-- السنتاكس الذي اعتبر نسبته إلى هذه الفروع الأربعة عين نبة الحرف إلى الاسم والفعل واسم الصوت واسم الفعل في نظرية اللغة .فوظيفة السنتاكس التأسيسية للفروع الأربعة في علوم اللسان ووظائفها فيها جميعا واحدة وحدة وظيفة الحرف التأسيسية للفروع الأربعة في عناصر اللسان ووظائفه. فالسنتاكس هو عين الأصل في نظام الألسن .والحرف هو عين الأصل في عناصر الألسن. وكلاهما وضعي ولا فرق حينها بين السنتاكس التي تتبعها الدلالة والتداولية التابعة لها والسنتاكس التي يتبعها المعني والتداولية التابعة له .لكن الناس ينسون أن السنتاكس وضعي حتى وإن كان وضعه ذا تكوينة تاريخية حصلته بالتراكم بخلاف الستنتاكس في اللغات الصناعية. وحتى في هذه فإن السنتاكس له تكوينية ويتطور كما يحدث في أصناف السنتاكس في الأنساق الرياضية التي تختلف بالسنتاكسات المختلفة لكنها متكاملة ومتراكمة وباختلاف السنتاكسات تتعدد النظرية الرياضية مثل تعدد الهندسات .والحصيلة هي ان علوم اللسان لم تعد ثلاثة بل صارت خمسة على النحو التالي: .1السنتاكس وهو الأصل لعلوم الرمز عامة واللسان خاصة ونسبته إليها نسبة الحرف إلى عناصر اللغة العربية وأي لغة أخرى إذ الحرف هو المحيز للاسم والفعل في المكان والزمان خارج النظام الرمزي وفي الخطاب وفي المنطق داخل النظام الرمزي .وتلك هي وظيفة السنتاكس في كل لسان سواء كان طبيعية أو صناعيا. .2علم المعاني أو التقدير الذهني سواء كان نظريا مثل الرياضيات والأخلاقيات وكل الإبداع الفني وهو لا يخرج عن الرسم والموسيقى مباشرة أو بإضافة عناصر من الطبيعي أو من التاريخي. .3علم الدلالة التقليدي وهو مبني على الإحالة إلى عالم \"واقعي” غالبا ما يرد إلى عالم الإدراك الحسي. أبو يعرب المرزوقي 47 الأسماء والبيان
-- .4علم التداولية المعنوية وهي تتعلق بما يتعالى على التجربتين الطبيعية والتاريخية أو على الأقل بما يتعلق بما وراءهما أي فلسفة العلاقة بين الرياضي والطبيعي وبين الخلقي والتاريخي. .5علم التداولية التقليدي الذي يدور بمنطق علم الدلالة التقليدي أعين بالاحتكام إلى الإحالة للعالم الذي يعتبر واقعيا ووحيدا. أبو يعرب المرزوقي 48 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى المسألة الثالثة أعني مسألة المعاني الكلية التي تودي وظيفة الرمز والتي هي غير مقومة للأشياء التي تعرف بها .إنها ما يسميه ابن تيمية المقدرات الذهنية النظرية التي ضرب منها مثال الرياضيات بديلا من: .1الكليات الأفلاطونية التي تؤدي وظيفة التقويم بمشاركة الاشياء الجزئية من عالمنا فيها لأنها مفارقة (المثل). .2والكليات الأرسطية التي وظيفة التقويم بمحايثة الصورة في الاشياء الجزئية من عالمنا (محايثة الصور). وبدلا خاصة مما سماه أرسطو الأوليات التي ينطلق منها الاستدلال في كل نسق معرفي والتي كانت تظن حقائق وجودية ثابتة ومطلقة وأهمها ما بنى عليه أرسطو كل الميتافيزيقا ببعديها المنطقي والوجودي .لكن ابن تيمية يعتبرها كلها مقدرات ذهنية ليس لها حقيقة موضوعية في الوجود .وهي أدوات عمل الفكر متغيرة بتغير ما يستهدفه في علاجه النظري وليست كما يظن حقائق مطلقة ونهائية لأنها إضافية إلى المتعلم وإلى الغاية من النظرية. وقد قست على المقدرات الذهنية النظرية التي حددها ابن تيمية للنظر والعقد مطبقة على الطبيعيات المقدرات الذهنية العملية للعمل والشرع وضربت عليها مثال الأخلاقيات مطبقة على التاريخيات التي تحتاج هي بدورها إلى ما يشبه الأوليات المفهومية دون الزعم بانها حقائق وجودية مطلقة بل هي أشبه بالمسلمات المتغيرة بحسب حاجة العامل والعمل .وأبدأ بإيراد نصي ابن تيمية في المسألة: .1فالنص الأول من كتاب المنطق ص 73-72.الجزء التاسع من مجموع الفتاوى جاء فيه ”:فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة\". .2والنص الثاني من كتاب درء التعارض الجزء الأول ص225-224. جاء فيه\" :ولكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن كالألفاظ المطلقة والعامة في اللسان وكالخط الدال على تلك الألفاظ .فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى .فكل من لثلاثة يتناول الأعيان أبو يعرب المرزوقي 49 الأسماء والبيان
-- الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها لا أن في الخارج شيئا هو نفسه يعم هذا وهذا أو يوجد في هذا وهذا أو يشترك فيه هذا أو هذا\". عندنا مقابلتان: .1الأولى تعرف العلم الذي يمكن أن يكون برهانيا بحصر العلوم الأولية البديهية المحضة في المقدرات الذهنية النظرية التي مثل لها بالرياضيات بصنفيها في ذلك العصر أي العدد والهندسة أو علم العدد أو المنفصل (الاريتماتيك) وعلم المقدار أو المتصل (الهندسة). .2الثانية تعرف المعاني الكلية تعريفا ينفي عنها وظيفة التقويم الوجودي الذي كان سائدا في الفلسفة سواء في مدرستها الأفلاطونية بالمشاركة في الكليات المثالية المفارقة أو في مدرستها الأرسطية بمحايثة الصورة في المادة القوية عليها. طبعا أفهم جيدا ألا يحمل أحد من المتفلسفين العرب محمل الجد مثل هذا الكلام الذي لم أختلقه بل هو كلام ابن تيمية .والعلة هي الصورة ا لنمطية التي اشتهر بها وصاروا عندهم عقائد نهائية تلغي كل إمكانية للبحث العلمي بأدنى قدر من النزاهة بسبب غباء اصحابه أولا وبسبب خبث أعدائه في تشويهه ثانيا يجمع الطرفان في تشويه القضايا التي يعالجها كما فعلوا مع الغزالي سابقا (بدعوى الظلامية) وحتى مع ابن خلدون (بدعوى السلفية) الذي زعم أحد \"دجالي\" الحضارة وإحدى طالباته أنهما أطاحوا بأسطورته رغم أنهما كليهما عاجزان عن فهم أبسط نص فلسفي. وأفهم جيدا أن يقتصر فكر المتفلسفين على ترديد الشعارات والجري وراء الموضة التي تظهر هنا أو هناك في منشورات ثانوية أو حتى في ملخصات جوجل في غياب الاطلاع المباشر على الفكر الحي إسلاميا كان او غربيا لأن التعليق على شذرات خارج سياقها لا يختلف عن جري المترددات على المغازات للتسوق خلال سياحتهن. لذلك فما يعنيني هو أن هذين المقابلتين رغم أنهما حيرتاني وكتبت فيهما فصولا في ضميمة المثالية الألمانية لم تحيراني بالقدر الذي حيرني مرورهما مرور الكرام عند الباحثين ولو كانوا ممن عادوا متأخيرين للتعليق على فكر المسلمين الفلسفي بقشور المقارنة مع الموضة من جنس سذاجة المطلع المتأخر بالمقارنات السطيحة :مثل \"عندنا مثل ما عندهم في كذا أو كذا\" لكأن ذلك يضفي قيمة على ما تستمد قيمته من مقارنته السطحية بما عند من صاروا يعتبرون ممثلين للإنساني بإطلاق ولا يكون لغيرهم شيء من الإنساني إلا إذا ماثلهم. أبو يعرب المرزوقي 50 الأسماء والبيان
-- لذلك فسأحاول عرض ما يترتب عليهما وما ترتبا عليه حتى يجتمعا عند ابن تيمية عند وصلهما بأمرين: • نظريته في اللغة ورفضه للمقابلة بين الحقيقة والمجاز وميله إلى تحديد الدلالة بالسياق الاستعمالي في نظام اللغة ككل. • رفضه للتأويل بالمعنى المترتب على المقابلة حقيقة مجاز عند متكلمي عصره وفلاسفته ومتصوفيه وحتى فقهائه وخاصة مفسريه. فلا يوجد حسب رأيي في تاريخ الفلسفة قبل ابن تيمية وحتى بعده من اعتبر المعاني الكلية رموزا للأشياء مثل اللغة والكتابة ونقى أن تكون مقومات لها حتى وإن استعملت في تعريفها لتحديد هويتها على سبيل التقريب .لكن صلتها بها لا تختلف عن صلة الألفاظ والكتابات بالإحالة الرمزية إليها. وقد كان ابن تيمية صريحا بأنه بهذه الرؤية يرفض الحل الأفلاطوني (مشاركة الموجودات الجزئية في المثل) والحل الأرسطي (صورة الأشياء محايثة في مادتها القوية عليها) ردا على الفكر الباطني وعلى فكر ابن سينا .وليس هنا محل عرض هذين الردين اللذين سبق لي تحليلهما في ضميمة المثالية الألمانية. لكن لا بأس من إيراد النص الحاسم في ما يترتب على هذه الرؤية من القطع النهائي مع الفلسفة القديمة والفلسفة الوسيطة والتأسيس لفلسفة غير مسبوقة حتى وإن لم يترتب عليها ما كان يمكن أن يغير مجرى التاريخ الفكري لو لم تكن الأمة بعد قد دخلت في سبات شتوي .وهي لسوء الحظ ما تزال تغط في نوم عميق لا يقل بلادة عما حصل لما صارت الفلسفة شرح نصوص لا تختلف عن ثقافة شرح النصوص الدينية. يقول ابن تيمية في الدرء نفسه\" :ومن علم هذا علم كثيرا مما دخل في المنطق من الخطأ في كلامهم في الكليات والجزئيات مثل الكليات الخمس الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية وما ادعوه من تركيب الأنواع من الذاتيات المشتركة المميزة التي يمسونها الجنس والفصل وتسمية هذه الصفات أجزاء الماهية ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف في الوجود الذهني والخارجي جميعا واثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية مغايرة للشيء المعين الموجود\". فمن له دراية بالفلسفة اليونانية يعلم أن هذا الكلام يعني دفنها في مقبرة الخرافة لأن كل هذه الأمور التي ذكرها تعود إلى التأسيس الميتافيزيقي لتطبيق المنطق على الوجود وأسقاط مقولات أبو يعرب المرزوقي 51 الأسماء والبيان
-- التأليف بين التصورات على التأليف بين ما يعتبر مقومات ذاتية لجوهر الشيء واعتبارها حقائق مقومة للأشياء المتصورة وليست أدوات رمزية من جنس اللغة والكتابة كما يراها ابن تيمية .وهي بالضرورة عبارة بحاجة إلى المراجعة الدائمة فضلا عن كونها لا تبحث في قوانين الأشياء بل في تصنيفها الكيفي الذي لا يقدم ولا يؤخر في معرفة القوانين التي تحكمها .فلا هي علم ولا هي منطق ولا هي مدخل لمعرفة الموجود ولا المنشود. لكنها عند ابن تيمية حتى إذا قبلناها للتصنيف فإنها من جنس الحدود التي تفصل بين الأشياء المتحيزة في المكان ولا تختلف عن تحديد الأرض للفصل بين قطعها التي تمثل حصص المالكين لها ولا تعطيك شيئا عن علمها أو علم علاقاتها ومن ثم فهي مجرد علامات تحديد وتصنيف ولا علاقة لها بالعلم ولا بالعمل .وبذلك فابن تيمية يعتبر بهذا المعنى قد قطع مع المعرفة الكيفية التي تعتبر موضوع المعرفة هو الأشياء وليس ما بينها من تفاعلات هي منظومة علاقات التفاعل وتقديراتها الرياضية ونسبها لاستخراج البنية القانونية الطبيعية أو البنية السننية التاريخية التي تحكم تفاعلاتها بالنسب الكمية التي تقبل: .1الصوغ بالمقدرات الذهنية الرياضية سواء كانت عددية أو هندسية بحسب المثال الذي قدمه ابن تيمية في مجال الطبيعيات من الفلسفة النظرية. .2والصوغ بالمقدرات الذهنية الأخلاقية سواء كانت سواء كانت خلقية خالصة أو سياسية في مجال التاريخيات التي تقبل الصوغ من الفلسفة العملية. وهو ما يعني أن المعاني الكلية التي يمكن أخذها بوصفها رموزا للأشياء دون أن تكون مقومة لها تنقسم إلى خمسة أصناف هي بدورها: .1المقدرات الذهنية النظرية ومثالها الرياضيات وهي التي من دونها لا يمكن تصور علوم الطبيعة ممكنة دون أن تكون كافية لأنها بحاجة إلى التعيين من خلال التجربة الطبيعية التي تحدد القيم بالمعنى الرياضي للكلمة أي قيم المتغيرات التي تضعها العبارات الرياضية. .2المقدرات الذهنية العملية ومثالها الأخلاقيات وهي التي من دونها لا يمكن تصور علوم التاريخ ممكنة دون أن تكون كافية لأنها بحاجة إلى التعيين من خلال التجربة التاريخية التي تحدد القيم بنفس المعنى في النوع الأول. أبو يعرب المرزوقي 52 الأسماء والبيان
-- .3المقدرات الذهنية التي هي أثر الأولى في الثانية وهي التي من دونها يستحيل تأسيس العلوم الإنسانية التي هي محاولة لجعل الحرية الشرطية رغم كونها متعلقة بسلوك الإنسان الحر ذات قوانين أو سنن لا تتبدل ولا تتغير بلغة القرآن الكريم. .4المقدرات الذهنية التي هي تأثير الثانية في الأولى وهي التي من دونها يستحيل تأسيس الفنون الجملية الراقية وليس الرعوانية كالحال في ما يسمى فنا عفويا كما هو بين خاصة من الموسيقى الراقية كما في السمفونيات الشهيرة والتي هي تطبيق رياضي ولكن ليس في ظاهرة طبيعية بل في ظاهرة ذوقية. .5وأصل ذلك كله هو نظرية الوسميات أو نظرية الترميز من حيث هو محدد للتعامل مع \"أشياء\" هي بدورها رموز اختيرت ممثلة لما يؤخذ موضوعا للبحث بمقارنته مع أحد هذه الأنظمة الرمزية من المقدرات الذهنية التي يبدعها الإنسان من دون أن تكون ذات موضوع محدد بغير بنيته الصورية التي تقبل التعيين في \"أشياء\" تكون قيما لتلك المتغيرات إذا كان نظامها قابلا للتعبير عنه بتلك البنى الصورية. والآن أريد أن اختم بما يبين أن ابن تيمية كان شديد الوعي بأنه حقق ثورة فعلية في نظرية المعرفة ونظرية الرمز عامة والرمز اللساني خاصة .لكن عمله جاء متأخرا في حضارة كانت تحتضر. فلم يؤت أكله مثله مثل عمل ابن خلدون إذ إن الأمة كانت قد دخلت في سبات شتوي عميق ما تزال إلى الآن تعاني من شوائبه ولم تخرج منه لأن الكاريكاتورين الذي يدعي التأصيل والذي يدعي التحديث كلاهما يغتذي بقشور الفكر الأهلي والأجنبي وبالمحفوظات اللفظية دون أن يدرك ما فيها من فكر حي .ولعل ذلك مرحلة ضرورية في نوع من التراكم الكمي الذي قد يتحول إلى طفرة كيفية إن شاء الله .ولإثبات أنه كان واعيا بأبعاد ثورته سأرود نصين فريدين في نوعهما كذلك اختم بهما هذا الفصل: والنص الأول لا يهتم بنقد المنطق بمعناه التحليلي عند كنط أو الصوري عند أرسطو (التحليلات الأوائل أو نظرية القياس) بل هو يدرس المنطق بمعناه العالي عند كنط أو البرهاني عند أرسطو (التحليلات الأواخر أو كتاب البرهان والحد بلغة العرب) وما يتأسس عليه من ميتافيزيقا تسقط ما قيل عن المنطق على ما قيل عن الوجود بمقتضى رد الوجود إلى الإدراك والتوحيد البارمينيدي بين الوجود والعقل أو الهيجلي بين الواقع والعقل بعد النكوص إلى ما ظن تجاوزا لكنط أعني التوحيد بين العقل والواقع. أبو يعرب المرزوقي 53 الأسماء والبيان
-- \"-1فإذا كانت مواد القياس البرهاني (التحليلات الأواخر) لا يدرك بعامتها إلا أمور معينة ليست كلية وهي (ما يدركه) الحس الباطن والظاهر والتواتر والتجربة والحدس -2و(إذا كان) الذي يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك أمورا مقدرة ذهنية -3لم يكن في مبادئ البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة في الخارج -4و(إذا كان) القياس لا يفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية -5فامتنع حينئذ أن يكون في ما ذكروه من صورة القياس ومادته حصول علم يقيني\" (الرد على المنطقيين ص 73-72.من ج 9.من المجموع). أشرت بالأرقام في الاستدلال متعدد المقدمات إلى المراحل التي بنى عليها ابن تيمية رفض التحليلات الأواخر ببعديها برهانا وحدا رفضا قاطعا لرفضه الأصل إلى الأوليات التي هي عنده مقدرات ذهنية واعتمد على رفض أن يكون المفهومي قابلا للمطابقة مع الوجودي مطابقة كلية واعتمد أكبر دليل قد لا يخطر على بال قرائه :الأساس الذي بنيت عليه التحليلات الأوائل أو الدليل الذي يثبت صحة القياس وهو ضرورة أن تكون إحدى مقدمتيه كلية وإلا فهو غير منتج. والمعلوم أن كنط لم يخرج من هذا المأزق إلا بنظرية الحكم \"التأليفي القبلي\" لتأسيس المنطق المتعالي أي النقلة من التحليلي -الذي لا يؤسس للخروج من المفهوم إلى الوجود -إلى المتعالي الذي يمكن من هذا الخروج والذي بينت في الفصل السابق أن كواين دحض الفرق بينهما في مقاله حول عقيدتي الرؤية الامبيريقية للمعرفة مبينا الاستغناء عن فرضية كنط لأنه لا يوجد تحليلي من دون الدلالة ولا يوجد تأليفي قبلي بل ما يوجد هو دلالة الرموز التي هي لسانيا جزء من نسق المفهومات المؤسسة على النظام العقلي في القول العلمي(وقد نقلته إلى العربية منذ عقود). وأرسطو لم يخرج منه إلا باعتبار ميتافيزيقي يجعل الأوليات حقائق وجودية قبلية من جنس التأليفي القبلي عند كنط وهي عين بنية أفعال الفكر وليست معاني كلية مقدرة ذهنيا وبها بدأ كتابه في التحليلات الأواخر الذي يسلم بنتائج الميتافيزيقا رغم اعترافه بانها نتائج استدلالات جدلية لكنه اعتبرها برهانية .فقد اسس هذه النقلة على ضرورة قطع التسلسل ورفض الدور. وهو أمر مفهوم لبداية كل نظر بشرط أن يكون القطع فرضيا وليس حقيقيا بدليل الحاجة إلى تغييره بقطع آخر يذهب إلى ما هو قبله أو إلى ما هو بعده .فلا شيء يثبت أن هذا القطع الأداتي حقيقة وجودية تتجاوز دورها الأداتي الذي لا ينكره ابن تيمية لكنه يحصره في دوره ويعتبره اضافيا مرتين إلى المتعلم وإلى خطة النسق النظري في علاج قضية معينة علاجا يمكن أن يؤسس على مقدمات أكثر تجريدا من المعتادة أو أقل. أبو يعرب المرزوقي 54 الأسماء والبيان
-- وإذن فقطع التسلسل وتجنب الدور حلان ذريعيان تحكميان يمكن أن يقبلا في مستوى المفهوم على جهة التقدير الذهني .لكن لا يمكن الانتقال مما هو ممكن بالتقدير في المفهوم إلى ما هو ممكن وخاصة واجب في الوجود من دون دور بل ومصادرة على المطلوب .وإذا اعتبرنا قطع التسلسل والدور حقيقتين ضرورتين في الوجود ذاته وعيناها في صيغة معينة فإنه يصبح من المستحيل تغيير هذه الأوليات والمبادئ الأولى التي تؤسس أي نسق معرفي وتصبح المعرفة مطابقة ونهائية وغير قابلة للتغير بحسب التقدم في الاطلاع على المعطيات التي يعالجها العلم والتي تتزايد كلما تقدمت أداتا المعرفة أعني الصوغ المفهومي للنظرية والتحصيل التجريبي للمعطيات بحسب الزيادة في قدرات الحواس بما يبدعه العلم من أدوات الإدراك التجريبي وتأويل معطياته كما في أدوات البصريات وأدوات السمعيات. ولنأت الآن إلى النص الثاني .فهو لا يهتم بنقد التأليف بين المعاني إذا كانت في مستوى التقدير الذهني بل هو ينقد تصورها وكأنها مقومة للأشياء التي تستعمل المعاني الكلية أدوات للتعامل معها بوصفها مقدرات .وذلك هو الأمر الذي ينفيه بالكلية لأن المعاني الكلية عنده ليست مثلا بالمعنى الأفلاطوني تقوم الأشياء بالمشاركة فيها ولا هي صورا بالمعنى الأرسطي تقومها بالمحايثة في مادة قوية عليها: \"ومن علم هذا العلم علم كثيرا مما دخل في المنطق من الخطأ في كلامهم في الكليات والجزئيات مثل الكليات الخمس الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية وما ادعوه من تركيب الأنواع من الذاتيات المشتركة المميزة التي يسمونها الجنس والفصل وتسمية هذه الصفات أجزاء الماهية ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف في الوجود الذهني والخارجي جميعا واثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية مغايرة للشيء المعين الموجود\" (نفسه). من له دراية بفلسفة القدامى سواء من المدرسة الأفلاطونية أو من المدرسة الأرسطية يعلم أن الرجل قد أنهى هذه الفلسفة جملة وتفصيلا وأنه كان لا بد من بداية جديدة .صحيح أنها لم تحصل في فكرنا لكنها حصلت في الفكر الحديث على الأقل قبل النكوص الهيجلي والماركسي .ذلك أن ديكارت نفسه كان يعتبر العلم بناء مفهوميا غير مهتم بما هو مقوم للأشياء ذاتها بل بما مقوم لعلاجها العلمي .ومن ثم فلا علم إلا بفضل الرياضيات التي هي مقدرات ذهنية تتعلق بالقيس والترتيب أبو يعرب المرزوقي 55 الأسماء والبيان
-- ولا تتعلق بالأشياء أصلا .وكانت هذه المسألة أهم مسألة ركز عليها ميشال فوكو في درسه حول فلسفة ديكارت وخاصة هو منهجيته درسه الذي تلقيناه في دار المعلمين العليا وكلية الآداب والعلوم الإنسانية سنة 1968-1967 لكن خرافة وحدة العقل والواقع الهيجلية التي تبناها ماركس أساسا للمنطق الجدلي ذي الدلالة الوجودية هي التي أدت إلى عودة السذاجة إلى نظرية المعرفة ونظرية القيمة القائلتين بالمطابقة والتي هي بالتأويل الديني تأليه للإنسان الذي يظن علمه وإرادته محيطين وذلك هو سر تحول الماركسية إلى عقيدة أكثر غباء من العقائد التي تولدت عن تطبيق الفلسفة القديمة في قراءة القرآن والتي كانت ثورة ابن تيمية هادفة إلى تحرير قراءة القرآن منها لبيان الفرق بين العلم الإنساني الذي هو اجتهادي والعمل الإنساني الذي هو جهادي حتما وبين المثال الاعلى الذي ينسب إليه العلم والعمل المطلقين والمطابقين للوجود وهو معنى الدين الخاتم. أبو يعرب المرزوقي 56 الأسماء والبيان
-- كان ينبغي أن أختم بنص يبين أن ابن تيمية لم يكن غافلا عن نتائج ثورته بل كان مدركا لأهميتها وعمومها حتى وإن لم يركز إلا على المجال الذي يعنيه .فهو قام بثورته من أجل إصلاح علوم الملة أي العلوم التي هي مجال اختصاصه حصرا في العلوم الدينية لتحريرها مما ترتب على نظرية المعرفة ونظرية القيمة القائلتين بالمطابقة التي تفترض القول بالبارمينيدية أو وحدة العقل والوجود .ففي هذا التوحيد خلط بين \"النوس\" الذي كان اليونان يعتبرونه نظام الوجود لأنه العقل الإلهي المنظم للعالم و\"اللوجوس\" الذي هو ملكة إنسانية لعلاقته باللغة .فلا شيء يثبت أن اللوغوس الذي هو ملكة إنسانية هو النوس الذي هو \"عقل\" الرب إن صح التعبير .لا شيء يثبت أن عين قانون الوجود هو عين ما يدركه عقل الإنسان من حيث هو منظور محدود للوجود لا يرى منه إلى ما يناسب كيانه وشروط بقائه. ويتبين ذلك من خلال خصومات ابن تيمية مع المتكلمين والفلاسفة والفقهاء والمتصوفة وخاصة المفسرين لأن التفسير هو أصل العلوم الأربعة السابقة بنوعيها العملي فقها وتصوفا والنظري كلاما وفلسفة .فكل هؤلاء كانوا يقولون بالمطابقة في النظر والعقد وفي العمل والشرع مطابقة معرفية وقيمية موروثة عن الفلسفة اليونانية وعن الإدراك الغفل فاقد للبعد النقدي لكونه يعتبر الفكر حسيه وعقليه مرآة ينعكس عليها ما يسمى “واقعا”. ولا يمكن لأي دارس للقرآن ان يسلم بها من دون أن ينفي أهم مفهوم فيه يميز بين عالمين إن صح التعبير أعني عالم الغيب وعالم الشهادة ولا يكتفي باعتبار الفكر ليس مرآة حتى لعالم الشهادة بل عالم الشهادة نفسه يعتبره من تجليات عالم الغيب دون أن يكون فيه ما يماثله: .1فعالم الشهادة يكون الإنسان فيه متصلا بوجهيه الطبيعي الخاضع للضرورة الشرطية بلغة أرسطو والتاريخي الخاضع للحرية الشرطية قياسا عكسيا على الضرورة الشرطية لأن الإنسان بخلاف الظاهرات الطبيعية له حرية الاختيار على الأقل في ما يعتقد أبو يعرب المرزوقي 57 الأسماء والبيان
-- بناء على ما يدركه من سلوكه الاختياري بالمقابل مع سلوكه الاضطراري (مشكل أفعال العباد في علم الكلام). .2وعالم الغيب وفيه يكون ما وراء الوجود الطبيعي مجهول النظام أو متحررا من الضرورة الشرطية لأن نظام الخالقية من الغيب-لا نظام المخلوقية الذي يعين القرآن الشاهد منه بكونه خلق بقدر -بلغة القرآن ويكون ما وراء الوجود التاريخي كذلك مجهول النظام أو متحررا من الحرية الشرطية بنفس المعنى لأن نظام الآمرية من الغيب -لا نظام المأمورية الذي يعين القرآن الشاهد منه بكونه لا يتبدل ولا يتحول. وهذا هو النص الذي أختم به كلامي على الحل التيمي ووعي صاحبه بطابعه الثوري قبل المرور لعلاج مسألة هذا الفصل\" :وهذا بين لمن تأمله (أي الاستدلال الذي بين به استحالة البرهان خارج التقدير الذهني) .وبتحريره وجوده تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف. وسنبين إن شاء الله من أي وجه وقع عليهم اللبس (اعتبار المعاني الكلية مقومة وليست مجرد رموز تشير إلى موضوع المعرفة دون أن يكون متقوما بها) فتدبر هذا فإنه من أسرار عظائم العلوم التي يظهر لك ما يجل عن الوصف من الفرق بين الطريقة الفطرية العقلية (العلوم الدنيوية خاصة) و السمعية الشرعية الإيمانية (العلوم الدينية خاصة) وبين الطريقة القياسية المنطقية الكلامية\" (الرد على المنطقيين ص 73-72.الجزء 9من المجموع). وقبل أن أصل إلى المسألة قبل الاخيرة من المسائل التي ذكرتها في بداية المحاولة إذ سبق أن بدأت بالمسألة الأخيرة العلاج الوارد في الفصل الثاني منها لا بد من الإشارة إلى أصل القول بالتثليث الراجع إلى نظرية الجهات Modalitiesالتي أدت إلى الخلط بين المنطقي والوجودي :الواجب والممكن والممتنع. فالتثليث هنا علته استعمال الممكن مقابلا للوجوب وللامتناع في آن وعدم التمييز بينه وبين الممكن المطلق باعتباره مقابلا للامتناع ومتضمنا للوجوب .وإذن فالتثليث علته الخلط بين معنيي الممكن .وإذا ضاعفنا معنى الممكن فينبغي أن نضاعف معنى الممتنع الذي هو أبو يعرب المرزوقي 58 الأسماء والبيان
-- نقيضه .فإذا راجعنا هذا الخطأ سقط كل ما بنيى عليه في علم الكلام وفي الفلسفة بسبب الاقتصار على التثليث الذي شرطه المعنى الملتبس للممكن والممتنع. ولهذه العلة فلا بد من مراجعة نظرية الجهات سواء اقتصرنا على مستوى المفهومات دون الاسقاط على الوجود أو مع الاسقاط عليه مستوى تابعا لمستوى المفهومات بالتناظر التام في حالة القول بالمطابقة وقياسا عليه بالتناظر التام مع القيم عند الكلام على المنشود وعدم الاقتصار على الموجود. فإذا قابلنا بين الممكن والممتنع أصبح بوسعنا أن نميز بين الممكن بذاته والممكن بغيره وبين الممتنع بذاته والممتنع بغيره .وأصبحت هذا الصفات الأربع صفات تحمل على شيئين أحدهما سميناه بالذات والثاني بالغير .فلو فرضنا أن الأمر الذي قسمناه إلى الذات والغير هو الوجود وغير الوجود الذي مكن اعتباره العدم وصلنا إلى المقابلة الهيجلية التي يستمد منها معنى الصيرورة وهو المعنى الذي يؤسس التثليث في الرؤية الجدلية بمعنى التأليف بين الوجود والعدم. فيكون: .1الممكن بالذات هو الوجود الأصلي (ولنقل إنه الكاوزا سوي أو خالق ذاته أو موجد ذاته). .2والمكن بالغير هو الوجود الفرعي (أي كل المخلوقات التي ليست كاوزا سوي أو ليست خالقة ذاتها أو ليست موجودة لذاتها بل خلقها خالق ذاته). .3ويكون: .4الممتنع بالذات هو العدم الأصلي (ولنقل إنه عادم ذاته بذاته وهو نقيض الكاوزا سوي ولنسمه بنافي ذاته). .5والممتنع بالغير هو الممتنع الفرعي أي كل كل ما هو معدوم بعدم متقدم عليه أي بعدم علته أو شرطه). أبو يعرب المرزوقي 59 الأسماء والبيان
-- ولا بد لهذه العناصر الأربعة من حامل تكون هي أعراضه .وإذا قبلنا بالحل الهيجلي تكون الصيرورة في آن حاملة أو محلا لما يمثل الموجود والمعدوم معا .لكن الموجود نوعان والمعدوم نوعان في هذه الحالة وكلاهما يكون إما بذاته أو بغيره والفروع الأربعة مختلفة. وما كانت أدلة وجود الله مثلا تكون ممكنة لولا هذه المغالطة التي ظنتها ثلاثة بدلا من أربعة. وقد بين كنط بحدس عميق أن الواجب هو الموجود لمجرد كونه ممكنا .والمفروض أن يكون قد اعتبر بالتناظر الممتنع أو المستحيل المعدوم لمجرد كونه غير ممكن .ومن ثم فدليل الانتقال من الإمكان المتردد بين وجود والعدم إلى الحصول الذي هو اختيار الوجود بدلا من العدم هو ما يعتقد المتكلمون أنه بحاجة إلى علة غنية عن العلة أو الواجب الذي هو مفهوم مغالطي لأنه بالتباس تضمنه ي الممكن المجرد غير الحاصل والممكن الحاصل أو الحادث أو \"الكونتجن\". لكن الواجب هو بدوره ممكن بمعنى أعم للإمكان هو عدم الامتناع .وإذن فالممكن ملتبس الدلالة .دلالته العامة هي الامكان بالمعنى الذي ينضوي تحته الوجوب .ودلالته الثانية هي الإمكان الذي يقتصر على الحصول دون الوجوب فيكون محتاجا لعلة .وفي ذلك مصادرة على المطلوب لأن البحث عن العلة يعني اعتباره بحاجة إليها لنفي أن يكون مثل الواجب ممكن بالمطلق وعني عن العلة .وتلك مصادرة على المطلوب إذ لا شيء يميز بين الدلالتين من دون مضاعفة معنى الإمكان في الجهات .والحادث (الكونتجن) الذي يعتبرونه ممكنا بالغير بالقياس إلى الممكن الذي لن يتحدد بعد خيار الوجود على العدم فيه يجعل معنى الإمكان ملتبسا وعليه تبنى أدلة الترجيح بين الإمكان الباقي على حال العدم والإمكان المنتقل إلى حال الوجود :العلة هي التي ترجح الحصول الوجودي على العدم وهو بنحو ما مدلول القوة عند أرسطو أي الممكن من حيث هو قوة على الوجود. وبذلك فالجهات خمسة وليست ثلاثة وهي ليست جهات الشيء بل جهات الترميز لفعل الحكم عليه من حيث الحضور والغياب مثولا وعدم مثول أمام الإدراك وليس من حيث أبو يعرب المرزوقي 60 الأسماء والبيان
-- الوجود والعدم الذاتيين للشيء في نفسه .ففعل التوجيه نفسه هو الحامل للجهات الأربع وليس الشيء الموجه أعني للإمكان بالذات وللإمكان بالغير وللامتناع بالذات وللامتناع بالغير من حيث الحضور والغياب في رؤية فعل الترميز والحكم على الحضور والغياب في ما يقصد الفعل الكلام عليه بهذه المعاني الكلية المقدرة ذهنيا للترميز لهما وليس لوصف الشيء في ذاته. وإذن فلا علاقة لهذه المعاني بالوجود والعدم بل هما يتعلقان بفعل التوجيه من حيث هو شرط الترميز للكلام على الحضور والغياب في الخطاب وفي الذهن كما سنرى في الكلام على الوجود والعدم النسبيين إلى قول ما ندرك من موضوعات إدراكنا وليس في ذاتها أي إلى ما هو موضوع الأخذ بعين الاعتبار وعدم الأخذ بعين الاعتبار في عملية العلاج الفكري المشروطة بعملية الترميز. أما مفهوم الصيرورة الذي يعتبره هيجل حصلة العلاقة الجدلية بين الوجود والعدم فهي عديمة المعنى .فما يصير ليس وسطا بين وجود وعدم بل هو دائما مراحل بين وجودين حتى لو قبلنا المعنى الأرسطي للكون والفساد .فلو كانت البداية وجودا والغاية عدما لكان ذلك يعني أن الصيرورة هي الانتقال من الحياة إلى الموت وليست نموا حيا دائما .فإذا اعتبرنا البداية حياة والغاية نفيها فلا يمكن أن نعتبر ما بينهما صيرورة حيوية أو كونا وفسادا في الوجود نفسه بلغة أرسطو. ولما كانت الصيرورة عند إطلاقها على الوجود ككل أمرا لا يتوقف ولا يموت فإن المفهوم الهيجلي فيه خطا أصلي يجعله لا يطابق القصد من الصيرورة والوجود والعدم بمعنى الحضور والغياب في المثول أمام الذهن الذي يرمز دون أن تكون ا لمعاني الكلية مقومة لموضوع الإدراك الذي نجهل حقيقته سواء كان وجودا أو عدما أو صيرورة بل هي رموز للحضور والغياب في منظور الخطاب أو في فعل الترميز وكلاهما ذهني وليس وجوديا. والحضور والغياب كلاهما متدرج وبعضه معلول وبعضه غير معلول والمعلول نسميه بالغير وغير المعلول نسميه بالذات .فيكون لدينا: أبو يعرب المرزوقي 61 الأسماء والبيان
-- .1الممكن بذاته :اللاعلية الموجبة أو الواجب أو الكاوزا سوي الإيجابية أو كون الشيء علة وجوده. .2الممكن بغيره :العلية الموجبة أو ما يترتب وجوده عن علة موجدة. .3الممتنع بذاته :اللاعلية السالبة أو المستحيل أو الكاوزا سوي السلبية أو كون الشيء علة عدمه. .4الممتنع بغيره :العلية السالبة أو ما يترتب عدمه عن علة معدمة. .5وكل ذلك متعلق بفعل الإدراك الترميزي وهو عين تعامل الإنسان مع الأشياء عندما يعتبر نفسه علة ذاته أو بصورة أدق علة أفعاله أو يعتبر أفعاله معلوله لغيره وقوعا إيجابا وعدم وقوع سلبا .وتلك هي فاعلية الفكر أو فاعلية الترميز من حيث حضور الأشياء أو وغيابها قياسا على ذواتنا وهما اللذين نرمز إليهما بمعان كلية اخترناها من أعراضهما التي ندركها ولا نعلم عن حقيقتها شيء عدى كونها حضور الأشياء وغيابها بنتوئها الحضوري والغيابي في مداركنا كما يتجليان بالأعراض التي تبدو لنا أكثر تمثيلا لها باعتبارها دلالات معبرة عن حضورها وغيابها أو عن إحضارها وتغييبها. وفعل التوجيه هذا هو عين الحرية الإنسانية بل هو علامتها الأساسية بمعنى أن الإنسان ما كان بوسعه أن يكون حرا يريد ويعلم ويقدر ويحيا ويوجد أي له خيار بين الإرادة والترك وخيار بين العلم والجهل وخيار بين القدرة والعجز وخيار بين الحياة والموت وخيار بين الوجود وعدم الوجود .وهذه الأفعال الموجبة والسالبة هي عين القدرة على الترميز الذي به نتعامل مع عالم الشهادة ومع ما نفترضه شروطا له ومشروطات به من حيث هو علاقة بين شروطه ومشروطاته وجوديا وعلاقة بين مشروطاته وشروطه معرفيا. فنحن نعود إلى شروطه انطلاقا من مشروطاته معتبرينه علة لهذه لأنه معلول لتلك فيكون مسارنا المعرفي عكس مساره الوجودي الذي نفترضه ولا نعلمه .وهذه العملية المربعة هي جوهر العملية الأصلية أي عملية فعل الترميز أو الوسميات التي هي المسالة الموالية في محاولتنا والتي أجلناها حتى نقدم لها بهذا البحث في مسألة الجهات المنطقية أي الممكن أبو يعرب المرزوقي 62 الأسماء والبيان
-- بالذات أو واجب الوجود والممكن بالغير أو الكونتجن وهو ما صار موجودا بفعل فاعل والممتنع بالذات واجب العدم والممتنع بالذات وهو ما حيل دونه والوجود بعلة سالبة. ولا أنكر أن هذا البحث شديد التعقيد ولست واثقا بأني وفيت الأمر حقه لكني حاولت قدر المستطاع بيان مناط الإشكال في دلالة الإمكان المطلق الذي يقابل الامتناع المطلق فلا يستثني وجوب الوجود ووجوب العدم بمعنى الحضور والغياب مثولا أمام الذهن والترميز لأتحرر من الدلالة الملتبسة التي تقابل الإمكان النسبي مع الامتناع النسبي أي ما يحتاج إلى تعليل بالغير في الحالتين ويحول دون فهم معنى الامكان والامتناع الأعمين لأنهما إمكان وامتناع بالذات إذا أردنا أن ننظر في المفهومات نظرة معمقة ولا نقتصر على الفهم الأولي الذي يسلم بالحاجة إلى علة أجنبية على الشيء في ذاته فيصبح كل شيء مسبوقا بعلة متقدمة عليه ليست من جنسه فلا يكون لوجوده إن سلمنا بإسقاط المفهوم على الوجود ما يجعله موجودا بذاته وحينها يستحيل الكلام على إله أو حتى على شيء معلول. يمكن الآن أن اعتبر الأرضية كافية للكلام في الوسميات ولم هي ذات بنية مخمسة تبعا لما تريد الترميز في نظرية المعرفة بمقتضى المعاني الكلية التي لا بد منها للنظر والعقد وفي نظرية القيمة بمقتضى المعاني الكلية التي لا بد منها في العمل والشرع .وقد بينت في الفصل السابق أن المعاني الكلية النظرية والمعاني الكلية العملية متفاعلة في الاتجاهين: .1فمحاولة بناء علوم العمل والقيمة في الثانية بالقياس إلى علوم النظر والمعرفة في الأولى هو سر قياس علوم الإنسان على علوم الطبيعة ومحاولة الوصل بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان في حلول كان الألمان يحاولون علاجها بوصف الأولى علوم الطبيعة Naturwissenschaftوالثانية علوم الروح Geisteswissenschaftلما في الثانية من بعد الوعي بالأولى في علاقة هي علاقة الحرية الشرطية بالضرورة الشرطية كما بينا في غير موضع. .2ومحاولة بناء الفنون التشكيلية للمكان (الرسم والنحت والعمارة) والفنون التشكيلية للزمان (الموسيقى البسيطة والمركبة ) ودورهما في كل الفنون التمثيلية والأدبية أبو يعرب المرزوقي 63 الأسماء والبيان
-- بالاعتماد على علاقة الأولى بالثانية هو سر كل الثورات الفنية والجمالية في الحضارات الإنسانية التي تجاوزت الابداع الغفل والفنون البدائية. وكل ما أعيبه على علوم الملة وعلى فنونها هو غياب هذين التأليفين اللذين يترتبان على رؤية في المعاني الكلية بوصفها تحررا من علوم الإنسان وفنونه التي تحاكي الطبيعة بدلا من أن تكون نماذج لها كما يقتضي فهم القرآن الذي يقدم سياسة عالم الغيب مقياسا مثاليا لسياسة عالم الشهادة .ولعل افضل مثالين في هذه العلاقة أمران: .1الأول هو العلاقة بشروط الحياة السوية التي يكفي لفهمها تصور وصف الجنة وما فيها من خصائص البيئة الطبيعية والروحية. .2الثاني هو العلاقة بشروط التعايش بين الناس أو نظام العدل الذي ليس له مثيل والذي يكون كل كيان الإنسان شاهدا عليه. ففي ذلك رمز الرد على صورة الإنسان التي احتجت بها الملائكة على استخلافه في الأمثولة القرآنية التي عرضت مشهد الاستخلاف وتشكيك الملائكة في أهلية آدم بوصفه سيفسد في الارض عكس الأول هنا وسيسفك الدماء عكس الثاني هنا وتجاوز اعتراضهم بتمكين آدم من قدرة ذات علاقة بموضوعنا أي القدرة الترميزية أو تعليمه الأسماء كلها. أبو يعرب المرزوقي 64 الأسماء والبيان
-- أشرع في الكلام على مراجعة التثليث الوسمي أو نظرية الوسميات -السيميوتكس- انطلاقا التثليث البيرسي في تأسيس نظرية الرمز وأساسها الوجودي أو العوالم الثلاثة. وطبعا فلهذا العرض علاقة بما ورد في الفصول السابقة وفي علاقة بالرؤية التي تعتبر المعاني الكلية رموزا للأشياء وليست مقومات لها سواء تعلق الأمر بالمعرفة أو بالقيمة. فالنظرية البورسية التي تعتمد على التثليث ليست كافية وهي بحاجة إلى معنيين آخرين. فالحد الأدنى للفاعلية الرمزية لا يمكن أن يقل عن خـمسة عناصر تشبه أجناس أفلاطون لكنها مختلفة عنها لأن المقدرات الذهنية كما أسلفت ليست مقومة مثل أجناس أفلاطون بل هي مجرد رموز لمداركنا وتعاملنا الذهني مع الوجود الذي نجهل حقيقته ونكاد نرده إلى الحضور والغياب مثولا أمام إدراكنا أو عدم مثول. وهذه العناصر الخمسة تتألف من أصل وأربعة فروع تتفرع عنه ككل تخميس كما نبيه في الفصلين الأخيرين من هذه المحاولة عندما نتكلم على الفرد من بنيته المرتسمة في كيانه كما يرمز إليها وهي ما اصطلحت على تسميته بالمعادلة الوجودية ثم الجماعة ال ُمنْصَوِرة في دولة هي عين المعادلة السياسية لنختم بالمعادلة الوجودية التي تعيدنا إلى الفردية في شكل هذه المعادلات وكلها تتعين في معادلة الترميز لعدم درايتنا بالحقيقة الوجودية التي نترجم ما ندركه منها بالترميز: فالشيء الذي يؤدي دور الرامز له دائما التفاتان أو وجهان وهو إذن علاقة بين عالمين أحدهما هو عالم التفاته إلى نظامه والثاني هو عالم التفاته إلى ما يناظر نظامه في النظام المرموز .والالتفات الأول إلى عالم المعنى الرامز الذي ينتأ عليه العنصر الرامز بمقتضى نظام ذلك العالم الرامز فيكون العنصر رامزا بمنزلته فيه وليس بذاته. فالشيء الذي يؤدي درو المرموز له دائما التفاتان أو وجهان وهو إذن علاقة بين عالمين أحدهما هو التفاته إلى نظامه والثاني هو عالم التفاته إلى ما يناظر عالم الرمز. أبو يعرب المرزوقي 65 الأسماء والبيان
-- والالتفات الثاني إلى عالم المعنى المرموز الذي ينتأ عليه العنصر المرموز بمقتضى نظام ذلك العالم المرموز يكون العنصر المرموز إليه مرموزا إليه بمنزلته فيه. والشيء الذي يؤدي دور المرموز له التفاتان أو وجهان وهو إذن علاقة بين عالمين أحد الالتفاتين لنظامه والثاني لنظيره في النظام الرامز فيكون مرموزا بنتوئه على نظام المرموزات المحيلة إلى نظائرها في نظام الروامز مثلما رأينا ذلك في نظام الروامز بالنسبة إلى نظام المرموزات. وهذه هي الفروع الاربعة التي يتألف منها الترامز المتبادل بين النظامين بإنتاء أحد عناصر النظام الأول ليكون مناظرا لنظيره في النظام الثاني في التفاتين ومن ثم فنحن أمام التفاتين كلاهما مضاعفة .ويكون معنى التناظر بين النظامين هذا هو الحد الأوسط بين الالتفاتين الرامزين والالتفاتين المرموزين في تعين واحد هو فعل الترميز الذي هو رمز كيان الإنسان ذاته إذ ينتأ هو بدوره رامزا ومرموزا على مجال فعل الترميز في الجماعة المتواصلة بوصفه ذا تعين ثقافي تصبح الطبيعة فيه أحد اجزاء الكينونة الثقافية أي العالم الرمزي ككل. من ذلك مثلا أنك لا يمكن أن تعدد معنى لفظ في العربية من دون كل المعجم العربي ولا تحدد ما يناظره في ما تحيل عليه ألفاظ العربية من دون كل دلالات المعجم العربي .فيكون عندك أبعاد أربعة في فعل الإفادة الرمزية في اللغة أي لغة ويكون الاصل هو البعد الخامس أو التناظر بين النظامين ارضية أولى ينتأ عليها الرامز في اللغة مثلا وأرضية ثانية ينتأ عليها في ما تحيل عليه اللغة المرموز إليها بها وهذا التناظر بين العنصرين الناتئين على الارضيتين هو الأصل وهو عن الإنسان من حيث فاعل للرمز في الجماعة المتواصلة فيكون الترميز مخمسا: .1فالعالم الرامز هو مجموعة من الظاهرات الثقافية والطبيعية التي ينتخب منها بعضها ليشكل حتى يصبح رامزا .Representemen أبو يعرب المرزوقي 66 الأسماء والبيان
-- .2والعالم المرموز هو كذلك مجموعة من الظاهرات الثقافية والطبيعية التي ينتخب منها بعضها ليشكل حتى يصبح مرموزا .Object .3وبين العالمين رامز مرموز في آن وهو المؤول Interpretant .4وبينهما كذلك مرموز رامز في آن هو التأويل. .5الحد الأوسط أو المرآة التي تشبه وجهي جانوس هي هذا التناظر بين العنصرين الناتئين على الأرضيتين بفضل هذين الالتفاتين لكل من الرمز ومن المرموز .وهذا التناظر الواصل بين العالمين اللذين هما وجها الترميز المتناظرين هو علة ا لحاجة لتجاوز ثلاثية بيرس .وهذا التناظر حد أوسط بين العالمين ومنه تستخرج قاعدة التأويل .وهو أصل العناصر الأربعة رغم كونه يبدو تاليا عنها. لكنه هو فعل الترميز نفسه من حيث هو شرط التواصل في الجماعة المتواصلة لتي تشترك في قاعدة التأويل التي هي \"كود\" تقسيم المجال إلى وجهين معتبرين منه ويبرزان عليه بروز النغمات والحروف على المتصل الصوتي أو بروز الأشكال على المتصل المكاني: .1المعنى الدال ويتعين في مادة أو فعل ما لحمل الرامزية أيا كانت. .2المعنى المدلول ويتعين في مادة أو فعل ما لحمل المرموزية أيا كانت. وكلاهما ينتأ على أرضية هي .1نظام المعاني الرامزة .2ونظام المعاني المرموزة. .3والنتوء في الحالتين يكون من جنس نتوء الصورة على أرضيتها ويتصل به اتصال اللفظ بسياقه فيكون للرمز سياقان هما :مرجع الرامز وهو الثقافة ككل بوصفها رامزة لذاتها من حيث هي فاعلية لفعل الرمز بمعنى أنها من جنس النصبة الفاعلة التي هي في آن رامز ومرموز .وهو مرجع المرموز وهو الثقافة بوصفها مرموزة في منزلة منعفلة بفعل الرمز بمعنى أنها من جنس النصبة المنفعلة التي هي في آن مرموز ورامز. أبو يعرب المرزوقي 67 الأسماء والبيان
-- وهو الذي يوحد المعاني الكلية التي هي ما به يتصل الإنسان بالعالم وما بعده من حيث هو نظام ترامز ولا يستطيع علم ما وراء نظام الترامز إلا بفصله عن هذا العالم الرمزي- وهو معنى المتعالي عند هوسرل -فيعتبره ذا وجود قائم بذاته لا يقبل الرد إلى العالم الرمزي .فتبقى المسافة الفاصلة بين عالمين أحدهما هو صورة العالم في النظام الرمزي والثاني ما وراءها الذي يبقى مجهولا مهما تقدم النظام الرمزي للعبارة عنه وعما يدركه منه. وتلك هي العلة التي تجعل الإنسان سجين نظام آيات تحيل إلى ما عداها الذي لا يرد إليها ولا يستطيع الإنسان منه فكاكا من هذه العلاقة بين عالمين عالمه الذي يمكن وصفه دينيا بعالم الشهادة وعالم يعتقد في وجوده ولا يستطيع النفاذ إليه ويمكن وصفه دينيا بعالم الغيب .وهذا التمييز لا يتعلق بالعالمين فحسب بل يتعلق كذلك بـالذات الرامزة نفسها إذ هي لها عالمان في ذاتها من حيث هي عين فعل الترميز وعين ما ورائه .وهي عين فعل الترميز ليس من حيث هي فاعلة ولكن كذلك من حيث هي منفعلة أي من حيث هي رامزة لذاتها ومرموزة لذاتها كذلك. وهذا التمييز بين الوجهين ليس تمييزا تحكميا بل إن ذلك مرده إلى أن ما يفيد به الرمز في حالة الذات من حيث هي مد َركة لذاتها ومن حيث هي مدرِكة ولذاتها مناظر لعلاقة الذات بما عدها رامزا ومرموزا .والتناظر بين الوجهين المتقابلين هو أساس الإفادة الدالة على تناظر ما بين المرجعين مرجع الرامز ومرجع المرموز أي ما وراء وجهي الترميز .ومن ثم على وحدة مجال المعاني ككل بوصفه العالم الذي يحيط بالإنسان من حيث هو الفاعل والمتلقي في آن .وإذا أردنا أن نفهم لماذا نفعل ما نفعل ننظر في ما يفيد به الرمز معبرا عن حال الذات وإذا أرادنا أن نفهم كيف نفعل ما نفعل ننظر في ما يفيد به الرمز معبرا عن قصد الذات لما تفعل في الرمز ما تريد فعله في الموضوع. فـمـاذا يمكن أن تكون وجوه الترميز إذا تجاوزنا مثلث بيرس؟ فمثلت بيرس مؤلف من القرينة-اي الرمز الذي يقترن الرامز والمرموز فيه اقترانا ضروريا مثل الدخان والنار أبو يعرب المرزوقي 68 الأسماء والبيان
-- بعلاقة السببية كعلاقة نعتبرها موضوعية بينهما لا دخل للذات في ما بينهما من اقتران ومن نوعين آخرين هما الرمز في شكل \"النصبة (من الانصاب)=الايقونة\" وأساسه الاستعارة بوجوه شبه ما والكناية من جنس تعادل الميزان نصبة للعدل وهي من اختيار الرامز ثم الرمز القانون وهو كذلك من وضع الرامز وكلاهما يحتاج إلى رابط خارجي هو الذي يجعله يؤدي هذه الوظيفة يعود إلى الوصل الذاتي بالاستعارة أو بالكناية وليس إلى الاقتران الموضوعي. وهذا بين بالنسبة إلى الرمز القانوني وهو لا يحتاج إلى كبير بيان بالنسبة إلى النصبة. فالشبه والعلاقة العلية المتعددة لا يكفي للربط بين الشبيهين أو المتلازمين إلا بالوعي المدرك لأوجه الشبه ولأوجه الفعل والانفعال ..أما القرينة فهي تواصل بين القرينين بفعل أحد القرينين في الثاني .فعلا ضروريا .وإذن فلا بد من مضاعفة النصبة والرمز. وتلك المضاعفة هي التي تعطينا مستويي التمثيل الذي هو جوهر الرمز: .1فالقرينة بمعنى الاقتران الطبيعي بين الرامز والمرموز يتلازم فيها الرامز والمرموز طبيعيا تلازم النار والدخان .وتحاكيها النصبة التي تعتمد إما على وجه الشبه بين الرامز والمرموز. .2ويحاكيها نوع أول من النصبة لوضع الرموز الاختيارية باعتماد الكناية .فالنوع الأول من النصبة يقارن الرابط بين الرامز والمرموز وليس الرامز والمرموز ومثاله الميزان والعدل .فالعلة في المضمرة هي المساواة بين الكفتين ورمزها تعادل الكفتين والمساواة بين المتخاصمين ورمزها تعادل الخمسين. .3والرمز القانوني المتواضع عليه معناه ليس منه بل هو من صنع التواضع بين المتواصلين وهو اقتران بالعادة بين رامز ومرموز كأي قانون علمي. .4ويحاكيه نوع ثان من النصبة لوضع الرموز الاختيارية باعتماد الاستعارة .فالنوع الثاني يقارن الرامز والمرموز مباشرة اعتمادا على وجه الشبه بينهما ومثاله النوع الثاني من الأيقونات التي هي صورة المرموز. أبو يعرب المرزوقي 69 الأسماء والبيان
-- .5والأصل هو هذا المبدأ الذي يؤسس للتعدية بين النظامين الرامز والمرموز وهو إما الكناية أو الاستعارة أعني إما الشبة بين نتيجة علة مفترضة بين الرامز والمرموز إما طبيعية أو وضعية أو الشبه بين الرامز والمرموز مباشرة .وتلك هي علة إمكانية الإشكالية المتعقلة السببية كما وضعها الغزالي برد الأولى إلى الثانية معتبرا الاقتران الطبيعي هو بدوره عادة يمكن عقلا تصور عدم حصولها في حالات معينة. لذلك فالاستعمال الرمزي للقرائين ليس إلا اختيارا لبعضها واعتبار الثابت منها طبيعيا والمتغير اختياريا أو وضعيا .والطبيعي قليل في الترميز لأن الـمواضعات الغنية عن الترابط الطبيعي بين الرامز والمرموز هي الأكثر استعمالا في الترميز الإنساني دون حاجة إلى وجوه شبه كالتي في النصبة أو الأيقونة .وإذن فعندنا ثلاثة أنواع من الرموز بلغة بيرس: .1القرينة وتعتبر اقترانا طبيعيا بين الرمز والمرموز كالنار والدخان .2الأيقونة الاستعارية (النصبة المعتمدة على تشابه الرمز والمرموز) .3الأيقونة الكنائية (النصبة المتعلقة المعتمدة على تشابه العلة) .4المواضعة مطلقة الاختيار للاستغناء عن الثلاثة السابقة وتلك هي العلاقة القانونية بين العبارة العلمية وموضوعها. والأول والأخير غنيان عن المشابهة وهما يتعلقان إما بالغني عن المحاكاة بالطبع أو بالوضع .والأوسطان هما المبنيان على تشابه الرمز والمرموز أو تشابه علتهما وتلك هي علة تقدم الكتابة التصويرية أو الرسم والعبارة التصويتية في اللغات على الكلام العادي الذي هو مستوى ثان لأننا بينا أن الكتابة رسما والتنغيم صوتا متقدمين على اللغة (بشرط أخذها بمعنى الرسم والموسيقى أي الرسم في المكان والتنغيم في الزمان .وقد أضفنا الحد الأوسط الذي له التفاتان في الرامز الناتئ على ارضيه النظام الرمزي والمرموز الناتئ على أرضية النظام المرموز .وهذا هو سر الترامز بين عناصر النظامين بالتناظر الذي وصفنا .وبذلك تصبح مستويات الترميز خمسة وليست ثلاثة كما في رؤية بيرس: .1العنصر الرامز بالإضافة إلى نظامه بنتوئه عليه. أبو يعرب المرزوقي 70 الأسماء والبيان
-- .2والعنصر المرموز بالإضافة إلى نظامه بنتوئه عليه. .3والعنصر الرامز بتناظره مع العنصر المرموز. .4والعنصر المرموز بتناظره مع العنصر الرامز. .5وبالإضافة إلى التناظر الشامل لكل للعناصر الأربعة وكأنه الارضية الشاملة المنظمة للفروع الاربعة أي النظامين والنتوئين. فبالإضافة إلى ذاته يمكن ذكر هذه المستويات وهي في نفس الوقت مراحل نشأة الترميز: .1تنصب ذاتي للإنسان (ومنه التعبير المسرحي) .2نصبة خارجية (كل الأنصاب) .3رمز تمثيلي (التعبير بالإسقاط\" :جراف” أي شكل ممثل مثل خارطة الأرض) .4ورمز تجريدي (التعبير بالقوانين :بارادايم) .5وأخيرا الرمز التام .وهو متضمن لكل هذه الأبعاد لأنه هو الوضعية الحية نفسها التي تكون رامزة لذاتها بشرط اعتبار الإدراك الرمزي غارقا فيها مع تعاليه عليها وعيا بها .وهذه الوضعية هي البداية والغاية لأنها هي عين الوجود ككل من حيث هو رامز لذاته وفيه يسبح الإنسان .وذلك هو المجال المقسوم أو عالم الخطاب المطلق. ومن هذا المجال الشامل تتمايز المستويات السابقة بفعل هذا التعالي الذي هو أصل التقسيم إلى رامز ومرموز وعلاقة بينهما في الاتجاهين تتوسط بين العالم المدرك بوصفه خارجيا والذات في الاتجاه من الجسد إلى النفس وبين العامل المدرك بوصفه داخليا والذات في الاتجاه من النفس إلى الجسد (ويتحد الكل في الإنسان من حيث هو جسم ونفس متفاعلان وينتأ الإنسان على هذا المجال المقسوم نتوء الصورة على أرضيتها) بدءا بأولها الذي هو قص بالتمثيل المسرحي لغير الحاضر من الوضعية العامة لحياة الجماعة معا :كأن يحكي أحد ما رأى خارج الجماعة في خروجه للصيد مثلا دون أن يكون قادرا على التعبير عما رأى بلغة ما زالت لم تحصل بعد فيمثل لهم ما يريد أن يحكيه لهم .وإذن فالتعبير أبو يعرب المرزوقي 71 الأسماء والبيان
-- المسرحي متقدم على اللغة وهو ما سميناه التعبير الراقص بالجسم كله قبل تمايز الوظائف التعبيرية (انظر كتابنا الشعر المطلق). لذلك فإننا نرى من الواجب أن نعدل نظرية بيرس رغم صحتها المبدئية لنراجع رأيه في أبعاد الرمز الثلاثة بمستوياتها الثلاثة واستبدالها بنظرية تبين أن أبعاد الرمز خمسة وكذلك مستوياته .فبيرس يقتصر على أبعاد ثلاثة لأنه رغم ما عرف به من حرص وصرامة ودقة أغفل ازدواج طبيعة الرموز التي أشار إليها رغم أنه أورد النوعين. فالقرينة هي من الرموز الفاعلة بذاتها .أما النوعان الآخران أي \"النصبة الايقونة\" بصنفيها والرمز القانوني فهي لا تفعل إلا بفعل غيرها .وكان ينبغي أن يأتي بنظيريهما اللذين يفعلان بذاتهما وهما يوازيان الصنم والرمز القانوني .فإذا كانت القرينة تعمل بذاتها في وظيفة الرمز فإن الصنم والرمز اللذين أرودهما بيرس لا يفعلان بذاتهما بل بإدراك الذات. والنظيران الفاعلان بذاتهما يمثلهما سلوك الذات الذي يكون رامزا رمزا يفعل بذاته ولا يحتاج إلى إدراك خارجي ليكون رامزا تماما كما هي حال القرينة [ .]13فالصنم الذي يرمز بذاته هو قدرة الإنسان على التصنم أو التعبير بالتمثيل والمحاكاة .إنه التعبير المسرحي الذي لا يكون ممكنا من دون تجرد الممثل من حاضر ذاته ليمثل الماضي (حكاية ما حصل) أو المستقبل (حكاية المتوقع). ولهذا الفعل علاقة اقتران تجعله مثل القرينة رامزا فعلا لا بمقتضى إدراك خارجي: التصنم الحي هو أصل الصنم والأول رامز بذاته مثل القرينة عند النظر إليه من خارجه. لكن القرينة هي التي تقاس عليه في الحقيقة مع نفي الوعي عن فعلها .لذلك فإن فعلها موضوعي ورمزيته توظيف من الغير لهذا الفعل. والرمز القانوني الذي يرمز بذاته هو قدرة الإنسان على تجريد الأشياء أو تمييزها عما يحيط بها ليبرزها على أرضية هي كل ما عداها في همه بها وتلك هي العلاقة المضاعفة أبو يعرب المرزوقي 72 الأسماء والبيان
-- التي يرد إليها كل قانون :العلاقة بالهم وهي أساس النسق المحدد لمنظور التجريد والعلاقة بين الناتئ والأرضية وهي نسب الأشياء فيما بينها في النسق. والرمز القانوني أصله نوع من التحول إلى منظور اختيار معنى يؤدي دور مغناطيس ترتيب للأشياء بالإضافة إلى هم معين للذات .وهذا الهم المعين الذي تنتظم به الأشياء في نسق هو الترمز القانوني الفاعل :وهو قوة واعية أو فاعلية عائدة من الهم الذي يصبح غاية إلى شروطه التي تصبح وسائل موصلة إليها .ولا معنى للرمز القانوني بالمعنى الذي يتكلم عليه بيرس من دون أن يتقدم عليه هذا الرمز القانوني الحي الذي هو تر ّمز وليس ترميزا. وفي الجملة فإن النوعين الآخرين بعد القرينة مضاعفان :فلكل منهما شكل فعلي حي وشكل هو ثمرة ذلك الفعل أو ذلك الفعل نفسه بعد أن يصبح متعينا خارج الفعل. والشكلان الفعليان الحيان غير ثمرتيهما من حيث الوظيفة الرمزية .ذلك أن الشكلين الأخيرين لا يصبحان رامزين إلا بالعودة إلى الشكلين الأولين أي إن كل قارئ للرموز المتعينة خارج فعل الترميز الذي أنتجها لا يدرك الرمزية فيهما إلا بفعله لهما الصنم بالتصنم حقا أو افتراضيا تمثيلا أو تصنيعا والرمز القانوني بالترمز القانوني بنوع من الاستبطان. وبذلك يكون شرط كل الشروط بروز الذات قبالة كل ما عداها في هذين الدورين من الترميز الحي أعني: .1التجرد للتنصب وكأنه هو ذاته رمز لمعنى (ويسميه المترجم العربي الأول لكتاب الشعر بالنفاق ويسمى عند اللاتين بالشخص أو القناع \"ماسك\" أي أداء دور لا تكون فيه الذات إلا فاعلا رمزيا أي متنصبة (من النصبة وجمعها الأنصاب) للإبلاغ وليس حية لذاتها لكأن الذات صارت أداة تواصل مقصود لا غير. .2والتجريد للترمز القانوني (وفيه يصبح الإنسان مجدر منظور تنتظم الأشياء بحسب همه الناظر من خلاله إليها) .وهما أصل كل الفاعلية الترميزية الموضوعية التي أبو يعرب المرزوقي 73 الأسماء والبيان
-- أولها القرينة لأنها ترميز ذاتي للشيء الرامز (العلاقة بين المقترنين علاقة موضوعية ومن ثم فهي رمز حي ولكن في الموضوع وليس في الذات) ثم يضاف إليها الصنم والرمز القانوني الفاعلين بالمواضعة وعند الإدراك. ولولا هذين الفعلين الرامزين لامتنعت أنواع الرمز الثلاثة التي اكتشفها بيرس والتي توجد خارج الذات .فلا يمكن للصنم أن يرمز بالشبه ولا يمكن للرمز القانوني أن يرمز بالعلاقة القانونية من دون قدرة الإنسان على الرمز بالتجرد الممكن من المحاكاة شرطا في السرد الأسطوري والرمز بالتجريد شرطا في الطرد النظري وهما معا شرطا إنتاء الأشياء ليكون ما ينتأ منها على أرضية بقية الموجودات رمزا لها وذلك هو القانون كرمز فاعل وليس كمجرد رمز ميت. فتكون أصناف الرموز خمسة: .1أصلها جميعا هو فاعلية التجرد الممكنة من التعبير بالمحاكاة أو الصنم الحي بالمقابل مع الصنم الميت عند بيرس. .2ثم فاعلية التجريد الفاصلة والواصلة بين الأشياء في الذات الرامزة وهي الرمز الحي بالمقابل مع الرمز الميت عند بيرس. .3ثم القرينة الرابطة بين شيئين في الموضوع (وهي في الحقيقة مفهوم القوة) .4ثم النصبة بنوعيها الاستعاري والكنائي. .5ثم الرمز القانوني أو المواضعات التي تتحدد بقانون الوضع. والسؤال الآن هو :هل لنقدنا هذا علاقة بما أطلقنا عليه تضمن القدرة الترميزية على مستويين حدين ومستويين يصلان بين الحدين في الاتجاهين ومستوى جامع بين المستويات السابقة هو الوضعية الرمزية كلها عندما يتطابق المستويين الحدين في وحدة تامة هي الانغماس الكلي للحد الأول في الحد الثاني؟ أبو يعرب المرزوقي 74 الأسماء والبيان
-- ولنجب بإيرادها في ترتيب مقلوب يوضح أهمية ذلك لأن آخرها هو أولها في الحقيقة وبمقتضى تكوينية الترميز بوصفه فاعلية إنسانية ثم يتوالى الترتيب فيكون الرابع هو الثاني والثالث يبقى حيث هو والثاني هو الرابع والأول هو الخامس والأخير: )5=( .1مستوى الترميز الحي ويكون فيه الرامز والمرموز شيئا واحدا هو كيان الإنسان نفسه حيث يكون الجسم دالا والمعاني التي في النفس مدلولا ومثاله البين هو ما يسمى بالتعبير الجسدي. )4=( .2مستوى الترميز الميت ويكون فيه الرامز والمرموز شيئين مختلفين أحدهما هو نوع من الموجودات اختيرت لتؤدي وظيفة الدال والثاني هو نوع من الموجودات اختيرت لتؤدي وظيفة المدلول .وكلاهما رمز .ولذلك يمكن لهما تبادل الأدوار فيصبح الدال مدلولا والمدلول دالا لا إلى غاية. )3=( .3أثر المستوى الأول في المستوى الثاني :وهو دور التعبير الفردي المغذي للمستوى الثاني. )2=( .4أثر المستوى الثاني في المستوى الأول :وهو دور التكوين الجمعي المغذي للمستوى الأول. )1=( .5والتناظر بين ما في الذهن وما في العين أو التناغم بين الثقافة والفكر الإنساني بكل أبعاده هو الوسط الذي يوجد فيه الإنسان وجود السمك في الماء ولا يمكن للإنسان أن يكون متصلا بالطبيعية أي حتى بذاته من دون هذا الوسط الرمزي الذي يعيش فيه ولا يستطيع الخروج منه. أبو يعرب المرزوقي 75 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى المرحلة قبل الأخيرة .وهي مثلها مثل المرحلة الأخيرة مخصصة لإثبات أساس التخميس في رمز الرموز أعني في المعاني الكلية التي هي عين ما به نرمز إلى كيان الإنسان دون فصل بين بعديه الطبيعي (بدنه) وبعده الذي نجهل حقيقته (روحه). فالإنسان السوي من المنظور العادي كائن واحد .وقد يدرك البعض أنه مؤلف على الأقل من عنصرين يعلم بعض أحدهما أي ما يسيمه بدنه ويجهل جل الثاني أي ما يسميه روحه. لكن ما أن يشرع الإنسان في النظر في ذاته حتى يحتار فلا يدري هل البدن هو ما يعلم من روحه؟ أم الروح هي ما يجعل من بدنه؟ أم هو لا هذا ولا ذاك بل لعله شيء آخر وراء هذه الثنائية التي حيرت العقول .وسرعان ما يقفز إلى التثليث .فيكون الإنسان توليفة (سنتاز) تحصل من الصراع الدائم بين بدنه ورحه .فيرتاح خاصة إذا سمع تخريف بعض المفاخرين بتقدم القرآن على فرويد بكلامه على ما يسمونه النفوس الثلاثة الأمارة واللوامة والمطمئنة .ويزداد اطمئنانا عندما يبحث عن مطابقة مع ما يعتبره الحداثيون علما لدنيا أي الرؤية الداروينية للإنسان فيبحث المتحادث من خرافي تفسير القرآن عن الفرق بين آدم البشري الذي هو من تطور القرود وآدم الإنساني الذي استخلف .وهلم جرا من التخريف الدال على سذاجة القائلين بالإعجاز العلمي من باعة الكلام. ولما كنت قد بينت أن القرآن خال من الإعجاز العلمي وأن ما يسمونه اعجازا علميا هو دليل الجهل بمعنى العلم وبمعنى الأعجاز وبنفي القرآن لإمكانية تضمنه الإعجاز لعلتين واردتين فيه: .1فهو تذكير والتذكير يتعلق بمعلوم وليس بمجهول والمعلوم الذي يذكر به لا يمكن أن يتضمن الغيب لأن القرآن صريح في أن الغيب محجوب على الإنسان عامة وحتى على الرسل. .2والقرآن رسالة ولا يمكن للرسالة أن تبقى رسالة من مرسل عاقل إذا تضمنت ما لا يفهمه المرسل إليه العاقل .والإعجاز هو بالطبع ما لا يفهم على الأقل قبل ظهوره. أبو يعرب المرزوقي 76 الأسماء والبيان
-- لذلك فينبغي أن نعترف بأن الإنسان ليس واحدا إلا من حيث هو أصل غيبي يوحد ما يتجلى منه من علامات هي معان كلية ترمز إليه دون أن تكون مقومة لأننا لا ندري ما هو وما مقوماته فعلا لأنه إذا كان واحدا ح قا فقد يكون كما أسلفت روحا نعلم منه بعده البدني أو بدنا نجهل منه بعده الروحي .فوحدة الفرد الإنساني بل ومفهوم الفردية كلاهما معنى ديني وليس فلسفيا .فلسفيا الإنسان نصف كائن وليس كائنا كاملا -انظر قصة أفلاطون في الأمر-وهو خاضع للضرورة الطبيعية وليس حرا ومن ثم فكل ما يقال عن الفرد هو بالجوهر ديني وليس فلسفيا. وبصرف النظر عن هذا اللغز المحير سأكتفي باستعمال المعاني الكلية في دلالتها التيمية فاعتبر أن البعد البدني والبعد الروحي بعدان متفاعلان وهو ما يعيشه أي إنسان سواء كان ساعيا لفهم اللغز أو حتى في غفلة أعني التمييز بين ما يدركه بحواسه الخارجية وما يدركه بحواسه الداخلية أو ما ينسبه إلى ما يتلقه من خارج ذاته وما يتلقاه من ذاته بدنيا معينا في جوارحه ومناطق من بدنه وما يتلقاه من داخله مما يمكن أن ينسبه إلى بدنه من تعبير عن حاجاته وما ينسبه إلى الوعي بهذين التلقيين اللذين يميز بين ما يمكن أن يعتبر بدنيا وما يمكن أن يعتبر من طبيعة مختلفة لأنه لا يرد إلى الحواس .ثم يشعر بأن هذين البعدين يتفاعلان في الاتجاهين: .1فالبدن يبدو وكأنه يأمر ما ليس بدنيا منه ويُؤمر منه وكأنه المعلوم من كيان الإنسان الواحد المجهول أو وحدته الروحية. .2وما ليس ببدني يبدو كذلك يأمر البدني منه ويُؤمر منه وكأنه المعلوم من كيان الإنسان الواحد المجهول أو وحدته البدنية. فيصبح مؤلفا من أربعة عناصر العنصرين الناتجين عن التفاعل بين البدن والروح وقبلهما البدن والروح وكلاهما مجهول في الحقيقة وخاصة ما بينهما من علاقة إذا اعتبرناهما شيئين مختلفين وليس وجهين من نفس الشيء .وكل ذلك في وحدة ذاته التي يشعر بها والتي يسميها \"أنا\" ويشعر أنها تحيط بتفرعاتها هذه مع الوعي ببقاء الذات الواحدة لغزا غير أبو يعرب المرزوقي 77 الأسماء والبيان
-- مفهوم خاصة وأنه يمكن أن نعتبر البدن هو المعلوم من الروح أو الروح هي المجهول من البدن. وبين أن حدي الذات البدن والروح أو الأنا وتفاعليهما هي كذلك غير مفهومة أربعتها أو غير معلومة الطبيعة ومن السذاجة ردها إلى ما يرمز إليها وكأنه مقوم لها .ومع ذلك فالإنسان يشعر بأنه ذات واحدة مختلفة عن كل ما عداها يتجلى لذاته بهذه العلامات التي ترمز إليه من حيث هو ذات وقد يعرف نفسه بها وكأنها مقومه لكيانه رغم أنه يجهل كيانه ويجهل العلاقة بين هذه التجليات الرامزة لكيانه وكيانه. ولا يمكن لأحد أن ينكر أن الفرد الإنساني الذي هو لغز الألغاز بالنسبة إلى الذات نفسها من داخلها وإلى غيرها من خارجها يتجلى لنا بما يعرض به أمام إدراكنا من رموز هي خمسة أفعال لها أسماء معلومة هي المعاني الكلية التي ترمز إليه من حيث هو فرد متفرد بها وتنسب إليه دون سواه وهو بنها يكون مختلفا عن كل فرد آخر بأمور لا يمكن ردها لكيانه البدني ولا لكيانه اللابدني ولا ندري حقيقتها ما هي وهي التي يتحمل مسؤوليتها في الحياة الاجتماعية والسياسية والقانونية في الدنيا ومن يؤمن بالأخرى يعتبره كذلك مسؤولا عنها: .1المعنى الكلي الأول هو الإرادة :وهي الرغبة في ما يرغب فيه والرغبة عما يرغب عنه من الأشياء والأفعال المتعلقة بذاته وبما يلي من المعاني الكلية في هذا الحصر الجامع المانع. .2المعنى الكلي الثاني هو الإدراك :وهو الوعي بذاته وبما حوله وهو عين العلاقة بين منظوره في كل هذه الأفعال وهذه الأفعال في سعيه لمعرفتها والتمكن من قوانينها. .3المعنى الثالث هو القدرة :وهي فعلية ورمزها القدرة المادية سواء كانت قوة أو ثروة وذهنية ورمزية ورمزها القدرة الرمزية للتعبير عن القدرة سواء كانت أقوالا أو أعمالا معبرة عن القدرة الذهنية .ولهذه القدرة رمزان كونيان هما العملة أو رمز الفعل والكلمة أو فعل الرمز. أبو يعرب المرزوقي 78 الأسماء والبيان
-- .4المعنى الرابع هو الحياة :وهي الذوق المادي ورمزه المائدة والسرير والذوق الروحي ورمزه فن المائدة وفن السرير اللذين هما أصل كل الفنون الجميلة التي تعبر عن معناهما الروحي المتجاوز لتغذية البدن إلى تغذية الروح. .5المعنى الأخير هو الوجود :وهو الرؤية الشاملة لكل ما تقدم وغالبا ما تكون دينية أو فلسفية أو مزيجا منهما وهي الرؤية التي تمثل منظوره للإرادة والإدراك والقدرة والحياة وحتى للرؤية. ولا أعتقد أنه يوجد من ينكر أن قلب هذه المعاني الكلية التي نعرف بها الفرد هو المعنى الثالث أو \"القدرة” .فهذه هي التي يعتبرها الجميع الدليل الفعلي على فردية الفرد وبها يقاس ما يتفرد به الفرد لظهور ثمراتها في أفعاله ومفعولاته. ولكن لما كانت القدرة علتها الفاعلية هي ما تقدم عليها أي المعنى الأول (الإرادة) والمعنى الثاني (الإدراك المعرفي) وعلتها الغائية هي ما تأخر عنها أي المعنى الرابع (الحياة من حيث هي ذوق) والخامس (الوجود من حيث هو رؤية) فإن القدرة لا تمثل القلب إلا لأنها في الحقيقة الممثل الحقيقي للأولين من حيث هي ثمرتها بوصفهما علتها الفاعلة ومن حيث هي ثمرة الأخيرين بوصفهما علتها الغائية في كيان الإنسان كما ندركه دون أن نعلم حقيقة كون الأمر هو على تلك الحالة في ذاته أم هو في ما يبدو لنا منه. وبين أنه رغم أن جميع الأفراد لهم هذه العلامات التي يتفرد كل واحد بما له منها أيا كان القدر والتي ترمز إليهم رمزا يجعلنا نعرفهم بها فإنهم متفاوتون فيها .فالبعض تغلب عليه العلامة الأولى فيكون مميزه غلبة الإرادة على بقية العلامات لديه والبعض تغلب عليه العلامة الثانية وهذا إلى الأخيرة .ولهذه العلة فقد استعملت هذه العلامات معيارا لتصنيف النخب: .1فاعتبرت الأفراد الذين تغلب عليهم الإرادة منتسبين إلى النخبة السياسية لأنهم يبدعون أشكال إرادة الجماعة إذا كانوا سياسيين لهم بحق صفة الإرادة. أبو يعرب المرزوقي 79 الأسماء والبيان
-- .2واعتبرت الأفراد الذين يغلب عليهم الإدراك المعرفي منتسبين إلى النخبة العملية لأنهم يبدعون اشكال علم الجماعة إذا كانوا بحق لهم صفة البحث عن الحقيقة. .3واعتبرت الأفراد الذين تغلب عليهم القدرة منتسبين إلى النخبة التي تبدع شروط بقاء الجماعة المادية (الاقتصاد) والروحية (الثقافة) إذا كانوا بحق لهم صفة تحقيق أحد شرطي قيام الإنسان المادي والروحي. .4واعتبرت الأفراد الذين تغلب عليهم الحياة منتسبين إلى النخبة المبدعة للذوقين المادي (الغذاء والجنس) ولفنيهما وما يصحبهما إذا كانوا بحق لهم صفة تحقيق أحد شرطي التعبير عن فن المائدة وفن السرير. .5واعتبرت أخيرا الأفراد الذين يغلب عليهم إبداع الرؤى الدينية أو الفلسفية منتسبين إلى نخبة الرؤى الوجودية إذا كانوا بحق لهم صفة صوغ الرؤى الوجودية للعالم. ويترتب على ذلك أن أي جماعة تكون بفضل هذه النخب التي تتمايز فيها فطريا بحيث إن كل أمة لها هذه النخب حتما ومستوى الأمة يتحدد بهم وبما بينهم من تكامل حتى وإن كان الاكتساب يضيف إليها هذه المميزات ما ينميها ويطورها وكأنها فرد كلي نخبها تكون فيها مثل هذا الرموز في الفرد .فالجماعة بهذا المعنى من حيث هي جماعة سواء بمعنى الملة في الإسلام أو بمعنى الجماعة الروحية عند هيجل ليست جملة أفراد بل هي كيان شبه عضوي حي لا يقوم إلا بفضل وحدة هذه النخب أو بصورة أدق وحدة عمل هذه النخب في خمسة مستويات: .1في مستوى العلاقة العمودية بينها وبين الطبيعة في جغرافيتها خاصة وفي العالم ككل. .2في مستوى العلاقة الافقية بينها وبين التاريخ في تاريخها خاصة وفي تاريخ العالم ككل. .3في مستوى أثر العلاقة العمودية في العلاقة الأفقية أي الانتاج الاقتصادي الذي هو ثمرة التعاون وتقسيم العمل والتبادل الذي يمثل أهم إشكالية في الوجود الجمعي وقد أبو يعرب المرزوقي 80 الأسماء والبيان
-- يكون عامل تضامن وتعارف أو عامل حرب لا تتوقف كما في الرؤية الماركسية التي فيها وجه وصفي لما يحدث تحول إلى وجه تحريضي على حدوثه. .4في مستوى أثر العلاقة الأفقية في العلاقة العمودية أي الإنتاج الثقافي الذي يؤدي دور العلة الفاعلة لتحقيق القدرة وهو العلم وتطبيقاته والانتاج الثقافي الذي يؤدي دور العلة الغائية لتحقيق القدرة وهي الفنون وتطبيقاتها. .5والمستوى الأخير هو أصل كل هذه المستويات هو الرؤية الوجودية التي هي عين وعي الجماعة بذاتها بوصفها ذاتا لها علاقة عمودية بالطبيعة القريبة أي جغرافيتها والبعيدة أي العالم كله وعلاقة أفقية بالتاريخ القريب أي تاريخها والبعيد أي تاريخ الإنسانية .لكنها لا تكون رؤية إذا كانت علاقتها هذه بهما دون أن تكون اشرئبابا إلى ما ورائهما أي ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ .ولذلك فهذا المستوى هو مستوى الرؤى الدينية والرؤى الفلسفية وهما من طبيعة واحدة من حيث الغاية حتى وإن اختلفا من حيث الوسائل والمناهج. وحتى نفهم هذه العلاقة بين الرؤى الدينية والرؤى الفلسفية وخاصة بمنظور قرآني فإننا ينبغي أن نعود إلى \"قلب\" هذا المستويات كلها أعني ما يجعل الجماعة كيانا شبيها بالفرد من حيث العلامات الرامزة لكيانها دون تقويمه أعني الإنسان وما جهز به ليكون قادرا على التعامل مع العلاقة العمودية أو الطبيعة ومع العلاقة الأفقية أو التاريخ. فالفرد الإنساني لا يستطيع من حيث هو فرد علاج هذين العلاقتين بل لا بد له من الجماعة عضويا وروحيا بسبب عدم قدرته بمفرده حل مشكل الحماية مما يهدد بقاءه سواء كان من الطبيعة أو من التاريخ والرعاية بما يحتاج إليه لسد حاجاته العضوية والروحية. ومن ثم فالفرد متفرد من حيث علامات التفرد لكنه من حيث شروط وجوده وشروط بقائه مدين بكل شيء للجماعة. ودينه للجماعة عضوي أولا :فلا يمكن تصور وجود الفرد من دون لقاء الجنسين على الأقل ومن ثم فالجماعة الأدنى هي الأسرة .والأسر عندما تتكون تصبح في صراع على أبو يعرب المرزوقي 81 الأسماء والبيان
-- أسباب الرزق وشروط التكاثر أي ما استعرت إليه رمزي المائدة والسرير .وهذه الحاجة المضاعفة للحماية والرعاية تقتضي نظاما يحقق الحماية والرعاية بتقسيم العمل وتوزيع شروط الوجود والبقاء حمايتهما فتكون الجماعة بالضرورة ذات نظام سياسي وتلك هي الدولة. ودينه للجماعة روحي ثانيا :فلا يمكن تصور وجود الفرد من دون لقاء الاجيال في تراكم الخبرة لعلاج شروط الوجود والبقاء العضويين وهذا هو مجال الإرث التراثي في الخبرة العلمية وتطبيقاتها والذوقية وتطبيقاتها لعلاج مشاكل العلاقة العمودية مع الطبيعة والعلاقة الأفقية مع التاريخ .وتلك هي الوظيفة الثانية للنظام السياسي .فبالإضافة إلى الحكم لا بد من التربية التي تمكن من مضاعفة دوري التجدد الإنساني: .1الوراثة العضوية. .2الإرث الحضاري. .3فعل العضوي في الحضاري .4فعل الحضاري في العضوي .5قيام الامم والإنسانية. والجدير بالذكر أن ابن خلدون قد أسس ثورته في المقدمة على هذه المعادلة كما عرضها في الباب الأول مع وصلها بالأحياز المكاني وثمرته والزماني وثمرته وبالأصل المتمثل في علاقة الطبيعي الخارجي بالطبيعي الداخلي (في كيان الإنسان) والثقافي بالثقافي بنفس المعيين ثم توالت الفصول الخمسة التفصيلة دراسة التفاعل بين الطبيعي والثقافي في الاتجاهين يمكن اعتبار الاتجاه الطردي من الباب الثاني إلى الباب السادس درس تناقص دور الطبيعة وتزايد دور الثقافة ومن الباب السادس إلى الباب الثاني عكسا تناقص دور الثقافة وتزايد دور الطبيعة .والملتقى في المدينة التي يتساوى في التناقص والتزايد من المسارين بحيث إن المدينة هي دائما رمز الحضارة في القلب ورمز البداية في الاحواز من حولها. أبو يعرب المرزوقي 82 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 83 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى غاية المحاولة :نظرية الدولة والمعادلة الوجودية وحتمية التخميس في المفهوم والقيمة متعينا في رمزية المعاني الكلية لصورة الجماعة أو الدولة وفي رمزية المعاني الكلية لصورة الإنسان أو المعادلة الوجودية .وقد توصلت إلى وضع نظريتيهما بعد أن تخلصت من التثليث الذي كان يحول دون رؤية البنية العميقة لما سماه ابن تيمية المقدرات الذهنية النظرية. فمن دون المقدرات الذهنية النظرية لا وجود للعلم وتطبيقاته لعلاج علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة .وقد أضفت إليه مقدراته الذهنية النظرية مقدرات ذهنية عملية من دونها لا وجود للعمل وتطبيقاته لعلاج علاقة الإنسان الأفقية بالتاريخ: .1فالمقدرات الذهنية النظرية التي مثل لها ابن تيمية بالرياضيات وبالمعاني الكلية عامة تعد شرط العلم بالضرورة الشرطية في علاج العلاقة بالطبيعة والتاريخ عندما تطبق على التجربة المعرفية في العلم النظري. .2والمقدرات الذهنية العملية التي مثلت لها بالأخلاقيات وبالمعاني الكلية عامة تعد شرط العمل بالحرية الشرطية في علاج العلاقة بالتاريخ والطبيعة عندما تطبق على التجربة القيمية في العلم العملي. .3تأثير الأولى في الثانية هو الذي يؤسس العلوم الإنسانية التي هي أعسر العلوم بسبب حصول هذا التفاعل في كيان الإنسان نفسه من حيث هو طبيعي وثقافي أو جسد مروحن وروح متجسدة كما بينا في الفصل السابق. .4تأثير الثانية في الأولى هو الذي يؤسس للفنون الذوقية وهي جميعها تشكيل أو تنغيم محايث في مادة دائما وأرقى المواد التي يتجسم فيها التشكيل والتنغيم هو اللسان الذي هو ترجمة للرسم والموسيقي مثله مثل أدوات الرسم وأدوات النغم ولكن في مستوى المعاني الأرقى. أبو يعرب المرزوقي 84 الأسماء والبيان
-- .5وحدة ذلك كله هي تجهيز الإنسان الفطري وتنميته المكتسبة ليكون قادرا على النظر والعقد لعلاج المسألة الأولى أي العلاقة بالطبائع وتأثيرها في الثانية وليكون قادرا على العمل والشرع لعلاج المسألة الثانية أي العلاقة بالشرائع وتأثيرها في الأولى. وما كان ذلك يكون كذلك لم تكن الطبيعة قد خلقت بقدر والتاريخ أمر بسنن -بلغة القرآن. ومعنى ذلك أن الطبيعة تخضع للضرورة الشرطية التي هي جوهر المنطق الرياضي وأن التاريخ يخضع للحرية الشرطية التي هي جوهر المنطق الخلقي. فيكون التناظر بين منطق الخلق في الطبيعة والأمر في التاريخ ومنطق الرياضيات ومنطق الأخلاقيات هو السر في فهم النظرية التي وضعها ابن تيمية لحل مشكل الكليات أو المعاني الكلية التي لا يعتبرها مقومة للأشياء الموجودة خارج الذهن سواء كانت هذه المعاني الكلية مثلا مفارقة بالمعنى الأفلاطوني أو صورا محايثة بالمعنى الأرسطي. وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يتبين في بنية المعادلة السياسية أو المعاني الكلية التي ترمز للدولة من حيث هي صورة الجماعة وفي بنية المعادلة الوجودية أو المعاني الكلية التي ترمز للفرد الذي هو صورة الإنسان في علاقته بالعالمين الطبيعي والتاريخي وما يفترضه وراء لكل منهما بوصفه مستعمرا في الأرض سواء آمن بأنه مستخلف بالمعنى القرآني أو لم يؤمن .فتكون غاية المحاولة بيان الطابع المخمس لمفهوم الدولة وللقيم التي تسعى لحمايتها ورعايتها ولمفهوم المعادلة الوجودية التي تمثل المعاني الكلية لمفهوم الإنسان وقيمته. الدولة مفهوما ووظيفة قيمية إذا كانت الدولة ذات بنية يرمز إليها نظام من المعاني الكلية فإن هذا النظام ينبغي أن يكون مؤلفا من معان كلية لا تحدد ماهية مقومة بل بنية رمزية تمكن من علاج مفهومها وما تؤديه من وظائف كلها متعلقة بالقيم أو بالأخلاق مطبقة في السياسة أعني حكم البشر وتربيتهم من أجل القوامة على الرعاية والحماية التي يحتاج إليها البشر لسد حاجاتهم المادية أي شروط قيامهم العضوي وسد حاجاتهم الروحية أي شروط قيامهم الروحي. أبو يعرب المرزوقي 85 الأسماء والبيان
-- وإذن فالمعاني الكلية التي ترمز إلى مفهوم الدولة ووظائفها القيمية هي نظام المؤسسات التي تكون قيمة على الحماية والرعاية في الجماعة داخليا وخارجيا .وهذه المعاني الكلية خمسة في كل دولة من أقدم الدول إلى أحدثها ومن أصغر دولة إلى أكبرها ويمكن التمثيل لذلك بالدولة الفرعونية التي نعلم نظامها القديم ودولة الولايات المتحدة التي نعلم نظامها الحديث: .1لا بد أن تكون للدولة علاقة بمرجعية يؤمن بها شعبها سواء كانت دينية أو فلسفية وهي في الحقيقة دينية وفلسفية في آن أي إنها * :ذات عرض قصصي يشبه النصوص الميثولوجية من حيث مخاطبة الشعب بلغة الخيال * وذات عرض منطقي يشبه الأنساق الفلسفية من حيث مخاطبة النخبة بلغة المنطق* واثر الأسلوب الأول في الثاني هو أثر نقاش المتكلمين للفلاسفة * وأثر الأسلوب الثاني في الأول هو أثر نقاش الفلاسفة للمتكلمين * وغايتها الحيوية الروحية والعقلية التي هي معرفية وقيمية في كل جماعة. .2لا بد أن توجد قوى سياسية تمثل هذه المرجعية وتسعى للحفاظ عليها وتحقيق ما فيها من رؤية في سياسة الجماعة بكل أبعاد السياسة وخاصة الحكم والتربية اللذين ترد إليهما كل أبعاد السياسية لأن * :الأول يتعلق بالنظام العام في الحاضر للحفاظ على الجماعة ومرجعيتها بسهر مؤسسات الدولة * والثانية بالنظام الخلقي لوجود الإنسان أو حضور المرجعية لحماية المستقبل بتكوين الأجيال* .والأول شرط حصول الثاني *والثاني شرط تواصل الأول * والمجموع هو ما لأجله سمى ابن خلدون الدولة صورة العمران. .3ولا بد لمنع صراع القوى السياسية أو لإيقافه إذا حصل إما قبل أن يصبح حربا أهلية أو بعد الوصول إلى صلح بين طرفيا أن تستخرج القوى السياسية من تلك المرجعية دستورا سواء كان مكتوبا أو عرفيا يمثل بنحو ما الأخلاق الموضوعية التي تجمع عليها أغلبية الجماعة بمعنى أنه عقد ضمني بين الجميع وبينهم وبين السلط التي تمثل الدولة في الجماعة للحكم والتربية .ويتضمن الدستور حتما خمسة أبواب * :نظام المرجعية أولا*نظام القوى السياسية ثانيا * ونظامه الذاتي بوصفه راعي الأخلاق الموضوعية ومنظم التشريعات الحامية لها* ومنظم مؤسسات الحكم والتربية المنفذة لها * ومنظم الإنجاز الفعلي لوظائف الدولة التي تضمن الحقوق والواجبات حماية ورعاية. أبو يعرب المرزوقي 86 الأسماء والبيان
-- .4ولا بد أن يحدد ذلك الدستور نظام الحكم ونظام التربية على النحو التالي بتنظيم مشاركة القوى السياسية إيجابا أو سلبا .وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن يوحد نظام حكم ونظام تربية مؤلف من * سلطة حاكمة بالفعل * وسلطة حاكمة بالقوة أو معارضة * وسلطة مربية بالفعل *وسلطة مربية بالقوة أو معارضة* وحيوية اجتماعية هي شروط بقاء الجماعة بفضل التبادل في علاقة بما يستمد من شروط البقاء العضوي وبفضل التواصل في علاقة بما يستمد من شروط البقاء الروحي. وقد يذهب البعض فيتصور المقابلة حاكم بالفعل وحاكم بالقوة دليل على التعارض بالمعنى الجدلي .وهو صحيح في البلاد المتخلفة حيث يكون الحاكم ساعيا لمحو المعارض والمعارض ساعيا لافساد عمله .لكن في البلاد التي تفهم معنى التداول لا يكون الحاكم معاديا للمعارض في ما يتعلق بمهمة الحكم وإلا لصار دكتاتورا مثل حكام العرب ولا يكون المعارض معاديا للحاك في ما يتعلق بمهمة الحكم وإلا لصار هداما مثل معارضي العرب. فالحكم والمعارضة في البلاد الديموقراطية تعاون متين لأن غلبة المثال على المعارض وغلبة الأمر الواقع على الحاكم هما سر التعاون الذي يشبه العلاقة بين النظر (المعارض) والتطبيق (الحاكم) فيكون المعارض في وضع يفرض عليه وضع نفسه في منزلة الحاكم ولذلك تجده قد أعد وزارة ظل ويكون الحاكم في وضع يفرض عليه وضع نفسه في منزلة المعارض لأنه قد يخسر في الانتخابات إذا أهمل نقد نفسه. فتكون العلاقة مربعة وليست ثنائية وبنيوية وليست جدلية إذ إن الحصيلة التي هي الأصل رغم كونها تتجلى في الغاية هي التي يتفرع عنها حاكم بالفعل معارض لذاته بالقوة حتى لا يخسر الانتخابات ومعارض بالفعل حاكم بالقوة حتى يستعد للنجاح في الانتخابات والجملة هي معنى الديموقراطية والتداول السلمي بفضل حضور العقل أو الحكمة السياسية في احترام شروط السياسة المبدعة. .5وأخيرا تحديد وظائف رعاية الدولة لحماية الجماعة لنفسها ورعايتها وكل منهما مخمسة كذلك .فالحماية داخلية وهي القضاء والأمن وخارجية وهي الدبلوماسية والدفاع وأصلها أبو يعرب المرزوقي 87 الأسماء والبيان
-- كلها نظام الاستعلامات والإعلام حتى تكون الجماعة على بينة مما يجري فيها وحولها حتى تتعامل معه على علم .والرعاية تكوينية وهي نظام التربية في مؤسسات التعليم نظام التربية بمجرد العيش في الجماعة وخاصة في نظام توزيع العمل. والرعاية تموينية لسد حاجات الكيان العضوي وهي نظام الانتاج الاقتصادي خاصة ولسد حاجات الكيان الروحي وهي نظام الانتظام الثقافي خاصة .وأصلها جميعا البحث والإعلام العلميين اللذين هما أصل الأصول كلها بما في ذلك وظائف الحماية .ويكفي أن نعلم أن دولة الفراعنة كانت نموذجا في ذلك بشهادة أفلاطون في كلامه على التربية في كتاب الشرائع مثلها مثل دولة الولايات المتحدة التي هي ذروة البحث والإبداع في البحث والإعلام العلميين. ولا حاجة للمزيد لبيان الطابع المعرفي والقيمي لهذه الوظائف بل إنها في آن معرفية وقيمية إذ هي عين العمل والشرع المؤسس على النظر والعقد في كل المجتمعات البشرية سواء كانت حديثة أو حتى بدائية .وطبعا كل ذلك بتناسب مع حال المعرفة والقيم في كل عصر وفي كل مصر .وما كان ذلك يكون كذلك لولا ما سنختم به هذا الفصل الأخير أعني المعادلة الوجودية أو نظرية المعاني الكلية الرامزة لكل ما سبق الكلام عليه في الفصول العشرة أعني تجليات كيان الإنسان كما نترجم ما نشهده منها دون أن ندعي أن ذلك هو المعاني المقومة لكيانه ووجوده في ذاتهما لأن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه غير خالقه. المعادلة الوجودية أو رموز كيان الإنسان لن أطيل الكلام في المعادلة الوجودية لأني خصصت لها الكثير من المحاولات وهي أصل كل ما حاولت بيانه في فصول هذه المحاولة العشرة .فهي المعاني الكلية التي يمكن اعتبارها رامزة لما نعرف به الإنسان كما صاغ ابن خلدون ذلك في المقدمة معتبرا إياه \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .وهذا تعريف ينتسب في آن إلى المعرفي (بطبعه)والقيمي (الاستخلاف) .وإذن فالمعاني الكلية المستعملة فيه معان تنتسب في آن إلى النظر والعقد ويتعلق بالمقدرات الذهنية النظرية ومثالها الرياضيات وإلى العمل والشرع ويتعلق بالمقدرات الذهنية العملية ومثالها الأخلاقيات .ويمكن عرض المعادلة الوجودية في شكل بسيط: أبو يعرب المرزوقي 88 الأسماء والبيان
-- .1نضع \"الإنسان-الله\" في قلب المعادلة بمعنى العلاقة المباشرة بين الإنسان ومثاله الاعلى عندما يكتشف أن إرادته وإدراكه وقدرته وحياته ووجوده كلها نسبية وفانية فيتكشف أن له في ذهنه على الأقل سواء آمن بذلك أو صدق فيورباخ فاعتبرها من نتائج استكمال ذاته بتخيل ما ينقصه .فهذا ليس مهما لأن ما يعنيني هو أن يدرك التضايف بين النسبي والمطلق في هذه العلاقة. 2و-3ونضع على يمين هذا القلب العالم الطبيعي الذي يستمد منه الإنسان شروط قيامه العضوي خاصة (الاقتصاد المادي واللامادي) وما يفترضه ما وراء له أي ما يسميه ارسطو الضرورة الشرطية لكي يفسره ويفسر ما يجعله مناسبا لشروط قيامه. 5و-4ونضع على يسار هذا القلب العالم التاريخي الذي يتسمد منه الإنسان شروط قيامه الروحي خاصة (الثقافة العلمية والفنية) وما يفترضه ما وراء له أي ما أسميه قياسا على الضرورة الشرطية الارسطية الحرية الشرطية .فيلتقي الماوراءان أحدهما ينسب عادة إلى من نعتبره خالق العالم أو الله والثاني ينسب عادة إلى \"خالق\" التاريخ أو الإنسان .وذلك على الاقل في جل الاديان والفلسفات دون نفي امتداد دور الله في التاريخ ودون نفي دور الإنسان في الطبيعة التي يحولها خلال التاريخ بما في ذلك تحويل طبيعته .فنكون وكأننا عدنا إلى القلب الذي انطلقنا منه. وبذلك تكون المعادلة الوجودية هي بدورها مخمسة ليس تحكميا بل لأن الإنسان حتى لو قال بوحدة الوجود الطبعانية مثل سبينوزا وابن سبعين أو مثل هيجل وابن عربي فإنه لا بد أن يجعل هذه الوحدة مخمسة لأن اعتبار الطبيعة صنفين عند سينوزا مثلا طابعة ومطبوعة يعني أن ما ينسبه المؤمن بوجود إله مفارق إلى الله ينسبه سبينوزا إلى الطابعة .وما التلمساني إلى الأمواج التي تغير الأحوال في وحدة الوجود. وقس عليهما هيجل وابن عربي بالنسبة إلى وحدة الوجود المروحنة أو المذوتة كما يتبين من نقد هيجل لوحدة الوجود السبينوزية حتى ينتقل من الجوهر إلى تذويته .وهذه المعادلة الوجودية التي حاولت بها صوغ المعاني الكلية التي تمثل تحديدا رامزا للإنسان وليس تحديدا لمقوماته هو الذي أبو يعرب المرزوقي 89 الأسماء والبيان
-- يعلل الطابع المخمس الذي بيناه في كل فصول المحاولة والظاهرات التي تكلمنا عليها وخاصة نظرية اللسان ونظرية الوسميات .والله أعلم. أبو يعرب المرزوقي 90 الأسماء والبيان
-- تعودت على كتابة فصل اختم به كل محاولة وذلك من قريب .لأني سابقا لم أكن أفعل. وهذه المرة سأخصص الخاتمة للرمزين الأعم على الإطلاق لبيان طبيعة العلاقة بينهما العلاقة التي تحول دون تعريف المفهوم والمعنى بالمخمس البنيوي .فهي العلاقة التي بفهمها والتخلص منها يتحرر الفكر الإنساني من الرؤية الجدلية .فهي التي تتأسس على التناقض والصراع .وهي التي أعيب على الإسلاميين تبنيها بمقابل يزعمونه قرآنيا وهو لا أصل له في القرآن :مفهوم التدافع. فما هو وارد في القرآن هو دفع الله الناس بعضهم ببعض وليس تدافع الناس .وحتى لو فرضنا أن الدفع قد يجعلهم متدافعين فإن الكلام على التدافع الانفعالي حينها وكأنها فعلي يغيب الفعلي الذي يعود إلى الله وليس إلى الإنسان .وذلك يعني أن تبني هذا المفهوم ليس قولا بالصراع الجدلي فحسب بل هو أكثر من ذلك إذ فيه استغناء عن الدافع وتحويل التاريخ إلى منطق الضرورة الشرطية أي إلى التاريخ الطبيعي الذي لا دخل للعناية الإلهية فيه. والرمزان الأكثر كلية على الإطلاق هما بالذات مجال تعين الفكرة الجدلية بمعناها الهيجلي وبمعناها الماركسي .فالرمز الأول هو الكلمة وهي مجال المنطق الجدلي الهيجلي المفضل .والرمز الثاني هو العملة وهي مجال فهم المنطق الجدلي الماركسي المفضل .فالكلمة تشير إلى المفهوم المنطقي والعملة تشير إلى القيمة الاقتصادية .وفيهما تجلي الجدل في الفلسفة ما بعد الكنطية. وقد اصطلحت على المعنى الأول المتعلق بالكلمة فسميته فعل الرمز لأن الكلمة هي التي يفعل الرمز بواسطتها في المفهومات الثقافية .واصطلحت على المعنى الثاني المتعلق بالعملة فسميته رمز الفعل لأن العلمة هي التي يصبح الفعل بها رمز كل القيم الاقتصادية .وإذن فقد اخترت الرمزين اللذين يتعلقان بأدوات الفعل في الجماعة سواء كان الفعل متعلقا بشروط قيامها المادية أو بشروط قيامها الروحية. أبو يعرب المرزوقي 91 الأسماء والبيان
-- لكني لا أعتقد أنه يوجد إنسان يفهم معنى هذين النوعين من الشروط ويجهل أنهما متفاعلان ومن ثم فهو يضيف إلى فعل الرمز (الكلمة) ورمز الفعل (العملة) وسيطين بينهما هما أثر الكلمة في العملة وأثر العملة في الكلمة ليجد أصل الفاعلية الإنسانية كلها أي قدرة الجماعة على إعالة نفسها وحمياتها بفروعه الأربعة التالية: .1الكلمة أو فعل الرمز .2العملة أو رمز الفعل .3فعل الكلمة في العملة هو في جملته دور الثقافي من حيث هو علة فاعلة أو علة غائية للاقتصادي. .4فعل العملة في الكلمة هو في جملته دور الاقتصادي من حيث هو أداة تمويل للاستثمار الثقافي الفاعل (البحث العلمي) أو الغاية (الانتاج الفني مثلا) شرطا في الفاعلية الاقتصادية ذاتها .فالاقتصاد يوجد بين علة فاعلية هي البحث العلمي وعلة غائية هي الذوق الإنساني وهي خاصة فنا المائدة والسرير وما يصحبهما في ما يسميه ابن خلدون الأنس بالعشير أعني كل مبررات الاستهلاك الذي هو المحرك الحقيقي للاقتصاد. .5أخيرا أصل الفاعلية أو القدرة التي للجماعة على إعالة نفسها وحمايتها بما تنتجه من اقتصاد وثقافة بالمعنيين اللذين أشرنا إليهما هما سر القوة في كل أمة ذات دولة لها القوامة عليهما التي يقتضيها دور شعب حر في سياسة نفسه ليكون سيدا على أحياز وجوده الخمسة أي على جغرافيته وتاريخه وثروته وتراثه ونظامه القيمي الروحي أو مرجعيته التي تحدد رؤيته الوجودية للعالم. وحتى نفهم العلاقة العميقة والمتينة بين الرمزين وبين تفاعلهما والأصل الذي تتفرع عنه هذه العناصر الأربعة لتكون المخمس الذي من دونه لا يمكن فهم المفهوم والقيمة في المجالين الاقتصادي والثقافي اللذين يرمز إليهما رمز الفعل أو العملة وفعل الرمز أو الكلمة لا بد من التذكير بالمعادلة المشتركة بينهما والتي لم يفهمها ويعمل بها إلا النظام الرأسمالي أبو يعرب المرزوقي 92 الأسماء والبيان
-- وإن كان قد حرفها مما جعلها تصبح علة العبودية الكونية بدلا من أن تكون علة الحرية الكونية. فسواء كان المنتج منتجا غاية للعملية الاقتصادية أو للعملية الثقافية فلا بد من تدخل خمسة عوامل في عملية الإنتاج هي عينها فيهما كليهما لأن الثقافي علة فاعلة وعلة غائية للاقتصادي والاقتصادي علة فاعلة وعلة غائية للثقافي .فهو بدوره بضاعة وخدمة مطلوبتين ومن ثم فالثقافي جزء من الاقتصاد والاقتصاد جزء من الثقافي لأن كلا منهما شارط لكل منهما: .1لا بد من فكرة وهي من مجال الكلمة أو فعل الرمز أي جزء من الثقافي. .2ولا بد من مستثمر وهو قبل الحصول على التمويل فكرة كذلك وهو أيضا جزء من الثقافي. .3ولا بد من قلب هو عملية الإنتاج نفسها وتكون مشروعا على الورق ولا تنتقل إلى التحقيق الفعلي وهو فاعلية إنتاجية شرطها ثقافي على الاقل في تكوين المنتجين أصحاب الخبرة وطرق التنظيم والإدارة .لكن ذلك مشروط بوجود التمويل. .4وإذا وجد تمويل الاستثمار أمكمن للمشروع أن ينتقل من القوة إلى الفعل وهو من مجال العملة أو رمز الفعل وهو من الاقتصادي الذي يستند إلى عادة ثقافية هي الادخار. .5لكن ذلك كله مشروط بوجود طلب من المستهلك أو بإيجاده لأن الاقتصاد يمكن أن يوجد الطلب لما ليس هو مطلوبا بطبعه بل يصبح مطلوبا كحاجة كمالية .وأهم عناصر الطلب الاقتصادي هو من هذا الجنس لأن الكماليات هي التي تمثل القيمة التبادلية الأرفع من القيمة الاستعمالية في ما يسد الحاجات الضرورية. وتلك هي العلة الغائية التي نسبتها إلى الذوق سواء بمعنى الذوق المباشر في علاقة بالمائدة والسرير وفنيهما أو غير المباشرة في علاقة بما بعد الطبيعية وبما بعد التاريخ في الدين والفلسفة وتتعلق بالقيم المتصلة بالفضائل النظرية والفضائل العملية .وهي نظير أبو يعرب المرزوقي 93 الأسماء والبيان
-- العلة الفاعلية التي هي الأولى أي الفكرة وهي ذات تأثير أكبر من العلة الفاعلة في الانتاجين الاقتصادي والثقافي. والتناظر بين الأخيرة والأولى وبين الثانية وقبل الأخيرة والزوجان يلتقيان في القلب الذي لا ينتقل من المشروع على الورق الذي قدمه المستثمر بالاعتماد على علم بطلب المستهلك وبوجود الفكرة التي تستجيب لهذه الحاجة .وإذن فالثقافي هنا يتدخل بوصفه علة فاعلة الفكرة وعلة غائية الحاجة للاستهلاك .وطبعا توجد كفاءة المنتج وكفاء المستثمر الاقناعية في العلاقة بالممول .وهنا يلتقي فعل الرمز (الاقناع بالكلام وطبعا بالمشروع وما يتضمنه من وعود بالربح) ورمز الفعل (ما يقدمه الممول من ادخاره سواء مباشرة أو بتوسط البنك الذي كلف باستعمال ماله في تمويل الاستثمار). ما ذكرناه هنا بخصوص الاقتصاد يصح على الثقافة والفرق ليس العملية الانتاجية لأنها واحدة بل المنتج والحاجة التي يسدها .فإذا كانت اقتصادية مباشرة سميناها اقتصادية وإذا كانت ثقافة مباشرة سميناها ثقافية لكنها في الحقيقة تجمع الوجهين لأن الانتاج الثقافي شرط إمكان للإنتاج الاقتصادي علة فاعلة وعلة غائية والاقتصادي شرط تحقق للإنتاج الثقافي علة تمويل وتحويل المنتج الثقافي إلى بضاعة أو خدمة ذات دور اقتصادي .وبهذا يتميز النظام الرأسمالي وهو سر قوته .فالبراءات التي هي تطبيقات علمية تعد أهم عوامل الثروة في البلاد المتقدمة. ونأتي الآن إلى التحريف الذي يحول هذين الرمزين أي الكلمة والعملة إلى أداتي استعباد بدلا من أن تكونا أداتي تحرير للإنسان: فالكلمة إذا كانت كما هي وظيفتها الأصلية أداة تواصل تعتبر أداة تحرير من الانطواء وتيسر مفهوم التعارف لكنها سرعان من تنقلب إلى سلطان على المتواصلين بدلا من البقاء أداة تواصل لأنها تتحول إلى وسيلة تأثير إيديولوجي وخداع .وهذا أمر بين من الإعلام والدعاية والتسويق التجاري المبني على الاشهار. أبو يعرب المرزوقي 94 الأسماء والبيان
-- والعملة إذا كانت كمات هي وظيفتها الأصلية أداة تبادل تعتبر أداة تحرير من تعثر التبادل لأنه تيسره بتجاوز المقايضة وتسرع عملية التبادل والحركية الاقتصادية لكنها سرعان ما تنقلب إلى سلطان على المتبادلين بدلا من البقاء أداة تبادل لأنها تصبح بتوسط الربا والقرض مقابل رهن ما تحقق به إلى وسيلة تملك من يتوهمون أنفسهم مالكين لما حصلوا عليه بالقروض فيصبح الجميع مرهونا طيلة حياته ويفقد حريته لأنه إذا توقف عن السداد يفقد كل ما حقق. وبهذا المعنى فالرأسمالية بهذين التحريفين تتحول إلى نظام عبودية مقنع وليست نظام حرية كما تدعي إلا بمعنى حرية الحائزين على معدن العجل وخواره .لكن السيد الذي يحوزهما ويستعبد البقية بهما ليس الحاكم الذي هو بدروه في خدمة أصحاب الأموال والأقوال بل السيد هم اصحاب البنك بفضل السيطرة على الأموال التي تمكن من السيطرة على أصحاب الأقوال (الاعلام والملاهي) .وهذان هما نوعا الربا: .1ربا الأقوال هو الإيديولوجيا والدعاية والاشهار والاعلام الكاذب وتزييف الوعي وهي أدوات يسيطر عليها أصحاب المال. .2ربا الأموال هو الربا بالمعنى المعتاد والاقتصاد الوهمي الذي ينتج عن المشتقات والمضاربات الافتراضية بحيث يصبح الاقتصاد قمار لإفقار الفقراء. وقد استعملت قصة العجل في القرآن لتوضيح هذه القصة القرآنية .فمعدن العجل هو العملة وخواره هو الكلمة .وسيمت نظام الحكم بالحكم باسم دين العجل أو الأبيسيوقراطيا قياسا على الحكم باسم الله الثيوقراطيا وباسم الشعب الديموقراطيا .وبينت أن هذين النظامين الأخيرين رغم ما يبدو من تناقض بينهما في الظاهر هما من نفس الطبيعة في الحقيقة .ذلك أن بنيتهما العميقة هي بالذات الحكم باسم العجل أي ببعديه معدنه ممثلا للعملة أو فعل الرمز وخواره ممثلا للكملة أو رمز الفعل اللذين تحولا إلى أداتي عبودية للإنسان. أبو يعرب المرزوقي 95 الأسماء والبيان
-- لكن ذلك ما كان ليكون كذلك لو لم يكن الإنسان كائنا هشا اكتشف أصحاب هذه الخدع باسم الله أو باسم الشعب في الظاهر وهم يحكمون باسم العجل وبعديه في الحقيقة من أين يمكنهم الإمساك بالإنسان واستعباده .وكل من أسمعه يتكلم على الأخلاق والطهرية ويحمل الخاضعين للعبودية بهذه الأساليب مسؤولية ما يحصل لهم اعتبره من اغبى المخلوقات وأكثرهم كذبا وزيفا خاصة إذا كان ممن أعرف مدى ما رأيته منهم من تذلل من أجل أتفه سد الحاجات والخوف من الصمود أمام الظلم والحيف والتحيل خلال تعلمهم في الجامعة وترقيهم في المهنة .فمن قبل أن يخضع للمفسدين في الجامعة وفي المهنة لا يحق له أن يعطي دروسا للشعب ومحاسبته على خضوعه لمن يستذله في قوته اليومي. فما سر هشاشة الإنسان؟ المائدة والسرير .الإنسان يمكن أن يصمد أمام كل المصاعب إلا إذا تعلق الأمر بالجوعين الغذائي والجنسي .وكل المسيطرين على البشر لا يسيطرون عليهم إلا بهما أي إما بالحرمان منهما أو بالتطميع فيهما أو في المزيد منهما .فإذا اضفنا أنهما في الغالب لا يكفيان الإنسان بعد سدهما بل هو يمد يده إلى ما يعلو عليهما وهو أكثر كلفة منهما أعني فنيهما فإن الإنسان يصبح خاضعا لأربعة هشاشات ذات أصل واحد هو سلطان الوعي بالفناء الذي يجعل العاجل دائما مقدما على الآجل سواء كان ذلك في ترتيب دنيوي أو في ترتيب بين الدنيوي والأخروي: .1حاجة المائدة أو الغذاء والصحة. .2حاجة السرير أو الجنس والإنجاب. .3فن الغذاء وما يصبحه من بذخ المائدة وهو الذوق الغذائي. .4فن الجنس وما يصبحه من بذخ السرير .وهو الذوق الجنسي. .5أخيرا كون الإنسان يخلد إلى الأرض أو يصبح مطلق الإدمان على اللامتناهي الزائف أي لا يشبع من الغذاء وفنه ومن الجنس وفنه وكلاهم يحتاج إلى الأموال والأقوال .ولذلك فغالبا ما تكون الأقوال وخاصة في السياسة من أدوات الإثراء لأن القدرة على الخداع بالأقوال هما سر مستعلمي الأخرى للحكم باسم الله (انظر ما يفعله ما يسمى أبو يعرب المرزوقي 96 الأسماء والبيان
Search