Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore تعثر نهوض الأمة - تأويله التاريخي وتفسيره الفلسفي - أبو يعرب المرزوقي

تعثر نهوض الأمة - تأويله التاريخي وتفسيره الفلسفي - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-04-09 17:31:03

Description: تعثر نهوض الأمة - تأويله التاريخي وتفسيره الفلسفي - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫فعندما قابل ابن تيمية بين علم الموجودات التي في الاعيان وبين قصوره دون البرهان‬ ‫باعتباره لا يمكن أن يكون مطابقا وعلم المقدرات الذهنية الذي هو الوحيد القابل للكلية‬ ‫والبرهانية والمحضية في رده على الرازي كان يتكلم على العلوم النظرية‪.‬‬ ‫فلم يكن له نظير المقدرات الذهنية النظرية مقدرات ذهنية عملية‪.‬‬ ‫وذلك ما اضطررت لافتراضه سدا لهذه الثغرة‪.‬‬ ‫فالمقدرات الذهنية النظرية هي الرياضيات والمنطق‪.‬‬ ‫وهما مبدعات عقلية يكون فيها الإنسان مبدعا للعلم ولموضوعه الذي هو ليس من‬ ‫الموجودات الطبيعية الخارجية بل هو \"مجهول الطبيعة\" كان ارسطو يتصوره معاني مجردة‬ ‫من الأشياء الطبيعية ومن الأجرام بالذات أي من حدودها عند إطلاق التجريد المستقيم‬ ‫والسطح والجرم ذهابا من الأكثر تجريجا إلى الاقل أو عودة من ألأقل إلى الأكثر في كلامه‬ ‫على الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق‪.‬‬ ‫لكن تعدد الهندسات بين خطأ هذه الرؤية لأن ما يقوله أرسطو يبدو مطابقا لما عليه‬ ‫هندسة اقليدس لكنه لا ينطبق على الهندسات اللااقليدية فضلا عن اصناف الرياضيات‬ ‫الأخرى التي لا علاقة لها بالإجرام وبالتجريد لأن موضوعاتها ليست طبيعية بل يمكن أن‬ ‫تكون أي مجال يقبل أن \"يقال\" بها‪.‬‬ ‫وبذلك تبينت صحة نظرية ابن تيمية القائلة إن المعاني الكلية ليست مقومات للأشياء بل‬ ‫هي رموز مثلها مثل المفردات في اللسان وهي إذن لغة من جنس أرقى اتمكن قول شيء على‬ ‫شيء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عندئذ افترضت الأمر المكمل لسد الثغرة في نظرية ابن تيمية‪ :‬وضعت نظرية في‬ ‫المقدرات الذهنية العملية أو القيمية التي من دونها يستحيل التعبير عن الظاهرات‬ ‫الانسانية الأكثر تعقيدا من الظاهرات الطبيعية‪.‬‬ ‫وسميتها مقدرات ذهنية عملية مناظرة للنظرية أو القيمية مناظرة للمعرفية ومنها‬ ‫الأديان والآداب التي هي ليست فنوانا تخبر عن شيء من عالم الشهادة الطبيعي ولا حتى‬ ‫التاريخي بل هي مبدعات عقلية نجهل طبيعتها كما نجهل طبيعة المبدعات العقلية الرياضية‬ ‫وبها نستطيع الكلام عما يضيفه الإنسان للعالمين الطبيعي والتاريخي من إبداعات لمعان‬ ‫كونية تمكنه من قولها‪.‬‬ ‫والقرآن يعتبر الرسالة مذكرة بمعان موجودة في ما فطر عليه الإنسان هي التي بها يبدع‬ ‫الامرين اللذين سمتها فصلت ‪ 53‬آيات الله في الآفاق وفي الأنفس والاولى هي ما يمكن أن‬ ‫يتعلق بالمقدرات الذهنية النظرية التي تكلم عليها ابن تيمية والثانية هي ما يمكن أن‬ ‫يتعلق بالمقدرات الذهنية العملية التي اتكلم عليها‪ :‬وكلاهما يرد إلى \"علم آدم الأسماء‬ ‫كلها\" أي هذه القدرة على إبداع ما يمكن اعتباره حقيقة الفطرة التي فطر عليها الإنسان‬ ‫وهي \"الكود\" الذي يجعل الإنسان قادرا على قول الأشياء التي في عالم الشهادة وفي ما‬ ‫ورائه سواء كان طبيعيا أو تاريخيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مر تأسيس علوم الطبيعة بمرحلتين‪.‬‬ ‫ويمكن اعتبار الأولى قد انتهت بنهاية تأسيسها القديم والوسيط بعد فهم نظرية‬ ‫المقدرات الذهنية النظرية ودورها في العبارة عن الحصيلة التجريبية لفرضيات عقلية حول‬ ‫طبيعة الظاهرات الطبيعية دون الجزم أن ما نعلمه منها مطابق لما هي عليه في ذاتها‪.‬‬ ‫أما بداية التأسيس الثانية فهي عين بدئنا التحقق من نسبية علمنا والتخلص من القول‬ ‫بالمطابقتين‪ .‬ويمكن القول إن تأسيس علوم الإنسان يتطلب هو بدوره نفس المسار في‬ ‫مرحلتين أولاهما انتهت بفشل محاكاة علوم الطبيعة بردها إليها والثانية بمراجعة علوم‬ ‫الطبيعة نفسها لبيان أنها ليست منفصلة عن علوم الإنسان مع عكس المحاكاة‪.‬‬ ‫فما تتميز به العلوم الإنسانية يجعل العلوم الطبيعية تعتبر مستواها الادنى لأنها من‬ ‫أدوات مستواها الأعلى الذي هو فاعلية الإنسان بتوسطها‪ .‬فتكون الفاعلية التي تستعملها‬ ‫الحضارة من طبيعة أكثر تعقيدا من الفاعلية التي تستعملها الطبيعة وهي تتطلب نوعا‬ ‫ثانيا من المقدرات الذهنية التي سميتها بالعملية التي تخلصها من الرد إلى العلوم الطبيعية‬ ‫لاقتصارها على المقدرات الذهنية النظرية‪.‬‬ ‫لذلك أجدني مضطرا مرة أخرى لفهم العلاقة بين الأزمتين الفلسفيتين الأبستمولوجية‬ ‫والأكسيولوجية المنتجتين للقول بالمطابقتين المعرفية والقيمية في البداية (الرؤية‬ ‫الأفلاطونية الأرسطية) ثم الناتجتين عنهما في الغاية (هيجل وماركس)‪.‬‬ ‫وما تتميز به نظرية المقدرات الذهنية التيمية في النظر ونظرية المقدرات الذهنية التي‬ ‫أضفتها في العمل يترتب عليهما التخلي عن المطابقتين في الأبستمولوجيا والأكسيولوجيا‬ ‫الأولى لنقد فكرنا الماضي (وذلك ما أنسبه إلى المدرسة النقدية العربية‪ :‬الغزالي وابن‬ ‫تيمية وابن خلدون)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والثانية لنقد فكرنا الحاضر (وهو ما أحاوله بنظرية المقدرات الذهنية العملية)‪.‬‬ ‫والأهم من ذلك هو الثورة في مفهوم المعاني الكلية بفضل هذين النقدين الذين ينقلانها‬ ‫من كونها مقومة للموضوع إلى كونها لغة للعبارة عنه بلغة أفضل من اللغة الطبيعية لكنها‬ ‫مجانسة لها من حيث الوظيفة (رسوم الكتابة وألفاظ اللغة الطبيعية والمعاني الكلية جميعها‬ ‫لغة عند ابن تيمية وليس مقومة)‪.‬‬ ‫وهو ما يعني التخلي اعتبار المعاني الكلية بمعناها الافلاطوني (مشاركة الأشياء في المثل)‬ ‫أو بمعناها الأرسطي (صورة الأشياء المحايثة في مادتها) أو بمعناها الهيجلي (التطابق في‬ ‫الجدلية المروحنة وهو معنى الفكرة‪ :‬الواقع عقل والعقل واقع) أو بمعناها الماركسي‬ ‫(التطابق في الجدلية المادية وهي نسخة باهتة من رؤية هيجل هي في نسبة الارسطية‬ ‫للأفلاطونية) شرطا لفهم الطابع التاريخي لكل معرفة وقيمة في التراث الإنساني سواء‬ ‫تعلق بإنتاج المعاني للتواصل بين البشر (الثقافة) أو بإنتاج الأشياء للتبادل بين البشر‬ ‫(الاقتصاد)‪.‬‬ ‫وبذلك فقد قلب ابن خلدون العلاقة بين التاريخ والفلسفة‪ :‬كانت تنفي قابلية التاريخ‬ ‫للعلم فصارت تاريخية هي بدورها سواء كان موضوعها الطبيعة أو الإنسان‪.‬‬ ‫وإذا كان بين شرط فلسفية التاريخ في خطبة المقدمة لما بين ضرورة انتقاله من الأدب‬ ‫إلى الحكمة فإنه بين تاريخية الفلسفة في غاية المقدمة لما تكلم على العلوم العقلية إذ ميز‬ ‫بين جمعها بعدي الكلية والتاريخية بمفهوم تراكم التجربة‪.‬‬ ‫لكننا نوجد أمام أكبر معضلة يعترضها الفكر الإنساني وهي كيف يمكن أن تكون الطبيعة‬ ‫والتاريخ أو ما بين الأشياء من علاقات (كيمياوية وفيزيائية) وما بين البشر من علاقات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫(بايولوجية واقتصادية) وما بين العلاقات الأولى والعلاقات الثانية أي ما بين الطبيعي‬ ‫والثقافي وما يضفي على تناولها الإنساني نظاما قابلا لأن يكون مادة تواصل بين البشر‬ ‫وقادرا على أن يمكن من تفاعل الإنسان فردا وجماعا مع الطبيعي والتاريخي بصورة تجعله‬ ‫قادرا على اكتشاف ما ينسبه إليها من نظام حتى بشكل فرضي ما دام قابلا للاحتكام فيه‬ ‫إلى التجربة التي لا تثبت المطابقة المطلقة أبدا‪.‬‬ ‫فالإدراك فردي سواء كان للطبيعة أو للتاريخ ولكن بأدوات جماعية (اللسان خاصة)‪.‬‬ ‫والفاعلية ليست فردية إلا بتوسط الجمعي في النظر والعمل المتراكمين خلال تراكم‬ ‫التجارب التي صيغت نظريا‪ .‬ومن ثم فجعل الفاعلية الفردية فاعلية جماعية وجعل‬ ‫الجماعية مكتسبة فرديا هما الشرط الأول لهذه الأنظمة التي تكون النسيج العمراني‬ ‫والاجتماعي‪.‬‬ ‫و\"جعل الفردي جماعيا والجماعي فرديا\" هو بعدا السياسة التي هي ليست شيئا آخر غير‬ ‫جعل الجعلين ذوي نظام مزيج بين النظام الطبيعي والنظام التاريخي‪.‬‬ ‫وهو نظام فعل النظامين في الفرد وفي الجماعة وفي تفاعلهما‪ .‬وهو ما يعني أن ما يتوسط‬ ‫بين الطبيعة والإنسان لا بد أن يكون ذا مستويين هما عين كيان الإنسان وعين ما يعنيه من‬ ‫الطبيعة لسد حاجاته البدنية (الثروة) ومن التاريخ لسد حاجاته الروحية (التراث)‪.‬‬ ‫والثروة والتراث هما الحيزان اللذان يتوسطان بين الحيز المكاني الطبيعي (الذي يصبح‬ ‫مكانا حضاريا) والحيز الزماني الطبيعي (الذي يصبح زمانا حضاريا)‪.‬‬ ‫فيكون دور السياسة ببعديها (التربية والحكم) ليس شيئا آخر غير تحقيق شروط هذه‬ ‫النقلة من الفردي إلى الجمعي ومن الجمعي إلى الفردي لتكوينية وجوده العضوي ووجوده‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العائد على كيانه العضوي وهو كيانه الروحي‪ .‬والتربية لها هذا البعدان العضوي‬ ‫والروحي ويقابلهما علاقته الاقتصادية وعلاقته الثقافية بالطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫سياسة العالم هذه هي التي تنشئ والتفاعل بين الطبيعة والتاريخ في الاتجاهين بالحيزين‬ ‫الممثلين بالثروة والتراث‪.‬‬ ‫وذانك هما بعدا السياسة من حيث هي علاقة بالطبيعة وعلاقة بالتاريخ في انتاج الجماعة‬ ‫لذاتها بإنتاج شروط بقائها العضوي والروحي أي ديموغرافيا وثقافيا حتى تتمكن من الجمع‬ ‫بين الفردي الذي هو الفاعل بتوسط الجمعي الذي هو شرط الفاعلية مرتين بإنتاج الفاعل‬ ‫وبإنتاج شروط انتقال الفاعلية من الفردية إلى الجماعية وشرطها التعاون للتبادل‬ ‫والتعاوض في العلاقة بالطبيعة والتفاهم للتواصل والتعارف في العلاقة بالتاريخ‪ :‬وهذان‬ ‫هما مستويا المقدمة \"العمران البشري والاجتماع الإنسان\"‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن ارادة الإنسان ومعرفته وقدرته وحياته ورؤيته للعالم تصبح في آن‬ ‫فردية وجماعية لأن فاعلية الفرد ألإنساني لا تكون بحق موضوع العلم الخلدوني الجديد‬ ‫إلا بتحولها إلى إرادة ومعرفة وقدرة وحياة ورؤية جماعة توحدها حضارة هي هويتها‬ ‫الجامعة بين الطبيعي والتاريخي‪.‬‬ ‫وهذا التحول هو الذي ينتج أدوات الفعل السياسي في التربية والحكم أداتي تحقيق هذه‬ ‫النقلة من الفردي إلى الجمعي ومن النظام الذي من مميزات في الفرد إلى النظام الذي هو‬ ‫من مميزات فعل الجماعة‪.‬‬ ‫ويصبح نظام فعل الجماعة شرط التفاعل بين الكسبي التاريخي من جهة ونظام فعل‬ ‫الفرد شرط التفاعل الفطري الطبيعي‪ .‬وهذا يعني أن النظام السياسي له مستويان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مستوى شبه آلي هو المؤسسات أو الادوات التي تنقل الفعل من الفردي إلى الجمعي ومستوى‬ ‫شبه حر هو الأفراد التي تملأ المؤسسات بوصفها قيمة عليها وفاعلة باسمها‪.‬‬ ‫لهذا أجدني مضطرا مرة أخرى‪-‬وقد قربنا من الغاية في البحث‪-‬أو أورد نص ابن خلدون‬ ‫الذي ترد إليه ثورته كلها وخاصة بعد أن أطلقه ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك في طبائع‬ ‫الملك‪ :‬قال‪\" :‬والوجود شاهد بذلك فإن لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم‪ .‬وقل‬ ‫أن يكون الأمر الشرعي مخالفا للأمر الوجودي\" (المقدمة الباب الثالث الفصل ‪ 26‬في‬ ‫اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشرطه منصب الخليفة)‪.‬‬ ‫فعلق ابن الأزرق قائلا‪ \":‬بل لا يكون البتة‪ .‬وقاعدة أن كل أصل علمي يتخذ أماما في‬ ‫العمل فشرطه أن يجري العمل به على مجاري العادات في مثله وإلا فهو غير صحيح شاهد‬ ‫على ذلك\" (بدائع السلك تحقيق محمد عبد الكريم تونس ليبيا الدار العربية للكتاب‬ ‫المقدمة الثانية الفاتحة العاشرة ص‪.)97.‬‬ ‫وهذا الوصل بين \"قيام أمر الجماعة\" والحاجة إلى \"الغلبة\" أو الشوكة في السياسة وهو ما‬ ‫يرمز إليه مفهوم العصبية كما بينا دلالته باعتباره عين النقلة من الفردي إلى الجمعي‬ ‫وتوسط الجمعي بين الفردي والطبيعي والفردي والتاريخي هو جوهر الظاهرة العمرانية‬ ‫والاجتماعية بما فيهما علاقة بين البشر والطبيعة وبين البشر والبشر هو موضوع العلم‬ ‫الجديد الذي لا بد له من نوعي المقدرات الذهنية لأن الأول شرط معرفة الطبائع والتعامل‬ ‫معها بعمل على علم والثاني شرط تقييم الشرائع والتعامل معها بعمل على علم‪.‬‬ ‫وطلب هذه المسائل لا يقبل فيه ابن خلدون نظرية سياسة المدن الفاضلة ولا سياسية‬ ‫الاحكام السلطانية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذلك هو المنطلق في قولي إن ابن خلدون لا يعتبر الشرائع عامة (إذا لم تكن محرفة)‬ ‫والإسلامية خاصة متدخلة في موضوعه بغير ما تتدخل به الطبائع فيه‪ :‬أي بما وصفت في‬ ‫بعدي السياسة تربية وحكما‪ .‬لذلك كان من الواجب أن يكون للعمل ما للنظر من مقدرات‬ ‫ذهنية شارطة للعلمية في العمليات إذا مكنت من أن تعبر عنها تعبير المقدرات الذهنية في‬ ‫النظريات بنفس الشرط‪.‬‬ ‫وإذن فالمقدرات الذهنية النظرية ليست مجردات من الطبائع (الرياضيات من الأجرام)‬ ‫كما ورد في ميتافيزيقا أرسطو بل هي شروط علم ا لطبائع دون أن تكون منها ومثلها المقدرة‬ ‫العملية ليست مجردات من الشرائع بل هي من شروط علم الشرائع دون أن تكون منها‬ ‫(الأخلاقيات من الأرواح)‪.‬‬ ‫فتكون المقدرات الذهنية العملية ليست مجردات من الشرائع (الأخلاقيات من الأرواح)‬ ‫بل هي مبدعات إنسانية مجهولة الطبيعة ليس يمكن للإنسان أن يكون ذا علاقة بالطبائع‬ ‫والشرائع من دونها‪.‬‬ ‫وهو ما يعيدنا إلى مشكلة المشاكل في الباب الأول من مقدمة ابن خلدون‪ :‬كيف يستخرج‬ ‫الإنسان من الجغرافيا الطبيعية شروط بقائه العضوي‪.‬‬ ‫وكيف يسترح الإنسان شروط بقائه الروحي من التاريخ الحضاري شروط بقائه‬ ‫الروحي‪ .‬فلنورد التأويل الخلدوني لنشأة ما يمكن اعتباره الأديان الطبيعية ليحدد ما سماه‬ ‫مدركي الغيب الذين صنفهم إلى نوعين طبيعي وصناعي‪.‬‬ ‫ويمكن القول إن الاول ومثله الثاني فيهما ما هو حقيقي وما هو حيل مخادعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والطبيعي يبدأ من الكهانة إلى الوحي المنزل والثاني يبدأ من السحر إلى العلم‪ .‬وكلها‬ ‫صفات للإنسان من حيث هو ذو فكر يحاول فهم ألغاز علاقته بالطبيعة خارجة وفي ذاته‬ ‫والتاريخ خارجه وفي ذاته‪ .‬والقرآن يقول إن تبين أنه حق ليس موجودا فيه بل في آيات‬ ‫الله في الآفاق وهي الطبيعة والتاريخ وفي الانفس وهي كيان الإنسان الطبيعي والروحي‬ ‫(فصلت ‪ )53‬ويحد من تأويل آياته (آل عمران ‪.)7‬‬ ‫فيكون القانون في فكر ابن خلدون المبدأ التالي الذي أطلقه صاحب بدائع السلك‪ :‬لا‬ ‫شيء شريعي مخالف لما هو طبيعي من حيث الانتظام والخضوع لسنن تحكم التاريخ‬ ‫والسياسة وهو ما يعني أن معيار الحقيقة في المعرفة الإنسانة والمعرفة الطبيعية واحد‪:‬‬ ‫مقدرات ذهنية مع تجربة والفرق هو في نوع المقدرات الذهنية النظرية والعملية بمعنى‬ ‫الفرق في نوعي اللغة المعبرة عن النظرية والعملية‪.‬‬ ‫فلم يبق في رؤية ابن خلدون للعلم الجديد الذي يؤسسه ما ليتعارض فيه الديني والعلمي‬ ‫بغلة ابن تيمية أو ما يعلم بغير البحث العلمي النظري في الطبائع والعملي في الشرائع‪.‬‬ ‫فالقرآن لا يتضمن علما ولا عملا بل هو توجيه يذكر بشروط العلمية والعملية أي بما‬ ‫للإنسان من قدرات غفل عنها وبما في الطبيعة والتاريخ من نظام ينبغي اكتشافه بتلك‬ ‫القدرات المؤهلة للنظر والعمل في مهمتي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض بقيم‬ ‫الاستخلاف‪.‬‬ ‫ومن ثم فالقصد بالاقتصار على الاجتهاد الممكن للإنسان فيهما وهو محدود ونسبي في‬ ‫النظر والعمل و ثمرتهما محدودة بما للإنسان من قدرة عليهما وهي محدودة لأنها دائما‬ ‫متناهية‪ .‬وتلك هي علة القول بعدم المطابقة في النظر والعمل وهو أصبح الإنسان يعلمه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فتخلى عن القول بالمطابقة وعوضها بجعل الجماعة هي التي تحدد معايير العلم والعمل‬ ‫بالمشترك بين الذوات الناظرة والعاملة‪.‬‬ ‫فيكون الوجود ليس مردودا لما يعلمه الإنسان منه والمنشود ليس مردودا لما يريده الإنسان‬ ‫لأن علم ا لإنسان وقدرته نسبيان وليسا مطلقين فلا يحيطان بموضوعهما الذي لا يرد‬ ‫إليهما‪ :‬وذلك هو جوهر نفي المطابقتين‪ .‬وإذن فلا يمكن أن يقع تفاعل بين الإنسان‬ ‫ومحيطه الطبيعي والتاريخي من دون هذه القدرة التي له على التعامل معهما بما لديه من‬ ‫قدرات فكرية فعلية أو خيالية‪.‬‬ ‫وعودته على هذه القدرات لمعرفتها وتقييمها هو المنطلق الذي يجعل تراكم التراث من‬ ‫حيث هو الخبرة الممكنة من سد الحاجات العضوية من الطبيعة بتوسط التعاون والتبادل‬ ‫والتعاوض العادل في الجماعة ومن سد الحاجات الروحية من التاريخ بتوسط التواصل‬ ‫والتعارف والتضامن الصدق في الجماعة‪.‬‬ ‫وهو ما يقتضي نظرية في المعرفة والنظر ونظرية في القيمة والعمل‪ .‬وكان الحل الأول‬ ‫هو دراسة هذه العلاقة بالطبائع وبالشرائع وبداية تنظيم الخبرات التي تحصل فيهما حتى‬ ‫تتراكم لتكون أدوات في سد نوعي الحاجات وهو ما يقتضي المؤسستين الاوليين اللتين‬ ‫تنشغلان بشرطيهما أي تربية الأجيال وحكم الجماعة‪.‬‬ ‫ومن ثم فسياسة الجماعة من حيث علاقتها بالعالم الطبيعي والعالم التاريخي هي عين‬ ‫تربية الاجيال وحماية التعاون والتواصل في ما بينهم ثم مع الجماعات المحيطة بهم‪ .‬وما‬ ‫أخشاه هو أن يتكرر القول بالمطابقتين بتأثير من فلسفة هيجل وماركس ما حصل بتأثير‬ ‫فلسفة أفلاطون وأرسطو‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهو ما اعتبره سر طغيان الفتنة الصغرى التي تعتبر فهم تاريخ الإنسان يقبل الرد إلى‬ ‫التنافي بين الفلسفي والديني الناتجين عن القول بالمطابقتين وما يترتب عليهما من قول‬ ‫بوحدانية العالم ونفي كل ما يتعالى عليه أو على الأقل تأثر العقد في ما يتعالى عليه في‬ ‫التاريخ الفعلي‪.‬‬ ‫ولذلك فلا أعجب إذا عجب غيري من كلامي في هذه الأمور لعلاج مسألة علل تعثر نهوض‬ ‫الامة عامة والتمثيل له بتعثر الثورة وعلل تركيز أعداء الامة بمستوياتهم الخمسة على‬ ‫ضرب تركيا‪.‬‬ ‫ما علاقة ذلك بهذا؟‬ ‫والجواب‪ :‬الأمة إذا فقدت دلالة ثورتها الروحية ودورها في التاريخ الكوني يستحيل‬ ‫استئنافها دورها فالهزيمة (كلاوسفيتز) هي خسران سر الصمود‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يفهم المسلمون السر في أن ثورة الإسلام كان حماتها عربا في البداية وصار‬ ‫حمايتها تركا في الغاية وكلاهما شعب لم يكن له وجود في تاريخ العالم يمكن أن يفخر به‬ ‫وأن يكون من يقود الحرب عليهما من كان لهم تاريخ قبل ثورة الإسلام ويسعون لاسترداد‬ ‫دورهم بالانتقام منهما ضرب الإسلام‪.‬‬ ‫وليس في هذا الكلام الخرافة التي تدعي أن كل من يحاول قراءة التاريخ العالمي‬ ‫بمحدداته التي وصفت في ما تقدم من هذه المحاولة أعني التنافس بين البشر على الأحياز‬ ‫الخمسة بالزعم إنه قول بنظرية المؤامرة‪ :‬لا مؤامرة في الأمر بل هي تنافس على ما يسد‬ ‫الحاجات الإنسانية للبقاء العضوي والروحي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لم أدرس القانون والاقتصاد لاستكمال تكويني في الفلسفة اليونانية (ما قبل العربية)‬ ‫والألمانية (مابعد العربية) بسب الترف بل لأني كنت أبحث عن سر تعثر الأمة في محاولات‬ ‫الاستئناف التي لم تبدأ كما يخرف البعض حول دور غزوة نابليون بل مع ثورة ابن تيمية‬ ‫في النظر ومع ثورة ابن خلدون في العمل‪.‬‬ ‫محاولات الغاء دور الإسلام لا تتعلق بكونه الأمة حققت امبراطورية هزمت‬ ‫امبراطوريتين قبلها وصمدت أمام امبراطوريات بعدها فهذا لا ينكره أحد بل دعوى أنها‬ ‫لم تكن ثورة بل مجرد سيطرة مادية وعسكرية على حضارات تفضلها بكثير‪ :‬وهذه علة‬ ‫محاولات نفي أبعاد ثورة الإسلام حتى من المسلمين أنفسهم‪.‬‬ ‫وإذا كانت العنصرية الغربية تحاول الوصل المباشر بين أوروبا واليونان واعتبار المرحلة‬ ‫الإسلامية كلا شيء ومثل اصحابها الكثير من العلمانيين العرب خاصة فإن المستهدف ليس‬ ‫تاريخ الاحداث التي يعسر نفيها بل تاريخ الأحاديث التي تؤول الاحداث لتحرف دلالتها‬ ‫بنفي دورها في نظرية العلم والعمل‪.‬‬ ‫وخلافي الأساسي مع من يبحث عن سبق المسلمين للغربيين في اي شيء لأن ذلك يعني‬ ‫أمرين كلاهما لا أقبله للإسلام ولحضارته‪:‬‬ ‫‪ .1‬أن يقيم بفعله بما يظن ذا قيمة في فعل غيره وليس بقيمته الذاتية التي تبقى‬ ‫مجهولة‬ ‫‪ .2‬أن يظن أن مستقبل الإنسانية هو محاكاة ماضي الغرب لأن حضارته صارت الآن‬ ‫من الماضي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فما يعجز دون فهمه اصحاب المشاريع سواء كانوا من كاريكاتور الحداثة أو من كاريكاتور‬ ‫الأصالة‪.‬‬ ‫فأولئك غاب عنهم أن حضارة الغرب انتهت وأن الإنسانية مقبلة على تحول كيفي في‬ ‫تاريخها‪.‬‬ ‫وهؤلاء غاب عنهم ما اصالة الحضارة الإسلامية ليست ماضيها بل تحريف ثورتها بما يماثل‬ ‫ما حل حاليا بأولئك‪.‬‬ ‫فنسبة هيجل وماركس لكاريكاتور الحداثة العربية هي عين نسبة أفلاطون وأرسطو‬ ‫لكاريكاتور الأصالة العربية‪ .‬في الحالتين ظل الفكر متوهما أن الوجود يرد إلى الإدراك‬ ‫بالمصطلح الخلدوني والمنشود يرد إلى الموجود أو أن علم الإنسان محيط وعمله مطلق‬ ‫بمصطلح ابن تيمية‪ .‬وهو ما يسميه ابن خلدون بحب التأله عند الطغاة سياسيا أو معرفيا‪.‬‬ ‫ورمز \"الشيطان الملازم للإنسان\" هو أصل حب التأله المذموم في المقدمة طغيانا سياسيا أو‬ ‫معرفيا‪ .‬فالمستبد سياسيا والمتكبر علميا والمتجبر اقتصاديا والمتنمر ذوقيا والقائل بالمطابقة‬ ‫دينيا وفلسفيا كل هؤلاء متألهون أي إنهم يتصورون الإنسان إلها أوربا إرادته ومعرفته‬ ‫وقدرته وحياته ورؤيته كلها لها ما لإرادة الله ومعرفته وقدرته وحياته ووجوده من‬ ‫إطلاق‪.‬‬ ‫تلبس الشيطان للإنسان هو الوهم الذي يجعل الأنسان يخدع نفسه فيظن أنه إله وليس‬ ‫خليفة فيعتبر إرادته وعلمه وقدرته وحياته ورؤيته كلها مطلقة لكأنه صار ربا فيصبح‬ ‫السياسي والعالم والاقتصادي والفنان وصاحب الرؤية الدينية أو الفلسفية متألها بهذا‬ ‫المعنى‪ :‬فيكون ما قالت الملائكة في آدم وأبنائه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وثورة الإسلام التي أردت بيان بعديها المعرفي والقيمي هي التي أنشأت بعدي سياسة عالم‬ ‫الشهادة بتحرير الإنسان من هذا التلبس الشيطاني الذي يجعله ضحية وهم التأله فيزعم‬ ‫إرادته وعمله وقدرته وحياته ووجوده مطلقات لكأنه ينافس الله في ما يتفرد به من‬ ‫الإطلاق فيها وهو هروب من الفقر إلى الله‪.‬‬ ‫والتحديق في الفقر إلى الله هو سر كل قوة ذاتية للإنسان‪ :‬فهو حينها يكون كما قال ابن‬ ‫خلدون \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" (المقدمة الباب الثاني الفصل‬ ‫‪.)24‬‬ ‫ومعنى ذلك أن حقيقة الإنسان أنه حر(رئيس) وأن هذه الحقيقة لا تتعين فعلا في‬ ‫التاريخ إلا بالاستخلاف أي بعلاقته بربه‪.‬‬ ‫وتلك هي ثورة الإسلام‪ :‬فالتسليم للرب هو جوهر الحرية الإنسانية التي تجعله في علاقة‬ ‫بالطبيعة وبالتاريخ خارجه (الاحياز الخارجية الخمسة) وفي ذاته (الأحياز ا لداخلية‬ ‫الخمسة كذلك) ليس خاضعا لهما بل له ما به يتعالى عليهما وذلك هو موضوع فلسفة النظر‬ ‫والعقد وفلسفة العمل والشرع‪ :‬وهذا هو مكمن الثورة‪.‬‬ ‫إذا ما استثنينا محاولات المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) فإن كل‬ ‫علوم الملة الغائية الخمسة (الفقه والتصوف والكلام والفلسفة وأصلها جميعا التفسير) كلها‬ ‫دون استثناء قائلة فعليا بالمطابقتين حتى لو أعلنت قوليا أنها ليست كذلك‪ .‬فواضعو العقائد‬ ‫مثلا قائلون بالمطابقة حتما‪.‬‬ ‫وقد قلت إن هذا التحريف كان صريحا عند الشيعة لأنهم أعادوا الوساطة الروحية بين‬ ‫المؤمن وربه (المرجعيات) والوصاية السياسية بين المؤمن وشأنه (الأيمة المعصومون)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن السنة أعادوا ما لا يقل عن ذلك سوءا وإن كان ليس صريحا ومثاله الوهابية‪ .‬فالمؤمن‬ ‫يكون فيهما خاضعا لطغاة في الحكم ولكنسية خفية في التربية وذانك هما بعدا السياسة‬ ‫اللذان يفسر بهما ابن خلدون فساد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫في الظاهر هناك تناف مطلق بين التشيع والوهابية‪ .‬في الحقيقة هما نفس الشيء لكن‬ ‫الفرق هو أن الثانية امر واقع يستعمل الدين في الأقوال وعكسه في الأفعال‪.‬‬ ‫والأول يجعل الدين مردودا إلى وظيفته السياسية التي هي الفهم الفولتاري للدين من‬ ‫حيث هو أداة تخدير لسلطة تزعم معصومة وهي أصل كل فساد‪.‬‬ ‫وما يجري في السعودية وما يجري في إيران هو من نفس الطبيعة من حيث المسمى لكنه‬ ‫يختلف من حيث الاسم‪ :‬المعركة بينهما هي حول الاسم وليست حول المسمى‪ .‬وما يبدو خروجا‬ ‫على الوهابية وخروجا على الشيعية هو في الحقيقة بداية ظهور ما أسلفت بيانه‪ .‬فالفتنة‬ ‫الصغرى هي أصل الفتنة الكبرى‪ :‬دين خدعة‪.‬‬ ‫ولا يغترن أحد بالمظاهر فمن يحكم إيران ليس الملالي بل المليشيات التي هي أفسد حتى‬ ‫من الجيش المصري والسوري ودور الملالي هو التغطية على هذه المافية الحاكمة الفعلية‪.‬‬ ‫وكان ذلك عين ما تقوم به القبلية الغالبة السعودية وتغطي عليه ما تسمى بجماعة العلماء‪.‬‬ ‫والآن المرتزقة يعوضون القبيلة‪.‬‬ ‫وبذلك افتضحت علاقة الفتنة الصغرى بالكبرى‪ :‬العلمنة التي جربها أتاتورك في تركيا‬ ‫والشاه في إيران وبورقيبة في تونس يحاولها صاحب المنشار في السعودية وهو ككل أحمق‬ ‫يجرب المجرب الذي تبين فساده وفشله في علاج المشكل الذي تبين حتى عند أهله إذ تبين‬ ‫أنه تأله مآله الفساد في الأرض وسفك الدماء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما حدث في الغرب وفي محاكاة الشرق له محاكاة كانت جوهر الباطنية عندنا صار علنيا‬ ‫وآل إلى التبعية الروحية التي تعتبر التدمير تعميرا والسراب ماء زلالا تجري إليه جريها‬ ‫إلى حتفها‪.‬‬ ‫وكل ذلك لأن هذه النخب تؤمن بدين العجل فتعبد معدنه بربا الأموال وخواره بربا‬ ‫الاقوال‪ :‬حكم مستبد وفكر مخادع‪.‬‬ ‫والآن تفهمون سر الحرب على ثورة شباب الأمة التي سميت بالربيع وضم تركيا لهم‬ ‫واعلان الحرب عليها من أعداء الأمة الخمسة‪:‬‬ ‫• اثنان يمثلان ما تقدم على الإسلام (الصفوية والصهيونية)‬ ‫• واثنان يمثلان من يتصورون أنفسهم خلفوه (روسيا وأمريكا)‬ ‫• والخامس هو كل العملاء العرب لهؤلاء الأعداء من الإقليم وخارجه‪.‬‬ ‫صمود شباب الثورة هو العون الرئيس لنجاح الثورة الأعمق وهي ذات وجهين كلاهما‬ ‫متعين في تركيا وتونس‪:‬‬ ‫‪ .1‬فشل محاولة العلمنة التي هي جوهر الباطنية قديما والظاهرية حديثا‬ ‫‪ .2‬العودة إلى دور الثورة الإسلامية التي كانت مغيبة أي الجمع بين الاستعمار في‬ ‫الأرض والاستخلاف غاية لثورة التحرر والتحرير‪.‬‬ ‫وعندما ترى سكوت العالم كله على ما يجري في سوريا وما جرى قبله في مصر وما يجري في‬ ‫ليبيا وما يجري في اليمن وما يراد لتونس تفهم أن مشروع سايكس بيكو الثانية ورديفتها‬ ‫الصفقة الكبرى بتمويل من أحفاد سايكس بيكو الأولى ورديفها وعد بلفور سرعان ما يخطر‬ ‫على بالك علاقة استهداف تركيا بالثورة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهي تستهدف لأنها علاقة الوصل بين كلا السايكسين والرديفين‪ :‬منع الاستئناف الإسلامي‬ ‫بشكل حديث يكون اتحادا يجمع ما ليس بغربي من محيط الابيض المتوسط حتى يكون ندا‬ ‫لأوروبا فيتحقق التحرر ويستكمل التحرير‪ .‬لكن العملاء العرب والصفوية والصهيونية‬ ‫وسنديهم روسيا وأمريكا وأوروبا لن يفرضوا شروطهم‪.‬‬ ‫وهذه المعركة هي التي ستكون شرط الاستئناف لأن مجراها بروح العودة إلى التاريخ هي‬ ‫التي ستجعل الأمة قادرة على التحرر من عطالة التربية والحكم العنيفين ومن ثم باسترداد‬ ‫المسلمين للدور الذي حاولت وصفه في المعادلة الوجودية‪ .‬فالعلاقة بالطبيعة وما بعدها‬ ‫وبالتاريخ وما بعده بوصف المابعدين هما التفاتان متلازمان يحيلان إلى ما يتعالى عليهما‬ ‫هما ما يميز الإنساني على الطبيعي‪.‬‬ ‫وهو ما يقتضي ضرورة التحرر من القول بالمطابقتين وما يترتب عليهما من القول‬ ‫بوحدانية العالم‪ .‬والتحرر منهما يؤدي إلى القول بعلاقة علوم الانسان ومنها علوم‬ ‫الطبيعية مستوى أولا بما يجعل الإنسان في علاقة بما يتعالى على العلام لكونه هو مصدر‬ ‫نوعي المقدرات الذهنية النظرية والعملية بوصفهما أداتي سلطانه على الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫ويكون ذلك بتأويل ما بعدهما تأويلا يجمع بين الضرورة الطبيعية والحرية الإنسانية‬ ‫وتفاعلهما في الاتجاهين وأصلها أربعتها أي ما وضعه ابن خلدون في الباب الأول من المقدمة‬ ‫وضعا أوليا لم يكن بوسعه صوغه صوغا متحررا من الاصطلاح الارسطي وعاد إليه‬ ‫الكاريكاتوران بصوغ غير متحرر من الاصطلاح الهيجلي الماركسي وكلا الاصطلاحين يقول‬ ‫أصحابهم بالمطابقتين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك يصبح بالوسع الكلام على التوالج بين العلاقة العمودية بين الإنسان والعالم‬ ‫الطبيعي والعلاقة الأفقية بين الإنسان والعالم التاريخي أو بلغة ابن خلدون بين الجغرافيا‬ ‫والتاريخ والتأثير المتبادل بين دور العلاقة الأولى في سد الحاجات الطبيعية ودور العلاقة‬ ‫الثانية في سد الحاجات الروحية ودور السد الأول (الاقتصاد والثروة) في الساد الثاني‬ ‫والسد الثاني في السد الأول (الثقافة التراث)‪:‬‬ ‫‪ .1‬والاقتصاد والثروة هما اللاحم الأول للجماعة وفيه يغلب على علوم الإنسان ما‬ ‫يقرب من قانون الضرورة الطبيعية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثقافة والتراث هما اللاحم ا لثاني للجماعة وفيه يغلب على علوم الإنسان ما‬ ‫يقرب من قانون الحرية الخلقية‪.‬‬ ‫‪ .3‬ورمز الاول العملة أداة للتبادل‪.‬‬ ‫‪ .4‬ورمز الثاني الكلمة أداة للتواصل‪.‬‬ ‫‪ .5‬وبذلك نصل إلى الرمزين الأعليين وهما ما يمكن من فهم كيف أن الإنسانية يمكن‬ ‫أن يحكمها بعي دين العجل (الذهب المسروق والخوار) من دون ثورة الإسلام المحررة من‬ ‫ربا الاموال أو تحول العملة من أداة للتبادل إلى أداة سلطان على المتبادلين ومن ربا الأقوال‬ ‫أو تحول الكلمة من أداة للتواصل إلى أداة سلطان على المتواصلين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ربطنا علل تعثر نهوض الأمة حاليا بعلل تعثرها السابق ونسبنا ذلك إلى مستويين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول سياسي ظهر في البداية وهو إشكالية الفتنة الكبرى أو إشكالية تأويل سياسة‬ ‫الإسلام في التربية والحكم بما تقدم عليه سياسيا أصلا لها وعلة للصراع بين الرؤية‬ ‫الثيوقراطية والرؤية القبلية لسياسة الجماعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثاني لم يظهر إلا في الغاية وهو إشكالية الفتنة الصغرى وهي نفس الإشكالية بما‬ ‫تأخر على الإسلام سياسيا أصلا لها وعلة الصراع بين الرؤية الانثروبوقراطية والرؤية‬ ‫الثيوقراطية لسياسة الجماعة‪.‬‬ ‫وقد أرجعنا مقابلة هذين الأمرين المحيطين بالإسلام ورؤيته السياسية تربية وحكما والتي‬ ‫لم تتحقق بسبب هذه الإحاطة أرجعناها إلى أمر كان موجودا في الحد السابق وعاد في الحد‬ ‫اللاحق‪.‬‬ ‫وهو متعلق بنظرية المعرفة والنظر وبنظرية القيمة والعمل اللتين كانتا تحولان دون فهم‬ ‫هذه السياسة القرآنية وهي حيلولة مضاعفة تنافي رؤية القرآن في علاقة النظر والموجود‬ ‫أو الاجتهاد وفي علاقة العمل والمنشود أو الجهاد‪:‬‬ ‫• نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة بين النظر والموجود‪.‬‬ ‫• نظرية القيمة القائلة بالمطابقة بين العمل والمنشود‪.‬‬ ‫وبعد أن أثبتنا المسار الفكري الذي حرر المدرسة النقدية من المستوى الاول وما يمكن أن‬ ‫يحرر النهض من المستوى الثاني وصلنا إلى جوهر الإشكالية الحالية بصيغة تجمع بين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العلاقة العمودية التي تصل الإنسان فردا وجماعة بالطبيعة والعلاقة الافقية بين الإنسان‬ ‫فردا وجماعة والتاريخ وترجمانها بثمرتهما التي هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬حل الإنسان لمشكل سد حاجاته العضوية بتطبيق ثمرة النظر من حيث هو علم بقوانين‬ ‫الطبيعة‪ .‬وذلك بالتعاون والتبادل والتعاوض العادل‪.‬‬ ‫‪ .2‬حل الإنسان لمشكل سد الحاجات الروحية بتطبيق ثمرة العمل من حيث هو علم بسنن‬ ‫التاريخ‪ .‬وذلك بالتواصل والتفاهم والتعارف الصادق‪.‬‬ ‫وبينا أن أداة التبادل هي العملة أو رمز الفعل وأن أداة التواصل هي الكلمة أو فعل الرمز‬ ‫وأن كل إشكالية الإنسانية تكمن في مآل هذين الأداتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فإن بقتا أداتين للتبادل والتواصل كانت البشرية متآخية ومتساوية فعم السلم فيها‪.‬‬ ‫‪ .2‬وإذا صارتا سلطانا على المتبادلين والمتواصلين أدتا إلى الاحتراب الأهلي في كل جماعة‬ ‫ثم بين كل الجماعات‪.‬‬ ‫والرؤية الإسلامية تنقلب إلى عكسها بالتحريف الروحي في الثيوقراطيا أي السياسة‬ ‫المافياوية الخفية تربيتها كنسية وحكمها حكم بالحق الإلهي وكذلك بالتحريب العقلي في‬ ‫الأنثروبوقراطيا التي هي نفس السياسة معلمنة وهي سياسية مافياوية علنية تربيتها كنسية‬ ‫معلمنة وحكمها حكم بحق إلهي معلمن لأن أساسه تأليه الإنسان‪.‬‬ ‫فتكون البنية العميقة فيهما نفس البنية الواحدة وهي ما أطلقنا عليه اسم \"دين العجل\"‬ ‫ببعديه أي برمز الفعل أو ربا الأموال (سلطان العملة على المتبادلين) وبفعل الرمز أو ربا‬ ‫الاقوال (سلطان الكلمة على المتواصلين)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتلك هي الخاتمة التي وصلنا إليها في الفصل السابق والتي بينا فيها‪:‬‬ ‫‪ .1‬أنها في الحالة الأولى تدين للفلسفة التي نشأت في غاية العصر القديم والقائلة‬ ‫بالمطابقتين والموروثة عن افلاطون جزئيا وعن أرسطو كليا‪.‬‬ ‫‪ .2‬وأنها في الحالة الثانية تدين للفلسفة التي نشأت في غاية العصر الحديث والقائلة‬ ‫بالمطابقتين والموروثة عن هيجل جزئا وعن ماركس كليا‪.‬‬ ‫ويترتب عليهما اعتبار الدين والفلسفة أداتين للتربية التي هي عنف للسيطرة على‬ ‫الأرواح والحكم عنف للسيطرة على الأبدان بصورة تجعل الوسطاء يسيطرون على كيان‬ ‫الإنسان الروحي والأوصياء يسيطرون على كيانه العضوي‪ .‬فلا يبقى كما عرفه القرآن‬ ‫خليفة في الأرض ليعمرها وكما عرفه ابن خلدون \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي‬ ‫خلق له\" بل يدعي الربوبية فيدمرها‪.‬‬ ‫وبذلك ضاعت معاني ثورة الإسلام التحريرية من الوساطة والوصاية ومن تحول العملة من‬ ‫أداة للتبادل إلى سلطان على المتبادلين وتحول الكلمة من أداة للتواصل إلى سلطان على‬ ‫المتواصلين‪ .‬وما جرى في مستوى الفكر الذي أحاط بالإسلام قبله وبعده حصل في مستوى‬ ‫الأحياز الطبيعية والحضارية فكانت الإحاطة بدار الإسلام مكانا وبتاريخها زمانا هي‬ ‫الإشكالية التي تجعلها خاضعة للحرب الدائمة عليها‪.‬‬ ‫ولو لم أكتشف البنية العميقة الواحدة للنظامين الثيوقراطي والانثروبوقرطي وهي بنية‬ ‫عبرت عنها بالرمز القرآني في قصة العجل ببعديه المعدن الذي كان رمز العملة (الذهب)‬ ‫والخوار الذي كان رمز الكلمة (الخوار) لاستحال علي تبين طبيعة المرض الذي يصيب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المجتمعات الإنسانية والذي هو ربا الأموال وربا الأقوال وهما الامران الوحيدان اللذان‬ ‫خصهما القرآن بموقف مطلق من الرب ليس فيه نسبية ولا يعلو عليه إلى الشرك بالله‪:‬‬ ‫الحرب على ربا الأموال والمقت الأشد لمن يقول ما لا يفعل‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن النظامين الثيوقراطي والأنثروبوقراطي أو العلماني اللذين يبدوان في‬ ‫الظاهر متناقضين هما من طبيعة واحدة والفرق بينهما هو في الغطاء الله والإنسان وكلاهما‬ ‫لا يتعلقان بالله والإنسان حقا بل إما بتأنيس الله‪:‬‬ ‫‪ .1‬فتأنيس الله يتمثل في نسبة حيل التربية الكنسية والحكم بالحق الإلهي إليه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وتأليه الإنسان يتمثل في نسبة حيله التربية العلمانية والحكم العلماني إلى حقيقة‬ ‫الوجود التي تظن مطابقة لعلم الإنسان وتقييمه‪.‬‬ ‫وفي الحالتين لا يمكن لهذا الخلط أن يحصل من دون القول بالمطابقة في النظر والعقد وفي‬ ‫العمل والشرع‪ .‬وإذن فالمشكل الأساسي في كل ما تعاني منه الإنسان من تحريف للفكرين‬ ‫الديني والفلسفي وما حاول الإسلام اصلاحه بمنهج التصديق والهيمنة النقدي للتحريفين‬ ‫هو هذين المطابقتين اللتين تؤسسان لتأنيس الله في الثيوقراطيا وتأليه الإنسان في‬ ‫الانثروبوقراطيا وكلتاهما خطاء منافق للأبيسيوقراطيا‪.‬‬ ‫وعندما أنفي شرعية الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا فإن الكثير قد يتصورون أني اعتمد‬ ‫منطق تعريف الرؤية الإسلامية للسياسة من حيث هي تربية وحكم تعريفا سلبيا مضاعفا‬ ‫من جنس الإسلام لا هو مادية يهودية ولا هو روحانية مسيحية أو حتى لا هو رأسمالية ولا‬ ‫هو اشتراكية من هذه الخرافات السائدة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فليس عندي من هو أحقر من كلام الدعاة على وسطية الإسلام كما فهموا تعريف أرسطو‬ ‫للفضيلة بكونها وسطا بين رذيلتين‪ .‬وهو دليل على سوء الفهم لرؤية أرسطو الخلقية وتقيد‬ ‫بمبادئ منطق ارسطو الثلاثة (الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع) في حين أن اعتبار‬ ‫ذلك لا يتجاوز طريفة التعريف أو لغة للعبارة عن تحادد المعاني في فلسفة أرسطو كما في‬ ‫تعريف الزاويتين الحادة والمنفرجة بكونهما ليستا قائمتين‪.‬‬ ‫فلا تكون القائمة هي التي تتجدد بهما بل هما اللتان تتحدان بها حتى لو بقينا في حدود‬ ‫المنطق الارسطي‪.‬‬ ‫لكن الإسلام ليس وسطا بين تطرفين فيكون متضمنا لهما وإن بسلبهما بل هما يتحددان‬ ‫بسلبه لأنهما يعتمدان المطابقة التي تؤدي إلى الثليث في حين أن قيم الأفعال في الإسلام‬ ‫مخمسة‪ .‬ومعنى ذلك أن الحدين الاقصيين هما المحظور والواجب وبينهما المكروه والمندوب‬ ‫وفي القلب المباح الذي يرجع للإنسان فعل التقييم الذي يدعي صاحبه أنه مطابق ومبني‬ ‫على علم مطابق بل هو الاجتهاد الذي يجعل الفعل جهادا يمكن أن يجعل المحظور مباحا‬ ‫فعله والواجب مباعا تركه والمكروه مندوبا والمندوب مكروها بحسب الاجتهاد في ظرف‬ ‫الجهاد‪.‬‬ ‫الآن أوسع مجال البحث وأعود إلى مشكلة من يشغل القلب في كل شيء وعلى يمينه شاغلان‬ ‫وعلى يساره شاغلان وكلهم متحالفون عليه‪ .‬فالإسلام نزلت رسالته في جزيرة العرب ملتقى‬ ‫القارات القديمة الثلاث إذا واصلناها إلى غاياتها فهي بين آسيا وأفريقيا وأوروبا توجد في‬ ‫ما يشبه الجزيرة ليس جغرافيا فحسب بل وتاريخيا فهي تفتح على كل الحضارات الماضية‬ ‫بصنفيها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأعني بصنفي الحضارات القديمة ما ينتسب إلى الإقليم وما هو آت مما يحيط به من‬ ‫الأقاليم أي من الشرق وهما الشاغلان على شماله ومن الغرب حيث التقت حضارات آسيا‬ ‫(ما وراء النهرين) وحضارات أوروبا (روما القديمة وبديلها من الجرمان) وهما الشاغلان‬ ‫على غربه‪.‬‬ ‫وكانت جزيرة العرب قلب العالم جغرافيا لكنها في آن خارجه تاريخيا وأطرافها مستعمرة‬ ‫من قطبيه الملاصقين لها والمحاطان بما ورائهما من الشاغلين‪.‬‬ ‫ما حققته ثورة الإسلام هي أنها قلبت هذه العلاقة فصارت قلب العالم تاريخيا لأنها توسعت‬ ‫إلى الغرب بشاغليه وإلى الشرق بشاغليه إلى حدود الصين قلب الشرق الاقصى وحدود‬ ‫نصف فرنسا قلب الغرب الأقصى قبل اكتشاف أمريكا‪ .‬وفي الغاية وصلت إلى ما يتجاوز‬ ‫الصين وما يتجاوز أوروبا لأن اكتشاف أمريكا يرجح أنه من صنع المسلمين وليس من صنع‬ ‫اسبانيا‪.‬‬ ‫ولما ضعفت دولة الإسلام جاءها الهجوم من الغرب أولا بحلف بين شاغليه (الصليبيات) ومن‬ ‫الشرق ثانيا بحلف بين شاغليه (المغوليات) وكان لهما في الحالتين حليفا من الداخل هو دولة‬ ‫الباطنية في مصر ويهود أوروبا الذين مولوا حروب أوروبا على الشرق وخاصة حروب شارل‬ ‫الخامس على ضفة المتوسط الجنوبية ومنها تونس والجزائر وليبيا‪.‬‬ ‫ولما فشلت حروب الاسترداد بفضل الدور الذي أدته الخلافة العثمانية بعد نكوص العرب‬ ‫إلى ما كانوا عليه في الجاهلية وهو نكوص لا دخل للأتراك فيه لأنه بدأ منذ سقوط الخلافة‬ ‫الأموية وبلغ الغاية في الخلافة العباسية اضطر الغرب إلى الاستدارة حول قلب دار الإسلام‬ ‫لإخراجه من دورة الاقتصاد العالمي بالتواصل المباشر مع المحيطين به بنوعي كلم منهما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولما استقر الاستعمار الغربي في الهند والصين خاصة جعلهم بنحو ما أعداء للإسلام أو ساعين‬ ‫للانتقام من اهليه وكان ذلك جزءا من سياسية المستعمر لخطه الساعية إلى الانتصار على‬ ‫المسلمين‪.‬‬ ‫وهو ما نراه الآن من تحالف بين المحيطين بالإسلام من الغرب ومن الشرق في معركة‬ ‫يريدونها حاسمة لمنع الاستئناف‪.‬‬ ‫فما يجري في الهند وفي الصين خاصة إزاء مسلميهم ليس بمعزل عما يجري في أوروبا وأمريكا‬ ‫إزاء مسلميهم‪.‬‬ ‫لكن ذلك ليس إلا من أعراض المعركة مع القلب أي الاقليم الذي يعد قاطرة الحضارة‬ ‫الإسلامية لأنهم يعلمون أن اساس الحصانة الروحية والمناعة المادية توجد في الإقليم‬ ‫الاوسط وخاصة عربه وأتراكه وأكراده وأمازيغه وأفارقته اي اولئك الذين افشلوا‬ ‫الصليبيات والمغوليات والاسترداديات والاستعماريات وشرعوا خلال ذلك وبعده في استرداد‬ ‫المبادرة الفاعلة‪.‬‬ ‫وإذن فالمعركة لم تبق مقصورة على الإقليم وحده بل صارت عالمية‪ .‬ويمكن القول إن كل‬ ‫حروب الإسلام من غيره عليه أو منه على غيره حروب عالمية بالأساس أولا لأن نظرية‬ ‫الإسلام تعتبر المعمورة كلها دولته الممكنة ولأنها حرب لا تجري في حضارة واحدة كما كانت‬ ‫الحال في حروب الغرب الاستعمارية التي كان العالم غير الغربي مجالها وليس طرفا فيها‬ ‫ولأنها كانت نشأة حضارة ليس لها سابق وليس لها لاحق لأنها فريدة النوع إذ هي تتأسس‬ ‫على رسالة كونية للإنسانية كلها‪.‬‬ ‫سيقال أنت تبالغ أنسيت الحربين العالميتين الاخيريين؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫طبعا لا يمكن أن أنسى لأني من اكتوى بهما معا في أسرتي المباشرة‪ .‬لكنهما ليستا حربين‬ ‫عالميتين إلا بالتبعية‪ .‬فهما حربان أوروبيتين خالصتان جرتا في مرحلتين واحدة داخلية‬ ‫للتنافس على المستعمرات والثانية داخلية للتنافس على حكم أوروبا وما استعمرته بينهم‬ ‫ومعهم مستعمرتاهم أمريكا وروسيا‪.‬‬ ‫فعندما قتل الأمريكان اختي وخالي وابن عمي في الحرب الثانية وعندما جندت فرنسا أبي‬ ‫في الحرب الاولى وعندما جندت فرنسا الكثير من شباب تونس والجزائر في الحربين‬ ‫العالميتين وفي حرب فياتنام لم تكن حربها عالمية علينا لجعلنا فرنسيين بل لإبقائنا عبيدا‬ ‫لها‪ .‬لم تصبح أي \"مستعمرة\" سيدة وصاحبة الدولة بخلاف ما كانت عليه سياسة الفتح‬ ‫الإسلامي‪.‬‬ ‫كل دول الاسلام من جوار الصين إلى جوار فرنسا لم يكن حكامها من العرب إلا في زمن‬ ‫قصير في بدايات الفتح بل كان حكامها من اهلها ولا يجمعهم إلى الإسلام وليس العرق ولا‬ ‫اللغة ولا أي شيء مما هو دون الإسلام موحدا لهم على منزلة الإنسان بوصفه خليفة لا‬ ‫يعبد عبدا بل هو يعوض العبودية لغير الله بالعبودية لله وحده‪ :‬ثورة عالمية‪.‬‬ ‫لم يكن الفتح حرب شعب على شعب لإفنائه وأخذ ارضه وثروته بل كان حرب الإنسان على‬ ‫ما ينافي الإنسانية من حيث هي ما خلق إلا لعباده مثل الجن في الرؤية القرآنية‪.‬‬ ‫واليوم يحاكي الغرب هذه الرؤية ولكن بموقف يبدو وكأنه \"يؤسس\" لشعوب حرة كما يوهم‬ ‫الظاهر‪ .‬وهو في الحقيقة يعمل العكس تماما كما تبين كذبة الهند أكبر ديموقراطية‪.‬‬ ‫فلا الهند ولا حتى الصين فضلا عن اليابان وكوريا الجنوبية وكل أوروبا رغم عنتريات‬ ‫الفرنسيين ‪-‬ينبغي الا ننسى أن رمزهم الديك‪ -‬ليست إلا مستعمرات أمريكية وأوروبا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الشمالية التي كانت مستعمرات سوفياتية بعد الحرب الثانية التحقت بها بعد سقوط جدار‬ ‫برلين وهي خاضعة تماما للسيطرة الأمريكية مع وهم السيادة لكن خراجها لأمريكا‪.‬‬ ‫وأداتا السيطرة هي بعدا العجل‪ :‬الدولار والانجليزية‪ .‬فالقوة المادية للدولار والقوة‬ ‫الرمزية للإنجليزية‪ .‬وفي نفس الوقت كلهم مجندون للحرب عمن يعتبرونه الخطر الوحيد‬ ‫الذي لن يستطيعوا إزالته ما ظل قلب المسلمين نابضا بالقرآن وإرادتهم تحركها منزلة‬ ‫الإنسان في الرسالة الخاتمة‪ :‬العزة والمجد‪.‬‬ ‫لم يفن الإسلام شعبا ولم يقتل لغة ولم يلغ تراثا ولم يفرض على أي شعب فتح الله بصيرة‬ ‫شعبه للإسلام أن يتخلى عن ثقافته أو عن وطنه لكنه فتح للجميع المشاركة في نشر الرسالة‬ ‫وخدمتها وأداء الدور الذي يؤهله له ما لديه من ملكات وقدرات فصارت شعوب الأمة‬ ‫تتداول على خلافتها والجميع معتز بدوره‪.‬‬ ‫من يتصور الهند دولة مستقلة واهم‪ .‬فهم يمثلون النوع الحديث من عبيد الأمريكان خاصة‬ ‫والغرب عامة‪.‬‬ ‫وجدوا كلفة العبيد الأفارقة كبيرة فحرروا ما بقي منه وهم قلة لنقلهم إلى العبودية‬ ‫الجديدة وهي عبودية العمل التابع‪ .‬لكن سودان افريقيا تحرروا وكان للإسلام في ذلك دور‬ ‫كبير‪.‬‬ ‫الهنود فهم عبيد لأمريكا وهم في بلادهم‪.‬‬ ‫وما يجعلهم يبدون متقدمين تقنيا وعلميا علته اعدادهم لخدمة الشركات العالمية التي تجد‬ ‫في أجورهم الزهيدة أداة تنافس بيها بالحد من كلفة الانتاج‪ .‬لكن الهند ما تزال تعمل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪74‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالطبقات الثابتة ومنها طبقة المنبوذين‪-‬الانتوشابل‪-‬وهم يلهونهم بالحرب على الإسلام‬ ‫والمسلمين‪.‬‬ ‫حربهم عليه خوفا من تحريره للإنسان‪.‬‬ ‫ولذلك فلا تعجبوا من الحلف الخفي سابقا وقد صار في عهد الوقع ترومب علنيا لإسقاط‬ ‫دولة باكستان التي يفرض عليها ما يفرض على بلاد الإسلام نخبا ليست مسلمة إلا بالاسم‬ ‫لأن الاستعمار الأمريكي يختارها‪ .‬وجل حكام المسلمين إن عملاء ومنهم من يحمل جنسية‬ ‫المستعمر والمنشاري يباهي بمربيته اليهودية من اثيوبيا‪.‬‬ ‫وما يؤسفني حقا هو ما عليه قيادات الإسلام السياسية والتربوية عامة والعربية منها على‬ ‫وجه الخصوص من لا مبالاة بضرورة تحقيق ما يمكن أن يحمي المسلمين في العالم كله بحلم‬ ‫اربكان الذي حاولت تركيا وباكستان وماليزيا وقطر واندونيسيا مواصلته دون جدوى‪.‬‬ ‫ويمكن للدول الإسلامية التابعة للسوفيات سابقا أن تكون سندا عظيما لتركيا‪.‬‬ ‫فلن يردع روسيا من تهديد تركيا إلى تحرك هذه الشعوب لأني أعلم أن روسيا تحلم بتحقيق‬ ‫سايكس بيكو الثانية لتدارك حصتها التي خسرتها بسبب الثورة وتتمنى اخراج تركيا من‬ ‫أوروبا وحصرها في الاناضول لتسترد استنبول والدردنيل كما وعدوها قيصرها في مشروع‬ ‫اسقاط الخلافة واقتسام أرضها‪.‬‬ ‫ولن يردع الخونة والعملاء من حكام العرب ونخبهم الخادمة لهم وللمستعمر إلا استمرار‬ ‫ثورة الربيع وشمولها كل بلاد العرب‪.‬‬ ‫واعتقد أن نصر تركيا في ادلب وفي ليبيا سيكون الضربة القاضية لمؤامراتهم علها وعلى‬ ‫الثورة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪75‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكل تخريف حول الخوف من عودة الخلافة بالمعنى القديم هو من \"خوار\" عجل النخب‪.‬‬ ‫فأولا قيادات تركيا ليسوا بحمق صاحب المنشار أو مخرب الديار مرشده حتى تفكر في ما‬ ‫تعلم أنه لم يعد مناسبا للعصر وأن ما يناسبه يجمع ما فيها من فضائل ويتحرر منا شابها من‬ ‫رذائل وذلك بالبديل الذي يمثل ما يشبه الولايات المتحدة الأمريكية التي هي فدرالية ‪50‬‬ ‫دولة تجمعها شروط السيادة‪.‬‬ ‫لكن الحمقى من القيادات العربية مستعدة أن تخرب الوطن كله ناهيك عن دار الاسلام‬ ‫حتى يوهموا أنفسهم بأنهم أمراء وشيوخ وملوك ورؤساء دول وكلهم يعيشون الذل والمهانة‬ ‫في محميات تابعة ومتسولة للحماية أو للرعاية او لهما معا لا لشيء إلا لكي ينكصوا إلى‬ ‫الحرب الأهلية الدائمة لجاهليتهم القديمة‪.‬‬ ‫ولو تنازلوا لبعضهم البعض لكانوا قلب دار الإسلام بفضل القرآن ولما يملكون من ثورات‬ ‫مادية وروحية ونخب قادرة على شروط التحديث لحيازتها على شروطها لو اجتمعت‬ ‫امكاناتهم بحيث إن تركيا في تلك الحالة لا تخيفهم بل بالعكس ستكون الفائدة متبادلة ولن‬ ‫ترهبهم لا إيران ولا إسرائيل فتكون السيادة‪.‬‬ ‫لذلك فلا بد ان تنجح الثورة في سوريا وفي ليبيا علامتين على أن تركيا فهمت أن مصيرها‬ ‫لا يقبل الفصل عن مصير الشعو ب الخمسة الذين ذكرت أنهم هم من أفشل كل الحروب‬ ‫التي استهدفت الأمة‪ :‬العرب والترك والأكراد والأمازيغ ومسلمو افريقيا ما دون الصحراء‬ ‫من الصليبيات إلى اليوم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪76‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪77‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook