وتتحقق الأخوة (النساء ‪ )1‬لعلم الجميع أن التفاضل عند الله بالتقوى الصادقة‬ ‫وليس بمظاهرها المنافقة‪.‬‬‫وبدلا من العناية بمحاكمة الغير ونواياه التي لا يعلمها إلا الله يصبح هم أي إنسان عاقل‬‫وحكيم أن يعنى بنفسه ليحقق مهمتيه تعميرا للأرض واستخلافا فيها فيحرص على حرية‬‫إرادته وصدق علمه وخير قدرته وجمال حياته وجلال وجوده شروطا لأهلية الاستخلاف‬ ‫وتحقيق \"معاني إنسانيته\"(بلغة ابن خلدون)‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فشروط الاستثناء من الخسر الذي هو عبودية الإرادة لغير الله والباطل والشر والقبح‬ ‫والذل خمسة حددتها سورة العصر‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بعلل الخسر‬ ‫‪ .2‬الإيمان‬ ‫‪ .3‬العمل الصالح‬ ‫‪ .4‬التواصي بالحق أو الاجتهاد المشترك لمعرفة قيم الاستخلاف‬ ‫‪ .5‬التواصي بالصبر أو الجهاد المشترك للعمل بها‪.‬‬‫لم يبق من مطالب المحاولة إلا تحليل آليات العلاقة العمودية بالطبيعة والعلاقة الافقية‬‫بالتاريخ بوصفهما عين تحقيق المهمتين بما جهز به الإنسان لمعرفتها بالنظر والعقد (التواصي‬‫بالحق) ولتحقيقها بالعمل والشرع (التواصي بالصبر) إذا كان مؤمنا صادقا وعاملا صالحا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولنبدأ بالعلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة‪ .‬فهبنا أخذنا أكثرها مباشرة في \"نحلة‬‫العيش\" التي يكون فيها الإنسان مستمد كل شروط قيامه العضوي مما تنتجه الطبيعة أي‬‫الإنسان الذي يكتفي بجني ثمرات الطبيعة‪ .‬فهل هو بحق ذو علاقة مباشرة بالطبيعة أم إن‬ ‫الخبرة الإنسانية متوسطة بينها وبينها؟‬‫لا شك أن الجوع قد يكون أول مرة قد دفع الإنسان دون خبرة لأكل أي شيء يصادفه‬‫وقد عرفت ذلك في البادية قبل أن أنتقل إلى المدينة للدراسة‪ .‬فهبني كنت أجهل أنواع‬‫الفطر القاتلة‪ .‬ستكون تجربة يستفيد منها من يستبعد النوع الذي أكلت منه فمت؟ ضحايا‬ ‫هذه التجارب المعيشية لا يحصون‪.‬‬‫وبذلك يتكون أول جيل من الخبراء في التمييز بين النافع والضار مما يجنيه الإنسان من‬‫منتجات الطبيعة لحياته وحياة أسرته‪ .‬ولما كانت الثمار المنتقاة فصلية فلا بد من بداية‬‫\"التعويل\" أو خزن الضروري لما يتوسط بين الفصلين من ضرورات العيش في هذه النحلة‬ ‫منه في التعامل المباشر مع الطبيعة‪.‬‬‫وهذه أول خطوة في تقسيم العمل المعالج للعلاقة العمودية مع الطبيعة من أجل شروط‬‫الحياة العضوية‪ :‬بين الجناة والخبراء‪ .‬وخالبا ما يكون الجناة هم الخبراء قبل أن ينفصل‬‫الدوران في تقسيم العمل‪ .‬ولكن يمكن كذلك أن يوجد الخبراء في استعمال منتجات الطبيعة‬ ‫لتسميم الخصم‪ .‬فيتضاعف دور الخبرة‪.‬‬‫وبذلك يتكون التخصص وتقسيم العمل في نفس الاسرة قبل أن يتوسع للقبيلة لأن شروط‬‫العيش تقتضي أمرين‪ :‬الحصول على منتج الطبيعة وحمايته ممن قد يشارك الجماعة فيه‬‫فتتكون كما عند الحيوانات نوع من المجال الحيوي وتبدأ الإنسانية في تقاسم الأرض بحسب‬ ‫علاقات القوة في الداخل والخارج‪.‬‬‫وهكذا تظهر كل الوظائف التي عامة ما نسمي مجموعها بالسلطة السياسة كيانها بالدولة‪:‬‬‫حماية داخلية للرعاية الداخلية وحماية خارجية لما ينافس عليها وذلك على مستوى العلاج‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫السلمي والعلاج الحربي ويكون وجود الإنسان في علاقته بالطبيعة مشروطا بكل وظائف‬ ‫الدولة أو ما يجانسها مما يؤدي دورها‪.‬‬‫فتكون علاقة الإنسان بالطبيعة شرطا لقيامه العضوي مشروطة بعلاقته بالإنسان شرطا‬‫لقيامه الروحي بمعنى أن تقاسم العمل والتعاون على سد الحاجات يقتضي نظاما يحمي‬‫الناس بعضهم من البعض ويحمي شروط التبادل والتعاوض ولا يكون ذلك من دون شروط‬ ‫التواصل والتصادق‪ :‬وذلك هو موضوع الوزعين‪.‬‬‫والوزعان ذاتي وأجنبي‪ :‬فالذاتي هو موضوع الاخلاق والأجنبي هو موضوع السياسة‪.‬‬‫وهو متعلق بشروط الحياة الروحية للإنسان‪ .‬وتكون هذه الشروط مقدمة على تلك لأن‬‫الإنسان من دونها لا يمكنه أن يفرغ للعلاقة العمودية مع الطبيعة فيفسد التعاون والتبادل‬ ‫في الخبرة والإنتاج ذاته وتفرعاتهما المعقدة‪.‬‬‫ولو كان الوزع الذاتي (سلطة الضمير الخلقي) كافيا لاستغنى الإنسان عن الوزع الأجنبي‬‫(سلطة القانون التي تمثلها الدولة) ومن هنا يأتي دور التربية في تنميتهما في الأذهان‬‫والحكم في تنميتهما في الأعيان‪ .‬وعندما تكون التربية بوساطة والحكم بوصاية يصبحان هما‬ ‫بدورهما مصدر تعد على الحريتين‪.‬‬‫والتعاون علة للتبادل المشروط بالتعاول العادل يكون في المراحل الأولى عينيا غنيا عن‬‫العملة إذ تقسيم العمل بحد ذاته هو تبادل للمنتج بضاعة كان أو خدمة وهو نوع التبادل‬‫الأول بالمقايضة لكن توسعه يقتضي ألا تنقل المنتجات ذاتها وألا تكون سدا مباشرا للحاجات‬ ‫بل قيما تحفظ لحين الحاجة‪ :‬العملة‪.‬‬‫والعملة كيان رمزي كلي‪ .‬فهو يعبر عن القيم المادية التي تعوض المنتجات وهي قيم‬‫تحتوي بالقوة على كل ما يسد الحاجة عند الحاجة لبضاعة كانت أو لخدمة‪ .‬فيصبح بين‬ ‫يدي من يجمعها سلطان كبير يتألف من وجهين‪:‬‬ ‫‪ .1‬حرية التخلص من الحاجة المباشرة‪.‬‬ ‫‪ .2‬تجاوز دور أداة التبادل إلى السلطان على شروطه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذا هو أول داء يعالجه الإسلام بحرب الله عليه‪ :‬سلطان الاحتكار الاقتصادي والربا‬‫المادي‪ .‬وسنرى أن للكلمة في التواصل ما للعملة من الفاعلية‪ :‬سلطان الاحتكار الثقافي والربا‬‫الرمزي‪ .‬والربا الرمزي نظير الربا المادي‪ .‬وهما ثاني داء يعالجه الإسلام‪ :‬كبر مقتا عند‬ ‫الله أن تقولوا ما لا تفعلون‪.‬‬‫والربا المادي أو العملة التي تنقلب من أداة تبادل إلى سلطان على المتبادلين والربا‬‫الرمزي أو الكلمة التي تنلب من أداة تواصل إلى سلطان على المتواصلين هما بعدا العجل‬‫الذهبي اللذين تكلمت عليهما مرات عدة بوصفهما يمثلان الوساطة والوصاية في النظامين‬ ‫الثيوقراطي والانثروبوقراطي‪.‬‬‫وعندما تتحول أداة التبادل العملة إلى سلطان على المتبادلين وأداة التواصل الكلمة إلى‬‫سلطان على المتواصلين يكونان أداتي التربية والحكم‪ .‬فالكلمة التي تصبح سلطانا على‬‫المتبادلين تفسد التربية والعلمة التي تصبح سلطانا على المتبادلين تفسد الحكم‪ .‬فيفسد‬ ‫الوازعان‪ :‬الضمير والقانون‪.‬‬‫وإذا فسد الوازعان \"فسدت معاني الإنسانية\" وفقد الإنسان \"رئاسته التي له بالطبع‬‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" (ابن خلدون) والمفهومان يعنيان أن الإنسان تفسد‬‫معاني إنسانيته بمجرد أن يفقد منزلته الوجودية بوصفه خليفة أو رئيسا بالطبع فلا يبقى‬ ‫حرا روحيا ولا سياسيا فيعبد الوسيط والوصي‪.‬‬‫وعندئذ نفهم القصد بالعبادة غير المباشرة‪ :‬لا تعبد ربك إذا فقدت معاني الإنسانية‬‫ومنزلتك الوجودية التي هي أهلية الاستخلاف وعلامتها الحريتان الروحية والسياسية وهما‬‫ما أهمله من رد الدين إلى العبادات التي هي بذاتها أداة تربوية وليس غاية التربية التي‬ ‫هي المحافظة على المنزلة الوجودية‪.‬‬‫فمن دون المنزلة الوجودية يفقد الإنسان الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬‫له فلا يكون حر الإرداة ولا صادق المعرفة ولا خير القدرة ولا جميل الحياة ولا جليل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الوجود وتلك دلالة فساد معاني الإنسانية إذ يصبح الإنسان عبدا للوسيط والوصي يعيش‬ ‫على الباطل والشر والقبح والذل‪.‬‬‫والفرد والجماعة إذا فسدت فيهم معاني الإنسانية بسبب الوساطة في التربية والوصاية‬‫في الحكم يعتبرها ابن خلدون قد ردت أسفل سافلين وهو الخسر في سورة العصر ولا معنى‬‫حينها للتظاهر بالتدين لأن من هذه حاله يعتبره ابن خلدون \"عالة\" وليس قائما بذاته ربه‬ ‫من يعوله‪ :‬وشرط الإيمان الكفر بالطاغوت‪.‬‬‫ومرة أخرى فالآية ‪ 177‬من البقرة تؤكد على ذلك بنوعين من التوكيد‪-1 :‬فهي ترتب‬‫واجبات المؤمن كما شرحت ‪-2‬تنتهي بهذه العبارة الحاسمة \" ُأو ٰلَ ِئ َك الَّ ِذينَ َصدَقُوا ۖ‬‫وَأُو ٰلَئِكَ ُه ُم ا ْلمُ ّتَقُونَ\"‪ .‬ومعنى ذلك أن من كانت صفاتهم ما ورد فيها هم من يوصف إيمانهم‬ ‫بالصدق وسعيهم بالتقوى‪.‬‬‫فإذا طبقنا هذا الترتيب والوصف الحاسم في الخاتمة على ما يجري منذ الفتنة الكبرى‬‫إلى الفتنة الصغرى علمنا أن اهمال امر فصلت ‪ 53‬ونهي آل عمران ‪ 7‬هو الذي قلب كل‬‫القيم الإسلامية فجعل الأمة تفقد معاني الإنسانية وتصبح عالة على غيرها فاقدة لكل‬ ‫سيادة ومتصفة بكل السوالب التي ذكرنا‪.‬‬‫لذلك فلا يوجد تعاون ولا تبادل حقيقي لشروط القيام المادي والروحي ولا تعاوض‬‫عادل بل تناهب وتسالب وتخاصم وتغاش وتراش وتكاذب دائم بمعنى أن المسلم فقد حرية‬‫الإرادة وصدق المعرفة وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود فأصبح عبدا يتبع‬ ‫الباطل والشر والقبح والذل‪ :‬تربية وحكم فاسدان بالجوهر‪.‬‬‫وقد حصر القرآن الكريم علل هذا الفساد وتجلياته في تحول العملة إلى سلطان على‬‫المتبادلين وتحول الكلمة إلى سلطان على المتواصلين الأول بالربا والثاني بقول مخالف‬‫للفعل‪ .‬والثاني معيار ليس للتواصل العادي فسحب بل لأسمى تواصل أعني الشعر الذي‬ ‫يقيمه القرآن بكون أصحابه يقولون ما لا يفعلون‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وينبغي أن ألا يفهم من يتصورون القصد هو الدعوة إلى محاكاة ما يسمونه واقعا‬‫فيزعمون ضرورة التمييز بين قيم الفن وقيم الأخلاق متوهمين أن الفن في حل من القيم‬‫الخمسة في حين أنه لا يمكن للفن أن يكون فنا من دونها دون أن يتحول إلى وعظ وإرشاد‬ ‫كما قد يخيل لهم‪.‬‬‫وحتى ألجم العوام عن الكلام في ما لا يفهمون فحتى وصف الشر والقبح والفساد وكل‬‫الموبقات التي يتخيلونها يمكن أن تكون موضوع فن إذا كان الفن صادقا في التعبير عن‬‫مقوماتها تعبيرا صادقا يصفها ولا يتحول إلى تمجيدها لأن القصد بالفن هو عبارة الذوق‬ ‫المدرك لهذه القيم الخمسة موجبها وسالبها‪.‬‬‫فالهيام في الشعاب هذا قصده‪ :‬أنهم لا يجابهون حقائق الأشياء حرها وعبدها حقها‬‫وباطلها خيرها وشرها جميلها وقبيحها جليلها وذليلها دون أن يعني الفن التعبير عن أحوال‬‫نفس الشاعر إذ كما قال أرسطو رواية عن أكبر شعراء اليونان‪ :‬لا يبدأ الفن إلى متى‬ ‫تجاوز الشاعر الكلام عن أحوال نفسه‪.‬‬‫وعندئذ يشترك الفن والدين والفلسفة والنظر والعمل في التعبير عن هذه القيم بصدق‬‫وبكفاءة وبالوعي اليقظ بحضور الله مع كل نفس من أنفاس الإنسان حضورا إذا لم ينسه‬‫يجعله رقيب نفسه فيتطابق باطنه وظاهرة وذلك هو المعنى المقصود بالبر وغايته الصدق‬ ‫والتقوى كما في البقرة ‪.177‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬