أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع
مساحة الحرية هي مجال السلطة الفعلي ،أو بصورة أدق :ما يقبل الرد إلى قدرة انسانية ذاتية ،للعمل على علم ،مقابل المسؤولية فلسفيا ،والتكليف دينيا. فكيف نقدر هذه المساحة؟هي ما اعتبره ديكارت منطلقا لإثبات وجود الله :إنها الوعي بالفرق بين صفات يعيها الإنسان في نفسه وكونها دون مثالها الأعلى. لم يتكلم ديكارت على كل هذه الصفات ،لكنه اكتفى بصفتين: -الوعي بالإرادة -وبالحكم العقلي. فهذا دون ذاك ،وكلاهما دون مثالهما الأعلى كمالا :التضايف.فتضايف الوعي بالنقص ،والوعي بالكمال ،ملازم لكل وعي إنساني ،وهو بصورة مبسطة، تضايف الوعي بالذات وبالله معا ،والمسافة بين الذاتين هي مساحة الحرية.إنها مساحة المسعى الإنساني لاستكمال ذاته ،مع العلم بأن المثال لا يدرك ،لكن المهم هو السعي ،لأن الأمر يتعلق بواجب السعي وليس بواجب النتيجة.وواجب السعي وعي بسلطان يجعل سلطان الذات على ذاتها أولى علامات الحرية، وجوهر كل سلطان على الغير ،سواء كان بشرا أو حجرا :الوعي بالذات هو السلطان.فكيف يتجلى هذا السلطان في المساحة الفاصلة بين الصفات الخمس ،في نسبتها إلى الإنسان وفي نسبتها إلى ملازمه ،أو الله ،للتضايف بين النسبي والمطلق؟ والصفات الخمس سبق أن تكلمنا عليها بإفاضة: .1الإرادة 51
.2والعلم .3والقدرة .4والحياة .5والوجود. والمساحة هي الفرق بينها صفات للإنسان نسبية ،وصفات لله مطلقة.التضايف بين الذات الإنسانية والذات الإلهية ،أو بين المتناهي واللامتناهي ،يتعين في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .والفرق كيفي لا كمي.ولعل أبرز مثال أن الإنسان مصيره الموت ،حتى لو كان خاتم الرسل .والله قيوم حي لا يموت. وهما مختلفان كيفيا أي بالجوهر .فاللامتناهي ليس متناهيا أكبر.ومن ثم فالسلطان الإنساني متناه ،وهو غير معلوم الطبيعة ،وغير محدد المرجع :فمثلا لا ندري من يحكم لأنه دائما مؤلف من متدخلين كثر ،ومجهول جلهم.لا أنكر أن الملحد يمكن ألا يعتبر هذا الفرق دليلا على وجود المثال ،معتبرا الوعي بالتضايف بين الحاصل من الممكن ،وغير الحاصل منه ،مجرد وهم إنساني.ما أعيبه على الملحدين هو القصور الذهني الذي يجعله لا يدرك أن نفيه غير الحاصل من الممكن ،يجعل الحاصل واجبا ،فينفي الحرية ويصبح قائلا بالجبر.وبذلك ،فبدعوى التحرر من سلطان فوقه ،ينفي كل سلطان ينسبه إلى نفسه :الملحد قائل بالضرورة الطبيعية دون سواها ،وناف لكل حرية .إنه قشة في مهب الريح.الملحد من حيث لا يعلم ،وبدعوى التحرر من القيود الدينية ،ينتهي إلى أن يتحول إلى \"فاتاليست\" اي قائلا بالحتمية الطبيعية ،ونافيا لمساحة الفعل الحر.وعندما يصبح الإنسان خاضعا للقانون الطبيعي ،فإنه يفقد كل سلطان على ذاته وعلى غيره ،ويكون السلطان كله للآليات الطبيعية بتأثير مجهول الطبيعة.فالكلام على أخلاق الملحد كذبة ،لخلط صاحبها بين مرجع الأخلاق ،أو الفعل الحر الواعي بسلطانه ،ومجرد العمل بالعادات كأخلاق موضوعية طبيعة ثانية. 52
الملحد الصادق أفضل من المؤمن المنافق بمعيار الأخلاق الموضوعية .لكنه بصدقه ،يكون قد تجاوز مجرد السلوك إلى الوعي بأساسه ،فلم يبق ملحدا بحق.لا يكتفي برد سلوكه الصادق إلى مجرد عادة ،بل هو يدرك أن له سلطانا على أفعاله يتجاوز مجرد العادة إلى الوعي بحرية الاختيار فلم يبق \"فاتاليست\".وإذ لم يبق \"فاتاليست\" فإنه قد ميز بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي ،فأصبح يؤمنبأن الإنسان له ما به يسمو على مجرى الطبيعي إلى مجرى الشريعة ،فيدرك أن له منمجرى الشريعة نصيبا ،فيفهم معنى الاستخلاف :أي إن النظام الطبيعي هو بدوره ذو مرجعية تفترض الحرية قبل الضرورة كالنظام التاريخي.ولا يبقى إ ّلا الترتيب بين النظامين :المؤمن يؤمن بأن الطبيعة نفسها ظاهرة تاريخية ،أي إن لها صيرورة مثل التاريخ ،وطبعا فمبدعها ليس الإنسان.والطبيعة ليست مبدعة ذاتها ،فضلا عن أن تكون مبدعة الإنسان والتاريخ الحضاري. مجرد فهم ذلك هو معنى الدين (إرادة الله) ومعنى الفلسفة (علق الله).ولأسارع بالقول إن هذا الكلام لا علاقة له بالغيب .فكل ما ذكرنا كلام على ما يشهده الإنسان من نفسه وعيا بذاتها ،وبما يلازم هذا الوعي من مقومات.وما يلازم الوعي بالذات من مقومات ،هو ما أطلقنا عليه اسم المعادلة الوجودية :أي إن أي إنسان مهما كان غافلا ،بمجرد أن يعي ذاته ،يعي بنية وعيه.وقد تكون هذه البنية مبتورة من أحد قطبيها ،فتنتهي إلى فقدان قطبها الثاني ،ولا يبقى منها إلى وسطيها الطبيعة والتاريخ وفوضى التخبط بينهما.والقطبان المتلازمان والمتضايفان تضايف المتناهي واللامتناهي ،أو نسبي الحاصل منالممكن والممكن المطلق :ذات الإنسان وذات الله في وعي الإنسان .عندئذ يتحول فوضىالتخبط بين الوسيطين الطبيعة والتاريخ إلى عملية وصل منتظم بين القطبين ،بتوسط العلم بقوانين الوسيطين مجالا لحرية الإنسان.وهذا المجال الذي تتعين فيه حرية الإنسان ،أو العمل على علم ،تقتضي أن يقلب الإنسان العلاقة بين الطبائع والشرائع ،فيجعل هذه أصل تلك :حرية الله. 53
ومعنى ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يكون حرا ،إلا كخليفة ،أي إلا إذا كانت طبائع العالم كله ذات نظام هو شريعتها الأتم ،وعمل الإنسان محتذيا لسننها.وقد نبهت إلى أن ما أتكلم عليه من الشاهد لا من الغيب ،فكما يعلم الجميع ارفض علم الكلام الذي يقيس الغيب على الشاهد ،للخلط بينه وبين الغائب.والشاهد في وعي الإنسان من كيانه الطبيعي والخلقي ،وفي نص القرآن الذي يدعوناإلى رؤية حقيقته في ما يرينا الله من آياته في الآفاق والأنفس ،ففي الآفاق ،نرى آياتالعلاقة بين الذاتين بتوسط الطبيعة والتاريخ ،أو تعين التشريعين المطلق (الطبيعة شرط وجود) والنسبي (التاريخ شرط وعي به).فإذا أضفنا وظيفة الرسالة الخاتمة-القرآن -بوصفها تذكيرا بالديني فيها ،وليس وضعا له ،أمكننا أن نفهم ان الوصل بين القطبين له مساران نازل وصاعد.وامتياز الرسالة الخاتمة ،أنها تعتبر النازل ليس حكرا على أمة دون أمة ،بل هو كوني، بمعنى أن كل أمة لها رسول بلسانها يذكر بالديني في كيان الإنسان.والرسالة الخاتمة تضيف أنها بخلاف ما تقدم عليها ،ليست خاصة بأمة دون أمة ،بل هيكونية أي إن جوهرها هو النساء 1والحجرات :13الأخوة والمساواة ،وتحريف الرسالة يردفي القرآن إلى ظاهرتي الوساطة بين المؤمن وربه ،والحكم بالحق الإلهي ،وأهم شرطينلتحقيق الاخوة والمساواة ،التحرر منهما ،ومن ثم ،فالأمر كله يعود إلى تحريف السلطتينالروحية والسياسية :فالوساطة الكنسية تحريف لسلطة الرب الروحية ،والحكم بالحق الإلهي تحريف للاستخلاف.سلطة الكنسية وساطة بين المؤمن وربه ،وسلطة الحكم بالحق الإلهي وساطة بين المؤمنين وشأنهم العام ،وإلغاء الوساطتين :ثورة الإسلام لتحرير الإنسان.وتحريره هنا يعني استرداد سلطانه الذي ينتج عن حريته وتكليفه :فما يحاسب عليهقرآنيا هو اجتهاده وجهاده في تحقيق الحريتين الروحية والسياسية ،لذلك فكل كلام علىغياب مفهوم الدولة في الإسلام ،دليل على العمى العقلي والروحي :فجوهر الدين هوالتربية والحكم بما يترتب على حرية الإنسان ،والدليل القاطع ،هو تعريف المؤمن إنشاء 54
(آل عمران )104وخبرا (آل عمران )110بما يترتب على الحرية روحيا وسياسيا :الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وبين أن الأمر والنهي هما جوهر السلطة .فإذا عرف المؤمن بهما ،فإذن الاستخلاف هو سلطة الإنسان المترتبة على تكليفه ،وحريته ومسؤوليته علة تكريمه.وإذا كان كل مؤمن له حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواجبهما ،فالسيادة التي تنتج عن الدور في السلطتين الروحية والسياسة هي جوهر الإيمان.وقد وصف ابن خلدون الإنسان بكونه \"رئيسا بالطبع\" معللا ذلك \"بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\".في الإسلام المؤمن يعرف بدوره في التربية والحكم .وقد أزالت الوظيفتين استعادةالكنسية للفاسقين (الحديد )27والحكم بالحق الإلهي أو الطبيعي للمستبدين والفاسدين، ففقدت الأمة شرطي الإيمان الحق. لذلك فالثورة الجارية حاليا هي بداية الاستئناف بالمعنيين: -استئناف التحرر من التحريفين -واستئناف بناء التربية والحكم باسترداد رئاسة الإنسانولا يمكن استرداد سيادة الإنسان الروحية والسياسية من دون التحرر من الاستبداد والفساد داخليا ،والاستضعاف والاستتباع خارجيا :مرضا الأمة حاليا.فثورة الشباب كانت موجتها الأولى ثورة على الاستبداد والفساد ،وصارت موجتها الثانية ثورة على الاستضعاف والاستتباع :وكلتاهما فخر شباب تونس.وشباب تونس حتى في مطالب الموجة الأولى ،كان مدركا لأبعادها الإسلامية :فبيتا الشابي تصويب لرؤية القضاء والقدر لاسترداد دور المسلم في التاريخ. 55
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages: