أبو يعرب المرزوقي نجاعة معيار الفصل بنوعي الإحالة القرآنية الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 9 - -الفصل الثالث 17 - -الفصل الرابع 23 - -الفصل الخامس 29 - -الفصل السادس35 - -الفصل السابع 41 - -الفصل الثامن 46 - -الفصل التاسع52 - -الفصل العاشر 58 - 64
-- لم أذكر معيار التمييز بين المحكم والمتشابه إلا اليوم ،حتى وإن عملت به في التفسير بصورة غائمة .فالتأكد من نجاعته التفسيرية كان يقتضي تخليص ما سميته بوظيفة السبابة في القرآن عما يسميه البعض اعجازا علميا .وقد كانت أعسر مسألة اعترضتني في فهم دور الرسالة التي اعتبرتها تشير وتوجه ولا تتضمن مدونة علمية .وحتى ما تشير إليه من الغيب فهي تشير إلى وجوده دون تضمن علم مضمونه لأن ذلك لو حصل لكان إعلاما بما لا يعلم بشريا وهو عمل مطلق التناقض فضلا عن تناقضه مع معنى الرسالة :كيف يمكن لرسالة أن تبقى رسالة إذا تضمنت ما لا يمكن للمرسل إليه أن يفهمه وهي تشير صراحة إلى أن الغيب محجوب على الإنسان عامة بمن في ذلك الرسل؟ فيكون مفهوم الغيب في القرآن مفهوما حدا بالمعنى الإبستمولوجي للكلمة أعني أنه بيان لحدود العقل والعلم الإنساني ومن ثم فهو نفي للقول بنظرية المعرفة المطابقة .وهو معنى اقترب منه الغزالي في ما سماه \"طور ما وراء العقل\" لكنه نكص دونه عندما توهم أن ذلك هو الكشف الصوفي .ومن فهمه حق الفهم رجلان :أولهما ابن تيمية بشرح أدق فاعتبره ما وصفه بلا تناهي التفاضل بين التصورات المتوالية والثاني هو ابن خلدون عندما نفى رد الوجود إلى الإدراك أي القول بنظرية المعرفة المطابقة. وإذن فالسبابة تشير وتوجه ولا تعين مضمون ما تشير إليه إنما هي توجه إليه بصيرة الإنسان للبحث العلمي فيه حتى يكون ذلك خدمة مهمتيه تعميرا واستخلافا بالعمل على علم. واعتقد أن الله قد فتح علي بهذا التمييز وصوغه الدقيق منا منه وتفضلا بعد ما تقدمت في تحديد بنية القرآن العميقة بوصفه رسالة تذكير كما يعرف نفسه هدفها تحديد استراتيجية توحيد البشرية حول مفهومي التعمير والاستخلاف بشروط هي ما يشير إليه القرآن بوصفه \"سبابة\" موجهة وليس مدونة علمية تغني الإنسان عن البحث العلمي في ما أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- يرينه الله من آيات في الآفاق وفي الأنفس (فصلت )53وتوفيق الرسول الخاتم بإنشاء عينة منها هي الأمة الإسلامية. فهدف الرسالة كما يعرفها القرآن في كلامه على نفسه بوصفه رسالة خاتمة تذكر الإنسان بما فطر عليه ونساه وتصلح ما حصل من تحريف على الرسالات السابقة التي تذكر بنفس الفطرة مع تطور في التشريعات التي تمكن من تربية الإنسان وحكمه من أجل تحقيق المهمتين :الاستعمار والاستخلاف بظرفيات أحياز وجوده. والإنسان هو المرسل إليه-مع غيره من المكلفين على الأقل نوع ثان هو الجن (الرحمن)- والله هو المرسل والرسالة هي القرآن والناقل هو الرسول والهدف من الرسالة كما أسلفت هو التذكير بالفطرة وإصلاح تحريف الرسالات السابقة لأن الرسالة كونية وتوجيه إلى شروط تحقيق هدفي الإنسان وبعدي العبادة التامة أعني ما لأجله كرم الإنسان فكلف بالتعمير والاستخلاف في أحيازه الخمسة التي يتقوم بها. والأحياز الخمسة هي: .1حظه من المكان .2والثروة التي يكتشفها فيه .3وحظه من الزمان .4والتراث الذي يتراكم فيه .5والمرجعية الروحية التي تضفي المعنى على وجوده وعلاقته بالعالم الطبيعي وما بعده والعالم التاريخي وما بعده مع وصف عمل تجهيزيه لهذين المهمتين أعني القدرة النظرية والعقدية لمعرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ والقدرة العملية والشرعية للتعامل معهما تطبيقا لما علمه من القوانين والسنن. ثم يأتي وصف القرآن للسانه ومبناه ومعناه وطبيعته من حيث هو رسالة تذكير وتوجيه وتأسيس لنظام التربية (مثاله اللحظة المكية) والحكم (مثاله اللحظة المدنية) أي بعدي السياسة الإنسانية بمستوييها في تكوين الإنسان ليكون منتجا بعمله لتموينه بما يستخرجه أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- من الأرض من خيرات وما في التعاون بين البشر من تحصيل بشروط التبادل والتعاوض العادل برعاية شرعية هي جوهر مفهوم الدولة القرآني كما حددته الشورى .38 وكل ذلك من المحكم .لأنه كلام القرآن على القرآن .فيكون القرآن هو الرمز وهو المرموز أو هو القول الأول في النص أو الموضوع الذي يشير إليه الكلام الثاني في الكلام الأول: • خطاب • وما بعد خطاب (.)Discours et Métadiscours والأول هو خطاب القرآن على موضوعات الرسالة الخمسة .والثاني هو خطاب القرآن على خطابه المشير إليها. ولما كان متن القرآن محدودا ومتناهيا وتاما فإن درسه النسقي ممكن سواء بالفرض والاستنتاج كما أفعل في محاولي فهم بنية القرآن العميقة أو بالاستقراء التام كما يفعل جل المفسرين عادة وخاصة القائل منهم بأن القرآن يفسر نفسه بنفسه (ابن رشد وابن تيمية مثلا) .ومن ثم فلا حاجة للنظر في موضوع خارجي عدى أداة التواصل التي هي اللغة التي يركز القرآن على دورها في التواصل والتعاقل :وهذا علم آلة وليس علم غاية. وبعد أن يشير القرآن إلى هذه العناصر الخمسة بمقوماتها ينتهي المحكم .فما عداها موضوعات خارجية وظيفة الرسالة تعيينها وتعيين علاقاتها وثم تترك دراسة أعيانها وكلياتها وقوانينها وسننها للبحث العلمي عملا بفصلت 53من حيث هي المشار إليه في النص المحكم والتي كل مضمونها في القرآن من المتشابه نجتهد لعلمه دون تأويل لما بعده. والعناصر الخمسة هي: .1المرسل أو الله .2والمرسل إليه أو الإنسان .3والرسالة أو مضمون التذكير وإصلاح التحريف .4والرسول صفاته وأخلاقه ودوره (كما حددته الغاشية 22-21والإسراء )106-105 أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- .5وطريقة التبليغ وتثبيت مضمون الرسالة وهما معنى السياسة أعني التربية والحكم شرطي قيام الإنسان بمتعلقاته وتجهيزه في النظر والعقد وفي العمل والشرع فردا وجماعة. وهذه المسائل درستها وجمعتها في ما سميته \"المعادلة الوجودية\" التي تعطينا حبكة القرآن كله أو بنيته العميقة: ففي قلب المعادلة نجد: .1العلاقة المباشرة بين الإنسان والله الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد .ثم نجد على يمين هذه العلاقة .2العالم الطبيعي .3وما بعده (أي أفعال الله) .ونجد على يساره .4العالم التاريخي .5وما بعده (أي أفعال الإنسان). فإذا أغلقنا المخمس حصلنا علاقة بين الماورائين وهي علاقة مجانسة للعلاقة المباشرة بين الله والإنسان التي تكون في هذه الحالة محيطة بالطبيعة والتاريخ ومحاطة بهما .فنفهم حينها أن المابعدين هما عين ما بين الله والإنسان من علاقة مباشرة أعني التفاعل بين الخليفة (الإنسان) والمستخلف (الله) .وتلك هي دراما القرآن الكونية وبنيته العميقة أعني بنية إشارتيه إلى علاقة العالمين الدنيوي والأخروي في الدنيا (وذلك هو جوهر التاريخ الزماني) وفي الآخرة (وذلك هو جوهر التاريخ اللازماني أو السرمدي). وهذه المعادلة محكمة من حيث هي إشارة السبابة .لكنها متشابهة من حيث ذات كيانها. ومعنى ذلك أن المعادلة محكمة الإشارة ومتشابهة المشار اليه أي إن علمنا بالله وبالإنسان وبالطبيعة وبالتاريخ وبالعلاقة المباشرة وبالعلاقة اللامباشرة بين القلب وما يحيط بهما من يمينهما وشمالهما كلها مجال المتشابه لما فيها من علاقة بين الشاهد منها والغيب. فنفهم حينئذ كيف يكون القرآن كله متشابها مع ذلك وبعضه محكم .فالمحكم فيه هو دوره كسبابة أي كلامه عن ذاته من حيث هي فعل إشارة إلى هذه المعادلة وتحديد عناصرها أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- المقومة وهو فعل سميته سبابة كناية وكلامه على ما يشير إليه هو المتشابه فيه وهو ما على الإنسان البحث في اعتمادا على فصلت 53وتجنب ما نبهت إليه آل عمران .7 ولما كان القرآن يتكلم على كل الموضوعات التي ذكرت فهو كله متشابه من هذا الوجه. والتأويل رد للوجود إلى إدراك الشاهد منه .وهو غير العلم الذي نحن مطالبون بالبحث لتحصيله أي لتحصل قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وهما ضروريان لتحقيق مهمتي الإنسان أي التعمير والاستخلاف في الارض .ومن الإشارات أن القرآن يعلمنا أن الطبيعة لها قوانين رياضية لأن كل شيء من الخلق بقدر والتاريخ له سنن ثابتة لأنه من الأمر بإرادة. وطلب القوانين الرياضية التي ينتظم بها العالم الطبيعي والسنن التاريخية التي ينتظم بها العالم التاريخي يعتبران من أهم مصادر الحجج القرآنية في الاستدلال على وجود الله وعلى وحدانيته وصفاته وأفعاله وعلى رعايته للكون والإنسان وكل المخلوقات وهذه القوانين والسنن هي سياسة الكون الإلهية وموضوع الإيمان. وعلم هذه القوانين والسنن اجتهادي وهو لا يعتمد على القول بنظرية المعرفة المطابقة بل على العكس تماما وهو أن المطابقة مستحيلة لأن شرطها العلم المحيط وهو لا يوجد إلى عند الخالق والآمر .والنهي عن التأويل هو بالذات الزعم بأن هذا العلم نهائي وتلك هي دلالة المطابقة إذ هو تحقق الأمر. ودعوى المطابقة تعني أن العلم مطابق للموضوع ومن ثم فهو تحقق الامر بمثل القول بإيقاعه بالفعل وتلك هي الدلالة المنهي عنها في التأويل وليس التأويل بمعنى الشرح أو التفسير .وهما المعنيان اللذان يستعملان عند القائلين بالمقابلة بين الحقيقة والمجاز من جنس المقابلة في تعبير الرؤى والأحلام. والعلم تمثيل مؤقت لما نفترض عليه الأشياء دون الزعم بأن التمثيل الرياضي مطابق لحقيقة الشيء الرياضية كما خلقها الله .ففي هذه الحقيقة ما ليس مشهودا وهو غيبها. ونفس الشيء بالنسبة إلى السنن التاريخية لأن ما نفترضه لفهمها ليس مطابقا للأمر الألهي الذي جعلها تكون ما حصلت فعلاما نعلمه هو صورتنا عنه. أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- وقد يكون أفضل مثال يحسم القصد من التأويل الذي تحرمه الآية السابعة من آل عمران هو مثال الأحكام الشرعية النموذجية في القرآن مثل قطع اليد في السرقة .وهي نموذجية بمعنى ما يقاس على شكلها المتعلق بشروط التشريع المقبول من الإنسان من حيث هو خليفة وليس على مضمونها لأن شكلها يحدد صفات التشريع الذي يرضاه القرآن فيكون تشريعه النموذجي تشريعا للتشريع وليس تشريعا للنوازل :وهذا من المستوى الثاني من الخطاب القرآني أعني المتكلم على القرآن وأحكامه وليس على الموضوعات الخارجية التي تتعلق بها الأحكام .فأولا لا بد من التمييز بين حكم السرقة ومقدار العقاب الذي هو قطع اليد. ومقدار العقاب هنا هو الحد الاقصى .وشرطه أن يكون القاضي ذا علم محيط وهو شرط ممتنع. ولا يكون شرطه حاصلا إلا في حالة واحدة هي الحالة التي تقول بالمطابقة بين علمنا وحقيقة الشيء في ذاته .وهذا لا يقول به أحد إلا إذا تلقى وحيا من الله .إنها حالة واحدة بعد الله هي حالة متلقي الوحي أي الرسول .وكل قاض من بعده علمه ناقص ومن ثم فلا يحق له أن يطبق الحد الأقصى من العقاب كما حدده النموذج. ولذلك فعندي أن \"تلك حدود الله فلا تقربوها\" لا تصح على مقترف الجريمة وحده بل هي تصح كذلك على القاضي لأن تطبيقها فيه المستحيل أو زعم العلم المحيط في محددات الفعل الذي يحكم فيه .لا بد أن يكون الحكم فيه اعتبار لما لا نحيط به علما وألا يكون القصد بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ذهابا به إلى غايته .فظاهر العلم ليس كافيا لتطبيق غاية مقدار العقوبة بل ينبغي التخفيف وهو من مجال اجتهاد القاضي المتصف بصفتي الحكم أي الإخلاص للشرع والعدل في الحكم (النساء .)58 وإذا لم نفعل ذلك نكون كمن ظن أن القاضي العادي مثل الرسول بل ومثل الله في قضائه إذ هو يزعم أن الحكم من المحكمات وأنه من القطعيات وأن الأمر جاء بالقطع ولم ير أن الأمر يتعلق بحالة الإطلاق في النموذج وليس بحالة النسبية في التعيين .فالحكم في المطلق شيء والحكم في الأعيان شيء ثان .وبينهما بون لامتناه. أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- والبون اللامتناهي هو مما لا يحيط به علم الإنسان .وعلته هي الظروف الحافة بالوقائع والظروف التي حصل فيها الجرم وأحوال المجرم والجماعة وهلم جرا من المحددات لحصول الجريمة فضلا عن اعتبار إمكانية الخطأ في الوصف القانوني للجريمة نفسها ولدوافعها وفضلا عن كون النص أشار إلى الحد الأقصى من العقوبة .والفاروق علم ذلك وطبقه حتى وإن لم يشر إلى كيفية فهمه للفرق بين الحكم ومقدار العقوبة التي ألغاها في تلك الحالة دون أن يلغي الحكم لأن السرقة حصلت فعلا ومن ثم فحكمها باق وما ألغي هو العقوبة. ولو ميز الفقهاء بين الحكم الذي هو وصف قانوني للفعل ومقدار العقوبة الذي هو في حالة الجرائم حماية للقانون والجماعة وليس انتقاما من المجرم وعلموا أن الانتقال من مطلق النموذج إلى تعيينه في الأحداث العينية يقتضي اعتبار ما يفضل به النموذج المطلق على العيني النسبي لكان ذلك حائلا دون تنمر السفهاء فيدعون تاريخية أحكام القرآن بسبب خلطهم بين الحكم الذي هو سرمدي ومقدار العقوبة الذي هو تاريخي. فالتاريخي في الأحكام القرآنية هو نوع العقوبة ومقدارها وليس الحكم الذي هو ثابت سرمديا .ذلك أن السرقة جريمة بصورة مطلقة لأنها حوز يدعي ملكية هي حوز اغتصابي وليست ملكية أي من دون حق الملكية الذي هو أساس الحياة الجماعية وشرط التبادل والتعاوض العادل أساس كل تسالم بين البشر .ومن ثم فهي بالضرورة جريمة بسبب كونها استحواذ على حق الغير أو حيازة دون مقابل من العمل أو من العوض لصاحبها .وهذا جريمة في كل الشرائع السماوية أو الأرضية .والمقدار تاريخي. لماذا هو تاريخي؟ لأن الوعي بالحقوق وسلطان القانون تاريخي وهو متناسب مع الترقي الخلقي للإنسانية .ففي مجتمع جاهلي حيث كان كل شيء مبني على القوة وعلى إغارة الأقوياء على الضعفاء لا يمكن لمن يريد أن يغير ذلك وأن يبني دولة القانون إلا أن يطبق أقصى العقوبة .ولما توجد دولة قانون تتغير مقادير العقوبة لتغير الثقافة. وسأضرب أمثلة من القرآن نفسه ولن أكتفي بمثال الفاروق إذ قد يقال إنما هو قد اجتهد وليس ذلك حجة على القطعيات القرآنية .ولن اكتفي بواحد بل سأضرب ثلاثة أمثلة. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- والأول وهو جلي يتمثل في أن الشرع وضع شروطا تجعل حد الزنا شبه مستحيل التطبيق من إقامة الدليل فضلا عن مهرب التلاعن بين الزوجين إذا اختارا تأجيل الحكم بينهما ليوم الدين. لكن المثال الثاني أكثر دلالة على التمييز بين العقوبة والحكم وإمكانية تخفيف العقوبة بل والوصول بها إلى حد إلغائها .فهل توجد جريمة أكبر من جريمة الحرابة؟ فهي سرقة عنيفة ومن ثم فهي في الحقيقة جريمتان في آن .ولذلك فلها عقوبتان مجتمعتان هم قطع اليد (حكم السرقة) والساق من خلاف (حكم العنف بقطع الطريق) .ومع ذلك فالقرآن وضع شرطا يلغي العقوبة دون الحكم :استسلام المحارب للدولة قبل قدرتها عليه. والثالث أكثر دلالة منهما معا وهو من عجائب الحكمة القرآنية :فيمكن القول إن القرآن هو أول نص ديني سعى إلى الغاء القصاص العيني في بما يشبه من تغيير حكم الاعدام بالنسبة إلى أكبر جريمة إنسانية وهي قتل النفس. فهو يشجع أهل القتيل على العفو بل ويلزم الدولة بدفع الدية إذا كان القاتل عاجزا عن ذلك وحصل من أسرة القتيل القبول بها والعفو أي التخلي عن الثأر .فيكون أول نص ديني أعطى بديلا عن القصاص العيني دون أن يلغيه كمبدأ لأن القصاص حياة .والمعلوم أن القصاص العيني من جنس المقايضة في الاقتصاد نفس بنفس مثل بضاعة ببضاعة .وبذلك يمكن انتقال الإنسانية من العقاب المادي إلى العقاب الروحي الذي هو أكثر نجاعة في التربية القرآنية مثلما أن العملة التي تغني عن المقايضة أكثر نجاعة في الاقتصاد. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- لما وضعت معيار الفصل بين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم بدوت وكأني أقطع بصورة نهائية مع تعريفات المفسرين والمتكلمين والفقهاء والفلاسفة والمتصوفة أعني مع علماء الملة بالعلوم الغائية الخمسة .وهو أمر يبدو فيه دعوى بحاجة إلى أدلة إن لم تكن حاسمة فلتكن على الأقل مقنعة بما تحققه من تجاوز للإشكاليات الزائفة فيها. فمن خصائص المعرفة العلمية أن اثباتها يحتاج إلى مبدأين: • أحدهما هو مبتدأها • والثاني هو منتهاها. فمن مبتدأها معيار تناسق الفرضية منطقيا، ومن منتهاها معيار نجاحها في تفسير ما وضعت من أجله. ولنقل إذن إن شرطي كل معرفة علمية هما التناسق المنطقي لفرضيتها التفسيرية والنجاح التفسيري لتصورها للموضوع. والمبدأ الأول هو الأيسر إثباتا لأن الفرضية تشبه التقدير الذهني الذي يكفي فيه أن يكون تصورا تتناسق مقدماته مع نتائجه المطلوبة فيكون التناسق متعلقا بما ننطلق منه من مقدمات تعتبر مقدما وما ننتهي إليه من نتائج تعتبر تـاليا .ومن ثم فالتناسق هو نظام متماسك من العلاقات الشرطية المتصلة بين مقدم وتال. ومبدأ النهاية هو تطبيق قاعدة نقيض التالي يفيد نقيض المقدم .فتكون التجربة هي الاختبار الذي يؤكد التالي أو ينفيه فيثبت إلى حد ما صحة الفرضية أو خطأها خاصة إذا تكررت التجربة واتفق أهل الاختصاص على دلالتها .وكلما تقدمنا في الاختبار أمكن لنا أن نصحح الفرضي .وتصحيحها هو التقليل من الشذوذ في التفسير .وهذان المبدآن هما ما سأعتمده لبيان الوجاهة. خصص ابن خلدون في المقدمة فصلا للمحكم والمتشابه لخص فيه كل الآراء الواردة في المسألة (الفصل 16من الباب السادس :في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة) أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- انطلاقا من الآية السابعة من آل عمران .وهو أميل إلى اعتبار \"و\"ـها استئنافية لا عطفية. لكن كل الآراء تبدو بعيدة عن الفصل الواضح والعملي لعلاج الإشكال. ولا أنوي مناقشة الفرضيات القديمة .فنقاش ابن خلدون كاف .ولا أعتقد أني أستطيع أن أزيد على ما قدمه .لكنه هو نفسه لم يصل إلى تعريف دقيق للفصل بين المحكم والمتشابه رغم أنه لمح إلى طريق الحل عندما وصل الأمر بعلاقة القول بمرجعه .ما يعني أن هذه العلاقة هي مربط الفرس .ومنها فرضيتي هذه إذ اكتفيت بالتمييز بين المرجعين: مرجع المحكم ومرجع المتشابه .ولذلك فما يميز فرضيتي هو بساطتها: .1فالمحكم هو ما كان القرآن محيلا فيه على نفسه من حيث هي نظام الإشارات لغيره. .2والمتشابه هو ما كان القرآن محيلا فيه على غيره من حيث هو مشار إليه دون كلام في مضمون المشار إليه. وكلا الصنفين قابل للتحديد الدقيق والنسقي والجامع المانع .فيكفي أن نحدد أصناف إحالات القرآن إلى نفسه من حيث هو نظم إشارات إلى غيره وأصناف الإحالات إلى غيره من حيث هي المشار إليه حتى نحسم هذه القضية الجوهرية .وبساطة هذا المعيار تجعل الفصل قابلا لأن يدركه أي قارئ مهما كان مستوى معرفته بالقرآن لأنه يكفي أن يأخذ المصحف وأن يقسم آياته إلى جنسين: .1كل ما يتكلم فيه القرآن على نفسه من حيث هو مشير إليها بوصفها مشيرة إلى غيرها وذلك هو الـمحكم. .2كل ما يتكلم فيه القرآن على غيره من حيث هو مشار إليه فيه هو الـمتشابه. ثم يمكنه أن يفرع الجنسين بحسب الوجوه التي تأتي بها الإشارة تعريفا لذاتها أو للمشار إليه بها. فلماذا يعتبر هذا الفصل حاسما وجامعا ومانعا في الجنسين؟ أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- فلنبدأ بالمحكم :القرآن يتكلم عن نفسه من حيث هو نظام إشارة لذاته ولغيره .ومن ثم فالقرآن هو موضوع الكلام .ولما كان نص القرآن متناه وهو بين دفتي المصحف فيمكن استقصاء كل الآيات التي تتكلم عليه والتي تجعله موضوع كلامها من حيث هو نظام إشارات لذاته ولغيرها .فالعملية استقرائية بسيطة لمجموعة متناهية. وسنعود إلى الكلام في هذه المجموعة المتناهية ونحاول بيان ما تنقسم إليه من أنواع .أما المجموعة الثانية وهي الأكبر من حيث العدد فهي كل ما يتكلم فيه القرآن من مشار إليه أي من الأشياء التي ليست ذاته بل هي مرجعيات كلامه على الطبيعة وعلى التاريخ وما بعدهما وعلى الله وعلى الرسول وعلى الرسالة وعلى الإنسان وعلاقاته بهذه الموضوعات. ومن هذا الحصر الجامع المانع أمكن لي وضع فرضية المعادلة الوجودية .فقلبها أو حدها الأوسط هو العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه .ثم ما قبلها أي الطبيعة وما بعدها (الله). ثم ما بعدها أي التاريخ وما بعده (الإنسان) .فتكون العلاقة المباشرة بين الله والإنسان حدا أوسط في القلب وحدا أوسط في المابعدين .لأننا إذا ولنا الطبيعة وما بعدها والتاريخ وما بعده التقى المابعدان وهما عين القلب .وتلك هي دائرة المعادلة الوجودية ولها قطبان هما: .1العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه أو قلب المعادلة. .2العلاقة غير المباشرة بين المابعدين. ففي هذه العلاقة غير المباشرة تكون الطبيعة والتاريخ بما بعدهما وسطين بين الإنسان وربه .والطبيعة بما بعدها يمكن اعتبارها أفعال الله .والتاريخ بما بعده يمكن اعتباره أفعال الإنسان إذا بسطنا الأمور لكنهما في الحقيقة هما مجال تفاعلهما. ذلك أن الطبيعة هي مجال استعمار الإنسان للعالم أي تعميره .والتاريخ هو مجال استخلافه في العالم أي تعييره بقيم علاقته بربه .ولما كان ما به يعمر الإنسان العالم هو ما جهز به وهو طبيعته بنحو فإن التعمير ليس فعلا إنسانيا خالصا بل فيه ما هو إلهي إن صح أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- التعبير أو ما ليس بـمكتسب بإطلاق بل هو تجهيز فطري في الإنسان بمقومات كيانه الخمسة للنظر والعمل. ومقومات كيانه الخمسة هي: .1إرادته الحرة .2وعلمه الصادق .3وقدرته الخيرة .4وحياته الجميلة .5ووجوده الجليل إذا بقي سليم الفطرة. وقد تفسد فيه الفطرة أو ما يسميه ابن خلدون معاني الإنسان فتصبح: .1إرادته مضطرة .2وعلمه كاذبا .3وقدرته شريرة .4وحياته قبيحة .5ووجوده ذليلا. والتاريخ يصنع بالنوعين السوي والمنحرف بمعنى أن هذه المقومات التي هي أفعال الإنسان تتفاعل في التاريخ فيكون التاريخ وكأنه اختبار للنوعين من حيث نتائجهما على الإنسان والعالم. فيكون صنع التاريخ إنسانيا لكنه جامع بين الاستعداد الفطري للخيارين بين السوي والمنحرف .ويكون التاريخ هو بدوره جامعا بين الربوبي والإنساني بين الفطري والمكتسب منه ومن ضديده .وهو معنى \"خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين\" أو الخسر ومعنى الاستثناء منه بما أوضحته سورة العصر. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- وإذن فالخسر هو الإرادة المضطرة والعلم الكاذب والقدرة الشريرة والحياة القبيحة والوجود الذليل أو ما يسميه ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية وهو قابل للتدارك لأن علته معلومة .إنها نسيان الإنسان لما فطر عليه من حرية وصدق وخير وجمال وجلال أو \"رئاسة الإنسان بطبعه وبمقتضى الاستخلاف\". إنه تعريف الرسالة بكونها تذكيرا وليست تعليما لمجهول لدى المتلقي .فنكتشف التحديد الجامع المانع لما يتكلم فيه القرآن من متشابه ويجمعه معنى الرسالة التذكيرية: .1المرسل أو الله. .2المرسل إليه أو الإنسان. .3الرسول أو مبلغ الرسالة ومعلمها. .4مضمون الرسالة. .5طريقة التذكير أو السياسة التي التربية والحكم. وهذا من المفارقات :فتحديد المتشابه المشار إليه أعني كلام القرآن على غيره الذي هو المجال الأوسع أيسر تصنيفا من المحكم الذي هو المجال الأضيق تصنيفا أعني كلام القرآن على نفسه من حيث هو مشير .والعلة هي أن المشار إليه هو المطلوب من الإنسان تحقيقه شروطا لمهمتيه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها .وحتى يكون التصنيف الثاني أدق فينبغي أن نقول إن مجاله يتسع لما نحلل هذه العناصر الخمسة أو معنى الرسالة التذكيرية. فليس أوسع من مجال كلام القرآن في الله وفي الإنسان وفي الرسل وفي مضمون الرسالة وفي طريقة التبليغ تعليما وحكما .فمثلا الكلام الإشاري في الإنسان :فيه ذاتيا ثم في علاقاته بالعالم الطبيعي وبالعالم التاريخي وبما بعدهما .وذلك هو جوهر موضوعات الأنثروبولوجيا والكسمولوجيا والثيولوجيا والانطولوجيا .إنها مجالات تشابه لامتناه .ولا يمكن علاجها بتأويل آيات القرآن بل بعلم آيات الله في الآفاق والانفس وهو علم اجتهادي لا يدعي الإحاطة لما في الوجود من الغيب. أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- وهذا الكلام هو أصل المتشابه والتأويل المنهي عنه .فلماذا؟ ووهم الإعجاز العلمي علته الخلط بين الكلام الإشاري والعلم الذي هو ما يترتب من بحث على المحددات الدقيقة للأشياء ولا يكتفي بالإشارات العامة التي توجه الإنسان إليها .فالقرآن لا يتكلم في هذه المجالات كلام العلم بل هو يؤدي دورا سميته دور \"السبابة\" أي إنه يشير إلى حيث ينبغي أن يتوجه اهتمام الإنسان ليعلم ما عليه عمله من أجل تحقيق مهمتيه :التعمير والاستخلاف لا غير. ولأضرب أمثلة حتى يفهم القصد بـ\"السبابة\" التي تشير وتوجه في عملية التذكير بما فطر عليه الإنسان في علاقته بذاته وبغيره وبالعالم الطبيعي والتاريخي وبما بعدهما. .1ففي علاقته بذاته بدنه وروحه يذكره بحرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود ترغيبا وبعكسها ترهيبا. .2في علاقته بالعالمين الطبيعي والتاريخي يذكره بأن العالم هو مصدر مدده وشرط قيامه العضوي خاصة ومن ثم يحدد له القيم التي تترتب على كونه حر الإرادة صادق العلم خير القدرة جميل الحياة جليل الوجود إن حافظ على سلامة فطرته أو عكس ذلك كله إن قبل بتحريفها وتلك هي مسؤوليته وعلامة حريته. .3وفي علاقته بما بعد العالمين الطبيعي والتاريخي ينبهه إلى مقام الخلافة الذي هو منزلته الوجودية وذلك على المستويين المعرفي والخلقي .فعلى المستوى المعرفي جهز الإنسان بالقدرة على الإدراك المعرفي شرط النظر والعقد وعلى المستوى الخلقي جهز بالقدرة على الإدراك القيمي شرط العمل والشرع. وهذه التجهيزات الأربعة -النظر والعقد والعمل والشرع-هي علاقته بالمابعدين .فلولا الأولين لما أمكن له أن يعلم الطبيعة والتاريخ وذاته وعلاقتها بهما وبما يوجد وراءهما مما يعلل ما هما عليه .ولولا الثانيين لاستحال عليه أن يدرك أن الكون ذو نظام وأنه لا يمكن أن يحقق مهمتيه من دون تنظيم عمله الذي ينبغي أن يكون على علم. أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- وأخيرا فالإنسان له بالفطرة الوعي بالمعادلة الوجودية حتى عندما ينساها فلا يستعمل ما جهز به .فهو ينطلق من علاقته اللامباشرة بربه أي إنه ينطلق من الطبيعة ومن التاريخ ليطلب قوانين الأولى وسنن الثاني فيضع بوعي أو بغير وعي ما وراء لهما فتعيده علاقته اللامباشرة بربه إلى علاقته المباشرة :وتلك هي الطريق التي تم الوصول بها إلى الأديان التي تبدأ طبيعية وتنتهي منزلة. .4يوجهه القرآن إلى بداية الطريق في البحث عن قوانين الطبيعة لما يعلمه بأن كل شيء خلق بقدر فيفهم أن قوانين العالم رياضية .ويوجهه إلى بداية الطريق في البحث عن سنن التاريخ لما يعلمه بان مجراه على سنن لا تتبدل ولا تتحول وهي غير قوانين الضرورة لأنها سنن الحرية فيها الضديدان. .5ثم يعلمه بأنه مكلف بالتعمير شرطا في الاستخلاف وبأن الاستخلاف مستحيل من دون التعمير الذي يحرر من الحاجة إلى عبادة العباد بدلا من عبادة رب العباد .لكنه التعمير لا يضمن الاستخلاف لأنه من دون يتحول إلى التدمير بدل التعمير وفي ذلك تحديد لعلاقة العالمين الدنيوي والاخروي في حياتنا .ويعلمه بمقتضى ذلك بأن الرسول ليس وسيطا ولا وصيا عليه فردا كان أو جماعة في الغاشية 21و:22 • فأولا الرسول مطالب بأن يذكر وليس هو وسيطا بين الله والإنسان وتلك مهمته كمرب. • وثانيا الرسول مطالب بأن يحكم (أن يكون حكما بمبدأي النساء )58وليس وصيا بين الجماعة وأمرها وتلك مهمته كحكم. والمهمتان بهذا التعريف نموذجيتان بمعنى أن الرسول نموذج المربي ونموذج الحاكم. والنموذج الأول تعين خاصة في المرحلة المكية .والنموذج الثاني تعين خاصة في المرحلة المدنية .وهما يتعلقان بتكوين إنسان حر الإرادة صادق العلم خير القدرة وجميل الحماية وجليل الوجود :وتلك هي أخلاق القرآن. أما البحث بالتأويل عن علوم في القرآن فهو تحريف يؤدي إلى تخلي الأمة عن مهمة التعمير بالبحث العلمي وتطبيقاته والإيهام بأن القرآن يغنيها عن مهمتيها فهو من علامات أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- الكسل الذهني والتأويل الفاسد الذي نهت عنه آل عمران .7وهو هروب من تحقيق أمر فصلت .53 والله اعلم. أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- وسواء كان كلام القرآن من المحكم أو من المتشابه فينبغي أن نميز فيه بين: .1كلام القرآن من حيث هو كلام الله نفسه. .2وكلام القرآن الراوي دون تبن لما يرويه والراوي المتبني. .3كلام الله الناقد للتحريفات. .4كلام الله العارض للعقائد والشرائع الإسلامية. .5الكلام على طبيعة الرسالة الخاتمة باعتبارها الديني في الأديان أو دين الله. فالقرآن فيه الكثير مما قد يؤدي إلى خطأ جسيم في التعامل معه .فهو في قصصه يروي أشياء لا شيء يدل على انه يتبناها .وبين أنه لا يتبنى الكفر الذي يرويه عند نقده للتحريف .لكن توجد أمور يعسر بيان موقفه منها كما في رأي ملكة سبأ في الملوك وهي تتكلم على نبي. فهل يقر القرآن حكمها؟ وعندما تقارن موقف القرآن الصريح من الرسالات التي تستدل بخرق العادات وموقفه من القرآن الذي المعجز فيه هو الاستدلال بالنظام وليس بخرقه تتساءل هل القرآن يقر النوع الأول من الاستدلال هو يروي ما يعتقده أصحاب تلك الأديان دون أن يكون ما يقره القرآن بدليل وصفها بكونها للتخويف .وعندما يجعل الإيمان بالكتب السماوة شرطا في صحة اسلام المرء فهو طبعا لا يعنيها في شكلها المحرف بل ما تصبح عليه بعد مراجعتها بمنطق التصديق والهيمنة. ومن هنا المسالة التي يبالغ فيها أصدقاء القرآن وأعداؤه .فأعداؤه يحاسبون القرآن بما يرويه لكأنهم يكذبون ما يرويه لتوهمهم أن كتاب تاريخ .وأصدقاؤه يصدقون ما يرويه وكأنه من الوحي .وكلا الرأيين خطأ .فالرواية تأتي في الغالب في سياق نقد التحريف .فلا يمكن نقد عقائد أو أي شيء من دون شواهد .وهذه رواية لا تفيد التبني. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- ولذلك فالفصل الذي وضعته للتمييز بين المحكم والمتشابه يتعلق بما يتبناه القرآن بوصفه من حقائق الرسالة الفاتحة والخاتمة أي الإسلام وما يقره من الرسالات التي يطهرها من التحريف بمنطق التصديق والهيمنة .لكنه لا يشمل ما في القرآن من رواية لا يقرها القرآن وإنما يوردها كما هي عند أصحابها. فما يرويه القرآن دون أن يقره لا هو من المحكم ولا هو من المتشابه بل هو نوع ثالث لأن فيه كلام حول ما اعتبرناه من المحكم أي روايات حول القرآن من أقوال أعداء الرسالة الخاتمة وكلام حول ما اعتبرناه من المتشابه أي روايات حول غير القرآن لكنها كلها ليست من كلام القرآن بل مما يرويه دون اقراره .كلام القرآن كلام الله وحده. ومن ثم فما هو رواية في القرآن ليس من كلام الله بمعنى أنه ليس مما يتبناه القرآن ومما يعتبر قائله ابتداء الله نفسه .إنما هو رواية لكلام غيره .فعندما يقول القرآن رواية عن الإنسان أو عن الشيطان أو عن الملائكة فذلك رواية وليس كلاما قائله الله .المحكم والمتشابه اللذان يعنياننا هما مما يقوله الله في إشارته لذاته أو لغيرها خبرا أو إنشاء. وبهذا المعنى فما يوجد في المصحف من كلام ينقسم إلى نوعين غير نوعي المحكم والمتشابه: .1كلام قائله الله وهما المحتويان على الحكم والمتشابه. .2وكلام يرويه الوحي من كلام من يتكلم عنهم القرآن أو يتكلمون عن القرآن. ومن يتكلم عنهم القرآن أو يتكلمون عنه وعما يتكلم فيه يصف القرآن مواقفهم وآراءهم شواهد مما يريد نقده وعلاج ما فيه من تحريف وهو إذن موضوع الوجه النقدي من القرآن بمعيار التصديق والهيمنة. وكلاهما يستعمله المسلم في الوظيفة النموذجية لما جاء في القرآن .لكنه يستعمل الأول لأنه موجب كله .ولا يستعمل من الثاني إلا الموجب .ويترك السالب أعني أنه يقتصر على ما يبقى بعد التصديق والهيمنة .مثال ذلك أنه لا يبقي من اليهودية والمسيحية والصابئية إلا الشروط الثلاثة في البقرة 62والمائدة :69الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- وما يبقي كذلك هو ما في الأديان المحرفة مما يرد إلى الإسلام بمعنى التحرر من الأوثان وعبادة الله وحده .ويعتبر شرائعهم التي يقرها كتابهم دون أن يتناقض مع الشريعة الإسلامية مقبولا .والحصيلة هي أن التصديق والهيمنة مبدؤه هو الديني في كل دين أو دين الله فيها وهو الإسلام بوصفه الدين الكلي بداية وغاية. والشروط الثلاثة -الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح -هي الديني في الأديان. ويمكن بصورة أتم ردها إلى شروط الاستثناء من الخسر الخمسة كما حددتها سورة العصر: .1الوعي بالخسر أو بما يترتب عن النسيان ويستدعي الرسالات للتذكير وتتفرع عنه أربع شروط هي: .2الإيمان .3والعمل الصالح .4والتواصي بالحق .5والتواصي بالصبر. الآن وقد حددنا المتن القرآني ما هو وما الذي يعنينا منه في مسألة التمييز بين المحكم والمتشابه يمكننا أن نعود إلى شرح القصد بأن القرآن \"سبابة\" تشير وتوجه وهو إذن ليس مدونة علمية يمكن أن نجد فيها قوانين الطبيعة أو سنن التاريخ كما يزعم من يتكلم على الأعجاز العلمي في القرآن بأي معنى كان. وحتى لا يقع الخلط بين المضمون العلمي والمضمون الذي سميته بالإشارة والتوجيه فلا بد أن نفهم أن الإشارة والتوجيه القرآنيين ليسا من العلم بمعناه الإنساني الذي هو تاريخي بالجوهر بل هما من العلم المحيط الذي لا يمكن أن يكون لغير الله يخبرنا به ولا نجد له تفسيرا في القرآن خبرا دالا على وجود الغيب. فعندما يقول القرآن بكلام منسوب إلى الله وليس رواية عن غيره {إن كل شيء خلقناه بقدر} فهذا خبر عن أمر غيبي يصدقه ما تتأسس عليه فصلت 53التي تقول إن ما يرينه أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- الله من آياته في الآفاق وفي الأنفس هو الذي يبين أن القرآن حق .فعلمنا بآيات الله في الطبيعة يثبت أنها خاضعة لقوانين رياضية. لكنك لا تجد في القرآن هذه القوانين الرياضية بل على الأنسان الاجتهاد في البحث عنها. هو أشار أو وجه إلى البحث عن \"خلق بقدر\" البحث الذي يثبت أن المخلوقات مخلوقة بقدر أي ببنى يمكن أن نكتشفها عندما نبدع الرياضيات فنتأكد من أن قوله تعالى كل شيء خلقناه بقدر حقيقة فنتبين أن القرآن ما فيه من حقائق لا تدرك من دون البحث العلمي. والبحث العلمي هنا ليس شرح الكلام القرآني بل كشف قوانين الظاهرات الطبيعية التي تثبت ما أشار إليه القرآن من أن كل شيء خلق بقدر .والقدر هنا ليس محددا بل هو مبدأ عام يصبح محددا بما يتوصل إليه البحث العلمي الذي يكتشف الأقدار في الموجودات موضوع البحث العلمي .وهي دائما محددة ومعينة وليست مجرد مبدأ. ولأضرب مثالا حتى يتضح الفرق .فلو قلت إن نظام العالم محكوم بالجاذبية فقد أشرت إلى موضوع بحث هو الجاذبية .لكني لم أقدم قانونا علميا .لكن إذا اكتشفت بالبحث العلمي أن قانون الجاذبية الذي هو قانون معين ومحدد بدقة لتألفه من ثابت مضروب في حصيلة ضرب كتلتي الجرمين المتجاذبين مقسوم على مربع المسافة التي تفصل بينهما أكون قد عملت القانون فانتقلت من الإشارة لمعنى الجاذبية بين الأجرام التي خلقت بقدر إلى قانونها العلمي بتحديد ما خلقت به من عدد وهو هذه العبارة الرياضية لقانون الجاذبية العلم. ولن تجد في القرآن شيئا من هذا أبدا لأن القرآن يطالب الإنسان بالاجتهاد لاكتشافه ويشير إلى أن الله قد جهزه بما يمكنه من ذلك. ما في القرآن هو من النوع الأول أي الإشارة إلى الجاذبية بين الأجرام التي خلقت بقدر وليس من النوع الثاني الذي هو العلم المحدد بهذا القدر .فهو يقول كل شيء خلقناه بقدر لكنه لم يحدد القدر .لو فعل الثاني لكان مدونة علمية .ولأنه لم يفعل إلا الأول فهو \"سبابة\" أو إشارة أو توجيه إلى ما على الإنسان القيام به اجتهادا علميا لمعرفة محددة لهذا التعريف لطبيعة نظام المخلوق. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- وهذا التمييز يصح على المحكم صحته على المتشابه .ففيهما معا لا يمكن أن نستغني عن البحث العلمي ونكتفي بالتأويل أي برجم الغيب .ذلك أن المحكم أيضا فيه غيب .مثال ذلك أن كلام القرآن على ذاته ليس كله قابلا للعلم من قبلنا رغم أنه محك بمعنى ان ما جاء منه في القرآن لا يمكن تجاوزه .فعبارة المعلوم من الدين بالضرورة اجتهادية في علمنا وليست مطلقة رغم أنها مطلقة في ذاتها. ومعنى ذلك أن القطعيات لا تعني المعرفة المطلقة بل تعني ما يقطع به بوصفه من مبادئ دين معين أي إنها من مسلماته التي من دونها لا يكون ذلك الدين بعينه .والقطع هنا يعني إيقاف التسلسل في علاقة الوعي الإنساني بالوجود وألغازه .وهو في حالة الإسلام أعلى ما يمكن الوصول إليه في التعليل. فلا يمكن في محاولة تعليل الظاهرات الطبيعية والظاهرات الإنسانية تجاوز ما وصل إليه إبراهيم في آيات الأفول .ومعنى ذلك أن أفضل نظام معلوم في عصره كان الفلك .فكان تأليه الأجرام السماوية المرحلة قبل الأخيرة للوصول إلى المبدأ الأسمى أي مبدأ الوحدانية للمبدأ الذي يوجد وراء نظام العالم .ولا يوجد دليل علمي على هذا المبدأ ولذلك فهو مبدأ إيماني من دونه يستحيل الشروع في البحث العلمي .لكنه ليس علميا .هو شرط العلم وليس علما .والعمل كذلك له شرط لكنه ليس عمليا :وهو التمييز بين القيم. ونظام العالم في أسمى ما فيه -مسالة الأفول-يشمل نظام الوجود الإنساني أو التاريخ وذلك ما توصل إليه إبراهيم .وهو ما اكتمل في صوغ الإسلام النهائي كما ورد في القرآن وكما صاغته بوضوح سورة هود بحديه وما بينهما من مسائل خمسة كما سبق أن شرحتها. ولأذكر بها سريعا حتى نتقدم في العلاج. فالرسول المخاطب فهم ما شيبه منها .والثورتان-ثورة نوح وثورة موسى -وما بينهما مضمون عقيدته وشريعته .الإسلام استراتيجية لتحقيق الهرم مسدس القاعدة وواحد القمة وهو ما يسعى الإسلام على تحقيقه :التحرر من سلطان الطبيعة وسلطان التاريخ وما بينهما من مسائل الثروة والماء والجنس والتبادل العادل بالوحدانية. أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- لكن الحدين لا يكفيان لتحقيق الثورتين .لا بد من علاج: • سلطان المسيطرين على الثروة (هود) • وعلى مصدر الحياة الأول أو الماء (صالح) • وعلى مصدر الحياة الثاني أو الجنس (لوط) • وعلى شروط التبادل والتعاون والتعاوض العادل (شعيب). فثورتا نوح وموسى لا تكتملان بغير ذلك مع ثورة قلب المعادلة وحدها الأوسط أو ثورة التوحيد (ابراهيم). فـما دور نوح؟ ثورة تحرر الإنسان من سلطان الطبيعة بالتقنية والزراعة (صنع السفينة وأعاد شروط قيامه بأخذ زوجين اثنين من كل شيء). وما دور موسى؟ ثورة تحرر الإنسان من سلطان التاريخ بالثورة على استبداد فرعون وهامان وتحرير الإنسان من الطغيان السياسي في التاريخ .ذانك هما الحدان. فالسورة فيها سبعة أنبياء وتتوجه إلى نبي ثامن هو الرسول الخاتم .وفي السبعة إبراهيم يمثل القلب |أو الحد الأوسط .فقبله ثلاثة وبعده ثلاثة .والحدان هما نوح وموسى. وبينهما هود وصالح قبل إبراهيم ولوط وشعيب بعده .وإذن فعندنا هرم قاعدته مؤلفة من ستة رسل وقمته من القلب وهو إبراهيم في السورة والمخاطب هو الرسول الخاتم وهو إبراهيم الثاني أو محمد صلى الله عليه وسلم. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- بقي في المحاولة سبعة فصول :خمس للمرسل والمرسل إليه والرسول ومنهج التبليغ تربية وحكما والرسالة طبيعة ومضمونا ومخاطبا بها وواحدة لمهمة الإنسان الأولى وهي الاستعمار في الأرض والثانية لمهمته الثانية وهي الاستخلاف في الأرض مع علاقة الأول بالثاني وعلاقة الثاني بالأول وما يترتب على الفصل بينهما في التاريخ. فالعلاقة بينهما وصلا وفصلا هي التي تحدد الوضعية التاريخية للأمم بمعنى الرئاسة الإنسانية التي تتجاوز المقابلة بين الحرية والعبودية لأن هاتين هما الحالتان اللتان تمر بهما الرئاسة .فهي منزلة وجودية للإنسان من أجلها خلق وهي عبادة إن كانت لله وحده صارت حرية وإن أشرك صاحبها تصبح عبودية. وذلك هو قصد ابن خلدون بتعريف الإنسان \":رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .ومعنى ذلك أن ِخلقة الإنسان بذاتها (وهو معنى بطبعه) أهلته لأن يكون رئيسا في عالم المخلوقات -لأنه إنما خلق ليعبد الله أي ليدرك أفعاله وفضلها-والعلة هي الاستخلاف أي كونه بهذا الادراك يعمل على علم فتكون الغاية خلقية والأداة اقتصادية (تعمير الأرض). ولأنه يعمل على علم فهو مسؤول .ولذلك كلف .والتكليف هو صنع التاريخ بمعايير الاستخلاف فيحاسب على إثبات جدارته بالاستخلاف أو عدم جدارته .فيكون الاستعمار في الأرض هو الامتحان الاستخلافي .ولذلك فمن العسير الفصل بينهما لأن الاستخلاف معيار خلقي والتعمير معيار اقتصادي للقيام العضوي و\"تقني\" لتحقيق الرئاسة والغاية من ذلك كله خلقية وروحية بوصفها تحررا من استبداد الطبيعة ومن استبداد الدولة. وقبل الشروع في درس الموضوعات السبعة أختم بتحديد من المخاطب بالرسالة :الإنسان عامة .لكن بمعنيين: .1الأول هو الإنسان الأمي أي الذي لم تتلق أمته رسالة بعد. .2من تلقت أمته كتاب وحرفه معلموها وحكامها. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- ولما كان القرآن يقول إن لكل أمة رسولا بلسانها قبل القرآن فإن الإسلام يشمل الإنسانية .وشموله لا يقتصر على التاريخ الإنسانـي منذ نزوله بل هو يشمل الإنسانية حتى التي تقدمت على نزوله .فهو يشمل ما تقدم بمعنيين لأنه يتكلم على الفطرة أولا وهي كونية (الأعراف )173-172ويشمله ثانيا لأنه تعرض لكل ما حرف من الرسالات بالتصحيح بمبدأ التصديق والهيمنة .لم يشذ أحد من شموله للإنسانية. والآن أبدأ بأول عناصر الرسالة وأسماها :المرسل أي الله كما نؤمن نحن المسلمين .ولا يوجد من لا يؤمن بمصدر إرسال في كل الأديان سواء كانت سماوية أو طبيعية إذ حتى الطبيعية ففيها مصدر ينسب إليه الدين حتى لو كان إنسانا كما في البوذية مثلا .فهو لا يعتبر المصدر الإنساني إلا بوصفه ملهما من قوة ما متعالية عليه. ومفهوم الله من المتشابه ليس في ذلك شك .ولذلك فهو من أكبر معضلات علم الكلام ذاته وصفاته .لكني أعتقد أن الإشكال جاء من كون القرآن يخاطب الإنسان بلغة الإنسان أو بصورة أدق بما يقبل القول بأي لغة انسانية ولا تفاضل بين اللغات فيه .ولذلك فهم يسقطون عليه مفادات اللغة عندهم لكأنه واحد منهم .وعلة ذلك وهم المطابقة بين الدلالة التي للألفاظ عند الكلام على الإنسان والتي لها عند الكلام على الله. لكن الذات لا تعلم والصفات لا وجود لها في القرآن .ووهم وجودها علته اعتبار صفات فعل الله صفات لله .الموجود هو الأفعال وصفاتها .وإذن فالصفات ليست لذاته بل لأفعاله. وأسماؤه هي صفات أفعاله وليست صفاته هو .وغالبها ما تكون صيغ مبالغة من اسم الفاعل وليست صفات للذات .فعليم مثلا صيغة مبالغة من اسم الفاعل عالم .وجبار صيغة مبالغة من اسم الفاعل جابر إلخ... والأفعال نستنتجها من المفاعيل سواء كانت في الطبيعة أو في التاريخ أو فينا نحن. والصفات نستنتجها من الأفعال .فلا يمكن أن ندعي أن لله صفات فنبحث عن علاقتها بالذات إذ لا توجد صفة يمكن أن تناسب ذات الله .لكن أفعاله مناسبة لذاته .وترد كل أفعال الله في القرآن إلى فعل واحد له وجهان :كن الخالقة وكن الآمرة .وبقية صفات أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- الافعال هي ما يدركه المتلقي للخلق أو للأمر من معاني الفعلين بحسب ما يشعر به من رحمة أو نقمة. وحتى ما يبدو انفعالا لأنه تلق لرد فعل هذا من الموجودات مثل سماع الدعاء والاستجابة فهو أيضا فعل بمعنى أن ما يتلقاه الله هو علة خلق الإنسان مثلا وهو لموضوعية الحكم فيه طاعة أو عصيانا .وما يبدو انفعالا هو فعل تمكين الإنسان من الضدين حتى يكون تعيير أهليته للخلافة مبنيا على حكم موضوعي فيكون من ثم فعلا إلهيا يجعل الطاعة والعصيان لهما نفس الشروط للحصول حتى لا يحتج الإنسان بالجبر في سلوكه فيدعي أن الله لو أراد لمنعه من عمل الشر مثلا .وهذا شرط الحرية والمسؤولية. وإذن فلما نتلقى الرسالة ونسمع الله يتكلم في القرآن نتذكر ما يوجد فينا من مثيل لهذا الصوت في ذواتنا يعتبر ما نسمعه في القرآن تذكيرا من جنس ما نشعر به من أفعال في الطبيعة وفي التاريخ لا نستطيع لها فهما إلا بنسبتها إلى \"شيء\" ما وراءهما وله فعلان واردان في القرآن :خلقهما وأمرهما بكن. فكل من يدعي التوقف عند المخلوقات وسلوكها وكأنها صانعة ذاتها وآمرتها يكذب على نفسه وعلى غيره إذا ادعى أنه يعتقد ذلك حقا .ذلك أن أول شيء يكذبه أنه يعلم أنه ليس خالق نفسه ولا يستطيع أن يدعي أنها سرمدية ولم يسبقها عدم وجودها ولن يلحقها عدم بقائها .الإنسان نفسه دليل وجود الله وفعليه الخالق والآمر. ولهذه العلة وحدها يمكن القول بلا جدال إن الدين فطرة لا يستثنى منها إنسان وربما أيضا أي موجود آخر سواء كان حيا أو جامدا .فالطبيعة نفسها يتداول عليها الوجود والعدم وتخضع لقوانين .والأول علامة على أنها مخلوقة والثاني على أنها مأمورة .وافتراض ذلك حاصلا بذاته هو التأليه البدائي للطبيعة. وما أطلت الكلام في ذلك إلا لأنه عين ما يقوله القرآن وما يستدل به على وجود الله ووحدانيته ويمكن القول إن فضل إبراهيم في القرآن يرد لاكتشافه ذلك في قصة الأفول. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- فهو ينطلق من أرقى دين طبيعي في تاريخ الإنسانية أعني عبادة الأفلاك ليثبت أنها بصفة الأفول وحدها ليست جديرة بأن يتوقف قطع التسلسل التعليلي عندها فالمبدأ وراءها. وأقصى ما يصل إليه الملحد دليل كذبه على نفسه وليس دليل نفي وجود الله .فهو بين حالتين :إما جاحد لفشله في الطلب أو رافض للتناقض بين صفات الله وصفات العالم .فما في العالم من شرور يمكن أن يشكك في وجود الله عندما ينسى أن ذلك من شروط مهمتي الإنسان :أن يفعل وأن يكون حرا ليكون مسؤولا عن فعله. فإذا اختار نفي الماوراء فهو كأنه اعتبر اختياره الألحاد ليس اختيارا بل اضطرارا بمعنى أنه ألحد بالصدفة وليس نتيجة لاستدلال إذ مجرد الكلام على الاستدلال يعين النظام العقلي .فهو دليل نظام وليس دليل صدفة .إثبات الإلحاد بالعقل لا يمكن حتى لو قال صاحبه بالاستسلام للصدفة .وهو أعسر ألف مرة من أثبات وجود الله بمعايير العقل الإنساني أو بحساب الاحتمال. ويبقى مع ذلك مشكل :كيف لما وراء الوجود كله أن يعنى بالإنسان كل هذه العناية وأن يخلقه ليعبده وأن يكرمه وأن يستخلفه وأن يتعاقد معه وأن يرسل له رسل بلسانه؟ هذا هو اللغز الأكبر في الدين .ففي فلسفة أرسطو مثلا الرب لا علاقة له بالعالم ولا يعنى به ولا يتلفت إليه ولا يعلم حتى بوجوده. العلاقة الوحيدة التي يعترف بها أرسطو هي محاكاة الأفلاك للعقول ومحاكاة العقول لله وذلك هو العالم الأسمى والآلة التي بحركتها تنضج ما يوجد في العالم الأدنى من كون وفساد ليخرج من القوة إلى الفعل أو من عدم الصورة إلى الصورة التي يكون عليها وبها تتمايز الكائنات في الوجود الفاني خلال العود الأبدي. وليس المحير أن الله يعنى بالإنسان إلى هذا الحد بل يمكن القول إن القرآن كله \"تسخيط\" على الإنسان وكله نقد مقذع لما فيه من نكران الجميل ومن صفات الخفة الخلقية والعناد السفسطائي ما يجعل الله وكأنه يعترف بأن خلقه للإنسان يكاد يكون خطأ في الخلق ومع ذلك أعطاه فرصة ثانية عله يهزم شيطانه. أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- وهذا هو الوجه الغيبي من الخلق والأمر في القرآن .فكل تأويل لهذه المعطيات الواضحة والصريحة في القرآن دليل على زيغ القلب وابتغاء الفتنة .ولهذه العلة أرفض القول بالمقاصد في التشريع مثلا .ذلك أن محاولة توسيع نطاق الشرع خطأ مرتين: • أولا القياس عليه مستحيل. • وثانيا لأن القرآن فيه مخرجا أفضل وأيسر. فالقياس عليه يعني أن القائس يرى وجوه الشبه في الأحكام ولا يرى عدم وجودها في الشارع .وثانيا المخرج موجود في القرآن لأن تحديد شروط التشريع المقبول في القرآن دون قياس ولا مقاصد هو الذي أسميه التشريع للتشريع ومنه مثلا صفتي ال َحكم أن يكون أمينا وعادلا .والأمانة والعدل معلومان. فالأمانة تكون لأصل التشريع .والعدل يكون بعدم المفاضلة بين طرفي النزاع خلال تطبيق التشريع .فأما أصل التشريع فهو أخلاق القرآن وأما عدم المفاضلة فشرطه أن يطبق مبدأ الحجرات 13الذي يقصر التفاضل عند الله على التقوى .فيكون معيار العدل هو اعتبار مدى أمانة الخصمين وعدلهما .وهذا من مفارقات القضاء بالمعنى القرآني. فالقاضي الذي يتصف بالأمانة والعدل هو الذي يقضي بما لدى الخصمين من الأمانة والعدل في الخصومة .فإذا تبين له خلل الأمانة والعدل عند أحدهما علم أنه هو المعتدي لأن عدوان إنسان على إنسان ليس عليه مباشرة بل هو عدوان على حقوقه من قبل من لا أمانه له ولا عدل .فيكون معتديا على شرع الله لشرع الإنسان قبل خصمه .الله يشرع للشرع ولا يشرع للنوازل. وهذا لا يصح على الشرع الديني وحده بل على كل شرع حتى العلماني وحتى الملحد إذا عمقنا البحث رغم أنه لم يتضح أول مرة إلا في القرآن .فالقاضي لا يحكم من دون معيار للحكم .وبالعدوان على المعيار وليس على الخصم إلا بالتبعية يحدد الخصم المعتدي. فالخصم المعتدي على الثاني لا يكون معتديا عليه إلا بالعدوان على المعيار :عقاب المعتدي حماية للمعيار قبل حماية المعتدى عليه بـإرجاع الحق لصاحبه. أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- ولو لم يكن الأمر كذلك واقتصر على حجج الخصمين كما في القانون المدني الحديث لكان ذلك ليس إقامة للعدل بل تشجيع للتنافس في التحيل إما خلال كتابة العقود أو خلال تحريف تأويلات بنودها بحسب قدرة المحامين خلال المرافعات وربما تواطؤ القضاة الذين ليس لهم صفتا الحكم. أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- وبخلاف ما يتوهم الكثير فإن المرسل إليه-الإنسان -أعسر على الفهم من المرسل -الله-في القرآن .فيمكن القول إن القرآن يكاد يكون مقسوما مناصفة بين المرسل والمرسل إليه أي بين الله والإنسان .وأعتقد شخصيا أن هذه المنزلة علتها أن كيان الإنسان هو المفتاح \"لاستشفار\" القرآن والوجود لأن معضلة المعضلات الوعي بالذات وبالوجود. حتى إنه بالوسع القول إن من يدعي تصورات الإنسان للرب كلها مجرد اسقاط لصورته على الله فيه شيء من الحقيقة .فالإنسان لا يستطيع تصور الله .وهو إذا تصوره فلا يمكن أن يتجنب هذا القياس على ذاته .ولا ضير في ذلك إذا تعلق بصورة الإنسان عن الله وليس باعتقاده رد ذات الله في ذاتها إلى تصوره عنها. وهذه المعضلة لا تصدق على تصورنا لله فحسب بل حتى على تصورنا للعالم الطبيعي والتاريخي .فنحن لا نفهمهما من دون قيس أفعالهما على أفعالنا إذ نبحث عن صورة منهما تقاس على تقنياتنا فنعتبرهما هما بدورهما جهازين آليين في علاقات ميكانيكية تحكمهما وكل فلسفة تؤول في الغاية إلى استعارات من تقنياتها .فكل الفلسفات سواء في الطبيعة أو في التاريخ أو في ما ورائهما لا تخرج عن هذا القياس بين تقنياتنا وآليات عملهما. والخطأ ليس في القياس بل في توهم المطابقة بين المقياس والمقيس المطابقة التي لا يرى أصحابها إلا وجه الشبه ويغفلون عن وجوه الاختلاف وهي مما لا يقدر كما وكيفا .وليكن مثالنا قياس الله على الإنسان .فمقومات الإنسان ندركها في ذاتها أي أفعاله (أن يريد وأن يعلم وأن يقدر وأن يحيا وأن يوجد) وتصاغ في شكل أسماء وكأنها صفات هي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .فننسب مثلها إلى الله .وننسى الفرق الجوهري وهو علة التأله بمعنييه عند الإنسان .فللتأله معنيان: التأله الصوفي وهو تأله يتوهم صاحبه أنه صار عالما بالغيب .ومن المتصوفة من يذهب إلى حلول الله فيه أو حلوله هو في الله .ومثله كل أصحاب خلق الكبر من المبدعين ومن يعتبرون أنفسهم ذوي فضل على غيرهم في أي مجال فكري. أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- والتأله السياسي وهو تأله يتوهم صاحبه الاستبداد السياسي بلوغا درجة الألوهية. فالمستبد يتصور أن له سلطانا مطلقا مثل الله .والوعي بالفرق هو المقابلة بين النسبي والمطلق في هذه المقومات. صحيح أن الإنسان له إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود .لكنها كلها نسبية .وكل عاقل - بل وتلك علامة العقل الحقيقية-يدرك أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده كلها \"صفات\" محدودة وأن مجرد العلم بذلك هو أصل الإيمان بوجود الله الذي له الإرادة (فعال لما يريد) والعلم (يعلم بإطلاق) والقدرة (قادر على كل شيء) والحياة (قيوم حي لا يموت) والوجود (لامتناهي الوجود) وهي إذن كلها مطلقة ولا متناهية للتضايف. والتضايف بين هذه المقومات النسبية عند الإنسان يقتضي أن الوعي بها ملازم للوعي بمقابلاتها المطلقة عند الله .وذلك من أهم الأدلة التي استعملها ديكارت مثلا لإثبات وجود الله .ذلك أن أي عاقل لا يمكن أن يدعي إدراك المائتية ونسبية حياته من دون أن يدرك معها السرمدية والخلود وإطلاق الحياة. وهذا التضايف يثبت سطحية الرؤية التي يقول بها من يعتبر القول بالإطلاق استكمال وهمي لعدمه عند الإنسان .فهذا حتى لو سلمنا به يصدق على صورة الإنسان لله وليس على حقيقة التضايف الذي أحد طرفيه فعلي وليس مجرد صورة ذهنية .ومن ثم فطرف التضايف الثاني حقيقة وليس مجرد صورة في ذهن أحد الطرفين. وسواء صح الاستدلال الديكارتي أو لم يصح فإن الأهم من ذلك هو أن الإنسان من حيث هو إنسان يحتوي على كل الغاز الوجود ومن ثم فمنزلته الوجودية من حيث هو له القدرة على الوعي بذاته وبما حوله هي التي تجعله يشغل مساحة من القرآن تعادل مساحة الله فيه لقاء بين مرسل ومرسل إليه. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- وأعتقد أن هذه أكبر خاصية قرآنية لم أرها بهذا الوضوح في أي دين منزل أو طبيعي مما هو معلوم من الأديان .وخاصيته ليس في وجودها لأن جميع الأديان ليست أديان إلا بسبب هذه العلاقة بل كونها ترفض الخصوصية وتجعلها للإنسان من حيث هو إنسان فتكون كونية بإطلاق ودون أدنى استثناء. فاليهودية تجعل العلاقة بين الله واليهود حصرا ومن عداهم يكون بتوسطهم بينه وبين الله .والشيعة تجعلها بين الله وآل البيت حصرا ومن عداهم يكون بتوسطهم بينه وبين الله .والمسيحية بعد الإصلاح الأول على يدي بولس جعلتها مثل اليهودية حصرا في بني إسرائيل حتى وأن عممت المرسل إليه كمتلق عن طريق أنبياء بني إسرائيل حصرا وسطاء لا يخاطب الله سواهم حتى صار أبا لأحدهم. أما الإسلام فإنه يجعل الاتصال بين الله والإنسان كونيا رسولا ومرسلا إليه .فلكل أمة رسول بلسانها .والرسالة الخاتمة (القرآن) التي هي تذكير بالرسالة الفاتحة المرسومة في ما فطر عليه الإنسان وفي الميثاق (الأعراف )173-172تتوجه للإنسانية كلها بمنطق النساء 1والحجرات .13 ومعنى ذلك أن الكونية الدينية في الإسلام يترتب عليها أو تكون نتيجة لـمبدأين هما الأخوة البشرية (النساء )1والمساواة بين البشر (الحجرات )13ونفي التفاضل بغير التقوى التي هي احترام القانون أو الشريعة الإلهية .ومن ثم فهم مطالبون بالتعارف معرفة ومعروفا .وإذن فنحن أمام كائنين كلاهما واحد. فالله واحد .والإنسانية واحدة أو من نفس واحدة .ولا تتعدد إلا بأفعالها وأعيانها وكذلك الله لا يتعدد إلا بأفعاله وعينه .ومنها أسماؤه التي هي متعددة تعدد الأفعال لكنها دالة على الوحدانية .ودلالتها على الوحدانية هـي علة السماح بدعائه باي منها (الإسراء .)110وإذن فالتعدد الأسمى للأفعال لا يتنافى مع الوحدانية التي لله الواحد. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- ويترتب على ذلك وهاء المقابلة بين الأقوام لأنهم متساوون عند الله .وينبغي أن يكونوا متساويين عند الإنسان .والفروق العقدية هي بين الأفراد .والقرآن يردها إلى ثلاثة عندما تكلم على منزلة أهل الأديان التي ذكر منها أمثلة في البقرة 62والمائدة :69الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. وهذه مناسبة لبيان سخافة ما صرح به البابا مؤخرا من نفي ليوم الدين ولوجود آدم وحواء خاصة في دلالتهما القرآنية التي تردهما إلى نفس واحدة خلق منها زوجها وبث منهما رجال كثير ونساء .والحجة خاصة بالنسبة إلى نفي يوم الدين هو دعوى الدفاع عن الرحمة الإلهية وعدم تناسبها مع جهنم .وفي هذا الكلام سطحية مطلقة لأن الكثير من الناس يعيشون جهنم في الدنيا. فكيف يناسب ما في الدنيا رحمة الله ولا يناسبها ما في الآخرة أم أن ما يجري في الدنيا هو أيضا خرافة؟ فإذا كان العقاب في الآخرة لا يناسب رحمة الله فمن باب أولى ألا يناسبها ما يحصل في الدنيا .ومن ثم فإما أنه يحاسب الله على ما يترتب على الحرية أو أن يحاسبه على الحرية. فالحرية تعني أن الإنسان مسؤول عما يحصل له في العالمين أو ينبغي نفيها بنفي ما يترتب عليها .لكن ما يدعوني للكلام في الموضوع أهم. ويتعلق بالحجة الإبليسية التي يعتمد عليها التصوف والمسيحية المحقرين من البدن بوصفه ماديا .فعندهم لا يمكن أن يبعث البدن مع الروح وأن البعث روحي لا غير لأن البدن ليس أهلا لذلك .وهذا التحقير من المادة موروث عن الفلسفة اليونانية وخاصة عن الأفلاطونية لأنها سبب التغير وسبب الاستعصاء على التصوير وذلك هو الشر عنده لأنها تمثل اللاتحدد .والقرآن لا يحقر منها بل هي عين المدد الوجودي. والتحقير من المادة موقف إبليسي إذ به يعلل عدم القبول بالمنزلة التي من الله بها على آدم فعصا أمره بالسجود لآدم .ويسمي المتصوفة موقف إبليس هذا الرافض للأمر بالفتوة الإبليسية .لكن القول بكرامة الإنسان لا يفصل بين البدن والروح لأن الروح هي بالذات أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- فعل التكريم نفسه لكيان الإنسان البدني والروحي إذ هو ما يرمز إليه النفخ الإلهي في المادة التي شرفت بالروح مثلها. ومن هنا العناية بالبدن ركنا مقوما للصلاة من حيث النظافة والرياضة وأسمى رموز تكريم البدن هو المنزلة الخلقية والجمالية للجنس في الإسلام في الدنيا وفي الآخرة .وهكذا يتبين ما دمنا نتكلم على الرموز فحتى لو اقتصرنا عليها دون ما يرتبط بها من المعتقدات فإن موقف البابا والتصوف سطحي فلسفيا. ثم إن القرآن يجعل البدن المروحن بالنفخ يوم الدين قادرا على النطق لما يشهد على صاحبه بما فعله ويريد كتمانه ما يعني أن كل أفعال الأنسان ليست مسجلة في كتابيه فحسب بل وكذلك في بدنه الذي يسجل كل حركاته باعتباره هو بدوره مطلق الوعي بما يرتسم فيه حتى وإن تأجل نطقه ليوم الدين. ويمكن القول إن العلاقة بين البدني والروحي مناظرة للعلاقة بين حالتي المادة أي بين الجسمي والطاقي .وهي علاقة بدأت فيزياء لامتناهي الصغر تصل إلى مستوى من التحليل يكاد يلغي الفرق بين الحالتين في أقصى ما يصل إليه البحث في بنية المادة وهل هي جسمية أم من طبيعة لا جسمية لكأنها روحية. ولو اقتصرنا على المدارك الحسية لاعتقدنا أن ما نعتبره ملاء أكثر مما نعتبره خلاء في أبداننا .لكن لو استعملنا أدوات الإدراك العلمية لتبين لنا أن ما نعتبره ملاء لا يكاد يوجد بالقياس إلى ما نعتبره ملاء وأن بين الملاء والخلاء شيئا ما يصل بين الأجرام لامتناهية الصغر طبيعة من جنس ثان. وهذا الشيء الواصل بين الذريرات هو محركها الحيوي مثلما تحرك القوى الكونية الأربعة كل نظام العالم لكأنها هي روحه وما فيه من ملاء لا يكاد يذكر لما فيه من خلاء هو عين فاعلية هذه القوى التي بها يتحد العالم ليصبح وكأنه كائن حي كل ما يجري في أم نقطة ذو صلة بكل النقاط فيه على شساعته. أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- وإذن فسخافات البابا والتصوف حول البعث والبدن والروح هي بخلاف ما يتوهمون ليس من ثمرات التجريد العلمي بل هي من التعلق بالمدارك الحسية البدائية التي تعتبر المادة جمادا بالمقابل مع الروح .لكن المادة قرآنيا هي المدد والامتداد والمدة والمادة في آن وهي تمثل بؤرا سابحة سباحة السمك في المحيط. وفي النهاية فمنزلة الإنسان هي أعجب ما في القرآن .وهي أعقد على الفهم حتى من مشكلة المعرفة بالله .فيمكن أن نسلم الغاز الوجود الإلهي على الأقل لأنه هو مصدر كل شيء عند المؤمن به خاصة .لكن ألغاز الإنسان بالنسبة الإنسان تضعه أمام الوعي بلغز الغيب كله :الإنسان يعي ذاته ولا يفهمها. أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- نختم الكلام في المرسل إليه (الإنسان) مدخلا للكلام في الرسول بوصفه إنسانا يرمز للاتصال المباشر بين الإنسان والله الكامن في نفس كل إنسان .فلكل إنسان في كيانه الذاتي حالة الاصطفاء التي هي من الوميض الروحي فيه حتى وإن لم يكلف بأن يكون البشير والنذير ربما لضعف الوميض فيه. وبهذا المعنى نفهم أن يكون القرآن الرسالة الخاتمة .فـحقيقته هي إيقاظ هذا الوميض في كل متلق وقارئ فتنبض بالحياة صورة الرسول الخاتم بوصفه تجاوز الحواس إلى الحوادس .انتقل من البصر إلى البصيرة وقياسا على هذه النقلة يحصل نفس الأمر في كل الحواس فينتقل من السمع إلى السميعة ومن الشم إلى الشميمة ومن الذوق إلى الذويقة ومن اللمس إلى اللميسة .وذلك هو نور العلاقة المباشرة بالله. وكل ما يقال عن سيرة الرسول الخاتم لا يحتاج إلى دليل تاريخي لأن جوهره هو هذه النقلة .وذلك هو ما وصفته أم المؤمنين عائشة بأخلاق القرآن بمعنى أن القرآن يصف هذه الحقيقة التي هي غاية الرسالة :نقل الإنسان من الحواس إلى الحوادس التي لا تتنافى معها بل هي تحييها لتجاوز الفاني إلى الباقي في كياننا. وتلك هي علة \"فذكر إنما أنت مذكر ليست عليهم بمسيطر\" (الغاية .)22-21ولما كان ذلك كذلك فمفهوم أن تكون الرسالة خاتمة .فالتذكير لم يعد بحاجة إلى مذكر خارج كيان الإنسان يكون بشرا مثله بل يصبح كلام الله وحده هو المذكر والمبلغ بعد أن صار ذا حضور محدد هو ما بين دفتي المصحف .وكل من يقرأه يجده حوارا بين الله والإنسان دائما إلى حد يشبه تمانع بين حريتين. لكن هذا الحضور القرآني في الكيان الإنساني ليس في المصحف وحده بل في ما يحيل عليه المصف في الكيان وفي شروط قيامه حتى بالنسبة إلى من يجهل القرآن ولم يطلع على أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- محتواه .ذلك أن بنية القرآن هي عينها بنية كيان الإنسان وبنية الوجود .فهذه البنية هي ما سميته المعادلة الوجودية بأبعادها الخمسة التي سبق فتكلمت عليها سابقا وهنا. فلكأن القرآن تحليل وجودي للإنسان .ففيه قصة العلاقة المباشرة بين الإنسان والله قلبا للمعادة .وفيه على يمين هذا القلب العلاقة اللامباشرة بين الإنسان والله بتوسط الطبيعة (منها مدده المادي) وما بعدها لأنه يتجاوزها إلى ماورائها .وفيه على يساره نفس العلاقة اللامباشرة بتوسط التاريخ (منه مدده الروحي) ومابعده لنفس التجاوز إلى ما بعده. والرسالة الأخيرة خاتمة لأنها قابلة للرد إلى هذه الحقيقة :كيان الإنسان مرسومة فيه كل مضامين الرسالة كما تبين هذه المعادلة .وسأكتفي بمثال واحد يغنيني عن الإطالة .وهو يبين أن الإنسان حتى أكثر الجاحدين للدين عامة وللديني في كل دين أو الإسلام خاصة يثبت ذلك حتى لو كأن أكثر الناس شرا. فأي إنسان عندما يقبل الوقوع في وضع العبد لغير الله يعلم أنه فقد حريته .وعندما يكذب يعلم أنه فقد الحقيقة .وعندما يعمل شرا يعلم أنه فقد الخير .وعندما يعمل قبيحا يعلم أنه فقد الجمال .وعندما يذل يعلم أنه فقد عزة الجلال .وإذن فهو يشهد بأن كيانه فيه ما يبين له الحقيقة في هذه الحالات وأنها لضعف في نفسه. وحتى إذا ادعى التأله بالمعنيين الصوفي أو الاستبدادي السياسي أو المعرفي فإنه في لحظات ضعفه كأن يمرض أو حتى في لحظات قيامه بأدنى أموره مثل قضاء حاجته يكتشف كل ضعفه وفنائه فيكتشف أن فيه بصيصا من الوميض الوجودي الذي يجعله يتجاوز الفناء على الأقل في الوعي المشرئب. وأختم بأبرز مثال قرآني وهو مفهوم المطفف للدلالة على حضور المثل العليا في ضمير أي إنسان مهما طغا عليه من شر .ففي استيفاء الاكتيال وفي اخسار الكيل يعلم في الحالتين أنه يعتدي على الحق إما بأخذ الزائد أو بإعطاء الناقص .وإذن فله في الحالتين ميزان روحي في كيانه مختل ليس من حيث صحة الوزن بل من حيث استعمالـه على غيره وجهه .فيكون حكما على نفسه بصدق باطني. أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- وما تقوله فصلت 53يجمع كل ما تقدم لأنها تشهد بأن القرآن هو في آن بنية كيان الإنسان وبنية كيان الوجودين الطبيعي والتاريخي إذ هي تتكلم على ما يرينه الله من الآيات في الآفاق (الوجودين الطبيعي والتاريخي) وفي أنفسنا (كيان الإنسان) وذلك هو معنى تبين أنه الحق :القرآن يحيل على بنيتهما. وصلنا الآن إلى موضوعنا الثالث :الرسول .لن أطيل الكلام فيه .سأكتفي بالكلام على ما تم حذفه في تراثنا لتعويضه بالكذب عليه صلى الله عليه وسلم .فالرسول ليس وسيطا بين الله وعبده ولا وصيا عليه بينه وبين أمره (شأنه في العلاقة بالطبيعة والتاريخ أو سياسة الدنيا) لأن الوميض الذي فيه في كل إنسان وما حباه الله به هو كماله فيه وهو معنى الاصطفاء ليختم التذكير. وختم التذكير تبرزه آيتان: .1آية تعلل الحرية الدينية أو عدم الإكراه فيه بتبين الرشد من الغي (البقرة .)256 .2وآية تعين مجال البحث عن حقيقة القرآن (فصلت )53المحررة من الخرافة التي تنتج عن التأويل الناتج عن زيغ القلوب وابتغاء الفتنة (آل عمران .)7ولم أذكرها لوحدها لأنها متممة لفصلت .53 فالعلاقة بين الله والإنسان مباشرة ومن ثم فهي غنية عن مذكر بعد ختم التذكير .وهو معنى وفي أنفسهم .والعلاقة غير المباشرة بينهما بتوسط الطبيعة وما بعدها وبتوسط التاريخ وما بعده تصبح مباشرة بفضل المابعدين فتعود إلى العلاقة المباشرة ومن ثم فهما تغنيان عن مذكر بعد ختم التذكير .تصبح الذات والعالمين الطبيعي والتاريخي آيات تذكير بما فيهما من شروط قيام الإنسان ومن إحالة إلى ما بعدهما .فيكون التذكير الخاتم كله مردودا إن شئنا إلى الإعلام بهذين المبدأين: .1تبين الرشد للحرية الدينية (البقرة .)256 أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- .2وحيز البحث الذي يوصل إلى تبينه إيجابا (فصلت )53وسلبا (آل عمران .)7لكن التذكير الخاتم هو وظيفة الرسول الخاتم وهو ما سنتكلم عليه في الفصل الموالي أو في السياسة التي لها بعدان هما التربية (ورمزها المرحلة المكية) والحكم (ورمزها المرحلة المدنية). أما الآن فالكلام على ما ألغي في التحريف الذي حصل في تاريخنا والذي جعل بياني لحصوله علة لاتهامي بكوني \"أكلت لحم\" علماء الملة .وفي الحقيقة ليس لعلماء الملة لحم حتى يؤكل بعد حصول التحريف. فما هو التحريف؟ إنه اهمال دلالة الغاشية 21و .22والمعنى: • الرسول ليس وسيطا في التربية • الرسول ليس وصيا في الحكم. وهذا الإهمال يثبته قلب أمر فصلت 53نهيا وقلب نهي آل عمران 7أمرا .بمعنى أن علوم الملة الخمسة (التفسير أصلا والكلام والفلسفة نظرا والفقه والتصوف عملا) بنيت على تجاهل فصلت 53والاعتماد على آل عمران .7بدل البحث العلمي في آيات الآفاق والأنفس جاء التأويل التحكمي لآيات الإشارة القرآنية. وأعتقد -ولله الحمد والمنة-أن أهم ما يمكن أن اعتبره نجاحا حقيقيا في حياتي هو تمكن من تحديد المعيار الدقيق للتمييز بين المحكم والمتشابه بفضل العلاقة بين هذين الآيتين فصلت 53وآل عمران .7 والإشارة القرآنية في فصلت 53تأمر بالتوجه إلى حيث ينبغي البحث لمعرفة حقيقة القرآن ولا تتضمن الحصيلة العلمية التي يوصل إليه البحث :وهذا هو مجال البحث العلمي وهو المتشابه الذي لا ينبغي تأويله بل محاولة علمه علما اجتهاديا بالنظر والعقد للعمل والشرع عملا جهاديا .والإشارة القرآنية في آل عمران 7تنهي عن الالتفات إلى الشروح اللفظية لنص القرآن ظنا أنها علم قابل للاستخراج بالتأول وهي إشارات محكمة .والإشارات محكمة أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- وقد تتحول إلى متشابه إذا ظنت مجال البحث عن الحقيقة العلمية التي أشارت إليها فصلت .53 وإذن فالعلماء عملوا بالمثل الصيني :لم يروا ما تشير إليه السبابة القرآنية بل السبابة. والاقتصار على السبابة يؤدي إلى التأويل المرسل الذي ليس له مرجعية فكان البديل إما الاستسلام للتداعيات الدلالية للألفاظ فصارت اللغة كافية للمعرفة وهو معنى الخرافة إذ لم يبق فرق بين العلم والأدب أو لمصدر معلومات آخر مثل الاسرائيليات للمفسرين أو الفلسفة للمتكلمين والفقهاء والمتصوفة. الإشارات محكمة والمشار إليه متشابه .فما يشير إليه القرآن لا يعمل بتأويل الإشارات بل بالبحث العلمي في المشار إليه .وللتلازم بين الأمرين يقع الخلط بينهما فتصبح الإشارات التي هي محكمة مصدرا للتشابه عندما تعتبر مجالا للعلم بالتأويل لعلم المشار إليه. أما الرسول فهو لم يدع أكثر مما كلفه الله به\" :فذكر :إنما أنت مذكر \" أي إنك ليست وسيطا بل مهمتك لا تتجاوز التذكير في التربية لأن ما تعلم به ليس أمرا تأتي به أنت بل هو مرسوم في كيان الإنسان .إذ إن التذكير يعني أن المخاطب به ناس لما يعلم وليس جاهلا به بإطلاق فتكون وسيطا في مجهول. أما في الحكم فهو تمام هذا الأمر والتنبيه\" :لست عليهم بمسيطر\" في الحكم فضلا عن التربية لأن الأمر أمر الجماعة وهو ما يتصلون إليه بالشورى في أمرهم .والأمر حددته الآية (الشورى )38في مسألتين :بأولهما تبدأ الآية (الاستجابة إلى الرب وهي الأصل) وبالثاني تنتهي (الإنفاق من الرزق). والأول علة الوحدة .والثاني علة الفرقة إذا لم يخضع للأول :فالمستجيبون للرب يتحدون فلا يفرقهم صراع على الرزق .وذلك هو موضوع الأمر لأن رعاية الأمر هي بدورها من موضوعاته وهي مضاعفة لأن الأمر له طبيعة هي طبيعة نظام الحكم وله أسلوب تحقق هو أسلوب الحكم .فطبيعته الأمر هو كونه أمر الجماعة وأسلوب تحقيقه هو كونه يساس بـالشورى. أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
-- وهذا هو الحكم .ويمكن اعتباره تحديد الإسلام لطبيعة نظام الحكم بوصفه جمهورية لأن أمر الجماعة ترجمة حرفية لـ\"راس بوبليكا\" باللاتينية .ويمكن اعتباره تحديد الإسلام لأسلوب الحكم بوصفه \"ديموقراطية\" باليونانية لأن شورى الجماعة هي حكم الجماعة لنفسها بنفسها. وإذن فالرسول حكم بمقتضى مبدأي الحكم وهما الأمانة والعدل .فهو أمين للشورى 38 ويحكم بالعدل لأن أخلاقه هي أخلاق القرآن .وهو أول من أشار إلى أن الحَكم بين الخصمين لا يتميز عنهما إلى بكونه محايدا إذ ما يحكم به يوجد عند كليهما كما بينا فلا أحد يجهل أنه ظالم إذا ظلم بل ينسى يوم الدين فينكر ما يعلمه في قرارة نفسه. فيكون الحكم السياسي في الحقيقة قضاء عام وظيفته حماية الحقوق ليس بعنف الدولة (إلا عند الضرورة) بل بشرعيتها من خلال البعد التربوي من الحكم ويتمثل في تحويل الفصل بين الناس إلى تحقيق الصلح بينهما في ما يختلفان فيه حول الحقوق والواجبات والعقود والالتزامات والمحافظة على حياد القيمين. وبهذا المعنى فإن التربية والحكم كما مارسهما الرسول لم يتحقق منهما شيء من بعده بل ما حصل هو العكس تماما .ولذلك فقد أصبحا مفسدين لمعاني الإنسانية لما تحولا إلى عمل خارجي لا يوقظ في الإنسان ما يجعله هو بدروه يومض بما فيه وذا وازع ذاتي وهو دور الرسالة بمنطق إنما أنت مذكر. وبذلك فإن الكلام على الرسول الخاتم يكفي فيه بيان علة كونه الخاتم في علاقة بالقرآن وبالمعادلة الوجودية وخاصة في علاقة بالفصل بين المحكم والمتشابه وبالتربية والحكم موضوع الفصل الموالي .واختم هذا الفصل بالقول إن غاية الرسالة الخاتمة حددته سورة العصر وقاية وعلاجا لا دواء البشرية. أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى معضلة المعضلات في تاريخ الإسلام :طريقة تبليغ الرسالة التذكيرية الخاتمة ومآلها-بعد وفاة الرسول الخاتم وقبل اكتمال بناء الدولة كما يحدد مقوماتها القرآن الكريم-إلى تحريف علوم الملة الغائية الخمسة .والعلة هي الخلط بين إشارات السبابة وما تشير إليه من شروط مهمتي الإنسان. وبصورة أدق فإن ما يترتب على المشروع القرآني لبناء الدولة الكونية لم يستنتج منه لأن العلم به لم يتجاوز فعل الإشارة فيه إلى المشار إليه فتوقف المشروع عند عتبة تحقيقه في ما لم يصل حتى ما تحقق من لبناته الأولى في حياة الرسول الخاتم .وعلينا الآن أن نحدد مراحل تحقيق الشروط من فصلت .53 ففصلت 53تقرأ من بدايتها إلى غايتها .ثم تقرأ من غايتها إلى بدايتها عند من يريد فهم شروط المشروع القرآني للرسالة الخاتمة بوصفها سعيا لتوحيد الإنسانية حول الديني في كل الأديان باعتباره مشروع تأهيل الإنسانية لتحقيق مهمتي الإنسان :الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف فيها وصلا بين الوجودين. والوجودان متعينان في الإنسان أولا وفي العالمين الطبيعي والتاريخي ثانيا كل منهما مرتين فيه وفي ما بعده باعتباره من دون هذا المابعد لا يكون ذا نظام أو وحدة .ما يعني أن مراحل التأهيل هي إعداد الإنسان ليتمكن من التعامل مع ذاته ومع العالم التاريخي وما بعده ومع العالم الطبيعي وما بعده. هي إذن خمس مراحل متراتبة .وأول إشكال هو تحديد التراتب .فهو يمكن من وضع استراتيجية التأهيل لهذا التكوين الضروري الذي يمكن الإنسانية من تحقيق مهمتيها أي الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف لأن التعمير من دون هذه القيم ينتهي إلى التدمير وهو إذن ليس تعميرا إلا في الظاهر كما نراه حاليا. فصلت 53هي التي تساعد على تحديد الترتيب إذا اعتبرنا ما ذكرته متصاعد من بحسب تصاعد مجالات التأهيل بترتيب معكوس لأن المقدم فيها يبدو كالغاية في التأهيل بمعنى أنه أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
-- لا يتم من دون ما يليه في التأهيل .فتكون أنفسكم الأولى ثم الآفاق التاريخية وما بعدها ثم الآفاق الطبيعية ومابعدها وينعكس. ما معنى التراتب؟ تأهيل الأنفس يعد للتأهيل للعالم التاريخي ومابعده .وهما معا يعدان التأهيل للعالم الطبيعي وما بعده .وما معنى ينعكس؟ خلال التأهيل للتاريخ وما بعده نكتشف ما ينقص تأهيل الأنفس للتعاكس بين الإنساني والتاريخي وخلال التأهيل للطبيعة وما بعدها نكتشف علاقة التاريخي بالطبيعي. ولا بد من الإشارة إلى مبدأين مضمرين في هذا التراتب .فتأهيل الأنفس فيه ضمنيا التأهيل الأولي للتأهيلين الآخرين المتعلقين بالآفاق التاريخية وما بعده وبالآفاق الطبيعية وما بعدها بمعنى أن الإنسان ليس كائنا عضويا وروحيا (الأنفس) مفصولا عن نوعي الآفاق وما بعدهما :إنهما معين بعدي كيانه. فمن الآفاق الطبيعية يأتي المدد لكيانه العضوي .ومن الآفاق التاريخية أتي المدد لكيانه الروحي .وإذن ففي أي مرحلة من تأهيل الأنفس لا بد من علاقة ولو بدائية مع التاريخ وما بعده ومع الطبيعة وما بعدها .وغالبا ما تكون هذه العلاقة ذات صلة بأخلاق معاملة المحيط التاريخي والمحيط الطبيعي. فالمحيط التاريخي هو مصدر عزته وحمايته والمحيط الطبيعي هو مصدر رزقه وإعالته. فيكون الإنسان بالطبع في علاقة ود واحترام لتاريخ جماعته تقديرا للآباء والأجداد ولجغرافية جماعته تقديرا لشروط العيش وبقاء الحياة .ويحقق ذلك وصلا لما بعدهما بالإنسان بداية للوعي بالعلاقة المباشرة الدين. وذلك هو مصدر كل الأديان الطبيعية مرحلة أولى نحو الأديان المنزلة التي ليست في قطيعة معها وخاصة في الإسلام بل هي تسمو بها إلى تعالي المابعد على العالمين التاريخي والطبيعي لتصبح العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه هي المؤسسة للعلاقة غير المباشرة بتوسط التاريخ والطبيعة وليس العكس. أبو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
-- وقد يظن المتعجل أني صاحب هذا التحليل .لكني بينت في هذه المحاولة وقبلها في الكثير من أمثالها أن هذا الترتيب مذكور نصا في الإشارات القرآنية التي بينت أنه التأهيل الحتمي وليس الاختياري في تكون مفهوم الإنسانية أو بصورة أدق في الوعي المشير إلى تكوينيته الذي صار صريحا في القرآن. وقد بلغت الإشارة إليه حدا من الثقل على الرسول الخاتم حتى إنه وصف السورة التي صاغت الإشارة بأنها قد شيبته (مع أخواتها :الواقعة والمرسلات والنبأ والتكوير) لأنها اشارات إلى مجالات التأهيل بالنسبة إلى الجماعة والأفراد إشارة ليس أبلغ منها ولا أوضع ولا أدق بمنطق ترتيب فصلت الذي شرحت. فهي تبدأ بالآفاق الطبيعة وتنتهي إلى مابعده ثم تثني بالآفاق التاريخي وتنتهي إلى ما بعدها .ولأحدد :نوح فهود فصالح من البداية إلى قلب السلسلة إبراهيم .ثم تعود من موسى في شعيب فلوط إلى القلب إبراهيم .وابراهيم كما هو معلوم سؤاله كان طلب المابعد المطلق في حواره مع نفسه ورفضه للأوافل. فمن نوح إلى ابراهيم نجد محاولات تأهيل الإنسان للتحرر من سلطان الطبيعة عليه: والإشارة هي ثورة ابراهيم بالصناعة والزراعة وثورة هود على أثرها بالمسألة الاقتصادية وثورة صالح بالمسألة المائية وتكتمل الثورة بالانتقال من تأليهها إلى اكتشاف الوحدانية: ابراهيم قلب المعادة والإسلام. وإذا عدنا الآن من موسى إلى ابراهيم نمر بشعيب فلوط .وثورة موسى ليس للتحرر من استبداد الطبيعة بل من استبداد التاريخ مرموزا إليه بالثورة على العبودية للتسلط السياسي والديني (فرعون وهامان) يليه علاج مشكل التبادل الاقتصادي العادل شعيب ثم خاصة مرة أخرى مصدر الحياة الجنس لوط. تلك هي الإشارات .لكن أهم إشارة هي البشارة التي أعلن عنها الملائكة لإبراهيم في سن يأس زوجته .وطبعا لا يتعلق الامر بابن طبيعي بشر به .ذلك أن إبراهيم حينها كان قد أبو يعرب المرزوقي 43 الأسماء والبيان
-- أنجب ابنيه في شبابه وليس في شيخوخته .ذلك ان نفي اسماعيل وهو طفل وأمه كان بسبب إنجاب اسحق بعد غيرتها من هاجر. لذلك فالبشرى هي بابن روحي هو الرسول الخاتم المخاطب بهذه الإشارات التي شيبته مع أخواتها .فهم الرسول الخاتم أن السورة تحتوي على استراتيجية مشروع الرسالة الخاتمة التي تهدف إلى توحيد الإنسانية بالتعمير الإسلامي الخاضع لقيم الاستخلاف كما تحددها إشارات القرآن للتأهيل بمقتضاها. كما أن الإشارات إلى منهجية التبليغ المؤهلة لهذه المهام كلها تحددت بصورة لا مثيل لها لتوجه التربية والحكم بعدي التأهيل لمهمتي الإنسان معمرا ومستخلفا نجدها في الإسراء 105و 106في نظام عجيب هو عين نظام القرآن مفهوما وتحققا في التاريخ في علاقة بالتنجيم الضروري لاستراتيجية التحقيق. {و ِبا ْل َح ِّق أَن َز ْلنَا ُه َو ِبا ْل َحقِّ نَ َز َل ۗ َو َما َأرْ َسلْ َنا َك إِ َِّلا مُ َبشِّرًا وَ َنذِيرًا ( )105وَ ُقرْآنًا َف َرقْنَاهُ ِلتَقْرَ َأ ُه َع َلى النَِّا ِس عَ َلىٰ مُ ْكثٍ وَنَ َزِّ ْلنَا ُه تَنزِيلً ( .})106فالأولى تحدد طبيعة القرآن وغاية الرسالة .والثانية تحدد الطريقة ببعديها تعليما وعملا. فإشارات الآية الأولى تعرف القرآن بطبيعة إنزاله وبمضمون نزوله (الفرق بين أنزل ونزل) وتحدد حصريا مهمة الرسول (بشيرا ونذيرا) فبينت أن الحق مضمونا وطريقة يتضمن الموجب الذي يبشر به الرسول والسالب الذي ينذر منه .وتلكما هما غايتا التأهيل السياسي تربية وحكما في المنظور القرآني. والآية الثانية يطبقها القرآن هو نفسه نموذجا وشرطا في تطبيق الرسول لها تفريق القرآن أو تنجيمه في مهمة التأهيل والتنزيل أي ضرب الأمثال التي هي نوازل تنطبق عليها استراتيجية القرآن في بعدي السياسة أي التربية والحكم القرآنيين .وكلها إشارات توجه إلى مجالات البحث في التأهيل عملا على علم. لكن السياسة يعسر حصرها في مهمتيها أعني تأهيل الإنسان للتعمير بقيم الاستخلاف. لذلك فلا يكفي أن الحصر هنا هو \"وما أرسلناك إلا\" بل أضيف حصر آخر أهم وأعمق وأكثر أبو يعرب المرزوقي 44 الأسماء والبيان
-- مباشرة بالسياسة في بعديها تربية وحكما أعني الغاشية 21و .22فالحصر هنا أشد من الاول \"إنما أنت مذكر\" و\"لست عليهم بمسيطر\". فالسياسة تربية وحكما يمكن أن تنقلب إلى عنف فيهما معا فتفسد معاني الإنسانية. ولذلك فالحصران يشيران إلى ما يمكن أن ينقلب إليه المربي والحاكم إلى المستبد الروحي والمستبد السياسي .وهما علة فساد معاني الإنسانية (ابن خلدون) أي فقدان الإنسان لرئاسته بالطبع وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له. فيكون أساس التربية والحكم الإسلاميين هو حفظ معاني الإنسانية التي يجمع بينها مفهوم الإنسان كما عرفه ابن خلدون استقراء من القرآن \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .والتربية والحكم المفسدان لمعاني الإنسانية بعنف الاستبداد الروحي والسياسي هما غاية التحريرين. فكلما اشتد استبداد الطبيعة ساوقه استبداد السياسة .والتحرير من الأول يكون بعلوم الطبيعة وتطبيقاتها والتحرير من الثاني يكون بعلوم التاريخ وتطبيقاتها وصنفا العلوم وتطبيقاتها شرطها علوم الإنسان وتطبيقاتها وعلوم المابعد في كل هذه المجالات أعني إشارات القرآن إلى حقوق الإنسان وواجباته. أبو يعرب المرزوقي 45 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى العنصر الخامس والأخير من عناصر الرسالة .فبعد المرسل والمرسل إليه والرسول وطريقة التبليغ نصل إلى مضمون الرسالة الذي يبلغه القرآن أو الرسالة .فهذا المضمون هو الذي ينقسم إلى محكم ومتشابه .فالمحكم هو كلام القرآن على ذاته وإشاراتها لغيرها والمتشابه هو كل ما يقوله القرآن على غيره إشارة إليه وليس عرضا لعلمه الذي هو مطلوب البحث العلمي جزءا من مهمتي التعمير والاستخلاف. وما يقوله القرآن عن نفسه محكم لأنه لا يتجاوز تعريف الرسالة وعناصرها ونظامها وهي كلها مرجعها القرآن نفسه وليس شيئا من خارجه .فكل ما تكلمنا فيه إلى حد الآن هو ما يقوله القرآن عن نفسه وعن دوره الإشاري لغيره موضوعا يطلب من الإنسان البحث فيه والعمل بما يوصله إليه علمه به من خلاله. وهذا هو الذي بعدم قيام المسلمين به اعتبرت علوم الملة محرفة للقرآن خلطا بين الإشارة الموجهة للإنسان (وهي المحكمة) والمشار إليه فيه (وهو المتشابه الذي لا يعلم بالتأويل بل بالبحث العلمي والتحليل) .فهي بدلا من تطبيق تحقيق ما أشارت إليه فصلت 53تركته وحاولت الاكتفاء بشرح ألفاظ القرآن ظنا أن مضمونها علمي وليس إشاريا وتوجيهيا لما ينبغي القيام به للحصول على العلوم التي تؤهل الإنسان للاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. ومعنى ذلك أن نهي الإنسان عن تأويل المتشابه ليس نهيا عن علمه في مضانه -إذ كل ما هو خارجي متشابه-بل هو نهي عن توهم أنه موجود في آيات النص وليس في آيات الآفاق والأنفس .فعلمه في مضانه اجتهاد معرفي بقيم خلقية .أما تأويل آيات النص ظنا أنها هي الطريق للعلم فرجم بالغيب مثل الكلام على الذات والصفات بأكثر مما ورد في القرآن تجسيما أو تعطيلا. فكلام القرآن على المرسل والمرسل إليه والرسول والطريقة والمضمون كلام محكم لأنه من جنس المقدمات التي توضع وضعا .ومنها تنطلق الإشارات المتعلقة بها عندما تنتقل من أبو يعرب المرزوقي 46 الأسماء والبيان
Search