أبو يعرب المرزوقيأو معنى الشريعة في المجتمع الحديث الأسماء والبيان
هذا نص الورقة التي كانت مادة محاضرة قدمها الأستاذ في برلين سنة 2002قبيل انتقالهإلى كوالالمبور بأقل من شهر ( .)2002.07.19نعيد نشرها لما فيها من تناسب مع الوضعالراهن الذي يبين أساس تبادل التهم بين الغرب والشرق والشروع في وجود الداء في كلاالصفين كما وصفه الأستاذ في هذه المحاضرة التي ألقيت في برلين بصورة موجزة كالحال في كل الندوات حيث يكون العرض تلخيصا للورقة.كان حدث الحادي عشر من سبتمبر أبرز الأمثلة عن الأعراض الدالة على دفينالأمراض في المجتمعات البشرية .لكنه تميز بما تتميز به لحظته التاريخية :فهو دال علىأمراض البشرية كلها لحصوله في ظرف العولمة السلبية ومن ثم فلا يمكن أن يصف به الشرقالغرب مستثنيا منه نفسه أو الغرب الشرق بنفس الاستثناء .إذ إن هذا الحدث قد نبهالبشر إلى أزمة عميقة برزت آثارها السطحية في العلاقة بين العالم الإسلامي الساعي منذبداية النهضة إلى التحرر من عوائقه الذاتية ومن الهيمنة الأجنبية بينه وبين هذه القوىالتي بيدها هذه الهيمنة والتي كانت في الأغلب غربية .فقد توالت على استعمار دارالإسلام وأحيانا تساوقت بتواطؤ واضح بين الإمبراطوريات الفرنسية والإنجليزية والسوفياتية والأمريكية وأداتها الإسرائيلية.لذلك فظرف بروز الأعراض المرضية لأزمة المسلمين ذو صلة بهذا الاستعمار وذو صلةبأزمة الفكر الحديث الذاتية .وقد كان لا بد للأزمتين أن تعبرا عن نفسيهما بحدث تاريخي 71
مفصلي يغير المجال الكوني ليصبح فيه الصراع صريحا وحاسما لأنه يتعلق برؤى للعالم غلبعليها سلطان ما بينها من تناف وغاب ما بينها من تشارك بمقتضى الأخوة البشرية .وهذهالقوى سيطرت على دار الإسلام في عهدي الاستعمار (من المنظور العربي الإسلامي)وبالانبهار الذاتي بالحداثة (من المنظور الغربي والفكر العربي المتغرب) .وبلغت الذروة في العولمة القسرية.فليس من الصدفة إطلاقا أن يصبح العالم العربي الإسلامي ممثلا للغيرية المطلقة عندممثلي الغرب رمزيا (إسرائيل التي تعتبرها نخب الغرب المسيطرة عليه مصدر روحانيتهماضيا ورمزها في العالم غبر الغربي :خرافة الديموقراطية الوحيدة في محيط من البرابرة) وماديا (أمريكا التي تمثل بدون منازع رمز قوة الغرب المادية).وككل الأعراض والعلامات كذلك فإن تأويل هذا الحدث ليس بالأمر السهل إذ هو قدأدى إلى قراءة الجانبين لمحددات الظرف ومقومات البنية قراءة خاطئة تحمل المسؤوليةللصف المقابل وتستثني الذات فضاعف سوء التفاهم بين العالمين الشمالي والجنوبي وزادالأزمة عمقا والهوة اتساعا حتى ليكاد يقضي على كل إمكانية للقاء بين المتواجهين علىأرضية الأخوة البشرية التي جعلها القرآن الكريم الآصرة الأساسية المتقدمة على كل ما عداها في خطابه للعالمين (النساء .)1فالقراءة الأولى التي حاول أصحاب هذه الفعلة ترويجها جعلت المعركة الجارية منذئذتبدو صراعا حضاريا بين المسيحيين والمسلمين وتناسوا أن العدوان الاستعماري علىمستضعفي العالم لا يميز بين ضحاياه في كل العالم بما في ذلك في بلاد المستقوين ولا يهمهالدين ولا العقيدة ولا الحضارة إلا من حيث توظيفها في خدمة مشروعاته الاستعمارية:فمستعمرو هذا النظام من المستضعفين في الغرب نفسه لا يقلون مهانة عن مستضعفي العالم غير الغربي وخاصة خلال تحقيق ما يسمى بالثورة الصناعية.أغفل المؤولون الأزمة الذاتية للحضارة العربية الإسلامية ودورها في جعل المسلمينقابلين للاستعمار بمصطلح ابن نبي .وهي أزمة متقدمة حتى على وجود القوى الغربية التيينسبون إليها كل الشرور :فما في العالم الإسلامي من ظلم وقهر واستهانة بالمستضعفين حتى 72
لو اكتفينا بالوصف الخلدوني يثبت بما لا ريب فيه أن عالمنا مرضه متقدم على الاستعمار بل لعله هو السبب الأساسي لقابلية العالم الإسلامي للاستعمار.والقراءة الثانية التي يرد بها الشق الأمريكي تصور المعركة صراعا بين الحضارةوالبربرية بحيلة تهويلية تضخم ظاهرة الإرهاب في الحضارة الإسلامية رغم علم الفكرالأمريكي أكثر من أي فكر سواه أنها ظاهرة لا يخلو منها مجتمع وأنها ربما من مميزاتالمجتمع الأمريكي مميزاته الأساسية .وقد أيدها مؤخرا بابا روما الحالي صراحة بخلاف سلفه الذي كان يؤيدها بأكثر دهاء.فالمجتمع الأمريكي ليس هو حصيلة إرهاب أفنى أمة الحمران واستعبد أمة السودانوامتص دم كل الألوان المستضعفة فحسب بل هو إلى الآن مجتمع محتشدات وطوائفمتناحرة تحت غطاء كاراكوز الديموقراطية الشعبوية التي هي تحالفات ومصالحات ظرفيةتخلو من البعد الأخوي وتقتصر على حساب المصالح بين مافيات أو لوبيات .لذلك تراهميركزون على ما يسمونه إيديولوجية التطرف الديني في العالم الإسلامي هروبا من تشخيص الأزمة الذاتية للحضارة الحديثة بعد أن آلت إليهم قيادتها.والمعلوم أن هذه الحضارة لم تنتظر ردود فعل المسلمين على تفشي الظلم والاستغلالوالاستهانة بكرامة الإنسان في العالم بما في ذلك مستضعفي الغرب نفسه لكي تبرز فيهاأعراض الحمى الإرهابية التي تعاني منها الحضارة الحديثة ذات الشمولية المستهزئة بكلالمتعاليات العقلية والدينية .ليس ما يسمى اليوم بالإرهاب الأخضر بأكثر حدة مما كانيسمى بالإرهاب الأحمر ولا ما يسمى بالاستبداد الإسلامي بأكبر مما عرفه الغرب منالفاشيات سواء كانت يمينية أو يسارية .ولا نقول ذلك لتبرير الموجود بل بالعكس لبيانكونية الأزمة وضرورة علاجها الكوني :فالبشرية كلها في الهوى سواء وعلينا أن نعالج الأمر بصورة كلية كما يدعونا إلى ذلك القرآن الكريم والعقل.وبين أن كلتا القراءتين لم يغص أصحابها إلى أعماق الأزمة الإنسانية في كلا المجتمعينوالحضارتين لكونهم استبدلوها بأزمة مصطنعة بينهما تلهيهما عن الأزمة الذاتية فيهما كلا على حدة وهو أمر يضاعف أزمة الإنسانية خمسا: 73
-أزمة كل شق ()2 -والأزمتان اللتان بينهما بحسب القراءتين اللتين تتمثلان في تبادل التهم ()2 -وأزمة عدم إدراك وحدة المصير الإنساني ( )1الذي لم تبق العولمة منه إلا على سلوبهبعد أن ألغت إيجابياته الوجدانية (التخلص من المتعاليات الدينية في الأنوار) والفرقانية (والتخلص من المتعاليات العقلية في ما بعد الحداثة).فباتت الإنسانية تعيش وضعية الحرب الأهلية الشاملة بحيث إن الكونية التي دعت إليهاالأديان والفلسفات المؤمنة بالإنسان تحولت إلى عولمة الحرب الأهلية البشرية .والغريبأن لهذا الهروب من الأزمة الذاتية باصطناع الأزمة مع آخر يستثنى من الإنسانية في كلتاالحالتين من جنس مؤمن وكافر أو من جنس متحضر وبربري قد أخذ شكله النهائي فيتوصيف فلسفة التاريخ الهيجلية للعلاقة بين وجهي العهد الرابع من تاريخ العالم:1العلاقة بين الإصلاح والمحمدية في عهد العالم الجرماني من خلال ما اعتبره من محاولاتالمصالحة بين التعالي والمحايثة أو بين قيم الدين وقيم السياسة .فهو قد أعتبر الإسلامالوجه السالب من الإصلاح أو إن شئنا فقد اعتبره الإصلاح الفاشل الذي انتهى دوره فيالتاريخ والذي حل محله الإصلاح الناجح أو العصر الثاني من الدين المسيحي بفضل لوثرنبي الجرمان .وهو قد أسس هذه الرؤية على ما نسبه إلى الإسلام من عيوب هي بالذاتما ينسب إليه اليوم من تعصب وإرهاب سواء في أفواه قادة الحرب النفسية على المسلمين فيالغرب أو في أفواه القردة المرددين ترديد الببغاء من يتامى اليسار العربي الذين أصحبواليبرالييين :2بحيث إن قيادات الغرب الفكرية والسياسية وتابعيهم من نخبنا لا يزالون تحت تأثير فلسفة التاريخ الهيجلية بل هم أكثر من هيجل تحيزا وتنكبا عن الحق والحقيقة.ولما كان الفكر الذي ينسب إليه تمثيل الإسلام المتهم في هذه الفلسفة قد عرف بالدعوةإلى أمرين صارا شبه علَمين على هاتين الصفتين هما في نظام العلاقات الداخلية مفهوم\"تطبيق الشريعة\" وفي نظام العلاقات الخارجية مفهوم \"ممارسة الجهاد\" فإنه بات منالواجب أن ندرس أزمة الإسلام المتبني لهذا الفكر لصلته بنظريتي تطبيق الشريعة 74
وممارسة الجهاد وعلاقة ذلك بأزمة الحضارة الإنسانية الراهنة .ومن البين نفسه أن للأمر صلة وطيدة بالعلاقة بين القانون (الوضعي) والشرع (المنزل): .1فالقانون يُفترض مستندا إلى عقيدة حقوق الإنسان المتفرد بالسلطان. .2والشرع يُفترض مستندا إلى عقيدة حقوق الإله المتفرد بالسلطان. فيكون حدا الأزمة التاريخية التي تعيشها البشرية حاليا وكأنهما ممثلين:لأزمة ناتجة عن موقف أول يستثني الله من التاريخ في الحالة الأولى :الموقف الغربي. ولأزمة ناتجة عن موقف ثان يستثني الإنسان منه في الحالة الثانية :الموقف الإسلامي.وتكون الأزمة الكونية أزمة التقابل بين الاستثنائين والاصطفائين :إذ إن ما يصطفيهأحد الحدين يستثنيه الثاني والعكس بالعكس .وقصد هذه المحاولة هو البحث في عناصرالأزمة التي تحول دون إدراك المعاني السامية لعلاقة الشريعة بالقانون في القرآن الكريمحيث لا تعتبر الشريعة كما يفهمها من يقصرها على توظيفها البدائي مدونة نصوص تشريعية بل هي كما سنبين منظومة القيم المتعالية التي تحدد مقومات كل تقنين.ومن ثم فالشريعة الإسلامية عندما تفهم الفهم المطابق لجل الآيات القرآنية المتعلقةبمعنى التشريع لا تستثني الإنسان من فعل التشريع بل هي تكلفه به في المجتمع الحديثالإسلامي والعالمي تكليفا لا يبقى لها إلا دور المرجعية الخلقية والمقدسة لفعله التشريعيبتوسط مكارم الأخلاق معيارا للعلاقات بين البشر سواء كان الأمر متصلا بالعلاقات بينالأفراد في الدولة الواحدة أو بين الدول في المعمورة فضلا عن علاقة الإنسان بالعالم وبالله ربا للجميع :وذلك هو معنى قوله (صلعم) إنما أتيت لأتمم مكارم الأخلاق.وسنحلل في هذه المحاولة دلالة الشرع والقانون الخاصة ودلالتهما العامة في مجتمع حديثمعين وفي المجتمع الإنساني ككل :دلالة الشريعة والقانون من خلال تحديد طبيعة العلاقةالتي ينبغي أن تكون بينهما بمقتضى العقل (أعني نظرية الحق الفلسفية) وبمقتضى مانفهمه من أحكام النقل (نظرية الحق القرآنية) .وهاتان النظريتان متطابقتان في القرآن الكريم ( .آيتا الشهادة والقيامة بالقسط ولله) 75
وحتى نفهم ذلك فلنحسم أمرا متقدما على علاج هذه المسألة كثيرا ما يغفله المتكلمونفيها بإطلاق دون وصلها بصيغة المسألة من المنظور القرآني .فالإسلام الذي يقول بختمالوحي وبكونه الرسالة الأخيرة وينفي الحاجة إلى سلطة روحية تواصل الوحي الحي حلمشكل التشريع حلا لا يمكن أن يكون الحل الذي عمل به إلى حد الآن أعني حصر التشريعفي سلطة العلماء-سواء كان مستنبطا من النص أو من التجربة الإنسانية العامة-بل هو أوكلهبمعنى فرض العين إلى إرادة البشر وإجماعهم مباشرة (الشورى )38أو بمن ينتدبونهلهذه الوظيفة (آل عمران )58إذ هو يقصر العصمة على الجماعة في ما يقبل العلم من الشأن الإنساني أعني الشاهد منه لمحجوبية الغيب.وبالتناظر مع محدودية العلم الإنساني وعملا بقاعدة لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فإنالقرآن الكريم قد وضع نظرية في المعرفة مبرأة من التأثيم سماها اجتهاد الجماعة أوالإجماع بشرط أن يتوفر العلم والخلق لأنه اعتبر غير المصيب منهم مثابا ما يعني أن إرادةالجماعة المجتهدة هي أساس التشريع في إطار الأخذ بمكارم الأخلاق من حيث الأهليةالخلقية وبشروط المعرفة العلمية السوية من حيث الأهلية المعرفية .لذلك فعندما تجمعالجماعة على تطبيق شريعة ما منزلة كانت أو وضعية فإن تلك الشريعة تكون عندئذشريعة من وضعها من حيث أصل الدور التشريعي بصرف النظر عن منبعها إلهيا كان أو إنسانيا.ومن ثم فنفاذ الشرع لا يتم إلا بإرادتها فيكون خيارها التطبيق أو عدمه هو المحدد ومنثم فخيار تطبيق الشريعة يعد فعلا عقليا متقدما على النقل حتى في صورة الشرع النقلي:لذلك فقاعدة أمرهم شورى بينهم قاعدة مطلقة وهي تعين الـ\"هم\" بمقتضى مبدأ الفرضالعين في الجماعة كلها وليس في طبقة تتحول إلى سلطة روحية فتعيد النظام الكنسي بشكل متنكر هو نظام الفقهاء المجتهدين للتشريع بديلا من الأمة.وإذا افترضنا جدلا أن أمة ما أجمعت بإرادة حرة سواء كان الإجماع صريحا في اجتماعرسمي للمواطنين أو ضمنيا بإيكال ذلك لسلطة ذات شرعية فعلية وليست مغتصبة -علىفهم معين لأحد أحكام الشرع المنزل أو حتى على تعليق العمل به لسبب من الأسباب أجمعت 76
على اقتضائه التعليق من حيث النفاذ لا من حيث الإيمان به فإنها تبقي على عقيدة ذلكالحكم ولم تنف أصله العقدي بل نفاذه الظرفي .ذلك أن جميع الأحكام القرآنية ذاتوجهين ولا يمكن حصرها في النفاذ الناجز وكأنها قانون طرقات :فوجهها الأساسي تربويوهو متوجه للمستقبل توجها وقائيا ووجهها الثانوي قانوني وهو متوجه للحاضر توجهاعلاجيا .والأول متقدم على الثاني لأن النجاح فيه قد يغني عن الحدة في الثاني .فإذاكانت أهداف الوجه التربوي تقتضي تعليق أحكام الوجه القانوني لعلل يحددها الظرفوالحاجة كان ذلك فرضا على الجماعة وليس تعطيلا للأحكام :وبذلك يفهم تعطيل بعض الأحكام من قبل الراشد عمر بن الخطاب.وقد انطلقنا من هذه المنزلة التي تنسب إلى الإسلام والمسلمين والتي بمقتضاها ينبغيأن نفهم العلاقة بين التشريع الوضعي والتشريع النقلي في منظور القرآن الكريم الذيألغى السلطة الوسيطة بين الله وعباده انطلقنا منها حتى نتمكن من تعديل التأويلينالخاطئين لمفهوم تطبيق الشريعة وممارسة الجهاد في علاقتهما بالحياة الحديثة ممثلةبالقانون الداخلي (مسألة تطبيق الحدود خاصة) وبالقانون الدولي (مسألة الجهاد خاصة)في العلاقات بين البشر وحتى نؤسس علاقة سوية بين الحضارات البشرية عامة وبينالحضارتين العربية الإسلامية والغربية المسيحية خاصة .فتكون دراستنا بذلك متضمنةمسألتين مضاعفتين :أولاهما تعالج تطبيق الشريعة في القانون الوطني الخاص بالمسلمين والثانية تعالج تطبيقها في القانون الدولي الشامل لكل البشر. -المسألة الأولى :تطبيق الشريعة ودلالة المطالبة به في دار الإسلام .1الفصل الأول :تعدد معاني الدعوة لتطبيق الشريعة وتناقضها .2الفصل الثاني :أزمة الفكر السياسي والحقوقي العربي الإسلامي الراهن. -المسألة الثانية :مفهوم الشريعة الكوني ودلالة الدعوة لتطبيقها في العالم .1الفصل الأول :الدلالة العامة للدعوة إلى تطبيق الشريعة في المجتمع الدولي .2الفصل الثاني :تعريف الشريعة بما هي اجتهاد نظري وجهاد عملي -خاتمة. 77
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 14
Pages: