أبو يعرب المرزوقيبمنظور مفهوم \"نحلة العيش\" الخلدوني الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 8 - -الفصل الثالث 15 - -الفصل الرابع 19 - -الفصل الخامس 26 - -الفصل السادس 30 - -الفصل السابع 36 - -الفصل الثامن 42 - -الفصل التاسع 48 - -الفصل العاشر 55 -
--ما أريد الكلام عليه الآن أعلم جيد العلم أنه مما لن يرضى عنه كاريكاتور التحديثوالتنوير العقلاني ولا كاريكاتور التأصيل والتنوير الروحاني وخاصة من يقيسون التقدموالرجعية بمعايير جوهرانية سواء كانت هيجلية (أرواح الشعوب) أو ماركسية (طبقاتالجماعة) ومع ذلك فهو عندي متجاوز لكل هؤلاء في علاج طبيعة العلاقة بين الجنسين أو منزلة المرأة في المجتمعات البشرية.وهو ليس متجاوز لأني صاحبه بل لأن صاحبه هو من أفسدت كل أفكاره لأنها عيرتـهابمقياس البحث عما فيه بدعوى بيان السبق والحداثة من فكر ماركس أو هيجل فلسفياتاريخيا أو من أغست كونت ودوركايم عليما اجتماعيا بدل النظر في أقواله وتصوراته بمقتضى نسقها الذي تستمد منه دلالاتها ومعانيها :ابن خلدون.كل ما أنسبه إلى نفسي هو \"شبكة\" قراءته بتصورات بمقولات يمكن ردها إليه إذا فهمنامضمون الباب الأول من المقدمة كما أراده صاحبه إطارا نظريا عاما للأبواب الخمسة الباقيةولمجالي بحثه أي \"العمران البشري\" أولا و\"الاجتماع الإنساني\"ثانيا في مرحلتيهما البدويةوالحضرية واتجاهي تفاعلهما من الأول إلى الثاني ومن الثاني إلى الأول .وهذا الإطار النظري الشامل الوارد في الباب الأول من المقدمة شديد الوضوح: .1العالم الجغرافي المناخي أساس كل حياة وخاصة حياة الإنسان. .2خصائص الحي العضوية و\"الروحية\" من حيث هي وعي بشروط قيامه وظروف تحصيلها. .3الخوف من المستقبل بخصوص شروط البقاء. .4ابداع التوقع والاستعداد لها ماديا ورمزيا. .5هي \"العمران البشري والاجتماع الإنساني\" بمرحلتيه البدوية والحضرية.وهذان الشكلان من \"التنازل\" أو تقاسم الجماعة السكن في مكان محدد هو ما يتوالى منأشكال مفهوم أبدعه ابن خلدون وسماه \"نحل العيش\" .وهو مفهوم يتجاوز مفهوم أرواحأبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
--الشعوب الهيجلي ومفهوم الطبقة الماركسي وما وراء المفهومين من جهرانية الروح وجوهرانية المادة.فمفهوم \"نحلة العيش\" يفيج الأحوال التي تمر بها علاقات العناصر الخمسة الواردة فيالإطار النظري التي وصفت والتي هي مادة الباب الأول من المقدمة .ليس جواهر ولا هيروح ولا هي مادة ولا نعلم طبيعتها ما هي .كل ما نعلمه أنها شبكة \"علاقات\" بين أمور كلها غير محددة تحدد \"نحل العيش\" الإنساني التفاعلية.فإذا اعتبرنا الإنسان في تفاعليه مع محيطه الطبيعي الخارجي تفاعلا ينتج محيطا ثقافيامتعينا في أدوات مادية وأدوات رمزية هي شروط علاقاته بمحيطيه الطبيعي والثقافيالمتراكم بالتدريج أمكن لنا أن نرد ذلك إلى عاملين هما شروط يستمدها من الطبيعة لبقائه وشروط يمد بها الحياة لبقاء النوع.وأهم شرط يستمده الإنسان من محيطه الطبيعي سواء مباشرة أو بتوسط الجماعة(تقسيم العمل) هو الغذاء .وأهم شرط يمد به الإنسان الحياة من كيانه هو التكامل بينالجنسين للإنجاب أو الجنس .ومن ثم فالمقوم الطبيعي الأول هو الجغرافيا والمناخ وقدرات الإنسان للاستفادة منهما لتفعيل هذين الشرطين .والقدرات هي:• ما يمكنه من التعامل مع محيطه الطبيعي أي النظر والعقد لمعرفة قوانينها للاستفادة من ثرواتها• ما يمكنه من التعالم مع محيطه الإنساني أي العمل والشرع معرفة سننها الحياةالجماعية للاستفادة من تراثها في تنظيم حياته الجمعية وتحقيق شروط التواصل والتعاون والتبادل السلمي.وبهذا المعنى فـ\"نحلة العيش\" حصيلة محددة للوظيفتين الواصلتين بين المحدد الطبيعيالمحيط بالإنسان والمحدد الطبيعي الإنسان المحاط به :أي ما يأخذه الإنسان من حيث هوطبيعي من الطبيعة شرط حياته كفرد وما يعطيه الإنسان للحياة من حيث هو حي شرط حياة النوع كجماعة.أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
--وحتى أيسر الكلام على هذين العلاقتين استعرت اسمين لهما مما يرمز إليهما في حياة الإنسان من حيث فرد من جماعة متواصلة الأجيال فسميت: • العلاقة الاولى بالمائدة (استعارة على الغذاء) • والثانية بالسرير (استعارة على الجنس). وانطلاقا منهما أمكن التمييز بين خمس أشكال من \"نحلة العيش\".وهذه الأشكال تمثل مراحل تطور العلاقة بين الرجل والمرأة في ما ينتج هذين المحددينالرئيسين للإنسان من حيث هو وسيط بين الطبيعة وبقاء الفرد والنوع ولا علاقة لهذهالعلاقة بالأديان ولا بالفلسفات .فهذان هما مجرد محاولة لصياغة الوضع أو لتبريره بحسبتوالي أشكاله .لكن المراحل التي تتحدد فيها العلاقة بين الجنسين وبينهم وبين الطبيعة في أي جماعة هي حصيلة \"نحلة العيش\" بالمفهوم الخلدوني.وهذه الحصيلة ليست جوهرا ولا تنتج عن جوهر .فلا هي روحية ولا هي مادية ولا هيناتجة عن فلسفة من جنس المثالية الهيجلية أو من جنس المادية الماركسية لأنهما كلتيهماتقولان \"بشيء\" ذي قيام جوهري إليه تردان حقيقة الأشكال وتدعي معرفة حقيقة هذا\"الشيء\" المحدد لها .لكنه في الرؤية الخلدونية ليس شيئا متجوهرا بل هو شبكة علاقات أوبنية هي مضمون الباب الأول من المقدمة .فما هي هذه المراحل الخمس التي سبق أن درستها في محاولة سابقة: .1نحل العيش التي توجد دون المائدة والسرير. .2نحل العيش التي توجد عند حصول المائدة والسرير. .3نحل العيش التي توجد ما دون فن المائدة وفن السرير. .4نحل العيش التي توجد عند حصول فن المائدة وفن السرير. .5نحل العيش التي توجد بعد ما فوق فن المائدة وفن السرير (الترف).وعلاقة المرأة والرجل وعلاقتهما بالطبيعة وبالجماعة رهن \"نحلة العيش\" التي تتحددبمقتضى ما تفرضه هذه المراحل كبنية علائقية وهي علاقة كونية لا يمكن نسبتها إلى عرقأبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
--محدد أو إلى ثقافة محددة أو إلى دين أو إلى فلسفة بل كل هذه العناصر تابعة لها لامتبوعة منها .لكن بنية هذه الشبكة العلائقية لا تكتمل من دون أن نضيف إليها عاملينكلاهما ينتج عن المؤثر الطبيعي المحيط بالإنسان والمؤثر الطبيعي الذي في الإنسان نفسه(بدنه ونفسه) .فعضويا لا يمكن للعلاقتين من الطبيعة إلى الإنسان ومن الإنسان إلى حياة النوع أن تحصل من دون جماعة تحمي نفسها وتعولها.فأنثروبولوجيا لا يمكن للتكاثر الإنساني أن يحصل من دون شرطين :حماية مصدر حياةالجماعة بسبب كون الجماعات تعيش في البدء على ما تنتجه الطبيعة فيكون المجال الحيويمعرضا للعدوان الخارجي وحماية حياة الأطفال في مرحلة الحمل وفي المراحل الاولى قبل أن يصبح الطفل قادرا على القيام المستقل. وذلك هو المحدد للشكل من \"نحل العيش\" وتوزيع العمل بين الرجل والمرأة. • فالأول يكون دوره في الغالب للحماية • والثانية للرعاية. ويشتركان في حماية الرعاية ورعاية الحماية.وذلك هو أساس الوحدات الأولى لبقاء الجماعة :الأسرة التي تتوسع بالتدريج لتصبح قبيلة ثم وحدة قبائل للحماية والرعاية.وفي هذه المرحلة تصبح المرأة مستهدفة بسبب الحاجة إلى التكاثر خاصة وليس من اجلالجنس .لأن الواحدة تكفي في الجنس لكنها لا تكفي في التكاثر .التعدد وسبي النساء جزءمن الحماية لأنه \"ينتج\" المحصلين لشروط البقاء رعاية وحماية .ونرى ذلك عندالمزارعين :الأبناء هم العملة والحماة خاصة وتسمى في البوادي التونسية بـ\"الوالي وهم الإخوة والأبناء\" وفي الصعيد المصري بـ\"العزوة\".وهذا هو المستوى الأول من اللحمة الجماعية أو الدرجة الأولى والأقوى من العصبيةبالمعنى الخلدوني (عصبية الدم) .ومنها ينشأ الشكل الأول من الدول التي هي شرطالانتقال من العمران البدوي إلى العمران الحضري .فيكون الباب الثاني (العمرانأبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
--البدوي) والباب الثالث (الدولة) معدين للحواضر التي تمثل الحد الاوسط بين العمران البدوي والعمران الحضري.وبهذا فسرت حديث الغدير بكون الرسول لم يوصي آل البيت بالأمة بالعكس أوصى الأمةبآل البيت لأنه يعلم أن النظام القبلي ما يزال مسيطرا وأن سيطرته ستستأنف مباشرةبعده وأنه لم يكن من الفرع الأقوى عصبية بين العرب ولا حتى في قريش وهو ما فهمه ابنخلدون في تبدل نظام الحكم من الخلافة إلى الملك العضوض :انتهاء القوس التي دامت بدوام التغير الذي حدث في عادات العرب بفضل التربية الرسولية.ومثلما أن الحواضر قبلها شرطان العمران البدوي والدولة نجد بعدها شرطين هما موضوعالباب الخامس أو المعاش ووجوهه (من إنتاج الإنسان وليس الطبيعة) وموضوع الباب السادس أو العلوم وأصنافها والتعليم (عودة النظر والعقد ثم العمل والشرع).فإذا تجاوز الإنسان مرحلة ما دون المائدة والسرير فإنه يصل إلى مرحلة المائدة والسريروطبعا هذا لا يتحقق للجميع بل لأصحاب القوة فيكون الأساس هو القوة وشكلها الاول هوالقوة الطبيعة المادية وهي قوة البدن وقوة التكاثر فتتكون العصبيات المبنية على هذين القوتين وتكون النساء توابع لهما.لكن يقع التمييز بين الحرائر والجواري .ذلك أن ذوي العزوة لا يقبلون معاملة نسائهممثل النساء اللواتي ليس لهن من يدافع عنهن بهذين القوتين .فيكون وضع المرأة مزدوجامثل وضع الرجل أيضا :فالعبيد الذكور والجواري لهما وضع \"قانوني\" يتحدد بالقدرتين أعني بالعلاقة بين الحماية والرعاية.فالقادرون على الحماية ونساؤهم لهم منزلة المائدة والسرير ومن سواهم يبقى في منزلةما دون المائدة والسرير بمعنى أنهم تابعون لمن وصل إلى منزلة المائدة والسرير بفضل ما لديه من القوتين .والقوتان تتبعهما قوتان رمزيتان هما: • قوة الثروة الناتجة عن القوة بالمعنيينأبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
--• وقوة التراث (أو ما يسمى بـالنسب في اختيار الجنسين احدهما للآخر ولهذا علاقة بعادة ما تزال موجودة بين أعيان القبائل والأسر العريقة).وضمن الحاصلين على منزلة المائدة والسرير يتدخل عامل الفن أو الجماليات بالتدريجرغم أن الحالة ما تزال دون فن المائدة ودون فن السرير .فيضاف إلى مفهوم المرأة\"الحصان\" أو الحرائر مفهوم المرأة الجميلة التي رغم كونها جارية تصبح زوجا لمن وصل إلى مرحلة المائدة والسرير وبدأ يشعر بما فوقها.ومعنى ذلك أن الفصل بين الحرائر والجواري لم يعد مبنيا على الثروة والتراث فحسببل يتدخل عامل الذوق الجمالي لدى الحاصلين على منزلة المائدة والسرير والساعينلتجاوزها فيتم بالتدريج تجاوز الاقتصار عليهما إلى \"نحلة عيش\" تصبح فيها المائدة ذات فن والسرير ذا فن .لم يعد الأكل مجرد غذاء ولا الجنس مجرد جماع حيواني.فيصبح الفن أداة تحرير للجنسين :فما يصدق على الاغنياء من الرجال إزاء الإماء يصدقعلى النساء الغنيات إزاء العبيد فيصبح الفنان فن المائدة وفن السرير بداية التحريرويبرز نوعا السلطان في الجماعة :سلطان المرأة الخفي وسلطان الرجل الجلي والأول أقوى من الثاني ألف مرة.وما أن يحصل ذلك نصل إلى تجاوز فن المائدة والسرير بالانفصال التام بين وظيفتي المائدة والسرير. يصبح المطلوب الفن للفن.لم تبق العلاقة بين الغذاء والقيام هي المحددة ولا العلاقة بين الجنس والإنجاب هيالمحددة بل يصبح الغذاء لمجرد فن المائدة ويصبح الجنس لمجرد فن السرير .فيتساوى الجنسان.وإذا تساوى الجنسان زال الفرق بينهما .وإذا زال الفرق بينهما لم يعد لمعنى الجنس مقابلة عضوية بين الذكورة والأنوثة بل هو متجاوز لها.أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
--فلا يبقى الذكر ذكرا ولا الانثى أنثى بل كلاهما مطلوبه هو اللذة أيا كان مصدرها فتكثر المثلية وتفقد المرأة والرجل الصبر على دورهما في تواصل النوع. فتكون ثورة المرأة على الرجل حينها ذات دافعين: • دوره في تواصل النوع أقل كلفه من دورها بمقتضى خصائص عضوية• استجمال النوق يؤدي إلى استنواق الجمال .وهو سر البرود الجنسي في المجتمعات التيوصلت إلى هذه المرحلة والسيطرة المتدرجة للمثلية الجنسية ولهوامش العلاقة الحميمة.فتعود الإنسانية إلى المرحلة الأولى :وأعني بذلك أن المرأة تصبح في قرارة نفسها تبحثعن الإنسان البدائي أي الرجل المستبد والممثل للفحولة والرجل في قرارة نفسه يبحث عنالجارية البدائية أي المرأة الخاضعة لكل نزواته بوصف ذلك من أسرار الانوثة :نتيجة \"لنحلة العيش\" في كل الحضارات.أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
--منطلقنا في فهم العلاقة بين الجنسين هو ما يمكن تسميته بـ\"قانون المائدة والسرير\" منمنظور \"نحلة العيش\" المفهوم الذي وضعه ابن خلدون وهو مفهوم متجاوز للجوهرانيةالمثالية (هيجل) والمادية (ماركس) في فلسفة التاريخ والحضارة لأنه يعتمد مفهوم شبكةالعلاقات دون تحديد طبيعتها بهذين المفهومين لأنها ليست مثالا (روح) ولا مادة (جرم).وما يحول دون فهم ذلك هو مواصلة ابن خلدون استعمال مفاهيم هيلومورفية تجعله وكأنهيواصل الرؤية الأرسطية .لكن مفهومي المادة والصورة عنده مختلفان تماما عما هما عندأرسطو .ويكفي تعريف الإنسان الذي يستمد منه مضمون ثورته والذي لا ينطلق من كونه\"حيوانا عاقلا\" بل بالذات من العناصر التي صارت أبواب المقدمة أو الكتاب الأول من العبر أي الستة التي وردت فيها.فالتعريف لا يعتمد على مبدأ الجنس والفرق النوعي أي من الجواهر الثواني بل مما يمكنأن يعتبر مقومات ذاتية شبكية تشمل كل المحددات للوجود الإنساني من حيث هو كائن طبيعي ثقافي.فلأول أمرة في تاريخ الفكر الفلسفي يكون التعريف بما يعرض وليس بجوهر :وما يعرض للإنسان لا هو مادة ولا هو صورة ولا نعلم طبيعته ماهي.ولأورد النص \":ونخن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمرانفي الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضع بها التحقيق في معارف الخاصةوالعامة وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك\" ثم يأتي تعريف الإنسان بهذه الأعراض والأحوال :وتلك هي الأبواب الستة: .1العمران البشري على الجملة .2العمران البدوي .3الدولة .4العمران الحضريأبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- .5الصنائع والمعاش .6العلوم واكتسابهاولنعد الآن إلى موضوعنا المباشر أعني العلاقة بين الجنسين من هذا المنظور الذي لا يمكنأن يفهم بالمنطق الأرسطي (زوجية القيم مع عدم التناقض والثالث المرفوع وثبات الهوية)ولا بالمنطق الهيجلي (ثلاثة القيم مع التناقض والثالث الموضوع وتغير صيرورة الهوية).فقد بدا وكأن المراحل الخمس التي ميزت بينها في الفصل الأول (مرحلة ما دون المائدةوالسرير-مرحلة المائدة والسرير-مرحلة ما دون فن المائدة وفن السرير-مرحلة ما فوقالمائدة والسرير) وكأنها مراحل متوالية توليا يجعل ضهور الخالفة ملغية للسالفة لكأن الإنسانية تكون كلها في نفس المرحلة فتتجاوز السالف بالخالف.وكل محاولات فرض منطق الخالف على السالف أو العكس هي التي تحدث أنواع الخللالمجتمعي في نماذج العيش لأن الخالف له جاذبية الجديد والسالف جاذبية العادة فيحصلتنازع نماذج العيش وتمانعها بصورة قد تبدو للكثير تأييدا للمنطق الجدلي إذ توجد ثنائية من جنس معنى التناقض الجدلي.لكن ذلك محض تبسيط لأن كل مرحلة من المراحل متعددة المستويات وليست واحدة إلابالمقابل مع التي تليها والتي تتقدم عليهما وكلتاهما متعددة المستويات .ومن ثم فالظاهرةهي بدورها شبكة علاقات وليست تناقضا بين أمرين جوهريين متعينين في روح أو في طبقة.وإذن فلا معنى لآلية التغير بالصراع الجدلي إلا عندما نقبل بالتبسيط الذي يقصر الأمرعلى حدين متناقضين .لكن الزوجية الفاعلية بحق ليست تناقضية بل هي تكاملية دائما وخاصة في الظاهرات الحية.التوالي بين المراحل صحيح بالنسبة إلى المراحل من حيث ظهورها بمعنى أننا لا يمكن -كما بين ابن خلدون-أن نجد العمران الحضري قبل العمران البدوي من حيث الظهور .لكنبعد الظهور لا يمكن تخيل الحضري موجودا والبدوي زال من الوجود بل إن تلازمهما حتمي وعلامته تحاوط الحواضر والبوادي.أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
--والتحاوط-كلاهما محيط ومحاط-لا يوجد في الأعيان فحسب بل يوجد في الأذهان بمعنىأن الإنسان هو ذاته حضري وبدوي دائما في تشاجن لا يغفل عن إدراكه إلا من يتوهم أنالطبيعة والثقافة في وجود الإنسان قابلان للانفصال احداهما عن الأخرى أو بصورة أدق التشاجن الدائم بين الطبيعي والمكتسب في الإنسان وخاصة في علاقة الجنسين.وإذا اعتبرنا علاقة الطبيعي والمكتسب ودورها في علاقة البشر بعضهم بالبعض وخاصةإذا كانا من جنسين مختلفين تقبل الترجمة إلى ما هو سلوك تعاقدي قبل الخصام وبعدالخصام فإننا نعتبر القبل خاضعا للتعالي على الطبيعي بالخلقي والبعد بالقانوني :وكلاهما يتمازج فيهما الطبيعي والثقافي.وفي مثال العلاقة بين الجنسين لو صارت كلها خاضعة للعادات المكتسبة لأصحبت مسرحيةونفاق متبادل ومن ثم فما يحييها هو ما فيها مما يعبر عما يتعالى على المكتسب وخاصة أحكامالعشق إن وجد أو أحكام عكسه إن وجد وكلاهما لا يلبس قفازات العادات المكتسبة وبذلك يقاس الصدق فيهما كليهما.وحينها يبدو معبرا عن الصدق في الإرادة والكراهة في وعي المرأة العميق هو البداوةوالطبيعي وما يبدو معبرا عنهما في وعي الرجل هو المكتسب والحضاري لكأن القرب منالحيوانية والبعد عنها يمثلان معيارين قويين في العلاقة وخاصة عندما تنظر إلى ذلك في المجتمعات التي ابتعدت حضاريا عن الطبيعة.ومن عاش في أوروبا يفهم ذلك جيدا بل وحتى من يتابع سلوك السواح يفهمه .وليسالقصد رصد السلوك الإنساني في الأعيان فحسب بل البحث فيه في ما يصحبه مما تتصورهالأذهان وما يعبر عما يتجاوز الأعيان والأذهان أعني في الفنون والآداب التي تصفه ليس كما يجري فعلا بل أيضا كما يتجاوزه الإنسان في لامتناهي الخيال.فالإنسان بمقتضى الزمان التاريخي ليس خاضعا لما في الأعيان من الأحداث ماضيهاوحاضرها ومستقبلها بل هو خاضع كذلك لتذكر الأول وتأويل أحاديثه لأنه لم يعد موجوداولتوقع الثاني بتحليل أحاديثه فيكون حاضره متميزا بالتوالج شبه المطلق بين الحدثأبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
--والحديث ولا معنى للتمييز بين واقع وخيال إذ هو نوع من الغليان والفوران الذي لا يكاد الافتراضي والفعلي ينفصلان إلا نظريا.وبهذا يمكن أن نفهم نظرية أرسطو ونظرية ابن خلدون المتقاربتين وإن كانت الثانيةأعمق في ما يتعلق بمنزلة القيم عامة والقيم الحاكمة في علاقة الجنسين .فأرسطو يعتبر هذه القيم بمعيار المستوى الذهني قابلة للقسمة إلى ثلاثة: .1من لم يصلوا إليها .2ومن تجاوزوها .3ومن يعيشون بها وهم بين هذين الحدين.والمعلوم أن أفلاطون يلغي تماما وجود المرأة لأنها يعاملها كما تعامل الملكية المشاعة علىالأقل بالنسبة إلى الطبقتين الأوليين أي الحكام (أصحاب العقل) والحراس (أصحابالغضب) ولا يبقى عليها بمعنى الزوجة والأسرة إلا للطبقة الدنيا أو (أصحاب الشهوة). والمسألة لا تبدو موجودة عند ابن خلدون.وكنت متحيرا أمام هذا الغياب ولم أفهم عمق رؤية ابن خلدون قبل الوصل بين مفهوم\"نحلة العيش\" ودورها في الحب وفي الجنس .فهو يرفض تفسير نكبة البرامكة برد الرشيدعلى علاقة مزعومة لأخته مع البرمكي محتجا بالقرب من البداوة ويكذب انتحال النسب في بعض دول المغرب العربي بنفس الحجة.لكن الأهم من ذلك هو الطابع الدوري بين أقصى مراحل البداوة -العرب بمعنى أولىنحلة عيش وهي ليست خاصة بالعرب كجنس بل هي مرحلة انثروبولوجية في تكون العمران البدوي ولا يستثنى منه شعب مقيم في الصحاري.وقد ذكر مع العرب كجنس الأكراد وكل الشعوب التي تعيش في الصحراء على رعاية الأبل-وآخرة نحله أو آخرة مراحل الحضارة وهي كذلك مرحلة انثروبولوجية :الترف.والأولى أشبه بالطفولة حيث يكون السلوك خاضعا لمنطق سد الحاجة بما يوجد مباشرةدون بعيد نظر -مثال ذلك وصف ابن خلدون لسلوك بني هلال مع الحضارة واستعمالأبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
--خشب المنابر لطهي الأكل مثلا .والثاني أشبه بالشيخوخة حيث يكون السلوط خاضعا لمنطقالإعياء العضوي وفقدان العنفوان والاستسلام لثمالات ما بقي من قوة في الكيان العضوي.ولعل الفرق الوحيد هو أن ما يحصل بليونة الحضارة في المرحلة الأخيرة من الحضارة أوالترف يحصل بعنف البداوة في المرحلة الأولى منها أو التوحش :الجنس يصبح شبه مشاعولا يكاد يتميز فيه جنس عن جنس من الجنسين بل أكثر من ذلك لا يكاد يوجد فاصل بين الإنسان والحيوان في المسألة الجنسية.فالمثلية الجنسية تصبح عادية وزنا المحارم والعلاقة الجنسية مع الحيوان وكل ما يسميهابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" الناتج عن العنف في التربية والحكم-حتى قبل وجودالدولة في البداوة وبعد فسادها في الحضارة-دور التوحش في الأولى أو العنف كقوة كسلطة والتخنث في الثانية أو الجاه كسلطة.وحتى نفهم الرؤية الخلدونية عندما تترجم بالمفهومين-نحلة العيش وعلاقة الطبيعيةبالثقافة-ينبغي أن نذكر أنه يرفض بناء نظرية الاجتماع والسياسة على علم النفسالافلاطوني الأرسطي :كلاهما يبني الجماعة والدولة على خاصية بايولوجية ثابتة هيعندهما مثلث القوى النفسية (النفس هي صورة البدن بالتعريف الأرسطي وحتى الأفلاطوني مع قوله بفصلها عنه وتقدمها في الوجود) أي العقل والغضب والشهوة.لكنه هو يعكس :لا يؤسس الجماعة والدولة على بينة النفس بل هو يعتبر الخصائصالنفسية التي يمكن فهمها عضويا بالصورة الأفلاطونية والأرسطية وإن كان فهمهما تبسيطيالأن الفصل بين هذه القوى لا يطابق حقيقة الكيان العضوي للإنسان-بكونها مواد تشكيلية تصوغها \"نحلة العيش\" فيكون خصائص النفس ثمرتها.ولذلك فعنده أن \"نحل العيش\" في العمران البدوي أقرب إلى الفضائل و\"نحل العيش\" فيالعمران الحضري أقرب إلى الرذائل ولكن ذلك لا يعني تفضيله للعمران البدوي علىالعمران الحضري .وهنا يأتي وجه الشبه بينه وبين أرسطو :بداية البدوي متوحشة وغايةأبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
--الحضري متخنثة والأول لـم يصل إلى اعتدال القيم والثاني تجاوزه فتلتقي البداية والغاية في عدم التوازن القيمي (رؤية أرسطو).وقرب البداوة هنا لا يعني البلوغ إلى غاية القيم بل يعني أن السعي إليها قوي .وقربالحضارة إلى الرذائل يعني بداية التخلي عن الفضائل ما يجعل الوصول إلى الترف هونهاية السعيين لأن البدوي عندما يغرق في الحضارة مباشرة دون التدرج يكون أفسد منالحضري لأن التوق الثاني يلغي التوق الأول بل ويؤدي الصراع بينهما إلى نوع من الوعي الزائف :باطنه يبقى بدويا فيبالغ في ظاهرة حتى يجعل غيره يعتقد أنه تحضر.وأعتقد أن جل النخب العربية التي تدعي الحداثة ينطبق عليها هذا القانونالانثروبولوجي .فإدمانها عن قشور الحضارة وخاصة من كان منهم قد أصبح من الأغنياءالجدد -وتلك علة تكالبهم على التقرب من المستبدين-أو المتثاقفين الجدد الذين تسكرهمزبيبة فتصبح الشعارات الحداثية مصعدا للمنازل التي تحددها الشلل والحانات ولقاءات السفهاء الذين يعتبرون أنفسهم قادة الرأي العام.والمعلوم أن ابن خلدون-لكأنه يعتذر عن مشاركته في السياسة وما يلتصق بها من نفاقوتقرب من ذوي السلطان -قد اعتبر ذلك من شروط السعادة (المادية) في المجتمعات التييكون السلطان فيها بيد المستبدين والفاسدين .لكنه مع ذلك يعيب على النائين بأنفسهمعن نس السلوك معتبرا ذلك ناتجا عن كبر وعدم مشاركة في قيادة الرأي لظنهم الكمال فيأنفسهم فينعزلون بسبب هذا الكبر الذي يعتبره ظاهرة مرضية حائلة دون التأثير في الحياة العامة.وإذن فيوجد ما بعد بداية البدوي وما قبل نهاية الحضري وهما عنده مستوى القيمالحقيقي أعني أن البداوة تنتهي إلى اكتشاف قيم الفضيلة فتؤسس الدول والمدن.والحضارة تنتهي إلى اكتشاف قيم الرذيلة فتخرب الدول والمدن .الرؤية تبدو غريبة ولكنها تفهما إدراكه لعلاقة عميقة بين الطبيعة والثقافة.أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
--فعنده أن الثقافة من حيث هي تدجين للإنسان تنتهي إلى النكوص به إلى ما دونالفضيلة .فالفضيلة هي ما يعرف به الإنسان \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلقله\" .فيكون الإنسان في البداية لم يدرك هذه الرئاسة لأنه يخضع للقوة (قانون الطبيعة)وفي الغاية يفقد الرئاسة التي هي سلطان الذات على ذاتها شرطا في سلطانها على ما يجعلها أهلا للاستخلاف (قانون الغريزة).فتكون نهاية البداوة اكتشاف ما يتعالى على القوة وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدونبالوزع الأجنبي أو القانون والدولة .وتكون نهاية الحضارة اكتشاف ما يتعالى على القانونوهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون بالترف أو انخرام القانون والدولة التي تصبح استبداد الغرائز عند الحاكم والمحكوم.لكن هذه المقابلة المطلقة في فكر ابن خلدون وهي التي تؤسس نظرية أعمار الدولوالحضارات قابلة للتعديل بما حاولنا بيانه من التماعي الدائم للمراحل التي ذكرتها (مادون المائدة والسرير فالمائدة والسرير فما دون فن المائدة وفن السرير فما بعدهما) بفضل المرحلة الوسطى بين الأولين والأخيرين.فالمرحلة الوسطى-ما دون فن المائدة وفن السرير-مرحلة يكون فيها فن المائدة وفنالسرير منشودين بمعنى أنهما مثالان أعليان يجعل أساسي الحياة العاطفية غاية يسعى إليهاالجنسان وليست أمرا تحقق فصار مجرد عادة يطلب الإنسان تحقيقهما المطلق ثم تجاوزهما إلى الترف الذي هو نهاية الحياة السوية.وهذه المرحلة الوسطي بعد الأوليين وقبل الأخيرتين مضاعفة فهي متجاوزة لمرحلة ما دونالمائدة والسرير بداية للبداوة والمائدة والسرير غاية للبداوة وقبل الأخيرتين تصبوللأخيرتين دون الوصول إليهما لأن التحقق المطلق للرابعة ينتهي إلى الخامسة وهي مرحلة الترف القاضية على الإنسان.أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
--العلاقة بين الجنسين بمقتضى ما يمكن تسميته بـ\"قانون المائدة والسرير\" في منظور \"نحلة العيش\" المفهوم الذي وضعهابن خلدون واعتبرته متجاوزا للجوهرانية المثالية (هيجل) والمادية (ماركس) لأنها تعتمد مفهوم شبكة العلاقات دون تحديد طبيعتها تحديدا يقبل الرد إلى الـمثالية (روحية) أو إلى الـمادية (أشياء متجسمة).بدا وكأن المراحل الخمس التي ميزت بينها (مرحلة ما دون المائدة والسرير-مرحلة المائدة والسرير-مرحلة ما دون فنالمائدة وفن السرير-مرحلة ما فوق المائدة والسرير) وكأنها مراحل متوالية توليا يجعل ظهور الخالفة ملغية للسالفة لكأن الإنسانية تكون كلها في نفس المرحلة فتتجاوز السالف بالخالف.وكل محاولات فرض منطق الخالف على السالف أو العكس هي التي تحدث أنواع الخلل المجتمعي في نماذج العيش لأنالخالف له جاذبية الجديد والسالف جاذبية العادة فيحصل تنازع نماذج العيش وتمانعها بصورة قد تبدو للكثير تأييدا للمنطق الجدلي إذ توجد ثنائية من جنس معنى التناقض الجدلي.لكن ذلك محض تبسيط لأن كل مرحلة من المراحل متعددة المستويات وليست واحدة إلا بالمقابل مع التي تليها والتيتتقدم عليهما وكلتاهما متعددة المستويات ومن ثم فالظاهرة هي بدورها شبكة علاقات وليس تناقضا بين أمرين جوهريين متعينين في روح أو في طبقة. وإذن فلا معنى لآلية التغير بالصراع الجدلي.التوالي بين المراحل صحيح بالنسبة إلى المراحل من حيث ظهورها بمعنى أننا لا يمكن -كما بين ابن خلدون-أن نجدالعمران الحضري قبل العمران البدوي من حيث الظهور .لكن بعد الظهور لا يمكن تخيل الحضري موجودا والبدوي زال من الوجود بل إن تلازمهما حتمي وعلامته تحاوط الحواضر والبوادي.والتحاوط-كلاهما محيط ومحاط-لا يوجد في الأعيان فحسب بل يوجد في الأذهان بمعنى أن الإنسان هو ذاته حضريوبدوي دائما في تشاجن لا يدركه إلا من يتوهم أن الطبيعة والثقافة في وجود الإنسان قابلان للانفصال احداهما عن الاخرى أو بصورة أدق الطبيعي والمكتسب في الإنسان وخاصة في علاقة الجنسين.وإذا اعتبرنا علاقة الطبيعي والمكتسب ودورها في علاقة البشر بعضهم بالبعض وخاصة إذا كانا من جنسين مختلفين تقبلالترجمة إلى ما هو سلوك تعاقدي قبل الخصام وبعد الخصام فإننا نعتبر القبل خاضعا للتعالي على الطبيعي بالخلقي والبعد بالقانوني :وكلاهما يتمازج فيهما الطبيعي والثقافي.وفي مثال العلاقة بين الجنسين لو صارت كلها خاضعة للعادات المكتسبة لأصحبت مسرحية ونفاق متبادل ومن ثم فما يحييهاهو ما فيها مما يعبر عما يتعالى على المكتسب وخاصة أحكام العشق إن وجد أو أحكام عكسه إن وجد وكلاهما لا يلبس قفازات العادات المكتسبة وبذلك يقاس الصدق فيهما كليهما.وحينها فما يبدو معبرا عن الصدق في الإرادة والكراهة في وعي المرأة العميق هو البداوة والطبيعي وما يبدو معبراعنهما في وعي الرجل هو المكتسب والحضاري لكأن القرب من الحيوانية والبعد عنها يمثلان معيارين قويين في العلاقة وخاصةعندما تنظر إلى ذلك في المجتمعات التي ابتعدت حضاريا عن الطبيعة .ومهما زعم من لطف الجنس اللطيف فأكثر شيء يحتقره هو أن يصبح الجنس غير اللطيف لطيفا إلى حد التشبه به.أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
--ومن عاش في أوروبا يفهم ذلك جيدا بل وحتى من يتابع سلوك السواح يفهمه .وليس القصد رصد السلوك الإنساني فيالاعيان فحسب بل البحث فيه في الأذهان وما يعبر عما يتجاوز الاعيان والاذهان أعني في الفنون والآداب التي تصفه ليس كما يجري فعلا بل كذلك كما يتجاوزه في لامتناهي الخيال.وبهذا يمكن أن نفهم نظرية أرسطو ونظرية ابن خلدون المتقاربتين وإن كانت الثانية أعمق في ما يتعلق بمنزلة القيمعامة والقيم الحاكمة في علاقة الجنسين .فأرسطو يعتبر هذه القيم بمعيار المستوى الذهني قابلة للقسمة إلى ثلاثة :من لم يصلوا إليها ومن تجاوزوها ومن يعيشون بها وهم بين هذين الحدين.والمعلوم أن أفلاطون يلغي تماما وجود المرأة لأنه يعاملها كما تعامل الملكية المشاعة على الأقل بالنسبة إلى الطبقتينالأوليين أي الحكام (أصحاب العقل) والحراس (أصحاب الغضب) ولا يبقى عليها بمعنى الزوجة والأسرة إلا للطبقة الدنياأو (أصحاب الشهوة) .والمسألة تبدو غير موجودة عند ابن خلدون .وقد تسمع البعض يمدح ابن رشد لذكره في شرحه لسياسة أفلاطون ما يبدو مدحا لرأي أفلاطون في تربية المرأة وهم غافلون عن منزلتها الحقيقة عنده.وكنت متحيرا أمام هذا الغياب ولم أفهم عمق رؤية ابن خلدون قبل الوصل بين مفهوم \"نحلة العيش\" ودورها في الحب وفيالجنس .فهو يرفض تفسير نكبة البرامكة برد الرشيد على علاقة مزعومة لأخته مع البرمكي محتجا بالقرب من البداوة ويكذب انتحال النسب في بعض دول المغرب العربي بنفس الحجة.لكن الاهم من ذلك هو الطابع الدوري بين اقصى مراحل البداوة -العرب بمعنى أولى نحلة عيش وهي ليست خاصةبالعرب كجنس بل بمرحلة انثروبولوجية في تكون العمران البدوي ومنه العرب كنجس والكرد وكل الشعوب التي تعيش في الصحراء على رعاية الأبل-وآخرة نحله أو آخرة مراحل الحضارة :الترف.ولعل الفرق الوحيد هو أن ما يحصل بليونة الحضارة في المرحلة الأخيرة من الحضارة أو الترف يحصل بعنف البداوة فيالمرحلة الأولى منها أو التوحش :الجنس يصبح شبه مشاع ولا يكاد يتميز فيه جنس عن جنس من الجنسين بل أكثر من ذلك لا يكاد يوجد فاصل بين الإنسان والحيوان في المسألة الجنسية.فالمثلية الجنسية تصبح ظاهرة عادية وزنا المحارم والعلاقة الجنسية حتى مع الحيوان تصبح منتشرة وخاصة في البواديوكل ما يسميه ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" الناتج عن العنف في التربية والحكم-حتى قبل وجود الدولة في البداوة وبعد فسادها في الحضارة-دور التوحش في الأولى او العنف كقوة كسلطة والتخنث في الثانية أو الجاه كسلطة.وينبغي ألا ننسى ما يحيط بالمائدة والسرير من ظروف حصول الفعلين وهي ليست مقصورة على الرؤية المتبادلة بينالجنسين بل حيز اللقاء بينهما .فالمسكن الذي يوفر شروط اللقاء الحميم بين الجنسين من أهم هذه الظروف وهي شبهمنعدمة في الأسر الفقيرة حتى لو اقتصرنا على الأبناء .والأمر يتجاوز ما يجري داخل الأسرة الفقيرة بل يمتد إلى ما يحصل في المحاشد المحيطة بالمدن وشبه فقدان المسافة الكافية للستر بين الأجوار.فلا يبقى من العلاقة بين الجنسين إلى ما لا يكاد يتجاوز الموجود بين الحيوانات للتكاثر ما يفقد العلاقة الحميمة دلالتهاالروحية والجمالية حتى وإن حافظت على عنفوانها العضوي .وما يقال عن السرير يقال مثله أو أكثر منه في المائدة .ذلكأن كثرة الخلفة مع قلة الإمكانات المادية يحولان العيش المشترك المحكوم بتقاسم القليل شبه معركة حياة أو موت مهما تكلمنا على العلاقات العاطفية في الأسرة.وحتى نفهم الرؤية الخلدونية عندما تترجم بالمفهومين-نحلة العيش وعلاقة الطبيعة بالثقافة-ينبغي أن نذكر أنه يرفضبناء نظرية الاجتماع والسياسة على علم النفس الأفلاطوني الأرسطي بخلاف كل علماء الإسلام متفلسفيهم ومتدينيهم الذينأبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
--هم توابع في ذلك لنظريتيهما .فأفلاطون وأرسطو كلاهما يبني الجماعة والدولة على خاصية بايولوجية ثابتة هي عندهما مثلث القوى النفسية أي العقل والغضب والشهوة.ولهذه العلة فإني أمقت الكلام في الأخلاق وفي الوعظ والإرشاد اللذين يما يتجاوز أصحابهما الرؤية الأفلاطونيةوالأرسطية إلى الآن ويغفلون عن ثورة ابن خلدون في هذا المضمار .فهو يعكس :لا يؤسس الجماعة والدولة على بنية النفس بل هو يعتبر الخصائص النفسية التي قد تفهم من حيث هي عضوية بالصورة الأفلاطونية والأرسطية فهمهما تبسيطيا.ولست أمقتهما بسبب الأخلاق والوعظ بل بسبب ما أدى إليه ذلك من إهمال شروط الإصلاح في المجتمعات الإسلامية.والأدهى أن الدين أصبح مقصورا على الممارسة المشعرية التي لا تتجاوز هذه المستوى من تصور الأخلاق وكأنها مجرد تصوراتقيمية لا تتجاوز الوجود الذهني وليس لها تأثير على شروط أثرها أعني انتقالها من القول إلى الفعل في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف اللذين هما جوهر الدين. وكل السخافات التي تتكلم على أن الإسلام الحقيقي هو مرحلته المكية ناتجة عن هذا الفصام بين هذين المستويين:• فمستوى النظر والعقد يصبح مقصورا على ما وراء ما ليس موجودا في هموم الناظر والمعتقد (الكلام في ما وراء العالم دون علم العالم)• ومستوى العمل والشرع يصبح متعلقا بما وراء همو العامل والشاعر (الكلام في ما وراء التاريخ دون علم بالتاريخ) : ولا يستحون فيسمون ذلك علما دينيا أو فلسفيا.فالفصل بين قوى النفس هذه-تسليما بوجوده يوهم بأن الفيلسوف عاقل فحسب والحارس غاضب فحسب والعامل شاهفحسب فيقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات (طبقة العقلاء وطبقة الحراس وطبقة العمال) في حين أن هذه الصفات موجودة عندهم جميعا وهي تغيب وتحضر عند الجميع والتفاوت فيها كمي وليس كيفيا -لا يطابق حقيقة الكيان العضوي للإنسان.فالنفس عنده مادة تشكيلية لكأنها \"ورقة بيضاء\" تصوغها \"نحلة العيش\" وما خصائص هذه الأبعاد النفسية العضوية إلاما يحصل من التشكيل بمحددات \"نحلة العيش\" .ولذلك فعنده أن \"نحل العيش\" في العمران البدوي أقرب إلى الفضائلو\"نحل العيش\" في العمران الحضري أقرب إلى الرذائل ولكن ذلك لا يعني تفضيله للعمران البدوي على العمران الحضري.وهنا يأتي وجه الشبه بينه وبين أرسطو :بداية البدوي متوحشة (بسبب الاعتماد على النفس وعدم وجود سلطان تربويوسياسي فوق الفرد غير مجرد الوجود في الجماعة) وغاية الحضري متخنثة (بسبب التربية والحكم والاعتماد على الحامية) هما إذن ما دون وما فوق الأرسطيان.وإذن فيوجد ما بعد بداية البدوي وما قبل نهاية الحضري وهما عنده مستوى القيم الحقيقي أعني أن البداوة تنتهي إلىغاية تصبح أكثر تبعية لقيم الفضيلة فتؤسس الدول والمدن سندا للوزع الذاتي (القيم في الأذهان) بالوزع الأجنبي (القيمفي الأعيان ممثلة بالحكم الشرعي) .والحضارة تنتهي إلى غاية تصبح أكثر تبعية لقيم الرذيلة فتخرب الدول والمدن. الرؤية تبدو غريبة ولكنها تفهمنا إدراكه لعلاقة عميقة بين الطبيعة والثقافة.فعنده أن الثقافة من حيث هي تدجين للإنسان تنتهي إلى النكوص به إلى ما دون الفضيلة .فالفضيلة هي ما يعرف به الإنسان \"رئيس بالطبيع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\".فيكون الإنسان في البداية لم يدرك هذه الرئاسة لأنه يخضع للقوة (قانون الطبيعة) وفي الغاية يفقد الرئاسة (قانون الغريزة).أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
--فتكون نهاية البداوة اكتشاف ما يتعالى على القوة وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون بالوزع الأجنبي أو حراسة القانونبنظام سياسي هو أصل الدولة .وتكون نهاية الحضارة اكتشاف ما يتعالى على القانون وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدونبالترف أو انخرام حراسة القانون السياسي والخلقي فتنهار الدولة التي تصبح محكومة بـاستبداد الغرائز عند الحاكم والمحكوم.وليس المقصود بالدولة منظومة المؤسسات السياسية وكأنها جهاز مجرد لا يمثل جماعة بل ما يجعلها ممكنة وذات شرعيةمعبرة عن إرادة الجماعة فتساند شوكتها .وإذن فالدولة تقتضي وجود المؤسسات الوسيطة بينها وبين الفرد بوصفها عينالتعبير الحقيقي عن الوصل بين الشرعية والشوكة في كل دولة :الأسرة والمعبد والمدرسة والمعمل وكل الجماعات المدنية بنوعيها أي الاقتصادية حول المصالح المادية والثقافية المعرفية حول المعاني القيمية.لكن هذه المقابلة المطلقة في فكر ابن خلدون وهي التي تؤسس نظرية أعمار الدول والحضارات قابلة للتعديل بما حاولنابيانه من التماعي الدائم للمراحل التي ذكرتها (ما دون المائدة والسرير فالمائدة والسرير فما دون فن المائدة وفن السرير فما بعدهما) بفضل المرحلة الوسطى بين الأوليين والأخيرتين.فالمرحلة الوسطى-ما دون فن المائدة وفن السرير-مرحلة يكون فيها فن المائدة وفن السرير منشودين بمعنى أنهما مثالانأعليان يجعل أساسي الحياة العاطفية غاية يسعى إليها الجنسان وليست أمرا تحقق فصار مجرد عادة يطلب الإنسان تحقيقهما المطلق ثم تجاوزهما إلى الترف الذي هو نهاية الحياة السوية.وهذه المرحلة الوسطي بعد الأوليين وقبل الأخيرتين مضاعفة .فهي متجاوزة لمرحلة ما دون المائدة والسرير بداية للبداوةوالمائدة والسرير غاية للبداوة .وهي كذلك قبل الأخيرتين تصبو لهما دون الوصول إليهما لأن التحقق المطلق للرابعة ينتهي إلى الخامسة وهي مرحلة الترف القاضية على \"معاني الإنسانية\".أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
--ما ظل الإنسان إنسانا فلم تفسد فيه معاني الإنسانية وما بقيت الجماعات البشريةمحددة للقيم ولمنازل الأفراد فيها بمقتضاها فإن علاقة الجنسين ستبقى دائما خاضعا لمزيجمما يترتب على المراحل الخمس التي وصفنا في كل جنس وفي نفس الوقت .فالنفس البشريةمتأرجحة بينها خمستها حتى لو غلبت عليها إحداها بغلبة نوع التعالق بين الجنسين .ويكونكل مستوى متضمنا بالفعل لما تقدم عليه ومتضمنا بالقوة لما يتلوه .ومن ثم فهو دائما مهددا بأقصى البداية وأقصى الغاية. ماذا يعني ذلك؟القصد أن العلاقة بين الجنسين ليست ساكنة بل هي متحركة وتمر بحسب الظروف بكلهذه المراحل ولو ثبتت في أي منها لاستحال دوامها لأكثر مما تدوم لحظات التمثيل والنفاقبينهما .ولولا التأطير الاجتماعي بالقيم وبما يقبل بمقتضى المنازل لما بقي غير ما دونالثانية وما بعد الرابعة .وما دون الثانية هو الوحشية الأصلية وما بعد الرابعة هوالوحشية الناكصة وهي أكثر بشاعة وقبحا :إذ تزول حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.وما دون الثانية تناسب بداية البداوة أو العلاقة المحكومة بالجري وراء ضرورات العيشالدنيا وما بعد غاية الحضارة أو العلاقة المحكومة وراء جماليات العيش الاقصى أو الترفأي سلطان قوة الطبيعة والحياة وسلطان قوة الثقافة والموت :عنفوان الغرائز والشباب وخمود الغرائز والشيخوخة.وبرمزية أفلاطون :عنفوان الحياة أو قوة البدن وحكاك الأجرب أو قوة الخيال غيرالإبداعي .فالخيال المبدع أكثر عنفوان وقوة حتى من الواقعات .فيكون الذوق غذائياوجنسيا في حالة البداية ويصبح الذوق ليس متعلقا بهما بل بما يعوضهما بعد فقدانهما وهوليس من جنس الانتقال إلى الذوق الجمالي والجلالي بل هو من جنس في الافتراضي.أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
--ولأنهما مطلوبان حقا يكون \"طعمهما\" في ذاتهما .ولأن المطلوب في هذه الحالة هو استحضارهما وليس حضورهما يكون طعمهما في ما يحيط بهما.ولأضرب مثال قد يبدو ساذجا :فالبدن الإنساني لا يختلف عن أي جهاز آلي يكون عملهقبل أن يغلب عليه الفساد أقوى من عمله بعد أن يغلب عليه .وكل جهاز بهذا المعنى لهعنفوان شباب وخذلان شيخوخة .والفرق الوحيد أن الجهاز الآلي يكون فيه ذلك حدثا دون حديث وعند الإنسان مع حديث.وحديث الشيخوخة ذكرى لأثر درس .ومن ثم فالانتقال من العنفوان الفعلي إلىالعنفوان القولي ويصبح عالم الحدوث الخيالي متقدما على عالم الحدوث الفعلي ولا ينقلالأول إلى الثاني إلا المخدرات والمسكرات والملهيات فتصبح الفرجة على الأكل والجنس بديلا من الفعل ذاته :وهذا ليس عند الفرد فحسب بل في الجماعة. ولنأخذ مثال الهندام :فالعري والتغطية كلاهما له دلالتان .في البداية وفي النهاية. • الدلالة غير الجنسية لها علاقة بالطبيعة المحيطة أو بالمناخ.• والدلالة الثانية جنسية وهي إما لحماية عنفوان الجنس أو لقتله بالابتذال الذي يزيل الفرق بين الخاص والعام لأن العري يجعله عاما فيفقده فاعليته.وفي الحقيقة هو يقلب العلاقة بين العام والخاص .فعندما يكون العري استعراضا لا واعيالمطلوب مفقود فهو يجعل العام موضوع الجهد المبذول لإبراز حاجة لا واعية للجنس المفقودأو بصورة أدق للجوع الجنسي الذي لا يشبع لأنه من جنس اللامتناهي الزائف في حياة الترف كما وصفها ابن خلدون.ويصبح الخاص أو ما يعاش في داخل البيت مهملا تماما لأن الاستعداد لخارج البيت يقتضيأن يصبح الفضاء الخاص متعلقا بإراحة البشرة وما سواها أو بأعدادهما لما سيعرض فيالفضاء العام في اليوم الموالي .وهذا طبعيا يعني أن ما يوجد في البيت لم يعد له دلالة ما يصحب الجنس بل رتابة ما يحول دون جذوته.أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
--فيعوض الاكزيبسيونسم (الاستعراض) والفيوريسم (الاستفراج) بديلين من المائدةوالسرير وخاصة بما يقدم على أنه من فنونهما إخفاء لما اصاب الوظيفتين العضويتين من هزال وضعف.فالجذوة والمتعة تضمران في الحالتين ويصبح الفعلي مقصورا على الأماني أو السوانجالآفلة بسرعة لأنها من جنس الومضات الخاطفة التي تعوض فيها الحواس الخارجية ما كانمن المفروض أن يكون جوهر الحياة العاطفية أعني الحواس الباطنية وهي لا تعملبالسوانح الخاطفة بل بالتكايف المديد بين الجنسين .فكل غلو في الانشغال المائدة والسريردال على العكس وعلامته المبالغة في الكلام عليهما .والتناسب عكسي بين الفعل والكلام: تضخم الثاني متناسب مع ضمور الأول.وليس بالصدفة أن كان ذلك من العاهات العامة عند العرب وليس في المائدة والسريرفحسب بل في كل ما تعوض الأقوال فيه الأفعال حتى تتحول كل الوظائف التي تحتاج إليهاالجماعة ظاهرات صوتية لا يتلوها فعل .والأمر لا يقتصر على الأحداث الفعلية في حياةالجماعة بل خاصة في فنونها وفي آدابها حتى صار معيار الجودة الشعرية هو :أجود الشعر أكذبه بخلاف المعيار القرآني.وهو ما يجعل ما نراه من لهيث وراء الموضة في الهندام بين الكاسي والعاري ليس مجردموضة هندامية بل هو من جنس ما سماه أفلاطون حكاك الأجرب المعبر عن عدم الإشباعأو عن التبئير والهوس الجنسي أو الغذائي الذي هو مرض إذا صار مركز الاهتمام المغني عما يجعله \"جزاء\" عضويـا يصحب الوظيفتين :الغذاء والجنس.علاقة الأغنياء بالمائدة والسرير ومتمماتهما ليست علاقة يكون فيها الغذاء والجنسمؤديين لوظيفتيهما بل يكون ما يتوهمونه حليا تجميليا لهما عند تجاوز حد معلوم فاقداللوظيفة التجميلية لأنه يصبح مجرد تعويض عن فقدان ما لهما بذاتهما من وظائف عضوية وجمالية أولهما بالقصد الأول والثاني بالقصد الثاني.أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
--وخلال كلامه على الترف ضرب ابن خلدون مثال تجميل الجنان والحدائق عند الأغنياءبالنباتات التي لا تثمر بل تقتصر على التجميل .وقد اعتبر ذلك من علامات بداية موتالحضارة لأنها فصلت بين الوظيفتين العضوية (الإثمار) والتلذذية جمال المنظر العقيم عضويا بالنسبة لقيام الإنسان.يمكنني أن أقدم مثالا آخر لم يكن ابن خلدون يستطيع تقديمه :وهو آخر ما صنعهالشرق -وهو دائما مصدر الشبق لذاته-هو العرائس البديلة من المرأة للرجل والبديلة منالرجل للمرأة .فهذه العرائس يمكن اعتبارها تطوري للجنس الذاتي أو للعادة السرية بعد أن فقد الجنس وظائفه الروحية والعضوية.وهذا المثال المتعلق بفن السرير يناظر مثال ابن خلدون المتعلق بفن المائدة .كلاهما لميبق من الأمر إلى جماليته العقيم .والجمالية في مثال ابن خلدون كان يمكن أن تجمع بينالجمال والخصب في النبات المثمر .وهو في مثالي كان يمكن أن تجمع بين الجمال والجنس المثمر .لكن الترف يغني عن الثمرة.أعلم أن الكثير يستهين بهذه الأمور .لكن ابن خلدون لم يستهن بها لأنه كان يبحث عنفهم المحددات العميقة لسلوك الإنسان .وما كان ليفعل لو لم يفهم أن الفلسفة القديمةوالوسيطة (وأضيف وحتى الحديثة) قد غفلت عن هذه المستويات التي سماها \"نحلالعيش\" لفهم سلوك الإنسان .وبهذا كانت الأديان-وخاصة الإسلام وبصورة أدق القرآنلأن علوم الملة ابتعدت عنه إما بسبب الإسرائيليات والفلسفيات ولأن سلوك الأمة بسبب النكوص إلى الجاهلية وسيطرة العادات -أبعد غورا من الفلسفات حتى الحديثة.فما عرفت من القدامى والمحدثين أولى أهمية لهذه القضية الجوهرية :قضية المائدةوالسرير بمراحلها الخمس التي وصفت اكتفوا باعتبار الفرق بين الجنسين ماديـا واعتبرواالوحدة الصورية لتعريف الإنسان-حيوان ناطق-كافية لفهم سلوكه .لكن الرجل للمرأةوالمرأة للرجل لغزان محيران حقا ولا يتفق فيهما حتى الحيوانية والعاقلية إذ هما يكادان يختلفان في كل شيء.أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
--ولهذا علاقة بنظرية التعريف بمقومات قابلة للتجريد والفصل بين المادة والصورة -فيالفلسفة الأرسطية خاصة وهي في الفلسفة الأفلاطونية أدهى وأمر لأن المادة تعتبر عندهأصل الشرور كلها-وبالذات بسبب تمنعها دون الخضوع للصورة .وحتى لو سلمنا بأن البدنمجرد \"مادة\" تحددها الصورة فإن المادة في هذه الحالة محددة قبل صورة الفرق النوعي الذي يسمى النطق.فالفرق الجنسي يحدد مادة الإنسان المجردة قبل الفصل بين الجنسين وذلك قبلتحديدها المشترك بينهما بالنطق .ولعله فرق نوعي ضمن الإنسان أكثر فاعلية في ما يسبقهوما يتلوه من كيانه أعني المادة غير المصورة والصورة غير ممددة التي يستمد منها الفرقالنوعي .وقد تكون المرأة بذلك قد خسرت مميزاتها الذاتية لعلل ثقافية أهمها وهم مشابهة الرجل دليل تحرر وسمو.وفي القرآن وبخلاف خرافة الضلع المعوج (لعلها من الإسرائيليات) لدى الفقهاءوالمفسرين أصل الإنسان هو الأنثى وليس الذكر في النساء 1بتوضيح لا لبيس فيه فيالأعراف { :189هُ َو الَّ ِذي َخلَ َقكُم ِّمن َّنفْسٍ وَا ِحدَةٍ وَجَ َع َل ِمنْهَا َزوْ َج َها لِيَسْكُنَ إِ َل ْي َها ۖ َفلَ َّماَتغَشَّا َها َح َم َل ْت َح ْم ًلا َخفِي ًفا َف َم َّر ْت بِهِ ۖ َفلَ َّما َأ ْث َق َلت َّدعَوَا ال َلّهَ َر َّب ُهمَا لَ ِئنْ آ َت ْي َت َنا َصا ِل ًحا َّل َن ُكونَنَّ مِنَ ال َّشاكِ ِري َن.لذلك فالأكثر تحييرا هو استنادا إلى هذا الخطأ الفلسفي الذي يوهم بان الفرق بينهمامتعلق بالمادة وليس بالصورة يقتضي عدم فهم دور هذا الفرق الذي قد يجعلهما نوعينمختلفين بالجوهر اختلافا هو الذي تجعل وجودهما معا شرطا في تواصل النوع :فهل الفرق المادي المنسي أهم من الوحدة الصورية المزعومة؟ولست أبالغ إذا قلت إن إهمال هذا الفرق \"المادي\" في نظر الفلاسفة وخاصة محاولةإزالته سيحدد مصير الإنسانية فضلا عن كون ازاحته مستحيلة لأنه كما بينت لا يمكن أنيخلو أي مجتمع من وجود المستويات الخمسة المحددة لعلاقة الجنسين بحسب \"نحلة العيش\" ودور كلا الجنسين فيها.أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
--وعندما أقارن منزلة المرأة في التوراة-مجرد عاهرة -ومنزلتها في الإسلام -حصان-أكتشف الفرق الجوهري بين المنزلتين .ولا أريد أن أهجو التوراة وأن امدح القرآن إذ علىالقراء أن يقارنوا بأنفسهم حتى لا يظنوا أني اتجنى على الأولى وابالغ في مدح الثاني لكني أشير إلى أن غياب المرأة في الفلسفة فضيحة فلسفية.ولست مجازفا إذا قلت إن في أعماق الفلاسفة موقف نيتشوي من المرأة حتى وإن لم يعلنواعنه .فلا أرسطو ولا أفلاطون ولا سقراط-الذي تعتبر السخرية من \"غباء\" زوجته علامةاحتقار لا حد لها -ولا ديكارت ولا كنط ولا هيجل ولا أي فيلسوف عربي أعطى للمرأةواحد من المليون بالقياس إلى ما تعطيها إياه منزلتها في القرآن التي لا علاقة لعادات العرببتمثيلها لأنهم نكصوا إلى الجاهلية :يكفي أنه يخاطبها بعلامة جنسها ليبين أنه يخاطبها كامرأة.وبهذا المعنى فكل الحركات التي تدعي النسوية والدفاع عن المرأة وخاصة باتهام الإسلامحداثيي العرب وحداثياتهم أهم أكثر الناس احتقارا للمرأة لأن استنادهم إلى الفلسفةليس له معنى أسمى مما يراه كبار الفلاسفة .فهم في الحقيقة لم يتجاوزا الرؤيةالأفلاطونية هي كائن لا يبقون فيه من المرأة إلا ما لا يستطيعون حذفه أعني ما ترجعهاإليه بعض العجائز التونسية احتقارا للمرأة \"شقفة بول\" .إنها ملكية مشاعة وبضاعة مباعة لأداء هذه الوظيفة الحيوانية دون مصاحبها الروحي.ولهذه العلة فهم يرون العلاقة بين شرف الرجل ومنزلة المرأة من دلالات التخلف لأنمن يقيمها بالقيمتين الماديتين (الاستعمال والتبادل) لا يمكن أن يصلها بالشرف إذ لا أحدمستعد للموت دون عرضه إذا عرضه يقاس بثمن اقتصادي بهذين المعنيين :ولهذه العلة فالكثير من هذا الرهط قد يستعمل نسائه لارتقائه بهذين بهما.وإذا أمكن للتكنولوجيا أن تصنع حاضنات تغني عن الحمل فيمكن أن تلتقي البويضةوالحيوان في المعمل ويصبح الجنس مطلق الفصل فلا يجتمع الدوران العضوي والجمالي فيأبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
--الحياة الجنسية وتتحقق أحلام أفلاطون وحتى ماركس من المشاعية الجنسية مثلها مثل مشاعية الملكية .هل هذه غاية الإنسان؟لكن حتى لو أمكن تحرير المرأة والرجل مما يثقل على الجنسي لذاته فإن المشكل يبقىفي خاصية بايولوجية سابقة ولاحقة ومصاحبة للمائدة والسرير المثمرين وغير المقتصرينعلى ما جعلته الحياة شبه جزاء من اللذة والجمال والحب للجهد المبذول لتحقيق بقاء النوع وعلى المرأة في ذلك كلفة أكبر من الرجل.ومهما فعلنا تقنيا للتخفيف عنها بتعويض بعض الأجزاء من دورها يبدو أنه يستحيلتخليصها من الدورة الشهرية ومتاعبها ومن البيض ومن تغذية الجنين حتى لو تحررت منإرضاعه مع ما يترتب على ذلك من هشاشة الأطفال على الاقل في السنة الأولى بعد الوضع.أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
--ممكن الحصول والعنف لا يغير من الأمر شيء بل هو يفسد الحياة ولا يجودها وخاصةحياة المرأة .ذلك أن هذه الشبكة العلائقية لا يمكن أن تكون محددة بالأحكام المسبقة التيفي الاذهان بل هي تتحدد بشبكة العلاقات التي في الاعيان ومحاولات فهم بنيتها وشروطها.مثال ذلك أن مرحلة ما دون المائدة والسرير تجعلهما غاية للفرد وللجماعة فيكون تحصيلالغذاء والجنس مقتضيا تقسم عمل بين الجنسين يجعل معيارها القدرة على الحماية للرجالوالقدرة على الرعاية للنساء دون أن يعني ذلك تفاوتا في المنزلة بين الجنسين بل إن لكلتا الوظيفتين نفس المنزلة والأهمية.فالزوجة والام والاخت والبنت نساء ولسن جواري كما وهن ذوات منزلة كريمة حتىوإن كنا من حيث الحماية تابعات للأب والأخ وللأقربين من محارمهن بحكم وظيفتهم كحماةفي المرحلة التي ما يزال فيها طلب الرزق اليومي يجري في شبه حرب دائمة مع الطبيعة ومع الإنسان.وغير صحيح أن المرأة حينها كانت جارية .فالجارية مفهوم متأخر ولا تبدأ إلا مع حصول القدر الكافي من المائدة والسرير.ومعنى ذلك أن من يحقق الاكتفاء المشروط في المائدة والسرير هو الذي يمكن أن يصبح قادرا على التمييز بين الزوجة والجارية وهو بداية تقسيم عمل \"جنسي اقتصادي\".ذلك أن الجارية تبدأ للخدمة وتنتهي للجنس إذا توفرت فيها شروط الجمال إذ معهاتزول الحشمة التي هي شرط الحياة مع الزوجة بمعنى أن المباح مع تلك مستحيل مع هذهفي كل ما يصحب الحياة الجنسية الأقل التزام بقيم الحشمة و\"القدر\" تماما كما صار يحصل الآن مع العشيقات.وينبغي أن أشرح هنا مفهوم الوأد .فوأد البنات كانت له علتان :العجز عن الحماية والعجز عن الرعاية. لم يكن العربي القادر عليهما يئد بناته .فالعجز عن الحماية يورث العار.أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
--والعجز عن الرعاية يورث جريمة أكبر .فموت البنت جوعا جريمة أشنع من الوأد فهومن جنس الموت الرحيم بالقياس إلى عذاب الجوع الذي لا مخرج منه .وطبعا الإسلام حرر البشر منه بأبوات الإنفاق.وإذن فتوهم الجواري موجودة في مرحلة ما دون المائدة والسرير من الأخطاء التي لايمكن أن يقع فيها من طبق مفهوم \"نحلة العيش\" على العلاقة بين المرأة والرجل .وجود الجواري يقتضي تحقق الشروط الدنيا من مرحلة المائدة والسرير. وهم ممكن للقلة من الاقوياء إذن يصبحون اثرياء النهب والسلب والسبي.ولكن عندئذ يكون ذلك مع الرجال كما مع النساء فيتكون مفهوم العبد والامة وتتكونتجارة من العبيد والإماء وهي تجارة من جنس تجارة الصيادين :فالأقوياء يصطادون منلا يستطيع حماية ذاته وحماية نسائه ثم تتكون تجارة العبيد بعد أن يسد الصيادون حاجتهم منهم .والأمر كذلك في العالم كله إلى الآن.ومن أراد أن يجد دليلا على بقاء الحال على ما هي عليه إلى الآن رغم كذبة زوالالعبودية فيلدرس ما يجري في البلاد التي اشتهرت بالسياحة عامة والتي لم تعد تخفي علاقةالسياحة عامة بالسياحة الجنسية خاصة .وسيرى دون كبير عناء أن تجارة الجنس والعبودية موجودة في العالم عامة غنيه وفقيره. واستكمالا لقضية وأد البنات في الجاهلية أضيف عنصرا اساسيا:لو كان العرب يئدون البنات أنهم بنات لما تواصل النوع .كانوا يئدون بسبب العلتين اللتينذكرتهما .وأبواب الإنفاق في الدولة الإسلامية هي بداية كونية لمفهوم الدولة الراعية لمن يعجز عن الرعاية كما هي حامية لمن يعجز عن الحماية.ويكفي أن ننظر الآن في علاقة أهل المدن من الأغنياء ببنات أهل الريف من الفقراء أوفي استيراد الخليج للخدم وحتى للجواري من بلاد العرب والعجم .فهذه عبودية حتى وإن زعمت تعاقدية.أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
--وهي عبودية مضاعفة من البلاد المصدرة ومن البلاد الموردة وكل ذلك مناف لقيم الإسلام ومعاني الإنسانية.بل إن ابن خلدون وصل إلى حد اعتبار المستخدم لغيره أحقر الخادم لأنه فقد القدرةعلى الاعتماد على نفسه في رعايتها .وكنت ولا زلت دائما أعجب من دعيات الدفاع عنالمرأة وهن أكثر نساء العالم حطا من كرامة خادماتهن وفقيرات النساء في بلادهن بل وحتى الرجال :المرأة \"مورد رزق إيديولوجي\".سيظن الكثير أن المنزلة التي أوليها لما رمزت إليه بالمائدة والسرير ولفن المائدة وفنالسرير وما اشتققته منهما قبلهما وبعدهما وبينها مع التركيز على أهمية البدن أو الجسمالإنساني أن قائل بالجوهرانية المادية .ذلك ان الكثير يتصور البدن مادة بمعنى كتلة جرمية وليس هو بدوره بنية علائقية.ومثلما يتصورون البدن مادة يتصورون العالم الخارجي الطبيعي والتاريخي اللذينيتعامل معهما الإنسان بتوسط بدنه في العلاقتين العمودية مع الأول لسد حاجاته والأفقيةلتنظيم هذا السد والأنس بالعشير مادي هو بدوره فأكون وكأني ملت إلى الماركسية .لكني لا أفهم معنى المادة في هذه الحالات.فكون أرى بدني متعينا في حيز ذي امتداد من المكان وفي حيز ذي مدة من الزمان والعالممن حوله وكأنه هو بدوره حيزين جنيسين من المكان والزمان كلاهما مناسب لمداركي الحسيةلا يعني أني أعلم طبيعتهما بردهما إلى مادة أو إلى روح أو إلى مزيج منهما أو إلى شيء آخر مجهول :ما أعلمه هو العلائق.وإذا أمكن لي أن أسمي شيئا من هذه العلائق بوصفه \"طبيعة\" ما فهو النظام القانونيالممسك بالعناصر التي تدركها حواسي .وهو ليس مادة ولا روح رغم أني أستطيع أن اعبرعما أعلمه منه بجمل رمزية ذات اسميها رياضية بمعنى أنها نسب بن مقومات عنصرية افترضها لملء خانات معادلة رياضية.أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
--وهذه \"الحقائق\" هي التي أوجبت التخلص من خرافة العلاقة الجدلية التي صارت \"عصاسحرية\" عند كاريكاتور الحداثة وحتى عند كاريكاتور الأصالة الذي صار يستعملها تحتمسمى التدافع لكأنه توجد علاقة بين عنصرين متناقضين في أي مجل وليس علاقة يسهم فيها العالم كله كما حاولت بيانه.وليس لأننا نلغي الكثير من العناصر المتدخلة حتى نستطيع التعامل مع الوضعياتالمعزولة بسبب محدودية إدراكنا فإن تلك العناصر ملغاة وفاقدة لدورها .لا شيء ممايحدث فينا أو في العالم او في ما بينا وبين العالم يمكن استثناؤه مما يجري في النظام المحدد للعلاقة بين جنسين لا يتواصل النوع إلا بهما.أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى الزبدة:هل كان ابن خلدون في كلامه على المبدأ الذي اتبعه في ترتيب مسائل علمه الست أعنيمفهوم الإنسان ومحددات وجوده بمعيار التراتب بين الضروري والحاجي والكمالي معاضمار ما دون الاول وما فوق الثاني قد أتبع نفس الخطة دون أن يحترز فيعتبرها متماعية دائما؟ فالمسائل هي موضوعات الأبواب الستة: .1العمران البشري على الجمل. .2العمران البدوي. .3الدول. .4العمران الحضري. .5في الصنائع والمعاش. .6في العلوم واكتسابها وتعلمها.فهل ابن خلدون يعتبر تتابعها يجعل الخالف وكأنه تجاوز للسالف بمعنى الاوفهيبونجالهيجلي أو الماركسي أم له تصور آخر؟ كل الفصول السابقة من هذه المحاولة تفترض أن أجيب بأن له تصورا آخر وهو سر أمرين: .1تجدد الحضارات مدين لهذه السلسلة التي تتكرر دائما وليست تحدث مرة واحدة لكأن التاريخ الحضاري للإنسانية خطي. .2تعايش الضروري والحاجي والكمالي وما دون الأول وما بعد الأخير دائما لتحقيق الدورة.والمبدأ الثاني هو الذي يجعل آليات التغير الدورية تجري داخل نفس الحضارة ثم بينالحضارات وهي سر العلاقة بين الفاعل الطبيعي في الإنساني والفاعل المكتسب وهوما يعنيأبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
--أن المكتسب مهما كانت أهمية دوره فهو بفضل عدم التساوي في الاكتساب يجعل مراحله محكومة بصمود الطبيعي وما صمود عادة المكتسب.ولهذه العلة عرفت الزمان التاريخي بكونه ذا خمسة أبعاد وليس ثلاثة مثل الزمانالطبيعي .طبعا ابن خلدون لم يستعمل هذا التعريف الذي وضعته لفهم علل صمودالحضارة السابقة عندما تغلب أمام غزو الحضارة اللاحقة التي تغلبها ووجود أمل الاستئناف رغم أنه حتما سيتأثر بالغالبة ليأخذ منها سر غلبتها. فالماضي الحضاري يتألف من أحداثه التي حصلت فعلا أو تخيلا ومن أحاديثه حولها.والمستقبل الحضاري يتألف من أحاديثه حول احداثه المقبلة سواء حدثت لاحقا فعلا أو لم تحدث.والحاضر هو دائما معركة الأحاديث لأن الأحداث الماضية مضت والأحداث المقبلة لم تحدث بعد.وبذلك تصبح الأحاديث في الحاضر هي التي تؤثر أكثر من الأحداث الماضية لأنها هي التيتضفي عليها المعنى المؤثر بتأويلاتها وأكثر من الأحداث المقبلة لأنها هي التي تحض علىالفعل المحقق لها .فتكون الفاعلية الرمزية التي في الأحاديث بصنفيها أهم من الفاعلية المادية رغم ضرورتها.ولهذه العلة فالقوة اللطيفة -القيم بما فيها من كوني رغم أنه يبدو خصوصي-تمثل عاملصمود من دونها يصبح الفعل المادي حاسما حسما نهائيا بحيث إن من يغلب في معركة بالقوةالعنيفة ينتهي في حين أن القوة اللطيفة تمثل دائما سر الصمود والاستئناف بفضل مقومات كيان الإنسان الكونية :سر المناعة.ففي فلسفة الحرب -كلاسفيتس-الأمم لا تهزم لأنه جيشها انكسر أو لأن ارضها احتلت وهماالنوعان الاولان من الهزيمة عنده وإنما تهزم حقا عندما تفقد القدرة على المقاومةوالصمود شرطي الاستئناف .ومعنى ذلك لا يكون العدو قد انتصر إلا إذا قتل في المغلب إرادة الصمود والمقاومة.أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
--وهذه الإرادة تبدو وكأنه نابعة من الخصوصية الحضارية .وهي فعلا تبدو كذلك لأنهاشيء كلي وكوني يوجد في الإنسان من حيث هو إنسان لكنها تتلون بالخصوصيات القيميةوالحضارية أو بأشكال التعبير عنها لكن طبيعتها واحدة :الاسترداد المسيحي في القرون الوسطى مماثل للاسترداد الإسلامية الحالي.وبهذا المعنى نكتشف سر العمق في العلاج الخلدوني حتى وإن لم يكن هو نفسه واعيا به:ففي تعريف للإنسان وعلل فناء الأمم تكلم على \"فساد معاني الإنسانية\" بوصفه ماحيالحقيقة الإنسان الذي يعرفه \"رئيسا بالطبع بـمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" بمعنى أنه لا يقبل فقدان حريته أبدا.ولأورد النص (الفصل 24من الباب الثاني :في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرهاأسرع إليها الفناء) )...(\" :وفيه والله أعمل سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعهبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له والرئيس إذا علب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسلحتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي .ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين.فلايزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناءوالبقاء لله وحده\" .وها نحن نجد المبدأين :المائدة (الغذاء) والسرير(الجنس) :رمزي البقاء الحر والعزيز.وما قاسه ابن خلدون على الحيوان المفترس في الإنسان يجعل \"الرئاسة بالطبع\" التي له ذات صلة بالاستقلال في المائدة وفي السرير أو بصورة أدق يجعل هذين علامتي الاستقلال.والأول هو رمز الملكية شرط الرعاية والثاني هو رمز الشرف شرط الحماية .ومجموعها هو شرط الرئاسة بالطبع والاستخلاف.وبذلك نكون قد وصلنا إلى نوعي القيم :القيم المادية (الملكية أصلا للحرية الدالة علىالقدرة على الرعاية) والقيم المعنوية (الشرف أصلا للكرامة الدالة على القدرة علىأبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
--الحماية) .قيم الرعاية والحماية يتبادلان التأثير :فينتجان القدرة على الصمود الفعلي والرمزي روحيا. والثاني يستعيد الأول.صحيح أن فقدان القدرة على الرعاية قد تضطر الإنسان للتنازل على الحرية فيتنازل عنالحماية قبولا بشروط الغالب ومن ثم يفقد الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلقله .وحينها يكون قد تنازل عن إنسانيته بالمعنى الخلدوني أو عما فيه من \"غريزة طبيعية يشاركه فيها الحيوان المفترس\".وهذا يصبح ما به تتجدد الحضارات هو في آن الطبيعي من القيم التي تتقوم بها حقيقةالإنسان وليس وجوده فحسب .فالمائدة والسرير مقومان وجوديان يمكن أن يكونا سويين مالم يصبحا مقابل التنازل عن حقيقة الإنسان بحيث يلغيان حريته (المائدة) وكرامته (الجنس) فتحصل العبودية وتزول الرئاسة بالطبع. وهنا نكتشف المعيار الحقيقي لتقييم الإنسان في بعدي \"معاني الإنسانية\" لديه: .1الرئاسة بالطبع (بعد فلسفي) .2بمقتضى الاستخلاف (بعد ديني).فعندما تنظر في الكاريكاتورين من النخب العربية التحديثة والتأصيلية تكتشف أنهم لايرون من الوجود إلى المستوى الأول من القيم التي تحكم التبادل الاقتصادي ولا يدركون معنى القيم التي تحكم التواصل الوجداني.بهذا المعنى فلا يمكن أن يفهموا معنى \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" أيإن القيم عندهم لا تتجاوز قيمتي الاقتصادي أي قيمة الاستعمال وقيمة التبادل أي إنهم إما جوعى أو بضاعة بخسة.ولا يعترفان بالتواصل الروحي أي الرعاية دون مقابل وحماية ما هو أغلى من الذات بسبب الحب عامة.أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
--ولست أعني أن هذين النوعين من النخب الكاريكاتورية ليس عندهم حب للولد أو للوطنأو للمعتقد لكن عند الوقوع في وضع الاختيار فهم مستعدون لجعل ذلك كله دون قيمالاقتصاد وخاصة الاستعمالية ولكن حتى التبادلية ولذلك فالمستبدون يستعملونهم بهما فيصبحون بالضرورة طبالين :والعلامة فساد شعرائنا.قد يجيد بعضهم وإن لم يصلوا ابداع المتنبي لكنه مثله أنذال يشترون بالمال لسد حاجةالمائدة والسرير وما يبتعهما من مكملات .ولا يمكن أن يكون شاعرا نبيلا من يطبلللمجرمين لأنه لم يفهم قول القرآن في شروط الشعر الذي يجمع بين القيم الجمالية والقيم الجلالية فيكون القول فيه مطابقا للفعل.ذلك أن جمال القول من دون فعل يعني أن القول صار بضاعة تباع في سوق النخاسين :منيظن نفسه شاعرا ويطبل لما يسمى بالممانعة كاذب في شعره حتى لو أجاد .وما أظن أحدامن شعرائنا الحاليين مبدعا لأن أغلبهم بحجة التناص يكتفون بسرقة ما أبدعه قبلهم الشعر العربي أو الغربي دون صدق أصحابه.عندنا إذن نوعان مضاعفان من القيم مع أصل ترد إليه أربعتها :قيمتان اقتصاديتان للتبادلوقيمتان وجدانيتان للتواصل .والأصل الجامع هو تعريف ابن خلدون للإنسانبكونه\"رئيسـ(ـا) بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو تعريف فلسفي (بالطبع)وديني (الاستخلاف) في آن :ذلك هو السر الخلدوني والذي سعيت لتأييده ببيان وحدة الديني والفلسفي رغم تعدد الأديان والفلسفات.فسواء بدأت بالعمل والشرع وانتهيت إلى النظر والعقد (الديني) أو عكست فبدأت النظروالعقد وانتهيت إلى العمل والشرع (الفلسفي) يبقى الطريق واحدة رغم تعاكس السيرفيه :الديني يقدم العمل والشرع منطلقا للنظر والعقد والفلسفي يقدم النظر والعقد منطلقا للعمل والشرع. وقد برهنت على ذلك في محاولات سابقة.أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
--والآن أستطيع أن أفصح عن دلالة المراحل الخمس أو المستويات الخمس بمعيار المائدةوالسرير وفن المائدة والسرير وما دون الأولى وما دون الثاني وما بعده .فهذه المستوياتليست منفصلة عندي عن مستويات القيم بفرعيها المضاعفين وبأصلها أو معاني الإنسانية مقومات للرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف.وإذن فكل مستوى من المستويات التي تنتج عن المائدة والسرير يكون فيه البشر واعين أوغير واعين بهذا المعنى للإنسان :فمنهم من يسعى لأن يحقق شروط رئاسته بالطبع رعايةوحماية ومنهم من لا يفعل فيفقد معاني الإنسانية ويكون فيستتبع لغلبة قيم التبادل الاقتصادي بدل قيم التواصل الوجداني عليه.والفرق بين قيمتي التبادل الاقتصادي (الاستعمال والتبادل) وقيمتي التواصل الوجداني(الحرية والكرامة) هو قابلية التفريط في الأوليين وعدم قابليته في الثانيتين .وللنوعينعلاقة بالمائدة والسرير يحددها نوعان من المحددات ذات صلة بمقومات كيان الإنسان وقيمها .ذلك أن الحرية والكرامة ذاتا صلة مباشرة كما سنرى بحيزي الثروة والتراث.فحيز الثروة محدد لعلاقة الإنسان بالحرية والمائدة وحيز التراث محدد لعلاقة الإنسانبالكرامة (أو العرض) والسرير .وهذا التحديد هو الذي يميز حقا بين العبيد والأحرار أو بين من فسدت فيهم معاني الإنسانية ومن حافظوا عليها.وهذا ثابت لا يتغير .قد تتغير النسب .لكن الظاهرتين متلازمتان .وتلازمهما من جنستلازم الخير والشر .فالإرادة حرة أو مضطرة والعلم صادق أو كاذب والقدرة خيرة أوشريرة والحياة جميلة أو قبيحة والوجود جليل أو ذليل .هو معنى الوعي بكون الإنسان \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف\" أو غير واع.أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى زبدة المنظور الخلدوني:هل كان ابن خلدون في كلامه على المبدأ الذي اتبعه في ترتيب مسائل علمه الست أعنيمفهوم الإنسان ومحددات وجوده بمعيار التراتب بين الضروري والحاجي والكمالي معاضمار ما دون الاول وما فوق الثاني قد أتبع نفس الخطة دون أن يحترز فيعتبرها متماعية دائما؟ الفصل السادس في علاقة الجنسين بمنظور مفهوم \"نحلة العيش\" الخلدوني. فالمسائل هي موضوعات الابواب الستة: .1العمران البشري على الجملة .2العمران البدوي .3الدول .4العمران الحضري .5في الصنائع والمعاش .6في العلوم واكتسابها وتعلمها.فهل ابن خلدون يعتبر تتابعها يجعل الخالف وكأنه تجاوز للسالف بمعنى الاوفهيبونج الهيجلي أو الماركسي أم له تصور آخر؟وكل الفصول السابقة من هذه المحاولة تفترض أني أجيب بأن له تصورا آخر وهو سر أمرين: .1تجدد الحضارات مدين لهذه السلسلة التي تتكرر دائما وليست تحدث مرة واحدة لكأن التاريخ الحضاري للإنسانية خطي. .2تعايش الضروري والحاجي والكمالي وما دون الأول وما بعد الأخير دائما لتحقيق الدورة.أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
--والمبدأ الثاني هو الذي يجعل آليات التغير الدورية تجري داخل نفس الحضارة ثم بينالحضارات وهي سر العلاقة بين الفاعل الطبيعي في الإنساني والفاعل المكتسب وهوما يعنيأن المكتسب مهما كانت أهمية دوره فهو بفضل عدم التساوي في الاكتساب يجعل مراحله محكومة بصمود الطبيعي وما صمود عادة المكتسب.ولهذه العلة عرفت الزمان التاريخي بكونه ذا خمسة أبعاد وليس ثلاثة مثل الزمانالطبيعي .طبعا ابن خلدون لم يستعمل هذا التعريف الذي وضعته لفهم علل صمودالحضارة السابقة عندما تغلب أمام غزو الحضارة اللاحقة التي تغلبها ووجود أمل الاستئناف رغم أنه حتما سيتأثر بالغالبة ليأخذ منها سر غلبتها.فالماضي الحضاري يتألف من أحداثه التي حصلت فعلا أو تخيلا ومن أحاديثه حولها.والمستقبل الحضاري يتألف من أحاديثه حول أحداثه المقبلة سواء حدثت لاحقا فعلا أو لم تحدث.والحاضر هو دائما معركة الأحاديث لأن الأحداث الماضية مضت والأحداث المقبلة لم تحدث بعد.وبذلك تصبح الأحاديث في الحاضر هي التي تؤثر أكثر من الأحداث الماضية لأنها هيالتي تضفي عليها المعنى المؤثر بتأويلاتها وأكثر من الاحداث المقبلة لأنها هي التي تحض على الفعل المحقق لها.فتكون الفاعلية الرمزية التي في الأحاديث بصنفيها أهم من الفاعلية المادية رغم ضرورتها.ولهذه العلة فالقوة اللطيفة -القيم بما فيها من كوني رغم أنه يبدو خصوصي-تمثل عاملصمود من دونها يصبح الفعل المادي حاسما حسما نهائيا بحيث إن من يغلب في معركة بالقوةالعنيفة ينتهي في حين أن القوة اللطيفة تمثل دائما سر الصمود والاستئناف بفضل مقومات كيان الإنسان الكونية :سر المناعة.أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
--ففي فلسفة الحرب -كلاسفيتس-الأمم لا تهزم لأنه جيشها انكسر أو لأن ارضها احتلتوهما النوعان الأولان من الهزيمة عنده وإنما تهزم حقا عندما تفقد القدرة على المقاومة والصمود شرطي الاستئناف. ومعنى ذلك لا يكون العدو قد انتصر إلا إذا قتل في المغلب إرادة الصمود والمقاومة.وهذه الإرادة تبدو وكأنه نابعة من الخصوصية الحضارية .وهي فعلا تبدو كذلك لأنهاشيء كلي وكوني يوجد في الإنسان من حيث هو إنسان لكنها تتلون بالخصوصيات القيميةوالحضارية أو بأشكال التعبير عنها لكن طبيعتها واحدة :الاسترداد المسيحي في القرون الوسطى مماثل للاسترداد الإسلامية الحالي.وبهذا المعنى نكتشف سر العمق في العلاج الخلدوني حتى وإن لم يكن هو نفسه واعيا به:ففي تعريف للإنسان وعلل فناء الأمم تكلم على \"فساد معاني الإنسانية\" بوصفه ماحيالحقيقة الإنسان الذي يعرفه \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" بمعنى أنه لا يقبل فقدان حريته أبدا.ولأورد النص (الفصل 24من الباب الثاني :في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرهاأسرع إليها الفناء) )...(\" :وفيه والله أعمل سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعهبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له والرئيس إذا علب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسلحتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي ولقد يقال مثله في الحيواناتالمفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين .فلايزال هذا القبيل المملوك عليهأمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء والبقاء لله وحده\" .وها نحن نجدالمبدأين :المائدة (الغذاء وما يتبعه) والسرير (الجنس وما يتبعه) :رمزي البقاء الحر والعزيز.وما قاسه ابن خلدون على الحيوان المفترس في الإنسان يجعل \"الرئاسة بالطبع\" التي لهذات صلة بالاستقلال في المائدة وفي السرير أو بصورة أدق يجعل هذين علامتي الاستقلال.أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
--والأول هو رمز الملكية شرط الرعاية والثاني هو رمز الشرف شرط الحماية .ومجموعها هو شرط الرئاسة بالطبع والاستخلاف. وبذلك نكون قد وصلنا إلى نوعي القيم: • القيم المادية (الملكية أصلا للحرية الدالة على القدرة على الرعاية) • والقيم المعنوية (الشرف أصلا للكرامة الدالة على القدرة على الحماية).قيم الرعاية والحماية يتبادلان التأثير :فينتجان القدرة على الصمود الفعلي والرمزي روحيا .والثاني يستعيد الأول.صحيح أن فقدان القدرة على الرعاية قد تضطر الإنسان للتنازل على الحرية فيتنازلعن الحماية قبولا بشروط الغالب ومن ثم يفقد الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذيخلق له .وحينها يكون قد تنازل عن إنسانيته بالمعنى الخلدوني أو عما فيه من \"غريزة طبيعية يشاركه فيها الحيوان المفترس\".وهذا يصبح ما به تتجدد الحضارات هو في آن الطبيعي من القيم التي تتقوم بها حقيقةالإنسان وليس وجوده فحسب .فالمائدة والسرير مقومان وجوديان يمكن أن يكونا سويين مالم يصبحا مقابل التنازل عن حقيقة الإنسان بحيث يلغيان حريته (المائدة) وكرامته (الجنس) فتحصل العبودية وتزول الرئاسة بالطبع.وهنا نكتشف المعيار الحقيقي لتقييم الإنسان في مدى \"معاني الإنسانية\" لديه .فعندماتنظر في الكاريكاتورين من النخب العربية التحديثة والتأصيلية تكتشف أنهم لا يرون منالوجود إلى المستوى الأول من القيم التي تحكم التبادل الاقتصادي ولا يدركون معنى القيم التي تحكم التواصل الروحي.بهذا المعنى فلا يمكن أن يفهموا معنى \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"أي إن القيم عندهم لا تتجاوز قيمتي الاقتصادي أي قيمة الاستعمال وقيمة التبادل أي إنهم إما جوعى أو بضاعة بخسة.أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
--ولا يعترفان بالتواصل الروحي أي الرعاية دون مقابل وحماية ما هو أغلى من الذات بسبب الحب عامة.ولست أعني أن هذين النوعين من النخب الكاريكاتورية ليس عندهم حب للولد أوللوطن أو للمعتقد لكن عند الوقوع في وضع الاختيار فهم مستعدون لجعل ذلك كله دونقيم الاقتصاد وخاصة الاستعمالية ولكن حتى التبادلية .ولذلك فالمستبدون يستعملونهم بهما فيصبحون بالضرورة طبالين :والعلامة فساد شعرائنا.قد يجيد بعضهم وإن لم يصلوا إبداع المتنبي لكنه مثله من الأنذال الذين يشترون بالماللسد حاجة المائدة والسرير وما يتبعهما من مكملات للتبذير والتخدير .ولا يمكن أن يكونشاعرا نبيلا من يطبل للمجرمين لأنه لم يفهم قول القرآن في شروط الشعر الذي يجمع بين القيم الجمالية والقيم الجلالية فيكون القول فيه مطابقا للفعل.فـجمال القول من دون فعل يعني أن القول صار بضاعة تباع في سوق النخاسين :من يظننفسه شاعرا ويطبل لما يسمى بالممانعة كاذب في شعره حتى لو أجاد .وما أظن أحدا منشعرائنا الحاليين مبدعا لأن أغلبهم بحجة التناص يكتفون بسرقة ما أبدعه قبلهم الشعر العربي أو الغربي دون صدق أصحابه.وكل من يدعي الطهر والنظافة بالتطبيل للممانعة بدعوى أنها تقاوم المستكبرين يغالطذاته قبل غيره وهو لا يفعل دون مقابل إذ هم يدفعون للطبالين ولو \"أون ناتير\" ويكفي أن تسمع مليشيا القلم في الصحافة العربية المقيمة والمهاجرة.فلا مستكبر أكثر ممن يريد أن يلغي تاريخ الإسلام ويبحث عن بعث ما تقدم عليه ولوالتنكر فيه فيدعي محاربة أمريكا وإسرائيل ليرضي المغفلين بالأقوال ويتحالف من يحاربالإسلام بالأفعال باحتلال أرضه وتشييع شعبه من أجل استرداد دولة آل كسرى باسم آل البيت.عندنا إذن نوعان مضاعفان من القيم مع أصل ترد إليه أربعتها :قيمتان اقتصاديتانللتبادل وقيمتان وجدانيتان للتواصل والأصل الجامع هو تعريف ابن خلدون للإنسانأبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
--بكونه\"رئيسـ(ـا) بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو تعريف فلسفي (بالطبع) وديني (الاستخلاف) في آن :ذلك هو السر الخلدوني.والآن أستطيع أن أفصح عن دلالة المراحل الخمس أو المستويات الخمس بمعيار المائدةوالسرير وفن المائدة والسرير وما دون الاولى وما دون الثاني وما بعده .فهذه المستوياتليست منفصلة عندي عن مستويات القيم بفرعيها المضاعين وبأصلها أو معاني الإنسانية مقومات للرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف.وإذن فكل مستوى من المستويات التي تنتج عن المائدة والسرير يكون فيه البشر واعينأو غير واعين بهذا المعنى للإنسان :فمنهم من يسعى لأن يحقق شروط رئاسته بالطبع رعايةوحماية ومنهم من لا يفعل فيفقد معاني الإنسانية ويكون فيستتبع لغلبة قيم التبادل الاقتصادي بدل قيم التواصل الوجداني عليه.وهذا ثابت لا يتغير .قد تتغير النسب .لكن الظاهرتين متلازمتان .وتلازمهما من جنستلازم الخير والشر .فالإرادة حرة أو مضطرة والعلم صادق أو كاذب والقدرة خيرة أو شريرة والحياة جميلة أو قبيحة والوجود جليل أو ذليل. هو معنى الوعي بكون الإنسان \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف\" أو غير واع.أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
-- والآن وصلنا إلى خاتمة المحاولة:هل كان ما دون المائدة والسرير يمكن أن يصل إلى المائدة والسرير لو لم يكن للإنسان بعض وعي بكونه \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"؟هل كان يمكنه أن يتجاوز الحيوانية فيسموا إلى الإنسانية جمعا بين السيادة (قوة طبعية) والرئاسة (قوة وجدانية)؟هل كان ذلك يكون لو كان الأب والام يعاملان الأبناء بقيم التبادل بدلا من قيم التواصل؟ هل يمكن للحيوان ذكره أو انثاه أن يجوع ليغذي ابنه أو بنته؟صحيح أن بعض البشر في عصر الوحشية التي دون المائدة والسرير قد يأكل أبناءه أوأبناء غيره إذا جاع بل وكان يتصور مؤلهاته تحتاج إلى أضاحي بشرية .لكن ذلك كان استثناء وإلا لما تم تجاوزه. وتلك هي رمزية قصة ابراهيم مع اسماعيل.وهي قصة تذكر بمثلث أفلاطون في نظرية الألوهية التي اراد وضعها في تأسيس حكمه على الجناية الكبرى: .1نفي وجود الله. .2اعتباره غير معني بالعالم. .3اعتباره قابلا للرشوة وهي الاضاحي من أجله. وقد يعاب على إبراهيم أنه أبقى على الأضحية.لكنها ليست رشوة بل هي علامة تحرر الإنسان من رمز القيم الاقتصادية من أجل القيم الوجدانية.فالحيوان المضحى به ليس القصد منه رشوة الله بل القصد منه تحرير الإنسان من الملكية من عرفان من الإنسان بوصوله إلى الوعي بكونه رئيسا بالطبع لأنه خليفة.أبو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
--وللقرآن في ذلك آية تنفي أن يكون لحم الضحية أو دمها هو ما يعني الله بل دلالة الفعلالذي هو تواصل وجداني مع دلالة الحادثة التي وقعت لإبراهيم والتي هي بداية الوعيبأن الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له وذلك هو معنى الإنسانية أو أصل لكل المعاني التواصلية.فالمعنى التواصلي للمائدة هي \"اطعام اليتيم والمسكين\" والمعنى التواصلي للسرير \"هيالعفة\" والمعنى التواصلي لفن المائدة هي العطاء الكرم والمعنى التواصلي لفن السرير هوالحب والمعنى التواصلي لأصل الفنون كلها هو مقومات الإنسان :حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.والمراحل التي هي دون المرحلة الثالثة التي هي الوعي المشرئب إلى مرحلة فن المائدةوالسرير تمثل التدرج الإنساني نحو معاني الإنسانية بحسب هذا التعريف .وما يأتي بعدمرحلة فن المائدة من تجاوزات هو بداية الترف الذي يعتبره ابن خلدون غاية الحضارة بمعنى نهايتها وليس بمعنى فضيلتها. فالإسراء 16ليس فيها ظلم عندما تهلك القرية كلها لأن المترفين فسقوا فيها.ذلك أن الترف هنا ليس صفة للأغنياء وحدهم بل هي كما وصفها ابن خلدون في الفصلالذي خصصه للترف هو فساد معاني الإنسانية في الغني والفقير على حد سواء :النكوص إلى غلبة قيم التبادل المادي على قيم التواصل الوجداني.فكل المعاني التواصلية تزول بالتدريج حتى يصبح الإنسان للإنسان ذئبا بسبب الغنىوالفقر في آن :الأول يفعله للاستمتاع بما يظنه قوته والثاني يفعله بما يعتبره ثأرا منوضعه ويصبح كل شيء مباحا ولعل أفضل علامة على ذلك هو ما صار عليه أرقى فنون التلهية أعني السينما عند \"طابخيه\" وعند \"آكليه\".وقد يكون ما يحدث في \"واقع\" العرب أكثر تمثيلا لهذه الحالة من السينما الأمريكية:ففيه الطابخون هم الحكام ونخبهم من الكاركاتوريين والآكلون هم الشعب المسكين الذيأبو يعرب المرزوقي 43 الأسماء والبيان
--يرى بأم عينيه الموبقات التي توجد في السينما بوصفها ذات وجود افتراضي لكنها عندنا توجد بوجود فعلي دونه الافتراضي بشاعة.فكل قصور الحكام وذوي الجاه أشبه بمعامل الوجود الافتراضي عند الطباخين الذينيسمون فنانين وكل المدن السياحية في الشرقين الأدنى والاقصى أشبه بالآكلين فيالافتراضي والمأكولين في الفعلي .فالسائح الذي يزور المدن السياحية شرقية وسطى أو شرقية قصوى يطلب المائدة والسرير بضاعتين بلا روح.وفي المقابل فالشباب الذي يرتمي في البحر من أجل الوصول إلى الغرب ماذا يطلب؟ هلهو يفعل ذلك من أجل تواصل وجداني أم من أجل تبادل مادي صار ما يحلم به من \"جنةافتراضية\" في الغرب أسمى قيمة من حياته التي كان يمكن أن يجعلها تصبح مبدعة لشروط المائدة والسرير بمجرد وعيه برئاسته بالطبع؟فلو كونت الثقافة الشباب بجنسيه فجعلته يدرك معنى التواصل الوجداني المقدم علىالتبادل المادي لكونه شرطه هل كان يعجز فلا يفهم أن الجنة الافتراضية التي يذهب إليهاقد تمكنه من قشور الكيان الكريم بمقابل هو التخلي عن شروط الكرامة التي جوهرها هو فعل تحقيقها علامة على الرئاسة بالطبع.وهكذا إذن فعندنا مستويات التحديد بعلاقتي الإنسان العمودية مع الطبيعية والافقية مع الإنسان : .1ما دون المائدة والسرير .2المائدة والسرير .3ما دون فن المائدة وفن السرير .4فن المائدة وفن السرير .5ما بعد فن المائدة والسرير. وهي كلها شبكات علائقية متجاوزة لجواهر الأعيان ولأفكار الأذهان.أبو يعرب المرزوقي 44 الأسماء والبيان
--وهي إذن لا مادية فتكون ماركسية ولا روحية فتكون هيجلية بل هي من طبيعة مجهولةولا ينسب إلى جواهر الأعيان (مادة) أو جواهر الاذهان (مثال) إلا بسبب وهم أرسطييجعل العلاقات صادرة عن نواة جوهرية هي الطبائع في حين أننا نرى هنا ليس طبائع بل علاقات لا نعلم طبائع مصادرها وعلى علل تأثيرها.كون كيان الإنسان تصله بالطبيعة الحاجة إلى شروط بقائه ككائن عضوي وكون بقائهككائن عضوي مع الجنس الثاني يمثلان شرط بقاء النوع أمران لا نعلم منهما إلا كونهماعلائق مشروطة وشارطة لأمرين نجهل حقيقتهما :فلا الطبيعة ولا الحياة بالأمرين المعلومين لنا إلا فرضيا ككيانين نجوهرهما ذهنيا.وإذا جوهرناهما من دون أن نضع وراءهما أو فيهما جوهرا أعلى منهما نعتـبـره الناظم(شارع) أو الخالق (بارئ) أو كلاهما معا .وكلاهما موجود في الرؤيتين الفلسفية والدينيةإذ حتى القرآن فهو يمكن أن يفهم بقراءة الخلق عن عدم وبقراءة الناظم لموجود غير مخلوق هو المادة (وكان عرشه على الماء).وإذا وصفنا الله والعالم بالقدم فإن ذلك لا يعني أن القدم الذي للخالق من جنس القدمالذي للمخلوق .فالعالم المخلوق مدين لله الخالق ليس بوجوده فحسب بل وبقدمه بمعنىأن الله خالق بالذات والعالم مخلوق بالذات والخالقية مقوم ذاتي لله والمخلوقية مقوم ذاتيللعام وكلاهما قديم دون زمانية تقتضي أن يوجد سابق ولاحق لكأن الله لم يكن خالقا ثم أصبح خالقا والعالم لم يكن مخلوقا ثم صار مخلوقا.ونفس القول بالنسبة إلى الآمر والمأمور .فالآمرية مقوم ذاتي لله والمأمورية مقوم ذاتيللعالم .ومعنى ذلك أن الله لما يصف نفسه بكونه له الخلق والأمر فهو يعني أنه له الخالقيةوالآمرية والعالم له المخلوقية والمأمورية ومن ثم نفهم معنى تسبيح كل شيء لله ويأتيه طوعا أو كرها .فعلا الخلق والأمر ليسا حادثين ومثلهما مفعولهما.ولا ندعي بذلك علما بالغيب :فالقرآن يقول ذلك والإنسان لا يستطيع تصور غير ذلكدون أن يزعم أن ذلك علم يستمده من التضايف بين المعنيين وحده بل هو مجرد تصور لاأبو يعرب المرزوقي 45 الأسماء والبيان
--يفيد الحقيقة في ذاتها لو لم يكن القرآن هو الذي جعله أفضل الخيارين في الممكن عقلا: فالممكن عقلا قد يوجد وقد لا يوجد. وما يفيد وجوده في هذه الحالة هو ما يؤيده القرآن نصا.وكل تخريف الفلاسفة والمتكلمين يتأسس على وهم العلم بطبيعة المادة واعتبارها دالةعلى النقص ومثلها ما يتصورونه خاصا بها مثل الحركة والتغير لكأن الصوري يمثل التماموالثبات الكمال .وهذا موروث على فلسفة أفلاطون (المادة هي الشر) وأرسطو (المادة هيالتغير والقوة في مقابل الصورة التي هي الثبات والفعل) .لكن القرآن لا يكون ذلك:فالمدد الإلهي مشتق من المادة وهو إمداد من مادة أي جوهر الموجود وكل ذلك إلهي لأنه سر القيام المستمد من قيومية الحي القيوم أي من الله .والله نفسه كل يوم في شان.ومعنى ذلك أن السخفاء الذين يتهمون ابن تيمية بالقول بقدم العالم ويكفروه لذلكلم يتدبروا القرآن جيد التدبر لأن ذلك -كما بين ابن رشد في رده على المتكلمين -لا يتنافىمع القرآن بل العكس هو الصريح في الكثير من آياته خاصة إذا قلنا بالخلق المستمر بمعنى أن بقاء العالم القديم مشروط بعناية الخالق القديم :وذلك هو ما يقوله ابن تيمية.أما السلسلة الثانية فهي ما يمكن اعتباره مقومات أحياز العالم المحيط بالإنسان وهوطبيعي وتاريخي في آن ومقومات أحياز الإنسان نفسه المحيط بالعالم بفضلها وهي أيضامقومات طبيعية وثقافية أعني الحدين اللذين تصل بينهما السلسلة الأولى المتعلقة بما يؤخذه الإنسان من الطبيعة وما يعطيه للحياة.فأحياز العالم المحيط بالإنسان الطبيعي فيهما هو المكان كجغرافيا طبيعية والزمانكتاريخ طبيعي بوصفهما كليهما شارطين لأحياز الإنسان من حيث هو آخذ من الأول ومعطللثاني أو وسيطا بينهما في الوجود الطبيعي وفي الوجود الحضاري بإبداع حيزين آخرين هما الثروة والتراث ويوحد ذلك كله بمرجعية.والمرجعية التي توحد الأحياز الأربعة في العالم المحيط بالإنسان والاحياز الأربعةالمناظرة لها في كيان الإنسان (بدنه و\"روحه\" وما يختزنه بدنه مما يستمده من حيزأبو يعرب المرزوقي 46 الأسماء والبيان
Search