Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المحكم والمتشابه، نجاعة معيار الفصل بنوعي الإحالة القرآنية - أبو يعرب المرزوقي

المحكم والمتشابه، نجاعة معيار الفصل بنوعي الإحالة القرآنية - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-06-13 20:00:34

Description: المحكم والمتشابه، نجاعة معيار الفصل بنوعي الإحالة القرآنية - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫نجاعة معيار الفصل بنوعي‬ ‫الإحالة القرآنية‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪9 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪17 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪23 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪29 -‬‬ ‫‪-‬الفصل السادس‪35 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪41 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثامن ‪46 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل التاسع‪52 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل العاشر ‪58 -‬‬ ‫‪64‬‬

‫‪--‬‬ ‫لم أذكر معيار التمييز بين المحكم والمتشابه إلا اليوم‪ ،‬حتى وإن عملت به في التفسير‬ ‫بصورة غائمة‪ .‬فالتأكد من نجاعته التفسيرية كان يقتضي تخليص ما سميته بوظيفة السبابة‬ ‫في القرآن عما يسميه البعض اعجازا علميا‪ .‬وقد كانت أعسر مسألة اعترضتني في فهم دور‬ ‫الرسالة التي اعتبرتها تشير وتوجه ولا تتضمن مدونة علمية‪ .‬وحتى ما تشير إليه من‬ ‫الغيب فهي تشير إلى وجوده دون تضمن علم مضمونه لأن ذلك لو حصل لكان إعلاما بما‬ ‫لا يعلم بشريا وهو عمل مطلق التناقض فضلا عن تناقضه مع معنى الرسالة‪ :‬كيف يمكن‬ ‫لرسالة أن تبقى رسالة إذا تضمنت ما لا يمكن للمرسل إليه أن يفهمه وهي تشير صراحة‬ ‫إلى أن الغيب محجوب على الإنسان عامة بمن في ذلك الرسل؟‬ ‫فيكون مفهوم الغيب في القرآن مفهوما حدا بالمعنى الإبستمولوجي للكلمة أعني أنه بيان‬ ‫لحدود العقل والعلم الإنساني ومن ثم فهو نفي للقول بنظرية المعرفة المطابقة‪ .‬وهو معنى‬ ‫اقترب منه الغزالي في ما سماه \"طور ما وراء العقل\" لكنه نكص دونه عندما توهم أن ذلك‬ ‫هو الكشف الصوفي‪ .‬ومن فهمه حق الفهم رجلان‪ :‬أولهما ابن تيمية بشرح أدق فاعتبره ما‬ ‫وصفه بلا تناهي التفاضل بين التصورات المتوالية والثاني هو ابن خلدون عندما نفى رد‬ ‫الوجود إلى الإدراك أي القول بنظرية المعرفة المطابقة‪.‬‬ ‫وإذن فالسبابة تشير وتوجه ولا تعين مضمون ما تشير إليه إنما هي توجه إليه بصيرة‬ ‫الإنسان للبحث العلمي فيه حتى يكون ذلك خدمة مهمتيه تعميرا واستخلافا بالعمل على‬ ‫علم‪.‬‬ ‫واعتقد أن الله قد فتح علي بهذا التمييز وصوغه الدقيق منا منه وتفضلا بعد ما تقدمت‬ ‫في تحديد بنية القرآن العميقة بوصفه رسالة تذكير كما يعرف نفسه هدفها تحديد‬ ‫استراتيجية توحيد البشرية حول مفهومي التعمير والاستخلاف بشروط هي ما يشير إليه‬ ‫القرآن بوصفه \"سبابة\" موجهة وليس مدونة علمية تغني الإنسان عن البحث العلمي في ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يرينه الله من آيات في الآفاق وفي الأنفس (فصلت ‪ )53‬وتوفيق الرسول الخاتم بإنشاء عينة‬ ‫منها هي الأمة الإسلامية‪.‬‬ ‫فهدف الرسالة كما يعرفها القرآن في كلامه على نفسه بوصفه رسالة خاتمة تذكر الإنسان‬ ‫بما فطر عليه ونساه وتصلح ما حصل من تحريف على الرسالات السابقة التي تذكر بنفس‬ ‫الفطرة مع تطور في التشريعات التي تمكن من تربية الإنسان وحكمه من أجل تحقيق‬ ‫المهمتين‪ :‬الاستعمار والاستخلاف بظرفيات أحياز وجوده‪.‬‬ ‫والإنسان هو المرسل إليه‪-‬مع غيره من المكلفين على الأقل نوع ثان هو الجن (الرحمن)‪-‬‬ ‫والله هو المرسل والرسالة هي القرآن والناقل هو الرسول والهدف من الرسالة كما أسلفت‬ ‫هو التذكير بالفطرة وإصلاح تحريف الرسالات السابقة لأن الرسالة كونية وتوجيه إلى‬ ‫شروط تحقيق هدفي الإنسان وبعدي العبادة التامة أعني ما لأجله كرم الإنسان فكلف‬ ‫بالتعمير والاستخلاف في أحيازه الخمسة التي يتقوم بها‪.‬‬ ‫والأحياز الخمسة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬حظه من المكان‬ ‫‪ .2‬والثروة التي يكتشفها فيه‬ ‫‪ .3‬وحظه من الزمان‬ ‫‪ .4‬والتراث الذي يتراكم فيه‬ ‫‪ .5‬والمرجعية الروحية التي تضفي المعنى على وجوده وعلاقته بالعالم الطبيعي وما بعده‬ ‫والعالم التاريخي وما بعده مع وصف عمل تجهيزيه لهذين المهمتين أعني القدرة النظرية‬ ‫والعقدية لمعرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ والقدرة العملية والشرعية للتعامل معهما‬ ‫تطبيقا لما علمه من القوانين والسنن‪.‬‬ ‫ثم يأتي وصف القرآن للسانه ومبناه ومعناه وطبيعته من حيث هو رسالة تذكير وتوجيه‬ ‫وتأسيس لنظام التربية (مثاله اللحظة المكية) والحكم (مثاله اللحظة المدنية) أي بعدي‬ ‫السياسة الإنسانية بمستوييها في تكوين الإنسان ليكون منتجا بعمله لتموينه بما يستخرجه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من الأرض من خيرات وما في التعاون بين البشر من تحصيل بشروط التبادل والتعاوض‬ ‫العادل برعاية شرعية هي جوهر مفهوم الدولة القرآني كما حددته الشورى ‪.38‬‬ ‫وكل ذلك من المحكم‪ .‬لأنه كلام القرآن على القرآن‪ .‬فيكون القرآن هو الرمز وهو المرموز‬ ‫أو هو القول الأول في النص أو الموضوع الذي يشير إليه الكلام الثاني في الكلام الأول‪:‬‬ ‫• خطاب‬ ‫• وما بعد خطاب (‪.)Discours et Métadiscours‬‬ ‫والأول هو خطاب القرآن على موضوعات الرسالة الخمسة‪ .‬والثاني هو خطاب القرآن على‬ ‫خطابه المشير إليها‪.‬‬ ‫ولما كان متن القرآن محدودا ومتناهيا وتاما فإن درسه النسقي ممكن سواء بالفرض‬ ‫والاستنتاج كما أفعل في محاولي فهم بنية القرآن العميقة أو بالاستقراء التام كما يفعل جل‬ ‫المفسرين عادة وخاصة القائل منهم بأن القرآن يفسر نفسه بنفسه (ابن رشد وابن تيمية‬ ‫مثلا)‪ .‬ومن ثم فلا حاجة للنظر في موضوع خارجي عدى أداة التواصل التي هي اللغة التي‬ ‫يركز القرآن على دورها في التواصل والتعاقل‪ :‬وهذا علم آلة وليس علم غاية‪.‬‬ ‫وبعد أن يشير القرآن إلى هذه العناصر الخمسة بمقوماتها ينتهي المحكم‪ .‬فما عداها‬ ‫موضوعات خارجية وظيفة الرسالة تعيينها وتعيين علاقاتها وثم تترك دراسة أعيانها‬ ‫وكلياتها وقوانينها وسننها للبحث العلمي عملا بفصلت ‪ 53‬من حيث هي المشار إليه في النص‬ ‫المحكم والتي كل مضمونها في القرآن من المتشابه نجتهد لعلمه دون تأويل لما بعده‪.‬‬ ‫والعناصر الخمسة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل أو الله‬ ‫‪ .2‬والمرسل إليه أو الإنسان‬ ‫‪ .3‬والرسالة أو مضمون التذكير وإصلاح التحريف‬ ‫‪ .4‬والرسول صفاته وأخلاقه ودوره (كما حددته الغاشية ‪ 22-21‬والإسراء ‪)106-105‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬وطريقة التبليغ وتثبيت مضمون الرسالة وهما معنى السياسة أعني التربية والحكم‬ ‫شرطي قيام الإنسان بمتعلقاته وتجهيزه في النظر والعقد وفي العمل والشرع فردا وجماعة‪.‬‬ ‫وهذه المسائل درستها وجمعتها في ما سميته \"المعادلة الوجودية\" التي تعطينا حبكة القرآن‬ ‫كله أو بنيته العميقة‪:‬‬ ‫ففي قلب المعادلة نجد‪:‬‬ ‫‪ .1‬العلاقة المباشرة بين الإنسان والله الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد‪ .‬ثم نجد على‬ ‫يمين هذه العلاقة‬ ‫‪ .2‬العالم الطبيعي‬ ‫‪ .3‬وما بعده (أي أفعال الله)‪ .‬ونجد على يساره‬ ‫‪ .4‬العالم التاريخي‬ ‫‪ .5‬وما بعده (أي أفعال الإنسان)‪.‬‬ ‫فإذا أغلقنا المخمس حصلنا علاقة بين الماورائين وهي علاقة مجانسة للعلاقة المباشرة بين‬ ‫الله والإنسان التي تكون في هذه الحالة محيطة بالطبيعة والتاريخ ومحاطة بهما‪ .‬فنفهم‬ ‫حينها أن المابعدين هما عين ما بين الله والإنسان من علاقة مباشرة أعني التفاعل بين‬ ‫الخليفة (الإنسان) والمستخلف (الله)‪ .‬وتلك هي دراما القرآن الكونية وبنيته العميقة‬ ‫أعني بنية إشارتيه إلى علاقة العالمين الدنيوي والأخروي في الدنيا (وذلك هو جوهر‬ ‫التاريخ الزماني) وفي الآخرة (وذلك هو جوهر التاريخ اللازماني أو السرمدي)‪.‬‬ ‫وهذه المعادلة محكمة من حيث هي إشارة السبابة‪ .‬لكنها متشابهة من حيث ذات كيانها‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن المعادلة محكمة الإشارة ومتشابهة المشار اليه أي إن علمنا بالله وبالإنسان‬ ‫وبالطبيعة وبالتاريخ وبالعلاقة المباشرة وبالعلاقة اللامباشرة بين القلب وما يحيط بهما من‬ ‫يمينهما وشمالهما كلها مجال المتشابه لما فيها من علاقة بين الشاهد منها والغيب‪.‬‬ ‫فنفهم حينئذ كيف يكون القرآن كله متشابها مع ذلك وبعضه محكم‪ .‬فالمحكم فيه هو دوره‬ ‫كسبابة أي كلامه عن ذاته من حيث هي فعل إشارة إلى هذه المعادلة وتحديد عناصرها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المقومة وهو فعل سميته سبابة كناية وكلامه على ما يشير إليه هو المتشابه فيه وهو ما على‬ ‫الإنسان البحث في اعتمادا على فصلت ‪ 53‬وتجنب ما نبهت إليه آل عمران ‪.7‬‬ ‫ولما كان القرآن يتكلم على كل الموضوعات التي ذكرت فهو كله متشابه من هذا الوجه‪.‬‬ ‫والتأويل رد للوجود إلى إدراك الشاهد منه‪ .‬وهو غير العلم الذي نحن مطالبون بالبحث‬ ‫لتحصيله أي لتحصل قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وهما ضروريان لتحقيق مهمتي الإنسان‬ ‫أي التعمير والاستخلاف في الارض‪ .‬ومن الإشارات أن القرآن يعلمنا أن الطبيعة لها قوانين‬ ‫رياضية لأن كل شيء من الخلق بقدر والتاريخ له سنن ثابتة لأنه من الأمر بإرادة‪.‬‬ ‫وطلب القوانين الرياضية التي ينتظم بها العالم الطبيعي والسنن التاريخية التي ينتظم‬ ‫بها العالم التاريخي يعتبران من أهم مصادر الحجج القرآنية في الاستدلال على وجود الله‬ ‫وعلى وحدانيته وصفاته وأفعاله وعلى رعايته للكون والإنسان وكل المخلوقات وهذه‬ ‫القوانين والسنن هي سياسة الكون الإلهية وموضوع الإيمان‪.‬‬ ‫وعلم هذه القوانين والسنن اجتهادي وهو لا يعتمد على القول بنظرية المعرفة المطابقة‬ ‫بل على العكس تماما وهو أن المطابقة مستحيلة لأن شرطها العلم المحيط وهو لا يوجد إلى‬ ‫عند الخالق والآمر‪ .‬والنهي عن التأويل هو بالذات الزعم بأن هذا العلم نهائي وتلك هي‬ ‫دلالة المطابقة إذ هو تحقق الأمر‪.‬‬ ‫ودعوى المطابقة تعني أن العلم مطابق للموضوع ومن ثم فهو تحقق الامر بمثل القول‬ ‫بإيقاعه بالفعل وتلك هي الدلالة المنهي عنها في التأويل وليس التأويل بمعنى الشرح أو‬ ‫التفسير‪ .‬وهما المعنيان اللذان يستعملان عند القائلين بالمقابلة بين الحقيقة والمجاز من‬ ‫جنس المقابلة في تعبير الرؤى والأحلام‪.‬‬ ‫والعلم تمثيل مؤقت لما نفترض عليه الأشياء دون الزعم بأن التمثيل الرياضي مطابق‬ ‫لحقيقة الشيء الرياضية كما خلقها الله‪ .‬ففي هذه الحقيقة ما ليس مشهودا وهو غيبها‪.‬‬ ‫ونفس الشيء بالنسبة إلى السنن التاريخية لأن ما نفترضه لفهمها ليس مطابقا للأمر الألهي‬ ‫الذي جعلها تكون ما حصلت فعلاما نعلمه هو صورتنا عنه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد يكون أفضل مثال يحسم القصد من التأويل الذي تحرمه الآية السابعة من آل عمران‬ ‫هو مثال الأحكام الشرعية النموذجية في القرآن مثل قطع اليد في السرقة‪ .‬وهي نموذجية‬ ‫بمعنى ما يقاس على شكلها المتعلق بشروط التشريع المقبول من الإنسان من حيث هو خليفة‬ ‫وليس على مضمونها لأن شكلها يحدد صفات التشريع الذي يرضاه القرآن فيكون تشريعه‬ ‫النموذجي تشريعا للتشريع وليس تشريعا للنوازل‪ :‬وهذا من المستوى الثاني من الخطاب‬ ‫القرآني أعني المتكلم على القرآن وأحكامه وليس على الموضوعات الخارجية التي تتعلق بها‬ ‫الأحكام‪ .‬فأولا لا بد من التمييز بين حكم السرقة ومقدار العقاب الذي هو قطع اليد‪.‬‬ ‫ومقدار العقاب هنا هو الحد الاقصى‪ .‬وشرطه أن يكون القاضي ذا علم محيط وهو شرط‬ ‫ممتنع‪.‬‬ ‫ولا يكون شرطه حاصلا إلا في حالة واحدة هي الحالة التي تقول بالمطابقة بين علمنا‬ ‫وحقيقة الشيء في ذاته‪ .‬وهذا لا يقول به أحد إلا إذا تلقى وحيا من الله‪ .‬إنها حالة‬ ‫واحدة بعد الله هي حالة متلقي الوحي أي الرسول‪ .‬وكل قاض من بعده علمه ناقص ومن‬ ‫ثم فلا يحق له أن يطبق الحد الأقصى من العقاب كما حدده النموذج‪.‬‬ ‫ولذلك فعندي أن \"تلك حدود الله فلا تقربوها\" لا تصح على مقترف الجريمة وحده بل‬ ‫هي تصح كذلك على القاضي لأن تطبيقها فيه المستحيل أو زعم العلم المحيط في محددات‬ ‫الفعل الذي يحكم فيه‪ .‬لا بد أن يكون الحكم فيه اعتبار لما لا نحيط به علما وألا يكون‬ ‫القصد بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ذهابا به إلى غايته‪ .‬فظاهر العلم ليس كافيا‬ ‫لتطبيق غاية مقدار العقوبة بل ينبغي التخفيف وهو من مجال اجتهاد القاضي المتصف‬ ‫بصفتي الحكم أي الإخلاص للشرع والعدل في الحكم (النساء ‪.)58‬‬ ‫وإذا لم نفعل ذلك نكون كمن ظن أن القاضي العادي مثل الرسول بل ومثل الله في قضائه‬ ‫إذ هو يزعم أن الحكم من المحكمات وأنه من القطعيات وأن الأمر جاء بالقطع ولم ير أن‬ ‫الأمر يتعلق بحالة الإطلاق في النموذج وليس بحالة النسبية في التعيين‪ .‬فالحكم في المطلق‬ ‫شيء والحكم في الأعيان شيء ثان‪ .‬وبينهما بون لامتناه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والبون اللامتناهي هو مما لا يحيط به علم الإنسان‪ .‬وعلته هي الظروف الحافة بالوقائع‬ ‫والظروف التي حصل فيها الجرم وأحوال المجرم والجماعة وهلم جرا من المحددات لحصول‬ ‫الجريمة فضلا عن اعتبار إمكانية الخطأ في الوصف القانوني للجريمة نفسها ولدوافعها‬ ‫وفضلا عن كون النص أشار إلى الحد الأقصى من العقوبة‪ .‬والفاروق علم ذلك وطبقه حتى‬ ‫وإن لم يشر إلى كيفية فهمه للفرق بين الحكم ومقدار العقوبة التي ألغاها في تلك الحالة‬ ‫دون أن يلغي الحكم لأن السرقة حصلت فعلا ومن ثم فحكمها باق وما ألغي هو العقوبة‪.‬‬ ‫ولو ميز الفقهاء بين الحكم الذي هو وصف قانوني للفعل ومقدار العقوبة الذي هو في حالة‬ ‫الجرائم حماية للقانون والجماعة وليس انتقاما من المجرم وعلموا أن الانتقال من مطلق‬ ‫النموذج إلى تعيينه في الأحداث العينية يقتضي اعتبار ما يفضل به النموذج المطلق على‬ ‫العيني النسبي لكان ذلك حائلا دون تنمر السفهاء فيدعون تاريخية أحكام القرآن بسبب‬ ‫خلطهم بين الحكم الذي هو سرمدي ومقدار العقوبة الذي هو تاريخي‪.‬‬ ‫فالتاريخي في الأحكام القرآنية هو نوع العقوبة ومقدارها وليس الحكم الذي هو ثابت‬ ‫سرمديا‪ .‬ذلك أن السرقة جريمة بصورة مطلقة لأنها حوز يدعي ملكية هي حوز اغتصابي‬ ‫وليست ملكية أي من دون حق الملكية الذي هو أساس الحياة الجماعية وشرط التبادل‬ ‫والتعاوض العادل أساس كل تسالم بين البشر‪ .‬ومن ثم فهي بالضرورة جريمة بسبب كونها‬ ‫استحواذ على حق الغير أو حيازة دون مقابل من العمل أو من العوض لصاحبها‪ .‬وهذا‬ ‫جريمة في كل الشرائع السماوية أو الأرضية‪ .‬والمقدار تاريخي‪.‬‬ ‫لماذا هو تاريخي؟ لأن الوعي بالحقوق وسلطان القانون تاريخي وهو متناسب مع الترقي‬ ‫الخلقي للإنسانية‪ .‬ففي مجتمع جاهلي حيث كان كل شيء مبني على القوة وعلى إغارة‬ ‫الأقوياء على الضعفاء لا يمكن لمن يريد أن يغير ذلك وأن يبني دولة القانون إلا أن يطبق‬ ‫أقصى العقوبة‪ .‬ولما توجد دولة قانون تتغير مقادير العقوبة لتغير الثقافة‪.‬‬ ‫وسأضرب أمثلة من القرآن نفسه ولن أكتفي بمثال الفاروق إذ قد يقال إنما هو قد اجتهد‬ ‫وليس ذلك حجة على القطعيات القرآنية‪ .‬ولن اكتفي بواحد بل سأضرب ثلاثة أمثلة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والأول وهو جلي يتمثل في أن الشرع وضع شروطا تجعل حد الزنا شبه مستحيل التطبيق‬ ‫من إقامة الدليل فضلا عن مهرب التلاعن بين الزوجين إذا اختارا تأجيل الحكم بينهما ليوم‬ ‫الدين‪.‬‬ ‫لكن المثال الثاني أكثر دلالة على التمييز بين العقوبة والحكم وإمكانية تخفيف العقوبة‬ ‫بل والوصول بها إلى حد إلغائها‪ .‬فهل توجد جريمة أكبر من جريمة الحرابة؟ فهي سرقة‬ ‫عنيفة ومن ثم فهي في الحقيقة جريمتان في آن‪ .‬ولذلك فلها عقوبتان مجتمعتان هم قطع‬ ‫اليد (حكم السرقة) والساق من خلاف (حكم العنف بقطع الطريق)‪ .‬ومع ذلك فالقرآن‬ ‫وضع شرطا يلغي العقوبة دون الحكم‪ :‬استسلام المحارب للدولة قبل قدرتها عليه‪.‬‬ ‫والثالث أكثر دلالة منهما معا وهو من عجائب الحكمة القرآنية‪ :‬فيمكن القول إن القرآن‬ ‫هو أول نص ديني سعى إلى الغاء القصاص العيني في بما يشبه من تغيير حكم الاعدام‬ ‫بالنسبة إلى أكبر جريمة إنسانية وهي قتل النفس‪.‬‬ ‫فهو يشجع أهل القتيل على العفو بل ويلزم الدولة بدفع الدية إذا كان القاتل عاجزا عن‬ ‫ذلك وحصل من أسرة القتيل القبول بها والعفو أي التخلي عن الثأر‪ .‬فيكون أول نص ديني‬ ‫أعطى بديلا عن القصاص العيني دون أن يلغيه كمبدأ لأن القصاص حياة‪ .‬والمعلوم أن‬ ‫القصاص العيني من جنس المقايضة في الاقتصاد نفس بنفس مثل بضاعة ببضاعة‪ .‬وبذلك‬ ‫يمكن انتقال الإنسانية من العقاب المادي إلى العقاب الروحي الذي هو أكثر نجاعة في‬ ‫التربية القرآنية مثلما أن العملة التي تغني عن المقايضة أكثر نجاعة في الاقتصاد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لما وضعت معيار الفصل بين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم بدوت وكأني أقطع بصورة‬ ‫نهائية مع تعريفات المفسرين والمتكلمين والفقهاء والفلاسفة والمتصوفة أعني مع علماء الملة‬ ‫بالعلوم الغائية الخمسة‪ .‬وهو أمر يبدو فيه دعوى بحاجة إلى أدلة إن لم تكن حاسمة فلتكن‬ ‫على الأقل مقنعة بما تحققه من تجاوز للإشكاليات الزائفة فيها‪.‬‬ ‫فمن خصائص المعرفة العلمية أن اثباتها يحتاج إلى مبدأين‪:‬‬ ‫• أحدهما هو مبتدأها‬ ‫• والثاني هو منتهاها‪.‬‬ ‫فمن مبتدأها معيار تناسق الفرضية منطقيا‪،‬‬ ‫ومن منتهاها معيار نجاحها في تفسير ما وضعت من أجله‪.‬‬ ‫ولنقل إذن إن شرطي كل معرفة علمية هما التناسق المنطقي لفرضيتها التفسيرية‬ ‫والنجاح التفسيري لتصورها للموضوع‪.‬‬ ‫والمبدأ الأول هو الأيسر إثباتا لأن الفرضية تشبه التقدير الذهني الذي يكفي فيه أن‬ ‫يكون تصورا تتناسق مقدماته مع نتائجه المطلوبة فيكون التناسق متعلقا بما ننطلق منه من‬ ‫مقدمات تعتبر مقدما وما ننتهي إليه من نتائج تعتبر تـاليا‪ .‬ومن ثم فالتناسق هو نظام‬ ‫متماسك من العلاقات الشرطية المتصلة بين مقدم وتال‪.‬‬ ‫ومبدأ النهاية هو تطبيق قاعدة نقيض التالي يفيد نقيض المقدم‪ .‬فتكون التجربة هي‬ ‫الاختبار الذي يؤكد التالي أو ينفيه فيثبت إلى حد ما صحة الفرضية أو خطأها خاصة إذا‬ ‫تكررت التجربة واتفق أهل الاختصاص على دلالتها‪ .‬وكلما تقدمنا في الاختبار أمكن لنا أن‬ ‫نصحح الفرضي‪ .‬وتصحيحها هو التقليل من الشذوذ في التفسير‪ .‬وهذان المبدآن هما ما‬ ‫سأعتمده لبيان الوجاهة‪.‬‬ ‫خصص ابن خلدون في المقدمة فصلا للمحكم والمتشابه لخص فيه كل الآراء الواردة في‬ ‫المسألة (الفصل ‪ 16‬من الباب السادس‪ :‬في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫انطلاقا من الآية السابعة من آل عمران‪ .‬وهو أميل إلى اعتبار \"و\"ـها استئنافية لا عطفية‪.‬‬ ‫لكن كل الآراء تبدو بعيدة عن الفصل الواضح والعملي لعلاج الإشكال‪.‬‬ ‫ولا أنوي مناقشة الفرضيات القديمة‪ .‬فنقاش ابن خلدون كاف‪ .‬ولا أعتقد أني أستطيع‬ ‫أن أزيد على ما قدمه‪ .‬لكنه هو نفسه لم يصل إلى تعريف دقيق للفصل بين المحكم‬ ‫والمتشابه رغم أنه لمح إلى طريق الحل عندما وصل الأمر بعلاقة القول بمرجعه‪ .‬ما يعني‬ ‫أن هذه العلاقة هي مربط الفرس‪ .‬ومنها فرضيتي هذه إذ اكتفيت بالتمييز بين المرجعين‪:‬‬ ‫مرجع المحكم ومرجع المتشابه‪ .‬ولذلك فما يميز فرضيتي هو بساطتها‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالمحكم هو ما كان القرآن محيلا فيه على نفسه من حيث هي نظام الإشارات‬ ‫لغيره‪.‬‬ ‫‪ .2‬والمتشابه هو ما كان القرآن محيلا فيه على غيره من حيث هو مشار إليه دون كلام‬ ‫في مضمون المشار إليه‪.‬‬ ‫وكلا الصنفين قابل للتحديد الدقيق والنسقي والجامع المانع‪ .‬فيكفي أن نحدد أصناف‬ ‫إحالات القرآن إلى نفسه من حيث هو نظم إشارات إلى غيره وأصناف الإحالات إلى غيره‬ ‫من حيث هي المشار إليه حتى نحسم هذه القضية الجوهرية‪ .‬وبساطة هذا المعيار تجعل‬ ‫الفصل قابلا لأن يدركه أي قارئ مهما كان مستوى معرفته بالقرآن لأنه يكفي أن يأخذ‬ ‫المصحف وأن يقسم آياته إلى جنسين‪:‬‬ ‫‪ .1‬كل ما يتكلم فيه القرآن على نفسه من حيث هو مشير إليها بوصفها مشيرة إلى‬ ‫غيرها وذلك هو الـمحكم‪.‬‬ ‫‪ .2‬كل ما يتكلم فيه القرآن على غيره من حيث هو مشار إليه فيه هو الـمتشابه‪.‬‬ ‫ثم يمكنه أن يفرع الجنسين بحسب الوجوه التي تأتي بها الإشارة تعريفا لذاتها أو للمشار‬ ‫إليه بها‪.‬‬ ‫فلماذا يعتبر هذا الفصل حاسما وجامعا ومانعا في الجنسين؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلنبدأ بالمحكم‪ :‬القرآن يتكلم عن نفسه من حيث هو نظام إشارة لذاته ولغيره‪ .‬ومن ثم‬ ‫فالقرآن هو موضوع الكلام‪ .‬ولما كان نص القرآن متناه وهو بين دفتي المصحف فيمكن‬ ‫استقصاء كل الآيات التي تتكلم عليه والتي تجعله موضوع كلامها من حيث هو نظام إشارات‬ ‫لذاته ولغيرها‪ .‬فالعملية استقرائية بسيطة لمجموعة متناهية‪.‬‬ ‫وسنعود إلى الكلام في هذه المجموعة المتناهية ونحاول بيان ما تنقسم إليه من أنواع‪ .‬أما‬ ‫المجموعة الثانية وهي الأكبر من حيث العدد فهي كل ما يتكلم فيه القرآن من مشار إليه‬ ‫أي من الأشياء التي ليست ذاته بل هي مرجعيات كلامه على الطبيعة وعلى التاريخ وما‬ ‫بعدهما وعلى الله وعلى الرسول وعلى الرسالة وعلى الإنسان وعلاقاته بهذه الموضوعات‪.‬‬ ‫ومن هذا الحصر الجامع المانع أمكن لي وضع فرضية المعادلة الوجودية‪ .‬فقلبها أو حدها‬ ‫الأوسط هو العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه‪ .‬ثم ما قبلها أي الطبيعة وما بعدها (الله)‪.‬‬ ‫ثم ما بعدها أي التاريخ وما بعده (الإنسان)‪ .‬فتكون العلاقة المباشرة بين الله والإنسان‬ ‫حدا أوسط في القلب وحدا أوسط في المابعدين‪ .‬لأننا إذا ولنا الطبيعة وما بعدها والتاريخ‬ ‫وما بعده التقى المابعدان وهما عين القلب‪ .‬وتلك هي دائرة المعادلة الوجودية ولها قطبان‬ ‫هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه أو قلب المعادلة‪.‬‬ ‫‪ .2‬العلاقة غير المباشرة بين المابعدين‪.‬‬ ‫ففي هذه العلاقة غير المباشرة تكون الطبيعة والتاريخ بما بعدهما وسطين بين الإنسان‬ ‫وربه‪ .‬والطبيعة بما بعدها يمكن اعتبارها أفعال الله‪ .‬والتاريخ بما بعده يمكن اعتباره‬ ‫أفعال الإنسان إذا بسطنا الأمور لكنهما في الحقيقة هما مجال تفاعلهما‪.‬‬ ‫ذلك أن الطبيعة هي مجال استعمار الإنسان للعالم أي تعميره‪ .‬والتاريخ هو مجال‬ ‫استخلافه في العالم أي تعييره بقيم علاقته بربه‪ .‬ولما كان ما به يعمر الإنسان العالم هو ما‬ ‫جهز به وهو طبيعته بنحو فإن التعمير ليس فعلا إنسانيا خالصا بل فيه ما هو إلهي إن صح‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التعبير أو ما ليس بـمكتسب بإطلاق بل هو تجهيز فطري في الإنسان بمقومات كيانه الخمسة‬ ‫للنظر والعمل‪.‬‬ ‫ومقومات كيانه الخمسة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬إرادته الحرة‬ ‫‪ .2‬وعلمه الصادق‬ ‫‪ .3‬وقدرته الخيرة‬ ‫‪ .4‬وحياته الجميلة‬ ‫‪ .5‬ووجوده الجليل إذا بقي سليم الفطرة‪.‬‬ ‫وقد تفسد فيه الفطرة أو ما يسميه ابن خلدون معاني الإنسان فتصبح‪:‬‬ ‫‪ .1‬إرادته مضطرة‬ ‫‪ .2‬وعلمه كاذبا‬ ‫‪ .3‬وقدرته شريرة‬ ‫‪ .4‬وحياته قبيحة‬ ‫‪ .5‬ووجوده ذليلا‪.‬‬ ‫والتاريخ يصنع بالنوعين السوي والمنحرف بمعنى أن هذه المقومات التي هي أفعال‬ ‫الإنسان تتفاعل في التاريخ فيكون التاريخ وكأنه اختبار للنوعين من حيث نتائجهما على‬ ‫الإنسان والعالم‪.‬‬ ‫فيكون صنع التاريخ إنسانيا لكنه جامع بين الاستعداد الفطري للخيارين بين السوي‬ ‫والمنحرف‪ .‬ويكون التاريخ هو بدوره جامعا بين الربوبي والإنساني بين الفطري والمكتسب‬ ‫منه ومن ضديده‪ .‬وهو معنى \"خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين\" أو‬ ‫الخسر ومعنى الاستثناء منه بما أوضحته سورة العصر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فالخسر هو الإرادة المضطرة والعلم الكاذب والقدرة الشريرة والحياة القبيحة‬ ‫والوجود الذليل أو ما يسميه ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية وهو قابل للتدارك لأن‬ ‫علته معلومة‪ .‬إنها نسيان الإنسان لما فطر عليه من حرية وصدق وخير وجمال وجلال أو‬ ‫\"رئاسة الإنسان بطبعه وبمقتضى الاستخلاف\"‪.‬‬ ‫إنه تعريف الرسالة بكونها تذكيرا وليست تعليما لمجهول لدى المتلقي‪ .‬فنكتشف التحديد‬ ‫الجامع المانع لما يتكلم فيه القرآن من متشابه ويجمعه معنى الرسالة التذكيرية‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل أو الله‪.‬‬ ‫‪ .2‬المرسل إليه أو الإنسان‪.‬‬ ‫‪ .3‬الرسول أو مبلغ الرسالة ومعلمها‪.‬‬ ‫‪ .4‬مضمون الرسالة‪.‬‬ ‫‪ .5‬طريقة التذكير أو السياسة التي التربية والحكم‪.‬‬ ‫وهذا من المفارقات‪ :‬فتحديد المتشابه المشار إليه أعني كلام القرآن على غيره الذي هو‬ ‫المجال الأوسع أيسر تصنيفا من المحكم الذي هو المجال الأضيق تصنيفا أعني كلام القرآن‬ ‫على نفسه من حيث هو مشير‪ .‬والعلة هي أن المشار إليه هو المطلوب من الإنسان تحقيقه‬ ‫شروطا لمهمتيه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪ .‬وحتى يكون التصنيف الثاني أدق‬ ‫فينبغي أن نقول إن مجاله يتسع لما نحلل هذه العناصر الخمسة أو معنى الرسالة التذكيرية‪.‬‬ ‫فليس أوسع من مجال كلام القرآن في الله وفي الإنسان وفي الرسل وفي مضمون الرسالة‬ ‫وفي طريقة التبليغ تعليما وحكما‪ .‬فمثلا الكلام الإشاري في الإنسان‪ :‬فيه ذاتيا ثم في‬ ‫علاقاته بالعالم الطبيعي وبالعالم التاريخي وبما بعدهما‪ .‬وذلك هو جوهر موضوعات‬ ‫الأنثروبولوجيا والكسمولوجيا والثيولوجيا والانطولوجيا‪ .‬إنها مجالات تشابه لامتناه‪ .‬ولا‬ ‫يمكن علاجها بتأويل آيات القرآن بل بعلم آيات الله في الآفاق والانفس وهو علم اجتهادي‬ ‫لا يدعي الإحاطة لما في الوجود من الغيب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا الكلام هو أصل المتشابه والتأويل المنهي عنه‪ .‬فلماذا؟ ووهم الإعجاز العلمي علته‬ ‫الخلط بين الكلام الإشاري والعلم الذي هو ما يترتب من بحث على المحددات الدقيقة‬ ‫للأشياء ولا يكتفي بالإشارات العامة التي توجه الإنسان إليها‪ .‬فالقرآن لا يتكلم في هذه‬ ‫المجالات كلام العلم بل هو يؤدي دورا سميته دور \"السبابة\" أي إنه يشير إلى حيث ينبغي‬ ‫أن يتوجه اهتمام الإنسان ليعلم ما عليه عمله من أجل تحقيق مهمتيه‪ :‬التعمير والاستخلاف‬ ‫لا غير‪.‬‬ ‫ولأضرب أمثلة حتى يفهم القصد بـ\"السبابة\" التي تشير وتوجه في عملية التذكير بما‬ ‫فطر عليه الإنسان في علاقته بذاته وبغيره وبالعالم الطبيعي والتاريخي وبما بعدهما‪.‬‬ ‫‪ .1‬ففي علاقته بذاته بدنه وروحه يذكره بحرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة‬ ‫وجمال الحياة وجلال الوجود ترغيبا وبعكسها ترهيبا‪.‬‬ ‫‪ .2‬في علاقته بالعالمين الطبيعي والتاريخي يذكره بأن العالم هو مصدر مدده وشرط‬ ‫قيامه العضوي خاصة ومن ثم يحدد له القيم التي تترتب على كونه حر الإرادة صادق العلم‬ ‫خير القدرة جميل الحياة جليل الوجود إن حافظ على سلامة فطرته أو عكس ذلك كله إن‬ ‫قبل بتحريفها وتلك هي مسؤوليته وعلامة حريته‪.‬‬ ‫‪ .3‬وفي علاقته بما بعد العالمين الطبيعي والتاريخي ينبهه إلى مقام الخلافة الذي هو‬ ‫منزلته الوجودية وذلك على المستويين المعرفي والخلقي‪ .‬فعلى المستوى المعرفي جهز الإنسان‬ ‫بالقدرة على الإدراك المعرفي شرط النظر والعقد وعلى المستوى الخلقي جهز بالقدرة على‬ ‫الإدراك القيمي شرط العمل والشرع‪.‬‬ ‫وهذه التجهيزات الأربعة ‪-‬النظر والعقد والعمل والشرع‪-‬هي علاقته بالمابعدين‪ .‬فلولا‬ ‫الأولين لما أمكن له أن يعلم الطبيعة والتاريخ وذاته وعلاقتها بهما وبما يوجد وراءهما مما‬ ‫يعلل ما هما عليه‪ .‬ولولا الثانيين لاستحال عليه أن يدرك أن الكون ذو نظام وأنه لا يمكن‬ ‫أن يحقق مهمتيه من دون تنظيم عمله الذي ينبغي أن يكون على علم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأخيرا فالإنسان له بالفطرة الوعي بالمعادلة الوجودية حتى عندما ينساها فلا يستعمل‬ ‫ما جهز به‪ .‬فهو ينطلق من علاقته اللامباشرة بربه أي إنه ينطلق من الطبيعة ومن التاريخ‬ ‫ليطلب قوانين الأولى وسنن الثاني فيضع بوعي أو بغير وعي ما وراء لهما فتعيده علاقته‬ ‫اللامباشرة بربه إلى علاقته المباشرة‪ :‬وتلك هي الطريق التي تم الوصول بها إلى الأديان‬ ‫التي تبدأ طبيعية وتنتهي منزلة‪.‬‬ ‫‪ .4‬يوجهه القرآن إلى بداية الطريق في البحث عن قوانين الطبيعة لما يعلمه بأن كل‬ ‫شيء خلق بقدر فيفهم أن قوانين العالم رياضية‪ .‬ويوجهه إلى بداية الطريق في البحث‬ ‫عن سنن التاريخ لما يعلمه بان مجراه على سنن لا تتبدل ولا تتحول وهي غير قوانين‬ ‫الضرورة لأنها سنن الحرية فيها الضديدان‪.‬‬ ‫‪ .5‬ثم يعلمه بأنه مكلف بالتعمير شرطا في الاستخلاف وبأن الاستخلاف مستحيل من‬ ‫دون التعمير الذي يحرر من الحاجة إلى عبادة العباد بدلا من عبادة رب العباد‪ .‬لكنه‬ ‫التعمير لا يضمن الاستخلاف لأنه من دون يتحول إلى التدمير بدل التعمير وفي ذلك‬ ‫تحديد لعلاقة العالمين الدنيوي والاخروي في حياتنا‪ .‬ويعلمه بمقتضى ذلك بأن الرسول‬ ‫ليس وسيطا ولا وصيا عليه فردا كان أو جماعة في الغاشية ‪ 21‬و‪:22‬‬ ‫• فأولا الرسول مطالب بأن يذكر وليس هو وسيطا بين الله والإنسان وتلك مهمته كمرب‪.‬‬ ‫• وثانيا الرسول مطالب بأن يحكم (أن يكون حكما بمبدأي النساء ‪ )58‬وليس وصيا بين‬ ‫الجماعة وأمرها وتلك مهمته كحكم‪.‬‬ ‫والمهمتان بهذا التعريف نموذجيتان بمعنى أن الرسول نموذج المربي ونموذج الحاكم‪.‬‬ ‫والنموذج الأول تعين خاصة في المرحلة المكية‪ .‬والنموذج الثاني تعين خاصة في المرحلة‬ ‫المدنية‪ .‬وهما يتعلقان بتكوين إنسان حر الإرادة صادق العلم خير القدرة وجميل الحماية‬ ‫وجليل الوجود‪ :‬وتلك هي أخلاق القرآن‪.‬‬ ‫أما البحث بالتأويل عن علوم في القرآن فهو تحريف يؤدي إلى تخلي الأمة عن مهمة‬ ‫التعمير بالبحث العلمي وتطبيقاته والإيهام بأن القرآن يغنيها عن مهمتيها فهو من علامات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الكسل الذهني والتأويل الفاسد الذي نهت عنه آل عمران ‪ .7‬وهو هروب من تحقيق أمر‬ ‫فصلت ‪.53‬‬ ‫والله اعلم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وسواء كان كلام القرآن من المحكم أو من المتشابه فينبغي أن نميز فيه بين‪:‬‬ ‫‪ .1‬كلام القرآن من حيث هو كلام الله نفسه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وكلام القرآن الراوي دون تبن لما يرويه والراوي المتبني‪.‬‬ ‫‪ .3‬كلام الله الناقد للتحريفات‪.‬‬ ‫‪ .4‬كلام الله العارض للعقائد والشرائع الإسلامية‪.‬‬ ‫‪ .5‬الكلام على طبيعة الرسالة الخاتمة باعتبارها الديني في الأديان أو دين الله‪.‬‬ ‫فالقرآن فيه الكثير مما قد يؤدي إلى خطأ جسيم في التعامل معه‪ .‬فهو في قصصه يروي‬ ‫أشياء لا شيء يدل على انه يتبناها‪ .‬وبين أنه لا يتبنى الكفر الذي يرويه عند نقده‬ ‫للتحريف‪ .‬لكن توجد أمور يعسر بيان موقفه منها كما في رأي ملكة سبأ في الملوك وهي تتكلم‬ ‫على نبي‪.‬‬ ‫فهل يقر القرآن حكمها؟‬ ‫وعندما تقارن موقف القرآن الصريح من الرسالات التي تستدل بخرق العادات وموقفه‬ ‫من القرآن الذي المعجز فيه هو الاستدلال بالنظام وليس بخرقه تتساءل هل القرآن يقر‬ ‫النوع الأول من الاستدلال هو يروي ما يعتقده أصحاب تلك الأديان دون أن يكون ما يقره‬ ‫القرآن بدليل وصفها بكونها للتخويف‪ .‬وعندما يجعل الإيمان بالكتب السماوة شرطا في‬ ‫صحة اسلام المرء فهو طبعا لا يعنيها في شكلها المحرف بل ما تصبح عليه بعد مراجعتها بمنطق‬ ‫التصديق والهيمنة‪.‬‬ ‫ومن هنا المسالة التي يبالغ فيها أصدقاء القرآن وأعداؤه‪ .‬فأعداؤه يحاسبون القرآن بما‬ ‫يرويه لكأنهم يكذبون ما يرويه لتوهمهم أن كتاب تاريخ‪ .‬وأصدقاؤه يصدقون ما يرويه‬ ‫وكأنه من الوحي‪ .‬وكلا الرأيين خطأ‪ .‬فالرواية تأتي في الغالب في سياق نقد التحريف‪ .‬فلا‬ ‫يمكن نقد عقائد أو أي شيء من دون شواهد‪ .‬وهذه رواية لا تفيد التبني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولذلك فالفصل الذي وضعته للتمييز بين المحكم والمتشابه يتعلق بما يتبناه القرآن بوصفه‬ ‫من حقائق الرسالة الفاتحة والخاتمة أي الإسلام وما يقره من الرسالات التي يطهرها من‬ ‫التحريف بمنطق التصديق والهيمنة‪ .‬لكنه لا يشمل ما في القرآن من رواية لا يقرها‬ ‫القرآن وإنما يوردها كما هي عند أصحابها‪.‬‬ ‫فما يرويه القرآن دون أن يقره لا هو من المحكم ولا هو من المتشابه بل هو نوع ثالث لأن‬ ‫فيه كلام حول ما اعتبرناه من المحكم أي روايات حول القرآن من أقوال أعداء الرسالة‬ ‫الخاتمة وكلام حول ما اعتبرناه من المتشابه أي روايات حول غير القرآن لكنها كلها ليست‬ ‫من كلام القرآن بل مما يرويه دون اقراره‪ .‬كلام القرآن كلام الله وحده‪.‬‬ ‫ومن ثم فما هو رواية في القرآن ليس من كلام الله بمعنى أنه ليس مما يتبناه القرآن‬ ‫ومما يعتبر قائله ابتداء الله نفسه‪ .‬إنما هو رواية لكلام غيره‪ .‬فعندما يقول القرآن رواية‬ ‫عن الإنسان أو عن الشيطان أو عن الملائكة فذلك رواية وليس كلاما قائله الله‪ .‬المحكم‬ ‫والمتشابه اللذان يعنياننا هما مما يقوله الله في إشارته لذاته أو لغيرها خبرا أو إنشاء‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فما يوجد في المصحف من كلام ينقسم إلى نوعين غير نوعي المحكم والمتشابه‪:‬‬ ‫‪ .1‬كلام قائله الله وهما المحتويان على الحكم والمتشابه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وكلام يرويه الوحي من كلام من يتكلم عنهم القرآن أو يتكلمون عن القرآن‪.‬‬ ‫ومن يتكلم عنهم القرآن أو يتكلمون عنه وعما يتكلم فيه يصف القرآن مواقفهم وآراءهم‬ ‫شواهد مما يريد نقده وعلاج ما فيه من تحريف وهو إذن موضوع الوجه النقدي من القرآن‬ ‫بمعيار التصديق والهيمنة‪.‬‬ ‫وكلاهما يستعمله المسلم في الوظيفة النموذجية لما جاء في القرآن‪ .‬لكنه يستعمل الأول‬ ‫لأنه موجب كله‪ .‬ولا يستعمل من الثاني إلا الموجب‪ .‬ويترك السالب أعني أنه يقتصر على‬ ‫ما يبقى بعد التصديق والهيمنة‪ .‬مثال ذلك أنه لا يبقي من اليهودية والمسيحية والصابئية‬ ‫إلا الشروط الثلاثة في البقرة ‪ 62‬والمائدة ‪ :69‬الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل‬ ‫الصالح‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما يبقي كذلك هو ما في الأديان المحرفة مما يرد إلى الإسلام بمعنى التحرر من الأوثان‬ ‫وعبادة الله وحده‪ .‬ويعتبر شرائعهم التي يقرها كتابهم دون أن يتناقض مع الشريعة‬ ‫الإسلامية مقبولا‪ .‬والحصيلة هي أن التصديق والهيمنة مبدؤه هو الديني في كل دين أو‬ ‫دين الله فيها وهو الإسلام بوصفه الدين الكلي بداية وغاية‪.‬‬ ‫والشروط الثلاثة ‪-‬الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح‪ -‬هي الديني في الأديان‪.‬‬ ‫ويمكن بصورة أتم ردها إلى شروط الاستثناء من الخسر الخمسة كما حددتها سورة العصر‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بالخسر أو بما يترتب عن النسيان ويستدعي الرسالات للتذكير وتتفرع‬ ‫عنه أربع شروط هي‪:‬‬ ‫‪ .2‬الإيمان‬ ‫‪ .3‬والعمل الصالح‬ ‫‪ .4‬والتواصي بالحق‬ ‫‪ .5‬والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫الآن وقد حددنا المتن القرآني ما هو وما الذي يعنينا منه في مسألة التمييز بين المحكم‬ ‫والمتشابه يمكننا أن نعود إلى شرح القصد بأن القرآن \"سبابة\" تشير وتوجه وهو إذن ليس‬ ‫مدونة علمية يمكن أن نجد فيها قوانين الطبيعة أو سنن التاريخ كما يزعم من يتكلم على‬ ‫الأعجاز العلمي في القرآن بأي معنى كان‪.‬‬ ‫وحتى لا يقع الخلط بين المضمون العلمي والمضمون الذي سميته بالإشارة والتوجيه فلا‬ ‫بد أن نفهم أن الإشارة والتوجيه القرآنيين ليسا من العلم بمعناه الإنساني الذي هو تاريخي‬ ‫بالجوهر بل هما من العلم المحيط الذي لا يمكن أن يكون لغير الله يخبرنا به ولا نجد له‬ ‫تفسيرا في القرآن خبرا دالا على وجود الغيب‪.‬‬ ‫فعندما يقول القرآن بكلام منسوب إلى الله وليس رواية عن غيره {إن كل شيء خلقناه‬ ‫بقدر} فهذا خبر عن أمر غيبي يصدقه ما تتأسس عليه فصلت ‪ 53‬التي تقول إن ما يرينه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الله من آياته في الآفاق وفي الأنفس هو الذي يبين أن القرآن حق‪ .‬فعلمنا بآيات الله في‬ ‫الطبيعة يثبت أنها خاضعة لقوانين رياضية‪.‬‬ ‫لكنك لا تجد في القرآن هذه القوانين الرياضية بل على الأنسان الاجتهاد في البحث عنها‪.‬‬ ‫هو أشار أو وجه إلى البحث عن \"خلق بقدر\" البحث الذي يثبت أن المخلوقات مخلوقة بقدر‬ ‫أي ببنى يمكن أن نكتشفها عندما نبدع الرياضيات فنتأكد من أن قوله تعالى كل شيء‬ ‫خلقناه بقدر حقيقة فنتبين أن القرآن ما فيه من حقائق لا تدرك من دون البحث العلمي‪.‬‬ ‫والبحث العلمي هنا ليس شرح الكلام القرآني بل كشف قوانين الظاهرات الطبيعية التي‬ ‫تثبت ما أشار إليه القرآن من أن كل شيء خلق بقدر‪ .‬والقدر هنا ليس محددا بل هو مبدأ‬ ‫عام يصبح محددا بما يتوصل إليه البحث العلمي الذي يكتشف الأقدار في الموجودات‬ ‫موضوع البحث العلمي‪ .‬وهي دائما محددة ومعينة وليست مجرد مبدأ‪.‬‬ ‫ولأضرب مثالا حتى يتضح الفرق‪ .‬فلو قلت إن نظام العالم محكوم بالجاذبية فقد أشرت‬ ‫إلى موضوع بحث هو الجاذبية‪ .‬لكني لم أقدم قانونا علميا‪ .‬لكن إذا اكتشفت بالبحث العلمي‬ ‫أن قانون الجاذبية الذي هو قانون معين ومحدد بدقة لتألفه من ثابت مضروب في حصيلة‬ ‫ضرب كتلتي الجرمين المتجاذبين مقسوم على مربع المسافة التي تفصل بينهما أكون قد عملت‬ ‫القانون فانتقلت من الإشارة لمعنى الجاذبية بين الأجرام التي خلقت بقدر إلى قانونها‬ ‫العلمي بتحديد ما خلقت به من عدد وهو هذه العبارة الرياضية لقانون الجاذبية العلم‪.‬‬ ‫ولن تجد في القرآن شيئا من هذا أبدا لأن القرآن يطالب الإنسان بالاجتهاد لاكتشافه‬ ‫ويشير إلى أن الله قد جهزه بما يمكنه من ذلك‪.‬‬ ‫ما في القرآن هو من النوع الأول أي الإشارة إلى الجاذبية بين الأجرام التي خلقت بقدر‬ ‫وليس من النوع الثاني الذي هو العلم المحدد بهذا القدر‪ .‬فهو يقول كل شيء خلقناه بقدر‬ ‫لكنه لم يحدد القدر‪ .‬لو فعل الثاني لكان مدونة علمية‪ .‬ولأنه لم يفعل إلا الأول فهو‬ ‫\"سبابة\" أو إشارة أو توجيه إلى ما على الإنسان القيام به اجتهادا علميا لمعرفة محددة لهذا‬ ‫التعريف لطبيعة نظام المخلوق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا التمييز يصح على المحكم صحته على المتشابه‪ .‬ففيهما معا لا يمكن أن نستغني عن‬ ‫البحث العلمي ونكتفي بالتأويل أي برجم الغيب‪ .‬ذلك أن المحكم أيضا فيه غيب‪ .‬مثال‬ ‫ذلك أن كلام القرآن على ذاته ليس كله قابلا للعلم من قبلنا رغم أنه محك بمعنى ان ما‬ ‫جاء منه في القرآن لا يمكن تجاوزه‪ .‬فعبارة المعلوم من الدين بالضرورة اجتهادية في علمنا‬ ‫وليست مطلقة رغم أنها مطلقة في ذاتها‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن القطعيات لا تعني المعرفة المطلقة بل تعني ما يقطع به بوصفه من مبادئ‬ ‫دين معين أي إنها من مسلماته التي من دونها لا يكون ذلك الدين بعينه‪ .‬والقطع هنا يعني‬ ‫إيقاف التسلسل في علاقة الوعي الإنساني بالوجود وألغازه‪ .‬وهو في حالة الإسلام أعلى ما‬ ‫يمكن الوصول إليه في التعليل‪.‬‬ ‫فلا يمكن في محاولة تعليل الظاهرات الطبيعية والظاهرات الإنسانية تجاوز ما وصل إليه‬ ‫إبراهيم في آيات الأفول‪ .‬ومعنى ذلك أن أفضل نظام معلوم في عصره كان الفلك‪ .‬فكان‬ ‫تأليه الأجرام السماوية المرحلة قبل الأخيرة للوصول إلى المبدأ الأسمى أي مبدأ‬ ‫الوحدانية للمبدأ الذي يوجد وراء نظام العالم‪ .‬ولا يوجد دليل علمي على هذا المبدأ‬ ‫ولذلك فهو مبدأ إيماني من دونه يستحيل الشروع في البحث العلمي‪ .‬لكنه ليس علميا‪ .‬هو‬ ‫شرط العلم وليس علما‪ .‬والعمل كذلك له شرط لكنه ليس عمليا‪ :‬وهو التمييز بين القيم‪.‬‬ ‫ونظام العالم في أسمى ما فيه ‪-‬مسالة الأفول‪-‬يشمل نظام الوجود الإنساني أو التاريخ‬ ‫وذلك ما توصل إليه إبراهيم‪ .‬وهو ما اكتمل في صوغ الإسلام النهائي كما ورد في القرآن‬ ‫وكما صاغته بوضوح سورة هود بحديه وما بينهما من مسائل خمسة كما سبق أن شرحتها‪.‬‬ ‫ولأذكر بها سريعا حتى نتقدم في العلاج‪.‬‬ ‫فالرسول المخاطب فهم ما شيبه منها‪ .‬والثورتان‪-‬ثورة نوح وثورة موسى‪ -‬وما بينهما‬ ‫مضمون عقيدته وشريعته‪ .‬الإسلام استراتيجية لتحقيق الهرم مسدس القاعدة وواحد‬ ‫القمة وهو ما يسعى الإسلام على تحقيقه‪ :‬التحرر من سلطان الطبيعة وسلطان التاريخ وما‬ ‫بينهما من مسائل الثروة والماء والجنس والتبادل العادل بالوحدانية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الحدين لا يكفيان لتحقيق الثورتين‪ .‬لا بد من علاج‪:‬‬ ‫• سلطان المسيطرين على الثروة (هود)‬ ‫• وعلى مصدر الحياة الأول أو الماء (صالح)‬ ‫• وعلى مصدر الحياة الثاني أو الجنس (لوط)‬ ‫• وعلى شروط التبادل والتعاون والتعاوض العادل (شعيب)‪.‬‬ ‫فثورتا نوح وموسى لا تكتملان بغير ذلك مع ثورة قلب المعادلة وحدها الأوسط أو ثورة‬ ‫التوحيد (ابراهيم)‪.‬‬ ‫فـما دور نوح؟‬ ‫ثورة تحرر الإنسان من سلطان الطبيعة بالتقنية والزراعة (صنع السفينة وأعاد شروط‬ ‫قيامه بأخذ زوجين اثنين من كل شيء)‪.‬‬ ‫وما دور موسى؟‬ ‫ثورة تحرر الإنسان من سلطان التاريخ بالثورة على استبداد فرعون وهامان وتحرير‬ ‫الإنسان من الطغيان السياسي في التاريخ‪ .‬ذانك هما الحدان‪.‬‬ ‫فالسورة فيها سبعة أنبياء وتتوجه إلى نبي ثامن هو الرسول الخاتم‪ .‬وفي السبعة إبراهيم‬ ‫يمثل القلب |أو الحد الأوسط‪ .‬فقبله ثلاثة وبعده ثلاثة‪ .‬والحدان هما نوح وموسى‪.‬‬ ‫وبينهما هود وصالح قبل إبراهيم ولوط وشعيب بعده‪ .‬وإذن فعندنا هرم قاعدته مؤلفة من‬ ‫ستة رسل وقمته من القلب وهو إبراهيم في السورة والمخاطب هو الرسول الخاتم وهو‬ ‫إبراهيم الثاني أو محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بقي في المحاولة سبعة فصول‪ :‬خمس للمرسل والمرسل إليه والرسول ومنهج التبليغ تربية‬ ‫وحكما والرسالة طبيعة ومضمونا ومخاطبا بها وواحدة لمهمة الإنسان الأولى وهي الاستعمار‬ ‫في الأرض والثانية لمهمته الثانية وهي الاستخلاف في الأرض مع علاقة الأول بالثاني‬ ‫وعلاقة الثاني بالأول وما يترتب على الفصل بينهما في التاريخ‪.‬‬ ‫فالعلاقة بينهما وصلا وفصلا هي التي تحدد الوضعية التاريخية للأمم بمعنى الرئاسة‬ ‫الإنسانية التي تتجاوز المقابلة بين الحرية والعبودية لأن هاتين هما الحالتان اللتان تمر‬ ‫بهما الرئاسة‪ .‬فهي منزلة وجودية للإنسان من أجلها خلق وهي عبادة إن كانت لله وحده‬ ‫صارت حرية وإن أشرك صاحبها تصبح عبودية‪.‬‬ ‫وذلك هو قصد ابن خلدون بتعريف الإنسان‪ \":‬رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي‬ ‫خلق له\"‪ .‬ومعنى ذلك أن ِخلقة الإنسان بذاتها (وهو معنى بطبعه) أهلته لأن يكون رئيسا‬ ‫في عالم المخلوقات ‪-‬لأنه إنما خلق ليعبد الله أي ليدرك أفعاله وفضلها‪-‬والعلة هي‬ ‫الاستخلاف أي كونه بهذا الادراك يعمل على علم فتكون الغاية خلقية والأداة اقتصادية‬ ‫(تعمير الأرض)‪.‬‬ ‫ولأنه يعمل على علم فهو مسؤول‪ .‬ولذلك كلف‪ .‬والتكليف هو صنع التاريخ بمعايير‬ ‫الاستخلاف فيحاسب على إثبات جدارته بالاستخلاف أو عدم جدارته‪ .‬فيكون الاستعمار في‬ ‫الأرض هو الامتحان الاستخلافي‪ .‬ولذلك فمن العسير الفصل بينهما لأن الاستخلاف معيار‬ ‫خلقي والتعمير معيار اقتصادي للقيام العضوي و\"تقني\" لتحقيق الرئاسة والغاية من ذلك‬ ‫كله خلقية وروحية بوصفها تحررا من استبداد الطبيعة ومن استبداد الدولة‪.‬‬ ‫وقبل الشروع في درس الموضوعات السبعة أختم بتحديد من المخاطب بالرسالة‪ :‬الإنسان‬ ‫عامة‪ .‬لكن بمعنيين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول هو الإنسان الأمي أي الذي لم تتلق أمته رسالة بعد‪.‬‬ ‫‪ .2‬من تلقت أمته كتاب وحرفه معلموها وحكامها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولما كان القرآن يقول إن لكل أمة رسولا بلسانها قبل القرآن فإن الإسلام يشمل‬ ‫الإنسانية‪ .‬وشموله لا يقتصر على التاريخ الإنسانـي منذ نزوله بل هو يشمل الإنسانية‬ ‫حتى التي تقدمت على نزوله‪ .‬فهو يشمل ما تقدم بمعنيين لأنه يتكلم على الفطرة أولا‬ ‫وهي كونية (الأعراف ‪ )173-172‬ويشمله ثانيا لأنه تعرض لكل ما حرف من الرسالات‬ ‫بالتصحيح بمبدأ التصديق والهيمنة‪ .‬لم يشذ أحد من شموله للإنسانية‪.‬‬ ‫والآن أبدأ بأول عناصر الرسالة وأسماها‪ :‬المرسل أي الله كما نؤمن نحن المسلمين‪ .‬ولا‬ ‫يوجد من لا يؤمن بمصدر إرسال في كل الأديان سواء كانت سماوية أو طبيعية إذ حتى‬ ‫الطبيعية ففيها مصدر ينسب إليه الدين حتى لو كان إنسانا كما في البوذية مثلا‪ .‬فهو لا‬ ‫يعتبر المصدر الإنساني إلا بوصفه ملهما من قوة ما متعالية عليه‪.‬‬ ‫ومفهوم الله من المتشابه ليس في ذلك شك‪ .‬ولذلك فهو من أكبر معضلات علم الكلام‬ ‫ذاته وصفاته‪ .‬لكني أعتقد أن الإشكال جاء من كون القرآن يخاطب الإنسان بلغة الإنسان‬ ‫أو بصورة أدق بما يقبل القول بأي لغة انسانية ولا تفاضل بين اللغات فيه‪ .‬ولذلك فهم‬ ‫يسقطون عليه مفادات اللغة عندهم لكأنه واحد منهم‪ .‬وعلة ذلك وهم المطابقة بين الدلالة‬ ‫التي للألفاظ عند الكلام على الإنسان والتي لها عند الكلام على الله‪.‬‬ ‫لكن الذات لا تعلم والصفات لا وجود لها في القرآن‪ .‬ووهم وجودها علته اعتبار صفات‬ ‫فعل الله صفات لله‪ .‬الموجود هو الأفعال وصفاتها‪ .‬وإذن فالصفات ليست لذاته بل لأفعاله‪.‬‬ ‫وأسماؤه هي صفات أفعاله وليست صفاته هو‪ .‬وغالبها ما تكون صيغ مبالغة من اسم الفاعل‬ ‫وليست صفات للذات‪ .‬فعليم مثلا صيغة مبالغة من اسم الفاعل عالم‪ .‬وجبار صيغة مبالغة‬ ‫من اسم الفاعل جابر إلخ‪...‬‬ ‫والأفعال نستنتجها من المفاعيل سواء كانت في الطبيعة أو في التاريخ أو فينا نحن‪.‬‬ ‫والصفات نستنتجها من الأفعال‪ .‬فلا يمكن أن ندعي أن لله صفات فنبحث عن علاقتها‬ ‫بالذات إذ لا توجد صفة يمكن أن تناسب ذات الله‪ .‬لكن أفعاله مناسبة لذاته‪ .‬وترد كل‬ ‫أفعال الله في القرآن إلى فعل واحد له وجهان‪ :‬كن الخالقة وكن الآمرة‪ .‬وبقية صفات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الافعال هي ما يدركه المتلقي للخلق أو للأمر من معاني الفعلين بحسب ما يشعر به من رحمة‬ ‫أو نقمة‪.‬‬ ‫وحتى ما يبدو انفعالا لأنه تلق لرد فعل هذا من الموجودات مثل سماع الدعاء والاستجابة‬ ‫فهو أيضا فعل بمعنى أن ما يتلقاه الله هو علة خلق الإنسان مثلا وهو لموضوعية الحكم فيه‬ ‫طاعة أو عصيانا‪ .‬وما يبدو انفعالا هو فعل تمكين الإنسان من الضدين حتى يكون تعيير‬ ‫أهليته للخلافة مبنيا على حكم موضوعي فيكون من ثم فعلا إلهيا يجعل الطاعة والعصيان‬ ‫لهما نفس الشروط للحصول حتى لا يحتج الإنسان بالجبر في سلوكه فيدعي أن الله لو أراد‬ ‫لمنعه من عمل الشر مثلا‪ .‬وهذا شرط الحرية والمسؤولية‪.‬‬ ‫وإذن فلما نتلقى الرسالة ونسمع الله يتكلم في القرآن نتذكر ما يوجد فينا من مثيل لهذا‬ ‫الصوت في ذواتنا يعتبر ما نسمعه في القرآن تذكيرا من جنس ما نشعر به من أفعال في‬ ‫الطبيعة وفي التاريخ لا نستطيع لها فهما إلا بنسبتها إلى \"شيء\" ما وراءهما وله فعلان‬ ‫واردان في القرآن‪ :‬خلقهما وأمرهما بكن‪.‬‬ ‫فكل من يدعي التوقف عند المخلوقات وسلوكها وكأنها صانعة ذاتها وآمرتها يكذب على‬ ‫نفسه وعلى غيره إذا ادعى أنه يعتقد ذلك حقا‪ .‬ذلك أن أول شيء يكذبه أنه يعلم أنه‬ ‫ليس خالق نفسه ولا يستطيع أن يدعي أنها سرمدية ولم يسبقها عدم وجودها ولن يلحقها‬ ‫عدم بقائها‪ .‬الإنسان نفسه دليل وجود الله وفعليه الخالق والآمر‪.‬‬ ‫ولهذه العلة وحدها يمكن القول بلا جدال إن الدين فطرة لا يستثنى منها إنسان وربما‬ ‫أيضا أي موجود آخر سواء كان حيا أو جامدا‪ .‬فالطبيعة نفسها يتداول عليها الوجود والعدم‬ ‫وتخضع لقوانين‪ .‬والأول علامة على أنها مخلوقة والثاني على أنها مأمورة‪ .‬وافتراض ذلك‬ ‫حاصلا بذاته هو التأليه البدائي للطبيعة‪.‬‬ ‫وما أطلت الكلام في ذلك إلا لأنه عين ما يقوله القرآن وما يستدل به على وجود الله‬ ‫ووحدانيته ويمكن القول إن فضل إبراهيم في القرآن يرد لاكتشافه ذلك في قصة الأفول‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهو ينطلق من أرقى دين طبيعي في تاريخ الإنسانية أعني عبادة الأفلاك ليثبت أنها بصفة‬ ‫الأفول وحدها ليست جديرة بأن يتوقف قطع التسلسل التعليلي عندها فالمبدأ وراءها‪.‬‬ ‫وأقصى ما يصل إليه الملحد دليل كذبه على نفسه وليس دليل نفي وجود الله‪ .‬فهو بين‬ ‫حالتين‪ :‬إما جاحد لفشله في الطلب أو رافض للتناقض بين صفات الله وصفات العالم‪ .‬فما‬ ‫في العالم من شرور يمكن أن يشكك في وجود الله عندما ينسى أن ذلك من شروط مهمتي‬ ‫الإنسان‪ :‬أن يفعل وأن يكون حرا ليكون مسؤولا عن فعله‪.‬‬ ‫فإذا اختار نفي الماوراء فهو كأنه اعتبر اختياره الألحاد ليس اختيارا بل اضطرارا بمعنى‬ ‫أنه ألحد بالصدفة وليس نتيجة لاستدلال إذ مجرد الكلام على الاستدلال يعين النظام‬ ‫العقلي‪ .‬فهو دليل نظام وليس دليل صدفة‪ .‬إثبات الإلحاد بالعقل لا يمكن حتى لو قال‬ ‫صاحبه بالاستسلام للصدفة‪ .‬وهو أعسر ألف مرة من أثبات وجود الله بمعايير العقل‬ ‫الإنساني أو بحساب الاحتمال‪.‬‬ ‫ويبقى مع ذلك مشكل‪ :‬كيف لما وراء الوجود كله أن يعنى بالإنسان كل هذه العناية وأن‬ ‫يخلقه ليعبده وأن يكرمه وأن يستخلفه وأن يتعاقد معه وأن يرسل له رسل بلسانه؟ هذا‬ ‫هو اللغز الأكبر في الدين‪ .‬ففي فلسفة أرسطو مثلا الرب لا علاقة له بالعالم ولا يعنى به‬ ‫ولا يتلفت إليه ولا يعلم حتى بوجوده‪.‬‬ ‫العلاقة الوحيدة التي يعترف بها أرسطو هي محاكاة الأفلاك للعقول ومحاكاة العقول لله‬ ‫وذلك هو العالم الأسمى والآلة التي بحركتها تنضج ما يوجد في العالم الأدنى من كون‬ ‫وفساد ليخرج من القوة إلى الفعل أو من عدم الصورة إلى الصورة التي يكون عليها وبها‬ ‫تتمايز الكائنات في الوجود الفاني خلال العود الأبدي‪.‬‬ ‫وليس المحير أن الله يعنى بالإنسان إلى هذا الحد بل يمكن القول إن القرآن كله‬ ‫\"تسخيط\" على الإنسان وكله نقد مقذع لما فيه من نكران الجميل ومن صفات الخفة الخلقية‬ ‫والعناد السفسطائي ما يجعل الله وكأنه يعترف بأن خلقه للإنسان يكاد يكون خطأ في الخلق‬ ‫ومع ذلك أعطاه فرصة ثانية عله يهزم شيطانه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا هو الوجه الغيبي من الخلق والأمر في القرآن‪ .‬فكل تأويل لهذه المعطيات الواضحة‬ ‫والصريحة في القرآن دليل على زيغ القلب وابتغاء الفتنة‪ .‬ولهذه العلة أرفض القول‬ ‫بالمقاصد في التشريع مثلا‪ .‬ذلك أن محاولة توسيع نطاق الشرع خطأ مرتين‪:‬‬ ‫• أولا القياس عليه مستحيل‪.‬‬ ‫• وثانيا لأن القرآن فيه مخرجا أفضل وأيسر‪.‬‬ ‫فالقياس عليه يعني أن القائس يرى وجوه الشبه في الأحكام ولا يرى عدم وجودها في‬ ‫الشارع‪ .‬وثانيا المخرج موجود في القرآن لأن تحديد شروط التشريع المقبول في القرآن دون‬ ‫قياس ولا مقاصد هو الذي أسميه التشريع للتشريع ومنه مثلا صفتي ال َحكم أن يكون أمينا‬ ‫وعادلا‪ .‬والأمانة والعدل معلومان‪.‬‬ ‫فالأمانة تكون لأصل التشريع‪ .‬والعدل يكون بعدم المفاضلة بين طرفي النزاع خلال‬ ‫تطبيق التشريع‪ .‬فأما أصل التشريع فهو أخلاق القرآن وأما عدم المفاضلة فشرطه أن‬ ‫يطبق مبدأ الحجرات ‪ 13‬الذي يقصر التفاضل عند الله على التقوى‪ .‬فيكون معيار العدل‬ ‫هو اعتبار مدى أمانة الخصمين وعدلهما‪ .‬وهذا من مفارقات القضاء بالمعنى القرآني‪.‬‬ ‫فالقاضي الذي يتصف بالأمانة والعدل هو الذي يقضي بما لدى الخصمين من الأمانة‬ ‫والعدل في الخصومة‪ .‬فإذا تبين له خلل الأمانة والعدل عند أحدهما علم أنه هو المعتدي‬ ‫لأن عدوان إنسان على إنسان ليس عليه مباشرة بل هو عدوان على حقوقه من قبل من لا‬ ‫أمانه له ولا عدل‪ .‬فيكون معتديا على شرع الله لشرع الإنسان قبل خصمه‪ .‬الله يشرع‬ ‫للشرع ولا يشرع للنوازل‪.‬‬ ‫وهذا لا يصح على الشرع الديني وحده بل على كل شرع حتى العلماني وحتى الملحد إذا‬ ‫عمقنا البحث رغم أنه لم يتضح أول مرة إلا في القرآن‪ .‬فالقاضي لا يحكم من دون معيار‬ ‫للحكم‪ .‬وبالعدوان على المعيار وليس على الخصم إلا بالتبعية يحدد الخصم المعتدي‪.‬‬ ‫فالخصم المعتدي على الثاني لا يكون معتديا عليه إلا بالعدوان على المعيار‪ :‬عقاب المعتدي‬ ‫حماية للمعيار قبل حماية المعتدى عليه بـإرجاع الحق لصاحبه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولو لم يكن الأمر كذلك واقتصر على حجج الخصمين كما في القانون المدني الحديث لكان‬ ‫ذلك ليس إقامة للعدل بل تشجيع للتنافس في التحيل إما خلال كتابة العقود أو خلال تحريف‬ ‫تأويلات بنودها بحسب قدرة المحامين خلال المرافعات وربما تواطؤ القضاة الذين ليس لهم‬ ‫صفتا الحكم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبخلاف ما يتوهم الكثير فإن المرسل إليه‪-‬الإنسان‪ -‬أعسر على الفهم من المرسل ‪-‬الله‪-‬في‬ ‫القرآن‪ .‬فيمكن القول إن القرآن يكاد يكون مقسوما مناصفة بين المرسل والمرسل إليه أي‬ ‫بين الله والإنسان‪ .‬وأعتقد شخصيا أن هذه المنزلة علتها أن كيان الإنسان هو المفتاح‬ ‫\"لاستشفار\" القرآن والوجود لأن معضلة المعضلات الوعي بالذات وبالوجود‪.‬‬ ‫حتى إنه بالوسع القول إن من يدعي تصورات الإنسان للرب كلها مجرد اسقاط لصورته‬ ‫على الله فيه شيء من الحقيقة‪ .‬فالإنسان لا يستطيع تصور الله‪ .‬وهو إذا تصوره فلا يمكن‬ ‫أن يتجنب هذا القياس على ذاته‪ .‬ولا ضير في ذلك إذا تعلق بصورة الإنسان عن الله وليس‬ ‫باعتقاده رد ذات الله في ذاتها إلى تصوره عنها‪.‬‬ ‫وهذه المعضلة لا تصدق على تصورنا لله فحسب بل حتى على تصورنا للعالم الطبيعي‬ ‫والتاريخي‪ .‬فنحن لا نفهمهما من دون قيس أفعالهما على أفعالنا إذ نبحث عن صورة منهما‬ ‫تقاس على تقنياتنا فنعتبرهما هما بدورهما جهازين آليين في علاقات ميكانيكية تحكمهما‬ ‫وكل فلسفة تؤول في الغاية إلى استعارات من تقنياتها‪ .‬فكل الفلسفات سواء في الطبيعة أو‬ ‫في التاريخ أو في ما ورائهما لا تخرج عن هذا القياس بين تقنياتنا وآليات عملهما‪.‬‬ ‫والخطأ ليس في القياس بل في توهم المطابقة بين المقياس والمقيس المطابقة التي لا يرى‬ ‫أصحابها إلا وجه الشبه ويغفلون عن وجوه الاختلاف وهي مما لا يقدر كما وكيفا‪ .‬وليكن‬ ‫مثالنا قياس الله على الإنسان‪ .‬فمقومات الإنسان ندركها في ذاتها أي أفعاله (أن يريد وأن‬ ‫يعلم وأن يقدر وأن يحيا وأن يوجد) وتصاغ في شكل أسماء وكأنها صفات هي الإرادة والعلم‬ ‫والقدرة والحياة والوجود‪ .‬فننسب مثلها إلى الله‪ .‬وننسى الفرق الجوهري وهو علة التأله‬ ‫بمعنييه عند الإنسان‪ .‬فللتأله معنيان‪:‬‬ ‫التأله الصوفي وهو تأله يتوهم صاحبه أنه صار عالما بالغيب‪ .‬ومن المتصوفة من يذهب إلى‬ ‫حلول الله فيه أو حلوله هو في الله‪ .‬ومثله كل أصحاب خلق الكبر من المبدعين ومن يعتبرون‬ ‫أنفسهم ذوي فضل على غيرهم في أي مجال فكري‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والتأله السياسي وهو تأله يتوهم صاحبه الاستبداد السياسي بلوغا درجة الألوهية‪.‬‬ ‫فالمستبد يتصور أن له سلطانا مطلقا مثل الله‪ .‬والوعي بالفرق هو المقابلة بين النسبي‬ ‫والمطلق في هذه المقومات‪.‬‬ ‫صحيح أن الإنسان له إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود‪ .‬لكنها كلها نسبية‪ .‬وكل عاقل ‪-‬‬ ‫بل وتلك علامة العقل الحقيقية‪-‬يدرك أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده كلها‬ ‫\"صفات\" محدودة وأن مجرد العلم بذلك هو أصل الإيمان بوجود الله الذي له الإرادة (فعال‬ ‫لما يريد) والعلم (يعلم بإطلاق) والقدرة (قادر على كل شيء) والحياة (قيوم حي لا‬ ‫يموت) والوجود (لامتناهي الوجود) وهي إذن كلها مطلقة ولا متناهية للتضايف‪.‬‬ ‫والتضايف بين هذه المقومات النسبية عند الإنسان يقتضي أن الوعي بها ملازم للوعي‬ ‫بمقابلاتها المطلقة عند الله‪ .‬وذلك من أهم الأدلة التي استعملها ديكارت مثلا لإثبات وجود‬ ‫الله‪ .‬ذلك أن أي عاقل لا يمكن أن يدعي إدراك المائتية ونسبية حياته من دون أن يدرك‬ ‫معها السرمدية والخلود وإطلاق الحياة‪.‬‬ ‫وهذا التضايف يثبت سطحية الرؤية التي يقول بها من يعتبر القول بالإطلاق استكمال‬ ‫وهمي لعدمه عند الإنسان‪ .‬فهذا حتى لو سلمنا به يصدق على صورة الإنسان لله وليس‬ ‫على حقيقة التضايف الذي أحد طرفيه فعلي وليس مجرد صورة ذهنية‪ .‬ومن ثم فطرف‬ ‫التضايف الثاني حقيقة وليس مجرد صورة في ذهن أحد الطرفين‪.‬‬ ‫وسواء صح الاستدلال الديكارتي أو لم يصح فإن الأهم من ذلك هو أن الإنسان من حيث‬ ‫هو إنسان يحتوي على كل الغاز الوجود ومن ثم فمنزلته الوجودية من حيث هو له القدرة‬ ‫على الوعي بذاته وبما حوله هي التي تجعله يشغل مساحة من القرآن تعادل مساحة الله‬ ‫فيه لقاء بين مرسل ومرسل إليه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأعتقد أن هذه أكبر خاصية قرآنية لم أرها بهذا الوضوح في أي دين منزل أو طبيعي مما‬ ‫هو معلوم من الأديان‪ .‬وخاصيته ليس في وجودها لأن جميع الأديان ليست أديان إلا بسبب‬ ‫هذه العلاقة بل كونها ترفض الخصوصية وتجعلها للإنسان من حيث هو إنسان فتكون كونية‬ ‫بإطلاق ودون أدنى استثناء‪.‬‬ ‫فاليهودية تجعل العلاقة بين الله واليهود حصرا ومن عداهم يكون بتوسطهم بينه وبين‬ ‫الله‪ .‬والشيعة تجعلها بين الله وآل البيت حصرا ومن عداهم يكون بتوسطهم بينه وبين‬ ‫الله‪ .‬والمسيحية بعد الإصلاح الأول على يدي بولس جعلتها مثل اليهودية حصرا في بني‬ ‫إسرائيل حتى وأن عممت المرسل إليه كمتلق عن طريق أنبياء بني إسرائيل حصرا وسطاء‬ ‫لا يخاطب الله سواهم حتى صار أبا لأحدهم‪.‬‬ ‫أما الإسلام فإنه يجعل الاتصال بين الله والإنسان كونيا رسولا ومرسلا إليه‪ .‬فلكل أمة‬ ‫رسول بلسانها‪ .‬والرسالة الخاتمة (القرآن) التي هي تذكير بالرسالة الفاتحة المرسومة في‬ ‫ما فطر عليه الإنسان وفي الميثاق (الأعراف ‪ )173-172‬تتوجه للإنسانية كلها بمنطق‬ ‫النساء ‪ 1‬والحجرات ‪.13‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الكونية الدينية في الإسلام يترتب عليها أو تكون نتيجة لـمبدأين هما‬ ‫الأخوة البشرية (النساء‪ )1‬والمساواة بين البشر (الحجرات ‪ )13‬ونفي التفاضل بغير‬ ‫التقوى التي هي احترام القانون أو الشريعة الإلهية‪ .‬ومن ثم فهم مطالبون بالتعارف‬ ‫معرفة ومعروفا‪ .‬وإذن فنحن أمام كائنين كلاهما واحد‪.‬‬ ‫فالله واحد‪ .‬والإنسانية واحدة أو من نفس واحدة‪ .‬ولا تتعدد إلا بأفعالها وأعيانها‬ ‫وكذلك الله لا يتعدد إلا بأفعاله وعينه‪ .‬ومنها أسماؤه التي هي متعددة تعدد الأفعال لكنها‬ ‫دالة على الوحدانية‪ .‬ودلالتها على الوحدانية هـي علة السماح بدعائه باي منها (الإسراء‬ ‫‪ .)110‬وإذن فالتعدد الأسمى للأفعال لا يتنافى مع الوحدانية التي لله الواحد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ويترتب على ذلك وهاء المقابلة بين الأقوام لأنهم متساوون عند الله‪ .‬وينبغي أن يكونوا‬ ‫متساويين عند الإنسان‪ .‬والفروق العقدية هي بين الأفراد‪ .‬والقرآن يردها إلى ثلاثة‬ ‫عندما تكلم على منزلة أهل الأديان التي ذكر منها أمثلة في البقرة ‪ 62‬والمائدة ‪ :69‬الإيمان‬ ‫بالله واليوم الآخر والعمل الصالح‪.‬‬ ‫وهذه مناسبة لبيان سخافة ما صرح به البابا مؤخرا من نفي ليوم الدين ولوجود آدم وحواء‬ ‫خاصة في دلالتهما القرآنية التي تردهما إلى نفس واحدة خلق منها زوجها وبث منهما رجال‬ ‫كثير ونساء‪ .‬والحجة خاصة بالنسبة إلى نفي يوم الدين هو دعوى الدفاع عن الرحمة‬ ‫الإلهية وعدم تناسبها مع جهنم‪ .‬وفي هذا الكلام سطحية مطلقة لأن الكثير من الناس‬ ‫يعيشون جهنم في الدنيا‪.‬‬ ‫فكيف يناسب ما في الدنيا رحمة الله ولا يناسبها ما في الآخرة أم أن ما يجري في الدنيا هو‬ ‫أيضا خرافة؟‬ ‫فإذا كان العقاب في الآخرة لا يناسب رحمة الله فمن باب أولى ألا يناسبها ما يحصل في‬ ‫الدنيا‪ .‬ومن ثم فإما أنه يحاسب الله على ما يترتب على الحرية أو أن يحاسبه على الحرية‪.‬‬ ‫فالحرية تعني أن الإنسان مسؤول عما يحصل له في العالمين أو ينبغي نفيها بنفي ما يترتب‬ ‫عليها‪ .‬لكن ما يدعوني للكلام في الموضوع أهم‪.‬‬ ‫ويتعلق بالحجة الإبليسية التي يعتمد عليها التصوف والمسيحية المحقرين من البدن بوصفه‬ ‫ماديا‪ .‬فعندهم لا يمكن أن يبعث البدن مع الروح وأن البعث روحي لا غير لأن البدن ليس‬ ‫أهلا لذلك‪ .‬وهذا التحقير من المادة موروث عن الفلسفة اليونانية وخاصة عن الأفلاطونية‬ ‫لأنها سبب التغير وسبب الاستعصاء على التصوير وذلك هو الشر عنده لأنها تمثل‬ ‫اللاتحدد‪ .‬والقرآن لا يحقر منها بل هي عين المدد الوجودي‪.‬‬ ‫والتحقير من المادة موقف إبليسي إذ به يعلل عدم القبول بالمنزلة التي من الله بها على‬ ‫آدم فعصا أمره بالسجود لآدم‪ .‬ويسمي المتصوفة موقف إبليس هذا الرافض للأمر بالفتوة‬ ‫الإبليسية‪ .‬لكن القول بكرامة الإنسان لا يفصل بين البدن والروح لأن الروح هي بالذات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فعل التكريم نفسه لكيان الإنسان البدني والروحي إذ هو ما يرمز إليه النفخ الإلهي في‬ ‫المادة التي شرفت بالروح مثلها‪.‬‬ ‫ومن هنا العناية بالبدن ركنا مقوما للصلاة من حيث النظافة والرياضة وأسمى رموز تكريم‬ ‫البدن هو المنزلة الخلقية والجمالية للجنس في الإسلام في الدنيا وفي الآخرة‪ .‬وهكذا يتبين‬ ‫ما دمنا نتكلم على الرموز فحتى لو اقتصرنا عليها دون ما يرتبط بها من المعتقدات فإن‬ ‫موقف البابا والتصوف سطحي فلسفيا‪.‬‬ ‫ثم إن القرآن يجعل البدن المروحن بالنفخ يوم الدين قادرا على النطق لما يشهد على‬ ‫صاحبه بما فعله ويريد كتمانه ما يعني أن كل أفعال الأنسان ليست مسجلة في كتابيه فحسب‬ ‫بل وكذلك في بدنه الذي يسجل كل حركاته باعتباره هو بدوره مطلق الوعي بما يرتسم‬ ‫فيه حتى وإن تأجل نطقه ليوم الدين‪.‬‬ ‫ويمكن القول إن العلاقة بين البدني والروحي مناظرة للعلاقة بين حالتي المادة أي بين‬ ‫الجسمي والطاقي‪ .‬وهي علاقة بدأت فيزياء لامتناهي الصغر تصل إلى مستوى من التحليل‬ ‫يكاد يلغي الفرق بين الحالتين في أقصى ما يصل إليه البحث في بنية المادة وهل هي جسمية‬ ‫أم من طبيعة لا جسمية لكأنها روحية‪.‬‬ ‫ولو اقتصرنا على المدارك الحسية لاعتقدنا أن ما نعتبره ملاء أكثر مما نعتبره خلاء في‬ ‫أبداننا‪ .‬لكن لو استعملنا أدوات الإدراك العلمية لتبين لنا أن ما نعتبره ملاء لا يكاد يوجد‬ ‫بالقياس إلى ما نعتبره ملاء وأن بين الملاء والخلاء شيئا ما يصل بين الأجرام لامتناهية‬ ‫الصغر طبيعة من جنس ثان‪.‬‬ ‫وهذا الشيء الواصل بين الذريرات هو محركها الحيوي مثلما تحرك القوى الكونية‬ ‫الأربعة كل نظام العالم لكأنها هي روحه وما فيه من ملاء لا يكاد يذكر لما فيه من خلاء هو‬ ‫عين فاعلية هذه القوى التي بها يتحد العالم ليصبح وكأنه كائن حي كل ما يجري في أم‬ ‫نقطة ذو صلة بكل النقاط فيه على شساعته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فسخافات البابا والتصوف حول البعث والبدن والروح هي بخلاف ما يتوهمون ليس‬ ‫من ثمرات التجريد العلمي بل هي من التعلق بالمدارك الحسية البدائية التي تعتبر المادة‬ ‫جمادا بالمقابل مع الروح‪ .‬لكن المادة قرآنيا هي المدد والامتداد والمدة والمادة في آن وهي‬ ‫تمثل بؤرا سابحة سباحة السمك في المحيط‪.‬‬ ‫وفي النهاية فمنزلة الإنسان هي أعجب ما في القرآن‪ .‬وهي أعقد على الفهم حتى من‬ ‫مشكلة المعرفة بالله‪ .‬فيمكن أن نسلم الغاز الوجود الإلهي على الأقل لأنه هو مصدر كل‬ ‫شيء عند المؤمن به خاصة‪ .‬لكن ألغاز الإنسان بالنسبة الإنسان تضعه أمام الوعي بلغز‬ ‫الغيب كله‪ :‬الإنسان يعي ذاته ولا يفهمها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نختم الكلام في المرسل إليه (الإنسان) مدخلا للكلام في الرسول بوصفه إنسانا يرمز‬ ‫للاتصال المباشر بين الإنسان والله الكامن في نفس كل إنسان‪ .‬فلكل إنسان في كيانه الذاتي‬ ‫حالة الاصطفاء التي هي من الوميض الروحي فيه حتى وإن لم يكلف بأن يكون البشير‬ ‫والنذير ربما لضعف الوميض فيه‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى نفهم أن يكون القرآن الرسالة الخاتمة‪ .‬فـحقيقته هي إيقاظ هذا الوميض‬ ‫في كل متلق وقارئ فتنبض بالحياة صورة الرسول الخاتم بوصفه تجاوز الحواس إلى‬ ‫الحوادس‪ .‬انتقل من البصر إلى البصيرة وقياسا على هذه النقلة يحصل نفس الأمر في كل‬ ‫الحواس فينتقل من السمع إلى السميعة ومن الشم إلى الشميمة ومن الذوق إلى الذويقة‬ ‫ومن اللمس إلى اللميسة‪ .‬وذلك هو نور العلاقة المباشرة بالله‪.‬‬ ‫وكل ما يقال عن سيرة الرسول الخاتم لا يحتاج إلى دليل تاريخي لأن جوهره هو هذه‬ ‫النقلة‪ .‬وذلك هو ما وصفته أم المؤمنين عائشة بأخلاق القرآن بمعنى أن القرآن يصف هذه‬ ‫الحقيقة التي هي غاية الرسالة‪ :‬نقل الإنسان من الحواس إلى الحوادس التي لا تتنافى معها‬ ‫بل هي تحييها لتجاوز الفاني إلى الباقي في كياننا‪.‬‬ ‫وتلك هي علة \"فذكر إنما أنت مذكر ليست عليهم بمسيطر\" (الغاية ‪ .)22-21‬ولما كان‬ ‫ذلك كذلك فمفهوم أن تكون الرسالة خاتمة‪ .‬فالتذكير لم يعد بحاجة إلى مذكر خارج كيان‬ ‫الإنسان يكون بشرا مثله بل يصبح كلام الله وحده هو المذكر والمبلغ بعد أن صار ذا حضور‬ ‫محدد هو ما بين دفتي المصحف‪ .‬وكل من يقرأه يجده حوارا بين الله والإنسان دائما إلى‬ ‫حد يشبه تمانع بين حريتين‪.‬‬ ‫لكن هذا الحضور القرآني في الكيان الإنساني ليس في المصحف وحده بل في ما يحيل عليه‬ ‫المصف في الكيان وفي شروط قيامه حتى بالنسبة إلى من يجهل القرآن ولم يطلع على‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫محتواه‪ .‬ذلك أن بنية القرآن هي عينها بنية كيان الإنسان وبنية الوجود‪ .‬فهذه البنية هي‬ ‫ما سميته المعادلة الوجودية بأبعادها الخمسة التي سبق فتكلمت عليها سابقا وهنا‪.‬‬ ‫فلكأن القرآن تحليل وجودي للإنسان‪ .‬ففيه قصة العلاقة المباشرة بين الإنسان والله قلبا‬ ‫للمعادة‪ .‬وفيه على يمين هذا القلب العلاقة اللامباشرة بين الإنسان والله بتوسط الطبيعة‬ ‫(منها مدده المادي) وما بعدها لأنه يتجاوزها إلى ماورائها‪ .‬وفيه على يساره نفس العلاقة‬ ‫اللامباشرة بتوسط التاريخ (منه مدده الروحي) ومابعده لنفس التجاوز إلى ما بعده‪.‬‬ ‫والرسالة الأخيرة خاتمة لأنها قابلة للرد إلى هذه الحقيقة‪ :‬كيان الإنسان مرسومة فيه كل‬ ‫مضامين الرسالة كما تبين هذه المعادلة‪ .‬وسأكتفي بمثال واحد يغنيني عن الإطالة‪ .‬وهو‬ ‫يبين أن الإنسان حتى أكثر الجاحدين للدين عامة وللديني في كل دين أو الإسلام خاصة‬ ‫يثبت ذلك حتى لو كأن أكثر الناس شرا‪.‬‬ ‫فأي إنسان عندما يقبل الوقوع في وضع العبد لغير الله يعلم أنه فقد حريته‪ .‬وعندما‬ ‫يكذب يعلم أنه فقد الحقيقة‪ .‬وعندما يعمل شرا يعلم أنه فقد الخير‪ .‬وعندما يعمل قبيحا‬ ‫يعلم أنه فقد الجمال‪ .‬وعندما يذل يعلم أنه فقد عزة الجلال‪ .‬وإذن فهو يشهد بأن كيانه‬ ‫فيه ما يبين له الحقيقة في هذه الحالات وأنها لضعف في نفسه‪.‬‬ ‫وحتى إذا ادعى التأله بالمعنيين الصوفي أو الاستبدادي السياسي أو المعرفي فإنه في لحظات‬ ‫ضعفه كأن يمرض أو حتى في لحظات قيامه بأدنى أموره مثل قضاء حاجته يكتشف كل‬ ‫ضعفه وفنائه فيكتشف أن فيه بصيصا من الوميض الوجودي الذي يجعله يتجاوز الفناء‬ ‫على الأقل في الوعي المشرئب‪.‬‬ ‫وأختم بأبرز مثال قرآني وهو مفهوم المطفف للدلالة على حضور المثل العليا في ضمير أي‬ ‫إنسان مهما طغا عليه من شر‪ .‬ففي استيفاء الاكتيال وفي اخسار الكيل يعلم في الحالتين أنه‬ ‫يعتدي على الحق إما بأخذ الزائد أو بإعطاء الناقص‪ .‬وإذن فله في الحالتين ميزان روحي‬ ‫في كيانه مختل ليس من حيث صحة الوزن بل من حيث استعمالـه على غيره وجهه‪ .‬فيكون‬ ‫حكما على نفسه بصدق باطني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما تقوله فصلت ‪ 53‬يجمع كل ما تقدم لأنها تشهد بأن القرآن هو في آن بنية كيان الإنسان‬ ‫وبنية كيان الوجودين الطبيعي والتاريخي إذ هي تتكلم على ما يرينه الله من الآيات في‬ ‫الآفاق (الوجودين الطبيعي والتاريخي) وفي أنفسنا (كيان الإنسان) وذلك هو معنى تبين‬ ‫أنه الحق‪ :‬القرآن يحيل على بنيتهما‪.‬‬ ‫وصلنا الآن إلى موضوعنا الثالث‪ :‬الرسول‪ .‬لن أطيل الكلام فيه‪ .‬سأكتفي بالكلام على ما‬ ‫تم حذفه في تراثنا لتعويضه بالكذب عليه صلى الله عليه وسلم‪ .‬فالرسول ليس وسيطا بين‬ ‫الله وعبده ولا وصيا عليه بينه وبين أمره (شأنه في العلاقة بالطبيعة والتاريخ أو سياسة‬ ‫الدنيا) لأن الوميض الذي فيه في كل إنسان وما حباه الله به هو كماله فيه وهو معنى‬ ‫الاصطفاء ليختم التذكير‪.‬‬ ‫وختم التذكير تبرزه آيتان‪:‬‬ ‫‪ .1‬آية تعلل الحرية الدينية أو عدم الإكراه فيه بتبين الرشد من الغي (البقرة ‪.)256‬‬ ‫‪ .2‬وآية تعين مجال البحث عن حقيقة القرآن (فصلت ‪ )53‬المحررة من الخرافة التي تنتج‬ ‫عن التأويل الناتج عن زيغ القلوب وابتغاء الفتنة (آل عمران‪ .)7‬ولم أذكرها لوحدها‬ ‫لأنها متممة لفصلت ‪.53‬‬ ‫فالعلاقة بين الله والإنسان مباشرة ومن ثم فهي غنية عن مذكر بعد ختم التذكير‪ .‬وهو‬ ‫معنى وفي أنفسهم‪ .‬والعلاقة غير المباشرة بينهما بتوسط الطبيعة وما بعدها وبتوسط التاريخ‬ ‫وما بعده تصبح مباشرة بفضل المابعدين فتعود إلى العلاقة المباشرة ومن ثم فهما تغنيان‬ ‫عن مذكر بعد ختم التذكير‪ .‬تصبح الذات والعالمين الطبيعي والتاريخي آيات تذكير بما‬ ‫فيهما من شروط قيام الإنسان ومن إحالة إلى ما بعدهما‪ .‬فيكون التذكير الخاتم كله‬ ‫مردودا إن شئنا إلى الإعلام بهذين المبدأين‪:‬‬ ‫‪ .1‬تبين الرشد للحرية الدينية (البقرة ‪.)256‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وحيز البحث الذي يوصل إلى تبينه إيجابا (فصلت ‪ )53‬وسلبا (آل عمران ‪ .)7‬لكن‬ ‫التذكير الخاتم هو وظيفة الرسول الخاتم وهو ما سنتكلم عليه في الفصل الموالي أو في‬ ‫السياسة التي لها بعدان هما التربية (ورمزها المرحلة المكية) والحكم (ورمزها المرحلة‬ ‫المدنية)‪.‬‬ ‫أما الآن فالكلام على ما ألغي في التحريف الذي حصل في تاريخنا والذي جعل بياني‬ ‫لحصوله علة لاتهامي بكوني \"أكلت لحم\" علماء الملة‪ .‬وفي الحقيقة ليس لعلماء الملة لحم حتى‬ ‫يؤكل بعد حصول التحريف‪.‬‬ ‫فما هو التحريف؟ إنه اهمال دلالة الغاشية ‪ 21‬و‪ .22‬والمعنى‪:‬‬ ‫• الرسول ليس وسيطا في التربية‬ ‫• الرسول ليس وصيا في الحكم‪.‬‬ ‫وهذا الإهمال يثبته قلب أمر فصلت ‪ 53‬نهيا وقلب نهي آل عمران ‪ 7‬أمرا‪ .‬بمعنى أن علوم‬ ‫الملة الخمسة (التفسير أصلا والكلام والفلسفة نظرا والفقه والتصوف عملا) بنيت على‬ ‫تجاهل فصلت ‪ 53‬والاعتماد على آل عمران ‪ .7‬بدل البحث العلمي في آيات الآفاق والأنفس‬ ‫جاء التأويل التحكمي لآيات الإشارة القرآنية‪.‬‬ ‫وأعتقد ‪-‬ولله الحمد والمنة‪-‬أن أهم ما يمكن أن اعتبره نجاحا حقيقيا في حياتي هو تمكن‬ ‫من تحديد المعيار الدقيق للتمييز بين المحكم والمتشابه بفضل العلاقة بين هذين الآيتين‬ ‫فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬ ‫والإشارة القرآنية في فصلت ‪ 53‬تأمر بالتوجه إلى حيث ينبغي البحث لمعرفة حقيقة القرآن‬ ‫ولا تتضمن الحصيلة العلمية التي يوصل إليه البحث‪ :‬وهذا هو مجال البحث العلمي وهو‬ ‫المتشابه الذي لا ينبغي تأويله بل محاولة علمه علما اجتهاديا بالنظر والعقد للعمل والشرع‬ ‫عملا جهاديا‪ .‬والإشارة القرآنية في آل عمران ‪ 7‬تنهي عن الالتفات إلى الشروح اللفظية‬ ‫لنص القرآن ظنا أنها علم قابل للاستخراج بالتأول وهي إشارات محكمة‪ .‬والإشارات محكمة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد تتحول إلى متشابه إذا ظنت مجال البحث عن الحقيقة العلمية التي أشارت إليها فصلت‬ ‫‪.53‬‬ ‫وإذن فالعلماء عملوا بالمثل الصيني‪ :‬لم يروا ما تشير إليه السبابة القرآنية بل السبابة‪.‬‬ ‫والاقتصار على السبابة يؤدي إلى التأويل المرسل الذي ليس له مرجعية فكان البديل إما‬ ‫الاستسلام للتداعيات الدلالية للألفاظ فصارت اللغة كافية للمعرفة وهو معنى الخرافة إذ‬ ‫لم يبق فرق بين العلم والأدب أو لمصدر معلومات آخر مثل الاسرائيليات للمفسرين أو‬ ‫الفلسفة للمتكلمين والفقهاء والمتصوفة‪.‬‬ ‫الإشارات محكمة والمشار إليه متشابه‪ .‬فما يشير إليه القرآن لا يعمل بتأويل الإشارات‬ ‫بل بالبحث العلمي في المشار إليه‪ .‬وللتلازم بين الأمرين يقع الخلط بينهما فتصبح الإشارات‬ ‫التي هي محكمة مصدرا للتشابه عندما تعتبر مجالا للعلم بالتأويل لعلم المشار إليه‪.‬‬ ‫أما الرسول فهو لم يدع أكثر مما كلفه الله به‪\" :‬فذكر‪ :‬إنما أنت مذكر \" أي إنك ليست‬ ‫وسيطا بل مهمتك لا تتجاوز التذكير في التربية لأن ما تعلم به ليس أمرا تأتي به أنت بل‬ ‫هو مرسوم في كيان الإنسان‪ .‬إذ إن التذكير يعني أن المخاطب به ناس لما يعلم وليس جاهلا‬ ‫به بإطلاق فتكون وسيطا في مجهول‪.‬‬ ‫أما في الحكم فهو تمام هذا الأمر والتنبيه‪\" :‬لست عليهم بمسيطر\" في الحكم فضلا عن‬ ‫التربية لأن الأمر أمر الجماعة وهو ما يتصلون إليه بالشورى في أمرهم‪ .‬والأمر حددته‬ ‫الآية (الشورى ‪ )38‬في مسألتين‪ :‬بأولهما تبدأ الآية (الاستجابة إلى الرب وهي الأصل)‬ ‫وبالثاني تنتهي (الإنفاق من الرزق)‪.‬‬ ‫والأول علة الوحدة‪ .‬والثاني علة الفرقة إذا لم يخضع للأول‪ :‬فالمستجيبون للرب يتحدون‬ ‫فلا يفرقهم صراع على الرزق‪ .‬وذلك هو موضوع الأمر لأن رعاية الأمر هي بدورها من‬ ‫موضوعاته وهي مضاعفة لأن الأمر له طبيعة هي طبيعة نظام الحكم وله أسلوب تحقق هو‬ ‫أسلوب الحكم‪ .‬فطبيعته الأمر هو كونه أمر الجماعة وأسلوب تحقيقه هو كونه يساس‬ ‫بـالشورى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا هو الحكم‪ .‬ويمكن اعتباره تحديد الإسلام لطبيعة نظام الحكم بوصفه جمهورية لأن‬ ‫أمر الجماعة ترجمة حرفية لـ\"راس بوبليكا\" باللاتينية‪ .‬ويمكن اعتباره تحديد الإسلام‬ ‫لأسلوب الحكم بوصفه \"ديموقراطية\" باليونانية لأن شورى الجماعة هي حكم الجماعة‬ ‫لنفسها بنفسها‪.‬‬ ‫وإذن فالرسول حكم بمقتضى مبدأي الحكم وهما الأمانة والعدل‪ .‬فهو أمين للشورى ‪38‬‬ ‫ويحكم بالعدل لأن أخلاقه هي أخلاق القرآن‪ .‬وهو أول من أشار إلى أن الحَكم بين‬ ‫الخصمين لا يتميز عنهما إلى بكونه محايدا إذ ما يحكم به يوجد عند كليهما كما بينا فلا‬ ‫أحد يجهل أنه ظالم إذا ظلم بل ينسى يوم الدين فينكر ما يعلمه في قرارة نفسه‪.‬‬ ‫فيكون الحكم السياسي في الحقيقة قضاء عام وظيفته حماية الحقوق ليس بعنف الدولة‬ ‫(إلا عند الضرورة) بل بشرعيتها من خلال البعد التربوي من الحكم ويتمثل في تحويل‬ ‫الفصل بين الناس إلى تحقيق الصلح بينهما في ما يختلفان فيه حول الحقوق والواجبات‬ ‫والعقود والالتزامات والمحافظة على حياد القيمين‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فإن التربية والحكم كما مارسهما الرسول لم يتحقق منهما شيء من بعده بل‬ ‫ما حصل هو العكس تماما‪ .‬ولذلك فقد أصبحا مفسدين لمعاني الإنسانية لما تحولا إلى عمل‬ ‫خارجي لا يوقظ في الإنسان ما يجعله هو بدروه يومض بما فيه وذا وازع ذاتي وهو دور‬ ‫الرسالة بمنطق إنما أنت مذكر‪.‬‬ ‫وبذلك فإن الكلام على الرسول الخاتم يكفي فيه بيان علة كونه الخاتم في علاقة بالقرآن‬ ‫وبالمعادلة الوجودية وخاصة في علاقة بالفصل بين المحكم والمتشابه وبالتربية والحكم‬ ‫موضوع الفصل الموالي‪ .‬واختم هذا الفصل بالقول إن غاية الرسالة الخاتمة حددته سورة‬ ‫العصر وقاية وعلاجا لا دواء البشرية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى معضلة المعضلات في تاريخ الإسلام‪ :‬طريقة تبليغ الرسالة التذكيرية‬ ‫الخاتمة ومآلها‪-‬بعد وفاة الرسول الخاتم وقبل اكتمال بناء الدولة كما يحدد مقوماتها‬ ‫القرآن الكريم‪-‬إلى تحريف علوم الملة الغائية الخمسة‪ .‬والعلة هي الخلط بين إشارات‬ ‫السبابة وما تشير إليه من شروط مهمتي الإنسان‪.‬‬ ‫وبصورة أدق فإن ما يترتب على المشروع القرآني لبناء الدولة الكونية لم يستنتج منه‬ ‫لأن العلم به لم يتجاوز فعل الإشارة فيه إلى المشار إليه فتوقف المشروع عند عتبة تحقيقه‬ ‫في ما لم يصل حتى ما تحقق من لبناته الأولى في حياة الرسول الخاتم‪ .‬وعلينا الآن أن نحدد‬ ‫مراحل تحقيق الشروط من فصلت ‪.53‬‬ ‫ففصلت ‪ 53‬تقرأ من بدايتها إلى غايتها‪ .‬ثم تقرأ من غايتها إلى بدايتها عند من يريد‬ ‫فهم شروط المشروع القرآني للرسالة الخاتمة بوصفها سعيا لتوحيد الإنسانية حول الديني‬ ‫في كل الأديان باعتباره مشروع تأهيل الإنسانية لتحقيق مهمتي الإنسان‪ :‬الاستعمار في‬ ‫الأرض بقيم الاستخلاف فيها وصلا بين الوجودين‪.‬‬ ‫والوجودان متعينان في الإنسان أولا وفي العالمين الطبيعي والتاريخي ثانيا كل منهما مرتين‬ ‫فيه وفي ما بعده باعتباره من دون هذا المابعد لا يكون ذا نظام أو وحدة‪ .‬ما يعني أن‬ ‫مراحل التأهيل هي إعداد الإنسان ليتمكن من التعامل مع ذاته ومع العالم التاريخي وما‬ ‫بعده ومع العالم الطبيعي وما بعده‪.‬‬ ‫هي إذن خمس مراحل متراتبة‪ .‬وأول إشكال هو تحديد التراتب‪ .‬فهو يمكن من وضع‬ ‫استراتيجية التأهيل لهذا التكوين الضروري الذي يمكن الإنسانية من تحقيق مهمتيها أي‬ ‫الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف لأن التعمير من دون هذه القيم ينتهي إلى التدمير‬ ‫وهو إذن ليس تعميرا إلا في الظاهر كما نراه حاليا‪.‬‬ ‫فصلت ‪ 53‬هي التي تساعد على تحديد الترتيب إذا اعتبرنا ما ذكرته متصاعد من بحسب‬ ‫تصاعد مجالات التأهيل بترتيب معكوس لأن المقدم فيها يبدو كالغاية في التأهيل بمعنى أنه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا يتم من دون ما يليه في التأهيل‪ .‬فتكون أنفسكم الأولى ثم الآفاق التاريخية وما بعدها‬ ‫ثم الآفاق الطبيعية ومابعدها وينعكس‪.‬‬ ‫ما معنى التراتب؟ تأهيل الأنفس يعد للتأهيل للعالم التاريخي ومابعده‪ .‬وهما معا يعدان‬ ‫التأهيل للعالم الطبيعي وما بعده‪ .‬وما معنى ينعكس؟ خلال التأهيل للتاريخ وما بعده‬ ‫نكتشف ما ينقص تأهيل الأنفس للتعاكس بين الإنساني والتاريخي وخلال التأهيل للطبيعة‬ ‫وما بعدها نكتشف علاقة التاريخي بالطبيعي‪.‬‬ ‫ولا بد من الإشارة إلى مبدأين مضمرين في هذا التراتب‪ .‬فتأهيل الأنفس فيه ضمنيا‬ ‫التأهيل الأولي للتأهيلين الآخرين المتعلقين بالآفاق التاريخية وما بعده وبالآفاق الطبيعية‬ ‫وما بعدها بمعنى أن الإنسان ليس كائنا عضويا وروحيا (الأنفس) مفصولا عن نوعي الآفاق‬ ‫وما بعدهما‪ :‬إنهما معين بعدي كيانه‪.‬‬ ‫فمن الآفاق الطبيعية يأتي المدد لكيانه العضوي‪ .‬ومن الآفاق التاريخية أتي المدد لكيانه‬ ‫الروحي‪ .‬وإذن ففي أي مرحلة من تأهيل الأنفس لا بد من علاقة ولو بدائية مع التاريخ‬ ‫وما بعده ومع الطبيعة وما بعدها‪ .‬وغالبا ما تكون هذه العلاقة ذات صلة بأخلاق معاملة‬ ‫المحيط التاريخي والمحيط الطبيعي‪.‬‬ ‫فالمحيط التاريخي هو مصدر عزته وحمايته والمحيط الطبيعي هو مصدر رزقه وإعالته‪.‬‬ ‫فيكون الإنسان بالطبع في علاقة ود واحترام لتاريخ جماعته تقديرا للآباء والأجداد‬ ‫ولجغرافية جماعته تقديرا لشروط العيش وبقاء الحياة‪ .‬ويحقق ذلك وصلا لما بعدهما‬ ‫بالإنسان بداية للوعي بالعلاقة المباشرة الدين‪.‬‬ ‫وذلك هو مصدر كل الأديان الطبيعية مرحلة أولى نحو الأديان المنزلة التي ليست في‬ ‫قطيعة معها وخاصة في الإسلام بل هي تسمو بها إلى تعالي المابعد على العالمين التاريخي‬ ‫والطبيعي لتصبح العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه هي المؤسسة للعلاقة غير المباشرة‬ ‫بتوسط التاريخ والطبيعة وليس العكس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد يظن المتعجل أني صاحب هذا التحليل‪ .‬لكني بينت في هذه المحاولة وقبلها في الكثير‬ ‫من أمثالها أن هذا الترتيب مذكور نصا في الإشارات القرآنية التي بينت أنه التأهيل‬ ‫الحتمي وليس الاختياري في تكون مفهوم الإنسانية أو بصورة أدق في الوعي المشير إلى‬ ‫تكوينيته الذي صار صريحا في القرآن‪.‬‬ ‫وقد بلغت الإشارة إليه حدا من الثقل على الرسول الخاتم حتى إنه وصف السورة التي‬ ‫صاغت الإشارة بأنها قد شيبته (مع أخواتها‪ :‬الواقعة والمرسلات والنبأ والتكوير) لأنها‬ ‫اشارات إلى مجالات التأهيل بالنسبة إلى الجماعة والأفراد إشارة ليس أبلغ منها ولا أوضع‬ ‫ولا أدق بمنطق ترتيب فصلت الذي شرحت‪.‬‬ ‫فهي تبدأ بالآفاق الطبيعة وتنتهي إلى مابعده ثم تثني بالآفاق التاريخي وتنتهي إلى ما‬ ‫بعدها‪ .‬ولأحدد‪ :‬نوح فهود فصالح من البداية إلى قلب السلسلة إبراهيم‪ .‬ثم تعود من‬ ‫موسى في شعيب فلوط إلى القلب إبراهيم‪ .‬وابراهيم كما هو معلوم سؤاله كان طلب المابعد‬ ‫المطلق في حواره مع نفسه ورفضه للأوافل‪.‬‬ ‫فمن نوح إلى ابراهيم نجد محاولات تأهيل الإنسان للتحرر من سلطان الطبيعة عليه‪:‬‬ ‫والإشارة هي ثورة ابراهيم بالصناعة والزراعة وثورة هود على أثرها بالمسألة الاقتصادية‬ ‫وثورة صالح بالمسألة المائية وتكتمل الثورة بالانتقال من تأليهها إلى اكتشاف الوحدانية‪:‬‬ ‫ابراهيم قلب المعادة والإسلام‪.‬‬ ‫وإذا عدنا الآن من موسى إلى ابراهيم نمر بشعيب فلوط‪ .‬وثورة موسى ليس للتحرر من‬ ‫استبداد الطبيعة بل من استبداد التاريخ مرموزا إليه بالثورة على العبودية للتسلط‬ ‫السياسي والديني (فرعون وهامان) يليه علاج مشكل التبادل الاقتصادي العادل شعيب ثم‬ ‫خاصة مرة أخرى مصدر الحياة الجنس لوط‪.‬‬ ‫تلك هي الإشارات‪ .‬لكن أهم إشارة هي البشارة التي أعلن عنها الملائكة لإبراهيم في سن‬ ‫يأس زوجته‪ .‬وطبعا لا يتعلق الامر بابن طبيعي بشر به‪ .‬ذلك أن إبراهيم حينها كان قد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أنجب ابنيه في شبابه وليس في شيخوخته‪ .‬ذلك ان نفي اسماعيل وهو طفل وأمه كان بسبب‬ ‫إنجاب اسحق بعد غيرتها من هاجر‪.‬‬ ‫لذلك فالبشرى هي بابن روحي هو الرسول الخاتم المخاطب بهذه الإشارات التي شيبته‬ ‫مع أخواتها‪ .‬فهم الرسول الخاتم أن السورة تحتوي على استراتيجية مشروع الرسالة الخاتمة‬ ‫التي تهدف إلى توحيد الإنسانية بالتعمير الإسلامي الخاضع لقيم الاستخلاف كما تحددها‬ ‫إشارات القرآن للتأهيل بمقتضاها‪.‬‬ ‫كما أن الإشارات إلى منهجية التبليغ المؤهلة لهذه المهام كلها تحددت بصورة لا مثيل لها‬ ‫لتوجه التربية والحكم بعدي التأهيل لمهمتي الإنسان معمرا ومستخلفا نجدها في الإسراء‬ ‫‪ 105‬و‪ 106‬في نظام عجيب هو عين نظام القرآن مفهوما وتحققا في التاريخ في علاقة بالتنجيم‬ ‫الضروري لاستراتيجية التحقيق‪.‬‬ ‫{و ِبا ْل َح ِّق أَن َز ْلنَا ُه َو ِبا ْل َحقِّ نَ َز َل ۗ َو َما َأرْ َسلْ َنا َك إِ َِّلا مُ َبشِّرًا وَ َنذِيرًا (‪ )105‬وَ ُقرْآنًا َف َرقْنَاهُ‬ ‫ِلتَقْرَ َأ ُه َع َلى النَِّا ِس عَ َلىٰ مُ ْكثٍ وَنَ َزِّ ْلنَا ُه تَنزِيلً (‪ .})106‬فالأولى تحدد طبيعة القرآن وغاية‬ ‫الرسالة‪ .‬والثانية تحدد الطريقة ببعديها تعليما وعملا‪.‬‬ ‫فإشارات الآية الأولى تعرف القرآن بطبيعة إنزاله وبمضمون نزوله (الفرق بين أنزل‬ ‫ونزل) وتحدد حصريا مهمة الرسول (بشيرا ونذيرا) فبينت أن الحق مضمونا وطريقة‬ ‫يتضمن الموجب الذي يبشر به الرسول والسالب الذي ينذر منه‪ .‬وتلكما هما غايتا التأهيل‬ ‫السياسي تربية وحكما في المنظور القرآني‪.‬‬ ‫والآية الثانية يطبقها القرآن هو نفسه نموذجا وشرطا في تطبيق الرسول لها تفريق‬ ‫القرآن أو تنجيمه في مهمة التأهيل والتنزيل أي ضرب الأمثال التي هي نوازل تنطبق عليها‬ ‫استراتيجية القرآن في بعدي السياسة أي التربية والحكم القرآنيين‪ .‬وكلها إشارات توجه‬ ‫إلى مجالات البحث في التأهيل عملا على علم‪.‬‬ ‫لكن السياسة يعسر حصرها في مهمتيها أعني تأهيل الإنسان للتعمير بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫لذلك فلا يكفي أن الحصر هنا هو \"وما أرسلناك إلا\" بل أضيف حصر آخر أهم وأعمق وأكثر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مباشرة بالسياسة في بعديها تربية وحكما أعني الغاشية ‪ 21‬و‪ .22‬فالحصر هنا أشد من الاول‬ ‫\"إنما أنت مذكر\" و\"لست عليهم بمسيطر\"‪.‬‬ ‫فالسياسة تربية وحكما يمكن أن تنقلب إلى عنف فيهما معا فتفسد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫ولذلك فالحصران يشيران إلى ما يمكن أن ينقلب إليه المربي والحاكم إلى المستبد الروحي‬ ‫والمستبد السياسي‪ .‬وهما علة فساد معاني الإنسانية (ابن خلدون) أي فقدان الإنسان‬ ‫لرئاسته بالطبع وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له‪.‬‬ ‫فيكون أساس التربية والحكم الإسلاميين هو حفظ معاني الإنسانية التي يجمع بينها مفهوم‬ ‫الإنسان كما عرفه ابن خلدون استقراء من القرآن \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي‬ ‫خلق له\"‪ .‬والتربية والحكم المفسدان لمعاني الإنسانية بعنف الاستبداد الروحي والسياسي‬ ‫هما غاية التحريرين‪.‬‬ ‫فكلما اشتد استبداد الطبيعة ساوقه استبداد السياسة‪ .‬والتحرير من الأول يكون بعلوم‬ ‫الطبيعة وتطبيقاتها والتحرير من الثاني يكون بعلوم التاريخ وتطبيقاتها وصنفا العلوم‬ ‫وتطبيقاتها شرطها علوم الإنسان وتطبيقاتها وعلوم المابعد في كل هذه المجالات أعني‬ ‫إشارات القرآن إلى حقوق الإنسان وواجباته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى العنصر الخامس والأخير من عناصر الرسالة‪ .‬فبعد المرسل والمرسل إليه‬ ‫والرسول وطريقة التبليغ نصل إلى مضمون الرسالة الذي يبلغه القرآن أو الرسالة‪ .‬فهذا‬ ‫المضمون هو الذي ينقسم إلى محكم ومتشابه‪ .‬فالمحكم هو كلام القرآن على ذاته وإشاراتها‬ ‫لغيرها والمتشابه هو كل ما يقوله القرآن على غيره إشارة إليه وليس عرضا لعلمه الذي‬ ‫هو مطلوب البحث العلمي جزءا من مهمتي التعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫وما يقوله القرآن عن نفسه محكم لأنه لا يتجاوز تعريف الرسالة وعناصرها ونظامها‬ ‫وهي كلها مرجعها القرآن نفسه وليس شيئا من خارجه‪ .‬فكل ما تكلمنا فيه إلى حد الآن هو‬ ‫ما يقوله القرآن عن نفسه وعن دوره الإشاري لغيره موضوعا يطلب من الإنسان البحث‬ ‫فيه والعمل بما يوصله إليه علمه به من خلاله‪.‬‬ ‫وهذا هو الذي بعدم قيام المسلمين به اعتبرت علوم الملة محرفة للقرآن خلطا بين الإشارة‬ ‫الموجهة للإنسان (وهي المحكمة) والمشار إليه فيه (وهو المتشابه الذي لا يعلم بالتأويل بل‬ ‫بالبحث العلمي والتحليل)‪ .‬فهي بدلا من تطبيق تحقيق ما أشارت إليه فصلت ‪ 53‬تركته‬ ‫وحاولت الاكتفاء بشرح ألفاظ القرآن ظنا أن مضمونها علمي وليس إشاريا وتوجيهيا لما‬ ‫ينبغي القيام به للحصول على العلوم التي تؤهل الإنسان للاستعمار في الأرض والاستخلاف‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن نهي الإنسان عن تأويل المتشابه ليس نهيا عن علمه في مضانه ‪-‬إذ كل ما‬ ‫هو خارجي متشابه‪-‬بل هو نهي عن توهم أنه موجود في آيات النص وليس في آيات الآفاق‬ ‫والأنفس‪ .‬فعلمه في مضانه اجتهاد معرفي بقيم خلقية‪ .‬أما تأويل آيات النص ظنا أنها هي‬ ‫الطريق للعلم فرجم بالغيب مثل الكلام على الذات والصفات بأكثر مما ورد في القرآن‬ ‫تجسيما أو تعطيلا‪.‬‬ ‫فكلام القرآن على المرسل والمرسل إليه والرسول والطريقة والمضمون كلام محكم لأنه‬ ‫من جنس المقدمات التي توضع وضعا‪ .‬ومنها تنطلق الإشارات المتعلقة بها عندما تنتقل من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬