Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore في علاقة الجنسين بمنظور مفهوم _نحلة العيش_ الخلدوني – أبو يعرب المرزوقي

في علاقة الجنسين بمنظور مفهوم _نحلة العيش_ الخلدوني – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-12-08 11:35:21

Description: في علاقة الجنسين بمنظور مفهوم _نحلة العيش_ الخلدوني – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬‫بمنظور مفهوم \"نحلة العيش\" الخلدوني‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪15 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪19 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪26 -‬‬‫‪ -‬الفصل السادس ‪30 -‬‬‫‪ -‬الفصل السابع ‪36 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثامن ‪42 -‬‬‫‪ -‬الفصل التاسع ‪48 -‬‬‫‪ -‬الفصل العاشر ‪55 -‬‬

‫‪--‬‬‫ما أريد الكلام عليه الآن أعلم جيد العلم أنه مما لن يرضى عنه كاريكاتور التحديث‬‫والتنوير العقلاني ولا كاريكاتور التأصيل والتنوير الروحاني وخاصة من يقيسون التقدم‬‫والرجعية بمعايير جوهرانية سواء كانت هيجلية (أرواح الشعوب) أو ماركسية (طبقات‬‫الجماعة) ومع ذلك فهو عندي متجاوز لكل هؤلاء في علاج طبيعة العلاقة بين الجنسين أو‬ ‫منزلة المرأة في المجتمعات البشرية‪.‬‬‫وهو ليس متجاوز لأني صاحبه بل لأن صاحبه هو من أفسدت كل أفكاره لأنها عيرتـها‬‫بمقياس البحث عما فيه بدعوى بيان السبق والحداثة من فكر ماركس أو هيجل فلسفيا‬‫تاريخيا أو من أغست كونت ودوركايم عليما اجتماعيا بدل النظر في أقواله وتصوراته‬ ‫بمقتضى نسقها الذي تستمد منه دلالاتها ومعانيها‪ :‬ابن خلدون‪.‬‬‫كل ما أنسبه إلى نفسي هو \"شبكة\" قراءته بتصورات بمقولات يمكن ردها إليه إذا فهمنا‬‫مضمون الباب الأول من المقدمة كما أراده صاحبه إطارا نظريا عاما للأبواب الخمسة الباقية‬‫ولمجالي بحثه أي \"العمران البشري\" أولا و\"الاجتماع الإنساني\"ثانيا في مرحلتيهما البدوية‬‫والحضرية واتجاهي تفاعلهما من الأول إلى الثاني ومن الثاني إلى الأول‪ .‬وهذا الإطار‬ ‫النظري الشامل الوارد في الباب الأول من المقدمة شديد الوضوح‪:‬‬ ‫‪ .1‬العالم الجغرافي المناخي أساس كل حياة وخاصة حياة الإنسان‪.‬‬‫‪ .2‬خصائص الحي العضوية و\"الروحية\" من حيث هي وعي بشروط قيامه وظروف‬ ‫تحصيلها‪.‬‬ ‫‪ .3‬الخوف من المستقبل بخصوص شروط البقاء‪.‬‬ ‫‪ .4‬ابداع التوقع والاستعداد لها ماديا ورمزيا‪.‬‬ ‫‪ .5‬هي \"العمران البشري والاجتماع الإنساني\" بمرحلتيه البدوية والحضرية‪.‬‬‫وهذان الشكلان من \"التنازل\" أو تقاسم الجماعة السكن في مكان محدد هو ما يتوالى من‬‫أشكال مفهوم أبدعه ابن خلدون وسماه \"نحل العيش\"‪ .‬وهو مفهوم يتجاوز مفهوم أرواح‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الشعوب الهيجلي ومفهوم الطبقة الماركسي وما وراء المفهومين من جهرانية الروح‬ ‫وجوهرانية المادة‪.‬‬‫فمفهوم \"نحلة العيش\" يفيج الأحوال التي تمر بها علاقات العناصر الخمسة الواردة في‬‫الإطار النظري التي وصفت والتي هي مادة الباب الأول من المقدمة‪ .‬ليس جواهر ولا هي‬‫روح ولا هي مادة ولا نعلم طبيعتها ما هي‪ .‬كل ما نعلمه أنها شبكة \"علاقات\" بين أمور كلها‬ ‫غير محددة تحدد \"نحل العيش\" الإنساني التفاعلية‪.‬‬‫فإذا اعتبرنا الإنسان في تفاعليه مع محيطه الطبيعي الخارجي تفاعلا ينتج محيطا ثقافيا‬‫متعينا في أدوات مادية وأدوات رمزية هي شروط علاقاته بمحيطيه الطبيعي والثقافي‬‫المتراكم بالتدريج أمكن لنا أن نرد ذلك إلى عاملين هما شروط يستمدها من الطبيعة لبقائه‬ ‫وشروط يمد بها الحياة لبقاء النوع‪.‬‬‫وأهم شرط يستمده الإنسان من محيطه الطبيعي سواء مباشرة أو بتوسط الجماعة‬‫(تقسيم العمل) هو الغذاء‪ .‬وأهم شرط يمد به الإنسان الحياة من كيانه هو التكامل بين‬‫الجنسين للإنجاب أو الجنس‪ .‬ومن ثم فالمقوم الطبيعي الأول هو الجغرافيا والمناخ وقدرات‬ ‫الإنسان للاستفادة منهما لتفعيل هذين الشرطين‪ .‬والقدرات هي‪:‬‬‫• ما يمكنه من التعامل مع محيطه الطبيعي أي النظر والعقد لمعرفة قوانينها للاستفادة‬ ‫من ثرواتها‬‫• ما يمكنه من التعالم مع محيطه الإنساني أي العمل والشرع معرفة سننها الحياة‬‫الجماعية للاستفادة من تراثها في تنظيم حياته الجمعية وتحقيق شروط التواصل والتعاون‬ ‫والتبادل السلمي‪.‬‬‫وبهذا المعنى فـ\"نحلة العيش\" حصيلة محددة للوظيفتين الواصلتين بين المحدد الطبيعي‬‫المحيط بالإنسان والمحدد الطبيعي الإنسان المحاط به‪ :‬أي ما يأخذه الإنسان من حيث هو‬‫طبيعي من الطبيعة شرط حياته كفرد وما يعطيه الإنسان للحياة من حيث هو حي شرط‬ ‫حياة النوع كجماعة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وحتى أيسر الكلام على هذين العلاقتين استعرت اسمين لهما مما يرمز إليهما في حياة‬ ‫الإنسان من حيث فرد من جماعة متواصلة الأجيال فسميت‪:‬‬ ‫• العلاقة الاولى بالمائدة (استعارة على الغذاء)‬ ‫• والثانية بالسرير (استعارة على الجنس)‪.‬‬ ‫وانطلاقا منهما أمكن التمييز بين خمس أشكال من \"نحلة العيش\"‪.‬‬‫وهذه الأشكال تمثل مراحل تطور العلاقة بين الرجل والمرأة في ما ينتج هذين المحددين‬‫الرئيسين للإنسان من حيث هو وسيط بين الطبيعة وبقاء الفرد والنوع ولا علاقة لهذه‬‫العلاقة بالأديان ولا بالفلسفات‪ .‬فهذان هما مجرد محاولة لصياغة الوضع أو لتبريره بحسب‬‫توالي أشكاله‪ .‬لكن المراحل التي تتحدد فيها العلاقة بين الجنسين وبينهم وبين الطبيعة في‬ ‫أي جماعة هي حصيلة \"نحلة العيش\" بالمفهوم الخلدوني‪.‬‬‫وهذه الحصيلة ليست جوهرا ولا تنتج عن جوهر‪ .‬فلا هي روحية ولا هي مادية ولا هي‬‫ناتجة عن فلسفة من جنس المثالية الهيجلية أو من جنس المادية الماركسية لأنهما كلتيهما‬‫تقولان \"بشيء\" ذي قيام جوهري إليه تردان حقيقة الأشكال وتدعي معرفة حقيقة هذا‬‫\"الشيء\" المحدد لها‪ .‬لكنه في الرؤية الخلدونية ليس شيئا متجوهرا بل هو شبكة علاقات أو‬‫بنية هي مضمون الباب الأول من المقدمة‪ .‬فما هي هذه المراحل الخمس التي سبق أن درستها‬ ‫في محاولة سابقة‪:‬‬ ‫‪ .1‬نحل العيش التي توجد دون المائدة والسرير‪.‬‬ ‫‪ .2‬نحل العيش التي توجد عند حصول المائدة والسرير‪.‬‬ ‫‪ .3‬نحل العيش التي توجد ما دون فن المائدة وفن السرير‪.‬‬ ‫‪ .4‬نحل العيش التي توجد عند حصول فن المائدة وفن السرير‪.‬‬ ‫‪ .5‬نحل العيش التي توجد بعد ما فوق فن المائدة وفن السرير (الترف)‪.‬‬‫وعلاقة المرأة والرجل وعلاقتهما بالطبيعة وبالجماعة رهن \"نحلة العيش\" التي تتحدد‬‫بمقتضى ما تفرضه هذه المراحل كبنية علائقية وهي علاقة كونية لا يمكن نسبتها إلى عرق‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫محدد أو إلى ثقافة محددة أو إلى دين أو إلى فلسفة بل كل هذه العناصر تابعة لها لا‬‫متبوعة منها‪ .‬لكن بنية هذه الشبكة العلائقية لا تكتمل من دون أن نضيف إليها عاملين‬‫كلاهما ينتج عن المؤثر الطبيعي المحيط بالإنسان والمؤثر الطبيعي الذي في الإنسان نفسه‬‫(بدنه ونفسه)‪ .‬فعضويا لا يمكن للعلاقتين من الطبيعة إلى الإنسان ومن الإنسان إلى‬ ‫حياة النوع أن تحصل من دون جماعة تحمي نفسها وتعولها‪.‬‬‫فأنثروبولوجيا لا يمكن للتكاثر الإنساني أن يحصل من دون شرطين‪ :‬حماية مصدر حياة‬‫الجماعة بسبب كون الجماعات تعيش في البدء على ما تنتجه الطبيعة فيكون المجال الحيوي‬‫معرضا للعدوان الخارجي وحماية حياة الأطفال في مرحلة الحمل وفي المراحل الاولى قبل‬ ‫أن يصبح الطفل قادرا على القيام المستقل‪.‬‬ ‫وذلك هو المحدد للشكل من \"نحل العيش\" وتوزيع العمل بين الرجل والمرأة‪.‬‬ ‫• فالأول يكون دوره في الغالب للحماية‬ ‫• والثانية للرعاية‪.‬‬ ‫ويشتركان في حماية الرعاية ورعاية الحماية‪.‬‬‫وذلك هو أساس الوحدات الأولى لبقاء الجماعة‪ :‬الأسرة التي تتوسع بالتدريج لتصبح‬ ‫قبيلة ثم وحدة قبائل للحماية والرعاية‪.‬‬‫وفي هذه المرحلة تصبح المرأة مستهدفة بسبب الحاجة إلى التكاثر خاصة وليس من اجل‬‫الجنس‪ .‬لأن الواحدة تكفي في الجنس لكنها لا تكفي في التكاثر‪ .‬التعدد وسبي النساء جزء‬‫من الحماية لأنه \"ينتج\" المحصلين لشروط البقاء رعاية وحماية‪ .‬ونرى ذلك عند‬‫المزارعين‪ :‬الأبناء هم العملة والحماة خاصة وتسمى في البوادي التونسية بـ\"الوالي وهم‬ ‫الإخوة والأبناء\" وفي الصعيد المصري بـ\"العزوة\"‪.‬‬‫وهذا هو المستوى الأول من اللحمة الجماعية أو الدرجة الأولى والأقوى من العصبية‬‫بالمعنى الخلدوني (عصبية الدم)‪ .‬ومنها ينشأ الشكل الأول من الدول التي هي شرط‬‫الانتقال من العمران البدوي إلى العمران الحضري‪ .‬فيكون الباب الثاني (العمران‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫البدوي) والباب الثالث (الدولة) معدين للحواضر التي تمثل الحد الاوسط بين العمران‬ ‫البدوي والعمران الحضري‪.‬‬‫وبهذا فسرت حديث الغدير بكون الرسول لم يوصي آل البيت بالأمة بالعكس أوصى الأمة‬‫بآل البيت لأنه يعلم أن النظام القبلي ما يزال مسيطرا وأن سيطرته ستستأنف مباشرة‬‫بعده وأنه لم يكن من الفرع الأقوى عصبية بين العرب ولا حتى في قريش وهو ما فهمه ابن‬‫خلدون في تبدل نظام الحكم من الخلافة إلى الملك العضوض‪ :‬انتهاء القوس التي دامت‬ ‫بدوام التغير الذي حدث في عادات العرب بفضل التربية الرسولية‪.‬‬‫ومثلما أن الحواضر قبلها شرطان العمران البدوي والدولة نجد بعدها شرطين هما موضوع‬‫الباب الخامس أو المعاش ووجوهه (من إنتاج الإنسان وليس الطبيعة) وموضوع الباب‬ ‫السادس أو العلوم وأصنافها والتعليم (عودة النظر والعقد ثم العمل والشرع)‪.‬‬‫فإذا تجاوز الإنسان مرحلة ما دون المائدة والسرير فإنه يصل إلى مرحلة المائدة والسرير‬‫وطبعا هذا لا يتحقق للجميع بل لأصحاب القوة فيكون الأساس هو القوة وشكلها الاول هو‬‫القوة الطبيعة المادية وهي قوة البدن وقوة التكاثر فتتكون العصبيات المبنية على هذين‬ ‫القوتين وتكون النساء توابع لهما‪.‬‬‫لكن يقع التمييز بين الحرائر والجواري‪ .‬ذلك أن ذوي العزوة لا يقبلون معاملة نسائهم‬‫مثل النساء اللواتي ليس لهن من يدافع عنهن بهذين القوتين‪ .‬فيكون وضع المرأة مزدوجا‬‫مثل وضع الرجل أيضا‪ :‬فالعبيد الذكور والجواري لهما وضع \"قانوني\" يتحدد بالقدرتين‬ ‫أعني بالعلاقة بين الحماية والرعاية‪.‬‬‫فالقادرون على الحماية ونساؤهم لهم منزلة المائدة والسرير ومن سواهم يبقى في منزلة‬‫ما دون المائدة والسرير بمعنى أنهم تابعون لمن وصل إلى منزلة المائدة والسرير بفضل ما‬ ‫لديه من القوتين‪ .‬والقوتان تتبعهما قوتان رمزيتان هما‪:‬‬ ‫• قوة الثروة الناتجة عن القوة بالمعنيين‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫• وقوة التراث (أو ما يسمى بـالنسب في اختيار الجنسين احدهما للآخر ولهذا علاقة‬ ‫بعادة ما تزال موجودة بين أعيان القبائل والأسر العريقة)‪.‬‬‫وضمن الحاصلين على منزلة المائدة والسرير يتدخل عامل الفن أو الجماليات بالتدريج‬‫رغم أن الحالة ما تزال دون فن المائدة ودون فن السرير‪ .‬فيضاف إلى مفهوم المرأة‬‫\"الحصان\" أو الحرائر مفهوم المرأة الجميلة التي رغم كونها جارية تصبح زوجا لمن وصل إلى‬ ‫مرحلة المائدة والسرير وبدأ يشعر بما فوقها‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الفصل بين الحرائر والجواري لم يعد مبنيا على الثروة والتراث فحسب‬‫بل يتدخل عامل الذوق الجمالي لدى الحاصلين على منزلة المائدة والسرير والساعين‬‫لتجاوزها فيتم بالتدريج تجاوز الاقتصار عليهما إلى \"نحلة عيش\" تصبح فيها المائدة ذات‬ ‫فن والسرير ذا فن‪ .‬لم يعد الأكل مجرد غذاء ولا الجنس مجرد جماع حيواني‪.‬‬‫فيصبح الفن أداة تحرير للجنسين‪ :‬فما يصدق على الاغنياء من الرجال إزاء الإماء يصدق‬‫على النساء الغنيات إزاء العبيد فيصبح الفنان فن المائدة وفن السرير بداية التحرير‬‫ويبرز نوعا السلطان في الجماعة‪ :‬سلطان المرأة الخفي وسلطان الرجل الجلي والأول أقوى‬ ‫من الثاني ألف مرة‪.‬‬‫وما أن يحصل ذلك نصل إلى تجاوز فن المائدة والسرير بالانفصال التام بين وظيفتي‬ ‫المائدة والسرير‪.‬‬ ‫يصبح المطلوب الفن للفن‪.‬‬‫لم تبق العلاقة بين الغذاء والقيام هي المحددة ولا العلاقة بين الجنس والإنجاب هي‬‫المحددة بل يصبح الغذاء لمجرد فن المائدة ويصبح الجنس لمجرد فن السرير‪ .‬فيتساوى‬ ‫الجنسان‪.‬‬‫وإذا تساوى الجنسان زال الفرق بينهما‪ .‬وإذا زال الفرق بينهما لم يعد لمعنى الجنس‬ ‫مقابلة عضوية بين الذكورة والأنوثة بل هو متجاوز لها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فلا يبقى الذكر ذكرا ولا الانثى أنثى بل كلاهما مطلوبه هو اللذة أيا كان مصدرها فتكثر‬ ‫المثلية وتفقد المرأة والرجل الصبر على دورهما في تواصل النوع‪.‬‬ ‫فتكون ثورة المرأة على الرجل حينها ذات دافعين‪:‬‬ ‫• دوره في تواصل النوع أقل كلفه من دورها بمقتضى خصائص عضوية‬‫• استجمال النوق يؤدي إلى استنواق الجمال‪ .‬وهو سر البرود الجنسي في المجتمعات التي‬‫وصلت إلى هذه المرحلة والسيطرة المتدرجة للمثلية الجنسية ولهوامش العلاقة الحميمة‪.‬‬‫فتعود الإنسانية إلى المرحلة الأولى‪ :‬وأعني بذلك أن المرأة تصبح في قرارة نفسها تبحث‬‫عن الإنسان البدائي أي الرجل المستبد والممثل للفحولة والرجل في قرارة نفسه يبحث عن‬‫الجارية البدائية أي المرأة الخاضعة لكل نزواته بوصف ذلك من أسرار الانوثة‪ :‬نتيجة‬ ‫\"لنحلة العيش\" في كل الحضارات‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫منطلقنا في فهم العلاقة بين الجنسين هو ما يمكن تسميته بـ\"قانون المائدة والسرير\" من‬‫منظور \"نحلة العيش\" المفهوم الذي وضعه ابن خلدون وهو مفهوم متجاوز للجوهرانية‬‫المثالية (هيجل) والمادية (ماركس) في فلسفة التاريخ والحضارة لأنه يعتمد مفهوم شبكة‬‫العلاقات دون تحديد طبيعتها بهذين المفهومين لأنها ليست مثالا (روح) ولا مادة (جرم)‪.‬‬‫وما يحول دون فهم ذلك هو مواصلة ابن خلدون استعمال مفاهيم هيلومورفية تجعله وكأنه‬‫يواصل الرؤية الأرسطية‪ .‬لكن مفهومي المادة والصورة عنده مختلفان تماما عما هما عند‬‫أرسطو‪ .‬ويكفي تعريف الإنسان الذي يستمد منه مضمون ثورته والذي لا ينطلق من كونه‬‫\"حيوانا عاقلا\" بل بالذات من العناصر التي صارت أبواب المقدمة أو الكتاب الأول من العبر‬ ‫أي الستة التي وردت فيها‪.‬‬‫فالتعريف لا يعتمد على مبدأ الجنس والفرق النوعي أي من الجواهر الثواني بل مما يمكن‬‫أن يعتبر مقومات ذاتية شبكية تشمل كل المحددات للوجود الإنساني من حيث هو كائن‬ ‫طبيعي ثقافي‪.‬‬‫فلأول أمرة في تاريخ الفكر الفلسفي يكون التعريف بما يعرض وليس بجوهر‪ :‬وما يعرض‬ ‫للإنسان لا هو مادة ولا هو صورة ولا نعلم طبيعته ماهي‪.‬‬‫ولأورد النص‪ \":‬ونخن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران‬‫في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضع بها التحقيق في معارف الخاصة‬‫والعامة وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك\" ثم يأتي تعريف الإنسان بهذه الأعراض‬ ‫والأحوال‪ :‬وتلك هي الأبواب الستة‪:‬‬ ‫‪ .1‬العمران البشري على الجملة‬ ‫‪ .2‬العمران البدوي‬ ‫‪ .3‬الدولة‬ ‫‪ .4‬العمران الحضري‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬الصنائع والمعاش‬ ‫‪ .6‬العلوم واكتسابها‬‫ولنعد الآن إلى موضوعنا المباشر أعني العلاقة بين الجنسين من هذا المنظور الذي لا يمكن‬‫أن يفهم بالمنطق الأرسطي (زوجية القيم مع عدم التناقض والثالث المرفوع وثبات الهوية)‬‫ولا بالمنطق الهيجلي (ثلاثة القيم مع التناقض والثالث الموضوع وتغير صيرورة الهوية)‪.‬‬‫فقد بدا وكأن المراحل الخمس التي ميزت بينها في الفصل الأول (مرحلة ما دون المائدة‬‫والسرير‪-‬مرحلة المائدة والسرير‪-‬مرحلة ما دون فن المائدة وفن السرير‪-‬مرحلة ما فوق‬‫المائدة والسرير) وكأنها مراحل متوالية توليا يجعل ضهور الخالفة ملغية للسالفة لكأن‬ ‫الإنسانية تكون كلها في نفس المرحلة فتتجاوز السالف بالخالف‪.‬‬‫وكل محاولات فرض منطق الخالف على السالف أو العكس هي التي تحدث أنواع الخلل‬‫المجتمعي في نماذج العيش لأن الخالف له جاذبية الجديد والسالف جاذبية العادة فيحصل‬‫تنازع نماذج العيش وتمانعها بصورة قد تبدو للكثير تأييدا للمنطق الجدلي إذ توجد ثنائية‬ ‫من جنس معنى التناقض الجدلي‪.‬‬‫لكن ذلك محض تبسيط لأن كل مرحلة من المراحل متعددة المستويات وليست واحدة إلا‬‫بالمقابل مع التي تليها والتي تتقدم عليهما وكلتاهما متعددة المستويات‪ .‬ومن ثم فالظاهرة‬‫هي بدورها شبكة علاقات وليست تناقضا بين أمرين جوهريين متعينين في روح أو في طبقة‪.‬‬‫وإذن فلا معنى لآلية التغير بالصراع الجدلي إلا عندما نقبل بالتبسيط الذي يقصر الأمر‬‫على حدين متناقضين‪ .‬لكن الزوجية الفاعلية بحق ليست تناقضية بل هي تكاملية دائما‬ ‫وخاصة في الظاهرات الحية‪.‬‬‫التوالي بين المراحل صحيح بالنسبة إلى المراحل من حيث ظهورها بمعنى أننا لا يمكن ‪-‬‬‫كما بين ابن خلدون‪-‬أن نجد العمران الحضري قبل العمران البدوي من حيث الظهور‪ .‬لكن‬‫بعد الظهور لا يمكن تخيل الحضري موجودا والبدوي زال من الوجود بل إن تلازمهما حتمي‬ ‫وعلامته تحاوط الحواضر والبوادي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والتحاوط‪-‬كلاهما محيط ومحاط‪-‬لا يوجد في الأعيان فحسب بل يوجد في الأذهان بمعنى‬‫أن الإنسان هو ذاته حضري وبدوي دائما في تشاجن لا يغفل عن إدراكه إلا من يتوهم أن‬‫الطبيعة والثقافة في وجود الإنسان قابلان للانفصال احداهما عن الأخرى أو بصورة أدق‬ ‫التشاجن الدائم بين الطبيعي والمكتسب في الإنسان وخاصة في علاقة الجنسين‪.‬‬‫وإذا اعتبرنا علاقة الطبيعي والمكتسب ودورها في علاقة البشر بعضهم بالبعض وخاصة‬‫إذا كانا من جنسين مختلفين تقبل الترجمة إلى ما هو سلوك تعاقدي قبل الخصام وبعد‬‫الخصام فإننا نعتبر القبل خاضعا للتعالي على الطبيعي بالخلقي والبعد بالقانوني‪ :‬وكلاهما‬ ‫يتمازج فيهما الطبيعي والثقافي‪.‬‬‫وفي مثال العلاقة بين الجنسين لو صارت كلها خاضعة للعادات المكتسبة لأصحبت مسرحية‬‫ونفاق متبادل ومن ثم فما يحييها هو ما فيها مما يعبر عما يتعالى على المكتسب وخاصة أحكام‬‫العشق إن وجد أو أحكام عكسه إن وجد وكلاهما لا يلبس قفازات العادات المكتسبة وبذلك‬ ‫يقاس الصدق فيهما كليهما‪.‬‬‫وحينها يبدو معبرا عن الصدق في الإرادة والكراهة في وعي المرأة العميق هو البداوة‬‫والطبيعي وما يبدو معبرا عنهما في وعي الرجل هو المكتسب والحضاري لكأن القرب من‬‫الحيوانية والبعد عنها يمثلان معيارين قويين في العلاقة وخاصة عندما تنظر إلى ذلك في‬ ‫المجتمعات التي ابتعدت حضاريا عن الطبيعة‪.‬‬‫ومن عاش في أوروبا يفهم ذلك جيدا بل وحتى من يتابع سلوك السواح يفهمه‪ .‬وليس‬‫القصد رصد السلوك الإنساني في الأعيان فحسب بل البحث فيه في ما يصحبه مما تتصوره‬‫الأذهان وما يعبر عما يتجاوز الأعيان والأذهان أعني في الفنون والآداب التي تصفه ليس‬ ‫كما يجري فعلا بل أيضا كما يتجاوزه الإنسان في لامتناهي الخيال‪.‬‬‫فالإنسان بمقتضى الزمان التاريخي ليس خاضعا لما في الأعيان من الأحداث ماضيها‬‫وحاضرها ومستقبلها بل هو خاضع كذلك لتذكر الأول وتأويل أحاديثه لأنه لم يعد موجودا‬‫ولتوقع الثاني بتحليل أحاديثه فيكون حاضره متميزا بالتوالج شبه المطلق بين الحدث‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والحديث ولا معنى للتمييز بين واقع وخيال إذ هو نوع من الغليان والفوران الذي لا يكاد‬ ‫الافتراضي والفعلي ينفصلان إلا نظريا‪.‬‬‫وبهذا يمكن أن نفهم نظرية أرسطو ونظرية ابن خلدون المتقاربتين وإن كانت الثانية‬‫أعمق في ما يتعلق بمنزلة القيم عامة والقيم الحاكمة في علاقة الجنسين‪ .‬فأرسطو يعتبر‬ ‫هذه القيم بمعيار المستوى الذهني قابلة للقسمة إلى ثلاثة‪:‬‬ ‫‪ .1‬من لم يصلوا إليها‬ ‫‪ .2‬ومن تجاوزوها‬ ‫‪ .3‬ومن يعيشون بها وهم بين هذين الحدين‪.‬‬‫والمعلوم أن أفلاطون يلغي تماما وجود المرأة لأنها يعاملها كما تعامل الملكية المشاعة على‬‫الأقل بالنسبة إلى الطبقتين الأوليين أي الحكام (أصحاب العقل) والحراس (أصحاب‬‫الغضب) ولا يبقى عليها بمعنى الزوجة والأسرة إلا للطبقة الدنيا أو (أصحاب الشهوة)‪.‬‬ ‫والمسألة لا تبدو موجودة عند ابن خلدون‪.‬‬‫وكنت متحيرا أمام هذا الغياب ولم أفهم عمق رؤية ابن خلدون قبل الوصل بين مفهوم‬‫\"نحلة العيش\" ودورها في الحب وفي الجنس‪ .‬فهو يرفض تفسير نكبة البرامكة برد الرشيد‬‫على علاقة مزعومة لأخته مع البرمكي محتجا بالقرب من البداوة ويكذب انتحال النسب في‬ ‫بعض دول المغرب العربي بنفس الحجة‪.‬‬‫لكن الأهم من ذلك هو الطابع الدوري بين أقصى مراحل البداوة ‪-‬العرب بمعنى أولى‬‫نحلة عيش وهي ليست خاصة بالعرب كجنس بل هي مرحلة انثروبولوجية في تكون العمران‬ ‫البدوي ولا يستثنى منه شعب مقيم في الصحاري‪.‬‬‫وقد ذكر مع العرب كجنس الأكراد وكل الشعوب التي تعيش في الصحراء على رعاية‬ ‫الأبل‪-‬وآخرة نحله أو آخرة مراحل الحضارة وهي كذلك مرحلة انثروبولوجية‪ :‬الترف‪.‬‬‫والأولى أشبه بالطفولة حيث يكون السلوك خاضعا لمنطق سد الحاجة بما يوجد مباشرة‬‫دون بعيد نظر ‪-‬مثال ذلك وصف ابن خلدون لسلوك بني هلال مع الحضارة واستعمال‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫خشب المنابر لطهي الأكل مثلا‪ .‬والثاني أشبه بالشيخوخة حيث يكون السلوط خاضعا لمنطق‬‫الإعياء العضوي وفقدان العنفوان والاستسلام لثمالات ما بقي من قوة في الكيان العضوي‪.‬‬‫ولعل الفرق الوحيد هو أن ما يحصل بليونة الحضارة في المرحلة الأخيرة من الحضارة أو‬‫الترف يحصل بعنف البداوة في المرحلة الأولى منها أو التوحش‪ :‬الجنس يصبح شبه مشاع‬‫ولا يكاد يتميز فيه جنس عن جنس من الجنسين بل أكثر من ذلك لا يكاد يوجد فاصل بين‬ ‫الإنسان والحيوان في المسألة الجنسية‪.‬‬‫فالمثلية الجنسية تصبح عادية وزنا المحارم والعلاقة الجنسية مع الحيوان وكل ما يسميه‬‫ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" الناتج عن العنف في التربية والحكم‪-‬حتى قبل وجود‬‫الدولة في البداوة وبعد فسادها في الحضارة‪-‬دور التوحش في الأولى أو العنف كقوة كسلطة‬ ‫والتخنث في الثانية أو الجاه كسلطة‪.‬‬‫وحتى نفهم الرؤية الخلدونية عندما تترجم بالمفهومين‪-‬نحلة العيش وعلاقة الطبيعية‬‫بالثقافة‪-‬ينبغي أن نذكر أنه يرفض بناء نظرية الاجتماع والسياسة على علم النفس‬‫الافلاطوني الأرسطي‪ :‬كلاهما يبني الجماعة والدولة على خاصية بايولوجية ثابتة هي‬‫عندهما مثلث القوى النفسية (النفس هي صورة البدن بالتعريف الأرسطي وحتى‬ ‫الأفلاطوني مع قوله بفصلها عنه وتقدمها في الوجود) أي العقل والغضب والشهوة‪.‬‬‫لكنه هو يعكس‪ :‬لا يؤسس الجماعة والدولة على بينة النفس بل هو يعتبر الخصائص‬‫النفسية التي يمكن فهمها عضويا بالصورة الأفلاطونية والأرسطية وإن كان فهمهما تبسيطيا‬‫لأن الفصل بين هذه القوى لا يطابق حقيقة الكيان العضوي للإنسان‪-‬بكونها مواد تشكيلية‬ ‫تصوغها \"نحلة العيش\" فيكون خصائص النفس ثمرتها‪.‬‬‫ولذلك فعنده أن \"نحل العيش\" في العمران البدوي أقرب إلى الفضائل و\"نحل العيش\" في‬‫العمران الحضري أقرب إلى الرذائل ولكن ذلك لا يعني تفضيله للعمران البدوي على‬‫العمران الحضري‪ .‬وهنا يأتي وجه الشبه بينه وبين أرسطو‪ :‬بداية البدوي متوحشة وغاية‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الحضري متخنثة والأول لـم يصل إلى اعتدال القيم والثاني تجاوزه فتلتقي البداية‬ ‫والغاية في عدم التوازن القيمي (رؤية أرسطو)‪.‬‬‫وقرب البداوة هنا لا يعني البلوغ إلى غاية القيم بل يعني أن السعي إليها قوي‪ .‬وقرب‬‫الحضارة إلى الرذائل يعني بداية التخلي عن الفضائل ما يجعل الوصول إلى الترف هو‬‫نهاية السعيين لأن البدوي عندما يغرق في الحضارة مباشرة دون التدرج يكون أفسد من‬‫الحضري لأن التوق الثاني يلغي التوق الأول بل ويؤدي الصراع بينهما إلى نوع من الوعي‬ ‫الزائف‪ :‬باطنه يبقى بدويا فيبالغ في ظاهرة حتى يجعل غيره يعتقد أنه تحضر‪.‬‬‫وأعتقد أن جل النخب العربية التي تدعي الحداثة ينطبق عليها هذا القانون‬‫الانثروبولوجي‪ .‬فإدمانها عن قشور الحضارة وخاصة من كان منهم قد أصبح من الأغنياء‬‫الجدد ‪-‬وتلك علة تكالبهم على التقرب من المستبدين‪-‬أو المتثاقفين الجدد الذين تسكرهم‬‫زبيبة فتصبح الشعارات الحداثية مصعدا للمنازل التي تحددها الشلل والحانات ولقاءات‬ ‫السفهاء الذين يعتبرون أنفسهم قادة الرأي العام‪.‬‬‫والمعلوم أن ابن خلدون‪-‬لكأنه يعتذر عن مشاركته في السياسة وما يلتصق بها من نفاق‬‫وتقرب من ذوي السلطان‪ -‬قد اعتبر ذلك من شروط السعادة (المادية) في المجتمعات التي‬‫يكون السلطان فيها بيد المستبدين والفاسدين‪ .‬لكنه مع ذلك يعيب على النائين بأنفسهم‬‫عن نس السلوك معتبرا ذلك ناتجا عن كبر وعدم مشاركة في قيادة الرأي لظنهم الكمال في‬‫أنفسهم فينعزلون بسبب هذا الكبر الذي يعتبره ظاهرة مرضية حائلة دون التأثير في الحياة‬ ‫العامة‪.‬‬‫وإذن فيوجد ما بعد بداية البدوي وما قبل نهاية الحضري وهما عنده مستوى القيم‬‫الحقيقي أعني أن البداوة تنتهي إلى اكتشاف قيم الفضيلة فتؤسس الدول والمدن‪.‬‬‫والحضارة تنتهي إلى اكتشاف قيم الرذيلة فتخرب الدول والمدن‪ .‬الرؤية تبدو غريبة‬ ‫ولكنها تفهما إدراكه لعلاقة عميقة بين الطبيعة والثقافة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فعنده أن الثقافة من حيث هي تدجين للإنسان تنتهي إلى النكوص به إلى ما دون‬‫الفضيلة‪ .‬فالفضيلة هي ما يعرف به الإنسان \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬‫له\"‪ .‬فيكون الإنسان في البداية لم يدرك هذه الرئاسة لأنه يخضع للقوة (قانون الطبيعة)‬‫وفي الغاية يفقد الرئاسة التي هي سلطان الذات على ذاتها شرطا في سلطانها على ما يجعلها‬ ‫أهلا للاستخلاف (قانون الغريزة)‪.‬‬‫فتكون نهاية البداوة اكتشاف ما يتعالى على القوة وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون‬‫بالوزع الأجنبي أو القانون والدولة‪ .‬وتكون نهاية الحضارة اكتشاف ما يتعالى على القانون‬‫وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون بالترف أو انخرام القانون والدولة التي تصبح استبداد‬ ‫الغرائز عند الحاكم والمحكوم‪.‬‬‫لكن هذه المقابلة المطلقة في فكر ابن خلدون وهي التي تؤسس نظرية أعمار الدول‬‫والحضارات قابلة للتعديل بما حاولنا بيانه من التماعي الدائم للمراحل التي ذكرتها (ما‬‫دون المائدة والسرير فالمائدة والسرير فما دون فن المائدة وفن السرير فما بعدهما) بفضل‬ ‫المرحلة الوسطى بين الأولين والأخيرين‪.‬‬‫فالمرحلة الوسطى‪-‬ما دون فن المائدة وفن السرير‪-‬مرحلة يكون فيها فن المائدة وفن‬‫السرير منشودين بمعنى أنهما مثالان أعليان يجعل أساسي الحياة العاطفية غاية يسعى إليها‬‫الجنسان وليست أمرا تحقق فصار مجرد عادة يطلب الإنسان تحقيقهما المطلق ثم تجاوزهما‬ ‫إلى الترف الذي هو نهاية الحياة السوية‪.‬‬‫وهذه المرحلة الوسطي بعد الأوليين وقبل الأخيرتين مضاعفة فهي متجاوزة لمرحلة ما دون‬‫المائدة والسرير بداية للبداوة والمائدة والسرير غاية للبداوة وقبل الأخيرتين تصبو‬‫للأخيرتين دون الوصول إليهما لأن التحقق المطلق للرابعة ينتهي إلى الخامسة وهي مرحلة‬ ‫الترف القاضية على الإنسان‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫العلاقة بين الجنسين بمقتضى ما يمكن تسميته بـ\"قانون المائدة والسرير\" في منظور \"نحلة العيش\" المفهوم الذي وضعه‬‫ابن خلدون واعتبرته متجاوزا للجوهرانية المثالية (هيجل) والمادية (ماركس) لأنها تعتمد مفهوم شبكة العلاقات دون تحديد‬ ‫طبيعتها تحديدا يقبل الرد إلى الـمثالية (روحية) أو إلى الـمادية (أشياء متجسمة)‪.‬‬‫بدا وكأن المراحل الخمس التي ميزت بينها (مرحلة ما دون المائدة والسرير‪-‬مرحلة المائدة والسرير‪-‬مرحلة ما دون فن‬‫المائدة وفن السرير‪-‬مرحلة ما فوق المائدة والسرير) وكأنها مراحل متوالية توليا يجعل ظهور الخالفة ملغية للسالفة لكأن‬ ‫الإنسانية تكون كلها في نفس المرحلة فتتجاوز السالف بالخالف‪.‬‬‫وكل محاولات فرض منطق الخالف على السالف أو العكس هي التي تحدث أنواع الخلل المجتمعي في نماذج العيش لأن‬‫الخالف له جاذبية الجديد والسالف جاذبية العادة فيحصل تنازع نماذج العيش وتمانعها بصورة قد تبدو للكثير تأييدا‬ ‫للمنطق الجدلي إذ توجد ثنائية من جنس معنى التناقض الجدلي‪.‬‬‫لكن ذلك محض تبسيط لأن كل مرحلة من المراحل متعددة المستويات وليست واحدة إلا بالمقابل مع التي تليها والتي‬‫تتقدم عليهما وكلتاهما متعددة المستويات ومن ثم فالظاهرة هي بدورها شبكة علاقات وليس تناقضا بين أمرين جوهريين‬ ‫متعينين في روح أو في طبقة‪.‬‬ ‫وإذن فلا معنى لآلية التغير بالصراع الجدلي‪.‬‬‫التوالي بين المراحل صحيح بالنسبة إلى المراحل من حيث ظهورها بمعنى أننا لا يمكن ‪-‬كما بين ابن خلدون‪-‬أن نجد‬‫العمران الحضري قبل العمران البدوي من حيث الظهور‪ .‬لكن بعد الظهور لا يمكن تخيل الحضري موجودا والبدوي زال من‬ ‫الوجود بل إن تلازمهما حتمي وعلامته تحاوط الحواضر والبوادي‪.‬‬‫والتحاوط‪-‬كلاهما محيط ومحاط‪-‬لا يوجد في الأعيان فحسب بل يوجد في الأذهان بمعنى أن الإنسان هو ذاته حضري‬‫وبدوي دائما في تشاجن لا يدركه إلا من يتوهم أن الطبيعة والثقافة في وجود الإنسان قابلان للانفصال احداهما عن الاخرى‬ ‫أو بصورة أدق الطبيعي والمكتسب في الإنسان وخاصة في علاقة الجنسين‪.‬‬‫وإذا اعتبرنا علاقة الطبيعي والمكتسب ودورها في علاقة البشر بعضهم بالبعض وخاصة إذا كانا من جنسين مختلفين تقبل‬‫الترجمة إلى ما هو سلوك تعاقدي قبل الخصام وبعد الخصام فإننا نعتبر القبل خاضعا للتعالي على الطبيعي بالخلقي والبعد‬ ‫بالقانوني‪ :‬وكلاهما يتمازج فيهما الطبيعي والثقافي‪.‬‬‫وفي مثال العلاقة بين الجنسين لو صارت كلها خاضعة للعادات المكتسبة لأصحبت مسرحية ونفاق متبادل ومن ثم فما يحييها‬‫هو ما فيها مما يعبر عما يتعالى على المكتسب وخاصة أحكام العشق إن وجد أو أحكام عكسه إن وجد وكلاهما لا يلبس قفازات‬ ‫العادات المكتسبة وبذلك يقاس الصدق فيهما كليهما‪.‬‬‫وحينها فما يبدو معبرا عن الصدق في الإرادة والكراهة في وعي المرأة العميق هو البداوة والطبيعي وما يبدو معبرا‬‫عنهما في وعي الرجل هو المكتسب والحضاري لكأن القرب من الحيوانية والبعد عنها يمثلان معيارين قويين في العلاقة وخاصة‬‫عندما تنظر إلى ذلك في المجتمعات التي ابتعدت حضاريا عن الطبيعة‪ .‬ومهما زعم من لطف الجنس اللطيف فأكثر شيء‬ ‫يحتقره هو أن يصبح الجنس غير اللطيف لطيفا إلى حد التشبه به‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ومن عاش في أوروبا يفهم ذلك جيدا بل وحتى من يتابع سلوك السواح يفهمه‪ .‬وليس القصد رصد السلوك الإنساني في‬‫الاعيان فحسب بل البحث فيه في الأذهان وما يعبر عما يتجاوز الاعيان والاذهان أعني في الفنون والآداب التي تصفه ليس‬ ‫كما يجري فعلا بل كذلك كما يتجاوزه في لامتناهي الخيال‪.‬‬‫وبهذا يمكن أن نفهم نظرية أرسطو ونظرية ابن خلدون المتقاربتين وإن كانت الثانية أعمق في ما يتعلق بمنزلة القيم‬‫عامة والقيم الحاكمة في علاقة الجنسين‪ .‬فأرسطو يعتبر هذه القيم بمعيار المستوى الذهني قابلة للقسمة إلى ثلاثة‪ :‬من لم‬ ‫يصلوا إليها ومن تجاوزوها ومن يعيشون بها وهم بين هذين الحدين‪.‬‬‫والمعلوم أن أفلاطون يلغي تماما وجود المرأة لأنه يعاملها كما تعامل الملكية المشاعة على الأقل بالنسبة إلى الطبقتين‬‫الأوليين أي الحكام (أصحاب العقل) والحراس (أصحاب الغضب) ولا يبقى عليها بمعنى الزوجة والأسرة إلا للطبقة الدنيا‬‫أو (أصحاب الشهوة)‪ .‬والمسألة تبدو غير موجودة عند ابن خلدون‪ .‬وقد تسمع البعض يمدح ابن رشد لذكره في شرحه‬ ‫لسياسة أفلاطون ما يبدو مدحا لرأي أفلاطون في تربية المرأة وهم غافلون عن منزلتها الحقيقة عنده‪.‬‬‫وكنت متحيرا أمام هذا الغياب ولم أفهم عمق رؤية ابن خلدون قبل الوصل بين مفهوم \"نحلة العيش\" ودورها في الحب وفي‬‫الجنس‪ .‬فهو يرفض تفسير نكبة البرامكة برد الرشيد على علاقة مزعومة لأخته مع البرمكي محتجا بالقرب من البداوة‬ ‫ويكذب انتحال النسب في بعض دول المغرب العربي بنفس الحجة‪.‬‬‫لكن الاهم من ذلك هو الطابع الدوري بين اقصى مراحل البداوة ‪-‬العرب بمعنى أولى نحلة عيش وهي ليست خاصة‬‫بالعرب كجنس بل بمرحلة انثروبولوجية في تكون العمران البدوي ومنه العرب كنجس والكرد وكل الشعوب التي تعيش في‬ ‫الصحراء على رعاية الأبل‪-‬وآخرة نحله أو آخرة مراحل الحضارة‪ :‬الترف‪.‬‬‫ولعل الفرق الوحيد هو أن ما يحصل بليونة الحضارة في المرحلة الأخيرة من الحضارة أو الترف يحصل بعنف البداوة في‬‫المرحلة الأولى منها أو التوحش‪ :‬الجنس يصبح شبه مشاع ولا يكاد يتميز فيه جنس عن جنس من الجنسين بل أكثر من ذلك‬ ‫لا يكاد يوجد فاصل بين الإنسان والحيوان في المسألة الجنسية‪.‬‬‫فالمثلية الجنسية تصبح ظاهرة عادية وزنا المحارم والعلاقة الجنسية حتى مع الحيوان تصبح منتشرة وخاصة في البوادي‬‫وكل ما يسميه ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" الناتج عن العنف في التربية والحكم‪-‬حتى قبل وجود الدولة في البداوة‬ ‫وبعد فسادها في الحضارة‪-‬دور التوحش في الأولى او العنف كقوة كسلطة والتخنث في الثانية أو الجاه كسلطة‪.‬‬‫وينبغي ألا ننسى ما يحيط بالمائدة والسرير من ظروف حصول الفعلين وهي ليست مقصورة على الرؤية المتبادلة بين‬‫الجنسين بل حيز اللقاء بينهما‪ .‬فالمسكن الذي يوفر شروط اللقاء الحميم بين الجنسين من أهم هذه الظروف وهي شبه‬‫منعدمة في الأسر الفقيرة حتى لو اقتصرنا على الأبناء‪ .‬والأمر يتجاوز ما يجري داخل الأسرة الفقيرة بل يمتد إلى ما يحصل‬ ‫في المحاشد المحيطة بالمدن وشبه فقدان المسافة الكافية للستر بين الأجوار‪.‬‬‫فلا يبقى من العلاقة بين الجنسين إلى ما لا يكاد يتجاوز الموجود بين الحيوانات للتكاثر ما يفقد العلاقة الحميمة دلالتها‬‫الروحية والجمالية حتى وإن حافظت على عنفوانها العضوي‪ .‬وما يقال عن السرير يقال مثله أو أكثر منه في المائدة‪ .‬ذلك‬‫أن كثرة الخلفة مع قلة الإمكانات المادية يحولان العيش المشترك المحكوم بتقاسم القليل شبه معركة حياة أو موت مهما تكلمنا‬ ‫على العلاقات العاطفية في الأسرة‪.‬‬‫وحتى نفهم الرؤية الخلدونية عندما تترجم بالمفهومين‪-‬نحلة العيش وعلاقة الطبيعة بالثقافة‪-‬ينبغي أن نذكر أنه يرفض‬‫بناء نظرية الاجتماع والسياسة على علم النفس الأفلاطوني الأرسطي بخلاف كل علماء الإسلام متفلسفيهم ومتدينيهم الذين‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫هم توابع في ذلك لنظريتيهما‪ .‬فأفلاطون وأرسطو كلاهما يبني الجماعة والدولة على خاصية بايولوجية ثابتة هي عندهما‬ ‫مثلث القوى النفسية أي العقل والغضب والشهوة‪.‬‬‫ولهذه العلة فإني أمقت الكلام في الأخلاق وفي الوعظ والإرشاد اللذين يما يتجاوز أصحابهما الرؤية الأفلاطونية‬‫والأرسطية إلى الآن ويغفلون عن ثورة ابن خلدون في هذا المضمار‪ .‬فهو يعكس‪ :‬لا يؤسس الجماعة والدولة على بنية النفس‬ ‫بل هو يعتبر الخصائص النفسية التي قد تفهم من حيث هي عضوية بالصورة الأفلاطونية والأرسطية فهمهما تبسيطيا‪.‬‬‫ولست أمقتهما بسبب الأخلاق والوعظ بل بسبب ما أدى إليه ذلك من إهمال شروط الإصلاح في المجتمعات الإسلامية‪.‬‬‫والأدهى أن الدين أصبح مقصورا على الممارسة المشعرية التي لا تتجاوز هذه المستوى من تصور الأخلاق وكأنها مجرد تصورات‬‫قيمية لا تتجاوز الوجود الذهني وليس لها تأثير على شروط أثرها أعني انتقالها من القول إلى الفعل في تعمير الأرض بقيم‬ ‫الاستخلاف اللذين هما جوهر الدين‪.‬‬ ‫وكل السخافات التي تتكلم على أن الإسلام الحقيقي هو مرحلته المكية ناتجة عن هذا الفصام بين هذين المستويين‪:‬‬‫• فمستوى النظر والعقد يصبح مقصورا على ما وراء ما ليس موجودا في هموم الناظر والمعتقد (الكلام في ما وراء العالم‬ ‫دون علم العالم)‬‫• ومستوى العمل والشرع يصبح متعلقا بما وراء همو العامل والشاعر (الكلام في ما وراء التاريخ دون علم بالتاريخ) ‪:‬‬ ‫ولا يستحون فيسمون ذلك علما دينيا أو فلسفيا‪.‬‬‫فالفصل بين قوى النفس هذه‪-‬تسليما بوجوده يوهم بأن الفيلسوف عاقل فحسب والحارس غاضب فحسب والعامل شاه‬‫فحسب فيقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات (طبقة العقلاء وطبقة الحراس وطبقة العمال) في حين أن هذه الصفات موجودة‬ ‫عندهم جميعا وهي تغيب وتحضر عند الجميع والتفاوت فيها كمي وليس كيفيا‪ -‬لا يطابق حقيقة الكيان العضوي للإنسان‪.‬‬‫فالنفس عنده مادة تشكيلية لكأنها \"ورقة بيضاء\" تصوغها \"نحلة العيش\" وما خصائص هذه الأبعاد النفسية العضوية إلا‬‫ما يحصل من التشكيل بمحددات \"نحلة العيش\"‪ .‬ولذلك فعنده أن \"نحل العيش\" في العمران البدوي أقرب إلى الفضائل‬‫و\"نحل العيش\" في العمران الحضري أقرب إلى الرذائل ولكن ذلك لا يعني تفضيله للعمران البدوي على العمران الحضري‪.‬‬‫وهنا يأتي وجه الشبه بينه وبين أرسطو‪ :‬بداية البدوي متوحشة (بسبب الاعتماد على النفس وعدم وجود سلطان تربوي‬‫وسياسي فوق الفرد غير مجرد الوجود في الجماعة) وغاية الحضري متخنثة (بسبب التربية والحكم والاعتماد على الحامية)‬ ‫هما إذن ما دون وما فوق الأرسطيان‪.‬‬‫وإذن فيوجد ما بعد بداية البدوي وما قبل نهاية الحضري وهما عنده مستوى القيم الحقيقي أعني أن البداوة تنتهي إلى‬‫غاية تصبح أكثر تبعية لقيم الفضيلة فتؤسس الدول والمدن سندا للوزع الذاتي (القيم في الأذهان) بالوزع الأجنبي (القيم‬‫في الأعيان ممثلة بالحكم الشرعي)‪ .‬والحضارة تنتهي إلى غاية تصبح أكثر تبعية لقيم الرذيلة فتخرب الدول والمدن‪.‬‬ ‫الرؤية تبدو غريبة ولكنها تفهمنا إدراكه لعلاقة عميقة بين الطبيعة والثقافة‪.‬‬‫فعنده أن الثقافة من حيث هي تدجين للإنسان تنتهي إلى النكوص به إلى ما دون الفضيلة‪ .‬فالفضيلة هي ما يعرف به‬ ‫الإنسان \"رئيس بالطبيع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬‫فيكون الإنسان في البداية لم يدرك هذه الرئاسة لأنه يخضع للقوة (قانون الطبيعة) وفي الغاية يفقد الرئاسة (قانون‬ ‫الغريزة)‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فتكون نهاية البداوة اكتشاف ما يتعالى على القوة وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون بالوزع الأجنبي أو حراسة القانون‬‫بنظام سياسي هو أصل الدولة‪ .‬وتكون نهاية الحضارة اكتشاف ما يتعالى على القانون وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون‬‫بالترف أو انخرام حراسة القانون السياسي والخلقي فتنهار الدولة التي تصبح محكومة بـاستبداد الغرائز عند الحاكم‬ ‫والمحكوم‪.‬‬‫وليس المقصود بالدولة منظومة المؤسسات السياسية وكأنها جهاز مجرد لا يمثل جماعة بل ما يجعلها ممكنة وذات شرعية‬‫معبرة عن إرادة الجماعة فتساند شوكتها‪ .‬وإذن فالدولة تقتضي وجود المؤسسات الوسيطة بينها وبين الفرد بوصفها عين‬‫التعبير الحقيقي عن الوصل بين الشرعية والشوكة في كل دولة‪ :‬الأسرة والمعبد والمدرسة والمعمل وكل الجماعات المدنية‬ ‫بنوعيها أي الاقتصادية حول المصالح المادية والثقافية المعرفية حول المعاني القيمية‪.‬‬‫لكن هذه المقابلة المطلقة في فكر ابن خلدون وهي التي تؤسس نظرية أعمار الدول والحضارات قابلة للتعديل بما حاولنا‬‫بيانه من التماعي الدائم للمراحل التي ذكرتها (ما دون المائدة والسرير فالمائدة والسرير فما دون فن المائدة وفن السرير‬ ‫فما بعدهما) بفضل المرحلة الوسطى بين الأوليين والأخيرتين‪.‬‬‫فالمرحلة الوسطى‪-‬ما دون فن المائدة وفن السرير‪-‬مرحلة يكون فيها فن المائدة وفن السرير منشودين بمعنى أنهما مثالان‬‫أعليان يجعل أساسي الحياة العاطفية غاية يسعى إليها الجنسان وليست أمرا تحقق فصار مجرد عادة يطلب الإنسان تحقيقهما‬ ‫المطلق ثم تجاوزهما إلى الترف الذي هو نهاية الحياة السوية‪.‬‬‫وهذه المرحلة الوسطي بعد الأوليين وقبل الأخيرتين مضاعفة‪ .‬فهي متجاوزة لمرحلة ما دون المائدة والسرير بداية للبداوة‬‫والمائدة والسرير غاية للبداوة‪ .‬وهي كذلك قبل الأخيرتين تصبو لهما دون الوصول إليهما لأن التحقق المطلق للرابعة ينتهي‬ ‫إلى الخامسة وهي مرحلة الترف القاضية على \"معاني الإنسانية\"‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ما ظل الإنسان إنسانا فلم تفسد فيه معاني الإنسانية وما بقيت الجماعات البشرية‬‫محددة للقيم ولمنازل الأفراد فيها بمقتضاها فإن علاقة الجنسين ستبقى دائما خاضعا لمزيج‬‫مما يترتب على المراحل الخمس التي وصفنا في كل جنس وفي نفس الوقت‪ .‬فالنفس البشرية‬‫متأرجحة بينها خمستها حتى لو غلبت عليها إحداها بغلبة نوع التعالق بين الجنسين‪ .‬ويكون‬‫كل مستوى متضمنا بالفعل لما تقدم عليه ومتضمنا بالقوة لما يتلوه‪ .‬ومن ثم فهو دائما مهددا‬ ‫بأقصى البداية وأقصى الغاية‪.‬‬ ‫ماذا يعني ذلك؟‬‫القصد أن العلاقة بين الجنسين ليست ساكنة بل هي متحركة وتمر بحسب الظروف بكل‬‫هذه المراحل ولو ثبتت في أي منها لاستحال دوامها لأكثر مما تدوم لحظات التمثيل والنفاق‬‫بينهما‪ .‬ولولا التأطير الاجتماعي بالقيم وبما يقبل بمقتضى المنازل لما بقي غير ما دون‬‫الثانية وما بعد الرابعة‪ .‬وما دون الثانية هو الوحشية الأصلية وما بعد الرابعة هو‬‫الوحشية الناكصة وهي أكثر بشاعة وقبحا‪ :‬إذ تزول حرية الإرادة وصدق العلم وخير‬ ‫القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬‫وما دون الثانية تناسب بداية البداوة أو العلاقة المحكومة بالجري وراء ضرورات العيش‬‫الدنيا وما بعد غاية الحضارة أو العلاقة المحكومة وراء جماليات العيش الاقصى أو الترف‬‫أي سلطان قوة الطبيعة والحياة وسلطان قوة الثقافة والموت‪ :‬عنفوان الغرائز والشباب‬ ‫وخمود الغرائز والشيخوخة‪.‬‬‫وبرمزية أفلاطون‪ :‬عنفوان الحياة أو قوة البدن وحكاك الأجرب أو قوة الخيال غير‬‫الإبداعي‪ .‬فالخيال المبدع أكثر عنفوان وقوة حتى من الواقعات‪ .‬فيكون الذوق غذائيا‬‫وجنسيا في حالة البداية ويصبح الذوق ليس متعلقا بهما بل بما يعوضهما بعد فقدانهما وهو‬‫ليس من جنس الانتقال إلى الذوق الجمالي والجلالي بل هو من جنس في الافتراضي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولأنهما مطلوبان حقا يكون \"طعمهما\" في ذاتهما‪ .‬ولأن المطلوب في هذه الحالة هو‬ ‫استحضارهما وليس حضورهما يكون طعمهما في ما يحيط بهما‪.‬‬‫ولأضرب مثال قد يبدو ساذجا‪ :‬فالبدن الإنساني لا يختلف عن أي جهاز آلي يكون عمله‬‫قبل أن يغلب عليه الفساد أقوى من عمله بعد أن يغلب عليه‪ .‬وكل جهاز بهذا المعنى له‬‫عنفوان شباب وخذلان شيخوخة‪ .‬والفرق الوحيد أن الجهاز الآلي يكون فيه ذلك حدثا‬ ‫دون حديث وعند الإنسان مع حديث‪.‬‬‫وحديث الشيخوخة ذكرى لأثر درس‪ .‬ومن ثم فالانتقال من العنفوان الفعلي إلى‬‫العنفوان القولي ويصبح عالم الحدوث الخيالي متقدما على عالم الحدوث الفعلي ولا ينقل‬‫الأول إلى الثاني إلا المخدرات والمسكرات والملهيات فتصبح الفرجة على الأكل والجنس‬ ‫بديلا من الفعل ذاته‪ :‬وهذا ليس عند الفرد فحسب بل في الجماعة‪.‬‬ ‫ولنأخذ مثال الهندام‪ :‬فالعري والتغطية كلاهما له دلالتان‪ .‬في البداية وفي النهاية‪.‬‬ ‫• الدلالة غير الجنسية لها علاقة بالطبيعة المحيطة أو بالمناخ‪.‬‬‫• والدلالة الثانية جنسية وهي إما لحماية عنفوان الجنس أو لقتله بالابتذال الذي يزيل‬ ‫الفرق بين الخاص والعام لأن العري يجعله عاما فيفقده فاعليته‪.‬‬‫وفي الحقيقة هو يقلب العلاقة بين العام والخاص‪ .‬فعندما يكون العري استعراضا لا واعيا‬‫لمطلوب مفقود فهو يجعل العام موضوع الجهد المبذول لإبراز حاجة لا واعية للجنس المفقود‬‫أو بصورة أدق للجوع الجنسي الذي لا يشبع لأنه من جنس اللامتناهي الزائف في حياة‬ ‫الترف كما وصفها ابن خلدون‪.‬‬‫ويصبح الخاص أو ما يعاش في داخل البيت مهملا تماما لأن الاستعداد لخارج البيت يقتضي‬‫أن يصبح الفضاء الخاص متعلقا بإراحة البشرة وما سواها أو بأعدادهما لما سيعرض في‬‫الفضاء العام في اليوم الموالي‪ .‬وهذا طبعيا يعني أن ما يوجد في البيت لم يعد له دلالة ما‬ ‫يصحب الجنس بل رتابة ما يحول دون جذوته‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فيعوض الاكزيبسيونسم (الاستعراض) والفيوريسم (الاستفراج) بديلين من المائدة‬‫والسرير وخاصة بما يقدم على أنه من فنونهما إخفاء لما اصاب الوظيفتين العضويتين من‬ ‫هزال وضعف‪.‬‬‫فالجذوة والمتعة تضمران في الحالتين ويصبح الفعلي مقصورا على الأماني أو السوانج‬‫الآفلة بسرعة لأنها من جنس الومضات الخاطفة التي تعوض فيها الحواس الخارجية ما كان‬‫من المفروض أن يكون جوهر الحياة العاطفية أعني الحواس الباطنية وهي لا تعمل‬‫بالسوانح الخاطفة بل بالتكايف المديد بين الجنسين‪ .‬فكل غلو في الانشغال المائدة والسرير‬‫دال على العكس وعلامته المبالغة في الكلام عليهما‪ .‬والتناسب عكسي بين الفعل والكلام‪:‬‬ ‫تضخم الثاني متناسب مع ضمور الأول‪.‬‬‫وليس بالصدفة أن كان ذلك من العاهات العامة عند العرب وليس في المائدة والسرير‬‫فحسب بل في كل ما تعوض الأقوال فيه الأفعال حتى تتحول كل الوظائف التي تحتاج إليها‬‫الجماعة ظاهرات صوتية لا يتلوها فعل‪ .‬والأمر لا يقتصر على الأحداث الفعلية في حياة‬‫الجماعة بل خاصة في فنونها وفي آدابها حتى صار معيار الجودة الشعرية هو‪ :‬أجود الشعر‬ ‫أكذبه بخلاف المعيار القرآني‪.‬‬‫وهو ما يجعل ما نراه من لهيث وراء الموضة في الهندام بين الكاسي والعاري ليس مجرد‬‫موضة هندامية بل هو من جنس ما سماه أفلاطون حكاك الأجرب المعبر عن عدم الإشباع‬‫أو عن التبئير والهوس الجنسي أو الغذائي الذي هو مرض إذا صار مركز الاهتمام المغني‬ ‫عما يجعله \"جزاء\" عضويـا يصحب الوظيفتين‪ :‬الغذاء والجنس‪.‬‬‫علاقة الأغنياء بالمائدة والسرير ومتمماتهما ليست علاقة يكون فيها الغذاء والجنس‬‫مؤديين لوظيفتيهما بل يكون ما يتوهمونه حليا تجميليا لهما عند تجاوز حد معلوم فاقدا‬‫للوظيفة التجميلية لأنه يصبح مجرد تعويض عن فقدان ما لهما بذاتهما من وظائف عضوية‬ ‫وجمالية أولهما بالقصد الأول والثاني بالقصد الثاني‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وخلال كلامه على الترف ضرب ابن خلدون مثال تجميل الجنان والحدائق عند الأغنياء‬‫بالنباتات التي لا تثمر بل تقتصر على التجميل‪ .‬وقد اعتبر ذلك من علامات بداية موت‬‫الحضارة لأنها فصلت بين الوظيفتين العضوية (الإثمار) والتلذذية جمال المنظر العقيم‬ ‫عضويا بالنسبة لقيام الإنسان‪.‬‬‫يمكنني أن أقدم مثالا آخر لم يكن ابن خلدون يستطيع تقديمه‪ :‬وهو آخر ما صنعه‬‫الشرق ‪-‬وهو دائما مصدر الشبق لذاته‪-‬هو العرائس البديلة من المرأة للرجل والبديلة من‬‫الرجل للمرأة‪ .‬فهذه العرائس يمكن اعتبارها تطوري للجنس الذاتي أو للعادة السرية بعد‬ ‫أن فقد الجنس وظائفه الروحية والعضوية‪.‬‬‫وهذا المثال المتعلق بفن السرير يناظر مثال ابن خلدون المتعلق بفن المائدة‪ .‬كلاهما لم‬‫يبق من الأمر إلى جماليته العقيم‪ .‬والجمالية في مثال ابن خلدون كان يمكن أن تجمع بين‬‫الجمال والخصب في النبات المثمر‪ .‬وهو في مثالي كان يمكن أن تجمع بين الجمال والجنس‬ ‫المثمر‪ .‬لكن الترف يغني عن الثمرة‪.‬‬‫أعلم أن الكثير يستهين بهذه الأمور‪ .‬لكن ابن خلدون لم يستهن بها لأنه كان يبحث عن‬‫فهم المحددات العميقة لسلوك الإنسان‪ .‬وما كان ليفعل لو لم يفهم أن الفلسفة القديمة‬‫والوسيطة (وأضيف وحتى الحديثة) قد غفلت عن هذه المستويات التي سماها \"نحل‬‫العيش\" لفهم سلوك الإنسان‪ .‬وبهذا كانت الأديان‪-‬وخاصة الإسلام وبصورة أدق القرآن‬‫لأن علوم الملة ابتعدت عنه إما بسبب الإسرائيليات والفلسفيات ولأن سلوك الأمة بسبب‬ ‫النكوص إلى الجاهلية وسيطرة العادات‪ -‬أبعد غورا من الفلسفات حتى الحديثة‪.‬‬‫فما عرفت من القدامى والمحدثين أولى أهمية لهذه القضية الجوهرية‪ :‬قضية المائدة‬‫والسرير بمراحلها الخمس التي وصفت اكتفوا باعتبار الفرق بين الجنسين ماديـا واعتبروا‬‫الوحدة الصورية لتعريف الإنسان‪-‬حيوان ناطق‪-‬كافية لفهم سلوكه‪ .‬لكن الرجل للمرأة‬‫والمرأة للرجل لغزان محيران حقا ولا يتفق فيهما حتى الحيوانية والعاقلية إذ هما يكادان‬ ‫يختلفان في كل شيء‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولهذا علاقة بنظرية التعريف بمقومات قابلة للتجريد والفصل بين المادة والصورة ‪-‬في‬‫الفلسفة الأرسطية خاصة وهي في الفلسفة الأفلاطونية أدهى وأمر لأن المادة تعتبر عنده‬‫أصل الشرور كلها‪-‬وبالذات بسبب تمنعها دون الخضوع للصورة‪ .‬وحتى لو سلمنا بأن البدن‬‫مجرد \"مادة\" تحددها الصورة فإن المادة في هذه الحالة محددة قبل صورة الفرق النوعي‬ ‫الذي يسمى النطق‪.‬‬‫فالفرق الجنسي يحدد مادة الإنسان المجردة قبل الفصل بين الجنسين وذلك قبل‬‫تحديدها المشترك بينهما بالنطق‪ .‬ولعله فرق نوعي ضمن الإنسان أكثر فاعلية في ما يسبقه‬‫وما يتلوه من كيانه أعني المادة غير المصورة والصورة غير ممددة التي يستمد منها الفرق‬‫النوعي‪ .‬وقد تكون المرأة بذلك قد خسرت مميزاتها الذاتية لعلل ثقافية أهمها وهم‬ ‫مشابهة الرجل دليل تحرر وسمو‪.‬‬‫وفي القرآن وبخلاف خرافة الضلع المعوج (لعلها من الإسرائيليات) لدى الفقهاء‬‫والمفسرين أصل الإنسان هو الأنثى وليس الذكر في النساء ‪ 1‬بتوضيح لا لبيس فيه في‬‫الأعراف ‪{ :189‬هُ َو الَّ ِذي َخلَ َقكُم ِّمن َّنفْسٍ وَا ِحدَةٍ وَجَ َع َل ِمنْهَا َزوْ َج َها لِيَسْكُنَ إِ َل ْي َها ۖ َفلَ َّما‬‫َتغَشَّا َها َح َم َل ْت َح ْم ًلا َخفِي ًفا َف َم َّر ْت بِهِ ۖ َفلَ َّما َأ ْث َق َلت َّدعَوَا ال َلّهَ َر َّب ُهمَا لَ ِئنْ آ َت ْي َت َنا َصا ِل ًحا َّل َن ُكونَنَّ‬ ‫مِنَ ال َّشاكِ ِري َن‪.‬‬‫لذلك فالأكثر تحييرا هو استنادا إلى هذا الخطأ الفلسفي الذي يوهم بان الفرق بينهما‬‫متعلق بالمادة وليس بالصورة يقتضي عدم فهم دور هذا الفرق الذي قد يجعلهما نوعين‬‫مختلفين بالجوهر اختلافا هو الذي تجعل وجودهما معا شرطا في تواصل النوع‪ :‬فهل الفرق‬ ‫المادي المنسي أهم من الوحدة الصورية المزعومة؟‬‫ولست أبالغ إذا قلت إن إهمال هذا الفرق \"المادي\" في نظر الفلاسفة وخاصة محاولة‬‫إزالته سيحدد مصير الإنسانية فضلا عن كون ازاحته مستحيلة لأنه كما بينت لا يمكن أن‬‫يخلو أي مجتمع من وجود المستويات الخمسة المحددة لعلاقة الجنسين بحسب \"نحلة العيش\"‬ ‫ودور كلا الجنسين فيها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وعندما أقارن منزلة المرأة في التوراة‪-‬مجرد عاهرة‪ -‬ومنزلتها في الإسلام ‪-‬حصان‪-‬‬‫أكتشف الفرق الجوهري بين المنزلتين‪ .‬ولا أريد أن أهجو التوراة وأن امدح القرآن إذ على‬‫القراء أن يقارنوا بأنفسهم حتى لا يظنوا أني اتجنى على الأولى وابالغ في مدح الثاني‬ ‫لكني أشير إلى أن غياب المرأة في الفلسفة فضيحة فلسفية‪.‬‬‫ولست مجازفا إذا قلت إن في أعماق الفلاسفة موقف نيتشوي من المرأة حتى وإن لم يعلنوا‬‫عنه‪ .‬فلا أرسطو ولا أفلاطون ولا سقراط‪-‬الذي تعتبر السخرية من \"غباء\" زوجته علامة‬‫احتقار لا حد لها‪ -‬ولا ديكارت ولا كنط ولا هيجل ولا أي فيلسوف عربي أعطى للمرأة‬‫واحد من المليون بالقياس إلى ما تعطيها إياه منزلتها في القرآن التي لا علاقة لعادات العرب‬‫بتمثيلها لأنهم نكصوا إلى الجاهلية‪ :‬يكفي أنه يخاطبها بعلامة جنسها ليبين أنه يخاطبها‬ ‫كامرأة‪.‬‬‫وبهذا المعنى فكل الحركات التي تدعي النسوية والدفاع عن المرأة وخاصة باتهام الإسلام‬‫حداثيي العرب وحداثياتهم أهم أكثر الناس احتقارا للمرأة لأن استنادهم إلى الفلسفة‬‫ليس له معنى أسمى مما يراه كبار الفلاسفة‪ .‬فهم في الحقيقة لم يتجاوزا الرؤية‬‫الأفلاطونية هي كائن لا يبقون فيه من المرأة إلا ما لا يستطيعون حذفه أعني ما ترجعها‬‫إليه بعض العجائز التونسية احتقارا للمرأة \"شقفة بول\"‪ .‬إنها ملكية مشاعة وبضاعة مباعة‬ ‫لأداء هذه الوظيفة الحيوانية دون مصاحبها الروحي‪.‬‬‫ولهذه العلة فهم يرون العلاقة بين شرف الرجل ومنزلة المرأة من دلالات التخلف لأن‬‫من يقيمها بالقيمتين الماديتين (الاستعمال والتبادل) لا يمكن أن يصلها بالشرف إذ لا أحد‬‫مستعد للموت دون عرضه إذا عرضه يقاس بثمن اقتصادي بهذين المعنيين‪ :‬ولهذه العلة‬ ‫فالكثير من هذا الرهط قد يستعمل نسائه لارتقائه بهذين بهما‪.‬‬‫وإذا أمكن للتكنولوجيا أن تصنع حاضنات تغني عن الحمل فيمكن أن تلتقي البويضة‬‫والحيوان في المعمل ويصبح الجنس مطلق الفصل فلا يجتمع الدوران العضوي والجمالي في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الحياة الجنسية وتتحقق أحلام أفلاطون وحتى ماركس من المشاعية الجنسية مثلها مثل‬ ‫مشاعية الملكية‪ .‬هل هذه غاية الإنسان؟‬‫لكن حتى لو أمكن تحرير المرأة والرجل مما يثقل على الجنسي لذاته فإن المشكل يبقى‬‫في خاصية بايولوجية سابقة ولاحقة ومصاحبة للمائدة والسرير المثمرين وغير المقتصرين‬‫على ما جعلته الحياة شبه جزاء من اللذة والجمال والحب للجهد المبذول لتحقيق بقاء النوع‬ ‫وعلى المرأة في ذلك كلفة أكبر من الرجل‪.‬‬‫ومهما فعلنا تقنيا للتخفيف عنها بتعويض بعض الأجزاء من دورها يبدو أنه يستحيل‬‫تخليصها من الدورة الشهرية ومتاعبها ومن البيض ومن تغذية الجنين حتى لو تحررت من‬‫إرضاعه مع ما يترتب على ذلك من هشاشة الأطفال على الاقل في السنة الأولى بعد‬ ‫الوضع‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ممكن الحصول والعنف لا يغير من الأمر شيء بل هو يفسد الحياة ولا يجودها وخاصة‬‫حياة المرأة‪ .‬ذلك أن هذه الشبكة العلائقية لا يمكن أن تكون محددة بالأحكام المسبقة التي‬‫في الاذهان بل هي تتحدد بشبكة العلاقات التي في الاعيان ومحاولات فهم بنيتها وشروطها‪.‬‬‫مثال ذلك أن مرحلة ما دون المائدة والسرير تجعلهما غاية للفرد وللجماعة فيكون تحصيل‬‫الغذاء والجنس مقتضيا تقسم عمل بين الجنسين يجعل معيارها القدرة على الحماية للرجال‬‫والقدرة على الرعاية للنساء دون أن يعني ذلك تفاوتا في المنزلة بين الجنسين بل إن لكلتا‬ ‫الوظيفتين نفس المنزلة والأهمية‪.‬‬‫فالزوجة والام والاخت والبنت نساء ولسن جواري كما وهن ذوات منزلة كريمة حتى‬‫وإن كنا من حيث الحماية تابعات للأب والأخ وللأقربين من محارمهن بحكم وظيفتهم كحماة‬‫في المرحلة التي ما يزال فيها طلب الرزق اليومي يجري في شبه حرب دائمة مع الطبيعة ومع‬ ‫الإنسان‪.‬‬‫وغير صحيح أن المرأة حينها كانت جارية‪ .‬فالجارية مفهوم متأخر ولا تبدأ إلا مع حصول‬ ‫القدر الكافي من المائدة والسرير‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن من يحقق الاكتفاء المشروط في المائدة والسرير هو الذي يمكن أن يصبح‬ ‫قادرا على التمييز بين الزوجة والجارية وهو بداية تقسيم عمل \"جنسي اقتصادي\"‪.‬‬‫ذلك أن الجارية تبدأ للخدمة وتنتهي للجنس إذا توفرت فيها شروط الجمال إذ معها‬‫تزول الحشمة التي هي شرط الحياة مع الزوجة بمعنى أن المباح مع تلك مستحيل مع هذه‬‫في كل ما يصحب الحياة الجنسية الأقل التزام بقيم الحشمة و\"القدر\" تماما كما صار يحصل‬ ‫الآن مع العشيقات‪.‬‬‫وينبغي أن أشرح هنا مفهوم الوأد‪ .‬فوأد البنات كانت له علتان‪ :‬العجز عن الحماية‬ ‫والعجز عن الرعاية‪.‬‬ ‫لم يكن العربي القادر عليهما يئد بناته‪ .‬فالعجز عن الحماية يورث العار‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والعجز عن الرعاية يورث جريمة أكبر‪ .‬فموت البنت جوعا جريمة أشنع من الوأد فهو‬‫من جنس الموت الرحيم بالقياس إلى عذاب الجوع الذي لا مخرج منه‪ .‬وطبعا الإسلام حرر‬ ‫البشر منه بأبوات الإنفاق‪.‬‬‫وإذن فتوهم الجواري موجودة في مرحلة ما دون المائدة والسرير من الأخطاء التي لا‬‫يمكن أن يقع فيها من طبق مفهوم \"نحلة العيش\" على العلاقة بين المرأة والرجل‪ .‬وجود‬ ‫الجواري يقتضي تحقق الشروط الدنيا من مرحلة المائدة والسرير‪.‬‬ ‫وهم ممكن للقلة من الاقوياء إذن يصبحون اثرياء النهب والسلب والسبي‪.‬‬‫ولكن عندئذ يكون ذلك مع الرجال كما مع النساء فيتكون مفهوم العبد والامة وتتكون‬‫تجارة من العبيد والإماء وهي تجارة من جنس تجارة الصيادين‪ :‬فالأقوياء يصطادون من‬‫لا يستطيع حماية ذاته وحماية نسائه ثم تتكون تجارة العبيد بعد أن يسد الصيادون‬ ‫حاجتهم منهم‪ .‬والأمر كذلك في العالم كله إلى الآن‪.‬‬‫ومن أراد أن يجد دليلا على بقاء الحال على ما هي عليه إلى الآن رغم كذبة زوال‬‫العبودية فيلدرس ما يجري في البلاد التي اشتهرت بالسياحة عامة والتي لم تعد تخفي علاقة‬‫السياحة عامة بالسياحة الجنسية خاصة‪ .‬وسيرى دون كبير عناء أن تجارة الجنس‬ ‫والعبودية موجودة في العالم عامة غنيه وفقيره‪.‬‬ ‫واستكمالا لقضية وأد البنات في الجاهلية أضيف عنصرا اساسيا‪:‬‬‫لو كان العرب يئدون البنات أنهم بنات لما تواصل النوع‪ .‬كانوا يئدون بسبب العلتين اللتين‬‫ذكرتهما‪ .‬وأبواب الإنفاق في الدولة الإسلامية هي بداية كونية لمفهوم الدولة الراعية لمن‬ ‫يعجز عن الرعاية كما هي حامية لمن يعجز عن الحماية‪.‬‬‫ويكفي أن ننظر الآن في علاقة أهل المدن من الأغنياء ببنات أهل الريف من الفقراء أو‬‫في استيراد الخليج للخدم وحتى للجواري من بلاد العرب والعجم‪ .‬فهذه عبودية حتى وإن‬ ‫زعمت تعاقدية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهي عبودية مضاعفة من البلاد المصدرة ومن البلاد الموردة وكل ذلك مناف لقيم الإسلام‬ ‫ومعاني الإنسانية‪.‬‬‫بل إن ابن خلدون وصل إلى حد اعتبار المستخدم لغيره أحقر الخادم لأنه فقد القدرة‬‫على الاعتماد على نفسه في رعايتها‪ .‬وكنت ولا زلت دائما أعجب من دعيات الدفاع عن‬‫المرأة وهن أكثر نساء العالم حطا من كرامة خادماتهن وفقيرات النساء في بلادهن بل‬ ‫وحتى الرجال‪ :‬المرأة \"مورد رزق إيديولوجي\"‪.‬‬‫سيظن الكثير أن المنزلة التي أوليها لما رمزت إليه بالمائدة والسرير ولفن المائدة وفن‬‫السرير وما اشتققته منهما قبلهما وبعدهما وبينها مع التركيز على أهمية البدن أو الجسم‬‫الإنساني أن قائل بالجوهرانية المادية‪ .‬ذلك ان الكثير يتصور البدن مادة بمعنى كتلة‬ ‫جرمية وليس هو بدوره بنية علائقية‪.‬‬‫ومثلما يتصورون البدن مادة يتصورون العالم الخارجي الطبيعي والتاريخي اللذين‬‫يتعامل معهما الإنسان بتوسط بدنه في العلاقتين العمودية مع الأول لسد حاجاته والأفقية‬‫لتنظيم هذا السد والأنس بالعشير مادي هو بدوره فأكون وكأني ملت إلى الماركسية‪ .‬لكني‬ ‫لا أفهم معنى المادة في هذه الحالات‪.‬‬‫فكون أرى بدني متعينا في حيز ذي امتداد من المكان وفي حيز ذي مدة من الزمان والعالم‬‫من حوله وكأنه هو بدوره حيزين جنيسين من المكان والزمان كلاهما مناسب لمداركي الحسية‬‫لا يعني أني أعلم طبيعتهما بردهما إلى مادة أو إلى روح أو إلى مزيج منهما أو إلى شيء‬ ‫آخر مجهول‪ :‬ما أعلمه هو العلائق‪.‬‬‫وإذا أمكن لي أن أسمي شيئا من هذه العلائق بوصفه \"طبيعة\" ما فهو النظام القانوني‬‫الممسك بالعناصر التي تدركها حواسي‪ .‬وهو ليس مادة ولا روح رغم أني أستطيع أن اعبر‬‫عما أعلمه منه بجمل رمزية ذات اسميها رياضية بمعنى أنها نسب بن مقومات عنصرية‬ ‫افترضها لملء خانات معادلة رياضية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذه \"الحقائق\" هي التي أوجبت التخلص من خرافة العلاقة الجدلية التي صارت \"عصا‬‫سحرية\" عند كاريكاتور الحداثة وحتى عند كاريكاتور الأصالة الذي صار يستعملها تحت‬‫مسمى التدافع لكأنه توجد علاقة بين عنصرين متناقضين في أي مجل وليس علاقة يسهم‬ ‫فيها العالم كله كما حاولت بيانه‪.‬‬‫وليس لأننا نلغي الكثير من العناصر المتدخلة حتى نستطيع التعامل مع الوضعيات‬‫المعزولة بسبب محدودية إدراكنا فإن تلك العناصر ملغاة وفاقدة لدورها‪ .‬لا شيء مما‬‫يحدث فينا أو في العالم او في ما بينا وبين العالم يمكن استثناؤه مما يجري في النظام المحدد‬ ‫للعلاقة بين جنسين لا يتواصل النوع إلا بهما‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى الزبدة‪:‬‬‫هل كان ابن خلدون في كلامه على المبدأ الذي اتبعه في ترتيب مسائل علمه الست أعني‬‫مفهوم الإنسان ومحددات وجوده بمعيار التراتب بين الضروري والحاجي والكمالي مع‬‫اضمار ما دون الاول وما فوق الثاني قد أتبع نفس الخطة دون أن يحترز فيعتبرها متماعية‬ ‫دائما؟‬ ‫فالمسائل هي موضوعات الأبواب الستة‪:‬‬ ‫‪ .1‬العمران البشري على الجمل‪.‬‬ ‫‪ .2‬العمران البدوي‪.‬‬ ‫‪ .3‬الدول‪.‬‬ ‫‪ .4‬العمران الحضري‪.‬‬ ‫‪ .5‬في الصنائع والمعاش‪.‬‬ ‫‪ .6‬في العلوم واكتسابها وتعلمها‪.‬‬‫فهل ابن خلدون يعتبر تتابعها يجعل الخالف وكأنه تجاوز للسالف بمعنى الاوفهيبونج‬‫الهيجلي أو الماركسي أم له تصور آخر؟ كل الفصول السابقة من هذه المحاولة تفترض أن‬ ‫أجيب بأن له تصورا آخر وهو سر أمرين‪:‬‬‫‪ .1‬تجدد الحضارات مدين لهذه السلسلة التي تتكرر دائما وليست تحدث مرة واحدة لكأن‬ ‫التاريخ الحضاري للإنسانية خطي‪.‬‬‫‪ .2‬تعايش الضروري والحاجي والكمالي وما دون الأول وما بعد الأخير دائما لتحقيق‬ ‫الدورة‪.‬‬‫والمبدأ الثاني هو الذي يجعل آليات التغير الدورية تجري داخل نفس الحضارة ثم بين‬‫الحضارات وهي سر العلاقة بين الفاعل الطبيعي في الإنساني والفاعل المكتسب وهوما يعني‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أن المكتسب مهما كانت أهمية دوره فهو بفضل عدم التساوي في الاكتساب يجعل مراحله‬ ‫محكومة بصمود الطبيعي وما صمود عادة المكتسب‪.‬‬‫ولهذه العلة عرفت الزمان التاريخي بكونه ذا خمسة أبعاد وليس ثلاثة مثل الزمان‬‫الطبيعي‪ .‬طبعا ابن خلدون لم يستعمل هذا التعريف الذي وضعته لفهم علل صمود‬‫الحضارة السابقة عندما تغلب أمام غزو الحضارة اللاحقة التي تغلبها ووجود أمل‬ ‫الاستئناف رغم أنه حتما سيتأثر بالغالبة ليأخذ منها سر غلبتها‪.‬‬ ‫فالماضي الحضاري يتألف من أحداثه التي حصلت فعلا أو تخيلا ومن أحاديثه حولها‪.‬‬‫والمستقبل الحضاري يتألف من أحاديثه حول احداثه المقبلة سواء حدثت لاحقا فعلا أو لم‬ ‫تحدث‪.‬‬‫والحاضر هو دائما معركة الأحاديث لأن الأحداث الماضية مضت والأحداث المقبلة لم تحدث‬ ‫بعد‪.‬‬‫وبذلك تصبح الأحاديث في الحاضر هي التي تؤثر أكثر من الأحداث الماضية لأنها هي التي‬‫تضفي عليها المعنى المؤثر بتأويلاتها وأكثر من الأحداث المقبلة لأنها هي التي تحض على‬‫الفعل المحقق لها‪ .‬فتكون الفاعلية الرمزية التي في الأحاديث بصنفيها أهم من الفاعلية‬ ‫المادية رغم ضرورتها‪.‬‬‫ولهذه العلة فالقوة اللطيفة ‪-‬القيم بما فيها من كوني رغم أنه يبدو خصوصي‪-‬تمثل عامل‬‫صمود من دونها يصبح الفعل المادي حاسما حسما نهائيا بحيث إن من يغلب في معركة بالقوة‬‫العنيفة ينتهي في حين أن القوة اللطيفة تمثل دائما سر الصمود والاستئناف بفضل مقومات‬ ‫كيان الإنسان الكونية‪ :‬سر المناعة‪.‬‬‫ففي فلسفة الحرب ‪-‬كلاسفيتس‪-‬الأمم لا تهزم لأنه جيشها انكسر أو لأن ارضها احتلت وهما‬‫النوعان الاولان من الهزيمة عنده وإنما تهزم حقا عندما تفقد القدرة على المقاومة‬‫والصمود شرطي الاستئناف‪ .‬ومعنى ذلك لا يكون العدو قد انتصر إلا إذا قتل في المغلب‬ ‫إرادة الصمود والمقاومة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذه الإرادة تبدو وكأنه نابعة من الخصوصية الحضارية‪ .‬وهي فعلا تبدو كذلك لأنها‬‫شيء كلي وكوني يوجد في الإنسان من حيث هو إنسان لكنها تتلون بالخصوصيات القيمية‬‫والحضارية أو بأشكال التعبير عنها لكن طبيعتها واحدة‪ :‬الاسترداد المسيحي في القرون‬ ‫الوسطى مماثل للاسترداد الإسلامية الحالي‪.‬‬‫وبهذا المعنى نكتشف سر العمق في العلاج الخلدوني حتى وإن لم يكن هو نفسه واعيا به‪:‬‬‫ففي تعريف للإنسان وعلل فناء الأمم تكلم على \"فساد معاني الإنسانية\" بوصفه ماحيا‬‫لحقيقة الإنسان الذي يعرفه \"رئيسا بالطبع بـمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" بمعنى أنه‬ ‫لا يقبل فقدان حريته أبدا‪.‬‬‫ولأورد النص (الفصل ‪ 24‬من الباب الثاني‪ :‬في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها‬‫أسرع إليها الفناء)‪ )...(\" :‬وفيه والله أعمل سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه‬‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له والرئيس إذا علب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل‬‫حتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي‪ .‬ولقد يقال مثله في‬ ‫الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين‪.‬‬‫فلايزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء‬‫والبقاء لله وحده\"‪ .‬وها نحن نجد المبدأين‪ :‬المائدة (الغذاء) والسرير(الجنس)‪ :‬رمزي‬ ‫البقاء الحر والعزيز‪.‬‬‫وما قاسه ابن خلدون على الحيوان المفترس في الإنسان يجعل \"الرئاسة بالطبع\" التي له ذات‬ ‫صلة بالاستقلال في المائدة وفي السرير أو بصورة أدق يجعل هذين علامتي الاستقلال‪.‬‬‫والأول هو رمز الملكية شرط الرعاية والثاني هو رمز الشرف شرط الحماية‪ .‬ومجموعها هو‬ ‫شرط الرئاسة بالطبع والاستخلاف‪.‬‬‫وبذلك نكون قد وصلنا إلى نوعي القيم‪ :‬القيم المادية (الملكية أصلا للحرية الدالة على‬‫القدرة على الرعاية) والقيم المعنوية (الشرف أصلا للكرامة الدالة على القدرة على‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الحماية)‪ .‬قيم الرعاية والحماية يتبادلان التأثير‪ :‬فينتجان القدرة على الصمود الفعلي‬ ‫والرمزي روحيا‪.‬‬ ‫والثاني يستعيد الأول‪.‬‬‫صحيح أن فقدان القدرة على الرعاية قد تضطر الإنسان للتنازل على الحرية فيتنازل عن‬‫الحماية قبولا بشروط الغالب ومن ثم يفقد الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬‫له‪ .‬وحينها يكون قد تنازل عن إنسانيته بالمعنى الخلدوني أو عما فيه من \"غريزة طبيعية‬ ‫يشاركه فيها الحيوان المفترس\"‪.‬‬‫وهذا يصبح ما به تتجدد الحضارات هو في آن الطبيعي من القيم التي تتقوم بها حقيقة‬‫الإنسان وليس وجوده فحسب‪ .‬فالمائدة والسرير مقومان وجوديان يمكن أن يكونا سويين ما‬‫لم يصبحا مقابل التنازل عن حقيقة الإنسان بحيث يلغيان حريته (المائدة) وكرامته‬ ‫(الجنس) فتحصل العبودية وتزول الرئاسة بالطبع‪.‬‬ ‫وهنا نكتشف المعيار الحقيقي لتقييم الإنسان في بعدي \"معاني الإنسانية\" لديه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الرئاسة بالطبع (بعد فلسفي)‬ ‫‪ .2‬بمقتضى الاستخلاف (بعد ديني)‪.‬‬‫فعندما تنظر في الكاريكاتورين من النخب العربية التحديثة والتأصيلية تكتشف أنهم لا‬‫يرون من الوجود إلى المستوى الأول من القيم التي تحكم التبادل الاقتصادي ولا يدركون‬ ‫معنى القيم التي تحكم التواصل الوجداني‪.‬‬‫بهذا المعنى فلا يمكن أن يفهموا معنى \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" أي‬‫إن القيم عندهم لا تتجاوز قيمتي الاقتصادي أي قيمة الاستعمال وقيمة التبادل أي إنهم‬ ‫إما جوعى أو بضاعة بخسة‪.‬‬‫ولا يعترفان بالتواصل الروحي أي الرعاية دون مقابل وحماية ما هو أغلى من الذات بسبب‬ ‫الحب عامة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولست أعني أن هذين النوعين من النخب الكاريكاتورية ليس عندهم حب للولد أو للوطن‬‫أو للمعتقد لكن عند الوقوع في وضع الاختيار فهم مستعدون لجعل ذلك كله دون قيم‬‫الاقتصاد وخاصة الاستعمالية ولكن حتى التبادلية ولذلك فالمستبدون يستعملونهم بهما‬ ‫فيصبحون بالضرورة طبالين‪ :‬والعلامة فساد شعرائنا‪.‬‬‫قد يجيد بعضهم وإن لم يصلوا ابداع المتنبي لكنه مثله أنذال يشترون بالمال لسد حاجة‬‫المائدة والسرير وما يبتعهما من مكملات‪ .‬ولا يمكن أن يكون شاعرا نبيلا من يطبل‬‫للمجرمين لأنه لم يفهم قول القرآن في شروط الشعر الذي يجمع بين القيم الجمالية والقيم‬ ‫الجلالية فيكون القول فيه مطابقا للفعل‪.‬‬‫ذلك أن جمال القول من دون فعل يعني أن القول صار بضاعة تباع في سوق النخاسين‪ :‬من‬‫يظن نفسه شاعرا ويطبل لما يسمى بالممانعة كاذب في شعره حتى لو أجاد‪ .‬وما أظن أحدا‬‫من شعرائنا الحاليين مبدعا لأن أغلبهم بحجة التناص يكتفون بسرقة ما أبدعه قبلهم الشعر‬ ‫العربي أو الغربي دون صدق أصحابه‪.‬‬‫عندنا إذن نوعان مضاعفان من القيم مع أصل ترد إليه أربعتها‪ :‬قيمتان اقتصاديتان للتبادل‬‫وقيمتان وجدانيتان للتواصل‪ .‬والأصل الجامع هو تعريف ابن خلدون للإنسان‬‫بكونه\"رئيسـ(ـا) بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو تعريف فلسفي (بالطبع)‬‫وديني (الاستخلاف) في آن‪ :‬ذلك هو السر الخلدوني والذي سعيت لتأييده ببيان وحدة‬ ‫الديني والفلسفي رغم تعدد الأديان والفلسفات‪.‬‬‫فسواء بدأت بالعمل والشرع وانتهيت إلى النظر والعقد (الديني) أو عكست فبدأت النظر‬‫والعقد وانتهيت إلى العمل والشرع (الفلسفي) يبقى الطريق واحدة رغم تعاكس السير‬‫فيه‪ :‬الديني يقدم العمل والشرع منطلقا للنظر والعقد والفلسفي يقدم النظر والعقد‬ ‫منطلقا للعمل والشرع‪.‬‬ ‫وقد برهنت على ذلك في محاولات سابقة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والآن أستطيع أن أفصح عن دلالة المراحل الخمس أو المستويات الخمس بمعيار المائدة‬‫والسرير وفن المائدة والسرير وما دون الأولى وما دون الثاني وما بعده‪ .‬فهذه المستويات‬‫ليست منفصلة عندي عن مستويات القيم بفرعيها المضاعفين وبأصلها أو معاني الإنسانية‬ ‫مقومات للرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف‪.‬‬‫وإذن فكل مستوى من المستويات التي تنتج عن المائدة والسرير يكون فيه البشر واعين أو‬‫غير واعين بهذا المعنى للإنسان‪ :‬فمنهم من يسعى لأن يحقق شروط رئاسته بالطبع رعاية‬‫وحماية ومنهم من لا يفعل فيفقد معاني الإنسانية ويكون فيستتبع لغلبة قيم التبادل‬ ‫الاقتصادي بدل قيم التواصل الوجداني عليه‪.‬‬‫والفرق بين قيمتي التبادل الاقتصادي (الاستعمال والتبادل) وقيمتي التواصل الوجداني‬‫(الحرية والكرامة) هو قابلية التفريط في الأوليين وعدم قابليته في الثانيتين‪ .‬وللنوعين‬‫علاقة بالمائدة والسرير يحددها نوعان من المحددات ذات صلة بمقومات كيان الإنسان‬ ‫وقيمها‪ .‬ذلك أن الحرية والكرامة ذاتا صلة مباشرة كما سنرى بحيزي الثروة والتراث‪.‬‬‫فحيز الثروة محدد لعلاقة الإنسان بالحرية والمائدة وحيز التراث محدد لعلاقة الإنسان‬‫بالكرامة (أو العرض) والسرير‪ .‬وهذا التحديد هو الذي يميز حقا بين العبيد والأحرار‬ ‫أو بين من فسدت فيهم معاني الإنسانية ومن حافظوا عليها‪.‬‬‫وهذا ثابت لا يتغير‪ .‬قد تتغير النسب‪ .‬لكن الظاهرتين متلازمتان‪ .‬وتلازمهما من جنس‬‫تلازم الخير والشر‪ .‬فالإرادة حرة أو مضطرة والعلم صادق أو كاذب والقدرة خيرة أو‬‫شريرة والحياة جميلة أو قبيحة والوجود جليل أو ذليل‪ .‬هو معنى الوعي بكون الإنسان‬ ‫\"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف\" أو غير واع‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى زبدة المنظور الخلدوني‪:‬‬‫هل كان ابن خلدون في كلامه على المبدأ الذي اتبعه في ترتيب مسائل علمه الست أعني‬‫مفهوم الإنسان ومحددات وجوده بمعيار التراتب بين الضروري والحاجي والكمالي مع‬‫اضمار ما دون الاول وما فوق الثاني قد أتبع نفس الخطة دون أن يحترز فيعتبرها متماعية‬ ‫دائما؟‬ ‫الفصل السادس في علاقة الجنسين بمنظور مفهوم \"نحلة العيش\" الخلدوني‪.‬‬ ‫فالمسائل هي موضوعات الابواب الستة‪:‬‬ ‫‪ .1‬العمران البشري على الجملة‬ ‫‪ .2‬العمران البدوي‬ ‫‪ .3‬الدول‬ ‫‪ .4‬العمران الحضري‬ ‫‪ .5‬في الصنائع والمعاش‬ ‫‪ .6‬في العلوم واكتسابها وتعلمها‪.‬‬‫فهل ابن خلدون يعتبر تتابعها يجعل الخالف وكأنه تجاوز للسالف بمعنى الاوفهيبونج‬ ‫الهيجلي أو الماركسي أم له تصور آخر؟‬‫وكل الفصول السابقة من هذه المحاولة تفترض أني أجيب بأن له تصورا آخر وهو سر‬ ‫أمرين‪:‬‬‫‪ .1‬تجدد الحضارات مدين لهذه السلسلة التي تتكرر دائما وليست تحدث مرة واحدة‬ ‫لكأن التاريخ الحضاري للإنسانية خطي‪.‬‬‫‪ .2‬تعايش الضروري والحاجي والكمالي وما دون الأول وما بعد الأخير دائما لتحقيق‬ ‫الدورة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والمبدأ الثاني هو الذي يجعل آليات التغير الدورية تجري داخل نفس الحضارة ثم بين‬‫الحضارات وهي سر العلاقة بين الفاعل الطبيعي في الإنساني والفاعل المكتسب وهوما يعني‬‫أن المكتسب مهما كانت أهمية دوره فهو بفضل عدم التساوي في الاكتساب يجعل مراحله‬ ‫محكومة بصمود الطبيعي وما صمود عادة المكتسب‪.‬‬‫ولهذه العلة عرفت الزمان التاريخي بكونه ذا خمسة أبعاد وليس ثلاثة مثل الزمان‬‫الطبيعي‪ .‬طبعا ابن خلدون لم يستعمل هذا التعريف الذي وضعته لفهم علل صمود‬‫الحضارة السابقة عندما تغلب أمام غزو الحضارة اللاحقة التي تغلبها ووجود أمل‬ ‫الاستئناف رغم أنه حتما سيتأثر بالغالبة ليأخذ منها سر غلبتها‪.‬‬‫فالماضي الحضاري يتألف من أحداثه التي حصلت فعلا أو تخيلا ومن أحاديثه حولها‪.‬‬‫والمستقبل الحضاري يتألف من أحاديثه حول أحداثه المقبلة سواء حدثت لاحقا فعلا أو لم‬ ‫تحدث‪.‬‬‫والحاضر هو دائما معركة الأحاديث لأن الأحداث الماضية مضت والأحداث المقبلة لم‬ ‫تحدث بعد‪.‬‬‫وبذلك تصبح الأحاديث في الحاضر هي التي تؤثر أكثر من الأحداث الماضية لأنها هي‬‫التي تضفي عليها المعنى المؤثر بتأويلاتها وأكثر من الاحداث المقبلة لأنها هي التي تحض‬ ‫على الفعل المحقق لها‪.‬‬‫فتكون الفاعلية الرمزية التي في الأحاديث بصنفيها أهم من الفاعلية المادية رغم‬ ‫ضرورتها‪.‬‬‫ولهذه العلة فالقوة اللطيفة ‪-‬القيم بما فيها من كوني رغم أنه يبدو خصوصي‪-‬تمثل عامل‬‫صمود من دونها يصبح الفعل المادي حاسما حسما نهائيا بحيث إن من يغلب في معركة بالقوة‬‫العنيفة ينتهي في حين أن القوة اللطيفة تمثل دائما سر الصمود والاستئناف بفضل مقومات‬ ‫كيان الإنسان الكونية‪ :‬سر المناعة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ففي فلسفة الحرب ‪-‬كلاسفيتس‪-‬الأمم لا تهزم لأنه جيشها انكسر أو لأن ارضها احتلت‬‫وهما النوعان الأولان من الهزيمة عنده وإنما تهزم حقا عندما تفقد القدرة على المقاومة‬ ‫والصمود شرطي الاستئناف‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك لا يكون العدو قد انتصر إلا إذا قتل في المغلب إرادة الصمود والمقاومة‪.‬‬‫وهذه الإرادة تبدو وكأنه نابعة من الخصوصية الحضارية‪ .‬وهي فعلا تبدو كذلك لأنها‬‫شيء كلي وكوني يوجد في الإنسان من حيث هو إنسان لكنها تتلون بالخصوصيات القيمية‬‫والحضارية أو بأشكال التعبير عنها لكن طبيعتها واحدة‪ :‬الاسترداد المسيحي في القرون‬ ‫الوسطى مماثل للاسترداد الإسلامية الحالي‪.‬‬‫وبهذا المعنى نكتشف سر العمق في العلاج الخلدوني حتى وإن لم يكن هو نفسه واعيا به‪:‬‬‫ففي تعريف للإنسان وعلل فناء الأمم تكلم على \"فساد معاني الإنسانية\" بوصفه ماحيا‬‫لحقيقة الإنسان الذي يعرفه \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" بمعنى أنه‬ ‫لا يقبل فقدان حريته أبدا‪.‬‬‫ولأورد النص (الفصل ‪ 24‬من الباب الثاني‪ :‬في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها‬‫أسرع إليها الفناء)‪ )...(\" :‬وفيه والله أعمل سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه‬‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له والرئيس إذا علب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل‬‫حتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي ولقد يقال مثله في الحيوانات‬‫المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين‪ .‬فلايزال هذا القبيل المملوك عليه‬‫أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء والبقاء لله وحده\"‪ .‬وها نحن نجد‬‫المبدأين‪ :‬المائدة (الغذاء وما يتبعه) والسرير (الجنس وما يتبعه)‪ :‬رمزي البقاء الحر‬ ‫والعزيز‪.‬‬‫وما قاسه ابن خلدون على الحيوان المفترس في الإنسان يجعل \"الرئاسة بالطبع\" التي له‬‫ذات صلة بالاستقلال في المائدة وفي السرير أو بصورة أدق يجعل هذين علامتي الاستقلال‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والأول هو رمز الملكية شرط الرعاية والثاني هو رمز الشرف شرط الحماية‪ .‬ومجموعها هو‬ ‫شرط الرئاسة بالطبع والاستخلاف‪.‬‬ ‫وبذلك نكون قد وصلنا إلى نوعي القيم‪:‬‬ ‫• القيم المادية (الملكية أصلا للحرية الدالة على القدرة على الرعاية)‬ ‫• والقيم المعنوية (الشرف أصلا للكرامة الدالة على القدرة على الحماية)‪.‬‬‫قيم الرعاية والحماية يتبادلان التأثير‪ :‬فينتجان القدرة على الصمود الفعلي والرمزي‬ ‫روحيا‪ .‬والثاني يستعيد الأول‪.‬‬‫صحيح أن فقدان القدرة على الرعاية قد تضطر الإنسان للتنازل على الحرية فيتنازل‬‫عن الحماية قبولا بشروط الغالب ومن ثم يفقد الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي‬‫خلق له‪ .‬وحينها يكون قد تنازل عن إنسانيته بالمعنى الخلدوني أو عما فيه من \"غريزة‬ ‫طبيعية يشاركه فيها الحيوان المفترس\"‪.‬‬‫وهذا يصبح ما به تتجدد الحضارات هو في آن الطبيعي من القيم التي تتقوم بها حقيقة‬‫الإنسان وليس وجوده فحسب‪ .‬فالمائدة والسرير مقومان وجوديان يمكن أن يكونا سويين ما‬‫لم يصبحا مقابل التنازل عن حقيقة الإنسان بحيث يلغيان حريته (المائدة) وكرامته‬ ‫(الجنس) فتحصل العبودية وتزول الرئاسة بالطبع‪.‬‬‫وهنا نكتشف المعيار الحقيقي لتقييم الإنسان في مدى \"معاني الإنسانية\" لديه‪ .‬فعندما‬‫تنظر في الكاريكاتورين من النخب العربية التحديثة والتأصيلية تكتشف أنهم لا يرون من‬‫الوجود إلى المستوى الأول من القيم التي تحكم التبادل الاقتصادي ولا يدركون معنى القيم‬ ‫التي تحكم التواصل الروحي‪.‬‬‫بهذا المعنى فلا يمكن أن يفهموا معنى \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‬‫أي إن القيم عندهم لا تتجاوز قيمتي الاقتصادي أي قيمة الاستعمال وقيمة التبادل أي‬ ‫إنهم إما جوعى أو بضاعة بخسة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولا يعترفان بالتواصل الروحي أي الرعاية دون مقابل وحماية ما هو أغلى من الذات‬ ‫بسبب الحب عامة‪.‬‬‫ولست أعني أن هذين النوعين من النخب الكاريكاتورية ليس عندهم حب للولد أو‬‫للوطن أو للمعتقد لكن عند الوقوع في وضع الاختيار فهم مستعدون لجعل ذلك كله دون‬‫قيم الاقتصاد وخاصة الاستعمالية ولكن حتى التبادلية‪ .‬ولذلك فالمستبدون يستعملونهم‬ ‫بهما فيصبحون بالضرورة طبالين‪ :‬والعلامة فساد شعرائنا‪.‬‬‫قد يجيد بعضهم وإن لم يصلوا إبداع المتنبي لكنه مثله من الأنذال الذين يشترون بالمال‬‫لسد حاجة المائدة والسرير وما يتبعهما من مكملات للتبذير والتخدير‪ .‬ولا يمكن أن يكون‬‫شاعرا نبيلا من يطبل للمجرمين لأنه لم يفهم قول القرآن في شروط الشعر الذي يجمع بين‬ ‫القيم الجمالية والقيم الجلالية فيكون القول فيه مطابقا للفعل‪.‬‬‫فـجمال القول من دون فعل يعني أن القول صار بضاعة تباع في سوق النخاسين‪ :‬من يظن‬‫نفسه شاعرا ويطبل لما يسمى بالممانعة كاذب في شعره حتى لو أجاد‪ .‬وما أظن أحدا من‬‫شعرائنا الحاليين مبدعا لأن أغلبهم بحجة التناص يكتفون بسرقة ما أبدعه قبلهم الشعر‬ ‫العربي أو الغربي دون صدق أصحابه‪.‬‬‫وكل من يدعي الطهر والنظافة بالتطبيل للممانعة بدعوى أنها تقاوم المستكبرين يغالط‬‫ذاته قبل غيره وهو لا يفعل دون مقابل إذ هم يدفعون للطبالين ولو \"أون ناتير\" ويكفي‬ ‫أن تسمع مليشيا القلم في الصحافة العربية المقيمة والمهاجرة‪.‬‬‫فلا مستكبر أكثر ممن يريد أن يلغي تاريخ الإسلام ويبحث عن بعث ما تقدم عليه ولو‬‫التنكر فيه فيدعي محاربة أمريكا وإسرائيل ليرضي المغفلين بالأقوال ويتحالف من يحارب‬‫الإسلام بالأفعال باحتلال أرضه وتشييع شعبه من أجل استرداد دولة آل كسرى باسم آل‬ ‫البيت‪.‬‬‫عندنا إذن نوعان مضاعفان من القيم مع أصل ترد إليه أربعتها‪ :‬قيمتان اقتصاديتان‬‫للتبادل وقيمتان وجدانيتان للتواصل والأصل الجامع هو تعريف ابن خلدون للإنسان‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫بكونه\"رئيسـ(ـا) بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو تعريف فلسفي (بالطبع)‬ ‫وديني (الاستخلاف) في آن‪ :‬ذلك هو السر الخلدوني‪.‬‬‫والآن أستطيع أن أفصح عن دلالة المراحل الخمس أو المستويات الخمس بمعيار المائدة‬‫والسرير وفن المائدة والسرير وما دون الاولى وما دون الثاني وما بعده‪ .‬فهذه المستويات‬‫ليست منفصلة عندي عن مستويات القيم بفرعيها المضاعين وبأصلها أو معاني الإنسانية‬ ‫مقومات للرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف‪.‬‬‫وإذن فكل مستوى من المستويات التي تنتج عن المائدة والسرير يكون فيه البشر واعين‬‫أو غير واعين بهذا المعنى للإنسان‪ :‬فمنهم من يسعى لأن يحقق شروط رئاسته بالطبع رعاية‬‫وحماية ومنهم من لا يفعل فيفقد معاني الإنسانية ويكون فيستتبع لغلبة قيم التبادل‬ ‫الاقتصادي بدل قيم التواصل الوجداني عليه‪.‬‬‫وهذا ثابت لا يتغير‪ .‬قد تتغير النسب‪ .‬لكن الظاهرتين متلازمتان‪ .‬وتلازمهما من جنس‬‫تلازم الخير والشر‪ .‬فالإرادة حرة أو مضطرة والعلم صادق أو كاذب والقدرة خيرة أو‬ ‫شريرة والحياة جميلة أو قبيحة والوجود جليل أو ذليل‪.‬‬ ‫هو معنى الوعي بكون الإنسان \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف\" أو غير واع‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والآن وصلنا إلى خاتمة المحاولة‪:‬‬‫هل كان ما دون المائدة والسرير يمكن أن يصل إلى المائدة والسرير لو لم يكن للإنسان‬ ‫بعض وعي بكونه \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"؟‬‫هل كان يمكنه أن يتجاوز الحيوانية فيسموا إلى الإنسانية جمعا بين السيادة (قوة‬ ‫طبعية) والرئاسة (قوة وجدانية)؟‬‫هل كان ذلك يكون لو كان الأب والام يعاملان الأبناء بقيم التبادل بدلا من قيم‬ ‫التواصل؟‬ ‫هل يمكن للحيوان ذكره أو انثاه أن يجوع ليغذي ابنه أو بنته؟‬‫صحيح أن بعض البشر في عصر الوحشية التي دون المائدة والسرير قد يأكل أبناءه أو‬‫أبناء غيره إذا جاع بل وكان يتصور مؤلهاته تحتاج إلى أضاحي بشرية‪ .‬لكن ذلك كان‬ ‫استثناء وإلا لما تم تجاوزه‪.‬‬ ‫وتلك هي رمزية قصة ابراهيم مع اسماعيل‪.‬‬‫وهي قصة تذكر بمثلث أفلاطون في نظرية الألوهية التي اراد وضعها في تأسيس حكمه‬ ‫على الجناية الكبرى‪:‬‬ ‫‪ .1‬نفي وجود الله‪.‬‬ ‫‪ .2‬اعتباره غير معني بالعالم‪.‬‬ ‫‪ .3‬اعتباره قابلا للرشوة وهي الاضاحي من أجله‪.‬‬ ‫وقد يعاب على إبراهيم أنه أبقى على الأضحية‪.‬‬‫لكنها ليست رشوة بل هي علامة تحرر الإنسان من رمز القيم الاقتصادية من أجل القيم‬ ‫الوجدانية‪.‬‬‫فالحيوان المضحى به ليس القصد منه رشوة الله بل القصد منه تحرير الإنسان من الملكية‬ ‫من عرفان من الإنسان بوصوله إلى الوعي بكونه رئيسا بالطبع لأنه خليفة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وللقرآن في ذلك آية تنفي أن يكون لحم الضحية أو دمها هو ما يعني الله بل دلالة الفعل‬‫الذي هو تواصل وجداني مع دلالة الحادثة التي وقعت لإبراهيم والتي هي بداية الوعي‬‫بأن الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له وذلك هو معنى الإنسانية أو‬ ‫أصل لكل المعاني التواصلية‪.‬‬‫فالمعنى التواصلي للمائدة هي \"اطعام اليتيم والمسكين\" والمعنى التواصلي للسرير \"هي‬‫العفة\" والمعنى التواصلي لفن المائدة هي العطاء الكرم والمعنى التواصلي لفن السرير هو‬‫الحب والمعنى التواصلي لأصل الفنون كلها هو مقومات الإنسان‪ :‬حرية الإرادة وصدق العلم‬ ‫وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬‫والمراحل التي هي دون المرحلة الثالثة التي هي الوعي المشرئب إلى مرحلة فن المائدة‬‫والسرير تمثل التدرج الإنساني نحو معاني الإنسانية بحسب هذا التعريف‪ .‬وما يأتي بعد‬‫مرحلة فن المائدة من تجاوزات هو بداية الترف الذي يعتبره ابن خلدون غاية الحضارة‬ ‫بمعنى نهايتها وليس بمعنى فضيلتها‪.‬‬ ‫فالإسراء ‪ 16‬ليس فيها ظلم عندما تهلك القرية كلها لأن المترفين فسقوا فيها‪.‬‬‫ذلك أن الترف هنا ليس صفة للأغنياء وحدهم بل هي كما وصفها ابن خلدون في الفصل‬‫الذي خصصه للترف هو فساد معاني الإنسانية في الغني والفقير على حد سواء‪ :‬النكوص‬ ‫إلى غلبة قيم التبادل المادي على قيم التواصل الوجداني‪.‬‬‫فكل المعاني التواصلية تزول بالتدريج حتى يصبح الإنسان للإنسان ذئبا بسبب الغنى‬‫والفقر في آن‪ :‬الأول يفعله للاستمتاع بما يظنه قوته والثاني يفعله بما يعتبره ثأرا من‬‫وضعه ويصبح كل شيء مباحا ولعل أفضل علامة على ذلك هو ما صار عليه أرقى فنون‬ ‫التلهية أعني السينما عند \"طابخيه\" وعند \"آكليه\"‪.‬‬‫وقد يكون ما يحدث في \"واقع\" العرب أكثر تمثيلا لهذه الحالة من السينما الأمريكية‪:‬‬‫ففيه الطابخون هم الحكام ونخبهم من الكاركاتوريين والآكلون هم الشعب المسكين الذي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يرى بأم عينيه الموبقات التي توجد في السينما بوصفها ذات وجود افتراضي لكنها عندنا‬ ‫توجد بوجود فعلي دونه الافتراضي بشاعة‪.‬‬‫فكل قصور الحكام وذوي الجاه أشبه بمعامل الوجود الافتراضي عند الطباخين الذين‬‫يسمون فنانين وكل المدن السياحية في الشرقين الأدنى والاقصى أشبه بالآكلين في‬‫الافتراضي والمأكولين في الفعلي‪ .‬فالسائح الذي يزور المدن السياحية شرقية وسطى أو‬ ‫شرقية قصوى يطلب المائدة والسرير بضاعتين بلا روح‪.‬‬‫وفي المقابل فالشباب الذي يرتمي في البحر من أجل الوصول إلى الغرب ماذا يطلب؟ هل‬‫هو يفعل ذلك من أجل تواصل وجداني أم من أجل تبادل مادي صار ما يحلم به من \"جنة‬‫افتراضية\" في الغرب أسمى قيمة من حياته التي كان يمكن أن يجعلها تصبح مبدعة لشروط‬ ‫المائدة والسرير بمجرد وعيه برئاسته بالطبع؟‬‫فلو كونت الثقافة الشباب بجنسيه فجعلته يدرك معنى التواصل الوجداني المقدم على‬‫التبادل المادي لكونه شرطه هل كان يعجز فلا يفهم أن الجنة الافتراضية التي يذهب إليها‬‫قد تمكنه من قشور الكيان الكريم بمقابل هو التخلي عن شروط الكرامة التي جوهرها هو‬ ‫فعل تحقيقها علامة على الرئاسة بالطبع‪.‬‬‫وهكذا إذن فعندنا مستويات التحديد بعلاقتي الإنسان العمودية مع الطبيعية والافقية‬ ‫مع الإنسان ‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما دون المائدة والسرير‬ ‫‪ .2‬المائدة والسرير‬ ‫‪ .3‬ما دون فن المائدة وفن السرير‬ ‫‪ .4‬فن المائدة وفن السرير‬ ‫‪ .5‬ما بعد فن المائدة والسرير‪.‬‬ ‫وهي كلها شبكات علائقية متجاوزة لجواهر الأعيان ولأفكار الأذهان‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهي إذن لا مادية فتكون ماركسية ولا روحية فتكون هيجلية بل هي من طبيعة مجهولة‬‫ولا ينسب إلى جواهر الأعيان (مادة) أو جواهر الاذهان (مثال) إلا بسبب وهم أرسطي‬‫يجعل العلاقات صادرة عن نواة جوهرية هي الطبائع في حين أننا نرى هنا ليس طبائع بل‬ ‫علاقات لا نعلم طبائع مصادرها وعلى علل تأثيرها‪.‬‬‫كون كيان الإنسان تصله بالطبيعة الحاجة إلى شروط بقائه ككائن عضوي وكون بقائه‬‫ككائن عضوي مع الجنس الثاني يمثلان شرط بقاء النوع أمران لا نعلم منهما إلا كونهما‬‫علائق مشروطة وشارطة لأمرين نجهل حقيقتهما‪ :‬فلا الطبيعة ولا الحياة بالأمرين‬ ‫المعلومين لنا إلا فرضيا ككيانين نجوهرهما ذهنيا‪.‬‬‫وإذا جوهرناهما من دون أن نضع وراءهما أو فيهما جوهرا أعلى منهما نعتـبـره الناظم‬‫(شارع) أو الخالق (بارئ) أو كلاهما معا‪ .‬وكلاهما موجود في الرؤيتين الفلسفية والدينية‬‫إذ حتى القرآن فهو يمكن أن يفهم بقراءة الخلق عن عدم وبقراءة الناظم لموجود غير‬ ‫مخلوق هو المادة (وكان عرشه على الماء)‪.‬‬‫وإذا وصفنا الله والعالم بالقدم فإن ذلك لا يعني أن القدم الذي للخالق من جنس القدم‬‫الذي للمخلوق‪ .‬فالعالم المخلوق مدين لله الخالق ليس بوجوده فحسب بل وبقدمه بمعنى‬‫أن الله خالق بالذات والعالم مخلوق بالذات والخالقية مقوم ذاتي لله والمخلوقية مقوم ذاتي‬‫للعام وكلاهما قديم دون زمانية تقتضي أن يوجد سابق ولاحق لكأن الله لم يكن خالقا ثم‬ ‫أصبح خالقا والعالم لم يكن مخلوقا ثم صار مخلوقا‪.‬‬‫ونفس القول بالنسبة إلى الآمر والمأمور‪ .‬فالآمرية مقوم ذاتي لله والمأمورية مقوم ذاتي‬‫للعالم‪ .‬ومعنى ذلك أن الله لما يصف نفسه بكونه له الخلق والأمر فهو يعني أنه له الخالقية‬‫والآمرية والعالم له المخلوقية والمأمورية ومن ثم نفهم معنى تسبيح كل شيء لله ويأتيه‬ ‫طوعا أو كرها‪ .‬فعلا الخلق والأمر ليسا حادثين ومثلهما مفعولهما‪.‬‬‫ولا ندعي بذلك علما بالغيب‪ :‬فالقرآن يقول ذلك والإنسان لا يستطيع تصور غير ذلك‬‫دون أن يزعم أن ذلك علم يستمده من التضايف بين المعنيين وحده بل هو مجرد تصور لا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يفيد الحقيقة في ذاتها لو لم يكن القرآن هو الذي جعله أفضل الخيارين في الممكن عقلا‪:‬‬ ‫فالممكن عقلا قد يوجد وقد لا يوجد‪.‬‬ ‫وما يفيد وجوده في هذه الحالة هو ما يؤيده القرآن نصا‪.‬‬‫وكل تخريف الفلاسفة والمتكلمين يتأسس على وهم العلم بطبيعة المادة واعتبارها دالة‬‫على النقص ومثلها ما يتصورونه خاصا بها مثل الحركة والتغير لكأن الصوري يمثل التمام‬‫والثبات الكمال‪ .‬وهذا موروث على فلسفة أفلاطون (المادة هي الشر) وأرسطو (المادة هي‬‫التغير والقوة في مقابل الصورة التي هي الثبات والفعل)‪ .‬لكن القرآن لا يكون ذلك‪:‬‬‫فالمدد الإلهي مشتق من المادة وهو إمداد من مادة أي جوهر الموجود وكل ذلك إلهي لأنه‬ ‫سر القيام المستمد من قيومية الحي القيوم أي من الله‪ .‬والله نفسه كل يوم في شان‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن السخفاء الذين يتهمون ابن تيمية بالقول بقدم العالم ويكفروه لذلك‬‫لم يتدبروا القرآن جيد التدبر لأن ذلك ‪-‬كما بين ابن رشد في رده على المتكلمين‪ -‬لا يتنافى‬‫مع القرآن بل العكس هو الصريح في الكثير من آياته خاصة إذا قلنا بالخلق المستمر بمعنى‬ ‫أن بقاء العالم القديم مشروط بعناية الخالق القديم‪ :‬وذلك هو ما يقوله ابن تيمية‪.‬‬‫أما السلسلة الثانية فهي ما يمكن اعتباره مقومات أحياز العالم المحيط بالإنسان وهو‬‫طبيعي وتاريخي في آن ومقومات أحياز الإنسان نفسه المحيط بالعالم بفضلها وهي أيضا‬‫مقومات طبيعية وثقافية أعني الحدين اللذين تصل بينهما السلسلة الأولى المتعلقة بما‬ ‫يؤخذه الإنسان من الطبيعة وما يعطيه للحياة‪.‬‬‫فأحياز العالم المحيط بالإنسان الطبيعي فيهما هو المكان كجغرافيا طبيعية والزمان‬‫كتاريخ طبيعي بوصفهما كليهما شارطين لأحياز الإنسان من حيث هو آخذ من الأول ومعط‬‫للثاني أو وسيطا بينهما في الوجود الطبيعي وفي الوجود الحضاري بإبداع حيزين آخرين‬ ‫هما الثروة والتراث ويوحد ذلك كله بمرجعية‪.‬‬‫والمرجعية التي توحد الأحياز الأربعة في العالم المحيط بالإنسان والاحياز الأربعة‬‫المناظرة لها في كيان الإنسان (بدنه و\"روحه\" وما يختزنه بدنه مما يستمده من حيز‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬