أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
اريد اليوم أن افهم قضية لا بد أن الكثير قد شعر بوطأتها :هل نحن خلائف الأمة التي نزل عليها القرآن وكلفها الله برسالة كونية لتوحيد البشرية؟الجواب البديهي هو نعم ،لأن الذي أنزل الرسالة وكلفنا بالمهمة ،عالم بما يريد وفعال لما يريد .لكن ما نحن عليه ،يجعلنا نشك مهما كان إيماننا متينا ورضانا بقضاء الله وقدره.وما لم نفهم علل هذا التناقض شبه المطلق بين أمرنا الواجب وأمرنا الواقع ،لن يرتاح بال من يؤمن بالرسالة ويؤمن بأنها لا يمكن أن تخالف الحقيقة.فمن اليسير على من لا يؤمن بالرسالة أن يكتفي بالقول بأن السنة هم كذلك وما يؤمنون به مجرد أساطير الاولين .ومثله من يؤمن بها ولا يعنيه الأمر الواقع.كلاهما مرتاح البال فإلغاء أحد طرفي اللامعادلة يلغي التناقض بين الأمر الواجب والأمر الواقع .واعتقد أن السنة انقسمت اليوم بين هذين الموقفين.وإذن فكلامي موجه لمن يعيش التناقض لأنه لم يلغ أيا من طرفي المعادلة :أي يؤمن بالرسالة وصدقها ولا ينكر أن وضعنا مناف لها بصورة شبه تامة.ومن بين هؤلاء من يغريه أحد الموقفين الملغيين لعلة التناقض إما بالشك في الرسالة أو بالشك في إيمان السنة بها .وهؤلاء يوجدون بين موقفي الإلغاء.وبذلك تصبح المواقف خمسة :الملغيان واللذان يغريهما حل الإلغاء .لكنهم مترددون. ثم الموقف الذي يدحض الملغيين ويعالج تردد من يغريهم إلغاء أحد الطرفين.وقبل الشروع في الدحض والتدليل لابد أن أشير إلى أن موقف الذين يلغون أحد طرفي المعادلة اقل خطورة من موقف المترددين تحت اغراء الإلغاء لعلة بينة. 51
فهؤلاء يترجمون حيرتهم بتجريم كلا الصفين الميال إلى اعتبار الدين خرافة والميال إلى اعتبار الواقع غير جدير بالاعتبار وهما أصل الحرب الاهلية.فالذي يعتبر ابتعاد الواقع عن الواجب ليس جديرا بالاعتبار يريد فرض بقائه على حاله وهم مصدر الإرهاب الرسمي وفقهاؤهم جامية يحاربون الثورة.والذي يشكك في ايمان معاصريه معللا الفرق بين الواقع والواجب بإرادتهم الابتعاد عن الدين هو الذي يمثل الإرهاب المعارض وفقهاء الجهاد الفوضوي.والذي يشكك في إيمان معاصريه ويحاربهم بمقتضى هذا الاعتقاد لا يدرك حقيقة المسافة بين الإيمان القلبي وتحقيقه الفعلي لم يفقه مضمون سورة العصر.فهي تحدد شروط الخروج من الخسر الخمسة :الوعي بحالة الخسر وهي ما نحن عليه ثم أربعة نتائج مترتبة عليه اثنان يعلقان بالنظر والعقد واثنان بالعمل والشرع.والذين يقاتلهم المشكك في إيمان الأمة هو الذي غاب عنه الفرق بين العقد والنظر من جهة والعمل والشرع من جهة ثانية :الفرق بين القول والفعل.الأمة أغلب أفرادها في وضع القائلين ما لا يفعلون بسبب انعدام شروط انتقال الإنسان من القول إلى الفعل بنظام التربية ونظام الحكم أي الحريتين الروحية والسياسية.فيقاتل بغائبه من يعتبرهم كفارا وهم مؤمنون ومتواصون بالحق قولا لكنهم لم يحققوا ذلك فعلا بالعمل الصالح والتواصي بالصبر لفساد التربية والحكم.والثاني الذي يعتبر الدين خرافة ويتصور نفسه تحديثيا لا يقل غباء وإرهابا عن الأول لأنه يتحالف مع الإرهاب الرسمي لحكام محميات خاضعة للمستعمر.وهؤلاء أكثر إرهابا لأنهم هم الذين أفسدوا دور التربية والحكم اللذين يحققان الوصل بين القول والفعل بأن يصبح ما في القلب ملكة في الجوارح.الأمة تعاني في الحقيقة من إرهابين :إرهاب من يتصور نفسه مصلحا ومؤصلا وإرهاب من يتصور نفسه صالحا ومحدثا :كلاهما يرهب الأمة بالسيف وبالقلم.فليس صدفة أن قضى الرسول الخاتم نصف مهمته في التربية أولا والنصف الثاني في الحكم ثانيا حتى يكون أمة تعلم أن أشد ما يمقت الله الفصل بينهما. 52
ففساد التربية وفساد الحكم الناتج عن الاستبداد فيهما هو الذي اعتبره ابن خلدون علة فساد معاني الإنسانية عند أي امة ابتليت بهما كحالنا الآن.وإذن فالمطلوب ليس شيئا آخر غير إصلاح التربية والحكم حتى يتحقق شرطا الحرية الروحية والحرية السياسة فيكون الإنسان المسلم حرا كما أراده القرآن.وهذا الإصلاح التربوي والسياسي هدفه كما حدده القرآن تحرير المؤمن من الوسطاء روحيا ومن الأوصياء سياسيا :وهي من أعسر المهام ومن أطولها نفسا. فما الذي اصاب التربية السنية؟ وما الذي اصاب الحكم السني؟ما الداء الذي أفسد معاني الإنسانية في حضارة المسلمين منذ الفتنة الكبرى إلى الآن؟لما شرح ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" أرجعه إلى ضمور القوة الحية ونفسيا وخلقيا ضمورا يؤدي إلى ما يسميه عالة كسلا وحيويا وتدنيا خلقيا.وهو يشبه هذا الحالة بالموت العضوي والنفسي الذي يجعل الناس مستسلمين وعالة وعزوفا عن كل ما يعبر عن عنفوان الحياة ولذة العيش وقدرة الإبداع.ولما كانت هذه الأحوال كلها يردها ابن خلدون إلى ما يسميه الأمل مصدر كل نشاط في الحياة المادية والرحية فهو يعني أن الناس يصبحون فاقدين للأمل.وعلامات فقدانه تضاؤل الإنتاج المادي (سد الحاجات المادية) والانتاج الرمزي (سد الحاجات الروحية) ومن ثم فهي حالة الفقر المادي والروحي :تصحر.ويبرز ذلك خاصة في شباب الامة الذي يفقد المحفزات الخمسة الأساسية لعنفوان الحياة:الموسيقى والروحانيات والرياضية والحرب وحياة الجنس الرفيع التي لا بد فيها من ذلك كله.ولما كان الدين هو اساس كل تربية حتى في المجتمعات الملحدة -أي جملة من القيم المتعالية-فإن انحطاط الفكر نكص بالدين إلى معاداة هذه المحفزات. 53
فهذه الأعمال الخمسة الاثنان الأولان منها يعبران عن حياة الروح (الموسيقىوالروحانيات :الصوت والصمت) والثانيان يعبران عن حياة البدن (الرياضية والحرب: اللعب والجد) ويجمع بينها إبداع وحدة الحياتين العضوية والذوقية.نكص فقه التخلف بقيم الإسلام إلى نقائضها جهلا بأن كل ما يعتبره القرآن جزاء أخرويا ينبغي أن يكون أيضا جزاء دنيويا للنشاط الروحي الإنساني.ذلك أنه بخلاف هذا المبدأ يصبح الجزاء الأخروي تعويضا ودالا على أن الله اختار للمؤمنين الحرمان في الدنيا وترك هذا الجزاء لمن لا يعمل بشرعه.وذلك من غباوات فقه التخلف الذي غلب على عصر الانحطاط الإسلامي .والتربية والحكم ينبغي التحرر من الفهم العقيم للإسلام لعلاقة الدنيا بالدين.فليس من مبادئ القرآن جعل الآخرة جزاء الحرمان في الدنيا بل إن ما أنعم الله به للإنسان من محفزات صدق إيمانه نيلها مع عدم الإخلاد إليها.وذلك هو معنى استعماره في الأرض بقيم الاستخلاف فيها وعليها .فمن كان محروما من شروط عنفوان الحياة لا يمكن أن يكون معمرا للأرض فضلا عن الخلافة.اصلاح التربية يعني إذن ثورة فقهية تخلص التشريع الإسلامي مما شابه بسبب ثقافة انحطاط وانكماس أفقر الأمة ماديا وروحيا ففسدت معاني انسانيتها.أما إصلاح الحكم-وهو أيسر من إصلاح التربية التي هي شرط السياسة خلقيا رغم أن السياسة هي شرطها اقتصاديا لكلفتها-فهو بدا مع ثورة الشباب العربي.وهو يعتمد على تحقيق شروط الحريتين الروحية بالتحرر من كنسية الانقلاب السياسي الذي حدث بعد الفتنة الكبرى والحق الإلهي في الحكم الذي ترتب عليه.أكرر مرة أخرى أن ما حدث كان فقهيا من الضرورات التي تبيح المحظورات وهي حالة توقعها الفقه الإسلامي بهذا المبدأ القرآني حتى في أكل المحرمات.لكن المحظورات التي تفرضها الضرورات حالة طارئة لا ينبغي أن تدوم .دوامها بالتغلب جعلها شبه حق إلهي حرمه القرآن لأن الأمر للجماعة بلا وصاية. 54
وهذا بالضبط ما تطلب الثورة .ومن ثم فالثورة المضادة وممولوها يواصلون الانقلاب الذي حصل بعد الفتنة الكبرى ويحيون الحرب الاهلية في الأمة.ذلك ما ينبغي أن يفهمه الشباب حتى لا يصبح من حيث لا يدري أداة للثورة المضادة: ينبغي تفضيل العمل السياسي في بلاد الثورة وسيعم ذلك بالعدوى.ومثلما حددنا محفزات الحرية الروحية التي هي عنفوان الحياة فلنحدد محفزات الحرية السياسية التي هي ثمرات الحرية الروحية لوصل القرآن بين الحريتين.فالقرآن وصل الحرية السياسية بالحرية الروحية برمز يعلمه الجميع وهو مقومات صلاة الجمعة :فهي عناية بالشأنين الروحي والسياسي في صلاة الجماعة.والله يعرف المؤمن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران )104ويعتبر من يحقق ذلك عضوا في خير أمة (آل عمران )110لأن المحفزات من جنسين.جنس العبادات وبه بدأت الآية 38من الشورى وجنس الاقتصاديات وبه ختمت الآية ما يعني أن الحرية السياسة تحفز بالسياسة الدينية وبالعدل الاقتصادي.وقد جمع القرآن الكريم بين هذين الجنسين المضاعفين في آية واحدة من البقرة هي الآية .177وهما مضاعفان لأن العبادات خالصة ومزيجة بالمعاملات.والاقتصاديات مضاعفة لاعتمادها على تحفيز الإنتاج والتضامن .فالإسلام يشجع الأول بحماية الملكية الخاصة ويشجع الثاني بوجوه الإنفاق القرآنية.وتلك هي المحفزات الأربعة ويجمع بينها ما يجعل ثمرات العمل والانتاج حقا والاستمتاع به واجبا وهو النصيب من الدنيا فتكون السياسة تعميرا للأرض.وعندئذ يمكن القول إن الاستخلاف في الارض لا يكون ممكنا من دون الاستعمار فيها: المسلمون أهملوا استعمارهم في الأرض فصارت صحاري فتصحرت قلوبهم. 55
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages:
