Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المحكم والمتشابه، نجاعة معيار الفصل بنوعي الإحالة القرآنية - أبو يعرب المرزوقي

المحكم والمتشابه، نجاعة معيار الفصل بنوعي الإحالة القرآنية - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-06-13 20:00:34

Description: المحكم والمتشابه، نجاعة معيار الفصل بنوعي الإحالة القرآنية - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫كونها موضوعات إشارة وتوجيه إلى كونها موضوعات بحث علمي باعتبارها موضوعات معرفة‬ ‫مشروطة في وظيفتي الإنسان‪ .‬وكل معرفة هي تحليل للمشابه في وجوده الموضوعي ولا‬ ‫يمكن اكتشاف قوانين هذا الوجود بتأول كلام القرآن المشير إليه إشارة توجيهية وليست‬ ‫نصا علميا‪.‬‬ ‫وإذن فالمحكم هو الإشارات التوجيهية وعلمها هو آيات الواردة في نص القرآن التي تمثل‬ ‫تعريفات أولية أو مسلمات النسق القرآني من حيث هو نظام التذكير أو الرسالة بمؤهلات‬ ‫الإنسان التي أهمل استعمالها ونسي دورها والتي عليه الاعتماد عليها ليكون \"رئيسا بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" (ابن خلدون) لا يعبد غير الله‪.‬‬ ‫ومن ثم فالقرآن بهذا المعنى ليس إلا بعدي السياسة الجامعة بين العالمين الدنيوي‬ ‫والأخروي في التأهيل بالتربية المعرفية والقيمية والتأهيل بالحكم بهما كذلك لأعداد‬ ‫الإنسان حتى يعمر الأرض بقيم الاستخلاف باعتبار ذلك اختبار لأهليته للاستخلاف وفرصة‬ ‫ثانية بعد قصة العصيان في الجنة‪ .‬تلك حبكة القرآن بوصفه نظام تذكير إشاري‪ .‬وهذه‬ ‫المعطيات تقل أو ترفض لأنها هي مضمون الإيمان بالإسلام‪.‬‬ ‫وذلك هو القصد بوصف القرآن بكونه \"السبابة\" الوجودية التي توجه الإنسان إلى‬ ‫شروط تأهيله لمهمتيه دون أن تعينها لأنها ينبغي أن تكون ثمرة اجتهاده وجهاده‪ .‬وهنا يأتي‬ ‫ما ذكرته في الفصل السادس من أن العلاج هو ما حددته سورة العصر‪ :‬فالخسر نتج عن‬ ‫النسيان والتذكير بما ينبغي فعله هو الذي يخرج من الخسر‪ .‬والخروج من الخسر شروطه‬ ‫خمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬تذكر المفطور في كيان الإنسان أصلا وفروعه الأربعة‪:‬‬ ‫‪ .2‬الإيمان بالله واليوم الآخر‪.‬‬ ‫‪ .3‬العمل الصالح‪.‬‬ ‫‪ .4‬التواصي بالحق معيارا للاجتهاد‪.‬‬ ‫‪ .5‬التواصي بالصبر معيارا للجهاد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتلك هي غاية السياسة القرآنية في التربية وفي الحكم‪ .‬والآن ينبغي أن ننتقل إلى علاج‬ ‫المتشابه بالعلم لا بالتأويل‪ .‬وقبل الابحار في شروط مهمتي الإنسان أي تعمير الأرض بقيم‬ ‫الاستخلاف بوصف تحقيقها مهمة إنسانية هي موضوع الاجتهاد للعلم وتطبيقاته وموضوع‬ ‫الجهاد للعمل وتطبيقاته فلأنه الكلام في مسألة نفيي لنسبة الصفات لله لأنها صفات أفعاله‬ ‫لا صفاته هو بما في ذلك أسماؤه باستثناء اسمه العلم‪ :‬الله‪.‬‬ ‫فلست أشك لحظة واحدة بأن الكثير سيعتبر نفي صفات الذات المباشرة وتعويضها بصفات‬ ‫أفعالها بدعة‪ .‬لكن عدم التفطن إلى هذا الفرق لا يجعل ما يقال عن صفات الله حقيقة‪.‬‬ ‫فجلها جاء في شكل مبالغة في اسم الفاعل وليس في صفات للذات الإلهية‪ .‬فاسم الفاعل ليس‬ ‫اسم الذات في ذاتها بل هو اسمها من حيث هي فاعلة‪ .‬إنه صفة لكونها فاعلة وليس لكونها‬ ‫ذاتا لا غير‪.‬‬ ‫من يحتقر اللطائف قد يستصغر هذا الفرق لكنه جوهري‪ .‬فهذا يلغي كل التخريف هو‬ ‫الصفات في علاقتها بالذات‪ .‬فعلاقتها ليست بها مباشرة بل بأفعالها وتعدد أفعالها لا يمس‬ ‫من وحدة ذاتها‪ .‬وهذا يحول دون كل خلط بين رؤية الوحدانية القرآنية واللاوحدانية في‬ ‫المسيحية مثلا فيسقط اعتراض ابن رشد على الأشعرية مثلا‪.‬‬ ‫وأعود الآن إلى موضوعي‪ .‬فالخسر الذي هو مرحلة بعد أحسن التقويم هو الرد أسفل‬ ‫سافلين‪ .‬وهو سلوك الناسي لالتزامه في الأعراف ‪ 173- 172‬أو الميثاق وما في كيانه مما بينت‬ ‫في الفصل السادس من مقومات هي بدورها صفات أفعال الأنسان وليست صفات ذاته أعني‬ ‫الإرادة الحرة والعلم الصادق والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل فيقع في‬ ‫أضدادها‪.‬‬ ‫واضدادها هي \"الرد إلى أسفل سافلين\"‪ .‬وذلك هو الخسر‪ .‬والخروج منه هو بالتذكر‬ ‫الذي يترتب عليه الإيمان والعمل الصالح فرديا والاجتهاد أو التواصي بالحق والجهاد أو‬ ‫التواصي بالصير جماعيا في الجماعة التي يكون أفرادها قد آمنوا وعملوا صالحا أو من‬ ‫وصفتهم الشورى ‪ 38‬بالمستجيبين لربهم من البشر عامة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لماذا قلت \"من البشر عامة ولم أقل من المسلمين\"؟ كان يمكن أن اقول من المسلمين إذا‬ ‫فهمنا منها البشر عامة وهو المعنى الأول للإسلام من حيث هو الديني في كل الأديان أو‬ ‫الفطرة‪ .‬لكن الخلط بين هذا المعنى والمعنى المتعلق بالمسلمين التاريخيين هو الذي جعلني‬ ‫أقول من البشر عامة لأن الرب واحد والآلهة قد تكون متعددة بتعدد الأديان التي لا‬ ‫تتطابق مع الديني فيها جميعا أي الإسلام‪.‬‬ ‫واختيار الآية \"والذين استجابوا لربهم\" للإشارة معناه تجنب ما يمكن أن يترتب على‬ ‫استعمال \"استجابوا لإلههم\" بسبب تعدد الآلهة عند البشر‪ .‬والمعنيان لا يتطابقان إلا في‬ ‫الإسلام لأن الله عندنا هو الرب في آن‪ .‬والفرق هو أن الله خيار حر والرب حال مضطر‪.‬‬ ‫وتلك فضيلة الجمع بينهما في الإسلام‪.‬‬ ‫كيف يؤهل الإسلام الإنسان بالتعامل مع مضمون فصلت ‪53‬؟‬ ‫أولا يذكره بما جهز به لمعرفة الآفاق والأنفس وللعمل بمعرفتهما ويشير إلى مبادئ الخلق‬ ‫ومبادئ الأمر‪ .‬فالإنسان مجهز للنظر والعقد في المعرفة ومجهز للعمل والشرع في القيم‪.‬‬ ‫والخلق بقدر (رياضي تجريبي) والأمر بسنن (سياسة وأخلاق)‪.‬‬ ‫وكل هذه الإشارات مصحوبة بإشارة الإشارات المطلقة‪ .‬إنها الدعوة إلى العلم والدعوة‬ ‫إلى الخُلق واعتبار السياسة ببعديها تربية وحكما جوهر الرسالة‪ .‬ولذلك فكل من يتكلم‬ ‫على إسلام سياسي كان يمكن أن يكتفي بإسلام لو كان يفهم حقيقة الإسلام‪ :‬فالتذكير لا‬ ‫يكون إلا بالتربية والحكم أي ببعدي السياسة‪.‬‬ ‫لم يبق إلا أن ينطلق الإنسان من هذه الإشارات للبحث العلمي في قوانين الطبيعة‬ ‫وتطبيقاتها وفي سنن التاريخ وتطبيقاتها ليتأهل للتعمير والاستخلاف بمقتضى إشارات‬ ‫القرآن التذكيرية‪ .‬لكن علماء الملة بدلا من ذلك (فصلت ‪ )53‬فضلوا البقاء في الشروح‬ ‫اللفظية لنص القرآن فاعتبروا السبابة المشيرة هي موضوع البحث بدلا مما تشير إليه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فانطبق عليهم المثل الصيني الشهير‪ :‬لا يرى القمر المشار إليه بل السبابة التي تشير‬ ‫إليه‪ .‬والنص حمال أوجه دون مرجع يحتكم إليه فكان تحكم الخرافة إذ كلامه على غيره‬ ‫ليس فيه علم بل إشارة إلى ما ينبغي القيام به للعلم أي البحث في الآفاق والأنفس‪.‬‬ ‫أما العمل بفصلت ‪ 53‬ففيه ما يحتكم إليه للفصل بين الآراء والنظريات حول المشار إليه‬ ‫وهو الآيات التي يريننا الله إياها في الآفاق بنوعيها وبما بعديها والأنفس التي تشترطهما‬ ‫لقيامها مع كونها شرطهما لمعرفتهما ومعرفة التعامل معهما‪ .‬فالخلق بقدر يحتكم فيه للتجربة‬ ‫الطبيعية والرياضيات والأمر يحتكم فيه إلى سنن التجربة التاريخية والعلوم الطبيعية‬ ‫(لأن الإنسان كائن طبيعي وثقافي تاريخي في آن)‪.‬‬ ‫فنتحرر من \"وعلى قول آخر بلا حد‪ \"...‬فيبقى صراع الأقوال ثرثرة لا تنتهي وتتراكم‬ ‫الآراء التي لا يحدها مرجع يحتكم إليه من دونه لا يتطور العلم وذلك يقتضي التعدد الذي‬ ‫أساسه الاجتهاد المعتمد على التواصي بالحق في الجماعة العلمية التي تتحرر من أحوال‬ ‫نفوسها وتتبع الحق بالحجة المنطقية والشاهد التجريبي‪.‬‬ ‫ولهذه العلة لم تخرج علوم الملة من علم الكلام إلى كلام العلم في أي منها خمستها‪:‬‬ ‫التفسير وما يتفرع عنه في العلوم النظرية كلاما وفلسفة ومن العلوم العملية فقها وتصوفا‪.‬‬ ‫كلها ركام من الأقوال التأويلية التي لا مرجع لها يمكن بالاحتكام اليه الفصل بين الآراء‬ ‫والأفكار والنظريات‪ :‬خرافة بلا حد‪.‬‬ ‫وفي هذه الحالة لا يمكن أن يوجد علم وتطبيقاته تحرر من سلطان الطبيعة لأن الجهل‬ ‫بأسرارها‪-‬رغم أن القرآن قال إن الخلق بقدر أي رياضي ودعا إلى اعتبار وقائعها أي‬ ‫التجربة‪-‬لا يمكن من إبداع أدوات التعامل معها تعاملا يتجاوز العلاقة البدائية المتمثلة في‬ ‫استغلال ما تنتجه بطبعها دون تدخل الإنسان فيكون عالة‪.‬‬ ‫ونفس الأمر يقال عن التحرر من الاستبداد التاريخي في العمل والشرع أي التعامل مع‬ ‫التربية والحكم بصورة تحرر من التحكم بالاحتكام إلى سنن التاريخ التي تبين الفرق بين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التنظيم العقلي ‪-‬ابن خلدون يتكلم على عقدين عقليين للحكم‪-‬وعدم التنظيم الذي يعتمد‬ ‫على العصبية الفضية للهرج والانحطاط‪.‬‬ ‫ورأينا في شرح سورة هود كيف أنه من دون التحرر من استبداد الطبيعة (نوح) ومن‬ ‫استبداد السياسة (موسى) لا يمكن حل مشكل الاقتصاد (هود) والماء (صالح) والجنس‬ ‫(لوط) والتبادل (شعيب) وكلها معلقة بحل مشكل الوحدانية التي تحرر البشرية من‬ ‫الوثنية الاقتصادية (ربا العملة) أو الوثنية الثقافية (ربا الكلمة)‪.‬‬ ‫وبهذا أكون قد ختمت الكلام في عناصر الرسالة الخمسة‪ :‬المرسل أو الله والمرسل إليه أو‬ ‫الإنسان والرسول (الخاتم) وطريقة التبليغ ومضمون الرسالة محكمها ومتشابهها‪ .‬وقصدي‬ ‫الوحيد هو محاولة تهدف إلى منع وقوع الأمة ثانية في التقليد كما حدث سابقا وفي الحرب‬ ‫الأهلية بين العلمين النظريين (الكلام والفلسفة) والعملين العمليين (الفقه والتصوف)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذكرنا أن المحاولة فيها سبع مسائل \" خمس للرسالة والمرسل والمرسل إليه والرسول ومنهج‬ ‫التبليغ تربية وحكما\"‪ .‬وعالجنا منها خمسا وبقيت مسألتان‪ .‬واحدة لمهمة الإنسان الأولى‬ ‫وهي الاستعمار في الأرض‪ .‬والثانية لمهمته الثانية وهي الاستخلاف في الأرض مع علاقة‬ ‫متبادلة بين المهمتين وما يترتب على الفصل بينهما في التاريخ‪.‬‬ ‫ونبدأ الآن الكلام في المسالة الأولى‪ :‬مهمة الاستعمار في الأرض‪ .‬أعني المهمة التي من‬ ‫دونها لا يتحقق أمران‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولا شروط قيام الإنسان وبقائه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وثانيا اختبار أهلية الاستخلاف بمدى تطبيقه خلال الاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫والأمران لم يتحقق منهما شيء في الملة وإلا لاستحال ان تنحط فتصبح تحت نير غيرها في‬ ‫الرعاية وفي الحماية فتفد شرطي السيادة‪.‬‬ ‫والدليل القاطع على الفشل الذريع في هذه المهمة الأولى للإنسان في حضارتنا وخاصة‬ ‫في قلبها أعني الإقليم المركزي في جغرافيتها والذي تلتقي فيه القارات الثلاث القديمة‬ ‫خاصة والمعرب منه بصورة أخص هو أننا ما زلنا نعيش على ما تنتجه الطبيعة أو الثروات‬ ‫الخام من دون سهم علمي تقني وصناعي معتبر في شروط قيامنا‪.‬‬ ‫ولما كانت هذه الثروات الطبيعية تحت سيطرة المافيات الحاكمة وحماتها من الاستعمار‬ ‫وأذرعه في الإقليم فإن الدليل الأقطع هو الفقر المدقع الذي تعاني منه شعوب الإقليم في‬ ‫أكثر بلاد العرب خاصة وحتى المسلمين في الهند في قطريهما وفي الهند نفسها فضلا عن‬ ‫شعوب إفريقيا المسلمة‪ .‬وذلك هو قمة الفشل‪.‬‬ ‫والأخطر هو المفعول الخلقي والسياسي في بلاد الإسلام‪ .‬فخلقيا يعسر أن يجتمع الخلق‬ ‫والفقر الذي يبلغ فقدان الشروط الدنيا للحياة الكريمة‪ .‬فمن هذه حالته يصبح عبدا‬ ‫للحاجة ومن ثم يصبح معبوده المتحكم في حاجته‪ .‬فينتج من ثم أن الشعوب تصبح عبيد‬ ‫الحكام والمافيات المسيطرة على أدنى حاجاتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وحينئذ فلا معنى للتدين لأنه يصبح من جنس ما يقول عنه ماركس أي أفيونا وليس‬ ‫تنويرا ولا تحريرا كما هي حقيقته بمقتضى الكثير من نصوص القرآن الكريم‪ .‬وقد اعتبر‬ ‫ابن خلدون ذلك علة تحول الإنسان والشعوب إلى عالة على غيرها فتتخلى نهائيا عن‬ ‫الدفاع عن كرامتها وحريتها وتستسلم للاستبداد‪.‬‬ ‫وإذا كان الإنسان مكلفا بمهمة التعمير فمن المفروض أن يكون قد جهز بما يمكنه من‬ ‫تحقيق ذلك وأن تكون الأرض مستعدة للتعمير بمعنى أنها تتضمن ما يمكن للإنسان‬ ‫استغلاله لتعميرها‪ .‬وذلك معنى كونها مسخرة‪ .‬فذلك هو ما يمكن أن يعتبر تناسبا بين‬ ‫الفاعل والمنفعل أولا وبين المستفيد أي الفاعل والمفيد أي المنفعل ثانيا‪.‬‬ ‫وإذا صحت نظرية السبابة أو الإشارة القرآنية بديلا من نظرية الأعجاز العلمي غير‬ ‫المقبولة لما يترتب عليها من جعل القرآن تاريخيا مثله مثل العلم الذي يظن موجودا فيه‬ ‫فإن هذه العناصر الأربعة‪ -‬تجهيزا الإنسان واستعدادا الأرض طبيعة وتاريخا‪-‬ينبغي أن‬ ‫تكون موجودة إشاريا فيه‪ .‬وأن يكون ذلك الفطرة المتصلة بالتعمير ووظيفة الدين التذكير‬ ‫بها‪.‬‬ ‫وتجهيز الإنسان مضاعف‪:‬‬ ‫‪ .1‬معرفي وهو النظر والعقد وهو علاقة عمودية بين البشر والطبيعة وما بعدها‪.‬‬ ‫‪ .2‬قيمي وهو العمل والشرع وهو علاقة أفقية بين البشر في الجماعة الواحدة وبين‬ ‫الجماعات‪.‬‬ ‫وكلاهما لا يتحقق من دون وجود الجماعة وتعاونها وتواصلها جمعا بين ما هو فرض عين‬ ‫وما هو فرض كفاية‪ .‬ولا يوجد من يشكك في تجهيز الإنسان فطريا بهذين الجهازين المعرفي‬ ‫نظرا وعقدا والقيمي عملا وشرعا‪ .‬ويبقى أن نشير إلى أن القرآن مليء بالإشارات إلى‬ ‫هذين الجهازين تذكيرا في الكثير من العتاب على الإنسان الذي يصبح أصما وأبكما وأعمى‬ ‫فلا يعقل وله ضمير في التبادل والتواصل لا يعمل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهل توجد إشارات في القرآن إلى أن الأرض مستعدة للتعمير؟ ففي مستوى النظر والعقد‬ ‫يشير القرآن إلى أن الخلق بقدر (إذن يعلم بالرياضيات) وأنه يدرك بالحواس (إذن يعلم‬ ‫بالتجربة) وفي مستوى العمل والشرعي يشير القرآن إلى مفهوم التسخير دون أن يكون من‬ ‫دون جهد وسعي لتحصيله بالعمل والتعاون عليه‪.‬‬ ‫بل إن نظام تقسيم العمل شرط التعاون والتبادل وضرورة التعاوض العادل كل ذلك‬ ‫من الإشارات الكثيرة في القرآن بمعنى أن القرآن ينقل العمل لسد الحاجات كلها من فرض‬ ‫العين لكل واحد من البشر إلى فرض الكفاية المشروط في التخصص في أحد الأعمال‬ ‫والتبادل بين المختصين لسدها‪ .‬وذلك هو تقسيم العمل في الجماعة‪ .‬وهو سخرية متبادلة‪.‬‬ ‫لكن هذا التقسيم بقي في الحضارة الإسلام مقصورا على المستوى الأدنى منه ولم يصبحه‬ ‫شرطا فاعليته أعني النظام تقنيا والعدل خلقيا والمساواة بين الاختصاصات من حيث المنزلة‬ ‫والاحترام لأن السخرية التي يشير إليها القرآن ليست العبودية التي آلت إلى الطبقية‬ ‫بمعنى أن البعض صار بمقتضى السلطان السياسي والجاه سيدا والبقية عبيدا وليس أندادا‬ ‫واعتبرت بعد الأعمال شريفة والبقية دنية‪.‬‬ ‫فتمايزت الأعمال ليس بضرورتها وتساويها من حيث القيمة بل بما لدى اصحابها من‬ ‫سلطان أو من جاه غالبا ما يكون مرتبطا بالسلطان السياسي ولا علاقة له لا بالإبداع‬ ‫الاقتصادي والثقافي علميا وتقينا ولا عمليا وخلقيا ولم يتجاوز هذا التقسيم البدائي بين‬ ‫السادة والعبيد‪ .‬ومن أخطر ما ظل إلى الآن موجودا هو احتقار الزراعة والعمل اليدوي‬ ‫والخدمات‪.‬‬ ‫وقد يوجد تقسيم ثان هو دونه قدرة على الإبداع المحرر من استبداد الطبيعة وهو‬ ‫المقابلة بين البداوة والحضارة حول المدينة حيث يكون أهل المدن أصحاب الملكية والتجارة‬ ‫وما حولها أقنان أو يكادون في الأرض والأعمال التي صارت تعبر مرذوله مع رجال الدين‬ ‫والمربين الذين هم شبه مستولين اقتصاديا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكل ما يقال عن دور الأوقاف لا ينفي صحة ما أصف لأنها كانت في التربية والصحة‬ ‫ومساعدة من حددهم القرآن من أصحاب الحاجة للإنفاق عليهم من بيت المال‪ .‬كل ذلك‬ ‫كان دون الكفاف ودون الكرامة لعلتين‪:‬‬ ‫• إما لفساد القيمين عليها‬ ‫• أو لضآلتها أو لهما معا‪.‬‬ ‫وهو أمر شاهدت بعضه في حياة طلبة الزيتونة قبل أن يوحد نظام التعليم في تونس‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فإن الاستعمار في الأرض لم يكن مبنيا لا على الإبداع العلمي وتطبيقاته‬ ‫نظريه وعقديه ولا على الإبداع العملي وتطبيقاته عمليه وشرعيه بحيث إن الإنتاج بقي‬ ‫بدائيا وتقسيم العمل لم يتجاوز الزراعة والتجارة والقليل جدا من الصناعات التقليدية‬ ‫التي لا تحتاج للعلم وتطبيقاته ولا لنظام العمل وتطبيقاته‪.‬‬ ‫وما يحذر منه ابن خلدون من أمراض تنتج عن بلوغ الحضارة أوجها لم يحصل منه إلا‬ ‫القليل بالقياس إلى ما نراه في الحضارة الغربية‪ .‬وليس ذلك لأن المسلمين أفضل خلقيا‬ ‫فالشعوب كلها متماثلة ولا تصدق تخريف من يزعم أن بعض الشعوب لها أخلاق وبعضها‬ ‫ليس لها أخلاق‪ .‬فهذا من أحكام التنابز المتبادل بين الأقوام وهو بسبب التنافس‪.‬‬ ‫والثابت أن درجة الحضارة عندنا لم تلج مرحلة تحرير الإنسان من الطبيعة ولا من‬ ‫السياسية وهو معنى نكوسها عن قيم القرآن‪ .‬فالإنسان في حضارتنا بخلاف ما دعى إليه‬ ‫القرآن لم يشرح في التحرر من سلطان الطبيعة الخارجية ومن الطبيعة الذاتية للإنسان‬ ‫كما تبين ذلك مقدمة ابن خلدون في كلامها على التربية والحكم العنيفين‪.‬‬ ‫وسأختم هذا الفصل بنصه البديع في وصف ما يمكن أن يحصل عندما تصل الحضارة إلى‬ ‫أوجها وتبدأ في قتل معاني الإنسانية لأنها حضارة بلغت سن الشيخوخة الحيوية بسبب‬ ‫النكوص عن قيم الاستخلاف‪ .‬وهو أمر لم يحصل في الحضارة الوسيطة إلا للقلة التي‬ ‫استحوذت على الثروات وهم قلة والفشل يجمع بين الاستعمار والاستخلاف حينها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإليك نص ابن خلدون وفيه خطأ جسيم لأنه يكاد يرجع الفضيلة إلى البداوة والرذيلة‬ ‫إلى الحضارة دون أن ينتبه إلى أن ذلك مناف للرؤية القرآنية ومناف للحقيقة العلمية كما‬ ‫سأبين في الفصل الأخير عند الكلام على الاستخلاف بعد الاستعمار‪ .‬فلكأنه يصف حياة‬ ‫الأندلس وما آلت إليه من ضعف وتبعية‪\" :‬ومن مفاسد الحضارة أيضا الانهماك في الشهوات‬ ‫والاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب‬ ‫وطيبها ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح والزنا واللواط فيفضي ذلك إلى‬ ‫فساد النوع إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا فيجهل كل واحد ابنه إذ هو لغير‬ ‫رِ ْشدة لأن المياه مختلطة في الأرحام أو يكون فساد النوع بير واسطة كما في اللواط المؤدي‬ ‫إلى عدم النسل رأسا وهو أشد في فساد النوع إذ هو يؤدي إلى أن لا يوجد النوع ‪ .‬والزنا‬ ‫يؤدي إلى عدم ما يوجد منه‪ )...( .‬فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران في الحضارة‬ ‫والترف وأنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخد في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات‬ ‫بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد لأن الإنسان إنما هو‬ ‫إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقة للسعي في ذلك ‪ .‬والحضري‬ ‫لا يقدر على مباشرة حاجاته إما عجزا لما حصل له من الدعة أو ترفعا لما حصل له من المربى‬ ‫والترف والنعيم\" (المقدمة الباب الرابع)‪.‬‬ ‫وواضح أن الكلام لا يتعلق بوصف التطور الطبيعي للنقلة من البداوة إلى الحضارة بل‬ ‫هو ما يحصل عادة في الجمعات البدوية التي سيطرت على مجتمعات متحضرة فغرقت في ما‬ ‫توفره دون التساوق بين تطور الحضارة وتطور أخلاقها التي سنرى‪.‬‬ ‫والعلة إذن ليست الحضارة بإطلاق بل واحدة من اثنتين إما الحضارة التي لم ينتجها من‬ ‫يكون هذا مآله وتوفرت له ثمراتها فغرق فيها لأن أخلاقه لم تتطور معها وغالبا ما كانت‬ ‫هذه حالة الأسر التي وصلت إلى الحكم بالعنف والعصبيات البدوية أو لأن الحضارة كانت‬ ‫استعمارا من دون قيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهذه الظاهرات التي يصفها ابن خلدون يمكن أن تبدو ممثلة لما نراه يحدث في الكثير‬ ‫من بلاد الغرب لكنها ليست بسبب الحضارة بل بسبب الفصل بين الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬ ‫وإذن فلنا نوعان من الفساد الذي ينتج عن الحضارة‪ :‬إما للمسافة بين الحضارة والبداوة‬ ‫أو لعدم الوصل بين التعمير وقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما كان لي أن أخطئ ابن خلدون في مسألة موت الحضارات‪-‬وهو من هو‪-‬لو كان قبول‬ ‫رؤيته يبقي على إمكانية بناء خلدونية محدثة بالبحث عن تناسق المقدمة وتجاوز أحكامها‬ ‫المبنية على وجهها الظرفي بدلا من وجهها المتجاوز للظرفيات‪ .‬فحتى المقارنة بالكائنات الحية‬ ‫في حكمه لا تكفي لتأسيس القول بـموت الحضارة‪.‬‬ ‫والاستدراك على ابن خلدون لا يخرج عن مبادئه إذ هو يقول بتوارث الحضارات ومن‬ ‫ثم فالمائت ليس الحضارة بل حملتها‪ .‬ومرد الاستدراك إذن هو الاستناد إلى وجهين من‬ ‫المقدمة عندما تتجاوز الظرفي من الحضارة إلى اللاظرفي منها‪ .‬ولهذين الوجهين علاقة‬ ‫باستراتيجية التربية والحكم اللذين يمكن أن يؤديا إلى فساد معاني الإنسانية إن كانا‬ ‫عنيفين أو إلى حفظها وتنميتهما إن كانا منميين لهذه المعاني ومقويين‪.‬‬ ‫ولهما علاقة بالظاهرة الحية وهو أن مائتية الأجيال في كل نوع لا يعني مائتية النوع‪.‬‬ ‫فالأجيال بأفرادها حوامل للحياة التي تنمو بتوالي الأجيال ولا تموت مع موتها بل إن ما‬ ‫يحصل في كل جيل من تطور عضوي ينتقل إلى الجيل الموالي فتكون الحياة مستمرة بذاتها‬ ‫اللهم إلا إذا فسدت شروط بقائها‪ .‬وما يصح عليها يصح على الحضارة‪.‬‬ ‫وحينها تكون علة الموت ليس ذاتية للحياة بل لعامل خارجي مثل تغير المناخ بصورة تلغي‬ ‫شروط بقاء الحياة أو حصول أحداث جيولوجية تلغي الأنواع التي كانت موجودة كما حدث‬ ‫لانتهاء عهد الكائنات العضوية العملاقة‪-‬الديناصورات‪ -‬في تاريخ الظاهرة الحية‪.‬‬ ‫والحروب بالنسبة إلى الحضارات مثل الأحداث الجيولوجية بالنسبة إلى الحياة‪.‬‬ ‫وهي نوعان‪ :‬إما أن شعبا يقضي على شعب آخر وحضارته لكنه يرث منها ما فيها مما ليس‬ ‫عنده لأن ما فيها كان دون ما عتده مثلا كما حدث بين الأوروبيين والهنود الحمر ومن ثم‬ ‫فالحضارة لا تموت أو أن الحرب تكون مما صار ممكنا بتطور أدوات الحرب فلنتخيل قيام‬ ‫حرب نووية عالمية فإنها لن تبقي الحضارة والكثير من البشر‪ .‬وفي ما عدى ذلك فالحضارة‬ ‫باقية مثل الحياة بالتوارث‪ :‬كالعلوم والصناعات وأنماط الاجتماع والعمران‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما احتجت لهذا الاستدراك على ابن خلدون بابن خلدون ذاته من خلال تناسق المقدمة‬ ‫إلا لغايتين‪ :‬بناء الخلدونية المحدثة وتأسيس شروط الاستئناف بالنسبة إلى حضارة‬ ‫الإسلام‪ .‬فهي لن تموت فالكثير من أطوارها توارثت بعضها البعض وورثت تراث غيرها‬ ‫وستعيد الكرة‪ .‬والخاصية التي أعتمد عليها من صفات التطور في تجهيز الإنسان للنظر‬ ‫والعقد في العلاقة بالطبية وللعمل والشرع في العلاقة بالتاريخ‪ .‬والتطور المتعلق بحياة‬ ‫الحضارة بهذا المعنى نوعان‪:‬‬ ‫‪ .1‬تطور من هذا الجنس في استراتيجيات الاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫‪ .2‬وتطور في استراتيجيات الاستخلاف في الأرض‪.‬‬ ‫وهما استراتيجيتان متلازمتان‪ .‬فمثلا لو أن الغرب يتدارك استراتيجية الاستعمار في‬ ‫الأرض فلن يكون ذلك من دون الوعي بضرورة وصلها بقيم الاستخلاف‪ .‬وتلك هي العلة‬ ‫التي تجعلني أعتقد أن الإسلام هو مستقبل الإنسانية لأنه يحقق هذا الوصل بين‬ ‫الاستراتيجيتين‪.‬‬ ‫وهذا هو بالذات مدلول سورة هود كما شرحتها وعلة تشييبها للرسول الخاتم‪ .‬ذلك أن‬ ‫أهم استراتيجية لإنقاذ البشرية والعالم الطبيعي والتاريخي هي استراتيجية الوصل بين‬ ‫التعمير والاستخلاف‪ .‬فمثلا الغرب نجح بصورة لا جدال فيها في الاستعمار في الأرض‪ .‬لكنه‬ ‫فشل بصورة لا جدال فيها في الاستخلاف‪ .‬ونحن فشلنا فيهما معا‪ .‬هو ظن ان الاستعمار في‬ ‫الأرض مغن عن الاستخلاف‪ .‬ونحن ظننا أن قيم الاستخلاف ممكنة من دون الاستعمار في‬ ‫الأرض‪.‬‬ ‫والموقفان منافيان لاستراتيجية القرآن فيهما معا وخاصة في ضرورة التلازم بينهما لأن‬ ‫أحدهما شرط مادي واقتصادي والثاني شرط روحي وخلقي‪ .‬وبهذين الشرطين وخاصة‬ ‫بتلازمهما يعلل ابن خلدون بقاء الحضارات وبعدهما زوالها‪ .‬وهذا هو التصور الذي أقره‬ ‫في الخلدونية المحدثة وهو ليس استدراكا بغير ما في المقدمة بعد تخليصه من طغيان الظرفي‬ ‫على البنيوي فيها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذه هي العلة الجوهرية التي جعلتني اعتبر علوم الملة قد حرفت القرآن وخاصة‬ ‫محاولة تطويعها لتصبح معتمدة على المنطق الهيجلي الماركسي بعد أن كانت قد طوعت‬ ‫لتكون معتمدة على المنطق الأفلاطوني الأرسطي‪ .‬وهما في الغاية نفس التطويع لنظرية‬ ‫الحقيقة القائلة بالمطابقة والنافية للغيب أو عدمها‪ .‬فالصراع والتجاوز بمحو السالف‬ ‫للخالف حتى بمنطق الآوفهيبونج (المحافظة على ما يصلح) فهو غير مطابق حتى للتاريخ‬ ‫الطبيعي لأن الأدنى باق في الاعلى على الاقل لأنه شرط قيامه كما في حالة عيش الحيوانات‬ ‫الأقدر بأكل الحيوانات الأقل قدرة على الأقل بالمحافظة على شرط الدورة الطبيعية لإنتاج‬ ‫مصادر عيشها‪.‬‬ ‫والدليل القاطع في تطويع الإسلاميين رؤية الاسلام للهيجلية والماركسية أي للرؤية‬ ‫الجدلية في التاريخ هو قولهم بما يسمونه التدافع‪ .‬فهذا المعنى لا أصل له في القرآن إذ‬ ‫الآيتان اللتان تتكلمان على معنى خلط به هو دفع الله الناس بعضهم ببعض وليس تدافع‬ ‫الناس‪ .‬وشتان بينهما فالثاني يلغي ما في الأول‪.‬‬ ‫وأهم نتيجة لهذه الرؤية الجدلية هو أن ما يجري صراع قوى ولا دخل فيه للحق والباطل‬ ‫وللقيم الاستخلافية إذ هو محض تغالب بين قوتين ومن هنا صيغة المشاركة‪ .‬لكن حتى في‬ ‫التاريخ الطبيعي فإن شيئا ما من الاستخلاف موجود لأن الأدنى بمعيار إنساني شرط بقاء‬ ‫للأعلى كما في عيش الكائنات الحية بعضها من البعض ومن ثمرات الأرض التي كل إفساد‬ ‫لها قاض على الكائنات الحية بأقدار مختلفة‪ .‬نفي ذلك لن يبقى فرقا بين من يدفعه الله‬ ‫في القرآن لتحقيق غايتين هما حماية المعابد كلها وحماية المستضعفين كلهم بمنطق الأخوة‬ ‫البشرية والمساواة‪.‬‬ ‫وبهذا المنطق الجديد لا يبقى الأمر صراع قوى دون تكييف خلقي ذاتي للأحداث بل‬ ‫يكون تكييفها الخلقي تبريري ومنافقا كما في حالة التدخل الإنساني في القانون الدولي‬ ‫الحالي حيث يغلف صراع القوى بالقيم وليس هو قيميا في ذاته في حين ان دفع الله الناس‬ ‫بعضهم ببعض يعني أن الحق يدحض الباطل بذاته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فآيتا الدفع أولاهما تتعلق بحماية المعابد الدينية كلها والثانية بحماية المستضعفين كلهم‬ ‫دون تمييز بين الأديان ولا بين الشعوب المستضعفة‪ .‬والعلة هي أن من شروط الاستخلاف‬ ‫أن يعي البشر أنهم اخوة (النساء ‪ )1‬وأنهم لا يتفاضلون إلا بالتقوى (الحجرات ‪ )13‬ومن‬ ‫ثم فالتدخل معلل بحق وليس نفاقا‪.‬‬ ‫وهذان المعياران ‪-‬الأخوة البشرية والمساواة بين البشر‪-‬صالحان للسياسة الداخلية‬ ‫والدولية ومن ثم فشرط الاستخلاف أن تصبح الإنسانية في تحقيقها للتعمير تعمل عمل‬ ‫الجماعة الواحدة المراعية المتعاونة على شروط بقائها والحامية لمصدر مددها فتصبح‬ ‫الحضارة الإنسانية متنوعة ومتعاونة على ذلك‪.‬‬ ‫والمساواة في كل شيء لئلا يبقى لتحديد المنازل إلا التقوى ‪-‬أي احترام القانون‪-‬يجعل‬ ‫البشر متحررين من منطق التدافع أو صراع القوى كما لو كانت الإنسانية اسرة واحدة‬ ‫يتقاسمون العمل وثمرته بما يتراضون عليه من القواعد والمبادئ بوصفهم أحرارا \"رؤساء‬ ‫بطبعهم بمقتضى الاستخلاف الذي خلقوا له\"‪.‬‬ ‫وهيجل لا يرفض الإسلام والثورة الفرنسية إلا لقولهما بهذه المبادئ التي يعتبرها غير‬ ‫واقعية على الأقل لأنها تنفي الفروق الناتجين عن المولد وعن الثورة‪ .‬وهو لو عاش إلى‬ ‫اليوم لفهم أن ما أصبح أول مطالب الشباب في العالم هو المطالبة بهذه الأخوة والمساواة‬ ‫بين البشر وحماية مصدر حياة البشر‪.‬‬ ‫ولو ترجمت هذين المطلبين لدى شباب العالم في لحظتنا الراهنة لكان ذلك هو عين‬ ‫المقصود بجعل الاستعمار في الأرض يكون بقيم الاستخلاف‪ .‬فقيم الاستخلاف اليوم هي‬ ‫المناداة بالأخوة البشرية والمساواة بين البشر والمناداة بحماية البيئة ومصدر حياة البشر‬ ‫وقد تكونت أحزاب لهذه المهمة في الغرب ذاته‪.‬‬ ‫ولهذه العلة اعتبرت كل الدراويش الذين لا ينفكون عن الكلام على الحروب الصليبية‬ ‫من جنس اليمين الأوروبي‪ .‬فالإسلاموفوبيا عند هؤلاء يناظرها الغربوفوبيا عند أولئك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكلتاهما منافية لقيم الاستخلاف كما حددها القرآن‪ .‬شباب الغرب تجاوز هذه المرحلة‬ ‫وعلينا أن نتجاوزها لنعتمد قيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫وبذلك يكون القرآن الجامع بين التعمير والاستخلاف مستقبل الإنسانية التي بدأ شباب‬ ‫الغرب يفهم أنه مهدد وأن علاجه يقتضي أن يخضع التعمير للاستخلاف بمنطق كوني لا‬ ‫يستثني أحدا من البشر لأنهم اخوة (النساء ‪ )1‬ولأنهم متساوون ولا يتفاضلون إلا بالتقوى‬ ‫(الحجرات ‪ .)13‬وما يصح دوليا يصح محليا‪.‬‬ ‫وإذا كان النظر والعقد تجهيزا فطريا للإنسان من أجل التعامل مع الطبيعة والتاريخ‬ ‫بأدوات معرفية تقنية تحقق شروط البقاء للبشر فإن العمل والشرع تجهيز فطري للإنسان‬ ‫من أجل التعامل معهما بأدوات قيمية خلقية تحقق شروط التبادل والتواصل بين البشر حتى‬ ‫يكون العمل وثمرته متقاسما بينهم بالعدل والرحمة‪.‬‬ ‫ولذلك فالآية ‪ 38‬من الشورى جمعت بين المسألتين مسألة الاستخلاف ومسألة التعمير‬ ‫فبدأت بالأول وانتهت بالثاني‪ .‬فالأول هو الاستجابة للرب والثاني هو الإنفاق من الرزق‪.‬‬ ‫وبين البداية والغاية حددت طبيعة نظام الحكم وأسلوبه فكان أمر الجماعة الذي تسوسه‬ ‫بالشورى في ما بينها‪ .‬ويصدق عالميا ومحليا‪.‬‬ ‫بل إن القرآن ألغى المقابلة‪-‬عالمي محلي‪-‬لأن رؤيته لدولته هي أن تكون دولة واحدة في‬ ‫المعمورة كلها لأن مصدر القيام الإنساني واحد وهو العالم والخصومات بين البشر علتها‬ ‫التنافس عليه‪ .‬فإذا صار الرزق للجميع انتفت الحاجة للاقتتال على ما للجميع فيه حق‬ ‫بصرف النظر عن سكناهم قربا أو بعدا منه‪.‬‬ ‫فتوزع الثروات الطبيعية في العالم غير مطابق لتوزع البشر على سطحه وذلك هو أصل‬ ‫صراع الجماعات عليها‪ .‬ولا يمكن أن يكون من شاءت الصدفة أن يكون في مكان فيه الكثير‬ ‫من الثروات أن يدعي أنه صاحبها لأنها ملك الله وليس ملكه‪ .‬ويصح ذلك أيضا على توزيع‬ ‫الذكاء والإبداع فلا يمكن أن يدعي شعب أنه صاحب ابتكارات نوابغه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهذه هي بدورها ثورات طبيعية لأن توزيع العبقرية ليس كله مكتسبا ‪-‬بنظام التربية‬ ‫والحكم وهذا فيه الكثير من الصحة‪-‬لكن أساسه فطري مثله مثل توزيع الثروة في الأرض‪.‬‬ ‫فهو مثلها موزع بصورة غير مطابقة لتوزع البشر عليها وكلاهما من ثروات الطبيعة ومن‬ ‫تاريخ الحضارة التي تتوالى فيها الجماعات وتتوارث‪.‬‬ ‫فالبشرية يستفيد الخالف منها من جهد السالف لأن الثروات والإبداعات تتراكم بفضل‬ ‫تراكم الخبرة وخاصة طرق استغلال ثروات الطبيعتين الخارجية والداخلية‪ .‬ومن ثم فلا‬ ‫ينبغي أن يبقى نوعا الثورة الطبيعية سواء في الارض أو في البشر حكرا على من جعلته‬ ‫الصدفة حائزا عليهما فيحرم باقي البشر منهما‪.‬‬ ‫كذلك يتحقق التناسق بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف مهمتين للإنسانية كلها‬ ‫بمبدأي النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬فيعم الإسلام الذي معناه العميق هو السلام بين البشر‬ ‫وبنيهم وبين غيرهم من المخلوقات وخاصة مع مصدر حياتهم وشرط بقائهم‪ :‬المحافظة على‬ ‫سلامة العالم تلويثه ماديا وروحيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬