Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore تعثر نهوض الأمة - تأويله التاريخي وتفسيره الفلسفي - أبو يعرب المرزوقي

تعثر نهوض الأمة - تأويله التاريخي وتفسيره الفلسفي - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-04-09 17:31:03

Description: تعثر نهوض الأمة - تأويله التاريخي وتفسيره الفلسفي - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫تعثر نهوض الأمة‬ ‫تأ ويله التاريخي‬ ‫وتفسيره الفلسفي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪9 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪18 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪27 -‬‬ ‫تمهيد ‪27‬‬ ‫الفصل الرابع ‪31‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪40 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪50 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪66 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫عندما كانت دول الغرب متفردة بالعلوم الحديثة وتطبيقاتها كان بوسع أدناها تكوين‬ ‫امبراطورية في افريقيا وآسيا والامريكتين‪.‬‬ ‫ومع ذلك فسقوط كل امبراطوريات أوروبا كانت حتمية لأن تنافسها على اقتسام العالم‬ ‫أداها إلى حربين عالميتين كانت نهاية الأخيرة منهما سيطرة مغول الشرق (روسيا‬ ‫السوفياتية) ومغول الغرب (الولايات المتحدة الاميركية) عليها‪.‬‬ ‫والصراع بين السوفيات والأمريكيين آل إلى فقدان مستعمرتي أوروبا‪-‬روسيا وأمريكا‪-‬‬ ‫السيطرة على العالم أو لنقبل بداية فقدان الثانية سلطانها المطلق وضياع كل سلطان‬ ‫للأولى لأن أمم الشرق ألأقصى التي عرفت كيف تتكافأ معهما إلى حد كبير في العلوم‬ ‫الحديثة وتطبيقاتها التي هي شرط بعدي القوة الحديثة أي العلوم والاقتصاد المبني على‬ ‫المعرفة والذكاء مع الحجم الجغرافي المناسب لشروط الرعاية والحماية‪.‬‬ ‫لكن المسلمين عامة والعرب خاصة بقوا في ذيل الشعوب لعدم تحقيق هذه الشروط بسبب‬ ‫التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي الحائلين دون الحجم المناسب للرعاية والحماية‬ ‫شرطي السيادة‪.‬‬ ‫وهذا هو اللغز الذي أريد فهم علله‪.‬‬ ‫ذلك أنه لا يمكن أن يعلل بأسباب عرقية لأن جميع الأعراق منها من هم مسلمون‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يعلل بأسباب ثقافية لأن ثقافات كل هذه الأعراق موجودة في حضارة‬ ‫الإسلام‪.‬‬ ‫ولا بد إذن من تعليل غير هذين التعليلين المعتادين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫ولا يمكن كذلك الزعم بأن التفسير مؤلف منهما‪.‬‬ ‫الأسماء والبيان ‪1‬‬

‫‪--‬‬ ‫وهو التفسير الضمني في نسبة الانحطاط إلى الخلافة العثمانية وخاصة عند أكثر العرب‬ ‫تخلفا أعني الاعراب‪.‬‬ ‫وتلك هي علة هذا الدس ضد تركيا حاليا والذي لا معنى له‪.‬‬ ‫• فأولا الخلافة لم تشمل كل دار الإسلام‪.‬‬ ‫• وثانيا الخلافة العثمانية لم تكن مؤلفة من الأتراك وحدهم بل هم لم يكونوا الأغلبية‬ ‫في الشعب حتى وإن كانت لهم الاغلبية في الحكم‪.‬‬ ‫هي إذن كذبة من عملاء سايكس وبقايا الصليبية والباطنية‪.‬‬ ‫لم يبق إلا البحث عن تفسير أعمق‪.‬‬ ‫ولعل ملاحظة ما يجري في الاقليم حاليا يمدنا ببداية الحل الذي لا يخص المرحلة الإسلامية‬ ‫من تاريخ الاقليم الذي يمثل قلب ما صار يسمى الحضارة الإسلامية بعد أن كان مركز‬ ‫الصراع بين الشرق الادنى (اقليمنا) والغرب الأدنى (اقليم أوروبا) أي كل حوض الابيض‬ ‫المتوسط كما نرى أحداثه الحالية لأن روسيا وامريكا لم يصبحا الفاعلين الأكبرين إلا في‬ ‫الحرب الاولى بداية وفي الحرب الثانية غاية‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن نتجاوز هذين التفسيرين أو التأليف بينهما للتفسير ما لم نعتبرهما هما‬ ‫بدورهما ناتجين عن علل أعمق تفسر ما نريد فهمه لأنه علة لهما ولما قد يسهما فيه معه‬ ‫بعد حصولهما من تعليل لما حل بالمسلمين وخاصة بمركز الحضارة الإسلامية أعني اقليمنا‬ ‫حول الأبيض المتوسط وخاصة منذ بداية تاريخ الإسلام‪.‬‬ ‫وقبل ذلك لا بد من التحرر من حماقة تعريف العلوم بالخصوصيات مثل \"علم الاجتماع‬ ‫العربي أو الإسلامي\" وأكثر من ذلك الكلام على \"العقل العربي أو العقل الإسلامي\" أعني‬ ‫الموضة العجيبة في حضارة بدأت بمحاولة كان صاحبها سباقا إلى فهم التاريخ يقتضي تجاوز‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هذه التعريفات البدائية التي تتصور الخصوصيات موضوع البحث العلمي في حين أنها ليست‬ ‫إلا قيما لمتغيرات موضوعه الكوني في مجالاته المختلفة‪.‬‬ ‫ولعلي من المحظوظين بفضل من الله وتكريمه إذ إن من بدأ علاج هذا المشكل هو تاريخ‬ ‫بلدي من دار الإسلام وفكر أحد أبنائه الذي هو في آن رمز ما كانت عليه دار الإسلام من‬ ‫وحدة متجاوزة للحدود‪.‬‬ ‫إنه ابن الكثير من اقطار الإقليم باصطلاحنا الحالي بعد تفتيته وفرض الحدود‪.‬‬ ‫إنه حضرموتي الأصل تونسي المولد والتكوين مغربي وأندلسي استكماله جزائري موطنا‬ ‫خلال تأليف ثورته العلمية‪ :‬إنه ابن خلدون صاحب المقدمة‪.‬‬ ‫فأبرز مراحل تاريخ تونس الحالية وقرطاج السابقة كان صراعا بين قرطاج وروما حول‬ ‫شروط قيام الجماعات والافراد قيامهم العضوي والروحي‪ .‬وهو العامل الثاني الذي‬ ‫يعنيني للبحث في تفسير ما يجري في اقليمنا وسر تأخرنا في تحقيق ما كان ينبغي أن يكون‬ ‫متحققا منذ بداية تاريخ الإسلام‪ .‬أما العامل الأول المتقدم عليه فهو النظرية التي عرضها‬ ‫الباب الأول من مقدمة ابن خلدون‪.‬‬ ‫ولا أخفي أن كنت أعجب لما اسمع \"علماء الاجتماع\" العرب يتكلمون على العقل العربي أو‬ ‫على تعريب علم الاجتماع أو أسلمته ولا أفهم علة خلطهم بين النظرية العلمية من حيث‬ ‫مطلوبها العلمي المجرد ومضمونها العيني أو التجريبي فيعتبرون الخصوصيات هي المطلوب‬ ‫في حين انها في كل علم بعض أعيان تحقق النظرية في ظرفيات ليست من جوهر النظرية‬ ‫العلمية إلا باعتبارها شواهد على ما في النظرية ومن قوانين كونية‪.‬‬ ‫والأدهى أن البعض ذهب إلى حد جعل الفلسفة التي هي الكلام في ما بعد النظر وما بعد‬ ‫العمل وما بعد العلوم المساعدة في النظر وفي العمل جعلوها هي بدورها تطلب الخصوصيات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بدعوى المزايدة على ما بعد الحداثة والمطالبة بالحق في الاختلاف لكأنه يوجد من ينفي أن‬ ‫تكون الخصوصيات هي ذاك بالجوهر دون ان تكون مع ذلك مطلوب العلم والفلسفة‪.‬‬ ‫ولنأت الآن إلى موضوع الباب الأول من مقدمة ابن خلدون‪ .‬فد وضع النظرية بتجاوز‬ ‫الخصوصي إلى ما فيه من كلي فردها إلى كليين يتفاعلان في الاتجاهين من أحدهما إلى‬ ‫الثاني ثم العكس من الثاني إلى الآخر الذي قدمه مع العكس عند العودة عكسا بعد‬ ‫الذهاب طردا‪ .‬ولا بد هنا من بيان علة اسم مصنف الثورة الخلدونية العجيب والغريب من‬ ‫حيث التسمية المضاعفة‪.‬‬ ‫فابن خلدون سمى المقدمة \"علم العمران البشري و(علم) الاجتماع الإنساني\"‪.‬‬ ‫فضاعف الموضوع بنحو ما وضاعف وصفه‪ .‬فعندنا العمران والاجتماع موضوعا مضاعفا‪.‬‬ ‫وعندنا بشري وإنساني وصفا مضاعفا‪.‬‬ ‫ولم يذكر لا عربي ولا إسلامي رغم أن جل الأعيان المضروبة أمثلة على النظرية قيم‬ ‫خصوصية تمثل للكليين‪ .‬فيكون إيرادها هدفه التمثيل للنظرية الكلية وليس كما ظن‬ ‫المرحوم عبد الرحمن بدوي مادة للاستقراء‪ :‬وهو دليل على عجلته في الحكم كعادته‪.‬‬ ‫لو قال علم العمران الإسلامي و(علم) الاجتماع العربي\" لكان عمله ليس علميا فضلا عن‬ ‫أن يكون فلسفيا بل هو رؤية متخلفة تعتبر المعرفة العلمية استقرائية كما يعتقد كل الذين‬ ‫على ما ينسبونه إلى حضارتنا من إضافة لعلم اليونان ‪-‬لكأن اليونان كانوا كما يزعمون‬ ‫مقتصرين على الخيال دون ملاحظة التجارب (النشار)‪-‬أو الذين يتكلمون على إسلامية‬ ‫المعرفة (وهم كثر) أو عروبة العلوم الإنسانية (وهم أكثر)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهو خلط عجيب من متصدرين للفكر بين النظرية وقيم متغيراتها الكلية التي تتعين‬ ‫بقيمها التي تشترك في محددها الكلي موضوع النظرية ذي التطبيقات المتنوعة عينا‬ ‫والواحدة مفهوما‪.‬‬ ‫ولنمر الآن إلى جوهر الثورة الخلدونية وفهمها يكفي فيه قهم الباب الأول من المقدمة‪.‬‬ ‫وهو بحد ذاته ثورة غير مسبوقة غيرت فلسفة التاريخ وفلسفة السياسة لأنها انبنت على‬ ‫فهم عميق بديل من ميتافيزيقا أرسطو‪.‬‬ ‫يتضمن الباب الأول خمس مسائل‪:‬‬ ‫• مسألتان بسيطتان هما مسألة الجغرافيا الطبيعية ودورها ومسألة كيان الإنسان‬ ‫الطبيعي ودوره‪.‬‬ ‫• واثنتان مؤلفان منهما هما فعل الأولى في الثانية وفعل الثانية في الأولى‪.‬‬ ‫• والمسألة الخامسة هي التي تصبح الأصل بفضل ما يحدث بين هذه المسائل الاربعة بعد‬ ‫تفاعلها وذلك هو موضوع هذا العلم ذي المستويين الورادين في عنوان الكتاب‪.‬‬ ‫والعاملان البسيطان واضحان وهما الشرط الطبيعي الخارجي لوجود الجماعة البشرية‬ ‫والشرط الطبيعي الذاتي للإنسان لعيشه فيه وتكيفه معه‪.‬‬ ‫فينتج عن لقائهما عاملان هما يحصل للإنسان من تكيف مع الطبيعي الخارجي وما يحصل‬ ‫للطبيعة من تكيف مع الطبيعي الداخلي للإنسان‪.‬‬ ‫• والاول هو أثر المناخ والغذاء‪.‬‬ ‫• والثاني هو أثر فعل تحصيل الغذاء والتكيف مع المناخ‪ .‬فتصبح العوامل المحددة‬ ‫للعمران البشري والاجتماع الإنسان مترتبة على هذه العوامل الأربعة وهي موضوع العلم‬ ‫الجديد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذلك هو العلم الذي أبدعه ابن خلدون بوصفه \"علم العمران البشري والاجتماع‬ ‫الإنساني\" وله قوانين كونية وكلية تنطبق على كل البشر‪ .‬فتكون الخصوصيات أعيانا من‬ ‫الكليات التي تفسرها‪.‬‬ ‫ولعل أفضل مثال هو أن قوانين الوراثة البايولوجية واحدة لكن الخصوصيات هي اللون‬ ‫وحجم الجرم مثلا وهي تعينات لنفس القوانين بحسب ظرفيات التكيف مع المناخ والغذاء‪.‬‬ ‫فعلم البايولوجيا واحد وأعيان تحقق قوانينه بخصوصيات خاضعة لقوانينه‪.‬‬ ‫ونفس الامر في العلم الجديد‪.‬‬ ‫لكن ذلك لا يمنع من أن نكتشف قوانين من درجة أدنى تفسر خصوصيات ذات صلة‬ ‫بالقوانين المحددة لمفعول المناخ والغذاء في أبدان البشر ولها علاقة بعلم أسمى حتى من‬ ‫العلم الذي اكتشفه ابن خلدون وهو علم الفلك وكيفيات تأثير الشمس في الارض بحسب‬ ‫الحركتين‪ .‬وكل ذلك قابل للتحديد الكمي والكيفي العلميين‪.‬‬ ‫ومن آثار هذه القوانين تحدث \"وحدات\" متقاربة في مناخ متماثل بعلامات مختلفة مثل سواد‬ ‫اللون في المناطق الحارة وحجم البدن في الأماكن الخصبة وعكسهما في عكسهما‪.‬‬ ‫وهي كلها ظاهرات معلولة وليست علة إلا في الظاهر وهي لا \"تفسر\" عليما بل تبرر‬ ‫إيديولوجيا مواقف الناس بعضهم من البعض كما يظن من \"يفسر\" التقدم والتخلف بهذه‬ ‫المواقف من عرق المغلوب أو من ثقافته الناتجين عما يلعو عليهما من هذه المؤثرات‪.‬‬ ‫وحينئذ نصل إلى ما كان ينبغي استنتاجه من ثورة ابن خلدون‪.‬‬ ‫فهو لم يعتبر علمه مكتملا بل طلب في غاية مصنفه بمواصلة اجتهاد لقوله إنه قد وضع‬ ‫اللبنات الاولى من علمه وطلب من الخلف أن يواصلوا عمل السلف باستكماله وتعديله‬ ‫وتجاوزه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهو ما أريد الآن استعماله لفهم علة ما تعاني منه الامة من عجز في مجاراة العصر بعكس‬ ‫من كان أكثر منها تخلفا‪.‬‬ ‫ماذا نستنتج؟‬ ‫إذا كانت الجغرافيا الطبيعية محددة للكليات التي بطلبها علمه بالمناخ والغذاء فإن طلب‬ ‫المناخ والغذاء من الإنسان المشدود إليهما شرطي حياة يجعلهما مطلوب كل الناس فيصبحان‬ ‫موضوع تنافس عليهما بما للإنسان من أدوات السيطرة على الأحياز التي تحتوي على هذه‬ ‫الشروط‪.‬‬ ‫والأحياز الطبيعية أربعة هي‬ ‫• المكان‬ ‫• والزمان‬ ‫• وما يترتب على تفاعلهما في الاتجاهين من الأول إلى الثاني ومن الثاني إلى الاول‬ ‫• ويوجد أصل يوحدها رغم كونه ينتج عنها…‬ ‫فكون من يوجد في المكان الأكثر ملاءمة بوجود الغذاء والماء وملاءمة للحياة بالمناخ‬ ‫بالطقس والماء هدف من يحيط بالمكان وتغييره بحسب تغير الزمان هو البداية الأولى في‬ ‫تكون الجماعات بالعمران (تحقيق الشروط المادية) والاجتماع (تحقيق الشروط الروحية)‬ ‫وتأسيس الدول والحضارات وشروط بقائها بعد انتهاء الترحال بحثا عن هذه الشروط‪.‬‬ ‫وبذلك نكتشف أن اقليمنا يجمع خاصتين تجعلانه دائما محل الصراع الكوني‪:‬‬ ‫• فهو أفضل الأقاليم في نظرية ابن خلدون من حيث سد الحاجتين‬ ‫• وهو موجود في الوسط بمعنى أنه مهدد من كل الجوانب بسبب حيازته لكل شروط‬ ‫الوجود العمراني والاجتماعي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فيكون هدف كل من يحيط به من أجل حيازة هذه الشروط‪ .‬وهي متعددة‪.‬‬ ‫فلكأن ما فيه من شروط القيام العضوي وما ترتب عليها من استقرار وتكون شروط القيام‬ ‫الروحي يجعله هدف الجميع لأن هذه الحاجات مشتركة لجميع البشر‪.‬‬ ‫ويترتب عن ذلك خاصية كونية تعينت فيه‪ :‬فاحتواؤه على المطلوب المشترك هي خاصيته‬ ‫رغم أنها كلية بمعنى أن كل من يكون في وضعه يكون هذا مصيره‪ .‬وإذن فهو أنه لا يمكن‬ ‫ألا يكون هدف الجماعات المحيطة به‪.‬‬ ‫فلا يترك من دون منافسة على ما عنده‪.‬‬ ‫فيكون كل من يوجد حوله مجذوبا إليه وكل من يحاول المرور إلى ما يوجه خلفه من‬ ‫النواحي كلها مضطرا للمرور به إن لم يستطع الاستدارة من حوله‪.‬‬ ‫وقد يقع تهميشه في الدولة العالمية للتجارة مثلا لما يحاصر‪ .‬وتلك هي العلل الخمسة التي‬ ‫يمكن أن تعلل شروط ازدهاره وكذلك شروط انحداره‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فتكون العلل التي تفسر ما تعاني منه الأمة عامة واقليمها المركزي خاصة من انحطاط‬ ‫وتخلف في عصرنا مردودة إلى إشكالية الاحياز الخمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬الحيز الجغرافي‬ ‫‪ .2‬والحيز التاريخي‬ ‫‪ .3‬وأثر الحيز الجغرافي في التاريخي أي الثروة‬ ‫‪ .4‬وأثر الحيز التاريخي في الحيز الجغرافي أي التراث‪.‬‬ ‫‪ .5‬الرؤية الوجودية في فهم المرجعية الروحية التي هي ما يوحد الأحياز لتصبح عين‬ ‫هوية الجماعة المتعينة في الجغرافيا والتاريخ والثورة والتراث‪.‬‬ ‫وهذه هي الأحياز المحيطة هي نصيب كل جماعة ولكل فرد منها نصيب أخذا وعطاء‪.‬‬ ‫ففعل الإنسان في الحيزين الطبيعيين هو ا لذي ينتج الحيزين الحضاريين ويضفي الطابع‬ ‫الحضاري عليهما‪ .‬وهو الذي يضيف إلى الاحياز ثروته وتراثه حيزين يتحدد فيهما كيان‬ ‫الفرد بتوسط الجماعة حيزين صنعهما الإنسان هما يناظران المكان والزمان في وجود‬ ‫الإنسان‪.‬‬ ‫• والأول قيام الأمة المادي والاداتي‬ ‫• والثاني قيام وجودها الروحي والغائي‪.‬‬ ‫ولا يمكن لأمة أن تنجح في السيطرة على حيز المكان وحيز الزمان سيطرة تجعلها قادرة‬ ‫على التربية والحكم المحررين للإنسان رعاية وحماية إلا بفضل تحويل المكان إلى جغرافيا‬ ‫حضارية بعد أن كانت طبيعية وتحويل الزمان إلى تاريخ حضاري بعد أن كان طبيعيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكل فرد من الجماعة له نصيب من هذه الأحياز في كيانه الطبيعي الذي يصبح حضاريا‪:‬‬ ‫فبدنه هو جغرافيته الذاتية التي أصبحت حضارية بعد أن كانت طبيعية وروحه هي تاريخه‬ ‫الذاتي الذي أصبح حضاريا بعد أن كان طبيعيا‪.‬‬ ‫فتتوازى الاحياز الخارجية المحيطة بالإنسان مع الأحياز الذاتية التي هي كيان الإنسان‬ ‫وهو نصيبه من الأولى فعلا وانفعالا‪.‬‬ ‫وما بين نوعي الأحياز الخارجية والداخلية هو عين ما بين الإنسانية والعالم الطبيعي‬ ‫والبايولوجي من علاقات هي جوهر ما نسميه حضارة‪.‬‬ ‫فحيز اقليمنا الجغرافي فيه أههم ثروات العالم الأرضية والبحرية والجوية ليس اليوم‬ ‫فسحب بسبب ما تحت الأرض وما فوقها وبسب إحاطة كل البحار الدافئة بها وخاصة بسبب‬ ‫كل طاقات المستقبل وثرواتها كما كانت دائما فيه‪ .‬وليس بالصدفة أن أسس أهله أدوات‬ ‫الوجود الإنساني الأساسية كالحرف والرقم والرياضيات والتنظيم الاجتماعي والسياسي‬ ‫والديني والفلسفي وأهمها الدولة‪.‬‬ ‫وبذلك يصبح الإقليم هو أول من صنع الحيزين الناتجين عن فعل الإنسان في الطبيعة‬ ‫أي حيز الثروة وحيز التراث‪ .‬وبين أن هذين يتفاعلان فيكون للثروة دور في التفرغ للبحث‬ ‫العلمي وللتراث (تراكم الخبرة) دور في انتاج الثروة وهذان هما العاملان الثانيان بين‬ ‫الجغرافيا الطبيعية كيان الإنسان الطبيعي‪.‬‬ ‫وعلى هذه العوامل الأربعة بنى ابن خلدون كل نظريته‪:‬‬ ‫‪ .1‬الجغرافيا الطبيعية وتحولها إلى جغرافيا حضارية (المكان خاصة)‬ ‫‪ .2‬وكيان الإنسان الطبيعي وتحوله إلى كيان حضاري (التاريخ خاصة)‬ ‫‪ .3‬فنتجت الثروة وهي ثمرة تحويل الجغرافيا الطبيعية إلى جغرافيا حضارية‬ ‫‪ .4‬ونتح التراث وهو ثمرة تحويل التاريخ الطبيعي إلى تاريخ حضاري‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬فتاسست الجماعات وأنظمتها السياسية أو الدول التي هي شرط الحماية والرعاية‬ ‫في الجماعة‪ .‬وهذا هو موضوع علمه أو شبكة المفهومات الرئيسية في مصنفه بشرط فهمها‬ ‫ذهابا من الفصل الثاني إلى السادس وإيابا من السادس إلى الثاني‪.‬‬ ‫أما الباب الاول فهو تأسيس هذه الرؤية التي تتجاوز ما بعد الطبيعة اليونانية إلى ما‬ ‫بعد التاريخ الإسلامية‪ .‬وقد شرحت فهمها ذهابا وإيابا‪ :‬فإذا ذهبنا من الباب الثاني إلى‬ ‫الباب السادس تناقص دور عامل الجغرافيا الطبيعية التي تكون قد تحولت بصورة شبه تامة‬ ‫إلى حضارية (فعل الطبيعة) وتزايد دور عالم كيان الإنسان الطبيعي الذي يكون قد صار‬ ‫حضاريا تاما (فعل الثقافة‪ :‬فعل الإنسان) وإذا عدنا كان العكس أي تزايد دور الطبيعة‬ ‫وتناقص دور الحضارة وتناقص دور فعل الإنسان وتزايد دور المحيط الطبيعي‪ :‬فينكص‬ ‫الإنسان دور الإنسان إلى شبه عبد للطبيعة كما هي حال البداوة‪.‬‬ ‫والمثال نراه بأم العين‪ :‬فـ\"أغنياء العرب\" لا يعملون شيئا مما يظن حضارة من حولهم بل‬ ‫هم نكصوا إلى البداوة لأن ثروتهم وتراثهم ليسا من صنعهم بل هم يعيشون على تراث‬ ‫انتجه الأوائل وعلى ثروة تنتجها الطبيعة وعمل غيرهم‪ .‬فهم يبيعون منتوج الطبيعة الذي‬ ‫اكتشفه الغرب واستخرجه واحتاج إليه وحوله وباعه وجمع ثروته وسيطر على أرضه وعلى‬ ‫ناسه‪.‬‬ ‫فالغرب هو الذي صار صاحب الاحياز العربية الأربعة ليس باحتلالها فحسب بل بكونه هو‬ ‫الذي جعلها تصبح ثروة ولم يبق صامدا إلا التراث الذي انتجه السلف وهم بصدد الحرب‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫وحتى المرجعية أي الإسلام فهم يحاربونها‪ .‬فحربهم كلها عليه‪ .‬طبعا ليس من الشعوب‬ ‫بل من العملاء منهم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لذلك فكل بلاد العرب محميات \"غنيها\" وفقيرها‪.‬‬ ‫كلها متسولة في الرعاية وتشترك مع التي تظن نفسها غنية في تسول الحماية‪ .‬بحيث إن‬ ‫كل العرب اليوم هم أكثر شعوب المعمورة كسلا وتبعية لا يعملون ليعولوا أنفسهم ولا‬ ‫يجاهدون ليحموا أنفسهم‪ .‬يستوردون كل شيء إما من الطبيعة أو من حضارة غيرهم فلا‬ ‫يبدعون شيئا بل هم عيال كما قال ابن خلدون يدينون بكل شيء لغيرهم إما للسلف أو‬ ‫للمستعمر وهم يعيشون عيش الانعام أو دون ذلك‪.‬‬ ‫نكصوا إلى دون ما كانت عليه الجاهلية التي كانت تتناهب لعيشها خارج تاريخ المعمورة‪.‬‬ ‫ولا شيء يستفزني أكثر مما يقدمه \"اغنياؤهم\" لفقرائهم من معونات هي إهانة للمستعين‬ ‫والمعين لأنها من تفضل الذليل على الاذل‪ .‬إنما هم الآن يتناهبون بعضهم على بعضهم في‬ ‫حين أن من يجندهم في هذه اللعبة القذرة يحول دونهم وشروط القوة ويقويهم على‬ ‫شعوبهم لنهبها حتى يدفعوا له الجزية مقابل حامية استبدادهم وفسادهم وطغيانهم على‬ ‫شعوبهم‪.‬‬ ‫فعندما ترى بلدا ممن يتصورون أنفسهم اغنياء يقدمون عطايا لبلد من فقراء العرب‬ ‫فليس ذلك تراحما بينهم لأن التعاون ليس عطايا بل مشاركة في الاستثمار الراعي والحامي‬ ‫وإذن فهي عطايا هدفها المحافظة على الخريطة التي فرضها أعداؤهم لجعلهم عاجزين عن‬ ‫وحدة تمكنهم من الاستغناء عن الحماة‪.‬‬ ‫وقد عرف ابن خلدون الجماعات التي هذا مآلها بكونها جماعة فقد الإنسان فيها \"معاني‬ ‫الإنسانية\" وصار عالة على غيره في رعاية نفسه وأهله وحمايتهما وردهما إلى عاملين هما‪:‬‬ ‫التربية والحكم العنيفين‪.‬‬ ‫فمن ينكر أن المسلمين عامة والعرب خاصة تربيتهم وحكمهم منافيتان للإسلام وأفسد ما‬ ‫يوجد؟ فتربيتهم عنيفة بمعنى أنها مشروطة بتبعية الفرد لجماعة تابعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وحكمهم عنيف لأنه لا يستمد شرعيته من إرادة الجماعة بل من إرادة حاميه الذي‬ ‫فرضه عليها‪.‬‬ ‫وختاما فيكفي أن نذكر أن المسلمين عامة والعرب خاصة يعيشون منذ ‪14‬قرنا في حالة‬ ‫طواري دائمة بسبب الحروب الأهلية التي ترتبت على الفتنة الكبرى بداية وضاعفتها‬ ‫الفتنة الصغرى غاية وبسبب الغزو الخارجي منذ الصليبيات فالمغوليات الشرقية الماضية‬ ‫فالاسترداديات فالاستعماريات فالمغوليات الغربية الحالية‪.‬‬ ‫جل حكام العرب إن لم يكونوا أجانب فهم من مزدوجي الجنسية ومن ثم فهم أشد عداوة‬ ‫من الأجانب للشعب ولحضارته‪.‬‬ ‫فإذا فهمنا دور الفتنة الكبرى فهمنا علاقة تراث الإسلام بتراث ما قبله الذي يحاربه‪:‬‬ ‫فالصفوية والصهيونية تمثلان انتقام ماض سابق يعود ليحارب الإسلام الذي هزمهم‪.‬‬ ‫وإذا فهمنا دور الفتنة الصغرى فهمنا علاقة تراث الإسلام بتراث يظن ما بعده الذي‬ ‫يحاربه‪ :‬فالروس والامريكان وتوابعهما من أوروبا يعتبرون أنفسهم حضارة حديثة تحارب‬ ‫الإسلام الذي هزمهم في القرون الوسطى‪ .‬والفتنة الكبرى رمزها الطعن في الخلافة‬ ‫الراشدة‪.‬‬ ‫والفتنة الصغرى رمزها إسقاط الخلافة في الربع الأول من القرن العشرين‪.‬‬ ‫‪13‬فعل الإنسان هو تاريخه وتراثه وفعله في جغرافيته هو ثروته‪.‬‬ ‫وكلاهما حيز صنعه الإنسان يناظر الحيزين الطبيعيين أي المكان والزمان في وجود‬ ‫الإنسان‪.‬‬ ‫• والأول علة وجود الأمة المادية وهو رصيد بقائها في جغرافيتها وعلته‪.‬‬ ‫• والثاني علة وجودها الغائية وهي رصيد بقائها في تاريخها وعلته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا يمكن لأمة أن تنجح في السيطرة على حيز المكان وحيز الزمان سيطرة تجعلها قادرة‬ ‫على التربية والحكم المحررين للإنسان رعاية وحماية‪.‬‬ ‫وتلك هي علة عدم الاستقرار الدائم في تاريخنا الذي شتت وفي جغرافيتنا التي فتتت‪.‬‬ ‫فتاريخ الأمة أي تاريخ علاقتها بالطبيعة وتاريخ علاقتها بالحضارة ظلا بين فكي كماشة‬ ‫فكها الأول هو ما تقدم على الإسلام وفكها الثاني هو ما تأخر عنه وكلاهما يحيط به ويحاربه‬ ‫بالعملاء من أبنائه‪ :‬فالعرب منذ قرن صاروا يؤسسون شرعية دولهم ليس عليه بل على ما‬ ‫قبله ثم صاروا يؤسسها على ما بعده‪.‬‬ ‫ولهذه العلة لا يمكن للفتنة الكبرى ممثلة بخرافتي التشيع أي الوساطة بين المؤمن وشأنه‬ ‫الاخروي والوصاية بين المومن وشأنه الدنيوي ‪-‬معنى سلطة الأيمة الروحية والحكم بالحق‬ ‫الإلهي ‪-‬ألا تكون متحالفة مع كل أعداء الإسلام وآخرهم دعوة القومية والعلمانية التي‬ ‫تمثل الفتنة الصغرى في دار الإسلام‪.‬‬ ‫اليوم أعدى أعداء الإسلام هو تحريفه الباطني للحرب عليه بصورة مشوهة منه‪.‬‬ ‫وختاما فإني اعتذر للقراء لاستعمالي هذه المصطلحات الغريبة التي عودهم عليها‬ ‫الكاريكاتوران التأصيلي والتحديث بتحليلاتهم السطحية‪ :‬فما سميته الفتنة الصغرى هي‬ ‫بالذات عكس الفتنة الكبرى‪:‬‬ ‫• الاولى تؤسس للثيوقرطيا المنافية للإسلام‬ ‫• والثاني للانثروبوقراطيا المنافية للإسلام‪.‬‬ ‫لكنهما يعتمدان على نفس البنية العميقة ولهما نفس المفعول لأنهما ينافيان ثورتي‬ ‫الإسلام الذي يرفض الفتنتين اي الثيوقراطيا (الحكم باسم الله) والأنثروبوقراطيا‬ ‫(الحكم باسم الأنسان) لأن الحكم فيه تحدده الشورى ‪ 38‬وسبق شرحه مرات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن لا بأس من التذكير به بصورة موجزة‪ .‬فالآية تحدد \"ما قبل\" و\"ما بعد\" نظام الحكم‬ ‫وأسلوبه كما يعرفهما الإسلام مع علامتين أولاهما دالة على \"الماقبل\" والثانية على \"المابعد\"‪.‬‬ ‫فالآية تبدأ بالاستجابة للرب وعلامتها الصلاة وتنتهي بعلاج مسألة الاقتصاد والاجتماع‬ ‫علامتها الانفاق من الرزق‪ .‬وبين الماقبل والمابعد نجد طبيعة النظام وأسلوبه‪.‬‬ ‫فطبيعة النظام هي \"أمر‪+‬هم\" وهي بالاصطلاح السياسي في عصر نزول القرآن تعني‬ ‫باللاتينية راس‪+‬بوبليكا (في روما) أي نظام الحكم الجمهوري‪ .‬وأسلوبه \"شورى‪+‬بينهم\"‬ ‫تعني بالاصطلاح اليوناني \"ديمو‪+‬قراطيا\" (في أثينا) أي أسلوب الحكم تشاوري‪.‬‬ ‫فيكون الحكم جمهوريا ديموقراطيا‪ :‬لكن هذا التعريف ضاع في النظر والعمل بطريقتين‬ ‫عربية نكوصا إلى القبيلة الغالبة وفارسية نكوصا إلى الاسرة المقدسة‪.‬‬ ‫والطريقة العربية هي التي غلبت فحكمت في البداية وهو اختيار معاوية ‪-‬حكم القبيلة‬ ‫الأقوى أو العصبية الاقوى بلغة ابن خلدون دون أن يلغي الدستور القرآني لكنه بقي شكليا‬ ‫دون شرطه أي حرية البيعة وسلطة الشريعة‪.‬‬ ‫والطريقة الفارسية هي التي عارضت الذي وهو اختيار التشيع وبدأ مع علي ‪-‬حكم أسرة‬ ‫مقدسة ‪-‬وكلاهما نفي للإسلام صريح مع فرق نعينه لاحقا لإلغائهما سلطة اختيار الأمة‬ ‫(الغزالي)‪.‬‬ ‫والرواية السائدة تجعل عليا أكثر شرعية من معاوية وهي من الأكاذيب الشيعية لأن‬ ‫ابن خلدون بين أن بيعة علي لم تكن حقيقية بل وهي قد تمت تحت ضغط اغتيال الخليفة‬ ‫الشرعي الذي وإن لم يكن متواطئا معه بصورة موجبة فإن موقفه السلبي من حمايته فيه‬ ‫شبهة المشاركة السلبية أي عدم منع الاغتيال‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما حافظت عليه طريقة معاوية وإن شكلا يجعلها أقرب إلى ما ألغته طريقة علي شكلا‬ ‫ومضمونا‪.‬‬ ‫وبهذا أختم‪ :‬فالفتنة الصغرى هي بدورها بدأت في أكبر بلد عربي ‪-‬مصر‪-‬باغتيال رئيس‬ ‫جمهورية منتخب من الشعب تقريبا بنفس الطريقة التي اغتيل بها عثمان وبنفس الانقلاب‬ ‫رغم أن من قام به يعتبر جيشا رسميا وليس مليشيا مثل التي اغتالت عثمان‪.‬‬ ‫لكن الجيش الذي يخرج على سلطة شرعية ليس جيشا بل هو من جنس المليشيا التي أتت‬ ‫من مصر والعراق لاغتيال عثمان الخليفة الشرعي‪.‬‬ ‫لن تجد في محاولاتي الموجهة للجمهور‪-‬وهذه منها‪-‬ابتعادا عن دقة التعبير العلمي وصدقه‬ ‫الخلقي لتشخيص حال الامة تشخيصا في متناول القارئ العادي حتى وإن كنت لا اتخلى عن‬ ‫المفهومات النظرية الأساسية المقومة لفلسفة السياسة وللاستراتيجية الحضارية وحتى‬ ‫الحربية ولفلسفة التاريخ وفلسفة الدين‪ .‬لذلك فهذا العمل لا يبحث عن مغازلة الجماهير‬ ‫بل هو محاولة لجعلها مسلمة بحق تعتبر الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطا بالعمل‬ ‫على علم ووعي بالمحددات العميقة لمجريات تاريخ الأمة‪.‬‬ ‫ويوم يتخلص العرب من الكاريكاتورين‪-‬كاريكاتور الفكر الذي يدعي اصحابه التحديث‬ ‫وهم سلفية استيراد روبافيكيا قشور الفكر الغربي الذي يجهلونه وكاريكاتور الفكر الذي‬ ‫يدعي أصحابه التأصيل وهو سلفية احياء قشور الفكر الإسلامي الذي يجهلونه لأن النوعين‬ ‫عبيد المقابر ولا علاقة لهما بالعلم الحي‪ .‬فالعلم الحي ليس تاريخ العلم بل هو العلم الذي‬ ‫يطلب قوانين موضوعه فيتحرر من عرض المعلوم السابق لذاته بل لمكافحته بما يتجلى من‬ ‫موضوعه وكان خفيا في التراث السابق أو معدوما فيه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلا يمكن ألا يكون أحمق من يتصور المادية الجدلية علما للتاريخ والاجتماع والسياسة‬ ‫وليست إيديولوجيا أو من يستعرض أحوال نفسه فيلسوفا سواء كانت حداثية أو ما بعد‬ ‫حداثية أو من يحول فصلت ‪ 53‬جعلت للوعظ والإرشاد واستبدلوها بالداءين اللذين تشير‬ ‫إليهما آل عمران ‪ 7‬للتأويل بحجة الرسوخ في العلم‪.‬‬ ‫فصلت ‪ 53‬تدعونا لتبين حقيقة القرآن في ما يرينه الله من آياته في الآفاق (الطبيعة)‬ ‫والأنفس (التاريخ) والاولى حدد القرآن قوانينها جمعا بين الرياضي والتجريبي والثاني‬ ‫حدد القرآن سننه التي لا تتبدل ولا تتغير فجعل الله القرآن لا تتبين حقيقته بغير البحث‬ ‫العلمي وليس بالتحيل التأويل للغة‪.‬‬ ‫وهذان الكاريكاتوران أفسدوا التربية والطغاة الحاكمون أفسدوا الحدم‪.‬‬ ‫والجمع بينهما يعلل به ابن خلدون فساد معاني الإنسانية التي هي فقدان شروط الرعاية‬ ‫وشروط الحماية والتحول أمة من العيال وهذا كلام ابن خلدون وليس كلام (راجع ‪40.6‬‬ ‫من المقدمة) والنكوص أسفل سافلين=عودة الأمة إلى العبودية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما شرعت في إملائه أمس لفهم سر تعثر العرب خاصة والمسلمين عامة وعجزهم دون‬ ‫الشروط التي تجعل الأمم قادرة على التكيف مع العصر فتحقق شروط الرعاية والحماية‬ ‫ومحاولة استعمال فكر ابن خلدون الذي عالج الجزء المقوم لهذه الشروط أود الآن مواصلة‬ ‫البحث بما أضفته لثورته التي أفسدها الكاريكاتوران اللذان عقما الفكر فصار عاجزا على‬ ‫علاج العلاقة بين الإنسان ومحيطه الطبيعي وبينه وبين محيطه الثقافي‪.‬‬ ‫فكاريكاتور التحديث بنفس عقد توابع حضارة لم يدركوا سر قوتها الحقيقي صاروا‬ ‫يبحثون عما يثمنون حضارتهم بما هو ثمين في حضارته رفعا للخصوصي إلى منزلة الكلي‬ ‫بحماقة السبق في ما ينسب إلى الغرب‪ .‬وذلك ليس فكرا بل هو تعبير عن عقد نقص‪.‬‬ ‫فالسبق المزعوم دليل اخفاء عقدة‪.‬‬ ‫والأخذ الاعمى دليل توهم الاستيراد يمكن أن يعوض الابداع‪ .‬لكنه في الحقيقة هو عين‬ ‫التحديث العنيف الذي يفرض خصوصي الغير وكأنه كلي البشر جميعا‪.‬‬ ‫فصار ابن خلدون بين خليتين‪ .‬فهو إما يرد إلى عصره حصرا فيه لكأن عصره خال من‬ ‫الكوني أو يرد إلى عصر من يزعمون أنه سابق عليهم في ما يناسب عصرهم لكأنه هو‬ ‫الكوني‪.‬‬ ‫ومن ثم ينتج رد فعل كاريكاتور التأصيل الذي يذهب إلى أن العلم بذاته ينبغي أن يكون‬ ‫خصوصيا‪ :‬علم اجتماع عربي أو اسلامي‪ .‬وقد بدأت هذه المعركة بين انطون وعبده في مصر‬ ‫استنادا إلى توهم محاكاة محمد علي لنابليون هي بداية النهوض العربي‪.‬‬ ‫ولذلك فالكاريكاتوران لهما نفس الفكر حتى وإن بدوا متناقضين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كلاهما يخلط بين مضمون العلم الذي هو دائما أعيان ممثلة للكلي بما يشبه المطابقة‬ ‫الوهمية خصله مع النظر العلمي الذي يختلف بالجوهر عن المضمون الممثل‪ .‬ولا أحد منهما‬ ‫يرد إلى الثاني‪.‬‬ ‫فأسمى علوم الطبيعة نظريات قوانينها لا ترد لتجاربها الممثلة‪ :‬علاقة أعيان بتأويل‪.‬‬ ‫المضمون العملي من جنس قيم الصيغ الرياضية التي هي شكلية بالجوهر‪.‬‬ ‫فإذا نظرنا إلى ابن خلدون بحثا عن الكلي والكوني في مقدمته بالاعتماد على مقارنات‬ ‫سطحية وجدنا أنه لا علاقة له بكونت أو بماركس أو حتى بهيجل بل هو فريد نوعه في ما‬ ‫توصل إليه من كليات موضوعه إذا تجاوزنا أعيان مضمونه‪.‬‬ ‫وأكثر المضامين تمثيلا لذلك هو ما يعده الكثير أهم مفهوماته حتى كاد المرحوم الجابري‬ ‫حصر عمله فيه‪ :‬العصبية‪ .‬فالعصبية ليست مفهوما نظريا بل هي مضمون ممثل للمفهوم‪.‬‬ ‫ولو وقفنا عند دلالتها المضمونية لاستحال فهم فكر ابن خلدون‪.‬‬ ‫لكن المفهوم الذي هي مضمونه له خمس دلالات عينية ولا واحدة منها مثل دلالته‬ ‫النظرية‪ .‬فهذه ليست عصبية بل هي المفهوم الذي تكون هذه الأعيان أو العصبيات العينية‬ ‫أمثلة عينية منه دون أن تكون إياه إلا بما فيها من المفهوم النظري الذي غاب في فكرهم‬ ‫فاستحال الذهاب إلى قصده‪.‬‬ ‫وفهم قصده لا يكون ممكنا ما لم ننطلق من عنوان المقدمة‪\" :‬علم العمران البشري‬ ‫و(علم) الاجتماع الإنساني\"‪ .‬فيكون السؤال الفلسفي الجدير بالوضع هو أي دور‬ ‫لـ\"العصبية\" مضمونيا في \"بشرية العمران\" وفي \"إنسانية الاجتماع\"‪ .‬وجواب ابن خلدون هو‬ ‫ما به يكون مفهوم الإنسان متحدد بدور العمران والاجتماع في وجوده والأول يتعلق‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بـ\"التنازل (أي المشاركة في المنزل) لسد الحاجات\" والثاني يتعلق بـ\"التنازل (أي المشاركة‬ ‫في المنزل) للأنس بالعشير\"‪.‬‬ ‫وعندئذ يتبين دور العصبية السالب والموجب في تحديد هذا الدور‪ .‬فقد قابل ابن خلدون‬ ‫بين دورها السالب وسماه \"العصبية المفضية للهرج\"‪ .‬ودورها الموجب وسماه \"العصبية البانية‬ ‫للجماعات\" التي تتطور فتكون دولا هي شرط الجواب عن حاجة العمران وشرط الجواب‬ ‫عن حاجة الاجتماع فتحقق وظائف مقومي الإنساني‪ :‬من حيث استمداده لشروط بقائه‬ ‫العضوية من الطبيعة ومن حيث استمداده لشروط بقائه الروحية من التاريخ‪.‬‬ ‫فهو أولا يعرف العمران بما يمكن تلخيصه على النحو التالي \"التنازل لسد حاجات العيش‬ ‫المادي بالتعاون والتبادل والتعاوض العادل\" وشرطه الأمن الداخلي‪ .‬وهذا لا يمكن أن‬ ‫يتحقق من دون عصبية أي لحمة تحقق التنازل من المنزل هو مستوى أداتي من حياة البشر‪-‬‬ ‫اي الانتساب إلى جماعة متساكنة‪.‬‬ ‫ثم هو يعرف الاجتماع بما يمكن تلخيصه على نحو مماثل لكنه أسمى وهو مستوى غائي‬ ‫من حياة الإنسان‪.‬‬ ‫وهذا المستوى الثاني لا يتعلق الامر فيه بالتنازل لسد الحاجات المادية وقد سماه ابن‬ ‫خلدون بالعمران البشري بل التنازل‪-‬المشاركة في المنزل‪-‬لسد الحاجات الروحية وقد سماه‬ ‫ابن خلدون بالاجتماع الإنساني \"للأنس بالعشير\" اي للتآنس وليس للتعايش فحسب‪.‬‬ ‫وكلاهما بحاجة إلى \"عصبية\" من حيث هي لحمة حاملة لما يضمن شرطي التعايش المادي‬ ‫والروحي أي الرعاية والحماية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فالعصبية عين من أعيان المفهوم المجرد الذي هو علة التلاحم في الجماعة‪ :‬ضرورة‬ ‫التعاون والتبادل والتعاوض العادل وضرورة التلاحم والتواصل بالتعارف والتفاهم‪ .‬ولو‬ ‫حللنا كلمة عصبية الآن لوجدنا القصد الذي جعله يستعملها للدلالة على هذا المفهوم المجرد‪:‬‬ ‫فالجذر \"عصب\" جزء من البدن ينقل أوامر المخ لكل جوارح البدن‪ :‬مقارنة بين الجماعة‬ ‫والكائن ذاتي التنظيم أمرا ونهيا‪ .‬و\"الياء\" فيه تفيد النسبة إلى هذا المعنى و\"التاء\" تفيد‬ ‫المصدر الصناعي‪\" :‬عصب(ـيـ)ـة\"‪ .‬فيكون المعنى هو عين المفهوم المجرد‪ :‬نظام أمر الجماعة‬ ‫من حيث هو نظام سلطة لاحمة تحقق شروط التبادل والتواصل شرطي وجود الجماعة‬ ‫المنظمة‪.‬‬ ‫وهي إذن مقابل العصبية المفضية للهرج أي بمقياس البدن هي غير فوضى البدن الذي‬ ‫ليس لصاحبه سلطان عليه‪ .‬ولذلك فقد أحصى ابن خلدون خمس تعينات لهذا النظام حتى‬ ‫وإن كانت جل أمثلته من التعين الأول الذي كان سائدا في الدول التي تكلم عليها‪ .‬لكنه‬ ‫أشار إلى الأصناف الاربعة الموالية‪.‬‬ ‫فأعمها أشار إليه بصفتي \"بشري\" و\"إنساني\" وهي العصبية الأسمى وهي التي يعتمدها‬ ‫الإسلام في النساء ‪ 1‬وفي الحجرات ‪ .13‬وذكر ما بين عصبية الإنسانية غاية وما بين عصبية‬ ‫القبيلة بداية‪.‬‬ ‫فبين عصبية الدم وهي الغالبة في المقدمة عندما يؤرخ للعصبيات التي كانت سائدة تأتي‬ ‫عصبية الولاء النفعي لما يريد الحاكم التحرر من عصبية الدم التي تقاسمه السلطة ليتفرد‬ ‫بها‪ .‬ولما يحجر عليه مواليه من الموالي فيسيطرون على الحكم (ظاهرة البرامكة) يحاول‬ ‫التخلص منها بعصبية قومية (عروبة الأمين قبل افتكاك الفرس الحكم ورده للمأمون)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ثم لما يتحقق نوع من تعدد العصبيات يبحث صاحب السلطان على عصبية أرفع جامعة‬ ‫وهي عصبية الولاء الديني إذ صارت دولة الإسلام في إحدى مراحل تاريخها خليفتها سني‬ ‫وحاكمها الفعلي شيعي (الدولة البويهية) ثم سني غير عربي (الدولة السلجوقية) والجامع‬ ‫في هذه الحالة ليس دمويا ولا موالاة مصلحية ولا قومية بل هي موالاة دينية جامعة وأعم‪.‬‬ ‫لكنها تبقى دون العصبية التي تتجاوزها كلها والتي هي غاية الإسلام وغاية المقدمة في‬ ‫فهم تاريخ البشرية ويمكن القول إن أقرب شيء إليها هو العولمة لو جمعت بين المادي‬ ‫والروحي كما يريد لها الإسلام‪.‬‬ ‫فالعولمة المقصودة في الإسلام تشترط الاخوة البشرية (النساء ‪ )1‬والمساواة بين البشر‬ ‫مع التعارف الإنساني معرفة ومعروفا (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫وهو ما يمكن أن نسميه العولمة التي لا تقتصر على المادي بل تجمع بينه وبين الروحي‬ ‫وذلك هو مستقبل الإنسانية وما يجعلني أعتبره سر معركة الغربية مع الإسلام‪ .‬وإذا فهمنا‬ ‫ذلك فهمنا الحرب على الإسلام في هذه‪ :‬أصحابها يخشون الاستئناف الإسلامي لهذه العلة‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فإن ابن خلدون وضع النظرية التي تفهمنا الراهن والمستقبل‪ .‬فهي ليست‬ ‫نظرية مقصورة على عصره أو قابلة للرد إلى عصر نهاية الحداثة‪ :‬فكونت وماركس يمثلان‬ ‫نهاية الحداثة وبداية ما بعدها الذي يبحث عن مخرج من مآ زقها فينكص إلى عصر‬ ‫السرديات الوثنية‪.‬‬ ‫وكل مقارنة بين نظريته ونظرية كونت أو ماركس حط من قدره وليست رفعا منه‪ .‬فهو‬ ‫أدرك ما لا يمكن أن يدركاه حتى وإن حاولا الوصول إلى ما وصل إليه الأول عندما سعى‬ ‫لإصلاح نظريته لم فهم \"الأنس بالعشير\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الثاني امتنع عليه ذلك لأنه يخلط بين التعمير والتدمير مثله مثل هيجل كما يتبين‬ ‫من مفهوم الآوفهيبونج الذي يعني التجاوز الناسخ والذي له تصور خطي للتاريخ بمنطق‬ ‫صراع أرواح الشعوب الذي عوضه ماركس بصراع الطبقات‪ .‬هذا ما لا يقبل المقارنة مع ما‬ ‫تفيده النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬وما صارت الإنسانية أكثر اشرئبابا لتحقيقه بالفعل للتحرر‬ ‫من التدمير الذي ظنوه تعميرا‪.‬‬ ‫فلا يمكن لنظرية ماركس أن تبني إنسانية متآخية ومتآنسة ومتعارفة لأنه من البداية‬ ‫يرد كل شيء إلى المادي ولا يعترف بالروحي مقوما لا يقل أهمية عن المادي تسليما بالتمييز‬ ‫بينهما لأني اعتقد أن الفصل بينهما من تحريف الدين والفلسفة‪ .‬ولا بد هنا من فهم معنى‬ ‫الاستضعاف والاستقواء‪.‬‬ ‫فالاستضعاف والاستقواء كلاهما يكون بذاته ويكون بغيره مثله مثل الوجود ورؤاه‪.‬‬ ‫فالأمة تكون مستضعفة بذاتها أو بغيرها بهما معها أو بما يترتب على أحدهما في ثانيهما‪.‬‬ ‫وكذلك الاستقواء‪.‬‬ ‫والمستضعفون بغيرهم يعملون لدى المستقوين لمنع من صاروا مستضعفين بذاتهم استبطانا‬ ‫للأمر الواقع وكأنه أمر واجب‪ .‬وما أن تعود إليهم القوة بالذات التي لا تضعف إلا أمام‬ ‫الله يصبحون قوة لا تقهر‪.‬‬ ‫وذلك هو ضعنا الحالي إذ عاد إلينا عنفوان الحرية الكرامة وفهمنا علل فساد معاني‬ ‫الإنسانية كما عرفه ابن خلدون وعلله بعنف التربية وعنف الحكم‪ .‬واعتقد أن فضل‬ ‫الربيع علينا وفضل تركيا معه أنهما جعلا هذا دور أدوات الغرب في إذلال الأمة مفضوحا‪.‬‬ ‫لم يبق الأعداء من النوع الذي ذكرته الأنفال ‪ 60‬و\"آخرون لا تعلمونهم الله يعلمهم\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫صرنا نعلمهم ونعلم أن ذلك قد صار دليلا قاطعا على أنهم بجمعهم الحربين ضد الربيع‬ ‫وصد تركيا اعترفوا بسايكس الثانية ورديفتها الصفقة الكبرى لاستكمال سايكس بيكو‬ ‫الأولى ورديفها وعد بلفور‪.‬‬ ‫وتبقى الخطوة التي من دونها كل ما حاولت صوغه نظريا ما لم تحصل المعجزة التي هي‬ ‫أخت البداية‪ :‬فثورة الإسلام الاولى كانت بالضبط عين ما ينبغي أن تكون عليه ثورتنا‬ ‫تحقيق ما سعت إليه وأعدنا لنكون الجيل الذي عليه أن يحقق الاستئناف الفعلي للمعجزة‬ ‫الأولى‪ :‬أن نتحرر من ضعفنا بذواتنا والبقية لا يهم‪.‬‬ ‫والبداية حققها شعب سوريا وشعب ليبيا بصمودها الاسطوري‪.‬‬ ‫فلو لم يصمدا لاستحال أن أصل إلى هذا الفهم للمشكل ولما فهمت علاقة تركيا‬ ‫بالصمودين وهي نقيض علاقتها السقوطين في الحرب العالمية الاولى‪.‬‬ ‫ولست أدري هل قيادات تركيا على بينة بكل ذلك بصورة نظرية أو بحدس القادة‬ ‫التاريخيين الموهوبين فطريا دون تأسيس نظري من جنس الذي أحاول بيانه فلسفيا وتاريخيا‬ ‫بنظرية الأحياز‪.‬‬ ‫لذلك فلا بد من استكمال نظرية الأحياز التي أفسر بها محاولة ابن خلدون بما أسسته‬ ‫سابقا ولم أقله هنا‪ .‬فالأحياز الخمسة الخارجية ‪-‬الجغرافيا والتاريخ والثروة والتراث‬ ‫والمرجعية ‪ -‬تحيط بالإنسان كفرد لكنها لا تصل إليه مباشرة بوصفه فردا بل هي تمر حتما‬ ‫بعلاقة فرديته بجماعة تتوسط بينه وبين الطبيعة فرديته التي لها دور‪.‬‬ ‫فيكون فردا معطيا وآخذا أي ذا نصيب من الأحياز الخارجية الخمسة متعينة في كيانه‬ ‫العضوي والروحي وهي أحياز ذاتية له‪ :‬فله \"جغرافيا\" ذاتية هي بدنه وله تاريخ ذاتي‬ ‫هو \"روحه\" وهما متفاعلان تفاعل مصدرهما الخارجي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا النصيب في الاخذ والعطاء بتوسط دوره في الجماعة يتعين في كيانه العضوي‬ ‫والروحي بمعنى أن كيانه العضوي هو النصيب الذي يأخذه من حيث هو كائن عضوي حي‬ ‫بتوسط دوره في الجماعة من الاحياز الخارجية التي يتغذى منها والتي تمثل المناخ الطبيعي‬ ‫للحياة وهما دورا الجغرافيا غذاء ومناخا كما أسلفت‪.‬‬ ‫فيكون كل فرد في آن وكأنه عصارة ما بين الجماعة والحيز الجغرافي من تفاعل يتحقق في‬ ‫كيانه‪.‬‬ ‫ولولا ذلك لاستحال أن نفهم منزلة \"الملكية\" في وعي أي فرد وعلاقة ذلك بأهمية منزلتها‬ ‫في الشريعة الإسلامية‪ .‬فمن يعرف القانون الجنائي الإسلامي أن عقوبة السرقة بنوعيها‬ ‫غير المسلحة (السرقة) والمسلحة (الحرابة) يعلم أنها أشد العقوبات فيه حتى إنها لا يوجد‬ ‫فيها عفو بخلاف قتل النفس مثلا‪ .‬وهو أمر كان يحيرني لما درست القانون وقارنته بالشريعة‬ ‫حتى فهمت هذه العلاقة‪.‬‬ ‫فمن دون \"الملكية\" لا يمكن للإنسان أن يتحرر من أصل العبودية لغير الله‪.‬‬ ‫فهي التي تطمئن الإنسان على غده وهي السر في مفهوم النصاب شرطا في الزكاة لأن‬ ‫النصاب يجعل الإنسان مطمئنا سنة كاملة فلا يكون عبدا للحاجة‪ .‬ومن ثم فالملكية هي شرط‬ ‫التغلب على ما يمكن أن أسميه كناية بشرط المائدة (الغذاء) وشرط السرير (الجنس)‪.‬‬ ‫وهما ما به يستعبد الإنسان المسيطر عليهما على الإنسان الفاقد لهما‪ .‬فعندما يكون‬ ‫الإنسان مدينا بهما لغيره يكون عبدا لهذا الغير وليس عبدا لله‪.‬‬ ‫فمن يسيطر عليهما يسيطر على الفرد‪ :.‬وبهما يسيطر الغرب على العرب بعد أن فتت‬ ‫حيز المكان الجغرافي ليبقى العرب عاجزين عن التنمية الاقتصادية وشتت الزمان التاريخي‬ ‫ليبقى العرب عاجزين عن التنمية الروحية علما وعملا‪ .‬ذلك أن ما قلناه عن سد الحاجات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المادية كناية بالمائدة والسرير يمكن قوله عن الحاجات الروحية بما يتعالى عليهما أي فنون‬ ‫المائدة وفنون السرير وهما الوصل بين المادي والروحي ومصعد الارتقاء القيم الأسمى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تمهيد‬ ‫\"وسيط بين الفصل الثلاثة المتقدمة على الفصل الرابع والثلاثة المتأخرة عنه\"‬ ‫وصلنا إلى النص الأوسط من السبعة الموعود بها‪.‬‬ ‫ولا بد فيه من الاعتذار عن أمرين قبل مواصلة هذه المحاولة لفهم ما يجري بالاعتماد على رؤية‬ ‫خلدونية مطورة لأنها تتضمن أثر ما يغفله التحليل الهيجلي الماركسي للتاريخ الإنساني التحليل‬ ‫الذي لو اكتفينا به لاستحال فهم المشكل الذي نريد علاجه ليس بوصفه أزمة نهوض الامة فحسب‬ ‫بل بوصفه تكثف أزمة الإنسانية في تاريخها وظن الغرب أنها أزمة الإسلام ولم ير أن حصولها في‬ ‫كيانه دليل على أن شفاء الإنسانية رهن شفائه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول أني لم أستعمل الأداة التي تجعل ما قلته في رؤية ابن خلدون قابلا للصوغ العلمي‬ ‫المكمم أي القابل للرد إلى قوانين طبيعية يعبر عنها بعبارات كمية رياضية تمكن من فهم‬ ‫الموجود الحاصل والموجود الذي سيحصل لو تعاملنا مع كل العناصر وكأنها طبائع‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني أني لم استعمل الاداة التي تجعل ما قلته قابلا للصوغ العملي المكيف أي القابل للرد‬ ‫إلى سنن تاريخية يعبر عنها بعبارات كيفية تمكن من فهم المنشود الحاصل والمنشود الذي‬ ‫سيحصل لو تعاملنا مع كل العناصر وكأنها شرائع‪.‬‬ ‫وذلك بدراسة العوامل الخمسة التي بنى عليها باب المقدمة الخامس أي الجغرافيا الطبيعية التي‬ ‫توجد فيها الجماعة وأفرادها والتاريخ الطبيعي للجماعة وأفردها وفعل العامل الاول في العامل‬ ‫الثاني بتوسط تفاعل الفرد والجماعة معهما أو الاقتصاد والثروة وفعل العامل الثاني في العامل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بتوسط تفاعل الجماعة والفرد معهما أو الثقافة والتراث وما يوحدها جميعا أي المرجعية التي‬ ‫تمثلها الرؤية الدينية والفلسفية للوجود التي تربى عليها الأفراد‪ .‬والعلة هي أني اعتمدت في‬ ‫البحث ثمرات نظرية المعادلة الوجودية التي وضعتها في محاولات سابقة والتي لم اوردها هنا لئلا‬ ‫أثقل البحث وهي مضمرة فيه وتقبل‪:‬‬ ‫‪ .1‬القراءة بالتثليث لفهم الفلسفة الهيجلية والماركسية فتكون مقصورة على الأمر الأول إما‬ ‫بالتركيز على التوحيد بين التاريخ الطبيعي والتاريخ الحضاري مع تقديم وتأخير للفاعلية‬ ‫واعتبارها محايثة في عالم وحيد وفريد ليس له ما يتعالى عليه ومن ثم فالحلول كلها ترد‬ ‫إلى وحدة الوجود سواء كانت طبعانية خالصة (سبينوزا) أو طبعانية مذوتة لإضفاء الطابع‬ ‫لروحنة الوجود التي تصالح معه الرب (هيجل واعتبار الجوهر ذات)‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو القراءة بالتخميس فتكون من الجنس الثاني الذي يتضمن الجنس الأول (وهو المستوى‬ ‫الأول من موضوع علم ابن خلدون ‪-‬العمران البشري لسد الحاجات المادية بالتبادل‬ ‫والتعاون والتعاوض العادل) ولا يلغيه بل يعتبره أداة الجنس الثاني (وهو المستوى الثاني‬ ‫من موضوع علم ابن خلدون الاجتماع الإنساني لسد الحاجات الروحية بالتواصل والتآنس‬ ‫الصادق) الذي يعتبره غاية‪.‬‬ ‫وطبعا فالأداة هي الاستعمار في الارض والغاية هي الاستخلاف فيها‪ .‬وقد ظن المسلمون أن‬ ‫الغاية مغنية الأداة‪ .‬وظن الغرب أن الأداة مغنية عن الغاية‪.‬‬ ‫والمعادلة الوجودية التي وضعتها لضبط هذه العلاقات جعلت قلبها علاقة الإنسان المباشرة برب‬ ‫مفارق بوصفها علاقة \"خليفة بمستخلف\" وكلاهما حر وهي علاقة بين حريتين خالقة ومخلوقة كاملة‬ ‫ومتكاملة وهي الرؤية القرآنية التي يعتبرها ابن خلدون ضرورية دون كلام حول المسألة الإيمانية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لأنه من فرضيات نظريته في عمل العناصر الخمسة التي يتألف منها الباب الأول المؤسس‪ .‬وهي‬ ‫قلب لمخمس وجودي على النحو التالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬فهي تضع على يمين علاقة القلب الوجود الطبيعي‬ ‫‪ .2‬وتضع على يساره الوجود التاريخي وبينهما علاقة ما بعديه بينهما وهي مجانسة للعلاقة‬ ‫الأولى بين الإنسان والله لكنها ذات التفاتين (‪ )3‬أحدهما التفات إلى الطبيعة هو ما بعد‬ ‫(ولنسمه قوانين الخلق) والثاني التفات إلى التاريخ (ولنسيه سنن الأمر)‬ ‫وهذا المابعد المضاعف هو ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وهو شبه انعكاس للعلاقة الأولى بين‬ ‫الإنسان وربه لكنه بين عالمين عالم الخلق وعالم الامر طلب قوانين الاول وسنن الثاني هما أداتا‬ ‫الإنسان لكي يعمر الارض ويستخلف فيها‪.‬‬ ‫فإذا جردنا المعادلة مما فوق الأنسان بقي الإنسان وإذا جردنا الطبيعة والتاريخ مما بعدهما (أي‬ ‫قوانين الخلق وسنن الامر) بقيت الطبيعة وكأنها خالقة لنفسها والتاريخ وكأنه آمر لنفسه‪ .‬وذلك‬ ‫هو سر التثليث الهيجلي والماركسي‪ :‬وكلاهما يفترضهما ويلغيهما لأنه ينسبهما إما إلى الطبيعة أو‬ ‫إلى الإنسان‪.‬‬ ‫لأن العناصر الثلاثة الباقية بعد حذف العلاقة الأولى بين الإنسان وربه وبين الطبيعة والتاريخ‬ ‫وما بعدهما هي الإنسان والطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫وحينئذ نكون في عالم قابل للقراءة الهيجلية التي عدلت السبينوزية بتذويت وحدة الوجود‬ ‫وبإحلال الله في الإنسان ونفي وجود عالم وراء عالمنا متعال عليه أو بالاكتفاء بالطبيعة طابعة‬ ‫ومطبوعة ومنها الإنسان لأنه ليس دولة في الدولة في رؤية سبينوزا‪.‬‬ ‫وتلك هي الماركسية التي نكصت الى السبينوزية دون التذويت الهجلي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكني أعيد العلاقة الاولى المباشرة بين الله والإنسان والعلاقة الثانية بين الطبيعة والتاريخ أو‬ ‫المابعد ذي التوجهين‪.‬‬ ‫وليس ذلك أمرا عقديا بل هو فرضية عمل لفهم ما يجري في المعادلة الخلدونية بين الطبيعة‬ ‫والإنسان والتي اعتبرها متلازمة مع علاقة الإنسان بالوعي بالزمان ومحاولة الخروج مما يترتب‬ ‫على التذكر والتوقع في علاقة بالمكان وما ينتظره منه لسد حاجاته‪.‬‬ ‫لكن إذا اعتبرنا الله محايثا في الإنسان أو في العالم (مفهوم المصالحة الهيجلية) أي في التاريخ‬ ‫وجعلنا الطبيعة والتاريخ غنيين عن ما وراء يصلهما بالخالق للأولى وبالأمر للثاني صار التاريخ‬ ‫بالمنطق الجدلي في حرب دائمة واصبح ما هو من عرضيات التنافس على شروط البقاء هو الغاية‬ ‫وليس مجرد عرض ناتج عن الفشل في اكتشاف الحل الممكن من وجود السياسة العادلة تربية‬ ‫وحكما‪.‬‬ ‫والإنسان بفضل هذا المابعد المتعالي عليهما يبدع نظام قوانين طبيعية (رياضية تجريبية بلغة‬ ‫القرآن) ونظام سننن تاريخية (سياسية خلقية بلغة القرآن) فيصبح النظامان مرجعية الانتقال من‬ ‫الحرب الدائمة إلى السلم الدائمة‪.‬‬ ‫فيتبين من ثم أن الإنسان لا يمكن من دونهما أن يتعامل مع الطبيعة ومع التاريخ بالعلم وبالعمل‬ ‫تعاملا يحرره من سلطانهما عليه ومن الوثنيات التي تكون تأليها للطبيعة وللأقوياء بدلا من أن‬ ‫يطبق النساء ‪ 1‬أساسا للأخوة والحجرات ‪ 13‬أساسا للمساواة بين البشر فيكون الإنسان من حيث‬ ‫هو إنسان حائزا على التعريف الخلدوني \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبدلا من اعتبار الحرية ثمرة صراع بين سيد وعبد تصبح الحرية علاقة بين رؤساء مستخلفين من‬ ‫الرئيس المشترك لجميع البشر خاصة ولجميع الموجودات عامة‪ :‬وهذا هو الجذع المشترك بين الدين‬ ‫والفلسفة‪.‬‬ ‫الفصل الرابع‬ ‫وكل المؤسسات التي أبدعها الإنسان وظيفتها تحرير الإنسان من هذه النوع الأول من الحاجة‬ ‫المادية المضاعفة لعلتين‪ .‬ففي البداية الطبيعة شاءت أن يكون الغذاء من بدن الأم في بطنها ثم‬ ‫بالرضاع وهي لا توجد من غير الأسرة‪ .‬والأسرة إذن هي جهاز مؤسسي من أبداع الإنسان لحل‬ ‫المعضلة بصورة دائمة‪ :‬فالطفل الإنساني لا يخرج من بطن أمه قادرا على إعالة نفسه‪.‬‬ ‫أما النوع الثاني مما يأخذه الفرد من التاريخ ويعطيه له بتسوط الجماعة فهو نصيبه الروحي‬ ‫وليس المادي‪ .‬فلا أحد يمكن أن يكون ذا نصيب من الروح غير العضوي إلا بهذه الطريقة وإلا‬ ‫لكان كل فرد يبدأ التجريب وتحصيل الخبرة من نقصة الصفر‪ .‬ليس للفرد من نصيف من الغذاء‬ ‫الروحي والمناخ البروحي من دون ما يأخذه بوساطة الجماعة وأهم أدوات ذلك لسانها لدوره في‬ ‫التواصل وخبراتها لدوره في التبادل‪.‬‬ ‫وإذا كان سد الحاجة المادية كما وصفت مستمدا من الحيز الجغرافي الخارجي بتوسط التعاون‬ ‫والتبادل والتعاوض في الجماعة غذاء ومناخا وسد الحاجة الروحية مستمدا من التاريخ بتوسط‬ ‫التواصل والتعارف والتفاهم في الجماعة فإن رمز السد الأول هو كيان البدن والثروة ورمز السد‬ ‫الثاني هو كيان الروح والتراث‪ .‬من لم يفهم ذلك لا يمكن أن يفهم طبيعة الأزمة التي تعاني منها‬ ‫الأمة‪ :‬فهي أمة تبادلها بدائي وتواصلها مشاحني بسبب الفقرين المادي والروحي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سأقول شيئا قد لا يفهمه من لم يعشه بوعي حاد‪ .‬فأنا أشعر بأن بدني ممزق مثل جغرافيتنا وبأن‬ ‫روحي مشتتة مثل تاريخنا وبأن الثروة العربية ليست ملك الأمة ومن ثم فشعوبها فقيرة رغم أن‬ ‫أرضها غنية وأن التراث العربي لم يعد ملك الأمة ولم يعد محركا فيها قدرة الإبداع سواء كان‬ ‫نظريا أو عمليا أو جماليا أو جلاليا ومن ثم فشعوبها جدباء الخيال وعقيمة الإبداع العلمي‬ ‫والتقني والخلقي والجمالي والجلالي‪.‬‬ ‫والأدهى من ذلك كله هو أن المرجعية التي تمثل حصانة الأمة الروحية وأساس مناعتها المادية لم‬ ‫تعد محركة فعلا التحريك الواعي بأسمى شعار مثله جواب سفير الفتح للفرس لما سألوه عن علة‬ ‫مجيء الجيش الفاتح‪ :‬جئنا لنحرركم من عبادة العباد بعبادة رب العباد‪ .‬وهذا هو معنى القوة‬ ‫المحررة من استضعاف بالذات وليس ما آلت إليه عندما تحولت إلى غزو لما حرفت قيم الإسلام‪.‬‬ ‫ولا أعجب إذا عجب الكثير من كلامي هذا‪.‬‬ ‫ذلك أنه يبدو أني مصاب بشبه التصاق بالجغرافيا وبالتاريخ سعيا لاسترداد ثروة الأمة وتراثها‬ ‫اللذين لم يبقيا ملكها‪.‬‬ ‫لكنه في الحقيقة وعي بأن الثروة والتراث لم يعد لهما وجود فعلي في وجدان الجماعة والفرد‬ ‫لأنها ليست الأمة هي التي تكتشفها وتستخرها وتستعملها بل هي مجرد حارسة لمالكها الفعلي‬ ‫الثروة للمحتل والتراث للسياح ولا علاقة حية للشعب بوصفها صانعها‪.‬‬ ‫‪7‬وقد استعملت في محاولات سابقة كنايتي المائدة والسرير للتعبير عما يستمده الإنسان من‬ ‫الطبيعة بتوسط دوره في الجماعة أخذا وعطاء لنصيبه‪ .‬كما استعملت كنايتين أخريين هما فن‬ ‫المائدة وفن السرير باعتبارهما ما يضفي على الأولين معنى روحيا يتجاوز الـأكل أكل الأنعام‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذان الفنان هما بداية كل الفنون الذوقية سواء كانت متعلقة بالحضارة المادية أو بالحضارة‬ ‫الروحية‪.‬‬ ‫وهذا الخراب المادي والخواء الروحي لم يكن بعد قد سيطر في عصر ابن خلدون إذ إن الباب‬ ‫الأخير من المقدمة مخصص للعلوم والثقافة عامة وتنتهي بالكلام على الذوق‪ .‬لكنهما صارتا‬ ‫مسيطرتين على وجود الجماعة الممزقة بين مقبرتين ميت ماضينا ومتب ماضي الغرب‪.‬‬ ‫وما أظنني أعيش هذا الحالة بمفردي إلا إذا كان غيري يعتبر استيراد الابداع المادي وسرقات‬ ‫الابداع الروحي مما يمكن أن يعوض القدرة الفعلية‪.‬‬ ‫صحيح أن الإنسان من حيث هو إنسان كائن مائت‪.‬‬ ‫وهذه ظرفية إنسانية ومنزلة وجودية كونية وليست خاصة بالمسلمين‪ .‬ما هو خاص بالمسلمين هو‬ ‫وجها الترف الذي وصفه ابن خلدون‪ .‬فأغنياؤهم يعيشون كالأنعام يأكلون فضلات حماتهم‪.‬‬ ‫وفقراؤهم يعيشون عيش الأنعام على فضلاتهم‪ .‬وهما عين ما وصفه ابن خلدون دون أن يسميه‬ ‫كما أسميه‪.‬‬ ‫لكنه سماه بما هو أشد وأفظع‪\" :‬سماه فساد معاني الإنسانية\"‪ .‬واعتبر ذلك فقدان كل ما يتعلق‬ ‫بسمو الأخلاق والقبول بمنزلة العبيد لغير الله‪ .‬إنه سر الاستضعاف الذاتي الذي يكثر من خونة‬ ‫الأمة وخدم من يستقوون بهم وهم عبيد لهم‪ :‬نحن عبيد عبيد‪.‬‬ ‫من يسمون أنفسهم حكاما ونخبا عندنا هم أكثر الناس ذلا وتبعية أمام أي موظف أمريكي أو‬ ‫اسرائيل أو روسي أو فارسي وهم أشد الناس استبدادا وحرصا على التظاهر بالقوة التي تعبر عن‬ ‫لا وعيهم بضعفهم إذ لا يمكن للإنسان مهما كذب على نفسه ألا ينظر في باطنه وأن يراها على ما‬ ‫هي عليه من مهانة وذل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما نراه من عنف في التربية وفي الحكم‪-‬وهما علة فساد معاني الإنسانية في النظرية الخلدونية‪ -‬في‬ ‫جل بلاد العرب هو ما يعنيه ابن خلدون وهو ما يفسر به فساد صيرورة أي جماعة عالة على‬ ‫غيرها‪.‬‬ ‫في سد حاجتيها المادية والروحية أي إنها فاقدة لمعنى العمران البشري ولمعنى الاجتماع الإنساني‪.‬‬ ‫ومعاني الإنسانية هي ما نقيض المعاني التي وضعها في تعريفه للإنسان بوصفه \"رئيسا بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"(المقدمة الباب الثاني الفصل ‪.)24‬‬ ‫والرئيس غير السيد‪.‬‬ ‫وهذا هو الفرق الجوهري بين ما استمده ابن خلدون من الدين وما استمده هيجل من الدين حتى‬ ‫بعد الاصلاح اللوثري‪.‬‬ ‫فالرئيس عند ابن خلدون ليس سلطة مفروضة على من يعتبره رئيسا مثل السيادة على العبد عند‬ ‫هيجل إذ حتى الرؤية الدينية فهي تقتضي أن الإنسان لا ينال مرتبة الرئاسة الرمزية إلا بحلول‬ ‫الله فيه وليس من حيث هو إنسان‪ .‬ابن خلدون يعتبره رئيسا من حيث هو إنسان حتى لو لم يكن‬ ‫مؤمنا بأنه ابن الله‪ .‬ولا معنى عنده لمفهوم المصالحة والتعارف معرفة ومعروقا ليس حصيلة صراع‬ ‫والا لاستحال وجود المؤسسات الأساسية ومنها الأسرة أو لكانت مبنية على سيد ومسود‪.‬‬ ‫فالسيد سيد لعبد والعبد عبد لسيد‪ .‬لكن الرئيس رئيس لرئيس وهما كذلك لأن لهما رئيس‬ ‫مشترك إذ إنه لا أحد منهما يصدق نفسه إذا ظن أنه رب غيره‪ .‬ولذلك فابن خلدون لا يفسر‬ ‫التاريخ برمز الصراع بين السيد والعبد والمغلوب لا يتوقف عن المقاومة بطرق اخرى‪.‬‬ ‫والمشكل هنا يتعلق بالرؤية وليس بتحققها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فشعار الفتح والفرق بين الفتح والغزو يبين القصد‪ .‬ذلك الشعوب التي فتحت بلادها لم ينلها‬ ‫الافناء كما حدث للهنود الحمر الذين قتلوا بالجدري والسلاح والخمر‪ .‬والإسلام فتح وحافظ في‬ ‫الغالب على تراث الإنسانية‪.‬‬ ‫ويكفي أن نعمل أن جل المذاهب الدينية المسيحية واليهودية لم يبق لها وجود إلا في دار الإسلام‪.‬‬ ‫وهي تزول كلما استعمر بلد عربي لأن أصحابها سرعان ما ينحازون للمستعمر‪ .‬وروح الفتح هي‬ ‫التي تتعين فيها شروط الاستثناء من الخسر في سورة العصر لاستحقاق تعريف الإنسان \"رئيسا‬ ‫بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫وهذه الشروط الخمسة هي‪ :‬الوعي بخطر الوقوع في الخسر ثم فعلان من نصيب الفرد من‬ ‫الاجتهاد والجهاد كفرد وفعلان مع الجماعة‪ :‬وهي تتضمن رسالة الإسلام كلها‪.‬‬ ‫فالوعي بالخسر الممكن للإنسان كإنسان هو أصل الرئاسة بالطبع من حيث هي عين العبادة أو‬ ‫الاستخلاف‪ :‬بمعنى ان الإنسان لا يعترف بضعفه إلا بما يكتشفه في نفسه من إرادة وعلم وقدرة‬ ‫وحياة ووجود كلها شديدة النسبية ليس بالقياس إلى غيره من البشر لأنهم يشاركونه تلك‬ ‫الصفات بل مع ما يعتبره متعاليا عليهم جميع‪ .‬وللخروج من الخسر شرطان لا يمكن ألا يكونا إلا‬ ‫فرديين هما الإيمان والعمل الصالح‪ .‬وله شرطان لا يمكن الا يكونا إلا جماعيين‪ :‬التواصي بالحق‬ ‫وهو الاجتهاد المعرفي والتواصي بالصبر وهو الجهاد الخلقي‪.‬‬ ‫اعتقد أن القراء يفهمون الآن لماذا قلت إن محاولة البحث عن ابن خلدون في مؤسسي علم‬ ‫الاجتماع من الغربيين المحدثين من علامات حمق الكاريكاتور الحداثي عند النخب العربية‪.‬‬ ‫فهذا البعد الذي لا يميز بين مستويي موضوعه من حيث هو عمران ومن حيث هو اجتماع يجعل‬ ‫الجمع بين البعدين العضوي والروحي الظاهرة الإنسانية مما ليس منه بد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فلا يمكن رد هذا العلم إلى المستوى الأول من شروط قيام الإنسان فردا وجماعة‪.‬‬ ‫فمن لم يفهم دور هذا البعد لا يمكن أن يفهم كثرة استعمال ابن خلدون للقرآن حتى إن صاحب‬ ‫بدائع السلك وجد توازيا مذهبا بين درس العمران بعوامل العلاقة بالطبيعة والتاريخ ودرس‬ ‫الاجتماع بعوامل ما بعدهما ذي الالتفاتين‪.‬‬ ‫ومن دون ذلك لا يمكن ان يفهم ابن خلدون ناهيك عن فهم الذي لا يتعامل مع الديني في فهم‬ ‫الإنساني من حيث هو عقيدة عنده بل من حيث دور العقائد في نظر الإنسان وعمله وقيمه‬ ‫باعتبارها خاصة ناتجة عن الموقف من \"حصر الزمان =الانجواس من اللامتوقع\" وهو قد بدا درس‬ ‫هذا العامل بوصفه متعلقا بتوقع المستقبل ومعرفة المجهول‪.‬‬ ‫وما أضيفه هدفه تفسير ما كان يفكر فيه الرجل حتى وإن لم يجد اللغة التي تمكنه من قوله لأنه‬ ‫رغم عبقريته لم يتمكن من التخلص من اصطلاحات عصره في الفلسفة وفي الدين ومثال ذلك‬ ‫الاصطلاح الأرسطي بخلاف ابن تيمية الذي اعتبره أكثر عبقرية منه واستطاع التخلص من‬ ‫اصطلاح عصره‪.‬‬ ‫لكن استعمال المعاني الدينية في مقدمة ابن خلدون لا يعني أنه يقول بإسلامية المعرفة‪ .‬فكلامه‬ ‫عن الدين لا يقصد به العقائد النقلية ‪-‬بدليل أنه ضمن فيه كل الأديان البدائية ولم يقتصر‬ ‫على الأديان المنزلة لأنه لا يتكلم على معتقدات مسلمة بل على فرضيات تفسيرية مستمدة مما‬ ‫يعتبره الإنسان أسس تأويله لعلاقته بالطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫مضاعف‪ .‬والاصطلاح الديني مثله مثل الاصطلاح الأرسطي لا يتعلق بما يعتقده ابن خلدون بل‬ ‫بلغة لقول ظاهرة كونية‪ .‬فكلاهما صارت له دلالات مختلفة للتي لهما في فلسفة عصره ودينه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن الأدلة القاطعة هو رفضه لنظرية ابن سينا التي يحاول بها إثبات الحاجة إلى النبوة بالحاجة‬ ‫إلى التشريع المتعالي وهي حجة مجانسة للقول بالحاجة إلى الأيمة المعصومين‪ .‬كما أن استعمال ابن‬ ‫خلدون للاصطلاح الأرسطي لم يبق على دلالاتها الأرسطية‪.‬‬ ‫فالهيلومورفية مثلا فقدت معناها الأرسطي لأنه لا يقول مثله بنظرية المعرفة المطابقة بل بعلم‬ ‫إنساني اجتهادي غير مطابق لأن الوجود لا يرد للإدراك‪.‬‬ ‫فعند أرسطو التعبير عن المادة والصورة ‪-‬التفسير بالهيلو(مادة) مورفية (صورة) ‪-‬يعني أن‬ ‫الشيء في ذاته يتقوم بمادة وصورة وهما ما يدركه الإنسان إدراكا مطابقا بوصفه مقوما للشيء‬ ‫تقويما جوهريا لكأن المعنى الذي يدركه العقل الإنساني يعكسه عكس المرآة لما يتراءى عليها مما‬ ‫هو قائم في الشيء وليس عبارة عما يدركه دون زعم للمطابقة‪.‬‬ ‫وهذا يعني أن العلم علم بكليات مقومة أو بجواهر ثوان ثابتة وغير تاريخية‪ :‬مثل حيوان (جنس)‬ ‫ناطق (فرق نوعي)‪.‬‬ ‫لكنها عند ابن خلدون استعارات إن صح التعبير للكلام على الأشياء دون أن تكون المعاني مقومة‬ ‫بل معبرة‪.‬‬ ‫وهو أمر كان صريحا عند ابن تيمية واعتبره لغة مثل ألفاظ اللسان ورسوم كتابة وخاصة مثل‬ ‫المقدرات الذهنية الرياضية التي ليس لها وجود في الأشياء العينية لكنها تساعد في العبارة عليها‬ ‫علميا‪ .‬وهو مما ينبغي أن يستنتج من أمرين في فكر ابن خلدون‪:‬‬ ‫‪ .1‬فهو ينفي أن يرد الوجود إلى الإدراك ولا يقول بالمطابقة بين ما ندركه وحقيقة الموجود‬ ‫لأنه ليس كله شاهد بل فيه غيب لا نحيط به‬ ‫‪ .2‬ولو صحت المطابقة لاستحال أن يكون العلم تاريخيا أي لاعتبرت كل \"حقيقة\" نهائية لأنها‬ ‫مقومة لموضوع علمنا ولا تتغير إذا كانت حقيقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن حصيلة المعرفة العلمية تاريخية وهو شرط أن يصبح التاريخ قابلا للعلم الفلسفي الامر الذي‬ ‫ينفيه أرسطو لأن التاريخ يدرس الجزئي والكلي ليس تاريخيا‪ .‬وعلة العلل في استحالة أن يكون‬ ‫الاصطلاح الأرسطي مؤديا للمعاني الخلدونية هي أن التاريخي يتعلق بالعرضي العام ولا يتعلق‬ ‫بالعرضي الذاتي الذي هو موضوع الاستدلال العلمي وما عداه من الماهيات يدرك حدسيا مثل‬ ‫الأوليات في رؤية ارسطو وهو الموضوع الثاني‪-‬الحد بعد البرهان من التحليلات الثواني‪.‬‬ ‫لكن ابن خلدون يقول بالحرف إنه لم يحترم مبدا أرسطو في اعتبار العلم لا يؤسس نفسه وأنه‬ ‫يحيل على علم متقدم عليه يؤسسه والمؤسس لها جميعا هو المتافيزيقا (ما بعد الطبيعة)‪.‬‬ ‫إذ يقول إنه في المقدمة يؤسس هذا العلم الجديد الذي يقبل التسمية بالمتاتاريخ (ما بعد‬ ‫التاريخ)‪ :‬علم رئيس يؤسس نفسه‪ .‬ولما كان هذا العلم الرئيس يؤسس نفسه فلا بد الا يكون قابلا‬ ‫للتأسيس بالميتافيزيقا الأرسطية بل ولا بد أن يصبح بديلا منها لأنه يؤدي وظيفتها على الاقل في‬ ‫مشروع ابن خلدون الذي يشمل البعد الطبيعي من الإنسان وشروط أل عمران‪.‬‬ ‫ذلك أنه ما كان يحتاج لتأسيس نفسه لو كانت الميتافيزيقا الارسطية قادرة على تأسيسه‪ .‬ولك من‬ ‫هو مطلع على فكر ارسطو يعلم أنه قال بالحرف إن التاريخ‪-‬في كتاب الشعر‪ -‬لا يمكن أن يكون علما‬ ‫لأنه يدرس الجزئي وأن الأدب أقرب إلى العلم منه لأنه يتكلم في الممكن وليس في الواقع منه‬ ‫والممكن أقرب إلى الضروري موضوع العلم‪ .‬والعلم الرئيس الذي يؤسس نفسه ليس ميتافيزيقا بل‬ ‫هو ميتاتاريخي أو ميتاخلقي يتضمن الطبيعي عنصرا من عناصره باعتباره من مقومات العمران‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لذلك ففي بدايات دراستي لابن خلدون احترت في ما يقصده ابن خلدون بمصطلحاته الفلسفية‬ ‫والدينية لأنه يبدو مستعملا إياهما في غير الدلالة العقدية دينيا وفي غير الدلالة الارسطية‬ ‫فلسفيا‪.‬‬ ‫ولو لم يكن أرسطو اختصاصي الاول لما انتبهت لهذه الظاهرة الغريبة‪ .‬اخترت أرسطو في البداية‬ ‫لأني قدمت البداية على الغاية لفهم ما بينهما أعني الفلسفة العربية التي هي وسط بين القديمة‬ ‫(اليونانية) والحديثة (الألمانية خاصة عندي)‪.‬‬ ‫والمعلوم أن كل وسط بين بداية وغاية لا بد أن يكون فيه جوهر البداية وجوهر الغاية أعنى أنه‬ ‫وساطته تعني أن بينه وبين البداية وبينه وبين الغاية وساطة تجعله غاية الأولى وبذرة الثانية‪.‬‬ ‫لذلك فما بين ثورة ديكارت ولايبنتس إلى حدود كنط وغاية الفكر في المدرسة النقدية العربية‬ ‫علاقة وطيدة‪.‬‬ ‫والمدرسة النقدية العربية رموزها الثلاثة هي الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬ ‫والأوسط أهم ممن تقدم عليه وممن تلاه في قراءتي لتاريخ فكرنا الفلسفي‪ .‬فثورة الغزالي‬ ‫نقدية سلبية همها فلسفة العمل خاصة‪.‬‬ ‫وثورة ابن خلدون موضوعها فلسفة العمل‪ .‬والنظر الأسمى وضعه ابن تيمية لكن فكره شوه‬ ‫وأهمل‪ .‬وسأواصل المحاولة لأبين كيف أن قراءته هي التي تبين العلاقة الوطيدة بين فكرنا‬ ‫وشروط فتح آفاق جديدة للاستئناف وهو أمر كان البحث عن السبق يحول دون خاصة ومعايير‬ ‫الحكم مستمدة من اللحاق لتقييم السابق ما أريد فهمه ما اعتبره ثورة في فلسفة النظر وفي فلسفة‬ ‫العمل أنسبهما إلى المدرسة النقدية واعتبرهما منطلق الاستئناف الممكن‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا إلى القسم الثاني من البحث وهو غايته في المحاولة التي نسعى فيها لفهم علل تعثر‬ ‫الأمة في استئناف دورها بما يناسب العصر الحالي بعد بيان عدم جدية التفسير العرقي‬ ‫والتفسير الثقافي منفصلين أو مجتمعين‪.‬‬ ‫فهما تفسيران عنصريان عضويا وروحيا يسودان لدى النخب التي رثتهما عن الرؤى التي‬ ‫بدأت في الغرب وقابلت بين الشعوب بهذين العاملين ثم لما صارت هذه النخب حاكمة تصرفت‬ ‫تصرف المستعمر مع الشعوب على أنها انديجان وبررت بها سلوكها لأن الحكام يستمدون قوة‬ ‫الاستبداد والفساد ممن يستعبدهم ليستعبد بهم شعوبهم‪.‬‬ ‫وهما تفسيران يردان إلى تأسيس خرافتين على نظرية المعرفة ونظرية القيمة القائلتين‬ ‫بالمطابقة‪.‬‬ ‫وقد سلكت في محاولة التحرر من هذين التفسيرين طريقة يراها من يعتمدون بادئ‬ ‫الرأي الذي فرضه الكاريكاتوران ‪-‬التأصيلي والتحديثي المزعومين اللذين يزعمون أن‬ ‫رؤية الأول للدين ورؤية الثاني للحداثة واعتمادهما كلاهما على التنافي بين الأمرين‬ ‫اعتمادا على موقفيهما اللاواعيين في نظرية المعرفة ونظرية القيمة القائلتين بالمطابقة‬ ‫فأفسدوا دور الدين ودور العلم بهما ولم يفهما استحالتهما من منظور ديني سابق ومن‬ ‫منظور فلسفي لاحق‪.‬‬ ‫فيعسر أن يفهم الكاريكاتوران أن المسألة التي يرونها إيديولوجية هي بالإساس مسألة‬ ‫تنتسب إلى نظرية المعرفة (ابستمولوجية) وإلى نظرية القيمة (اكسيولوجية)‪.‬‬ ‫وإذا كنت قد بينت في التمهيد الذي صدرت به الفصل السابق ‪-‬الواصل بين جزئي البحث‬ ‫ما تؤدي إليه المطابقتان من وحدانية العالم المردود إلى الإدراك الإنساني المزعوم علميا‬ ‫وهو في الحقيقة عامي وأن عدم التحرر من وهم الاحاطة الإنسانية المزعوم دينيا وهو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كذلك عامي وليس دينيا فإن ما يتكلم عليه ابن خلدون من دور للدين في علمه هو ما يترتب‬ ‫على استحالة تخلص الإنسان من عاملي الاعتراف بدور الغيب في حياة البشر وهو يتجلى‬ ‫خاصة ما ينتاب الإنسان من شعور بمحدودية عمله وعمله وحاجته إلى ما يستكملهما به لا‬ ‫يطرحه على المستوى الإيديولوجي بدليل نفيه كل تأسيس للسياسة عليه نفيا يبلغ حد‬ ‫السخرية من راكبيه واعتبارهم حمقى مجانين بل على المستوى الأكسيولوجي (ما يترتب‬ ‫على عدم المطابقة القيمية) والابتسمولوجي (ما يترتب على عدم المطابقة المعرفية) لا‬ ‫غير‪..‬‬ ‫علة العلل وداء الأدواء في ازمة الحضارة العربية الإسلامية ابستمولوجية واكسيولوجية‬ ‫بهذا المعنى‪ :‬النزول منهما إلى الايديولوجيا العامية قديما بالمطابقة الأفلاطونية الارسطية‬ ‫وحديثا بالمطابقة الهيجلية الماركسية‪ .‬فما يعنيني في المقام الاول ليس البعد الإيماني من‬ ‫الدين ‪-‬فهذه مسألة شرعية وعقدية وليست موضوع بحثي‪ -‬بل دور رؤية الإسلام والفلسفة‬ ‫النقدية للمطابقتين في سلوك الإنسان الذي نسعى إلى فهم سلوكه الخلقي في التربية‬ ‫(التحرر من الوسطاء) والسياسي (التحرر من الأوصياء) في الحكم‪.‬‬ ‫وابن خلدون وصل الأول بالضمير الخلقي أو ما يسميه بالوزع الذاتي ووصل الثاني‬ ‫بالقانون أو ما يسميه بالوزع الأجنبي أو الأحكام السلطانية واعتبر فساد معاني الإنساني‬ ‫علته ما يصيب هذين الأمرين من علل بسبب العنف في التربية وفي الحكم‪ .‬وذلك ما يجعلني‬ ‫أتكلم في الأمر من حيث بما سميته بالفتنة الصغرى واعتبرته أساس الفتنتين الصغرى‬ ‫والكبرى التي رددتها إلى الصغرى في الفكر الباطني وأرجعتها إلى القول بالمطابقتين اللتين‬ ‫تجعلان الصراع بين القائلين بهما يتحول إلى تناف بين دور الديني والفلسفي في الرؤية‬ ‫الأبستمولوجية والأكسيولويجة فيحول دون فهم سلوك الإنسان فردا وجماعة كما حدده‬ ‫ابن خلدون في الباب الاول من المقدمة وما غابت دلالته عن الكاريكاتورين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالتناظر بين ما كان سائدا في الفلسفة القديمة والوسيطة أعني الرؤية الأفلاطونية‬ ‫جزئيا والأرسطية كليا وما نكصت إليه الفلسفية في غاية الحداثة أعني الرؤية الهيجلية‬ ‫جزئيا والماركسية كليا هو الذي يعنيني في رد الإشكالية التي تعلل الفتنتين الكبرى أي‬ ‫الصراع بين رؤية الإسلام والثيوقراطيا والصغرى أي الصراع بين الإسلام‬ ‫والانثروبوقراطيا هو موضوع بحثي الذي أرده إلى القول بالمطابقتين‪.‬‬ ‫‪7‬فما مثلته فلسفة أفلاطون جزئيا وفلسفة أرسطو كليا من قول بالمطابقة المعرفية‬ ‫والمطابقة القيمية هو الذي أفسد الفكر القديم والوسيط وخاصة في الإلهيات الكلامية وفي‬ ‫الإلهيات الفلسفية وهو عينه ما افسد الفكر الحديث في غايته أعني ما تمثله فلسفة هيجل‬ ‫جزئيا وفلسفة ماركسية كليا وبهذا بدأ التوجه إلى تحول الكلام إلى فلسفة (هيجل)‬ ‫والفلسفة إلى كلام (ماركس) وتلك هي بداية ما بعد الحداثة التي لم تعد بحاجة للقول‬ ‫بالمطابقتين ولا بنفيهما أصلا لأن الحقيقة نفسها لم تعد مما يطلب وراء ما يسمى‬ ‫بالسرديات‪.‬‬ ‫ولست غافلا عن كون هذه التكوينية يعسر قبولها ممن نكصوا إلى المطابقتين بعد التنصل‬ ‫من النقد الكنطي في المثالية الألمانية التي كان همها الاول والأخير التحرر من المقابلة‬ ‫الكنطية بين الظاهرات والباطنات بدعوى المطابقتين في النظر وفي العمل‪.‬‬ ‫وكل من بقي فكره عاميا ولم يفهم أن هذا الفصل الكنطي هو بالجوهر عين ما تتحد به‬ ‫الفلسفة والدين عندما لا يقبلان بالرؤية العامية لنظرية المعرفة ولنظرية القيمة‬ ‫فيعتبران فكر الإنسان مرآة عاكسة لما عليه الأشياء في ذاتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فذلك هو سر فساد الفكر الحديث في غايته (هيجل وماركس) الذي نكص إلى فساده‬ ‫الفكر القديم والوسيط في بدايته‪ .‬وكل ما يعتبر ما بعد هيجل وماركس عاد إلى الفكر‬ ‫القديم والوسيط فأصبح صراعا بين الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا جمعا بين الفتنتين في‬ ‫العالم كله وليس في دار الإسلام وحدها‪.‬‬ ‫ونفس هذه العلة هي التي حالت في الحضارة الإسلامية دون فهم محاولات المدرسة‬ ‫النقدية العربية تجاوز أفلاطون وارسطو في غاية العصر الوسيط وتفسر ما يحول دون فهمها‬ ‫من فكر العرب الحالي لأنه تهيجل وتمركس بل وصار بعضهم يدعي أنه ما بعد حديث غنيا‬ ‫عن المطابقتين وعن نفيهما لأنه لا يوجد مسرود وراء السرد إذ حتى السارد معدوم‪.‬‬ ‫ومن علامات الحمق تجاوز ما لم يحصل عندهم‪ :‬فالمتكلمون على ما بعد الحداثة لا يدرون‬ ‫أنهم يثبتون المحاكاة القردية لأن القفز من دون ما هي ما بعده يعني \"كسر أعناقهم\"‬ ‫المشرئبة لما لا يتوفر لها شرطه‪.‬‬ ‫لذلك فغالبا ما تجدهم أجهل الناس بالفكر الفلسفي قديمه ووسيطة وحديثه ويرتمون‬ ‫في ما بعده‪.‬‬ ‫وعندي أن ابن تيمية أهم من ابن خلدون رغم علم الجميع بإعجابي به اعجابا لا يقدر‪.‬‬ ‫وعلة اعجابي به أنه لم يكتف بنقد المعوقات مثل ابن تيمية بل طبق نتيجة نقده بأن‬ ‫انتقل إلى المرحلة الإيجابية فأسس البديل وهو ما حاولت شرحه في كلامي السابق بمفهوم‬ ‫الـ\"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫ومع ذلك يبقى ابن تيمية أهم وهو قلب المدرسة النقدية العربية بين الغزالي وابن‬ ‫خلدون جناحيها‪ .‬والعلة عندي أنه هو الذي أنهى اسطورة المطابقتين بمراجعة فلسفة‬ ‫أفلاطون وارسطو ووضع لبنات تجاوز القول بالمطابقتين وضعا صريحا ومن ثم حررنا من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الفتنة الكبرى باستكمال رد الغزالي لها إلى الصغرى‪ .‬فغالبا من يركز الناس في علاقة‬ ‫الغزالي بالفلسفة على كتاب تهافت الفلاسفة‪.‬‬ ‫وكان ذلك علة موقف حداثيينا‪-‬اتباعا لمقالة بلوغ فيه وفي ابن رشد‪-‬إذ اعتبروه علة‬ ‫انحطاط الأمة لأنه عارض الفلسفة لكأن الفلسفة وخاصة تلك التي يتكلمون باسهما هي‬ ‫علة تقدم الأمم‪ .‬لكن ثورته في مفهومين غيبتهما العجلة‪.‬‬ ‫أولهما جاء في المنقذ وهو مفهوم \"طور ما وراء العقل\" قياسا على العقل بوصفه طور ما‬ ‫وراء الحس‪ .‬ورغم أن هذا المفهوم بقي غامضا لأنه قابل للتأويل بمعنى الكشف بديلا من‬ ‫العقل والمعرفة الصوفية بديلا من المعرفة العلمية فإنه يعد بداية لتجاوز المطابقة المعرفية‬ ‫على الأقل في الفكر الفلسفي‪.‬‬ ‫ولما كان اشعري المذهب فقد جمع بذلك المطابقة المعرفية مع رفض المطابة القيمية لأن‬ ‫الأشاعرة يرفضون التحسين والتقبيح وشرطه رفضها أي إن تقييم الإنسان للقيم ليس‬ ‫مقبولا لكونه مشروط بالتقييم الشرعي بخلاف الاعتزال الذي يقول بالمطابقتين مثل‬ ‫الفلاسفة‪.‬‬ ‫والمفهوم الثاني وهو ما اعتبرته بداية رد الفتنة الكبرى إلى الفتنة الصغرى رغم أن‬ ‫هذه الاخيرة لم تكن موجودة في الفلسفة العملية بصورة صريحة لكنها ضمنية في الرؤية‬ ‫الباطنية كما بين الغزالي في فضائح الباطنية‪-‬وهي نفي دور الدين في السياسة إلا توظيفيا‬ ‫وليس جوهريا‪-‬فإن كتاب فضائح الباطنية طرح المشكل طرحا مبدئيا وجعله ابن تيمية‬ ‫موضوع علاج فلسفي صريح‪ .‬ولهذه العلة اعتبرت \"فضائح الباطنية\" الذي يبدو كتابا‬ ‫دفاعيا طلبه الحكم السني في بغداد للرد على الحكم الشيعي في القاهرة ثورة فلسفية كبرى‬ ‫لأنه وضع الاشكالية المضاعفة‪ :‬علاقة الفلسفة بالدين في حالتيهما السوية والمحرفة أي في‬ ‫حالتهما بوصفهما طالبين للحقيقة وبوصفهما موظفين من السياسة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لن أطيل الكلام في أهمية هذه النقلة الثورية في كتاب فضائح الباطنية‪ .‬أريد أن أرى‬ ‫كيف تحولت إلى ثورة صريحة جعلت ابن تيمية ينهي قصة الفتنة الكبرى والفتنة الصغرى‬ ‫برد الأولى إلى الثانية وردهما معا إلى القول بالمطابقتين الممتنعتين على الإنسان لأن من‬ ‫شرطهما ادعاء العلم والعمل المحيطين‪ .‬وهكذا فما كان جدلا كلاميا عند الغزالي ولم‬ ‫يتحول إلى فكر فلسفي يعالج مسالة الإحاطة في العمل والإحاطة في العلم صار عند ابن‬ ‫تيمية مسألة أكسيولوجية في العمل ومسألة ابستمولوجية في النظر‪ .‬وقد خصص للأولى رده‬ ‫على ابن المطهر في منهاج السنة وخصص للثانية رده على الرازي في درء التعارض‪.‬‬ ‫وقبل الغوص في ثورة ابن تيمية الفلسفية في مجاليها أي في الأكسيولوجيا (نظرية القيمة‬ ‫شرط العمل) وفي الابتسمولوجيا (نظرية العلم شرط النظر) ينبغي أن نفهم علة وصلي‬ ‫الأولى بالرد على ابن المطهر في منهاج السنة ووصلي الثانية بالرد على الرازي في الدرء‪.‬‬ ‫وهما برهان تجاوزه القول بالمطابقتين‪ .‬ملخص الرد على ابن المطهر هو دحض الحاجة‬ ‫إلى الوساطة في التربية وإلى الوصاية في الحكم‪.‬‬ ‫فما يقابل منهاج السنة هو الزعم بأن الإنسان يحتاج إلى وسيط بينه وبين ربه وهي سلطة‬ ‫روحية كنسية ينفيها الإسلام‪.‬‬ ‫وأن الإنسان يحتاج إلى وصي عليه في شانه الدنيوي وهو الحكم بالحق الإلهي (عصمة‬ ‫الأيمة)‪.‬‬ ‫منهاج السنة‪ :‬لا وساطة بين الإنسان وربه ولا وصاية على الإنسان في امره‪ .‬وسلبا منهاج‬ ‫السنة ينفي الكنسية وينفي الحق الإلهي في الحكم‪ .‬وهنا نجد الغزالي وابن خلدون حول‬ ‫ابن تيمية قلب المدرسة النقدية‪ .‬فالحكم بالاختيار وليس بالوصية (الغزالي) والإنسان‬ ‫رئيس بمقتضى الاستخلاف (ابن خلدون)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فيكون منهاج السنة صوغا فلسفيا للرؤية السنية في العلاقة بين الإنسان وربه وفي علاقته‬ ‫بأمره‪ :‬فمن حيث هو إنسان علاقته مباشرة بربه وهو رئيس بمقتضى الاستخلاف أي ليس‬ ‫لغير الله عليه سلطان إلا ما يستمده من الإسلام أمرا ونهيا في حكم الجماعة لنفسها والنائب‬ ‫يكون عاملا لديها وليس سيدا عليها‪.‬‬ ‫أما كتاب الدرء فهو علاج للمسألة الأبستمولوجية أي نظرية المعرفة التي تحررها من‬ ‫القول بالمطابقة ببيان استحالة الإحاطة وبدحضها النسقي في النظر وفي ا لعمل وتلك هي‬ ‫ثورة ابن تيمية الابستمولوجية والأكسيولوجية وقد حصلت في الرد على من جمع بين الكلام‬ ‫والفلسفة لما بلغا تمهما عند الرازي‪.‬‬ ‫ولا أنوي عرض هذين الثورتين الأكسيولوجية في الرد على ابن المطهر والابستمولوجية‬ ‫في الرد على الرازي فقد خصصت لثورتي ابن تيمية الكثير من المحاولات وخاصة في‬ ‫الضميمة على ترجمة موسوعة المثالية الألمانية لكني أردت أن اختم المحاولة في علل تعثر‬ ‫النهوض والاستئناف وربطه بمنزلة الإسلام‪.‬‬ ‫فبخلاف ما يتصوره أعداء الاسلام عداؤهم لا يدل على ضعفه بل على قوته‪ :‬اليوم أزمة‬ ‫الإسلام والمسلمين ليست أزمتهما بل هي الدليل على الإنسانية تتصرف حاليا تصرف الطفل‬ ‫المدلل الذي يرفض أخذ الدواء‪ :‬الإسلام هو البلسم الذي لا يريد من يتصور نفسه قويا‬ ‫ليخفي مرضه أخذه‪ :‬نعم الإسلام هو الحل‪.‬‬ ‫وهو ليس الحل لمشكل يخص المسلمين دون سواهم‪ .‬هو الحل للإنسانية كلها‪.‬‬ ‫فالمرض ‪-‬ومثاله ما يسببه فيروس كورونا‪-‬لا تحول الحدود السياسية والعرقية والثقافية‬ ‫دون الكونية‪.‬‬ ‫ومرض الإنسانية الحالي هو ما يدفعها إلى الحرب على الإسلام ظنا أنه الداء وهو في‬ ‫الحقيقة علاج كل الأدواء التي تعاني منها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهم أولا‪:‬‬ ‫‪ .1‬يرفضون النساء ‪ 1‬بالعنصرية لأنهم لا يقبلون قول القرآن إن البشر كلهم من‬ ‫نفس واحدة أي إنهم اخوة‪.‬‬ ‫وهم ثانيا‪:‬‬ ‫‪ .2‬يرفضون الحجرات ‪ 13‬وما يترتب على ذلك من ضرورة التعارف معرفة ومعروفا‬ ‫‪ .3‬ويرفضون ما يترتب على الآيتين من ضرورة حصر التفاضل في التقوى أي المساواة‬ ‫أمام القانون‪ .‬ولا يريدون أن يكون الإنسان معمرا لا مدمرا وأن يكون خليفة لا ربا وأن‬ ‫يكون قويا بذاته لأنه لا يقبل أن يكون مستضعفا لأنه ليس فقيرا لغير الله‪ .‬فيكون راعيا‬ ‫لذاته وللعالم‪ .‬والقوي بذاته لا يمكن أن يستضعف غيره لأن من يسعى لاستضعاف غيره‬ ‫ينفس عن ضعفه لغيره‪ :‬فأكثر الناس عنفا هم أجبنهم‪.‬‬ ‫واكتفي بدليلين على ذلك‪ :‬فلا يوجد من هو أجبن من حكام العرب ومن النخب التي‬ ‫تخدمهم بالطبل والزمر أو بالإعلام والخبرة المزعومة‪.‬‬ ‫فهم أكثر الناس تعنيفا لشعوبهم وتبديدا لثرواتهم واستهانة بتراهم وخدمة لأعدائهم‬ ‫وذلا أمام أدنى مثليهم حتى إنهم صاروا يحتمون بقواعدهم فيمولون احتلال بلادهم‪ .‬ولعل‬ ‫أبرز الادلة على ما أقول هو ما يحدث الآن في حرب التحرير الجارية في ادلب وفي طرابلس‪.‬‬ ‫فالشعوب فهمت أنها تتعلق بشروط عودة الأمة إلى دورها التاريخي والحكام والنخب‬ ‫العملاء ما يزالوا في عصر التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي الذي هو علة العجز أمام‬ ‫تحديات عصر العماليق من حولنا‪.‬‬ ‫ولا بد هنا من توضيح الامر الذي كان ينقص المدرسة النقدية حتى تتمكن من تحقيق‬ ‫شروط ثورتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook