Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore التراث - معرفته وتحديد دوره التاريخي - القسم الاول - ابو يعرب المرزوقي

التراث - معرفته وتحديد دوره التاريخي - القسم الاول - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-06-18 18:37:41

Description: التراث - معرفته وتحديد دوره التاريخي - القسم الاول - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫‪1‬‬ ‫المحتويات‬ ‫‪7‬‬‫‪10‬‬ ‫تمهيد‪:‬‬‫‪14‬‬ ‫مجال الدلالة القرآني واللساني‬‫‪18‬‬ ‫‪:‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪:‬‬ ‫‪21‬‬ ‫جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس النظري‬ ‫‪21‬‬ ‫جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس العملي‬ ‫‪23‬‬ ‫النتائج في إبداع الأمة الرمزي والفعلي‬ ‫‪26‬‬ ‫سبل التحرر من صنم العلمانيين والأصلانيين‪ .‬أو الثورة المعرفية ومشروع الإصلاح العملي‪:‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪37‬‬ ‫الخاتمة‬ ‫‪42‬‬ ‫‪48‬‬‫‪51‬‬‫‪55‬‬‫‪59‬‬‫‪64‬‬‫‪68‬‬

‫تسارعت الاحداث فحالت دوني ومواصلة الكلام في امهات القضايا ذات الأعماق‬‫النظرية‪ .‬أعود فصاعدا للكلام على معوقات النهوض البنيوية بصنفي ممثليها‪ .‬والصنفان‬ ‫مضاعفان‪:‬‬ ‫‪ -‬التأصيلي‬ ‫‪ -‬والتحديثي ينقسم إلى مدرستين‪:‬‬ ‫‪-1‬مدرسة إحياء التراث بمنطقه الذي تنتسب إليه‬ ‫‪-2‬ومدرسة نقده بمنطق المدرسة المقابلة‪.‬‬ ‫فكلتا المدرستين يتقاسمهما ميلان‪:‬‬ ‫‪ -‬دفاعي عن تراث مدرستها‬ ‫‪ -‬وهجومي على تراث المدرسة المقابلة‪.‬‬ ‫وإذن‪ ،‬فهما تشتركان في فقدان الأصل المشترك لحقيقته‪.‬‬‫وسأبدأ بتعريف التراث أيا كان نسبه الحضاري‪ ،‬إسلاميا كان أو غير إسلامي‪ ،‬قديما أو‬ ‫حديثا‪ ،‬لأن كونها تراثا‪ ،‬يجعلها تشترك في كونها تراثا وله حقيقة ما‪.‬‬‫فالتراث في كل حضارة‪ ،‬هو ثمرة عملها المادي والرمزي‪ ،‬وعبارتها عنه في عودته عليه‪،‬‬ ‫وعيا به موجوده ومفقوده‪ ،‬باعتباره تعين في أنشطتها الفعلي والرمزي‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فهو بالجوهر تاريخي مرتين‪ :‬بوصفه أحداثا فعلية‪ ،‬وبوصفه أحاديث فعلية حول‬ ‫تلك الأحداث الفعلية‪ ،‬حتى لو كانت تخيلية‪ ،‬لأن بعضها يتعلق بالخيال‪.‬‬‫فيكون جوهر التراث هو عين أبعاد التاريخ الخمسة‪ ،‬التي تختلف عن أبعاد الزمان‬ ‫الثلاثة‪ .‬ذلك أن الزمان التاريخي بخلاف التاريخ الطبيعي‪ ،‬مخمس الأبعاد‪.‬‬‫فقلبه هو الحاضر الذي يعسر ان نميز فيه بين الحدث والحديث‪ ،‬بعدي فعل الإنسان‬ ‫عندما يكون معاصرا لذاته‪ ،‬وقبله أحداث غابت وأحاديث حولها بقيت حاضرة‪.‬‬ ‫‪78 1‬‬

‫وبعده أحاديث تجري حول أحداث متوقعة‪ ،‬لم تحدث بعد‪ ،‬وهي من الممكن الذي قد‬ ‫يحدث وقد لا يحدث‪ ،‬لكنها إمكانها مؤثر‪ ،‬والتردد بين الحصول وعدمه مؤثر أيضا‪.‬‬‫والحديث حول أحداث الماضي التي حصلت‪ ،‬والتي كان يمكن أن تحصل‪ ،‬وحول أحداث‬‫المستقبل المتوقعة حصولا وعدم حصول‪ ،‬هو التراكم التراثي بشكله الرمزي‪ .‬وغالبا ما‬‫يكون معالم‪ ،‬إما نصية أو عمرانية ذات قدرة على العبارة الرمزية عن وعي الجماعة بذاتها‬ ‫وبأفعالها وتفاعلاتها‪ ،‬فيما بينها ثم مع العالم‪.‬‬‫\"مع العالم\" شديد التعقيد‪ ،‬فهو يعني مع العالم الإنساني‪ ،‬أي الجماعات والحضارات‬ ‫الأخرى ومع العالم الطبيعي‪ ،‬ثم خاصة مع ما وراء ذلك كله رؤية له‪.‬‬ ‫ذلك هو التراث‪.‬‬‫إنه مفهوم شديد التعقيد‪ ،‬ومجرد عرض مقوماته‪ ،‬يجعلنا ندرك مباشرة سذاجة مادحيه‬ ‫وناقديه بمنطقه أو بغيره بمنظور ديكة صدام لا حضارات‪.‬‬ ‫لا يكفي أن نميز بين التراث المادي والتراث الرمزي‪.‬‬‫فالثاني قائم بذاته‪ ،‬وقائم بكونه تأويل الأول‪ .‬والأول قائم بذاته‪ ،‬وقائم بكونه ثمرة‬ ‫تطبيق الثاني‪.‬‬‫العلة‪ :‬كيان الإنسان مؤلف من بعدين‪ ،‬هما كيانه القائم بذاته‪ ،‬وعودته عليه وعيا به‪،‬‬ ‫يبدو لاحقا لكنه كذلك سابق على الأقل فيما يعود إليه في ذاته‪.‬‬‫عضويا‪ ،‬الإنسان كيانه متقدم على وعيه بكيانه‪ .‬وخلقيا‪ ،‬وعيه بكيانه متقدم على‬ ‫كيانه‪ ،‬وخاصة في كل ما أضافته الثقافة إلى الطبيعة في ذاته المتفاعلة‪.‬‬‫وهذه الخاصية‪ ،‬يتصف بها كل تراث‪ ،‬فهو \"ذات حضارة\"‪ ،‬من لم يغص إليها لا يدركه‪.‬‬ ‫لذلك فجل كلام أدعياء إحياء التراث أو \"قتلته\" من نخبنا‪ ،‬يرمون في عماية‪.‬‬‫ولا أحد يمكن أن يدعي في غوصه فيها‪ ،‬أن فهمه لها مطابق لحقيقتها‪ ،‬لأن التراث أشد‬ ‫عسرا من الطبيعة التي صرنا ندرك أن دعوى مطابقة المعرفة لها وهم‪.‬‬‫وسأضرب مثالا استعملته مرة ضد من يدعي أن القرآن الكريم مجرد انتحالات من الكتب‬ ‫السابقة‪ ،‬لما في بعضه من أوجه شبه معها‪ ،‬وهو شديد الوضوح‪ .‬فلأورده‪.‬‬ ‫‪78 2‬‬

‫سألت أحد كبار الكتاب في التراث‪ -‬رغم أنه أفضل ناقديه‪ ،‬لأنه من المعتزين به‪ .‬وأفضل‬ ‫عدم ذكر اسمه‪ :-‬هل زرت جامع عقبة ابن نافع في القيروان؟‬ ‫عجب مني‪ .‬فأكملت كلامي‪ :‬هل رأيت اساطينه واعمدته‪ ،‬وحتى حجارته؟‬ ‫قال‪ :‬ما بها؟‬ ‫قلت‪ :‬هل يمكن أن تحدد ما يوجد منها في \"جامعية\" الجامع الإسلامي وهي رومانية؟‬‫ألم يبن الرسول الأكرم مسجده بالطوب ويغطيه بسعف النخل؟ هل لها دور في مسجدية‬ ‫المسجد؟‬ ‫الغاية هي أن \"ذات التراث\" لا علاقة لها بمادة تعينه‪.‬‬‫فلو عدنا لما في القرآن من الكتب المتقدمة عليه‪ ،‬لعلمت أن ما يزعمه متهموه بالانتحال‪،‬‬ ‫دليل غبائهم مرتين‪ :‬ففضلا عن مثالنا‪ ،‬القرآن يعمل ذلك بقصد‪.‬‬ ‫أليس هو يقول بوحدة الديني في الأديان؟‬ ‫ثم أليس يراجع الكتب بـ\"التصديق والهيمنة\"؟‬ ‫ألا يتناقض لو خلا منها‪ ،‬وهو ينقد تحريفها ليبقي على سليمها؟‬‫وهذا كاف لفهم القصد بأن من لم يغص في التراث بوصفه \"ذات الحضارة\"‪ ،‬لا يمكن ان‬ ‫يفهم شروط دراسة التراث‪ ،‬فيتحول درسه لها من عوائق الفهم والإبداع‪.‬‬‫فهو كمن يتصور التراث من جنس الأهرام في مصر أو الآثار الرومانية في الشام والمغرب‪.‬‬ ‫هذا تراث لم يعد ذاتا لأمة‪ ،‬بل هو ميت مثل من كان ذاتهم‪.‬‬‫التراث هو الحي الموضوعي من ذات الامة‪ ،‬وليس الموضوعي الميت‪ .‬فما بين التراث‬ ‫الإسلامي والشعوب الإسلامية‪ ،‬هو الذات الإسلامية متعينة فيه وفيهم‪.‬‬‫والولوج إلى اي تراث حي‪ ،‬يكون بهذه الذات‪ .‬وأي تراث ميت‪ ،‬يكون الولوج لذاته‬ ‫بعملية قيس ذات أصحاب التراث المقروء على ذات اصحاب تراث القارئ‪.‬‬‫والوسيط‪ ،‬هو الواحد المشترك بين البشر‪ ،‬وقيس ذات التراث الموضوع المدروس على ذات‬ ‫التراث الذات الدارسة‪ :‬فعل الاستشراق بتراثنا‪ ،‬وفعلنا بتراثه‪.‬‬ ‫‪78 3‬‬

‫والوضعية في درس التراث الإسلامي‪ ،‬أكثر فوضى من الوضعية السياسية والاقتصادية‬‫والذوقية والوجودية‪ .‬ومعنى ذلك أن النخب الخمس تعاني من نفس الداء‪ .‬فدراسة‬‫التراث‪ ،‬مهمة نخبة المعرفة‪ .‬ولعلها أكثر فوضى وكاريكاتورية من نخبة الإرادة والقدرة‬ ‫والحياة والوجود‪ :‬الخلل العام لفساد معاني الإنسانية‪.‬‬‫فالفوضى التي عمت مجالات النشاط‪ ،‬التي تتألف تألف الصفات التي ميزنا بفضلها بين‬ ‫النخب‪ ،‬هي العامل الأساسي فيما أصاب التراث‪.‬‬‫فممثلو الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود‪ ،‬يعاني نشاطهم مما طغى على مجالات‬ ‫أنشطتهم‪ ،‬أعني السياسة والعلم والاقتصاد والفنون والرؤى‪.‬‬‫والتراث هو \"ذات الامة\" أو هويتها ووعيها بها‪ ،‬فإن كيان الأمة نفسها هي التي تعاني من‬ ‫الفوضى الروحية والخلقية‪ ،‬ومن مظاهرهما الفوضى المادية‪.‬‬‫ولعل المثال الابرز الذي حاول ابن خلدون علاجه بنظرية \"عدم التأثيم\"‪ ،‬هو مثال‬ ‫الفتنة الكبرى التي تمثل حاليا مع الفتنة الصغرى‪ ،‬علتي الفوضى‪.‬‬‫فإحياء كل ما ترتب على الفتنة الكبرى بالطائفية والقومية‪ ،‬هو أهم أسلحة إيران‪.‬‬ ‫واستنبات الفتنة الصغرى وما يترتب عليها‪ ،‬هو أهم أسلحة إسرائيل‪.‬‬‫مفهوم الفتنة الكبرى معلوم‪ .‬لكن إذا وصلنا المفهوم بصلته بطبيعة الحكم (سنة ‪ -‬شيعة)‪،‬‬ ‫كانت نفس الإشكالية اليوم متعلقة بطبيعة الحكم (علمانية ‪ -‬إسلام)‪.‬‬‫وبين أن السلاح الأول مستمد من الحديث عن حدث الماضي‪ ،‬والسلاح الثاني مستمد من‬ ‫الحديث عن حدث المستقبل‪ :‬إيران توظف الماضي‪ ،‬وإسرائيل المستقبل‪.‬‬‫كلتاهما أدركت بدهاء وحذق طبيعة التأثير الذي يستمد من البعد الرمزي من التراث‪،‬‬ ‫أو عن حديث الأحداث الماضية والمقبلة في كيان الأمم وفاعليتها‪.‬‬‫وسأبدأ بحل ابن خلدون لغلق ملف الفتنة الكبرى‪ .‬وسأقيس عليه لغلق ملف الفتنة‬ ‫الصغرى‪ ،‬سبيلين للتحرر من فوضى \"الواقع\" أو مجالات نشاط النخب الخمس‪.‬‬‫ولأورد نص بن خلدون‪ ،‬الذي اعتبره أول تأسيس للتعددية السياسية فلسفيا ودينيا‬‫(المقدمة الباب ‪ 3‬فصل ‪{ :)30‬والامر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة‬ ‫‪78 4‬‬

‫والتابعين‪ .‬فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة‬ ‫الصحيحة والمدارك المعتبرة‪ .‬والمجتهدون إذا اختلفوا‪:‬‬‫‪-1‬فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ولم يصادفه فهو مخطئ‬‫فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ منها‪.‬‬ ‫والتأثيم مدفوع إجماعا‪.‬‬‫‪-2‬وإن قلنا الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى أن ينفى الخطأ والتأثيم‪ .‬وغاية‬‫الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية وهذا‬ ‫حكمه}‪.‬‬‫وقد سميت حل ابن خلدون بحل عدم التأثيم‪ .‬وهو مبني على مبدئين فلسفيين يقرهما‬ ‫الإسلام‪:‬‬ ‫‪-1‬انتساب السياسي إلى ما هو ظني‬ ‫‪-2‬والاجتهاد العملي وأهمه السياسي والخلقي‪.‬‬ ‫وعلل صحة الحل بفرضيتين‪.‬‬‫لكن إحدى الفرضيتين فيها تجاوز ثوري لمبدأ عدم التناقض‪ :‬فالمعلوم أن مبدأ عدم‬ ‫التناقض يحول دون أن يكون المتناقضان صادقين معا‪ .‬الاجتهاد يسمح‪.‬‬‫والفرضية الثانية أكثر ثورية‪ :‬فالسياسي فيها خارج الإطار الذي يعمل به النظر‪ :‬لا‬ ‫يعمل بالمقابلة حقيقة ‪ -‬باطل‪ ،‬بل بذرائع الحلول المفيدة والضارة‪.‬‬‫فابن خلدون‪ ،‬حتى وإن لم يصرح بذلك‪ ،‬يعتبر الفعل السياسي ليس فعلا معرفيا يطابق‬ ‫موضوعا متقدم الوجود عليه‪ ،‬بل هو صانعه‪ :‬العبرة بفاعليته العلاجية‪.‬‬‫وحتى يفهم القارئ القصد‪ :‬فمن يصنع سيارة مثلا‪ ،‬لا نعير فعله بالصدق والكذب أو‬ ‫بالحق والباطل‪ ،‬بل بتحقيق السيارة الغاية التي صنعت لتحقيقها‪.‬‬‫الاجتهاد السياسي خطة استراتيجية لا تعير بالمطابقة مع موضوع سابق عليها‪ ،‬بل هي فعل‬ ‫يصنع حلا لمعضلة سياسية‪ ،‬فيعير بمعايير خلقية وذرائعية‪.‬‬ ‫‪78 5‬‬

‫والمعايير الخلقية أوردها ابن خلدون عندما اعتبر الاجتهاد السياسي ذا صلة بالدين‪،‬‬‫حتى وإن كان متعلقا بالظني منه‪ :‬وصلته بالدين هي النية والقصد‪ .‬وفيه احتراز لئلا‬‫يتحول الاجتهاد الذي يصنع الحل‪ ،‬إلى القول بالغاية تبرر الوسيلة‪ :‬فالصحابة اجتهدوا‬ ‫بأخلاق إسلامية لصالح الأمة رغم الاختلاف‪.‬‬‫والدليل‪ ،‬أن قصد ابن خلدون غلق ملف الحروب الأهلية بعد الفتنة الكبرى‪ ،‬بتنزيه كل‬ ‫الأطراف لقلب الصفحة‪ .‬وعكسه هو مصدر موقف الشيعة الذي يحيي الفتنة‪.‬‬‫عدم التأثيم الخلدوني ليس حلا موضعيا‪ ،‬يقتصر على قلب صفحة الحرب الأهلية المترتبة‬ ‫على الفتنة الكبرى‪ ،‬بل هو ثورة تؤسس التعددية السياسية السلمية‪.‬‬‫وسأقيس عليها‪ ،‬لعلاج مسألة الفتنة الصغرى‪ .‬فيكفي أن يعلم الإسلامي والعلماني أن‬ ‫الأحكام السياسية ليست علمية ومطلقة‪ ،‬بل هي اجتهادية ونسبية‪.‬‬‫فالإسلام لم يفرض الطابع الديني للسلطة السياسية‪ ،‬واكتفى بفرض الطابع المقدس‬ ‫لصفات الشرائع‪ :‬فالتشريعات الإنسانية مشروطة بالشرعية والعدل‪ ،‬لا غير‪.‬‬‫وشرعية الحاكم في القرآن‪ ،‬هي تستمد من تمثيل إرادة الأمة الحرة‪ .‬ومثله الحكم‪،‬‬ ‫شرعيته أن يكون صادرا عن سلطة شرعية‪ .‬لكن ذلك لا يكفي‪ .‬لا بد من عدلها‪.‬‬‫وفي ذلك لا يختلف الإسلامي والعلماني‪ .‬الاختلاف مصدره أساس هذين المعنيين‪ :‬الأول‬ ‫يعتقدها إيمانا بدين‪ ،‬والثاني إيمانا بعقل‪ .‬وهذا لا يبرر الاقتتال‪.‬‬‫وبهذا الحل الخلدوني‪ ،‬نتحرر من سلاح إيران المستمد من إحياء حديث الماضي‪ .‬وقياسا‬ ‫عليه‪ ،‬نتحرر من سلاح إسرائيل المستمد من استنبات حديث المستقبل‪.‬‬ ‫‪78 6‬‬

‫رأينا كيف أن حل عدم التأثيم الخلدوني يطوي صفحة حديث الماضي الذي صار سلاحا‬ ‫طائفيا يسيس كل الحياة‪ ،‬ويضفي الفوضى على بقية الأنشطة الأربعة الباقية‪.‬‬‫ورأينا كيف أن القيس عليه‪ ،‬يمكن من حل يطوي صفحة حديث المستقبل الذي صار سلاحا‬‫إيديولوجيا‪ ،‬يسيس كل الحياة ويضفي الفوضى عليها لينغلق أفق الحاضر‪ .‬فيكون التحرر‬‫من غلق أفقي الحاضر‪ ،‬تأويلا لحديث الماضي على حدثه‪ ،‬وتحقيقا لحدث المستقبل بتفعيل‬ ‫حديثه هو البداية الفعلية‪ ،‬ليبقى التراث روح أمة حية‪.‬‬‫وهو يكون روح أمة حية‪ ،‬فيشع فيه النظام الذي تمكن من التمايز والتناسق بين الأنشطة‬ ‫المعبرة عن الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود دون فوضى‪.‬‬‫لكن الحل الخلدوني لم يؤت أكله‪ .‬وقد لا يؤتي الحل المقيس عليه أكله ما لم نر كيف‬ ‫فشت الفوضى في الأنشطة بالتسييسين‪ ،‬سادي الافق الماضي والمستقبلي‪.‬‬‫وسد الأفق بالإيديولوجية الناتجة عن الفتنتين الكبرى والصغرى‪ ،‬هو العقم في مجالات‬ ‫الأنشطة الخمسة ماضيا وحاضرا‪ ،‬وفي إدراك حقيقة التراث ودوره‪.‬‬‫فسد أفق الماضي بإيديولوجيا الفتنة الكبرى‪ ،‬قد أدى إلى رد كل التراث إلى بعده‬ ‫السياسي‪ ،‬فألغى ما عداه فعلا وفهما‪ .‬وخاصة في فكر الفرق الغالية‪.‬‬‫ويناظره حاليا سد أفق المستقبل بإيديولوجيا الفتنة الصغرى حصرا في النشاط السياسي‪،‬‬ ‫فألغى ما عداه من الأنشطة وعقم العلم والقدرة والحياة والوجود‪.‬‬‫وأهم علامة‪ ،‬حلف النخب الحداثية التي تدعي الكلام باسم المستقبل مع بقايا النخب‬ ‫الغالية التي تدعي الثأر للماضي‪ :‬فيسدوا الأفقين حربا على الإسلام‪.‬‬‫والإسلام هو تراث الأمة وروحها أو ذاتها الحضارية‪ .‬فهو ليس مجرد عقيدة دينية‬ ‫مجاورة للتراث‪ ،‬بل هو فلسفة تاريخ وفلسفة دين متعينتين في تراث حي‪.‬‬ ‫‪78 7‬‬

‫لكن هذا المعنى غاب حتى عند معارضي حلف موظفي الفتنتين‪ ،‬أعني السنة ماضيا وما‬ ‫يسمى بالإسلام السياسي حديثا‪ ،‬بسبب شبه الاقتصار على رد الفعل‪.‬‬‫ولا أستثني من فكر السنة إلا من أطلقت عليهم اسم فلاسفة المدرسة النقدية‪ ،‬أي الغزالي‬ ‫وابن تيمية وابن خلدون‪ ،‬لأنها في الحاضر لم تتجاوز رد الفعل‪.‬‬‫والغاية مما أكتبه‪ ،‬هو محاولة إحياء فكر المدرسة النقدية‪ ،‬لعل ذلك يسهم في تجاوز رد‬ ‫الفعل السني الحالي‪ ،‬ليس على الحلف وحده‪ ،‬بل وكذلك على الاستشراق‪.‬‬‫وستكون هذه السلسلة حول التراث‪ ،‬محاولة لتشخيص الداء في العلاقة بالتراث وفي‬ ‫تأثيرها على ما حصل منه بسبب رؤيته التي غلب عليها الطابع المأدلج‪.‬‬‫ولا بد من ملاحظة ابستمولوجية‪ :‬فالمعرفة العلمية تمتحن بنتائجها‪ ،‬أو هي بالأحرى‬‫استراتيجية فرضية استنتاجية دليلها في نتائجها ككل استراتيجية‪ .‬وهي استراتيجية‬‫منطقية وظيفتها وضع نموذج رمزي يحاكي ما تفترضه بنية الموضوع الذي تريد تفسيره‪.‬‬ ‫فإذا مكن النموذج من تفسير ظاهراته‪ ،‬اعتبر علميا‪.‬‬‫وهذه الوظيفة تحرر من الأدلجة التي تسد آفاق الماضي‪ ،‬فتجمد تأويلات حديثة‪ ،‬وآفاق‬ ‫المستقبل‪ ،‬فتجمد حدثه‪ .‬وبسد الأفقين‪ ،‬يتوقف الإبداع وتغيب شروطه‪.‬‬‫ولا يمكن استعادة شروط الإبداع إلا بفتح الأفقين شرطي التواصل ذي الوجهتين‬ ‫المتعامدتين بين البشر أولا‪ ،‬وبينهم وبين العالم ثانيا اساسا للتبادل‪.‬‬‫والتبادل ذو اتجاهين متعامدين ايضا‪ :‬بين البشر‪ ،‬ثم بينهم وبين العالم‪ .‬فالبشر لا‬ ‫يتبادلون إلا ما يستمدونه من العالم‪ ،‬مصدر قيامهم بالعلم والعمل‪.‬‬‫لكن الأدلجة أنهت التواصل بوجهتيه والتبادل بوجهتيه‪ ،‬ولم تبق إلى ما ترتب على‬ ‫الفتنتين من الاقتتال بين الناس‪ ،‬لعلل إيديولوجية تمخض الرغاوي‪.‬‬‫وتلك هي علة فساد التربية الحكم أداتي تنظيم حياة البشر‪ ،‬أي ما فيها من تواصل‬ ‫بتوجهيه وتبادل بوجهتيه شرطي الإبداع الحضاري الرمزي والمادي‪.‬‬‫وفساد التربية والحكم هو سر ما سماه ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية الذي يعتبره‬‫سر ضمور الحضارة في الجماعة التي تصبح عالة فلا تبدع ولا تنتج‪ .‬فيكون فساد معاني‬ ‫‪78 8‬‬

‫الإنسانية وصيرورة الجماعة‪ ،‬عالة عقيم في التواصل بتوجهيه والتبادل بوجهتيه علة‬ ‫جمودها روحيا وماديا‪ ،‬فتنكص إلى بداوة دائمة‪.‬‬‫ولما يحصل هذا النكوص في حضارة ذات ماض مجيد‪ ،‬فإن أصحابها يسقطون في فصام بين‬ ‫أصل مبدع ومنتج‪ ،‬وتحريف إيديولوجي يصيبهم بالعقم الرمزي والفعلي‪.‬‬‫والأصل الذي حرف‪ ،‬هو الإسلام‪ .‬والعقم الذي نتج عن التحريف‪ ،‬هو ما أنتجته الفتنة‬ ‫الكبرى والفتنة الصغرى التي حرفت الأنشطة الخمسة بالأدلجة‪ ،‬فقتلتها‪.‬‬ ‫وفرضيتنا ستتعلق بهذين المستويين‪:‬‬‫‪ -‬الأصل وقيمه التي تؤسس لشروط الإبداع المنتج في التواصلين والتبادلين وشروطهما‬ ‫في الأنشطة الخمسة‪.‬‬ ‫‪ -‬ثم تحريفاته‪.‬‬ ‫تلك هي خطة البحث الذي شرعنا فيه حول التراث‪.‬‬‫وهو شديد التعقيد وقد يطول‪ ،‬آملا الا تحول دوني الأحداث المتسارعة والفراغ له بما‬‫يستحق من جهد نظري‪ .‬ففيه سأستعرض المستويين والحلول الزائفة التي قدمها أدعياء‬‫قراءة التراث مدحا أو ذما‪ ،‬وخاصة موظفو الفتنتين والاستشراق ورد السنة الساذج عليهم‪.‬‬‫وهمي لا يقتصر على الاستجابة لحاجة نظرية‪ ،‬رغم تقديمي النظر على العمل‪ .‬فالغاية‬ ‫من البحث تحديد شروط العمل على علم‪ ،‬للخروج من سذاجة الفكر السني‪.‬‬ ‫‪78 9‬‬

‫ختمت الفصل الثاني بالإشارة إلى \"سذاجة الفكر السني\" والقصد بها أمران‪:‬‬ ‫‪ -‬هي مدح وليست ذما‪ ،‬لأنها تعني سلامة القصد بالقياس إلى أصحاب الفتنتين‪.‬‬‫‪ -‬لكن فيها شيء من الذم‪ ،‬لأن سلامة الطوية لا تكفي في التعامل مع أعداء الحقيقة‪،‬‬‫خاصة إذا كانوا ميالين للحرب الدائمة‪ ،‬إذ فيها إهمال الأنفال ‪ .60‬فأصحاب الفتنتين‬ ‫يحاربون الإسلام‪:‬‬ ‫وكلاهما يحالف كل أعدائه منذ نزول القرآن‪.‬‬‫وما أصفه بالسذاجة السنية‪ ،‬هو فقدان التجهيز النظري والعملي للحرب التي اجتمع‬ ‫فيها على الإسلام‪ ،‬مغول الشرق والغرب‪ ،‬وأصحاب الفتنتين لضرب روح الأمة‪.‬‬‫صحيح أن الغزالي (فضائح الباطنية) وابن تيمية (منهاج السنة) وابن خلدون‬‫(المقدمة) قد شرعوا في تحرير التراث الإسلامي نظريا‪ ،‬من آثار الفتنة الكبرى‪ ،‬لكن‬‫تحريره ذاك لم يؤت أكله بسبب فساد النظامين التربوي والسياسي‪ ،‬الفساد الذي أفسد‬ ‫معاني الإنسانية فجعل الأمة ‪-‬السنة‪ -‬تصبح عزلاء علميا وعمليا‪.‬‬‫وإذن فسأخصص قسم البحث الأول لدرس التراث الإسلامي‪ ،‬المستهدف لتشويهه‪ ،‬وخاصة‬ ‫في التاريخ الحديث سواء كانت له أو عليه‪ ،‬لبيان ضررها النظري والعملي‪.‬‬‫يليه قسم ثان يغوص في أعماق العلوم الزائفة التي أدت إلى العقم النظري والعملي في‬ ‫فكر الأمة‪ ،‬لفساد نظام التربية والحكم في وضع حالة الطوارئ‪.‬‬‫وقد عرفت حالة الطوارئ التي مرت على الأمة طيلة أربعة عشر قرنا‪ ،‬بكونها تعويض‬ ‫التربية والحكم بالدستور القرآني بمنطق التغلب‪ :‬محظورا اباحته الضرورة‪.‬‬ ‫‪78 10‬‬

‫وهذا الحل الذي شرع به الفقهاء حكم المتغلب‪ ،‬وتربيته بعد الفتنة الكبرى أصبح اليوم‬ ‫الحجة الأساسية لفرض الفتنة الصغرى‪ :‬وصاية النخبة المتغربة‪.‬‬‫وهو ما يعني أن التراث الإسلامي شوهه نوعان من الفقه يقول بالضرورة التي تبيح‬ ‫المحظور‪ :‬إضفاء الشرعية على التغلب لمنع الفوضى أو لفرض التقدم‪.‬‬‫والأول ذو مصدر ديني محرف‪ ،‬فألغى الشورى والبيعة الحرة‪ .‬والثاني ذو مصدر وضعي‬ ‫محرف‪ ،‬ألغى مفهوم الديموقراطية والتصويت الحر‪ :‬القضاء على الحريتين‪.‬‬‫وصحب الحكم المستبد والفاسد‪ ،‬تربية من جنسه‪ ،‬وكلاهما يؤدي في النظرية الخلدونية‬‫إلى فساد معاني الإنسانية وصيرورة الفرد والجماعة عالة عزلاء‪ .‬فسيطرت ثقافة‬‫الاستسلام والخمود وعدم القدرة على الإبداع في التواصلين وفي التبادلين‪ ،‬فصار الاستعمار‬ ‫في الأرض بدائيا‪ ،‬والاستخلاف فيها مستحيلا‪.‬‬ ‫ذلك هو الانحطاط بشكليه‪:‬‬‫‪ -1‬ذاتي‪ ،‬ونتيجته أننا أصبحنا مستعمرين من المنافس في الإقليم اي الحضارة‬ ‫الغربية‪.‬‬ ‫‪ -2‬موروث عن الاستعمار‪ ،‬وهو يعمل نتيجة الأول‪.‬‬‫والمتكلمون في التراث له أو عليه‪ ،‬يعمقون هذين الانحطاطين إذ يحيونهما‪ :‬فمن له‬ ‫يواصل الانحطاط الذاتي‪ ،‬ومن عليه الانحطاط الاستعماري المستورد‪.‬‬‫واختصارا للنوعين‪ ،‬سميت الأول بكاريكاتور التأصيل‪ ،‬والثاني بكاريكاتور التحديث‪.‬‬ ‫وما يفعله هذا بالتراثين‪ ،‬لا يقل بشاعة عما بفعله بهما ذاك‪ :‬تشويه تام‪.‬‬‫والتشويهان مؤثران في حقبتنا الحالية‪ ،‬لأنهما يشوهان حديث أحداث الماضي الذاتي‬ ‫والغربي‪ ،‬فيسدان أفقيهما‪ ،‬وبأحداث حديث المستقبل‪ ،‬فيسدان آفقيه‪.‬‬‫وسد أفقي الماضي يجعلان ما يمثله الكاريكاتورين ليس مجرد اجتهاد تأويلي‪ ،‬بل هو‬‫يصبح سلوكات عدوانية هدفها فرض رؤيتين دائمتي العداء على التاريخ‪ ،‬فتكون النتيجة‬‫ايديولوجيتين عنيفتين‪ ،‬تتحولان إلى سلوك تخريبي وإرهابي متبادل بين الكاريكاتورين‪،‬‬ ‫وضحيته في الحالتين‪ ،‬تراث حضارة الإسلام وروحها‪.‬‬ ‫‪78 11‬‬

‫فسد آفاق الماضيين الذاتي والغربي‪ ،‬يجمدهما فيقتل فاعلية التراث التي هي ليست شيئا‬ ‫آخر غير انفتاحه إلى التأويل الدائم‪ ،‬محركا للفاعلية الإبداعية‪.‬‬‫وسد أفقي المستقبل‪ ،‬يحولان دون صيرورة الحديث مسارا لصنع الأحداث‪ ،‬بل يتحول‬ ‫إلى حرب لا متناهية من الثرثرة التأويلية‪ ،‬لا تنتقل من القول إلى الفعل‪.‬‬‫وبذلك يجمد حديث الماضي فيفقد حدثه وحيه الإبداعي‪ ،‬ويسيل حدث المستقبل فيفقد‬ ‫شروط تحققه المبدع‪ ،‬فيصبح وجود الجماعة مقصورا على نوعين من التقليد‪.‬‬‫إنهما الكاريكاتوران‪ :‬سد آفاق الماضي هو الانحطاط الذاتي‪ ،‬أو وثنية تقليد ماضينا‪،‬‬‫وسد أفق المستقبل هو الانحطاط المستورد‪ ،‬أو وثنية تقليد حاضر الغرب‪ .‬وكلا‬‫الكاريكاتورين يقوم بالسدين التوثينين‪ :‬ذلك أن كاريكاتور التأصيل يوثن الذات ويشيطن‬ ‫الغرب‪ ،‬وكاريكاتور التحديث يجمد الغرب ويشيطن الذات‪.‬‬‫فيغيب فهم التراثين وما بينهما من تخاصب عرفه التاريخ الإنساني‪ ،‬لأن ما به تقوم‬ ‫الحضارات واحد فيها جميعا رغم اختلاف الأساليب وعرضيات التعين‬‫وعنوان مقدمة ابن خلدون دليل كاف على فهمه الامر جيد الفهم‪ :‬فموضوعه ليس‬‫العمران والاجتماع الإسلامي‪ ،‬بل العمران البشري والاجتماع الإنساني‪ .‬ورغم التركيز‬‫على دراسة العمران والاجتماع الإسلاميين‪ ،‬فهو يعتبرهما عينتين من العمران والاجتماع‬ ‫عامة‪ ،‬ويذكر أحيانا أمثلة من الحضارات الأخرى‪.‬‬‫ومن أهم أفكاره‪ ،‬رؤيته أن التراث الإنساني واحد تتوارثه الأمم المتوالية وتتبادله‬ ‫الأمم المتساوقة‪ ،‬وأن الحضارة أساسيات عمرانها واجتماعها كونية‪.‬‬‫لذلك فما سأقدمه في درس التراث بعد استعراض أمثلة من الكاريكاتورين‪ ،‬سيكون في آن‬ ‫علاجا لما هو كلي في التراث‪ ،‬ولما هو خصوصي‪ ،‬مبينا ثانوية الثاني‪.‬‬‫والمعلوم أن رؤية الإسلام تجاوزت بكثير رؤية أرقى الفلسفات في الأنثروبولوجيا‬ ‫الفلسفية‪ :‬أعني نظرية الإنسان من حيث هو ما فيه من واحد وكونية‪.‬‬‫وهو ما يفهمنا أن الفارابي في تصنيف الجماعات‪ ،‬تجاوز أرسطو الذي كان يحصرها في‬‫ثلاث‪ ،‬فجعلها أربعا مضيفا إلى الأسرة والقرية والمدينة المعمورة‪ .‬فأصبحت الفلسفة العملية‬ ‫‪78 12‬‬

‫قائلة بمفهوم \"العولمة التراثية\"‪ ،‬أي قائلة بأن ثمرة النظر والعمل الإنسانيين‪ ،‬تراث إنساني‬ ‫كوني‪ :‬انثروبولوجيا كونية‪.‬‬‫وهذا الموقف يلغي التنافي بين الحضارات رغم تعددها واختلاف أساليبها‪ :‬وأساس ذلك‬ ‫كله هو وصول الدين الخاتم إلى القول بوحدة الديني في الأديان‪.‬‬‫والفلسفة أتبعت هذا الموقف القرآني‪ ،‬فأصبحت قائلة بوحدة الفلسفي في الفلسفات‪.‬‬ ‫والديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات‪ ،‬هو وحدة التراث الإنساني‪.‬‬‫وعلى هذا الأساس‪ ،‬يمكن أن يدرس التراث كما تدرس الطبيعة‪ :‬كلاهما ظاهرة كونية‬ ‫ذات قوانين كونية‪ .‬فتعدد تمظهرات الطبيعة‪ ،‬لا ينافي وحدة قوانينها‪.‬‬‫نفس الأمر في درس التراث‪ .‬فالأنثروبولوجيا الثقافية التي تدرس تعدد الأساليب‬ ‫الثقافية‪ ،‬تصبح علما إذا وصلت إلى وحدتها الخفية نظير وحدة الطبيعة‪.‬‬‫هذا هو خياري الابستيمولوجي‪ .‬فالتراث هو الشرائع‪ ،‬أي ما أضافه الإنسان إلى الطبائع‬ ‫ثمرة للإبداع النظري والعملي المتعينين في المعالم والسلوك‪.‬‬‫والاقتصار على ذكر \"النظر والعمل\" لا يعني استثناء بقية الأنظمة من الخمسة التي‬ ‫رددت إليها قدرات الإنسان مبدعا بالنظر والعمل في آن‪ ،‬بل هو يتضمنها‪.‬‬‫فالإرادة(السياسة)والمعرفة(العلم) والقدرة(الاقتصاد)والحياة (الفنون) والوجود‬ ‫(الرؤى الفلسفية والدينية) تبدع بالنظر في الرموز وبالعمل في المواد‪.‬‬‫لذا لخصت الأنشطة السياسية والعلمية والاقتصادية والذوقية والفلسفية والدينية‬ ‫بردها إلى نوعي الإبداع الإنساني الرمزي (النظر) والمادي (العمل)‪.‬‬ ‫‪78 13‬‬

‫أوجز النتائج التي وصلنا إليها في ممهدات درس التراث‪ .‬وأولها أن الرؤية‬‫الابستمولوجية التي أنطلق منها‪ ،‬تعتبر التراث في ذاته عين روح الجماعة‪ .‬لكنها تعتبر‬‫علمه ككل علم‪ ،‬ليس معرفة مطابقة لحقيقته‪ ،‬بل هو منظومة حيل عقلية تصنع نماذج‬ ‫رمزية تحاكي ما تفترضه حقيقة الموضوع‪ ،‬دون دعوى المطابقة‪.‬‬‫وهو إذن مثله مثل علم الظاهرات الطبيعية \"آلة\" تعير بمدى أدائها للوظيفة التي لأجلها‬ ‫صنعت‪ ،‬فيكون الحكم لها أو عليها بمدى نجاحها في تحقيق المطلوب‪.‬‬‫والمطلوب هو الاقتراب بأفضل ما يمكن مما يعلل ما نلحظه أو نجربه من تمظهرات‬ ‫الموضوع‪ .‬ويبقى النموذج التفسيري الفرضي قابلا للمراجعة لتجويد أدائه‪.‬‬‫وهنا يصح القول إن الروح من أمر ربي‪ :‬فتعبير التراث عن روح الجماعة روح‪ ،‬وهو من‬ ‫أمر ربي‪ ،‬أي إننا لا نعلمه علم اليقين‪ ،‬ونظرياتنا تحاكي ما ندركه منه‪.‬‬‫وهو جزء مقوم منه‪ ،‬تماما كما يعتبر وعينا بذواتنا جزءا مقوما من ذاتنا دون أن ترد‬ ‫إليه أو أن يحيط بها‪ .‬لكن محاولات فهم التراث تدعي أكثر من ذلك‪.‬‬‫لذلك‪ ،‬فنحن سنعيرها بهذا المنظور ونعير مفاضلاتها للتراث به‪ :‬فمثلا زعم البعض‬ ‫بعقلانية الاعتزال وثورية فكر رشد ثوري‪ .‬أتساءل عن جدية اصحاب الزعم‪.‬‬‫ولا أستطيع الا أتردد بين حلين‪ :‬إما أن اطلاعهم على هذين الفكرين زهيد‪ ،‬أو أن فهمهم‬ ‫للعقلانية متخلف يعتبر المعرفة مرآة عاكسة لما يسمونه واقعا‪.‬‬‫وهذه خاصية الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي‪ :‬كلاهما يقول بالمطابقة في نظرية‬ ‫المعرفة‪ ،‬ويتصوران رؤيتهم للتراث الإسلامي والأوروبي هي حقيقتهما‪.‬‬‫لذلك فأصحاب الكاريكاتورين لا يكاد فكرهم يميز بين الفلكلور والتراث‪ ،‬وبين‬ ‫أيديولوجيتهم وعلمه من وثنية تخلد بين المثال الأعلى وإحدى تعيناته‪.‬‬ ‫‪78 14‬‬

‫منطلقنا المعرفي (الابستيمولوجي) يعتبر النظريات \"آلات\" رمزية من جنس الآلات‬ ‫الميكانيكية‪ ،‬ليست نسخة من موضوع‪ ،‬بل جهاز لعلاج موضوع‪ .‬وهي نسبية مرتين‪.‬‬‫فمن حيث هي خطاب يوجه للغير‪ ،‬تكون إضافية لما لديه من دراية‪ .‬ومن حيث هي تفسير‬ ‫لموضوع‪ ،‬تكون إضافية لما يفترض عليه الموضوع بموجب معطياته التجريبية‪.‬‬‫والغريب أن أدعياء الفكر العقلاني ظلوا دون ابن تيمية الذي أدرك جيدا طبيعة‬ ‫النظريات واتصافها بهذين التضايفين‪ :‬مع المخاطب والمشكل المطلوب حله‪.‬‬‫فهو يقول دائما إنه لا يوجد تصور نهائي لأي موضوع‪ ،‬وان المقدمات اضافية للمخاطب‬ ‫والمشكل المعالج وليس مطلقات عقلية‪ ،‬بل هي \"أباديع\" نظرية نسبية‪.‬‬‫ولا يستثني من هذه الرؤية إلا العقائد التي هي إيمانية وليست علمية بهذا المعنى‪:‬‬ ‫وذلك لأن مقدماتها وأدلتها تعتبر حقائق مطلقة نطق بها المعصوم‪.‬‬‫وسنرى أن كل إشكاليات التراث‪ ،‬وعقبات فهمه‪ ،‬هو الخلط الذي نتج عن معركتين طغتا‬ ‫على فلسفة النظر والعقد‪ ،‬وفلسفة العمل والشرع‪ ،‬وطبيعة الاصل فيها‪.‬‬‫فمعركة النظر والعقد هي معركة الكلام والفلسفة‪ ،‬أو علاقة الإيمان بالعلم‪ .‬ومعركة‬ ‫العمل والشرع‪ ،‬هي معركة الفقه والتصوف‪ ،‬أو علاقة الأخلاق والقانون‪.‬‬‫وهاتان المعركتان لا يمكن أن تحسما فلسفيا ودينيا‪ ،‬ما لم نعد النظر في نظرية المعرفة‬ ‫ولم نتخلص من القول بنظرية الحقيقة المطابقة أو العقل المرآة‪.‬‬‫وكان من المفروض أن يتحرر القائلون بالمعرفة المرآة منها‪ ،‬بمجرد تأمل معرفة الذات‬ ‫لذاتها‪ :‬فلا يوجد ما هو أكثر يقينية وأقل إحاطة بموضوعها منها‪.‬‬‫لكن ابن تيمية لم يكن مجهزا بما يمكن من صوغ نظريته هذه‪ .‬فهو يميز منطقيا بين‬ ‫الابستمي والأبستمولوجي دون وعي نظري كاف‪ .‬فالإيمان موقف قضوي مطلق‪.‬‬‫إنه الموقف العقدي الإيماني الذي يختلف عن العقد العلمي‪ ،‬الذي هو مجرد اجماع‬ ‫الجماعة العلمية التواضعي على توفر شروط العلمية في مضمون القضية‪.‬‬‫وهو كذلك موقف قضوي يمكن صوغه بالصورة التالية‪ :‬عقد في حكم ما‪ ،‬لتوفر ما تواضعت‬ ‫عليه الجماعة العلمية في المجال واعتبرته كافيا لوصفه بالعلمي‪.‬‬ ‫‪78 15‬‬

‫الابستيمولوجي درجة تواضعية من العقد المعرفي‪ ،‬وهو موقف قضوي من حكم في مضمون‬ ‫قضوي فيه معايير تعتبرها الجماعة علامات العملية دون ادعاء المطابقة‪.‬‬‫والمعلوم أن كل قراء التراث الإسلامي يقولون بالمطابقة‪ ،‬سواء كانت قراءاتهم تابعة‬ ‫للماركسية أو الهيجلية أو محاكية للفوكلدية وما بعد الحداثة‪.‬‬‫أما قراؤه من كاريكاتور التأصيل‪ ،‬فحدث ولا حرج‪ :‬فجلهم خارج تاريخ الفكر ونظريات‬ ‫المعرفة‪ .‬فهم متخلفون قرونا حتى على نظرياتها القديمة والوسيطة‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬ففي الحالتين لا يوجد تمييز واضح بين اليقين والحقيقة‪ .‬فالأول يتعلق بدرجة‬ ‫الاعتقاد في مضمون القضية‪ ،‬وهو إذن موقف قضوي ينتسب إلى الابستميك‪.‬‬‫والثانية تعريف وضعي للحقيقة العلمية‪ ،‬بجملة من المعايير تعتبر مضمون القضية ثابت‬ ‫بإجماع جماعة العلماء‪ ،‬وبقابلية التثبت منه بنفس الشروط لأي مختص‪.‬‬‫وهذا التعريف لا يتعلق باليقين‪ ،‬بل بالصادقية العلمية بتلك الشروط‪ .‬وهو على كل حال‬ ‫ممكن في الطبيعيات ومستحيل في التاريخيات‪ :‬لعدم قابلية التكرر‪.‬‬‫ولذلك فقابلية التثبت المتاحة في الطبيعيات بتكرار التجارب‪ ،‬مستحيلة في التاريخ ومنه‬ ‫التراث الذي هو تاريخي بالجوهر وكل أحداثه فريدة لا تتكرر‪.‬‬‫وأغرب ما يتميز به فهم ابن تيمية‪ ،‬أنه يعتبر اليقين مقصورا على العقائد غاية للتصديق‬‫الإيماني‪ ،‬وينفي عن التصديق العلمي اليقين في الوجوديات‪ .‬لكنه يقول به في المقدرات‬‫الذهنية التي لا تتعلق بالوجوديات‪ ،‬بل بمبدعات ذهنية افتراضية مشروطة في المعرفة‬ ‫العلمية وتفقد إطلاقها عند التطبيق‪.‬‬‫ويقدم منها مثالين‪ ،‬هما المنطق المجرد بوصفه أحد فروع الرياضيات أو المقدرات الذهنية‬ ‫التي من جنس الحساب والهندسة النظرية‪ :‬وهي نوع من التراث‪.‬‬ ‫فيكون التراث بهذا المعنى نوعين‪:‬‬ ‫‪78 16‬‬

‫وبهذا المعنى‪ ،‬فالفنون كلها من جنس المقدرات الذهنية لأنها أباديع ليست متصلة‬ ‫بالموجود‪ ،‬بل بمنشود عقلي بعضه ضروري للعلم والبعض الآخر للذوق‪.‬‬‫ابن تيمية لم ير علاقة المقدرات الذهنية الرياضية والمنطقية بالفنون الإبداعية‬ ‫كالآداب‪ ،‬لكن فصله بين علم الموجود وعلم المقدر الذهني يقتضيه‪.‬‬‫وطبيعي أن نرى في ذلك مفارقة عجيبة‪ :‬فأسمى درجات الدقة العلمية (الرياضيات) وما‬ ‫هو أبعد ما يكون عن الدقة العلمية (الأدب) من طبيعة واحدة‪.‬‬‫كلاهما افتراضي وليس واقعيا‪ .‬والافتراضي الرياضي ضروري للعلم‪ ،‬والأدبي ضروري‬ ‫للعمل‪ .‬وكلاهما أساس التراث بما هو إبداع سلطان الإنسان على الطبيعة‪.‬‬‫وهذا هو التعريف النهائي للتراث الحي‪ :‬إبداع للافتراضي شرطا لعلم الموجود‪ ،‬والعمل‬ ‫على علم بسلطان عليه‪ .‬والرياضي شرط أداتي‪ ،‬والفني شرط غائي‪.‬‬‫وبهما كلاهما يتحقق الوصل إلى حد التطابق بين الذاتي والموضوعي‪ :‬فالموضوعي هو ما‬ ‫صنعه الإنسان ليس كفرد‪ ،‬بل كجماعة لتحقيق ذات الجماعة في التاريخ‪.‬‬‫وهكذا‪ ،‬يمكن تجاوز العقبات المعرفية التي تحول دوننا وتحرير درس التراث من‬ ‫الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي‪ .‬درسه الذي يرده إلى حرب إيديولوجية‪.‬‬ ‫‪78 17‬‬

‫أجلت الكلام في القرآن ثم في التراث‪ ،‬بسبب الأحداث التي تعوق الغوص فيما ورائها من‬ ‫بعائد‪ ،‬تقتضي تجاوز عاجل الهموم التي تحول دون صفاء الذهن‪.‬‬‫فما يهدد مستقبل تورة التحرر(الربيع) وثورة التحرير(غزة) برزت فيه علامات الأمل‪:‬‬ ‫فالشعوب رفضت بوضوح الصفقة‪ ،‬وأعداء الثورة سيولون الأدبار‪.‬‬ ‫ولما كانت هذه العلامات دالة على ان فاعلية الموجب من التراث تعود‪ ،‬ولو ببطء‪ ،‬وكانت‬ ‫ذات صلة بالموضوعين المؤجلين‪ ،‬فإني منها سأعود إليهما بالتوالي‪.‬‬ ‫أعود إلى التراث بداية‪ ،‬يليه القرآن‪.‬‬ ‫ذلك أن القرآن هو المنعرج التاريخي في التراث الحي‪ :‬فالإيجابية التي عادت في الخليج‬ ‫تتعلق بثقافته القبلية‪.‬‬ ‫وأعني اللحمة القبلية التي تجعل دويلات الخليج متداخلة الأنساب‪ ،‬بصورة تصمد أمام‬ ‫الصراعات السياسية للأنظمة‪.‬‬ ‫وهذه من ثقافة العرب حتى قبل الإسلام‪.‬‬‫لكن ما لاحظته‪-‬وهو المؤسف حقا‪-‬هو أن دور الإسلام بصفته المصدر الأسمى لقيم الأمة‪،‬‬ ‫لم يبرز لعلتين‪:‬‬ ‫‪ -‬سكوت العلماء‬ ‫‪ -‬وحصول الأزمة في أفضل الأيام‪.‬‬ ‫‪78 18‬‬

‫صحيح أن سكوت العلماء في أنظمة مستبدة وظالمة‪ ،‬يفيد عادة أدنى درجات الشجاعة من‬ ‫الرفض‪ .‬إذ سكوتهم أفضل من كلام الطبالين الذي لا حياء لهم ولا دين‪.‬‬ ‫أعذر الساكتين لعلمي بالأوضاع‪ ،‬حتى وإن كان ذلك يتنافى مع الجهاد في الله‪ .‬خلق‬ ‫الإنسان ضعيفا والسكوت احتجاج القلب‪ ،‬لم يصل إلى اللسان‪ ،‬فضلا عن اليد‪.‬‬ ‫بعد هذا التمهيد‪ ،‬أعود إلى الكلام على التراث‪.‬‬‫ما تقدم من فصول‪ ،‬عالج قضايا منهجية وابستمولوجية ع ّرفت فيها مفهوم التراث وإحيائه‬ ‫ودوره التاريخي‪.‬‬ ‫لكني لم أصل ذلك بالأحداث عامة دون حصر في أزمة الخليج‪ ،‬إلى كل أزمات الإقليم‪،‬‬ ‫وخاصة أسلحة أعداء الإسلام ومليشيات القلم والسيف والكاريكاتورين‪.‬‬‫فما علاقة الدراسات التراثية ومقاصد أصحابها بالوضع الحالي إيجابا وسلبا‪ ،‬في سعي الأمة‬ ‫إلى استئناف دورها‪ ،‬بصورة تجعلها قطبا عالميا كما كانت؟‬ ‫وهل لمليشيات القلم والسيف علاقة بهذه العملية؟‬‫أم هي ظاهرة عابرة‪ ،‬نتجت عن التوظيف الاستعماري واستراتيجيات ذراعيه في الإقليم‪،‬‬ ‫لا يغذيها التراث؟‬ ‫أليس في دراسات التراث ما يهدف خاصة إلى استغلاله من أجل تكوين هذه الجيوش التي‬ ‫تحارب شروط الاستئناف‪ ،‬لمجرد أنها تيسر التجنيد في المليشيات؟‬‫وهذه الأسئلة مع الواقع‪ ،‬صنم النخب العربية الذي كتبته سنة ‪ ،2007‬مدخل الضروري‬ ‫لدرس العلاقة بين مليشيات التهديم الذاتي ودرس التراث‪.‬‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫‪78 19‬‬

‫لا يكاد يفتح أحد المفكرين العرب فاه أيا كان الاتجاه علمانيا كان صاحبه أو أصلانيا إلا‬‫ويقرع سمعك بهبل الجديد مع جوقته أو صيغة النظرية والعملية‪ :‬الواقع ودوره سواء في‬ ‫فكره الوضعي (نقد التراث في ضوء الواقع!) أو في فقهه الشرعي (تطوير الفقه بفقه‬ ‫الواقع المزعوم!)‪ .‬فكيف نفهم المنزلة التي بات يحظى بها هذا الوثن وهل يدرك‬ ‫المتكلمون باسمه وظائفه الوثنية في خطابهم وفي الوجود؟ ذلك ما أريد أن أدقق معناه‬‫فأحدد تصوره وأحصر دلالته قدر المستطاع بعلاج نسقي يبين خواء هذا المعبود الذي بات‬ ‫مطلوب كلا الحزبين المرضعين لجراثيم الحرب الأهلية في البلاد العربية جراثيمها التي‬‫تعج بها مزابل الفكر المنحط السائد على معركة نقد التراث المزعومة توظيفا بالسلب عند‬ ‫العلماني أو بالإيجاب عند الأصلاني‪.‬‬ ‫فالمعاني المتداولة عند موثني الواقع سواء كانوا من العلمانيين أو من الأصلانيين لا‬ ‫تتجاوز الفهم العامي لتصور الواقع‪ .‬إنها تدور كلها حول أمور ليس لها علاقة بمعانيه في‬ ‫اللسان العربي ولا بمعانيه في القرآن الكريم كما نبينها لاحقا فضلا عن معانيه العلمية‬‫والفلسفية بل هي مستمدة من تضمين خفي لمعاني الكلمات الأجنبية التي يترجمون بها في‬ ‫لا وعيهم كلمة الواقع فيغلفون المفهومية العامية بظرف اللغة الأجنبية‪ :‬يغصبون فقه‬ ‫اللغة العربية على أن يرطن إفرنجي دون تمكن حقيقي منهما فضلا عن الجهل بطبيعة‬‫التصور المثالية التي ترد إليها المعاني الفلسفية كما سنرى‪ .‬ألست ترى بعضهم يكلمك على‬‫فقه الكلمات العربية باثميولوجيا ما يتصوره مقابلا لها في اللسان الفرنسي أو الإنجليزي؟‬ ‫وحتى في هذه العاهة فإنهم يذهبون إلى أفسد ضروبها وأقلها قربا من الدلالة التي‬ ‫تستمد من العربية‪ .‬فبدلا من المقابل الألماني ‪ Wirklichkeit‬الذي يمكن أن يقربهم‬ ‫من المعنى العربي لكلمة واقع لأنها تفيد الفاعلية الحقة أو الأثر الذي بالفعل تراهم‬ ‫يذهبون إلى الاستمداد من اثميلوجيا كلمة فرنسية ذات أصل لاتيني‪ Res‬يعني الشيء‬ ‫‪78 20‬‬

‫كلمة فرنسية هي ريال ‪ Réel‬ويأخذونها في معناها الغفل بمعنى الشيء المادي الخارجي‬ ‫لا بمعنى \"الأمر\" أو الشيء المجرد جاعلين ما لا يطابق هذا المعنى الغفل وهما في أقصى‬ ‫أحكامهم صرامة على ما ليس بواقعي عندهم وفي أدناها صرامة يقابلون بين ما في الذهن‬ ‫وما في العين اعتمادا على خرافة رد الفكر إلى المرآة المنفعلة التي تعكس الواقع‪.‬‬‫لذلك فسنقفو أثر هذا الصنم لحصر مقوماته بالمقابل مع الدلالة الخفية والوظيفة المنسية‬ ‫لتصور الواقع في اللسان العربي وفي العلم والفلسفة والدين مقوماته التي تعارض تمام‬ ‫المعارضة ما آل إليه أمره في التمثلات العامية للمعاني العقلية التي جعلتها نخبنا شعارات‬ ‫فافقدتها وظائفها الحقيقية‪ .‬وأملنا من القارئ أن يعذرنا فلا يتهمنا بالتعسير فيما‬ ‫يتصوره قابلا للتيسير‪ :‬فالمسألة بذاتها معقدة ولا ذنب لنا في محاولة اقتصاص كل‬‫تشاجناتها بالمستطاع من التحرير الذي يقتضيه التحليل العقلي الخبير‪ .‬وهذه هي مسائل‬ ‫البحث‪:‬‬ ‫‪.1‬مجال الدلالة ببعديه القرآني الخاص واللساني العام‪.‬‬ ‫‪.2‬التأسيس النظري في الفكرين الأصلاني والعلماني‪.‬‬ ‫‪.3‬التأسيس العلمي في الفكرين الأصلاني والعلماني‪.‬‬ ‫‪.4‬نتائج التأسيسين على إبداع الأمة الرمزي والفعلي‪.‬‬ ‫‪.5‬سبل التحرر من هذا الوثن وآثار التأسيسين‪.‬‬ ‫مجال الدلالة القرآني واللساني‬ ‫‪:‬‬ ‫بخلاف المعتاد فإننا نبدأ بمجال الدلالة القرآني الخاص لعلتين‪:‬‬ ‫‪78 21‬‬

‫فأما العلة الأولى فهي ما يلاحظه أي متصفح لمعجم لسان العرب من تعذر الجمع بين‬ ‫المعاني الكثيرة والمتناقضة لمادة \"و‪.‬ق‪.‬ع‪ \".‬في اللسان العربي من دون شواهد متواترة‬ ‫كافية تمكن من حصر الاستعمالات الأساسية للمادة ومشتقاتها شواهد من نصوص موثوق‬ ‫بها من الآداب العربية‪ .‬فالدلالات التي ينسبها لسان العرب إلى مادة \"و‪ .‬ق‪ .‬ع‪\".‬‬ ‫المجردة تبدو عديمة الأصل الجامع لأنها أولا لا تكاد تحصى ولأنها ثانيا غير مصحوبة‬ ‫بشواهد استعمال مقنعة تمكن من تحديد المعاني‪.‬‬‫وأما العلة الثانية فهي أن القرآن يمكن أن يعوض فقدان الشواهد لأنه يعتبر حتى عند‬ ‫من لا يؤمن به ويكتفي بتنزيله منزلة النص الأدبي المجرد بديلا ممكنا من الشواهد‬ ‫المتواترة على استعمالات كثيرة لهذه المادة‪ .‬فهو النص الوحيد الموثوق به أكثر من أي‬‫مصدر آخر خاصة وكل علوم العربية فضلا عن جمع الأدبيات واللسانيات العربية متأخر‬ ‫عنه في الزمان وفضلا عن كونه النص الذي ترد فيه مادة وقع ومشتقاتها أكثر من‬ ‫عشرين مرة‪ .‬فمادة \"و‪.‬ق‪.‬ع‪ \".‬وردت فعلا أربعا وعشرين مرة في القرآن الكريم منها‬ ‫ثلاث عشرة مرة في صيغة فعلية (‪ 9‬في الماضي و‪ 2‬فعل في المضارع و ‪ 2‬في الأمر)‬‫وإحدى عشرة مرة في صيغة مشتقات (‪ 7‬اسم فاعل مذكر و‪ 2‬اسم فاعل مؤنث صار علما‬ ‫على القيامة و‪ 1‬اسم مرة و‪ 1‬اسم مكان)‪.‬‬ ‫والدلالة تراوح بين الوقوع بمعنى السقوط (مثل قعوا أو وقعت السماء عليهم إلخ‪)..‬‬‫والوقوع بمعنى الحصول المجرد الفعلي أو المنتظر (وقع بهم أو وقعت الواقعة) أو بمعنى‬ ‫وجوب الحصول (وقع عليهم القول من جنس حَق عليهم القول) وينظر إليها ثلاثتها إما‬ ‫بذاتها أو بمحلها أو بفاعلها أو بمفعولها أو بموضوع فعلها‪ .‬وكل هذه المعاني لا تتضمن‬‫المقابلة بين ما في الذهن وما في العين فضلا عن المقابلة بين الحقيقة والوهم بل هي تعني‬ ‫‪78 22‬‬

‫وجود علاقة بين حدث وزمان أو بين حدث ومكان بصفات الحصول المجرد أو الحصول‬‫المنتظر بإطلاق أو بتعيين متردد بين الإمكان والوجوب‪ .‬وبذلك فإن هذا المعنى المتواتر في‬ ‫الورودات القرآنية يؤول إلى خمس دلالات عنصرية هي‪:‬‬ ‫‪.1‬الحصول المجرد‬ ‫‪.2‬والحصول الموجه (الإمكان والوجوب والامتناع)‬ ‫‪.3‬وأثر الحصول في موضوعه موجها حسب ظرفيه‬ ‫‪.4‬الزماني بتصريف الفعل (وقع يقع سيقع) والزيادة (واقع توقع وقع)‬ ‫‪.5‬والمكاني بمشتقات ظرف المكان (موقع)‪.‬‬ ‫وهذا الحصر شبه النسقي يجعلنا نكتشف المسلك الهادي ‪ Der Leitfaden‬في الشبكة‬ ‫الدلالية التي يمكن أن تتمحور حولها معاني الواقع فييسر علينا الولوج إلى نظام المجال‬ ‫الدلالي في اللسان العربي الذي يبدو شبه مستحيل لفرط تنوع عناصره واختلافها‪.‬‬ ‫‪:‬‬ ‫رغم ما ذكرنا من تعدد معاني المادة وتعارضها إلى حد يكاد يلغي كل إمكانية لتحديد‬ ‫نواة دقيقة توحد بينها في مجال معين فإن أغلبها يدور حول فعل محدث للصوت وأثره‬ ‫سواء أخذ من حيث ذاته أو من حيث فاعله أو من حيث مفعوله في متلقيه أو في موضوعه‬ ‫أو من حيث جهة فعله المترددة بين الإمكان والوجوب أو من حيث ظرفيه الزماني‬ ‫والمكاني‪ .‬لذلك فإن محاولة حصر هذه الدلالات ليست مستحيلة إذا عدنا إليها من‬‫الفكرة الأولى التي أوحت بها معانيها في النص القرآني معانيها التي توجهنا إلى مزيدات‬ ‫المادة الأبرز في الاستعمال السائد على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الكريم خاصة‬ ‫المزيدات الدالة على مستويات التجريد اللساني لأنها علامات تصوير المادة القصدي‪.‬‬ ‫‪78 23‬‬

‫وقد يكون من المفيد أن نستعمل طريقة في الحصر المنهجي لخارطة مجال الدلالة تبدأ‬‫بحدي المعنى الأقصيين كما يبرزان من أهم مشتقين مزيدين من المادة ثم نرتب ما بينهما‬ ‫كما يفعل الفلاسفة عادة في كل عمليات الحصر الشارط للسبر والتقسيم أو عند تحديد‬ ‫العلاقة بين متعين الصورة ولا متعين المادة‪ :‬مثل العلاقة بين متصل الصوت والنغمات أو‬ ‫الحروف أو متصل الفضاء ومنفصل الأشكال إلخ‪..:‬‬ ‫‪.1‬فمعنى الإيقاع الناتج عن إدراك نظام النقر الموقع للحن هو بداية المعنى المركزي‬ ‫الذي نطلبه أو الحد الأدنى الذي يمكن اعتباره جامعا لكل الزيادات التي تحدد‬ ‫معنى مادة وقع‪.‬‬ ‫‪.2‬ومعنى التوقع الناتج عن مفعول إدراك الموقع في نظام الإيقاع‪ -‬في معناه المجرد‬ ‫الذي قد يكون جوهر القانونية في الفكر العلمي والفلسفي من حيث هو دالة بين‬ ‫متغيرات الثابت فيها هو علاقة الدالة‪ -‬على وقوع ما نتوقع مواقعه يمكن اعتباره‬ ‫الحد الأقصى لهذا المعنى المركزي لأنه ينطلق منه إلى مستوى تجريد أرقى‪.‬‬ ‫‪.3‬وبين الحدين يمكن تعيين وسط هو الوقع الذي هو في نفس الوقت الصوت الذي‬ ‫يحصل عند الوقوع عامة أو النقر خاصة وأثره في المتلقي بمعنى أول أو بمعنى‬ ‫المعنى‪.‬‬‫‪.4‬وبذلك نستطيع الوصل بين البداية وهذا الوسط وصلا ينتج عنه معنى وقع الإيقاع‬ ‫في النفس المعينة ومعنى معناه في عالم التصورات المجردة التي نفترض لها محلا‬ ‫عقليا هو في الفكر الديني الإسلامي اللوح المحفوظ وفي الفكر الفلسفي الكلاسيكي‬ ‫عالم المعقولات‪.‬‬ ‫‪78 24‬‬

‫‪.5‬ومن الوصل بين الوسط والغاية وصلا ينتج عنه معنى وقع التوقع في النفس المعينة‬‫ومعنى معناه في عالم التصورات المجردة بمحله العقلي المشار إليه سواء من المنظور‬ ‫الديني أو من المنظور الفلسفي‪.‬‬ ‫فتكون المعاني كالتالي‪:‬‬ ‫‪.1‬الإيقاع أو نسق النقر الذي يضبط مدد الزمان ويقيسه‬ ‫‪.2‬والتوقع أو نسق التنزيل في المحال التي يقع فيها النقر نسقها الذي يضبط المكان‬ ‫ويقيسه‪ .‬وذانكما هما الحدان الأقصيان لمعنى الواقع أعني نسقي ظرف الزمان‬ ‫وظرف المكان‬ ‫‪.3‬أما الوسط بين الحدين على نفس البعد منهما فهو الوقع أو النقرة الناتجة عن‬ ‫السقوط في معناها الأول أو معنى معناها‬ ‫‪.4‬وبين الحد الأول وهذا الوسط نجد معنى الوقع الرمزي أو وقع الإيقاع أي معنى‬ ‫المعنى أو التأثير مرموزا إليه بأثر إيقاع الوقع الذي هو مادي ويعني الطرق‬ ‫والصقل والتثقيف والتحديد‬ ‫‪.5‬ثم بين الوسط والحد الأخير نجد معنى المعنى الثاني أو وقع التوقع أعني نظام‬ ‫العلامات كما يحصل في توقيع المرء لشيء أو عليه شرطا في كل توقع‪.‬‬‫وإذن فالوقع هو النواة المركزية للمعاني لكونه يتضمن المعنى (وهو مادي صرف) ومعنى‬ ‫المعنى (وقد يكون ماديا أو معنويا صرفا) في نفس الوقت‪ .‬وعنه يتفرع معنيان هما‬ ‫الإيقاع ووقعه وكلاهما يمكن أن يكون ماديا كما في الموسيقى ووقعها أو معنويا كما في‬‫الترتيب الذوقي عامة دون تعين في مادة بعينها ووقعه الجمالي‪ .‬وهما يتفرعان عنه رغم‬ ‫كونهما شرطا في نقله من معناه الأولى إلى معنى معناه‪ .‬ويتفرع عنه معنيان آخران‬ ‫‪78 25‬‬

‫بتوسط المعنيين السابقين هما التوقع ووقعه وكلاهما لا يكون إلا معنويا لأنه فعل عقلي‬ ‫صرف مشروط في كل فاعلية إنسانية نظرية كانت أو عملية لما له من صلة ببعد الزمان‬ ‫المقبل ومن ثم بما لا يمكن أن يوصف بالواقع في معناه العامي عند مفكرينا العلمانيين أو‬‫الأصلانيين‪ .‬لذلك كان المحل الغائي في الحالتين هو محل المعقولات فلسفيا واللوح المحفوظ‬‫دينيا مرورا بالمحل الأقرب أعني النفس البشرية وليس ما يتوهمه علمانيونا أو أصلانيونا‬ ‫في تخيلاتهم العامية لصنم الواقع الخارج عن العقل والنص والمحتكم إليه بالخروج من‬‫العقل والنص‪ :‬ليس من خروج منهما إلا بالمعنى المجازي الذي يصف موقفهم بكونه خروجا‬ ‫عن العقل والنص بمعنى فقدان معايير العقل والنقل النقية وضوابطهما السوية‪.‬‬ ‫جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس النظري‬ ‫ليس في المعاني المتداولة عند موثني الواقع أي رائحة من كل هذه الدقائق بل هي لا‬ ‫تتجاوز الفهم العامي لتصور الواقع الغفل الذي هو دون خيال الطفل‪ .‬فهي تقتصر على‬‫المقابلة بين ما في الذهن وما في العين اعتمادا على خرافة رد الفكر إلى المرآة المنفعلة التي‬ ‫تعكس الواقع حتى وإن حرفت العكس بعض المواقف الإيديولوجية التي يزيحونها بوهم‪:‬‬ ‫‪.1‬التحليل النفسي أو‬ ‫‪.2‬التأويل الاجتماعي أو‬ ‫‪.3‬النقد الثقافي‪.‬‬ ‫وتلك هي ثلاثية الأدوات التي يزعمون استعمالها دون سلطان حقيقي عليها ولا فقه‬ ‫لشروطها‪ .‬فهم يدعون أنهم يحتكمون إلى الواقع بواسطتها عند نقد النصوص والمواقف‬ ‫‪78 26‬‬

‫احتكاما يصلهم وصلا مباشرا بالواقع الصلب فيحررهم من الأوهام والأحلام التي ينسبوها‬‫إلى غيرهم ممن يجادل في تصورهم للواقع‪ .‬ورأيي أنهم يجهلون مفروضات هذه الأدوات‬ ‫إذ إنهم لو كانوا يفهمونها بمقتضياتها النظرية حقا لعلموا شروطها التي ترفض تام‬ ‫الرفض المدلول العامي للواقع‪ .‬فواقعها هو المجرد النظري المحدد لبنية النفس في الأداة‬ ‫الأولى والمحدد لبنية المجتمع في الأداة الثانية والمحدد لبنية المنظومات الجامعة بين‬ ‫محددات البنيتين السابقتين أعني المجرد المطلق المحدد لبنية الترميز في الأداة الأخيرة‪.‬‬ ‫فهذه النظريات النقدية جميعا تخلصت مما تردى إليه فكر أنصاف المثقفين من عامية‬ ‫تمثلها نظرية الانعكاس التي تجاوزها حتى الفكر الماركسي البدائي‪ .‬فلا واحدة منها‬ ‫تعارض نصا بواقع غير نصي بل هي جميعا تعارض نصا (=موضوع) بنص (=ما بعد‬ ‫موضوع) أو نظرية موضوع بنظرية ما بعد موضوع‪ .‬مراجعة نص بواقع غير نصي أمر‬ ‫ممتنع بالذات إذ لا نخرج من النص المنقود إلا إلى نص بديل هو النص المؤسس لفعل‬ ‫النقد‪ :‬نص النظرية التحليلية أو نص النظرية التأويلية أو نص النظرية النقدية‬ ‫وجميعها نصوص أكثر تجريدا من الموضوع الذي تنطبق عليه‪.‬‬ ‫كل هذه النظريات تحررت من صنم الواقع بالمعنى العامي الذي يحاكم به علمانيونا‬ ‫التراث واختارت الواقع بالمعنى الذي حاولنا تحديد مقوماته من منطلق نص القرآن‬ ‫الأمين وفقه اللسان العربي المبين‪ .‬لذلك حق لنا أن نقول إن أقل الناس دراية بالعلوم‬‫الحديثة هم أكثرهم كلاما عليها‪ .‬وهم دون شك أكثرهم عقما لأن غاية ما يعلمونه هو ما‬ ‫يشبه فعل الميكانيكي الرعواني الذي يطبق وصفات لإصلاح السيارات ولا يرتفع فكره‬ ‫إلى النظريات في الإوالة أو فعل الممرض الذي يطبق الوصفات ولا يرتفع إلى فن الطب‬ ‫فضلا عن علم الأحياء‪.‬‬ ‫‪78 27‬‬

‫والغريب أن الأمر نفسه هو ما حصل منذ القرن الخامس الهجري الذي اكتمل فيه‬ ‫استقلال الفكر الفلسفي العربي عن مجرد التعلم من اليونان بعد اكتمال مرحلة التقويم‬ ‫النقدي للتراث اليوناني بخلاف ما يلوكه محرفو تاريخ العلوم في الحضارة العربية‬ ‫الإسلامية‪ .‬فقد كان أكثر الناس إبداعا للعلوم أبعدهم عن اجترار مبتذلات الدروس‬ ‫الفلسفية الرسمية (الفلاسفة بالمعنى المتعارف) وعن كثرة الهذيان بالعقلانية (المعتزلة‬‫والباطنية)‪ .‬فكل المبدعين في العلوم المنتسبة إلى الفلسفة لم يكونوا من الفلاسفة ولا من‬‫المعتزلة بل من فرق أخرى وأغلبها أشعرية أو قريب من العقلانية النقدية التي أسستها‪:‬‬ ‫فالبيروني وابن الهيثم والطوسي والفلكيون والأطباء الكبار بعد سقوط بغداد لا‬ ‫ينتسبون إلى الفلاسفة الذين كانوا شراحا لمدونة أرسطو لا غير ولا من الاعتزال الذي‬ ‫لم يتجاوز دعوى العقلانية إلى العقلانية‪.‬‬ ‫أما المحاولات النقدية الجدية للفلسفة التقليدية وتأسيس العلوم التي هي ما اختص‬ ‫المسلمون بإبداعه قبل سواهم من الأمم‪-‬حتى إنه يمكن القول إن نسبة دور المسلمين في‬ ‫تأسيس علوم الرمز والتاريخ إلى تطور العقل الإنساني هي عينها نسبة دور اليونان في‬ ‫تأسيس علوم المنطق والطبيعة‪-‬فإنها كلها بدون استثناء أشعرية الهوى والموقف النقدي‬ ‫من الفلسفة والاعتزال‪ :‬فنقد الميتافيزيقا (تهافت الفلاسفة) ونقد المتاتاريخ (فضائح‬‫الباطنية) ثورتان غزاليتان وعلوم الرمز والآداب (الجرجاني) والتاريخ (ابن خلدون)‬ ‫وضعها مفكرو الأشعرية الذين هم أقل الناس ثرثرة حول العقلانية بل وأكثرهم نقدا‬ ‫لها لكونهم أدركوا حقيقتها وشروطها فعملوا بها بخلاف المقتصرين على الدعاية لها دون‬ ‫فهم ولا دراية بشروطها وحقيقتها‪.‬‬ ‫‪78 28‬‬

‫وبين أنه لا علاقة لهذا الوثن بما يفهمه أي عاقل من عبارة القرآن‪{ :‬إنما توعدون‬ ‫لصادق وإن الدين لواقع} (الذاريات ‪ )6‬بمعنى توقع يوم الحساب وانتظاره باعتباره‬ ‫أمرا لا شك فيه عند المؤمن به لكونه سيحصل كما يتوقعه بمعنى انتظار المؤمن لما لا ريب‬ ‫فيه إلى حد يفوق توقع العالم لما تقتضيه النظرية العلمية‪ .‬فبما هو توقع لأمر في‬‫الاستقبال ليس هو بعد واقعا بمعنى الواقع عند هؤلاء العامة الذين يتكلمون في العقلانية‬ ‫بلا عقل فضلا عن كونه مجرد وهم في نظرهم إذ هو يتكلم في البعث الذي يعتبرونه‬‫خرافة‪ .‬كما لا يمكن أن يفهموا من الواقع ما يمكن أن يشتق منه مدلول \"فلا أقسم بمواقع‬ ‫النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم\" (الواقعة‪ )75‬لأن القرآن عندهم كلام محمد‬ ‫ومحمد أمي لا يمكن أن يكون عالما بدلالة مواقع النجوم وقيمتها في الفلك العلمي‪ .‬لذلك‬ ‫فلا يكون المقصود في رأيهم إلا المعنى السحري للتنجيم‪ .‬وذلك عين اللاواقع لأنه من‬ ‫أوهام المنجمين!‬‫وهذا \"الواقع\" الصنم هو بهذا الفهم معين المعايير التي يحكمها مؤولو القرآن والسنة وكل‬ ‫التراث مؤولوه من دجالي الزمان‪:‬‬‫‪.1‬فالعلمانيون يؤولون من هذا المنظور العامي وبالسلب المطلق استثمارا للتاريخية التي‬ ‫تحقق عندهم التخلص من المقدس كما يفعلون عندما يرجعون النص إلى ظروف‬ ‫الحصول (بالمعنى الماركسي) وأسباب النزول (بالمعنى التقليدي المردود إلى المعنى‬ ‫السابق)‪ .‬وقصدهم إلغاؤه لأن مفعوله في زعمهم يزول بزوال ظروف الحصول‬ ‫وأسباب النزول‪ :‬أمثال ناصر حامد أبي زيد وهم قائلون بقراءة ماركسية في ماضي‬ ‫النص أي الفهم بمؤثر الزمان‪.‬‬ ‫‪.2‬والأصلانيون يؤولون من نفس هذا المنظور العامي وبالإيجاب المطلق استثمارا‬ ‫للقدسية التي تحقق عندهم التخلص من التاريخ كما يفعلون عندما يتصورون أن‬ ‫‪78 29‬‬

‫لهم فقها للواقع يمكنهم من تأويل الأحكام بما يماشي الزمان‪ :‬أمثال كل الفقهاء‬ ‫المزعومين متنورين وهم في الحقيقة قائلون بقراءة ماركسية في مستقبل النص أو‬ ‫التطوير بمؤثر الزمان ‪.‬‬ ‫لذلك كان كلا الاستثمارين العلماني والأصلاني العائق الأساسي أمام نشأة الفكر المبدع‬ ‫عند كلا الحزبين النافيين لشروط التعالي الذي يؤسس للإبداع عامة والعلمي والديني‬ ‫على وجه الخصوص فضلا عن كونهم المحرضين على الحرب الأهلية فيما وصفناه سابقا‬ ‫بالدنكيخوتية العربية الحالية وصفا فينومينولوجيا وعللناه تعليلا جينيانولوجيا‪ .‬وتلك‬ ‫هي علة سعينا إلى محاولة تحليل هذا المفهوم تحليلا فلسفيا يحرر الفكر العربي من وثن‬ ‫الواقع العامي فيعيد إليه حرية الفكر المبدع الذي يمتنع من دون التعالي والمقدس حتى‬‫لو اقتصرنا على وظيفة الخيال في الإبداع ولم نذهب إلى تسليم المؤمن بعكس العلاقة بين‬ ‫الطبيعة والتاريخ وما بعدهما نسبة للوجود الحق إلى الثاني والوجود الخلب للمتقدمين‬ ‫عليه‪.‬‬‫وقد اعتمدنا على مجال الدلالة اللساني الخالص بعد مجال الدلالة القرآني لتحديد هذا‬ ‫المفهوم تمهيدا لطلب البديل مما تعطل من فعاليات حضارتنا في التأسيس الذي لا نختلف‬ ‫في ضرورته مع الحزبين رغم رفضنا لنهجهم الخاطئ‪ .‬وبذلك تكمل سلسة النصوص التي‬ ‫عالجنا فيها هذه المسألة علاجا‪:‬‬ ‫‪.1‬يصفها فينومينولوجيا في فينومينولوجيا الدنكيخوتية العربية‬ ‫‪.2‬ويحللها تصوريا في مقامة الراء الجاحظية‬ ‫‪.3‬ويشخصها رسميا في باطنية الفلسفة وظاهريتها‬ ‫‪.4‬ويعللها تاريخيا في جينيانولوجيا الليبرالية العربية‬ ‫‪78 30‬‬

‫‪.5‬لنصل إلى الغاية فنؤسس المراحل السابقة على تعليل شارح في نص الواقع‪.‬‬ ‫تبين إذن من المعاني التي استخرجناها من تحليل الدلالات القرآنية واللسانية أن الواقع‬ ‫ليس هو ما يقابل ما في الذهن فضلا عن أن يكون ما يقابل ما في الوهم منه بل هو شبكة‬‫مثالية من البنى المجردة التي تتقدم على هاتين المقابلتين وتعللهما‪ :‬إنه يقبل التشبيه بما‬ ‫أطلق عليه أفلاطون عالم المثل التي بالقياس إليها يحكم لأمر من الأمور بالوجود أو‬‫بالعدم ويرتب في سلم الحقائق من أدناه إلى أقصاه أو بما أطلق عليه القرآن الكريم اسم‬ ‫اللوح المحفوظ الذي بالقياس إليه يتحدد الخلق (العالم الطبيعي والنظر) والأمر‬ ‫(العالم التاريخي والعمل) ليصبح السعي لعلمهما والعمل بسننها ممكنين‪ .‬وبهذا المعنى‬ ‫فإن الواقع يمكن تعريفه سلبا وإيجابا بالصورة التالية‪:‬‬‫فليس هو العالم الطبيعي كما يتوهم الحسيون بل هو منظومة قوانينه الرياضية ومنطقها‬ ‫(وذلك هو موضوع العلوم التي نشأت مع مبدعي الفرضيات التحليلية التي تبدو منافية‬ ‫لكل واقع كالخلاء المطلق والزمان والمكان المطلقين أولا ثم كالهندسة الرايمانية لاحقا‬ ‫وهي أمر ذهني بل وأحيانا وهمي من منظرو الواقعيين الأغفال)‬ ‫وليس هو العالم التاريخي كذلك كما يتخيل الماديون الجدليون بل هو منظومة قوانينه‬ ‫التي تحقق التكامل بين محددات تاريخ الإنسان الطبيعي ومحددات تاريخه الثقافي‬‫ومنطقها (وذلك هو موضوع العلوم الإنسانية التي نشأت مع مبدعي الفرضيات التأويلية‬ ‫التي تبدو منافية لكل واقع كقوانين الإنتاج المادي أو الاقتصاد أو كقوانين الإنتاج‬ ‫‪78 31‬‬

‫الرمزي أو الثقافة في مقدمة ابن خلدون وكل ذلك من الأمور الذهنية التي ينفيها أغفال‬ ‫الواقعيين)‪.‬‬‫الواقع هو إذن أمر لا يوجد إلا في النظام الرمزي (أي كل التراث الإنساني) الذي تكون‬ ‫منه صورة تأويليلة في الذهن عند من لا يؤمن بما وراء العالم الطبيعي وما وراء العالم‬ ‫التاريخي‪ .‬وليس لهذا النظام وجود خارجي في هذين العالمين يمكن للسخفاء أن يخرجوا‬ ‫إليه منه ومن تأويله في عقولهم ليقايسوا به النصوص التي يحاكمونها‪ :‬فهم أقصى ما‬‫يمكن أن يفعلوه هو أن يحاكموا نصا بنص في ضوء نظام تصوري ورمزي لا غير‪ .‬وكنا نقبل‬ ‫أن نخوض معهم لو زعموا أنهم يحاكمون نظام النصوص الدينية بنظام النصوص العلمية‬ ‫أعني نظام الفرضيات الرياضية لعلم الطبيعيات ونظام الفرضيات السياسية لعلم‬ ‫التاريخيات أو يحاكمون النصوص الأدبية بالنصوص الفلسفية التي هي نظام الفرضيات‬ ‫الرمزية لعلم الرموز والفرضيات العقلية لعلم المنطق‪ .‬لكنهم أبعد الناس عن هذه‬ ‫الأصناف الأربعة من العلوم‪ :‬الرياضيات والسياسيات والرمزيات والمنطقيات لأن التمكن‬‫منها لا يكفي فيه مضغ الإيديولوجيات إذ هي ولا شيء سواها يؤلف نسيج الواقعيات التي‬ ‫هي عين المثاليات!‬ ‫هم يتصورون الفاعلية في التخبط العملي على غير علم وينسون أن وضع نظرية‬ ‫اقتصادية واحدة يمكن أن تغير كل العالم الاقتصادي أكثر مما تفعل كل النضالات‬ ‫النقابية التي يتصورونها فاعلة للتاريخ دون سواها‪ :‬فنظرية كايناس مثلا حققت للعمال‬‫بتعديل النظام الرأسمالي ألف ضعف ما كان يمكن أن يحققه النضال النقابي الذي يمكن‬‫أن يحقق زيادة طفيفة في الأجور لقطاع معين من العمال بدل النظرية المتكاملة للاقتصاد‬ ‫الكايناسي‪ .‬ونظرية واحدة في الفيزياء يمكن أن تحقق ثورة في الحرب أو في الاقتصاد‪.‬‬ ‫‪78 32‬‬

‫ونظرية واحدة في الإحياء يمكن أن تحقق ثورة في الطب والصحة تغذية وعلاجا أو في‬ ‫الزراعة تنمية وتطويرا‪.‬‬ ‫ومجمل القول ومفصله هو أن العقل لا يؤثر فيما يسمونه الواقع مباشرة بفعل مادي أو‬‫نضالي واقعي كما يتوهمون بل هو يؤثر في الواقع النظري بالأدوات النظرية التي تمكن‬‫من فهم آليات الواقع المثالية فتستطيع من ثم إبداع أدوات مادية تفعل في الواقع العامي‬ ‫فتغيره بما أبدعته من أدوات الفعل فيه‪ .‬وبذلك يمكن لمهندس واحد أن يفوق فعله في‬‫الحرب فعل مليون عسكري عامي أغلبهم يكون في الحرب مجرد آلة حاملة لآلة‪ .‬ويكفي أن‬ ‫نذكر أسطورة تنسب إلى أرخميدس هزيمة جيش كامل في شواطئ صقلية بنظرية المرايا‬ ‫المحرقة! وحتى ما في القلوب من إيمان يجعل العامة أكثر فاعلية من المثقفين فإنه عامل‬ ‫روحي مشترك بين المهندس المبدع والجندي الصامد‪ .‬فالأول يبدع بدافعه الروحي‬ ‫والثاني يصمد بحرارة الإيمان‪ .‬ثم إن هذا العامل النفسي هو بدوره ليس من الواقع‬ ‫العامي حتى وإن بدا أكثر تأثيرا في العامة‪-‬في ظن العلمانيين الذي يحتقرون المعتقدات‬ ‫لحسبانهم تأثيرها في العامة دالا على عاميتها‪ -‬بل هو من الواقع الروحي المجرد‪:‬‬ ‫المعتقدات التي في القلوب‪.‬‬‫والمعلوم أن نسبة الإبداع الرياضي (بمعنى السنن المتعلقة بنظام الظاهرات الطبيعية في‬‫تصور نيوتن أو أينشتاين وكل الأنساق التي يضعها الرياضيون نماذج لمجريات الأمور في‬ ‫العالم الطبيعي من منطلق نظام مثالي) إلى الطبيعة هي عينها نسبة الإبداع السياسي‬ ‫(بمعنى السنن المتعلقة بنظام الظاهرات التاريخية في تصور أفلاطون أو ابن خلدون أو‬‫كل الشرائع من حيث هي سيناريوهات لمجريات الأمور في العالم التاريخي من منطلق نظام‬ ‫مثالي)‪ .‬وهم يرفضون أن يفهموا هذه الحقائق أو لا يستطيعون السمو إلى فضائها‬ ‫‪78 33‬‬

‫الرحب إذ لو فعلوا لاضطروا في تلك الحالة إلى التخلي النهائي عن صنمهم وأسطورة‬‫الاحتكام إليه في تحليل النصوص وتأويلها‪ .‬ولشرعوا في العمل الجدي للإبداع العلمي بدل‬ ‫مضغ المبتذلات مما أكل عليه الدهر وشرب من النظريات التي شبعت موتا‪ .‬فالنصوص‬ ‫عامة والنصوص المقدسة على وجه الخصوص هي التي تصنع الإبداع الذي يصنع الواقع‬ ‫المجرد الذي أشرنا إليه فيمكن من الفعل في الواقع العامي الذي يخرفون حوله ويقرأون‬ ‫تعاويذ جهلهم بمعاني التصورات الفلسفية التي يستعملونها‪.‬‬ ‫جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس العملي‬ ‫ولكي نثبت النتيجة التي ختمنا بها الفصل السابق أعني دور النصوص عامة والنصوص‬ ‫المقدسة خاصة سننظر في هذا الدور التأسيسي من المنظور العلمي سواء انتسب إلى الفكر‬ ‫الديني أو إلى الفكر الفلسفي‪ .‬ولنطلب النتائج التي تترتب على منطق أصحاب الصنم‬‫الواقعي من انعدام الشروط في التعامل مع واقع يمثل الآخر بالإضافة إلى النصوص التي‬ ‫ستحاكم في ضوئه‪ .‬فما الذي يمكن أن يكون النسيج اللاحم بين مكونات هذا الواقع‬ ‫وعناصره التي من دون نسيج لاحم تذروها رياح فوضى الواقع فوضاه التي يتخلص منها‬ ‫حتى الفكر العامي بنسيج يحقق التلاحم الضروري ولو بفنيات الخرافة والأدب الشعبي؟‬ ‫أليس هذا الواقع من دون التلاحم الرمزي كحبات الرمل التي لا يصل بينها واصل‬ ‫منطقي معين عدا عصف الرياح حباته التي تكدس بمفعول خارجي آلي تحكمه ضرورة‬ ‫عمياء تتشكل بمقتضاها الكثبان الزاحفة على الوعي المدرك لها؟‬ ‫أليس تقدم التصورات التي يمكن أن تكون على الأقل تصورات في نصوص أسطورية هو‬ ‫الذي ينتظم به سلوك الإنسان إزاء الكثبان الزاحفة على ركح وعيه حتى لا يصاب‬ ‫بالجنون أمام إثارات المدركات الحسية التي تهجم عليه كالسيل العرم؟ ثم أليس عمله‬ ‫‪78 34‬‬

‫المعرفي والنقدي بعد ذلك هو الإصلاح المتصل لهذه التصورات الأسطورية بعملية نقد‬ ‫منطقية وتجريبية مبتدأها نصوص أخرى يغزلها لتكون دارقته في التعامل مع شلال‬ ‫المعلومات الفوضوية الواردة عليه مما يسمونه الواقع أعني السيلان الأبدي لفوضى‬ ‫المدركات؟‬‫هذا بالنسبة إلى التعامل النظري أو المعرفي مع المدركات‪ .‬فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى‬ ‫التعامل العملي مع العوامل المؤثرة في حياة الإنسان العضوية والخلقية وشروطهما سواء‬ ‫كانت ذات صلة مباشرة بالأفراد أو من حيث صلتهم بالحياة الجماعية؟‬‫هل يمكن للإنسان أن يتعامل مع هذه المؤثرات وهو خلو من تصور ما قد يكون محفوظا في‬‫نص أو فيما يشبه النص أعني في ذاكرته التي تراكمت فيها تجارب عامة ربي عليها وتكون‬ ‫كالحشية الدارقة بينه وبين السيلان الأبدي لمجهول التدفق \"الخارجي\" للواقع بالمعنى‬ ‫العامي؟‬‫وهل موقفه النقدي ‪-‬في حالة فشل ما عنده من تصورات في التعامل‪-‬يمكن تصوره منطلقا‬ ‫من الواقع أم من نص فرضي يبدعه العقل الإنساني حشية دارقة بديلة هي في الحقيقة‬‫منظومة السيناريوهات الشرطية (إذا‪...‬إذن) التي يقتضيها التنسيق المخلص من الفشل‬ ‫دون أن يكون للفكر القدرة على الخروج من النص المكتوب أو المفروض للتعامل مع هذا‬ ‫المجهول المسمى في عرف أصحابنا واقعا في حين أنه ليس شيئا آخر غير فشل النص أو‬ ‫البناء المنطقي والرمزي للتعامل مع شلال الإدراك‪.‬‬ ‫‪78 35‬‬

‫أما وظيفة النصوص المقدسة فهي تأسيس الوجود نفسه وجود الذات ووجود الموضوع فضلا‬ ‫عن تأسيس شروط إمكان قدرة الذات على التعامل مع الموضوع وقابلية الموضوع على‬‫التعامل معه‪ :‬تصور الحياة الإنسانية من غير نص مقدس مستحيل فعلا (لا وجود لعمران‬ ‫من دونه في المعلوم من التاريخ) وتصورا (لا يمكن تصور بشر مجتمعين من غير منظومة‬ ‫قواعد يقدسها الجميع شرطا في التعايش والتعاون والتآنس من جنس العقد بينهم‬ ‫ويضمنه ما يؤمنون بأنه سيد الجميع)‪ .‬لذلك فالنص الديني هو شرط الوجود الإنساني‬ ‫القادر على الأسئلة التي تمثل بمجموعها جوهر الإنسان‪:‬‬ ‫‪.1‬المسألة الذوقية ولها صلة مباشرة بوظائف قيام النوع أعني اللذة الجنسية (النوع‬ ‫الأول من القيم الجذرية)‬ ‫‪.2‬والمسألة الرزقية ولها صلة غير مباشرة بقيام النوع من خلال قيام الأفراد أعني‬ ‫الغذاء (النوع الثاني من القيم الجذرية)‪.‬‬ ‫‪.3‬ومسألة السلطان على الذوق (النوع الأول من القيم التي من القوة الثانية لأنها‬ ‫قيم قيم الذوق‪ :‬أو سلطان التربية الروحية للإنسان)‪.‬‬ ‫‪.4‬ومسألة السلطان على الرزق (النوع الثاني من القيم التي من القوة الثانية لأنها‬ ‫قيم قيم الرزق‪ :‬أو سلطان التربية السياسية للإنسان)‪.‬‬ ‫‪.5‬ومطلق السؤال أو مسألة الوجود ومعناها وبها يكون الإنسان قادرا على كل هذه‬ ‫التمييزات ومن ثم فنصها يتقدم على كل واقع خاصة وهو يعيد الإنسان إلى‬‫الترتيب السوي بحيث تتقدم المباشرة الكلية على اللامباشرة الكلية تحريرا إياه من‬ ‫تقدم الأدوات على الغايات بسبب المباشرة العينية في الرزق وسلطانه على عدم‬‫المباشرة العينية في الذوق وسلطانه‪ :‬لذلك فإنه لا تخلو حضارة من النص المقدس أو‬ ‫ما يقوم مقامه لأن مجرد التعامل مع الواقع الصنم ينبغي أن يكون ذا سنن يحددها‬ ‫‪78 36‬‬

‫نص ضابط للتعامل وتلك هي الوظيفة الرئيسية للمقدس الدال كليا على كل تعال‬ ‫(عند الجماعات) والشارط له جزئيا (عند الأفراد)‪.‬‬ ‫النتائج في إبداع الأمة الرمزي والفعلي‬ ‫لا بد إذن من إخراج الأمة من ركام الثرثرة الإيديولوجية لكلا الحزبين الأصلاني‬ ‫والعلماني وثمرته أعني الحرب الأهلية في المجتمع المدني والسياسي لنتحرر من الواقع‬ ‫العامي فيصبح الإبداع المؤثر في الواقع بمعناه الفلسفي والديني ممكنا‪ .‬فليس المقصود‬ ‫بإبداع الأمة الرمزي والفعلي لذاتها إلا دورها في الإبداعين اللذين يمثلان كيانها الحي‬ ‫وقيامها التاريخي‪ :‬فذلك هو معنى وجود الأمة الحرة وهو عين فعاليتها التاريخية‬ ‫بمستوييها الرمزي والفعلي‪ .‬فقيام الأمم يعتمد على الخلق الذاتي المستمر من خلال‬ ‫مقومات الوجود التاريخي المستندة إلى مثاله ما بعد التاريخي‪ .‬ومن دون ذلك لن تبقى‬ ‫الأمم ذات قيام مختلف عن قيامها العضوي بل حتى هذا القيام فإنها تفقده إذا لم يكن‬ ‫لها ما تلتحم به عناصرها ليحصل المزاج أو الجماعة ذات الذاتية المتعينة التي تشغل‬ ‫أحيازا تخصها في الزمان (تاريخها) والمكان (جغرافيتها) وفي السلم (منزلتها بين الأمم)‬ ‫وفي الدورة (تبادلاتها مع الكون) وفي الوجود (كل العناصر السابقة في قيامها الفعلي‬ ‫والرمزي أي في هويتها وفي تصورها لهويتها)‪.‬‬ ‫وهذه المقومات اللاحمة تراوح صيغها بين الأسطورة والمعرفة العلمية حدين أقصيين‬ ‫متساوقين وليس متواليين فحسب وهما حدان أقصيان يصلهما وسيطان هما حدث التاريخ‬‫الفعلي وقبله غزل النسيج الرمزي‪ .‬ويجمع تلك المستويات كلها أصل ًا لها وأساسًا ن ُص الأمة‬ ‫المقدس‪ :‬النص المقدس هو القلب والحدان هما الأسطورة والعلم والوسيطان هما الإبداع‬ ‫الرمزي والإبداع الفعلي في حدث التاريخ‪ .‬وهو لا يتضمنها من حيث هي حقائق حاصلة‬ ‫‪78 37‬‬

‫بل من حيث هي مطالب للتحصيل من دونها لا تقوم الهوية الفاعلة ولا تثبت الهوية‬ ‫المنفعلة في لحظات كبوتها‪ .‬وقد حاول ابن خلدون تحديد آليات تحقيق هذه المقومات‬ ‫اللاحمة تحديدا سماه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني ‪\".‬‬‫ولعل عمق الثورة الخلدونية وعجلة نجوم الفكر العابدين لصنم الواقع قد حالا دون فهم‬ ‫أبعادها الأساسية التي تؤسس لنظرية اللواحم التي من دونها لا يمكن فهم العلاقة بين‬ ‫مقومات الوجود الإنساني‪ .‬فهذا الفهم يحول دونه ومفكرينا مقابلتهم بين صنم الواقع‬‫والنظام الرمزي للإدراك الإنساني هذا النظام الذي قتلوه فصار عندهم تراثا بمعنى لا‬ ‫يشبه نظرهم نظر المستشرق إليه إلا من حيث الموقف لكنه دونه من حيث الكفاءة‬‫العلمية‪ .‬فهم ينظرون إليه بمنطق الاثنولوجي الذي يكون التراث المدروس عنده ظاهرة‬ ‫خارجية يتعامل معها بمحاولة الخروج من تراثه‪.‬‬ ‫لكن الإثنولوجي الغربي صادق مرتين وهم كاذبون مرتين‪ :‬فهو صادق من منطلق تراث‬ ‫الذات وصادق من منطلق محاولة الخروج إلى تراث الموضوع‪ .‬وهم كاذبون في الحالتين‪:‬‬ ‫فلا هم مستوعبون تراث الغرب المحتكم إليه ولا هم متمكنون من فنون الخروج‬ ‫الإثنولوجي‪ .‬ثم إن الموقف الإثنولوجي هو نفسه مرحلة من مراحل الوعي الحضاري‬ ‫تتجاوز به الحضارات مرحلة الانغلاق على الذات سموا إلى الكلية البشرية‪ :‬وهو أمر‬ ‫تقدم حصوله في حضارتنا فعليا (تاريخ الشرق الأدنى متعدد الملل والأعراق‬ ‫والحضارات) ومبدئيا (الإسلام يعتبر التعدد سنة إلهية بل هو يعتبر البشر ما خلقوا إلا‬‫لذلك‪ .‬لذلك فهو يدعوهم للتعارف ويساوي بينهم) ثم وعيا علميا (فيما يشبه الدراسات‬ ‫الاثنية عند الرحالة العرب والمؤرخين والجغرافيين)‪.‬‬ ‫‪78 38‬‬

‫ولو انطلق مفكرونا العلمانيين والأصلانيين من هذه التجربة لكانوا أكثر توفيقا‪ .‬لكنهم‬ ‫عكسوها فصار الموقف الإثنولوجي لا يعني عندهم الخروج من ثقافة الذات لفهم ثقافة‬ ‫الموضوع بل الاندماج في ثقافة ذات مستوردة لإدماج الثقافة الموضوع فيها أي تحويل‬ ‫استلابهم إلى معيار لتقويم التراث! لذلك فمحاكمتهم بخلاف الموقف الإثنولوجي السوي‬‫عند بعض المستشرقين ذوي النزاهة العلمية مشوهة مرتين‪ :‬فلا الوعي بتراث الذات ولا‬ ‫الوعي بتراث الموضوع بحاصلين وإنما الأمر يقتصر على مقارنة جهولة وجهلاء بين‬‫مجهولين (التراثين) بأدوات جاهلية (أي عنيفة رمزيا وماديا) فصار نص الماركسية واقعا‬ ‫يقاس به نص القرآن عند كل مؤول خرفان دون حاجة إلى مزيد بيان‪.‬‬ ‫ولما كان التراث لا يفهم إلا بذاته المتجاوزة لذاتها من ماضيها إلى مستقبلها الذي تطلبه‬ ‫من كلي التجربة الإنسانية –التي لا توجد إلا في المثال أعني الواقع بالمعنى الفلسفي‬ ‫الحقيقي المقابل تمام المقابلة للمعنى العامي عند مفكرينا (ولعل من يفهم هيجل يدرك‬ ‫أنه لا يعني بمعادلته بين العقل والواقع شيئا آخر غير ما شرحنا)‪ -‬وليس من تجربة‬ ‫عينية تحاكيها فإن حاضر التراث إذ يبدع مستقبله بمقتضيات تأويل ماضيه هو الوحيد‬ ‫القادر على الفهم الأصيل‪ :‬ومعنى ذلك أن كل نقاد التراث لا يمكن أن يسمع لهم ما لم‬ ‫يكونوا مبدعين لمستقبله من تأويل ماضيه من خلال الالتزام بحاضره لا الانمحاء في‬‫حاضر غيره‪ .‬أما من يتفصى من الحاضر فيستبدل المستقبل الذي ينبغي أن يتمخض عنه‬ ‫الإبداع يستبدله بمحاكاة الماضي سواء كان أهليا (الأصلانيون) أو أجنبيا (العلمانيون)‬ ‫فإنهم أبعد الناس عن الفكر ولا يستحقون الذكر‪.‬‬ ‫‪78 39‬‬

‫لذلك عدنا إلى الحضارة العربية الإسلامية نفسها لتكون معين المقوم الذاتي (الذات‬ ‫القارئة) الذي تكون عودته على ذاته من حيث هي المقوم الموضوع (الذات المقروءة)‬‫عين التواصل الذي يجعل الحضارة ذاتية التطور‪ .‬وأفضل من يمكن أن يمثل هذا التوجه‬ ‫في مجالنا المتعلق بالواقع النظري للوجود التاريخي للأمم هو ابن خلدون‪ .‬فعمله النظري‬ ‫في المقدمة يساعد على تحديد هذه اللواحم لأنه هو أول من حاول أن يجيب عن هذه‬‫الأسئلة التي اعتبرناها جوهر الإنسان من حيث هو صلة بين التاريخ وما بعده بعد أن مهد‬ ‫له الطريق أعلام المدرسة النقدية بدءا بحجة الإسلام وختما بشيخ الإسلام‪.‬‬‫ويمكن إجمال المسائل الموصلة إلى تحديد المقومات اللاحمة في نص ابن خلدون إجمالها في‬ ‫النقاط التالية بدءا بما يبدو عرضيا إلى أكثرها جوهرية‪:‬‬‫‪.1‬فما العلة في ازدواج الاسم‪ :‬علم (‪ )1‬العمران البشري و(‪ )2‬الاجتماع الإنساني؟‬ ‫‪.2‬وما علاقة ذلك بطبيعة الثورة المعرفية التي يسعى إليها ابن خلدون في مشروعه‬ ‫النقدي؟‬ ‫‪.3‬وما علاقة الازدواج بالثورة العملية التي يسعى ابن خلدون إلى تحقيقها في‬ ‫مشروعه الإصلاحي؟‬‫‪.4‬وما صلة هذا الازدواج بالتطابق الذي يجده ابن خلدون بين الأمر الشرعي والأمر‬ ‫الوجودي في فلسفة التاريخ التي يعتمد عليها؟‬‫‪.5‬وما العلة في تركيز ابن خلدون على كونية الموضوع وعلمه رغم انطلاقه من البحث‬ ‫في التاريخ الإسلامي؟‬ ‫يتصور العجلون أن ازدواج الاسم في علم ابن خلدون مجرد ترادف أو إطناب بلاغي في‬‫حين أنه دال على أصل عميق يحدد مستويات الموضوع الذي يدرسه العلم الجديد ومن ثم‬ ‫البنية المجردة التي تحدد الواقع الحقيقي وراء ظاهر التاريخ الإنساني في الكلام الذي‬ ‫‪78 40‬‬

‫من جنس إيديولوجيات المتكلمين على الواقع العامي وثنهم الذي تفغر له كل الأفواه‬ ‫بانشداه الغباء لا اندهاش الذكاء! فابن خلدون يعرف موضوع علمه بكونه ينتج في‬ ‫الوجود الإنساني عن \"التساكن لقضاء الحاجات\" وعن \"التساكن للأنس بالعشير\"‪.‬‬ ‫فالتساكنان في الموضوع يناظران وجهي العلم‪ :‬التساكن الأول يناظر وجه العمران‬ ‫البشري والتساكن الثاني يناظر وجه الاجتماع الإنساني في اسم العلم‪ .‬والتعاون يتعلق‬‫بأدوات الوجود التاريخي للإنسان أدواته المادية أي بالرزق أو الاقتصاد‪ .‬والتآنس يتعلق‬ ‫بغايات الوجود التاريخي للإنسان غاياته الرمزية أي بالذوق أو الثقافة‪ .‬وهذان هما‬ ‫مادة العمران البشري والاجتماع الإنساني‪ :‬الاقتصاد والثقافة‪.‬‬ ‫لكن التساكن من أجل التعاون (أدوات الحياة الإنسانية) والتساكن من أجل التآنس‬‫(غايات الحياة الإنسانية) يقتضيان كذلك التنافس المحمود ولا يخلوان من بعض ما ليس‬ ‫بمحمود في التنافس على الأدوات والغايات خلال تحقيقهما‪ .‬لذلك فالإنسان يحتاج إلى‬ ‫سلطان ينظم التعاون والتآنس فيشجع التنافس المحمود ويعالج نتائج التنافس المذموم‪:‬‬ ‫الوازع الزماني والوازع الروحاني‪ .‬فيصبح التعاون بحاجة إلى سلطة تنظمه وتزع‬ ‫المتنافسين بعضهم عن البعض‪ .‬وذلك هو جوهر السلطة السياسية أو الدولة‪ .‬ويصبح‬ ‫التآنس بحاجة إلى سلطة تنظمه وتزع المتنافسين بعضهم عن البعض‪ .‬وذلك هو جوهر‬ ‫السلطة الروحية أو التربية (التي هي في أغلب مراحل التاريخية لصيقة بالمؤسسة‬ ‫الدينية)‪ .‬وهذان هما مقوما صورة العمران البشري والاجتماع الإنساني‪ :‬الدولة‬ ‫والتربية‪.‬‬ ‫أما وحدة المستويات الأربعة المقومة لموضوع العلم أعني المادة بفرعيها (الاقتصاد‬ ‫والثقافة) والصورة بفرعيها (الدولة والتربية) فليست هي شيء آخر غير الجماعة‬ ‫‪78 41‬‬

‫(سواء كانت الجماعة المعينة في مكان وزمان محددين أو الإنسانية كلها في المعمور من‬ ‫الأرض وخلال كل التاريخ الإنساني) من حيث هي مصدر السلطات وموضوعاتها‬‫مصدرهما الذي يتراءى في الوعي الجمعي ترائيا هو جوهر النصوص المرجعية أو المقدسة‪:‬‬ ‫فالجماعة هي المشرع الفعلي في مجالات الرزق والذوق والسلطان على الرزق والسلطان‬ ‫على الذوق إذا كانت جماعة حرة وفاعلة في التاريخ بأدواته من أجل غاياته ولكن من‬ ‫خلال وعيها بإرادتها في نصوصها المقدسة وعيا يراوح بين الحدين اللذين وضع ابن‬‫خلدون التاريخ بينهما من حيث ظاهره الأدبي وباطنه العلمي‪ .‬وذلك ما كان ابن خلدون‬ ‫يسعى إلى تحقيقه في مشروعه الإصلاحي بالنسبة إلى المسلمين إصلاحا يعتمد على علاج‬ ‫الآليات اللاحمة بمستوييها المضاعفين أي آليات الصورة وهي الدولة والتربية وآليات‬ ‫المادة وهي الاقتصاد والثقافة مع ربطها جميعا بآلية الآليات المطلقة آلية اللاحم الديني‬ ‫الذي تتأسس عليه في ثورته الدولة والتربية والاقتصاد والثقافة التي لا يمكن إصلاحها‬‫إلا بإصلاحه‪ :‬لذلك كان الدافع العملي لثورة المقدمة بالإضافة إلى الدافع النظري بيان‬ ‫الحاجة إلى الحرية الاقتصادية والخلقية والسياسية والفكرية في صلتها مع مقاصد‬ ‫الشريعة الخاتمة‪.‬‬ ‫سبل التحرر من صنم العلمانيين والأصلانيين‪.‬‬ ‫أو الثورة المعرفية ومشروع الإصلاح العملي‪:‬‬ ‫ما العلاقة بين نقد ابن خلدون للمؤرخين في بداية المقدمة (نقد النقل الوثوقي الذي‬‫يغلب على الفكر الأصلاني) ونقده للفلسفة في غايتها (نقل العقل الميتافزيقي الذي يغلب‬ ‫على الفكر العلماني) ؟ مسألة غامضة أهملها نجوم الفكر الخلدوني لفرط واقعيتهم لكأن‬ ‫الأمرين ليس بينهما رابط‪ .‬فالرجل أراد أن ينقل التاريخ من جنس الأدب (= ظاهر‬ ‫‪78 42‬‬

‫التاريخ) إلى جنس العلم (=باطن التاريخ) واعتبر ذلك عملية ستجعل التاريخ من علوم‬ ‫الحكمة أي من العلوم الفلسفية‪ .‬والسؤال هو هل كان ذلك يكون ممكنا لو بقيت الفلسفة‬ ‫على ما كانت عليه قبله أي على الصورة التي كانت تستثني انتساب التاريخ إلى العلم؟‬ ‫الجواب السلبي هو الذي يوصلنا إلى طبيعة العلاقة الخفية بين النقدين العلاقة التي لم‬ ‫يفهمها كل من يزعم أن ابن خلدون فيلسوف بالمعنى التقليدي الذي كان سائدا بين‬‫معاصريه أعني من أرسطو إلى ابن رشد إذ أن هذه الفلسفة لم تستثن التاريخ من مجالها‬ ‫فحسب بل هي نفسها صارت غير تاريخية! بل إن بعضهم ‪-‬لسخفه‪ -‬يزعم أنه ما كان ابن‬ ‫خلدون ليكتب المقدمة لو لم يكن قد تحرر من الأشعرية فصار يقول بالسببية الفلسفية‬ ‫التي يعتبرونها قانون صنمهم الواقع!‬ ‫لم يفهم هؤلاء أن الفلسفة لو بقيت محصورا علمها في الكلي والضروري بالمعنى التقليدي‬ ‫لامتنع أن يصبح التاريخ من مجال معرفتها‪ .‬لذلك كان نقد الفلاسفة (وهم علمانيو‬ ‫عصره) في المشروع الخلدوني متقدما على نقد المؤرخين (وهم أصلانيو عصره) رغم أن‬‫هذا جاء في مقدمة المقدمة وذاك جاء في بابها الأخير! رفع التاريخ إلى العلمية لتخليصه‬ ‫من الأسطرة الأدبية العقيم كان يقتضي خفض الفلسفة إلى العلمية لتخليصها من‬‫الأسطرة الميتافيزيقية العقيم‪ :‬العلمانيون يعود فكرهم إلى الأسطرة الميتافيزيقية العقيم‬ ‫والأصلانيون يعود فكرهم إلى الأسطرة الأدبية العقيم‪ .‬وهما أمران متلازمان‬ ‫ومشروطان في استبدالهما بالتنظير العلمي الذي هو الأسطرة الأدبية والعلمية المبدعة‬‫بل هما نفس الثورة للتخلص من ضربين من الأسطرة العقيم المعتمدة إما على آليات المجاز‬ ‫التي تسمح بها اللغة العادية أو على آليات المجاز التي تسمح بها اللغة العالمة في ذلك‬ ‫العصر حتى يتمكن من تأسيس التنظير العلمي أو الأسطرة المبدعة التي تحقق ثورة في‬ ‫الثقافة العربية الإسلامية‪ :‬ومن لم يفهم العلاقة بين العمليتين النقديتين (نقد التاريخ‬ ‫‪78 43‬‬

‫ونقد الميتافيزيقا في عصره) لن يدرك أبدا كيف كانت ثورة ابن خلدون ثمرة النقد‬ ‫المتصل من الغزالي إليه مرورا بابن تيمية في بناء ثورة فلسفية تؤسس لثورة في العلوم‬ ‫الإنسانية‪.‬‬ ‫فمن دون تحرير علم الطبيعة من أسطرة ميتافيزيقا الضرورة (العزالي‪ :‬نقد فلسفة‬ ‫عصره) لا يمكن للفكر أن ينتقل من نظرية العلية الضرورية إلى نظرية القوانين‬‫الاحتمالية التي هي أساس التنظير العلمي في الطبيعيات‪ .‬ومن دون تحرير عمل الإنسان‬ ‫من أسطرة ميتافيزيقا الحرية (الغزالي‪ :‬نقد اعتزال عصره) لا يمكن للفكر أن ينتقل‬‫من نظرية العلية الاختيارية إلى القوانين الاحتمالية التي هي أساس التنظير العلمي في‬ ‫الإنسانيات‪ .‬ومن ثم فإنه لا يمكن من دون هاتين الثورتين النقديتين رفع التاريخ من‬ ‫الأسطرة الأدبية العقيم إلى التنظير العلمي ولا خفض الفلسفة من الأسطرة‬ ‫الميتافيزيقية العقيم إلى التنظير العلمي لتأسيس علوم الإنسان بفضل زوال الفارق‬ ‫الانطولوجي بين مجالي المعرفة كما تصورتهما الفلسفة التي كانت سائدة‪ :‬وهذان‬ ‫الشرطان هما جوهر النقد الأشعري لفكر الفلاسفة (نفي السببية في الطبيعة) ولفكر‬ ‫الاعتزال (نفي خلق العباد لأفعالهم في الأخلاق)‪ .‬فكيف يزعم السخفاء أن ثورة ابن‬ ‫خلدون شرطها القطع مع الأشعرية في حين أنها ثمرة ثورتيها النقديتين المضطرة؟‬ ‫لكن ما الحيلة إذا بات الفكر بيد الشغيلة؟‬ ‫لا أنكر تقدم الهم النظري في المقدمة‪ .‬لكني أعتبر الهم النظري مع ذلك تابعا للهم‬‫العملي أي إن النصوص الفرضية لتأسيس التعامل العملي مع العالم متقدمة على النصوص‬ ‫الفرضية لتأسيس التعامل النظري معه بمقتضى ما يوجبه النص المقدس المؤسس للوجود‬ ‫‪78 44‬‬

‫نفسه فضلا عن التعامل معه‪ .‬لذلك فإنه لم يكن بوسع ابن خلدون أن يقف عند نقد‬ ‫المتكلمين والفلاسفة في تصورهم للعلم وموضوعه التصور الذي ألغى كل إمكانية لتأسيس‬ ‫علم التاريخ على علم ويهمل نقد الفقهاء والمتصوفة في انجازهم للعمل وموضوعه انجازا‬ ‫يلغي كل إمكانية لتأسيس عمل التاريخ على علم‪ .‬فالثورات التي كان الفقهاء والمتصوفة‬ ‫يقودونها باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخلط بين دور الدين ودور السياسة‬‫وشروط فعلهما هي التي فرضت على ابن خلدون أن يدرس العلاقة بين الظاهرتين فيضع‬ ‫المبدأين الأساسيين اللذين يؤسسان لمشروعه الإصلاحي بل هو قد ذهب إلى حد جعلهما‬ ‫عنوانين لفصلين مختلفين‪ :‬في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وفي أن الدعوة‬ ‫الدينية تزيد العصية قوة‪.‬‬ ‫فالتلازم بين الأمرين تلازم يجعل كلا منهما في موضع الأداة والغاية بالتناوب‪ .‬فيمكن‬ ‫للعصبية أن تكون أداة والدعوة غاية‪ .‬ويمكن للدعوة أن تكون أداة والعصبية غاية‪.‬‬ ‫ومن ثم فهما متلابستان ولا يمكن الفصل بينهما‪ .‬وكل الأخطاء تأتي من الفصل بينهما‬ ‫والسعي إلى الفعل السياسي بالعصبية وحدها أو بالدعوة وحدها فتفضيان كلتاهما إلى‬ ‫الهرج بسب هذا الفصل بينهما‪ .‬ماذا يعني ذلك؟‬ ‫إنه يعني أن كل ما قيل عن العصبية ومحوريتها عند ابن خلدون دليل على سوء فهم‬‫لنظريته الإصلاحية‪ .‬ذلك أن المؤثر ليس العصبية من حيث هي قوة مادية بل هي مؤثرة‬ ‫بما لها من شرعية أعني من قبول صريح أو ضمني عند الجماعة‪ .‬فتكون العصبية أحد‬ ‫وجوه الأداة السياسية أعني الأداة المادية وتكون الدعوة الوجه الرمزي أو المعنوي من‬ ‫الأداة السياسة (سواء كانت الدعوة دينية أو عقلية إذ هو يميز بين ضربين من الشرعية‬‫التي تجعل الحاكم مطاعا‪ :‬شرعية الدين وهي نوع من العقد ذي الأطراف الثلاثة الحاكم‬ ‫والمحكوم والضامن هو الحكم السماوي حول تبعية المصلحة الدنيوية للمصلحة الأخروية‬ ‫‪78 45‬‬

‫وشرعية العقل وهي نوع من العقد ذي الطرفين هما الحاكم والمحكوم حول المصلحة‬ ‫الدنيوية لا غير)‪.‬‬‫لكن تركيز ابن خلدون في نقده للفلاسفة على مبدأ العصبية غلط المؤولين فظنوه يعتبرها‬‫المبدأ الأهم ونسوا أنها عندما تكون بمعزل عن الشرعية تصبح عنده مفضية للهرج تماما‬‫كما يحصل للدعوة عندما تكون خلوا من العصبية‪ :‬كلتاهما مثل الأخرى تؤدي إلى الهرج‬ ‫أي إلى نفي الحياة الجماعية السوية‪ .‬فيكون المبدأ المؤثر في الفعل السياسي المتعالي‬ ‫عليهما ليس العصبية وحدها ولا الدعوة وحدها بل هو وحدة الأمرين والتلازم بينهما‬ ‫وذلك لأن موضوع علمه نفسه مزدوج الطبيعة‪ :‬فالعصبية ترمز إلى التعاون المادي أو‬‫القوة الجمعية وإلى التنافس المعلل للوزع الزماني والدعوة ترمز إلى التآنس الروحي أو‬ ‫الشرعية الجمعية وإلى التنافس المعلل للوزع الروحاني‪ .‬والجمع بين الأمرين هو المبدأ‬ ‫الذي تنبني عليها الدول والإصلاح عندما تكون الجماعة سوية ليس الواقع العامي وثنا‬ ‫عندها بل هو تابع لواقع متعال يحررها من عرضياته‪.‬‬ ‫ولذلك كانت العصبية خمسة أصناف تماما كما هي الشرعية‪:‬‬ ‫‪.1‬فالعصبية الأولى التي تغلب على العمران البدوي هي عصبية النسب الدنيا‬‫وشرعيتها هي المساواة في الانتساب إلى النسب المشترك وهي مساواة تجعل الحاكم‬ ‫يطاع ليس لأنه قادر على القهر بل لأنه جزء من المطيع أو لأن المطيع بجد فيه‬ ‫نفسه بمقتضى كون شرعية النسب فوق الجميع‪.‬‬ ‫‪.2‬لكن ذلك لا يمكن من الانتقال إلى مرحلة أهم في العمران هي التي تحتاج إليها‬‫الدولة من حيث هي جهاز‪ .‬فإذا كان الناس متساوين في النسب بات النظام الوحيد‬ ‫‪78 46‬‬

‫الممكن هو النظام الطوعي والسلطة الأدبية فيخلو مما يشبه آلية الأنظمة التي‬‫تحتاج إليها الدولة المعقدة بعد الانتقال من النظام البدائي إلى النظام الحضري‪.‬‬ ‫فتصبح عصبية الولاء الدنيا مقدمة على عصبية النسب لأن الموالي يقبلون بأن‬ ‫يكونوا آلات تطيع ربها وتخدمه لمنفعة مادية لا غير‪ .‬وتلك هي عصبية الولاء‬ ‫وأهمها عصبية النخب التكنوقراطية وتبدأ بالجيوش والإدارة في الدول‬ ‫الامبراطورية القديمة‪ .‬ومثالها عندنا ولاء البرامكة في دولة بني العباس‪.‬‬‫والغريب أن العلمانيين لا يمكن أن يكونوا غير هذا النوع من النخب التابعة‪ :‬لذلك‬ ‫فأنت تراهم يفضلون الاستبداد بالفعل للحفاظ على مصالحهم المادية خوفا مما‬ ‫يتهمونه بالاستبداد بالقوة لكونه يتجاوز المصالح المادية حتى ولو علم الجميع أن‬ ‫ذلك آت لا مرد له وأن قدومه السلمي يحد من غلوائه وييسر تجاوز التنافي بين‬ ‫حزبي الحرب الأهلية العربية‪.‬‬ ‫‪.3‬لكن هذه العصبية المستندة إلى شرعية الولاء للمنفعة سرعان ما تمتد يد أصحابها‬ ‫إلى ما يتميز به الرب ويريدون استتباعه بدل اتباعه‪ .‬فيعود الرب إلى عصبية‬‫النسب ولكن بمعنى أوسع يتعدى القبيلة إلى الأمة بالمعنى الإثني للكلمة أو عصبية‬ ‫النسب العليا فتكون عصبية العرب أمام عصبية العجم مثلا‪ .‬وتكون الشرعية‬ ‫شرعية إثنية يستند إليها الولاء المطيع واطمئنان المطاع لولائه‪.‬‬ ‫‪.4‬لكن ذلك يتدرج بسبب بعد الأصل الإثني فيكون مقومات ثقافية بالأساس أعني‬‫اللغة والتاريخ والقيم وتنقلب هذه العصبية إلى نوع من الولاء العقدي أو عصبية‬ ‫الولاء العليا‪ .‬وهو ما حدث عندما باتت الخلافة العربية يخدمها عصبيات إثنية‬‫متعددة‪ .‬وعندئذ تكون الأمة قد حققت ما يمكن أن نسميه باللواحم الرمزية التي‬ ‫يمثل نسيجها بؤرة الحصانة الروحية التي لن ينفرط بعد حصولها عقد الأمة مهما‬‫حل بها من نكبات! بل إن النكبات تزيدها متانة وصلابة‪ :‬ويكفي أن ننظر ما يحصل‬ ‫اليوم في دار الإسلام فقرون الانحطاط وقرنا الاستعمار كل ذلك لم يضعف من‬ ‫‪78 47‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook