الأسماء والبيان
لماذا اعتبرت الولايات المتحدة بشكل مكبر ،وإسرائيل بشكل مصغر ،ممثلتين للدولة الحديثة بفضائلها ورذائلها في آن ،عند المقارنة بين المثال والواقع؟فكلتاهما تعينت فيها العلل الثلاثة ،التي تجعل الكثير يقضي بعدم خلقية الدولة الحديثة: سياسة القوة ،واقتصاد الاستغلال ،وثقافة الترف ،بتأسيس ديني.وكلتاهما تميل للسيطرة الكونية بأسباب السيطرة ،التي تجعل الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود أو صفات الفاعلية الحديثة تصل اقصى ما تستطيع.فبخلاف الدولة الوسيطة-إسلامية كانت أو مسيحية -لم تكن الدولة تعمل على علم بنخب الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود جهازا متعدد الفاعلية.كانت الدولة مجرد جهاز حماية بالموجود وليس لها استراتيجية متكاملة لعمل النخب الممثلةللإرادة السياسية وللمعرفة العلمية وللقدرة الاقتصادية وللحياة الفنية وللرؤى الوجودية،وكلها تعمل بحرية كاملة لتكون مبدعة في هذه المجالات من أجل تحقيق الوظيفتين :الحماية والرعاية بأبعادهما كليهما. مفهوم الدولة الحديثة :منظومة مؤسسات تعمل بخطة مسبقة لا بأنشطة عفوية. ومعنى ذلك أن حداثتها هي كونها أصبحت مشروعا عقليا ذا نظر استراتيجي. فوظائف الحماية خمسة:اثنان لحماية داخلية ،تضمن عمل جهاز متناسق يهدف لتحقيق مشروع استراتيجي :القضاء والأمن ،شرطي التعاون والتعاوض السلميين.ثم اثنان للحماية الخارجية ،يعملان بمنطق الأنفال 60ولا يعتمد على الارتجال و\"الفزات\" بعد فوات الأوان ،بل باستعداد رادع :الدبلوماسية والدفاع اليقظين.وتعتمد الحماية الداخلية والخارجية على جهاز استعلام وإعلام متحفز ،وظيفته الوقاية من الأخطار واستباقها ما أمكن ،ثم علاجها على علم بخفاياها. 51
فوظائف الحماية موجودة في كل دولة ،لكنها في الدولة الحديثة عامة ،وفي أمريكا وإسرائيل خاصة ليست عفوية ،بل ذات استراتيجية قصدية هي دليل الفعل.وبعكس الحكم المسبق ،فإن رفض الدولة الحاضنة يحقق شروط الرعاية المستقلة عن استبداد الحكام ،فيحول دون إعاقة الإبداع الحر بالتحكم في الأرزاق.ذلك أن الدولة الحاضنة ليست إلا أداة الاستبداد والفساد الذي يحول دون حرية الإبداع في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود بجعل الكل عالة.رفض الحضانة يجعل الكل مسؤولا على الانتاج المادي والرمزي ،ومعتمدا على نفسه بدلا من أن يكون عالة ،فتنتج الثروة التي تحقق الرعاية الذاتية.صحيح أن ذلك يمكن أن يغلب منطق التاريخ الطبيعي في الحياة بالتنافس على منطق التاريخ الخلقي بالتضامن ،لكنه يجعل المنظومة ذات قدرة على الرعاية.ذلك أن وجود الثروة يمكن من التعديل بشيء من الإصلاح الذي يتدارك ما قد ينتج عن التنافس من حرمان للعاجزين عليه ،فيتم التضامن في هذه الحالات. والتوسع العنيف من نتائج غلبة قانون التاريخ الطبيعي في التنافس على مصادر الرزق. حداثة الوسائل وبدائية الغايات :انحراف الحداثة الاستعماري.فقانون التاريخ الطبيعي يبقى هو هو ،من صراع القبائل على الماء والكلأ إلى صراع الدول عليهما وعلى الطاقة والمواقع الاستراتيجية في العالم.صحيح أن في ذلك تحريفا لمفهوم الاستعمار في الأرض الذي يقتضي التعاون الإنساني في المعمورة ،لكنه مشروط حتما ،وحصوله عندهم أفضل من غيابه عندنا.وفي المثال هو مبدأ يقول به الإسلام كما تقول به الحداثة ،والفرق الوحيد هو أن الإسلام أكثر توكيدا على التعاون من التنافس ،لكنه يشجع على التسابق.وخاصة في مجال الحماية ،تعتبر الآية 60من الأنفال أكبر دليل .ولعل الدولتان الأكثر عملا بها هما أمريكا وإسرائيل :القوة عامة ،ورباط الخيل خاصة.ومن حيث المبدإ أو المثال ،فإن الدولة الحديثة ،وخاصة بعد الحربين ،أصبحت تدخل في الحسبان الحاجة إلى التعاون الدولي السلمي ،حتى وإن بنفاق كبير. 52
وبهذا المعنى قلت إن مقارنة المثالين تجعل الدولة الحديثة أقرب إلى الإسلام من الدولة الوسيطة ،بما فيها الإسلامية ،فواقع الدول عامة متماثل.وكل مفاضلة خلقية -إن حق لنا أن نفعل -ينبغي أن يعتمد تحقيق الوظيفتين ،لا الحكم المسبق بأخلاق ذاتية كنطيا ،بل الأولى الأخلاق الموضوعية هيجليا.فالدولة ليست مؤسسة خيرية ،بل هي النظام الذي يمكن الإنسان من أن يحقق شروط حريته السياسية والاجتماعية بإعالة نفسه لا بتفضل حكام مستبدين.أما الضمان الاجتماعي الضروري ،فنظام التقاعد الذي يقتطع من ثمرة عمل الإنسان ادخارا يحميه في شيخوخته أو مرضه أفضل من تحكم المساعدات الخيرية.وأخيرا ،فمن حقق شروط الاستعمار الناجح في الأرض -تعميرها بصورة تحقق الكفاية- أقدر على تدارك ما يقد ينتج عنه من شرور ممن يفشل في تعمير الأرض. وذلك لعلتين:أولا كل من لا يستطيع سد حاجاته بنفسه يصبح عالة على غيره ،فيكون تابعا له في الحماية والرعاية وليس حرا :فيعبد العباد بدل ربهم.وكل دول الاستبداد تعتمد على مفهوم الدولة الحاضنة ،فتفسد معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون ،فيتوقف الإبداع المادي والرمزي لفساد التربية والحكم.أما وظيفة الرعاية ،فتجعل الجماعة الحرة التي تحميها دولتها في الداخل والخارج ،ثمرة إبداع الثروة المادية والرمزية لتكوين الإنسان وتموينه.فالجماعة المبدعة للثروة المادية والرمزية تقدر على تكوين الإنسان بنظام التربية ونظام الجماعة المدنية ،وتقدر على تموينه ثقافيا واقتصاديا. وشرط الحماية ،بأبعادها الأربعة ،جهازها العصبي أو الاستعلام والإعلام السياسي. وشرط الرعاية بأبعادها الأربعة ،هو جهازها العصبي أو البحث العلمي.وجهاز الاستعلام للحماية ،والبحث العلمي للرعاية ،هما أداتا فاعلية الدولة الحديثة الاستراتيجية للعمل على علم .وهما عفويان في الدولة الوسيطة. 53
لهذا كله اعتبر الدولة الحديثة أكثر خلقية من دولة الفقهاء ،وهي أقرب إلى نظرية الدولة في القرآن من نظرية الدولة في الفقه ،وخاصة فقه الانحطاط. ولا تعنيني لومة لائم على قول ما أراه حقا. هذا من حيث المعرفة النظرية والموضوعية. لكن الدافع العملي هو البحث في شروط الاستئناف الإسلامي.ولا يمكن أن تستعيد الامة طموحها الامبراطوري باليوتوبيات ،بل عليها أن تحقق الغايات بما تقضيه من أدوات ،مع إضافة ما قد يحتاج إلى تعديل فيها.شروط الاستعمار في الأرض -تعميرها -هي العمل على علم لتحقيق ما حددت من وظائف حماية ورعاية بذلك النظام ،مع حرية الإنسان ليبدع فلا يبقى عالة.والتعديل الذي ينبغي أن ندخله من منطلق فضائل الإسلام يشترك في النجاح في تعمير الأرض بأسبابه ولا يعارضه ،بل يصلحه بشروط سورة العصر الخمسة.فينبغي أن نعلم أن ما وصفنا في شروط الاستعمار في الأرض يمكن أن ينحرف ،فيصبح مصدر الخسر إذا تحول إلى عبادة العجل وليس التحرر من سلطانه.وهذا هو العيب الذي يعاني منه النظام الحديث المعتمد على التنافس المادي فحسب ولا يتحرر منه بالتسابق في الخيرات القرآني. الوعي به الشرط الأول.وتأتي الشروط الأربعة التي تحررنا من هيمنة القانون الطبيعي بتعديله بالقانون الخلقي: الإيمان ،والعمل الصالح ،والتواصي بالحق ،والتواصي بالصبر. تلك هي المقارنة العادلة بين الدولتين الإسلامية والحديثة .فلهما كلتاهما أخلاق. في الرؤى الخلقية تفاضل دون شك .أخلاق الإسلام أكثر كونية وعدلا.وزعمها متنافية مع شروط الاستعمار في الأرض ،التي هي أساس قوة الدولة الحديثة ،فيه الكثير من التجني على الإسلام والحداثة في آن :تصور كاريكاتوري. خاتمة شاملة لما كتبت في بيان ضحالة \"الدولة المستحيلة\" وأساسها المزعوم خلقيا. الهدف ليس الرد على زيد أو عمرو ،بل ترشيد تصور الشباب للاستئناف. 54
ذلك أني اعتبر كتاب حلاق وأخلاق عبد الرحمن تصورين معيقين لشروط الاستئناف. فهما يوجهان الشباب بعلاج يوتوبي ،وتشخيص كاريكاتوري للإسلام والحداثة. 55
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages:
