Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore منزلة القرآن،عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها_ابو يعرب المرزوقي

منزلة القرآن،عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها_ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-13 13:01:29

Description: منزلة القرآن،عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها_ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪7 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪12 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪18 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪24 -‬‬‫‪ -‬الفصل السادس ‪30 -‬‬‫‪ -‬الفصل السابع ‪36 -‬‬‫‪-‬الفصل الثامن ‪42 -‬‬‫‪ -‬الفصل التاسع ‪47 -‬‬‫‪ -‬الفصل العاشر ‪52 -‬‬‫‪ -‬الفصل الحادي عشر ‪57 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني عشر ‪63 -‬‬

‫تكلمت بما يكفي في وصف الظاهرة كما حدثت في ماضينا لكنها تكررت بشكل اشد خطرا‬‫مما حصل فيه‪ .‬وقبل أن أصف الظاهرة في عصرنا فلأشر أولا دلالة ما يسمونه رد المنقول‬‫للمعقول الذي يبدو مختلفا عن موقف حداثيينا من الدين بحجة العلم‪ .‬فالموقف القديم لا‬ ‫يختلف عن الحديث إلا بالتقية‪.‬‬‫لم يكونوا يجرؤون على القول إن الدين خرافة وأن العلم هو الحقيقة الوحيدة كما يفعل‬‫حداثيونا‪ .‬لكن الفارابي جرأ على ذلك في كل كتبه وخاصة في الحروف والبقية وإن لم‬‫يجرؤوا فقد كانوا يعتبرون الدين صيغة شعبية وعامية من الحقيقة التي هي فلسفية لا‬ ‫غير بالمعنى الذي كانوا يتصورونه فلسفيا‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالظاهرة الحديث والقديمة في الموقف من علاقة الدين والإيمان بالفلسفة‬‫والعلم هي هي‪ .‬لكن الأخطر أن الاحتراز الذي كان عند علماء الدين من رد ما يسمونه‬‫نقليا إلى ما يسمونه عقليا هو بدوره انتهى وعوضه أكبر مرض اصاب عقولهم هو البحث‬ ‫عن العلم الوضعي في القرآن‪\" :‬الاعجاز العلمي\"‪.‬‬‫فالتحديثيون حسموا الأمر دون تقية وقالوا صراحة بما كان يقول به القدماء ضمنا بأن‬‫الحقيقة هي العلم وأن الدين خرافة‪ .‬أما التأصيليون فموقهم أخطر من موقفهم لأنهم‬‫يفعلون ما له نفس الدلالة متوهمين رفع منزلة القرآن ببيان أنه علمي بالمعنى الوضعي‬ ‫كذلك‪ .‬وتلك هي خرافة الأعجاز العلمي‪.‬‬‫وليست الامر توقف عند الكلام عفي الطبيعيات بل هم ذهبوا حتى إلى الإنسانيات‬‫وجعلوا همهم في مقارنة نصوص رؤيوية من القرآن بنصوص علمية وضعية حتى لو لم تثبت‬‫علميتها ليبرهنوا على ما هو في الحقيقة من جنس ما يقول به التحديثيون‪ :‬قبلوا معيار‬ ‫التحديثيين وحاولوا اثبات صحته بتأويلات ساذجة‪.‬‬‫وسأذكر ثلاث قضايا هي في الحقيقة ما تزال في طور الفرضية التي حولها نزاع كبير بين‬‫علمائها أنفسهم وهي نظرية خلق الإنسان (داروين) ونظرية النفس (فرويد) ونظرية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الاجتماع الجدلية (ماركس)‪ .‬وهي كلها فرضيات لا شيء يثبت علميتها وحتى لو أثبتت‬ ‫فإنها كما بينت دائما \"حقائق\" مؤقتة قابلة للتجاوز‪.‬‬‫لن أذكر اسماء يكفي الكلام في القضايا والقراء يعلمون من المقصود ويمكنهم أن يبحثوا‬‫ليعلموا من المقصود‪ .‬وسأبدأ بالمسالة الاولى‪ :‬خلق الإنسان‪ .‬يحاولون بيان سبق قرآني أو‬‫قابلية تأويل نظرية خلق الإنسان بما يتفق مع نظرية داروين‪ .‬فزعموا أن الإنسان غير‬ ‫البشر وأن البشر سابق على الإنسان‪.‬‬‫ويزعمون أن موقف الملائكة من استخلاف آدم رغم انه يسفك الدماء ويسفك فيها مدعين‬‫أنهم كانوا على دراية بسلوك البشر قبل خلق آدم أو تحويله إلى آدم الجدير بالاستخلاف‬‫ولأضف إليهم حجة أخرى فتعليمه الأسماء بعد قرار استخلافه هو نقله من البشرية غير‬ ‫الناطقة إلى الإنسان الناطق‪.‬‬‫وسأقبل مناقشتهم بمنطقهم ‪-‬لأني بطبعي أرفض البحث عن سبق علمي في القرآن ولا‬‫أومن بأن القرآن كتاب علم بل هو كتاب تربية وحكم‪ .‬هو رؤية فلسفية للعالم الطبيعي‬‫والتاريخي وإشارات لسنن تنظيم حياة الإنسان الروحية والسياسة فردا وجماعة في‬ ‫الجماعة وبين الجماعات الإنسانية كلها‪.‬‬‫وابدأ بمسألة البشر والإنسان‪ .‬القرآن يكذب هذه الفكرة السخيفة تكذيبا قاطعا‪ .‬فهل‬‫يعقل أن يكون ذلك كذلك والله يقول في آل عمران ‪{ 79‬ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب‬‫والحكم والنبوة‪ ..‬الآية} متكلما على سيدنا عيسى عليه السلام‪ :‬هل عيسى ليس إنسانا بل‬ ‫ما قبل الإنسان يصح عليه قول داروين؟‬‫ثم القرآن لا يتكلم على تحويل البشر إلى إنسان بل يتكلم على خلق آدم من تراب وليس‬‫من كائن حي قبله وتصويره والنفخ فيه من روحه فكيف يوفقون بين التطور الدارويني‬‫وهذا الخلق من تراب وليس من حيوان سابق تحول بالصدفة وحافظ على ما جد فيه من‬ ‫تغير لأنه مفيد للتكيف مع شروط الحياة؟‬‫أما الحجة التي أضفتها لهم ‪-‬عملا بعادة ابن تيمية الذي يحاول أن يقوي حجة الخصم‬‫قبل أن يدحضها‪-‬فهي تعليم الأسماء كلها الذي لم تكن الملائكة تعلمه مسبقا عندما أعلمها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الله بأنه سيجعل في الأرض خليفة‪ .‬لكن أولا هل التسمية أزالت ما اعترضت به الملائكة؟‬ ‫هل فقد الإنسان سفك الدماء والفساد؟‬‫ولذلك فلا علاقة بين تعليم الأسماء وحكم الملائكة بمعنى أن الملائكة لم تحكم بذلك‬‫لجهلها بما طرأ لاحقا لأن ما طرأ لاحقا لم يكن ليغير حكمها على آدم بسفك الدماء والفساد‬‫في الارض‪ .‬وعبارة \"إني جاعل في الأرض خليفة\" دلالة اسم الفاعل فيه دلالة الحكم‬ ‫السابق للتحقيق حكم في المستقبل عامة‪.‬‬‫وأعتقد والله أعلم أن قراءتهم للآية غير متناسق‪ .‬فرد الملائكة على اخبارهم بجعل‬‫الإنسان خليفة لا يكون يتناسق بجعل \"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء\" مفيدا‬‫خبرا عن أمر حاصل لاحظوه في سلوك الإنسان بل هي تقرير لخاصة ذاتية استنتجتها‬ ‫الملائكة من احتقار لمادة آدم بنفس حجة ابليس‪.‬‬‫ولي على ذلك دليلان‪ .‬الأول هو المقابلة بين هذا السؤال الاستنكاري ووصفهم لذواتهم‬‫\"ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك\" فهذه خاصة ذاتية للملائكة يباهون بها في مقابل حكم‬‫ضمني بخاصية ذاتية لآدم وليس خبر عن أمر حصل ولاحظته الملائكة‪ .‬لكن الدليل الثاني‬ ‫أعمق وابعد غورا‪.‬‬‫إنه أمر الله الملائكة بالسجود لآدم‪ .‬ففه عقاب لها على \"احتجاجها\" على \"إني جاعل في‬‫الارض خليفة\" الناتج عن حكم ضمني بعدم أهلية آدم للاستخلاف‪ .‬وهو نفس الحكم الذي‬‫تشبث به إبليس فعصى ربه ولم يسجد وهو السلوك الذي يزعم بعض المتصوفة إنه دليل‬ ‫فتوة بحجة إن السجود لله وحده وليس لأوامره‪.‬‬‫وهذا هو الأمر الوحيد الذي يفهمنا علة الامر بالسجود لبيان الله للملائكة إن من اختاره‬‫للاستخلاف أسمى منهم وأنهم مأمورين بالسجود له بعد بيان أن حكمهم كان ناتجا عن جهل‬‫بخصائص آدم التي لأجلها اختير للاستخلاف وتعليم الأسماء سابق على تساؤل الملائكة‬ ‫فالعطف عنا لا يفيد الترتيب‪.‬‬‫ولا أقدم هذه الفرضية تحكما بل لأن الله \"صنع\" آدم على أعينه وهو بخلاف كل‬ ‫المخلوقات لم يخلق بـ\"كن\" بل بأيدي الله وعنايته المباشرة‪:‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .1‬خلقه‬ ‫‪ .2‬وصوره‬ ‫‪ .3‬وسواه‬ ‫‪ .4‬ونفخ فيه من روحه‬ ‫‪ .5‬وعلمه الأسماء كلها‪ .‬وذلك ليكون أهلا للاستخلاف‪.‬‬ ‫والملائكة لم تر إلا منزلة مادته فتسرعت في الحكم‪.‬‬‫لكنها لم تعص لم أمر الله فلكأنها كفرت عن ذنبها إذ سجدت إلا ابليس أبى واستكبر‪.‬‬‫ومع ذلك قبل الله طلبه بمقتضى عدله لأنه لا يمكن أن يعطي لآدم فرصة ثانية ولا يعطي‬‫لإبليس مثله فرصة ثانية لكأن الله قبل التحدي بين آدم وابليس في الامتحان الدنيوي لأن‬ ‫كليهما عصى أمر ربه‪.‬‬‫وما كنت لأخوض في قضايا الغيب كما أفعل هنا لو لم يكن الأمر علاج أمر يمس من تناسق‬‫القرآن الكريم علما وأني لم أتكلم في دلالة كل هذه الرموز بل اكتفيت بالتناسق بينها دون‬‫أن أتكلم في كيفها‪ .‬فلا يمكن أن يكون كلام الملائكة في آدم خبرا عن أمر لاحظته بل هو‬ ‫حكم مستنتج من \"احتقارهم\" لمادته‪.‬‬‫وبذلك فقد بينت ضحالة الفرضية المميزة بين الإنسان والبشري رغم أن الآية ‪ 79‬من‬‫آل عمران كانت وحدها كافية لنسف هذه الخرافة‪ :‬لو كان يوجد فرق بين الإنسان‬‫والبشري كما يزعمون لما وصف الله عيسى عليه السلام الذي هو نظير آدم من حيث الخلق‬ ‫الابتدائي والنفخ بكونه بشرا ولم يقل إنسانا‪.‬‬‫وبالمناسبة فهذا ينسف خرافات شحرور حول نفي الترادف في القرآن لأن إنسان وبشر‬‫مترادفان بإطلاق‪ .‬ويمكن أن أعدد الكثير من المترادفات القرآنية ومنها خاصة المس‬‫واللمس في الاستعمال القرآن للدلالة على العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة‪ .‬الرجل‬ ‫خراف فلا تلوموه واطلبوا له الشفاء‪.‬‬‫وقد سبق ان كتبت في ما يدعيه من منهجية قبل أن ألقاه وليس من عادتي أن اعبر عما‬‫قد يظن دليلا على سوء الأدب مع أي أحد لكن بعد أن سمعته مباشرة ورأيت نوعيه‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫احتجاجه الساذج لم يعد بالوسع السكوت على العبث بأسمى كتاب في الوجود‪ :‬القرآن الكريم‬ ‫ليس لعبة \"للمتعطلين\"‪.‬‬‫وختاما لهذه المسألة الأولى حول التمييز بين الإنسان والبشري في خرافة القول بأن‬‫نظرية خلق آدم لا تتنافي مع نظرية داروين أكتفي بالإشارة إلى قضية لغوية في العربية‪:‬‬‫فاسم الفاعل فيها من بين ما يفيد كما في حالة \"جاعل\" دلالة الفعل دون زمان محدد بل في‬ ‫كل الزمان‪ .‬لكأنه صفة للمنسوب إليه‪.‬‬‫فإذا قلت مثلا الإنسان مائت فالمعنى أن من طبيعته أن يموت ولا أعني أنه ذلك سيكون‬‫في المستقبل بل لكأني اعتبرت ذلك صفة مقومة ويصح على أسماء الفاعل سواء اشتقت من‬‫الفعل القاصر أو المتعدي‪ .‬والملاحظة اللغوية الثانية التميز بين الخبر المحدد بالزمان‬ ‫والخبر المطلق المتعلق بالفعل أو بشبهه ككان‪.‬‬‫فعبارة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء\" لا يعني فعلاها \"يفسد فيها ويسفك‬‫الدماء\" أن الملائكة رأت آدم قبل كلامها يفسد فيها ويسفك الدماء بل يعني حكما مطلقا‬‫مستنتجا مما تصوروه طبيعة آدم ككل الكائنات الحية الأخرى التي رأته شبيها بها في طلب‬ ‫شروط حياته ولم تر ما ميزه الله به بعد‪.‬‬‫وهذا النوع من الأحكام هو أصل الكثير من الاخطاء في المعرفة الإنسانية وهو علة كل‬‫الأحكام المسبقة‪ :‬فعندما يقول الأوروبي عن العربي‪ :‬آه انت عربي إذن ‪-‬بمقتضى التعميم‬‫المتسرع‪-‬إذن أنت إرهابي كحكم مسبق‪ .‬وهذا أصل كل عنصرية‪ .‬الملائكة حكمت حكما‬ ‫مسبقا لأنها لم تر إلا الحيوان في الإنسان‪.‬‬‫وطبعا لا أحد له ذرة من عقل يعتقد أن الله كان بحاجة لمشورة الملائكة أو غيرهم في ما‬‫اراد‪ .‬لكن القصة كلها \"امثولة\" لشرح أهم خصائص الإنسان ولغز الفرصتين الأولى في الجنة‬‫والثانية في الدنيا وإضفاء \"المنطقية\" على الحياة الإنسانية التي لا شيء فيها إلا وهو من‬ ‫ألغز الالغاز‪.‬‬‫وتلك هي وظيفة الرؤى الوجودية‪ .‬والقرآن الذي يعرف نفسه بكونه رسالة تذكير بما‬‫يملكه الإنسان من مقومات وما يرتهن به وجوده من مهمات وما جهز به للقيام بها أفضل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫قيام وما يصحب تلك المقومات من قيم أولاها كونه حرا في اتباعها وعدمه‪ .‬والرؤية فوق‬ ‫كل علم بخلاف ما يتوهم الباحثين عنه فيها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أصل الآن إلى تجلي نفس العقدة في القضية الثانية‪ :‬سبق القرآن لفرويد‪ .‬والعقدة هي‬‫تقييم القرآن الذي هو كلام الله باجتهادات العلماء مهما كانت عظيمة وحتى لو سلمنا بأن‬‫فرضياته علمية فهي ككل علم لا تتجاوز كونها معرفة مؤقتة سيتجاوزها البحث العلمي كلما‬ ‫تقدمت أدوات إدراكنا‪.‬‬‫وهي ليست علمية والعلم تجاوزها من زمان وسبق ان كتبت في الموضوع ولا اريد أن أعود‬‫إليه‪ .‬ما يعنيني هنا هو بيان سطحية المقارنة بين النفوس الثلاثة في القرآن وقوى النفس‬‫الثلاث عند فرويد إذ لا شبه بين الأمرين إلا في \"ثلاثة\"‪ .‬وما عدا ذلك كله مختلف تماما‬ ‫من حيث الطبيعة والوظيفة والغاية‪.‬‬‫هل يوجد إنسان مؤمن وله عقل يميز به بين المعاني يمكن أن يصدق أن الامارة ذات‬‫أصل عضوي واللوامة ذات أصل اجتماعي والمطمئنة هي التوازن بينهما في الأنا المتكيف مع‬‫مبدأ الواقع والمسيطر على مبدأ اللذة؟ من يفعل ذلك لا يختلف عن التحديثي الذي يريد‬ ‫أن يهزأ من القرآن ومن معانيه التي لا يفقهها‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أنه‪:‬‬‫‪ .1‬معقد إزاء المعرفة العلمية وبدلا من طلبها من محلها فيقوم بالبحث العلمي يكتفي‬‫بتعزية نفسه ولو بتحريف القرآن مدعيا أنه يعطيه كل شيء وما عليه إلا أن يتعلم العربية‬ ‫التفاقه اللغوي‪.‬‬‫‪ .2‬يعتبر العلم فوق القرآن ومن ثم فهو يتوهم أنه يرفع من شأن القرآن إذا بين ما‬ ‫فيه من علم‪.‬‬‫وفي الحقيقة فعقدة مثل هؤلاء إضافية إلى التحديثي‪ :‬هو يريد أن يثبت له أن له‬‫تعويضا عما ينقصه ولا يعلم أنه بذلك يثبت له وهميه الأساسيين‪ :‬أولا أن العلم أسمى من‬‫القرآن وثانيا أن ما في القرآن حتى لو اعتبرناه علميا فهو تاريخي مثل كل علم‪ .‬ولذلك‬ ‫فأصحاب هذه الخرافات من أكثر الناس سذاجة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فقوى النفس الثلاثة في الفرويدية حصيلة بين العضوي (الموضوع) والاجتماعي (نقيض‬‫الموضوع) والتوازن الشخصي أو الأنا المتكيف (التأليف) وهي ذات منطق جدلي بين‪ .‬ولا‬‫شيء يثبت أن النفس المطمئنة هي الأنا المتكيف بتوازن بين مبدأ الواقع ومبدأ الرغبة وكلها‬ ‫في الدنيا ولا بعد ديني لها‪.‬‬‫ومن ثم فالقائل بهذه المقارنة من حيث لا يعلم أصبح دهرانيا لا يقول بوجود آخر غير‬‫الوجود الدنيوي وهو من ثم أصبح مثل فرويد لا يعتقد إلا في قوى العالم الشاهد بمنطق‬ ‫جدلي هيجلي بين‪:‬‬ ‫‪ .1‬تاز‬ ‫‪ .2‬انتيتاز‬ ‫‪ .3‬سانتاز‪.‬‬ ‫وفي مضمار آخر بينت أن كثرة ترديد الإسلاميين لخرافة التدافع لها نفس المعنى‪.‬‬‫فإذا كان ما يجري في التاريخ حصيلة التدافع فمعنى ذلك أن الله لا دخل له في ما يجري‬‫رغم أن القرآن صريح في أن ما يجري ليس تدافعا بل هو دفع إلهي للناس بعضهم ببعض‪.‬‬‫لكن ما العمل مع من يعاني من العقد فيتبنى مفهومات منافية تماما لما ورد في القرآن ويصبح‬ ‫ماديا جدليا دون أن يدري‪.‬‬‫لم يسال أصحاب المقارنة أنفسهم عن \"النفس المطمئنة\" مطمئنة بماذا؟ لم يسأل عن معنى‬‫آيات الفجر' َيا َأيَّتُ َها ال ّنَفْسُ الْمُطْمَ ِئ َّن ُة (‪ )27‬ا ْرجِعِي إِلَ ٰى َر َبِّكِ َراضِ َي ًة مَّ ْر ِض ّيَةً (‪)28‬‬‫َفادْخُلِي فِي ِعبَا ِدي (‪ )29‬وَادْ ُخلِي َج َنّ ِتي (‪ .)30‬وهي أمور لا علاقة لها بفرضيات فرويد‪.‬‬‫ومن يغفل عن هذا البعد من \"رؤية\" القرآن للنفس وفرضيات فرويد لم يعد متكلما في‬‫القرآن بل في استسلامه لنظريات فرويد في الدين أعني رده بالذات إلى هذه الفرضيات‬‫في تفسير كل ما ينسب إلى الإنسان بما في ذلك الدين الذي هو من تجليات ثالوثه المادي‬ ‫الجدلي المحض‪.‬‬‫لذلك فكلما رأيت تأصيليا منتفخ الأوداج متبجحا بـ\"علمه\" المزعوم في هذا المضمار كلما‬‫زاد احتقاري له وعلمت أنه يعاني من عقدة إزاء التحديثي الذي لا يقل عنه سخفا لتوهمه‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أن العلم حقيقة مطلقة وأن الأديان خرافة وخاصة بين نخبنا فأتساءل هل لها أعماق روحية‬ ‫أم تكتفي بأدنى ما في الحيوان‪.‬‬‫ولا بد هنا من تعريف النفس المطمئنة وعلة اطمئنانها‪ .‬وهي لا تفهم إلا بكونها الضديد‬‫التام لفرضيات والجدل الهيجلي فضلا عن الماركسي‪ .‬فلو كان الإنسان يمكن أن يطمئن‬‫أصلا فيقبل بأن حياته مقصورة على وجوده الدنيوي لقبل رأي فرويد وغيره من الماديين‬ ‫الجدليين المقارنة مع رؤية القرآن للنفس‪.‬‬‫لكن النفس الإنسانية حتى عند أعتى الملحدين لا ترضى بأن تكون حبيسة في عالم‬‫الشهادة أو الدنيا‪ .‬وإذا لم يكن لها دين تؤمن بما يحرر الإنسان منه بعالم أرحب فهي‬‫تبدعه ولو بالمخدرات والذهول الدائم عن الوجود في السجن الدنيوي‪ .‬فإما انها تطمئن‬ ‫بهذه الحرية الدينية أو بالاستذهال الذاتي التام‪.‬‬‫والاستذهال الذاتي التام يسميه باسكال (فيلسوف متدين بالكاثوليكية المحدثة ورياضي‬‫كبير) التلهي ‪ Le divertissement‬أو الهروب باي شيء من الجنس الدنيوي‪ .‬وهذا‬‫هو دليل عدم الاطمئنان‪ .‬ولا يشذ عن ذلك أي ملحد وإذا قال عكس ذلك فهو إما يكذب‬ ‫على غيره بوعي أو على نفسه بغير وعي‪.‬‬‫لذلك فإذا ما استثنينا التنفيس عن عقد النقص والعجز عن الفعل الحقيقي للإبداع‬‫العلمي ما الذي يستمده أصحاب هذه المحاولات العقيمة التي تحط من شأن القرآن بوهم‬ ‫رفعه؟ إنهم يستمدان أمرين يمثلان خطرا قاتلا للحضارة الإسلامية‪:‬‬ ‫‪ .1‬استمراء العجز والحلول الوهمية‬ ‫‪ .2‬تثبيط حب الشباب للإبداع العلمي‬‫ولس من مصادفات التاريخ أن الظاهرة تكررت‪ :‬فما نراه في عصرنا مناظر تماما لما حصل‬‫في مرحلة تاريخ فكرنا الوسيط‪ .‬تمسك التأصيليون بخرافة المقابلة بين العلوم الأهلية‬‫والعلوم الأجنبية مدعين أن الاولى مغنية عن الثانية بمعنى أنها فيها كل شيء‪ .‬ولما هزموا‬ ‫صاروا يبحثون عن الاجنبية في الملكية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وبهذا المعنى فالجيل المتأخر من المتكلمين وحتى جيل الوسط في تاريخ الكلام لم يكونوا‬‫في الحقيقة إلا من جنس القائلين بالإعجاز العلمي‪ .‬وكل تخريفات الرازي التي يظن غاية‬‫المعرفة العلمية في التفسير ليس إلى تخريف من جنس ما نسمعه من كلام أصحاب الإعجاز‬ ‫فضلا عن تخريف الغيبيات‪.‬‬‫وحتى ما يمكن أن ينسب إلى بعضهم من إضافات طفيفة على منطق ارسطو فهي تبقى في‬‫دائرة نفس البارادايم الذي لم يحاول زعزعته إلا الغزالي ولم يتجاوزه في النظر والعقد‬‫إلا ابن تيمية وفي العمل والشرع إلا ابن خلدون‪ .‬ولهذه العلة ميزتهم عن غيرهم الفلاسفة‬ ‫والمتكلمين في تاريخ فكرنا الإسلامي‪.‬‬‫وبذلك تفهم كيف أن أكثر من عقدين من محاولة النهوض لم تأت أكلا مستساغا لا في‬‫مستوى علاج العلاقة العمودية بيننا وبين الطبيعة ولا في علاج العلاقة الافقية بيننا وبين‬‫التاريخ‪ .‬كل من سعى في نفس الوقت إلى تحقيق هذين الغايتين نجح في تحقيقهما إلا نحن‪.‬‬ ‫والعلة هي عين هذه الظاهرة العقيمة‪.‬‬‫كل التأصيليين في عصرنا ورثوا سخافات المتكلمين في القرون الوسطى وكل التحديثيين في‬‫عصرنا ورثوا سخافات فلاسفتنا في القرون الوسطى‪ :‬كلاهما يردد معرفة يتصورها مطابقة‬‫للوجود ونتائج جاهزة لم يبق كما قال الفارابي إلى أن \"تُعلم وتُتعلم\"‪ .‬ولما كانت مطلقة فلا‬ ‫شيء فوقها ومغنية عن التجاوز‪.‬‬‫فالتحديثي لو كان بحق يفهم الحداثة ما هي لعلم أن العلم أكثر الأشياء نسبية وأن عدم‬‫الوعي بخاصيته هذه دليل جهل بالعلم وبالحداثة واساس كل تحريف لهما تماما كما يحدث‬‫عن التأصيلي الذي ينسى أن القرآن لا يتوقف عن التنبيه إلى ذلك بالتمييز بين العلم‬ ‫الإلهي المحيط والعلم الإنساني المحدود‪.‬‬‫فالتأصيلي الذي يتوهم أنه يرفع من مقام القرآن بخرافة الإعجاز يعني أنه لا يفهم‬‫العلاقة بين الأمرين الديني والعلمي والتحديثي الذي يعتقد أن الدين خرافة لا يميز بين‬‫الدين وتوظيفاته التي هي من جنس توظيفاته هو للعلم الذي يجعل نسبيته‪ .‬كلاهما لم‬ ‫يصل بعد حتى إلى رتبة العقل التمييزي‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولست أعجب من الظاهرتين لكني أنبه الشباب إلى ضرورة التحرر من النجوم التي تتكلم‬‫باسم الدين وتعاني من عقدة الحداثوية والتي تتكلم باسم الحداثة وتعاني من عقدة‬‫إطلاق العلم والتهوين من البعد الديني من حياة البشر‪ .‬ولا يفعل ذلك إلا المخلدون إلى‬ ‫الارض أو ذوي الاستذهال الذاتي الباسكالي‪.‬‬‫فمن فقد الغوص في أعماق ذاته لا أعجب من أن يكون دون جلده عمقا ذلك أن الجلد‬‫نفسه من حيث هو حامل أثر المحسوسات في الذات هو الطريق إلى الأعماق تحفيزا لها‬‫بمثيرات خارجية هي المدارك الحسية الخارجية‪ .‬لكن المدارك الحدسية الداخلية هي‬ ‫السبيل المثلى لأعماق الذات والوجدان‪.‬‬‫وأول انفراجة خارج الخارج تمر بهذا الغوص في أعماق الذات أعني أن التحرر من ضيق‬‫عالم الشهادة إلى فسيح عالم ما بعد الشهادة كفضاء مفتوح دون علم ما فيه من غيبيات هو‬‫بداية ميلاد الإنسان المبدع دائما‪ .‬فهذا الفضاء الفسيح هو منب العلم والفن والدين ومنه‬ ‫يستمد الإنسان قيم مقوماته كلها‪.‬‬‫فمن هذا الفضاء الفسيح يستمد الإنسان حرية الإرادة وصدق العلم خيرية القدرة‬‫وجمالية الحياة وجلالية الوجود فيتحرر من العبودية والباطل والشر والقبح والذل‪ .‬وهذا‬‫هو الواقع الحقيقي لأن ما يتصوره الناس واقعا هو أمر واقع ينتج عن السجن الدنيوي‬ ‫فيحاكون وكأنه مثال فيصبحون كلبا لاهثة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولنأت الآن إلى القضية الثالثة‪ :‬الفهم الماركسي للتاريخ أي المادية الجدلية التي لطفوها‬‫باستعمال اسم الاشتراكية الإسلامية والتي هي كذبة هدمت كل شروط التنمية الاقتصادية‬‫فلم يبق مشتركا إلا تقاسم الفقر للشعب والحياة الباذخة للنومنكلاتورا بالمعنى السوفياتي‬ ‫في كل من زعمت تطبيقها‪.‬‬‫لكن كل شيء في القرآن مناف تماما لأي قراءة اشتراكية أو رأسمالية لشروط الحياة‬‫المادية والروحية للجماعة وللإنسانية كلها بل هو نظام \"سوي جينيريس\" (نوعه ذاتي أو‬‫فريد النوع) لم يجرؤ أحد على تحديد خصائصه وبيان فضائله لأنه محاولة قراءة القرآن‬ ‫نسقيا بفرضية علمية لم تخطر على البال‪.‬‬‫حصل للقرآن ما حصل لدار الإسلام‪ :‬مزل تمزيلا فصار جذاذا بين ما تصورت علوم الملة‬‫الخمسة أنه ما يعنيها منه بوصفه \"صندوق أدوات\" (بوات آ أوتي) وليس رؤية وجودية‬‫ذات نسق من الأنظمة التي تشبه نظام كيان الإنسان العضوي والروحي حيث كل الوظائف‬ ‫فيه أداة وغاية في آن لأنه كائن حي‪.‬‬‫فكل البلاد العربية التي تدعي القراءة الاشتراكية للإسلام والتي تدعي القراءة‬‫الرأسمالية كلتاهما أفلست ولم تتمكن من تحقيق تنمية ذاتية الفاعلية والحركة‪ .‬فالأولون‬‫جعلوا من الدولة الحاضنة دولة قاتلة للفاعلية الاقتصادية والدولة المتوحشة دولة قاتلة‬ ‫للفاعلية الاجتماعية فغابت الدولة أصلا‪.‬‬‫فدولة الاشتراكية المزعومة صارت دولة مافية النومنكلاتورا ودولة الرأسمالية المزعومة‬‫صارت دولة السماسرة‪ .‬وكلتاهما تحت سيطرة مافية هي التي تدعي تمثيل الدولة ولا يكون‬‫الفرق بينهما إلا في صفة أدواتهما أعني النومنكلاتورا والسماسرة‪ .‬ولو لم يكن لديهم ثروة‬ ‫طبيعية لكانوا جميعا متسولين‪.‬‬‫والعلة هي أنه رغم جيوش الفقهاء بالمعنى التقليدي أو بالمعنى الحديث لم يتساءل أحد‬ ‫عن نسق النظام القانوني بمستوياته الخمسة التي تؤسس لها الرؤية القرآنية‪:‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .1‬مستوى القانون المدني‬ ‫‪ .2‬مستوى القانون الجنائي‬ ‫‪ .3‬مستوى القانون الإداري‬ ‫‪ .4‬مستوى القانون الدستوري‬ ‫‪ .5‬وأخيرا بعدا شرعية القانون عامة‬‫ومستوى شرعية القانون عامة هو الأصل والبقية فروع ويحدده القرآن الكريم بكلمتين‬‫وردتا في سورة النساء من الآية ‪ :58‬الأمانة والعدل‪ .‬والأمانة علاقة بين القانون وشرعية‬‫تمثيل سلطة الجماعة لأن الأمانة هي هذا التمثيل الذي يؤديه القانون والقائم به كحكم‪.‬‬ ‫والعدل هو دليل القيام بهذه الامانة‪.‬‬‫وهذا الاساس قائم بذاته وهو في آن قائم في كل المستويات المتفرعة عنه‪ :‬فالمدني يتعلق‬‫بالالتزامات والعقود وهي مشروطة بالأمانة والعدل‪ .‬والجنائي يتعلق بكل ما ينتج عن‬‫الخلل في المستوى الأول الذي يتحول إلى أهم مصدر للجنايات بين البشر وعن نزوات البشر‬ ‫وهي أيضا معلولة بعدم الأمانة والعدل‪.‬‬‫والمستوى ‪ 3‬أو مستوى القانون الإداري يتعلق بالمستويين ‪1‬و‪ 2‬ليس من حيث علاقة‬‫الإنسان بالإنسان بل من حيث علاقة الإنسان بالدولة ممثلة بمن لهم نيابتها في استعمال‬‫القانون وشرطه كذلك الأمانة بالقياس إلى هذا التمثيل والعدل في أدائه للعمل بمقتضى‬ ‫القانون‪ .‬المستوى ‪ 4‬هو القانون الدستوري‪.‬‬‫وهذا المستوى هو الاقرب من المستوى الأول الذي هو أصل كل المستويات‪ .‬فوظيفة‬‫القانون الدستوري تحديد مبادئ كل تلك القوانين وضبط وظائف الدولة بوصفها ممثلة‬‫لإرادة الجماعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها‪ .‬وهو إذن مشروط بالأمانة والعدل في‬ ‫شروط التشريع والتنفيذ بمقتضى الأصل والفروع الأربعة‪.‬‬‫ولم أذكر القضاء واكتفيت بالتشريع والتنفيذ لأن القضاء ليس سلطة سياسية مثل‬‫التشريع والتنفيذ بل هو سلطة فنية وخلقية‪ .‬فهي فنية بمعنى أن القاضي مثل العالم أهم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫دور له هو تحقيق المناط في تطبيق القانون‪ .‬لكن لا سلطان له على وضع القانون ولا على‬ ‫تنفيذ الحكم‪ .‬فهذان سلطتان سياسيتان‪.‬‬‫وإذا أصبح القضاء سلطة سياسية أو سيس فقد فقد الأمانة والعدل‪ .‬لان الأمانة في‬‫القضاء هي أمانة العالم في طلب الحقيقة خلال البحث عن المناط والعدل هو تطبيق ما‬‫توصل إليه من حقيقة في النزاعات بعد الوصف القانوني للأحداث التي يستمد منها الدليل‬ ‫والقرائن خلال تنزله على النازلة‪.‬‬‫تسييسه أو اعتباره سلطة سياسية ثالثة من جنس التشريع والتنفيذ يعني في الحقيقة‬‫دعوته إلى مغادرة دوره كعالم في تحديد المناط عامة في فلسفة القانون أن تحديد الأحكام‬‫عامة دون وصل بالنوازل العينية أو خلال الوصف القانون للأحداث في النوازل العينية‪:‬‬ ‫وهذا يعني تحريف الأمانة والعدل في آن‪.‬‬ ‫ما يخضع للمحددات السياسية هو التشريع والتنفيذ‪:.‬‬‫‪ .1‬يراعي ما يطابق حاجات الجماعة في علاج أدوائها وتفعيل قوتها وحريتها وعلمها‬ ‫وقدرتها وحياتها ووجودها‬‫‪ .2‬يراعي شروط الأمن العام في تطبيق احكام القضاء المشروطة في تطبيق القانون‪.‬‬ ‫فمن حق التنفيذ أن يعطل لحين حكما قد يخل بالأمن العام‬‫لماذا كل هذا الكلام في فلسفة القانون التي تترتب على الرؤية القرآنية لتنظيم الحياة‬‫الجماعية؟ لأني لا أفهم أن تعرف الحياة الجماعية بالاستناد إلى عنصر واحد هو عنصر‬‫الاقتصاد سواء كان رأسماليا أو اشتراكيا‪ .‬نظام حياة الجماعة أشمل من الاقتصادي الذي‬ ‫ه أشمل من هذه المقابلة رأس مال عمال‪.‬‬‫ولذلك فلا الإسلام رأسمالي ولا الإسلام اشتراكي ولا هو بين بين كعادة أصحاب خرافة‬‫الوسطية مثل تعريفه لا هو يهودي ولا هو مسيحي بل هو يتحدد إيجابا وليس سلبا بالنفي‬‫المزعوم للإفراط والتفريط السخيفين‪ .‬هو يتحدد بذاته وخاصة بالنسق الذي حاولت‬ ‫وصفه قانونيا على مستوى الحقوق والواجبات جميعا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولم أر أكثر قصورا واختزالا من الرؤية الجدلية حتى للاقتصاد‪ .‬فالسطحية تبلغ أوجها‬‫عندما يرد الاقتصاد إلى نوعين من الجدلية السطحية‪ :‬جدلية التنافس بين أصحاب راس‬‫المال آلية أولى للصراع وجدلية التنافس بين راس المال والعمل آلية ثانية للصراع‪ .‬في حين‬ ‫أن رأس المال وكلا التصورين خاطئ‪.‬‬‫فرأس المال لا يحصل إلا بتجميعه وهو في الغالب مبني على المشاركة الواسعة في تجميع‬‫الادخار وقلما تكون الشركات الكبرى مبنية على فرد واحد أو اسرة واحدة مثل الشركات‬‫الصغرى محدودة المسؤولة وحتى في هذه الحالة فالشرط هو تعاون أفراد الأسرة وليس‬ ‫صراعها والصراع يفككها وينهيها‪.‬‬‫والعمل لا يمكن أن ينجز شيء معتبر من دون مشاركة الكثير من أهل الخبرة كل في أحد‬‫وجوه المنتج الا في الحالات البسيطة التي يكون العمل منجز لفرد واحد متعدد‬‫الاختصاصات‪ .‬والتنافس في هذه الحالة يكون تسابقا في الكفاءة والانجاز وليس جدليا‬ ‫بمعنى الصراع الجدلي هيجليا كان أو ماركسيا‪.‬‬‫وتأتي الكذبة الكبرى وهي الصراع بين رأس المال والعمل‪ .‬وهي كذبة كبرى بمعنيين‪.‬‬‫فألا العملية الاقتصادية أعقد من أن تكون مقصورة على طرفين هما صاحب راس المال‬‫والعامل وثانيا وهذا هو الأهم فهذا الحصر في طرفين وجعلهما متصارعين دليل عدم وعيهما‬ ‫بمصلحتهما وليس ديل دفاع عنها‪.‬‬‫ولم أر أكثر عقما من الفكر النقابي الذي ينبني على هذه الرؤية الجدلية الصراعية‬‫التي تنتهي في الأخير إلى تهديم مؤسسة الانتاج الاقتصادي وشروط تحقيق مصلحة كل‬‫الأطراف التي تتدخل في العملية الانتاجية‪ .‬والعلة بالذات هي محاولة فرض الرؤية‬ ‫الجدلية الصراعية بجعل الانتاج بين طرفين‪.‬‬‫فالاقتصاد مثله مثل كل شأن جمعي لا يقتصر على علاقة بين طرفين هما صاحب راس‬‫المال والعامل بل هو شديد التعقيد وفيه حتما خمسة أطراف وليس طرفان وكل منهما‬‫جمعي بالتساوق وبالتوالي‪ .‬فلأشرح هذا التعقيد الذي يثبت سطحية التحليل الماركسي‬ ‫للاقتصاد بسبب الرؤية الاختزالية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولنبدأ بالعملية في مستوى التساوق أي في الآن وهنا‪ :‬فلا بد من‪:‬‬ ‫‪ .1‬فكرة ما لإنتاج ما‬ ‫‪ .2‬ولا بد من مستثمر لتلك الفكرة‬ ‫‪ .3‬ولا بد من ممول لها‬ ‫‪ .4‬ولا بد من نظام عمل ينتج الشيء الذي يسد حاجة اقتصادية بضاعة أو خدمة‬ ‫‪ .5‬ولا بد من الشرط الأهم وهو مستهلك لهذا الشيء الذي يسد حاجته‪.‬‬‫ومن السطحية توهم صاحب الفكر فرد وصاحب الاستثمار فرد وصاحب التمويل فرد‬‫وصاحب العمل فرد وصاحب الاستهلاك فرد بل كل هؤلاء جماعة ليسوا أفرادا بالتساوق‬‫وبالتوالي‪ .‬فبالتساوق الفكرة لا تأتي لمن هو من خارج الميدان وإذن فالفكرة تأتي وكأنها‬ ‫تسد ثغرة في نظام الانتاج لسد الحاجات‪.‬‬‫والاستثمار بنفس الاسلوب هو الوعي بهذه الثغرة وفرص الربح الذي قد ينتج عن‬‫تحويلها إلى فعل ينتج ما يسد تلك الحاجة والتمويل بنفس الأسلوب يرى وجاهة الاستثمار‬‫فيموله والعمل هو تحقيق ما تقدم والكل ينطلق من درس لحال الحاجات والطلب عليها‬ ‫وأحيانا تصطنع الحاجات وتبقى دائما بمنفس المنطق‪.‬‬‫هذا من حيث التساوق الآن وهنا‪ .‬ولكن صاحب الفكرة يندرج في تاريخ الافكار‬‫التطبيقية للعلوم ولها تاريخ وصاحب الاستثمار يندرج في تاريخ الاستثمارات وما استقر‬‫منها في العملية الاقتصادية وما فيها من ثغرات هي فرصة الاستثمار ونفس الأمر بالنسبة‬ ‫إلى التمويل‪ .‬والعمل بالجوهر تاريخ الخبرة‪.‬‬‫وأخيرا وهذا هو الأصل والمبدأ الأهم في العملية الاقتصادية بهذا المعنى الذي بينا هو‬‫الثقافة الاستهلاكية أو طبيعة الحاجات التي ثقافة ما جعلتها من أولياتها في حياة الإنسان‬‫المادية والروحية والتي وظيفة الاقتصاد الاستجابة لها بمنطلق مختلف تماما عن منطق‬ ‫الصراع الجدلي‪.‬‬‫وهذا المنطق هو ما يمكن تسميته بمنطق التسابق في الخيرات بالمعنى القرآني وهو يطبقه‬‫على التسابق الإيجابي في مجال التعدد الديني الذي يعتبره القرآن آلية الترقي في‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫التصورات الدينية التي تؤدي إلى التهذيب المتدرج للأخلاق وللروحانيات حتى تكون حرية‬ ‫المعتقد بابا لهذا الترقي‪.‬‬‫ونفس الأمر في كل عمل شرطه التبادل بين البشر في نفس الجماعة أو بين الجماعات‬‫المختلفة والتعاون يفترض التبادل بين المتعاونين ولا يمكن أن يحصل تبادل من دون‬‫تواصل‪ .‬وإذن فما يسمونه صراعا جدليا ويعتبرونه شرط التقدم هو خدعة‪ :‬لأن ذلك‬ ‫يحصل لما يصبح التبادل والتواصل مغشوشين‪.‬‬‫فإذا صار التبادل خاضعا لسلطان ينقل العملة من كونها أداة له إلى كونها سلطانا على‬‫أطرافه وإذا صار التواصل خاضعا لسلطان ينقل الكلمة من كونها أداة له إلى كونها سلطانا‬‫على أطرافه فإن الأمر لا يتعلق بما هو ذاتي للاقتصاد بل لما طرأ عليه فأفسده وجعله عملية‬ ‫خداع في التبادل والتواصل‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫التعريف السالب بلا هو كذا ولا هو كذا بين متناقضين يعني إخضاع المعرف إلى المنطق‬‫الجدلي وإن سلبا‪ .‬الرؤية الإسلامية للمجتمع الإنساني كما يحددها القرآن ليست لا‬‫رأسمالية ولا اشتراكية بل هي تتأصل في مجال هو التناغم الوجودي الذي لا يطابقه نوعا‬ ‫الصراع الجدلي مثاليا كان أو ماديا‪.‬‬‫وذلك يعني أن الصدام الجدلي ليس وصفا لنظام الوجود الاجتماعي الإنساني عامة بل‬‫هو وصف لانخرام هذا النظام أو في أقل تقدير لجعل الأمر الواقع الناتج عن هذا الانخرام‬‫أمرا واجبا‪\" .‬والأمر الواقع\" هو دائما ظاهر الاشياء لكن حقيقتها العميقة أو بينتها العميقة‬ ‫هي الأمر الواجب وذلك في كل شيء‪.‬‬‫ولعل أبرز مثال يستمد من علم الفلك‪ :‬فقد عاشت البشرية آلاف السنين على وهم ثبات‬‫الارض وحركة الشمس حولها لأن ذلك هو ظاهر الأمر‪ .‬لكن التقدم العلمي بين العكس‬‫تماما وهو أن الأرض هي التي تدور حول الشمس مع الاعتقاد بأن الشمس ثابتة لكن الثابت‬ ‫هو أن الشمس نفسها تدور حول شيء آخر‪.‬‬‫الأمر الواقع هو الاعراض والأمر الواجب هو قوانين ما يعرض في الظاهر وهي حقيقته‬‫الباطنة‪ .‬فرتب الحياة تبدو وكأنها في صراع وحرب دائمة بعضها على البعض‪ :‬الحيوان‬‫يأكل النبات خاصة أو بعض الحيوانات الأقل تطورا منه والإنسان لا يعيش من دون أكل‬ ‫ما دونه من الحي‪ .‬فتبدو الحرب هي الأساس‪.‬‬‫لكن لو كان ذلك كذلك واعتبرناه هو حقيقة الحياة لما كانت الحياة ككل ممثلة لنظام‬‫قائم الذات يجعل ذلك دورة متكاملة ليس ما فيها مما يبدو صراعا جدليا إلا جنيس العملية‬‫التي وصفناها في الكلام على الاقتصاد حيث يكون ما يقيم الارقى هو فائض ما ينتجه الادنى‬ ‫وإلا لانقرض‪.‬‬‫وعندما لا تحترم هذه القاعدة يزول الادنى فيزول معه الأعلى‪ .‬ولهذه العلة المبدأ ليس‬‫ما يعتبر صراعا جدليا بل النظام الأسمى الذي يجعل التوازن في النظام ككل هو الأصل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهو مبني على التناغم بين مستويات الحياة وليس على التناقض بينها‪ .‬ولما علم الإنسان‬ ‫هذا المبدأ بدأ يفكر في ما يحفظ الطبيعة‪.‬‬‫لذلك تغير مفهوم الاقتصاد والتعامل مع الطبيعة للحفاظ على شروط البقاء‪ .‬فلو كان‬‫منطق الصراع الجدلي هو القانون الأسمى لكان الحل في الإبقاء عليه حاكما في الاقتصاد‬‫وهو الاستغلال المفرط للطبيعة نباتها وحيوانها وإنسانها فيكون التاريخ غايته الانتحار‬ ‫والدمار وليس البقاء والإعمار‪.‬‬‫عندما نغلق دورة الحياة فلا نفصل بين مستوياتها فصلا يحدده منطق الصراع الجدلي‬‫تصبح هذه المستويات متخادمة كل منها يعلم أن بقاءه مشروط ببقاء ما دونه وما فوقه في‬‫السلسلة وهي دائرية وكلها تنبع من الطبيعة ومن التاريخ‪ :‬الطبيعة لسد الحاجات المادية‬ ‫والتاريخ لسد الحاجات الروحية‪.‬‬‫وبذلك نصل إلى العلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة والافقية بين الإنسان‬‫والتاريخ وإلى العلاقة بين العلاقتين‪ :‬فالرؤية التي تنظم العلاقة الأفقية هي التي تسدد‬ ‫الرؤية التي تنظم العلاقة العمودية‪ .‬وهذه الرؤية هي المميزة للثورة الإسلام‪:‬‬ ‫‪ .1‬رؤية الإنسان‪ :‬النساء ‪ 1‬ومبدأ الأخوة البشرية‪.‬‬‫‪ .2‬ثم علاقة الإنسان بالإنسان‪ :‬الحجرات ‪ 13‬المساواة بين البشر دون اعتبار‬ ‫الفروق العرقية والطبقية والجنسية والدينية ولا تفاضل بنيهم عند الله إلا بالتقوى‪.‬‬ ‫‪ .3‬التبادل العادل لضمان بقاء التعاون شرط البقاء‬ ‫‪ .4‬التواصل الصادق لضمان اطمئنان البعض للبعض‬ ‫‪ .5‬أساس هذا التناغم‪ :‬قيم المقومات الخمسة‪.‬‬‫والمقومات الخمس هي‪ :‬الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬وقيمها الموجبة هي‪:‬‬‫الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال‪ .‬وسوالبها هي العبودية والباطل والشر والقبح‬‫والذل‪ .‬وهذا هو الديني في الأديان وهو ما يذكر به القرآن ويحرره بنقد التحريف بمنطق‬ ‫التصديق والهيمنة‪ :‬تلك هي الرسالة الخاتمة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وبذلك نفهم لماذا يعتبر القرآن التعدد والتنوع في كل شيء من آيات الله وضرورة‬‫وجودية مصحوبة دائما بالتناغم بين المتعددين وليس بالصراع الجدلي‪ .‬وعلة هذا التصور‬‫الفصل الاصطناعي بين الكائنات وجعلها وكأنها تقوم بذاتها من دون هذا التعدد المتساوق‬ ‫والمتوالي دائما وما يفرقها أعراض مرضية‪.‬‬‫فهي واحدة بالتساوق بمعنى أن المتعاصرين الذين يبدون بمنطق الصراع الجدلي متنافين‬‫وخاصة في لحظات الحروب يكون ما بينهم من تبادل وتواصل هو الأساس رغم الظاهر الذي‬‫علته عدم التعارف معرفة ومعروفا وهو ليس خاصية إنسانية بل خاصية عدم تحقق‬ ‫الإنسانية في الطرفين وليس الصراع هو الذي يحققه‪.‬‬‫تحققه هو يكون بالتحرر من الصراع الجدلي وليس به‪ :‬لو كان التاريخ صراعا بين السيد‬‫والعبد مثلا لظل دائما كذلك ولما تم التعارف لأن حصوله يعني توقفه ولا يمكن لنظام‬‫وجود الشيء أن يتوقف من دون توقف وجود الشيء‪ .‬منطق الصراع الجدلي لو كان هو‬ ‫نظام الأشياء لاستحال أن يحصل الاعتراف المتبادل‪.‬‬‫لا بد أن يكون منطق التناغم النظامي هو الاساس ومنطق الصراع الجدلي من أعراض‬‫انخرامه ومن ثم فهو ليس القانون العام بل هو غياب فاعلية القانون العام غيابا مؤقتا‪ :‬من‬‫جنس المرض الذي يوقف عنفوان الحياة‪ .‬ولذلك فهو يؤدي إلى انخرام العلاقتين شرطي‬ ‫الحياة‪ :‬تدمير الطبيعة وتدمير التاريخ‪.‬‬‫وهذه الرؤية لا يمكن أن تعرف سلبا بكونها ليست رأسمالية وليست اشتراكية بل هي‬‫تعرف إيجابا في مستوى آخر غير مستوى الصراع الجدلي الذي يحول دون وجود حل وسط‬‫بينهما وهو البديل منهما كليهما دون أن يكون وسطا بينهما فيه من هذا ومن ذاك بل هو ما‬ ‫بسببه لا أحد منهما بمستقر لكونه مرضيا‪.‬‬‫فرد الاقتصاد إلى علاقة ثنائية صراعين بين رأس المال والعمل علتها اختزال البنية‬‫الكلية والاكتفاء بطرفين يليه اختزال الحياة الجماعية إلى هذا الصراع الذي هو عرض‬‫من اعراض الاختزال يليه تحويل هذا الصراع إلى حرب على الطبيعة في العلاقة العمودية‬ ‫وعلى التاريخ في العلاقة الافقية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وبهذا يتعلق دور النذير لأنه هو ما به يفسر القرآن تدمير الحضارات‪ .‬والبديل‬‫القرآني هو ما يتعلق به دور البشير لأنه هو ما به يفسر القرآن بناء الحضارات‪ .‬ومن ثم‬‫فكلا الموقفين في الانظمة العربية لم يهتم بالنذير ولا بالبشير بل انطلاقا من عقدة النقص‬ ‫قاسوا رؤية الإسلام على الموجود لتقليده‪.‬‬‫ولست أنكر أن أي حضارة تبحث عن شروط الاستئناف بعد انحطاط يقع لها ما وقع‬‫عندنا‪ :‬فهي تتبنى ما فاقها به غيرها وتنسبه إلى تراثها أو تطلبه منه حتى تبرر أخذه‬‫بمنطق بضاعتنا ردت إلينا‪ .‬وإذن فليس هذا ما يعنيني الإشارة إليه ما دام أمرا كونيا ما‬ ‫يعنيني هو الخلط بين المستويات‪.‬‬‫فلو كانت المقارنة متعلقة بنفس المستويات لاعتبرت ذلك معقولا‪ .‬لو قارنوا مثلا بين‬‫اعمال المسلمين مع أعمال الأوروبيين لفهمت ذلك‪ .‬أما أن يقارنوا القرآن بأعمال‬‫الأوروبيين وأن يبحثوا عن فكر ماركس أو هيجل وداروين وفرويد في القرآن ويعتبرون‬ ‫ذلك تشريفا له فدليل خلط بين المستويات‪.‬‬‫فالقرآن يتكلم في مثل الاشياء ويمكن أن تقارن رؤاه برؤى الكتب الدينية الأخرى منزلة‬‫كانت أو طبيعية فتتم المقارنة بين رؤيتين للوجود ومثله‪ .‬مقارنة القرآن بأعمال من طبيعة‬‫أخرى يزعمها أصحابها علمية وليست رؤيوية عامة فخلط بين المستويات‪ .‬المطلوب ما يترتب‬ ‫على الرؤية بالقياس إلى نظائرها‪.‬‬‫لذلك فلست أقارن القرآن مع هيجل أو ماركس عندما أدحض المنطق الجدلي الذي هو‬‫ميتافيزيقا جديدة بل أبين أن الرؤية القرآنية لا يمكن أن تقبل بالمنطق الجدلي اساسا‬‫لفهم الوجود وتفسير ما يتجلى منه في الطبيعة والتاريخ وخاصة في علاقات البشر ومن ثم‬ ‫فكل من يبحث عن الجدل فيه لا يتبع رؤية القرآن‪.‬‬‫وأبرز مثال كان أول خلاف لي مع الشيخ القرضاوي في أول لقاء بينه وبيني‪ .‬فلما استعمل‬‫كلمة تدافع خلال أول ندوة لمركز الدراسات التابع للجزيرة مباشرة بعد تأسيسه‪ .‬فالتدافع‬‫مفهوم جدلي مبني على الثنائية الحزبية الصراعية‪ .‬لكن القرآن لا يوجد فيه مفهوم‬ ‫التدافع بين البشر بل الدفع من الله‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ومفهوم الدفع هو فاعلية المبدأ العام في أي نظام‪ :‬فحتي في الفيزياء المادية الصرفة‬‫نظرية الصدام بين جرمين ليست تدافع ذاتي بل هي نتيجة دفع خارجي علته النظام‬‫القانوني للقوى خلال اللقاء بينها‪ .‬فالشمس والارض لا تتدافعان لا جذبا ولا دفعا إلا‬ ‫مجازا بل قانون الجاذبية هو الذي يحقق ذلك‪.‬‬‫والفرق بين الأمرين شاسع‪ .‬فعندما يكون كل جرم متدافع فذلك يعني أن القانون هو‬‫الصدام والحصيلة هي ما بين المتصادمين وليس القانون الذي تخضع له القوى هو الناظم‬‫لمجريات اللقاء بين القوى في اي مجال معين‪ .‬ففي المغناطيس القانون الناظم هو قوانين‬ ‫المجال المغناطيسي وليس الممغنطات فيه‪.‬‬‫ولنختم بمثال الاقتصاد‪ :‬فليس الصدام بين راس المال والعمل هو المحدد بل المعادلة‬‫الكاملة للفعل الاقتصادي عامة وهو البنية المخمسة التي تشمل الجماعة كلها بل والإنسانية‬‫كلها هي المحددة‪ :‬الفكرة والاستثمار والتمويل والعمل والاستهلاك‪ .‬وهذه كلها تشمل‬ ‫الجماعة الواحدة والبشرية في كل تاريخها‪.‬‬‫فالأفكار التي تطبق فتستثمر لإنتاج معين وتمول لتتحقق وتعمل لتنتج فعلا حتى تسد‬‫حاجة المستهلك جماعية في كل هذه المستويات الخمسة وهي ليست جماعية في جماعة واحدة‬‫لأن تحديد المستهلك يتجاوز حدودها ولأن العادات الاستهلاكية هي بنت ثقافة عصر وتطور‬ ‫ثقافي لكل العصور‪.‬‬‫وهذا يعني أن الاقتصاد الذي يسد حاجات مادية بالأساس ليس قابلا لان يفصل عن‬‫الثقافة التي تسد حاجات روحية بالأساس ومن ثم فالأمر كله متعلق بما بين الحاجات المادية‬‫والحاجات الروحية للإنسان من علاقات هي علة وجود الجماعات وشرط ما بين التبادل‬ ‫والتواصل من علاقات فيها‪.‬‬‫ولست أنفي أن ما يظهر في \"الأمر الواقع\" يعد تدافعا لكنه في الحقيقة دفع خارجي‬‫للمتدافعين في حالات انخرام النظام وفي حالات إعادة النظام‪ .‬فخذ ابسط مثال في عادات‬‫العرب حاليا‪ :‬يبدو أنهم يتدافعون على ركوب الحافلات مثلا‪ .‬لكن الدافع هو انخرام نظام‬ ‫النقل في البلاد العربية والتربية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وفي حالة الدفع الألهي لمنع منع الحرية الدينية (تهديم الصوامع والبيع أو لمنع العدوان‬‫على المستضعفين‪ :‬حالتان في القرآن) هو الدي يدفع بعض الناس ببعضهم حتى يعيد‬‫الحقوق فيحول دون أن يكون الوجود مبنيا على التدافع بين البشر‪ .‬التدافع بين البشر‬ ‫دليل انخرام النظام وليس هو النظام الوجودي‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وغاية المحاولة بيان أنه‪ :‬حتى لو كانت نظرية داروين في أصل الإنسان وفرويد في بينة‬‫النفس وماركس في المادية الجدلية علوما‪-‬وهي ليست علوما‪ -‬فإنها تبقى دون القرآن ولا‬‫تنتسب إلى جنس قوله‪ .‬فهو رؤية وجود سامية قابلة لأن تكون أصل إيحاء يمكن أن يوجه‬ ‫الإنسان لإبداع النظر والعقد والعمل والشرع‪.‬‬‫وكل من يبحث فيه بغاية اكتشاف معرفة علمية فضلا عن فرضيات لم تتأكد علميتها بعد‬‫بل وثبتت أنها تهويمات لا علمية فيها يحط من شأنه ولا يرفعه بخلاف ما يتوهم‪ .‬وهي‬‫محاولات ساذجة تدل على عدم فهم معنى العلمي ومعنى الديني ناتجة عن خلط بين‬ ‫المستويات‪ .‬ونفس الأمر يمكن أن يقال عن الفلسفة‪.‬‬‫فلا الديني ولا الفلسفي بقابلين لأن يقاسا بالمعرفة العلمية الوضعية حتى لو كانت‬‫صحيحة وشبه ثابتة علما وأنه لا توجد معرفة علمية مطلقة الصحية ونهائية لأنها دائمة‬‫التغير حتى لو طال عمر بعض \"الحقائق\" فيها بسبب بقائها بمعيار مستوى مداركنا صامدة‪.‬‬ ‫لكنها في النهاية ستتغير بتقدم أدوات إدراكنا‪.‬‬ ‫وأدوات إدراكنا نوعان‪:‬‬‫‪ .1‬أدوات التقدير الذهني وهي على ضربين التقدير الذهني النظري والتقدير‬ ‫الذهني العملي والاول كالرياضيات والوسميات والثاني كالخلقيات والاستراتيجيات‪.‬‬‫‪ .2‬أدوات التطبيق العلمي على الموجودات التي من عالم الإدراك الحسي وهي على‬ ‫ضربين الطبيعيات والإنسانيات‪.‬‬‫وإذا جاز لي أن أعرف المشترك بين الديني والفلسفي أو الواحد فهو الرؤى الوجودية‬ ‫أصل التقديرات الذهنية بنوعيها وبضربيهما‪.‬‬ ‫‪ .1‬الديني هو شكل الوحي الوجداني‬ ‫‪ .2‬الفلسفي شكل الوحي العقلاني‪.‬‬ ‫• خاص بالرسل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫• وبكبارالفلاسفة‪.‬‬ ‫كلاهما متلق ومبدع لوسميات موحية لكل إبداع في النظر والعقد والعمل والشرع‪.‬‬‫فالنظر والعقد هما شرط الاستراتيجيات العلمية والعمل والشرع هما شرط‬‫الاستراتيجيات العملية‪ .‬والاستراتيجيات الأولى وظيفتها علاج العلاقة العمودية شرطا‬‫لاكتشاف للسلطان على سيلان الطبيعة الابدي والثانية وظيفتها علاج العلاقة الافقية‬ ‫شرطا لاكتشاف السنن للسلطان على سيلان التاريخ الأبدي‪.‬‬‫وبهذا فقد اكتشفنا العالم الذي يحل فيه الإنسان المبدع الذي يخرج من العالم الطبيعي‬‫والعالم التاريخي إلى عالم أرحب منهما فيتعامل معهما وكأنهما حالة ما من إمكان مفتوح‬‫لعدة حالات فيعتبرهما بعض الممكن وأحد العوالم اللامتناهية التي يبدعها الإنسان‬ ‫كمقدرات ذهنية برؤى الوجدان والفرقان‪.‬‬‫وبتطبيق هذه المقدرات الذهنية المستوحاة من واحد الرؤى أو واحد الديني والفلسفي‬‫على الموجود القائم بذاته من دون أن نعلم حقيقته ولا حقيقة قيامه بذاته رغم أننا نتلقى‬‫منه معطيات عن طريق مداركنا الحسية الخارجية والداخلية فتوحي لنا بما يمسك بها من‬ ‫الانظمة فنعبر عنها بالمبدعات الذهنية‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن لنا نوعين من التلقي وعلاقتين بينهما‪ :‬التلقي الذي هو تلقي كبار المبدعين‬‫من الرسل والفلاسفة وهو الرؤيوي المشترك بين الوجداني والعقلاني أو الديني‬‫والفلسفي‪ .‬والتلقي الذي هو تلقي جميع البشر وهو الإدراك الحسي‪ .‬وكلا التلقيين‬ ‫موحيان لكل إبداع إنساني لاستراتيجية النظر والعمل‪.‬‬‫واستراتيجيات النظر والعقد (في مصدري الإدراك الحسي واللاحسي) واستراتيجيات‬‫العمل والشرع (نظام الإدراك الحسي واللاحسي) تعني أن الإنسان لا يمكن أن يعلم‬‫المخلوقات القائمة بذاتها خارجه بما فيها ذاته التي هي خارج ذاته من دون أن يخلق هو‬ ‫بنفسه كائنات مطلقة الشفافية هي أدوات علمه وعمله‪.‬‬‫ولا نعلم حقيقة العالمين الطبيعي والتاريخي اللذين هما مصدر ما نتلقاه من معطيات‬‫حسية حول الوجود القائم بذاته خارجنا بما في ذلك وجودنا الشخصي ولا نعلم حقيقة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الديني والفلسفي اللذين هما مصدر ما نتلقاه من معطيات لا حسية حول ما وراء الوجود‬ ‫القائم بذاته‪ .‬وهما موحيان لبدعي الاستراتيجيات‪.‬‬‫وسواء كانت الاستراتيجيات للنظر والعقد في علوم الطبيعة أو للعمليات والشرع في علوم‬‫الإنسان فلا بد من الجمع بين الوجود الخارجي (الطبيعة وماوراءها والتاريخ وماوراءه)‬‫والقدرة الذاتية لمعرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ تطبيقا للمقدرات الذهنية بنوعيها‬ ‫على ما نتلقاه من الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫هل معنى هذا أن الوحي ليس خاصا بالرسل؟ نعم‪ .‬إذا كان القرآن يعتبر الرسول الخاتم‬‫مذكرا وليس مقدما للإنسان ما ليس عنده فمعنى ذلك أن الوحي عام لكن الرسل هم من‬‫فضلهم الله بعدم نسيان ما في كيان الإنسان من دين فطري وهم إذن لا يتميزون بمضمون‬ ‫الموحي بل بخاصية عدم نسيانه‪.‬‬‫والرسول الخاتم ليس رسولا برسالته فحسب بل هو أيضا رسول بكل الرسالات السابقة‬ ‫والتي لم يكن تذكيرها كافيا لينهي آفة النسيان‪ .‬ويثبت ذلك أمران‪:‬‬‫‪ .1‬خاصية \"مصدق لما بين يديه ومهيمن عليه\" بمعنيين يحفظه مما شابه من تحريف‬ ‫فالهيمنة هي ائتمان عليه‪.‬‬ ‫‪ .2‬شرط الإسلام الإيمان بكل الرسالات السابقة‪.‬‬‫وكنت دائما متحيرا في هذه المسألة حتى فهمت الآية ‪ 177‬من البقرة‪ :‬فالإيمان بالسابق‬‫من الكتب والرسالات والرسل لا يختلف عن الإيمان بالقرآن لأن المطلوب الإيمان به منها هو‬‫ما تصبح عليه عندما يحررها القرآن مما شابها من تحريف أي عندما ترد إلى القرآن الذي‬ ‫هو الديني فيها وما عداه تحريف‪.‬‬‫فلكان الآية ‪ 177‬تكرر بمقتضى التفصيل الإيمان بالرسول الخاتم وبرسالته ببيان أن‬‫ذلك يقتضي الإيمان بما يرد إليه في الرسالات السابقة وتنزيه الرسل السابقين من‬‫التحريفات التي طرأت على رسالاتهم‪ .‬فهي جميعا تذكير لمن نسي الديني الفطري (طبعا‬ ‫بشرائع مختلفة لأنها إضافية إلى النضوج الإنساني)‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫مصدر الرؤى الدينية والفلسفية واحد وهو الديني والفلسفي الفطري أو الوعي بأن‬‫للطبيعة والتاريخ (والإنسان مكون منهما) ما وراء موجود بالفطرة في وجدان الإنسان‬‫وفرقانه والرسل وكبار الفلاسفة أمدهم الله بتلقي التذكير من خلال تدبر الكون طبيعيه‬ ‫وتاريخيه وهم مكلفون بصوغ الرؤى بالوجدان والفرقان‪.‬‬‫وما يتميز به الرسول الخاتم ‪-‬ولذلك كان خاتما‪-‬هو بيان هذا التطابق بين الوجداني‬‫والفرقاني في القرآن الكريم لأنه ليس تذكيرا بالمعجزات التي تخرق النظام للتأثير في‬‫الخيال بل هو تذكير بالنظام الطبيعي والتاريخي أو بقوانين الطبيعة وسنن التاريخ التي‬ ‫طبيعتها‪ :‬استراتيجية رياضية وسياسية‪.‬‬ ‫والاستراتيجية الرياضية نوعان‪:‬‬‫‪ .1‬ابداع المقدرات الذهنية النظرية وإبداع تطبيقاتها على معطيات الطبيعة وذلك‬‫هو العلم وشرطه العقد أي الإيمان بوجود العالم الطبيعي وبكونه ذا قوانين وبكون الإنسان‬‫قادر على اكتشفاها بالعقل والتجربة‪ .‬فهي خلقت بقدر والقوانين هي اكتشاف هذا القدر‬ ‫الرياضي‪.‬‬‫‪ .2‬ثم ابداع المقدرات الذهنية العملية وإبداع تطبيقاتها على معطيات التاريخ‪.‬‬‫والتاريخ له سنن لا تتبدل ولا تتحول واكتشاف هذه السنن يعني اكتشاف تشريعات أو‬‫أنظمة من المواضعات الإنسانية التي هي جوهر الاستراتيجيات العملية والسياسية للإنسان‬ ‫في علاقته بالطبيعة وبالإنسان وبذاته‪.‬‬‫ولما كان الرسول خاتما فالقرآن هو التذكير الأخير وهو ما يعني أن الإنسان بات متحررا‬‫من النسيان وأصبح حضور مضمون الرسالة التي تم التذكير بها حاضرا حضور العالم‬‫الطبيعي والتاريخي أمام وعي كل إنسان وهو ما يعني أن الامة يكفيها أن تكون موجودة‬ ‫ومطبقة للإسلام حتى تكون تجسد التذكير النهائي‪.‬‬‫ولا أقصد بوجود الأمة وتجسيد التذكير النهائي هو مجرد الوجود العضوي والمادي بل‬‫الوجود التي يجسد حرية الإرادة وحقيقة العلم وخيرية القدرة وجمالية الحياة وجلالية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الوجود‪ .‬فإذا فقدنا هذه المقومات الوجودية والخلقية نفقد معاني الإنسانية فلا نبقى‬ ‫جديرين بالاستخلاف وشاهدين على العالمين‪.‬‬ ‫ويتحقق لنا ذلك بشروط أهمها‪:‬‬‫‪ .1‬أن يكون لنا استراتيجية قرآنية في النظر والعقد تعالج علاقتنا بالطبيعة لنكون‬ ‫قادرين على تعمير الارض‪.‬‬‫‪ .2‬أن يكون لنا استراتيجية قرآنية في العمل والشرع تعالج علاقتنا بالتاريخ لنكون‬ ‫قادرين على الاستخلاف‪.‬‬ ‫‪ .3‬أن يكون لنا بهذين الاستراتيجيتين شروط الرعاية‪.‬‬‫‪ .4‬ثم أن يكون لنا بهذين الاستراتيجيتين شروط الحماية الذاتية للرعاية الذاتية‬‫‪ .5‬وأخيرا فهذان الاستراتيجيتان هما جوهر السياسية ببعديها أي التربية بلا وساطة‬‫والحكم بلا وصاية وهو ما يعني أن نطبق حرفيا الآية ‪ 38‬من الشورى في كل أمورنا‬ ‫الدنيوية والاخروية‪.‬‬‫والآية تجعل الاخروية متقدمة وهو معنى \"استجابوا لربهم\" ومن ثم فالاستجابة إلى الرب‬‫هي عين الإيمان بمضمون الرسالة الذي يرد إلى تذكير الإنسان بمنزلته الوجودية معمرا‬‫للأرض وخليفة بمعنى أنها تذكره بضرورة الإيمان بحرية إرادته وبحقيقة علمه وبخيرية‬ ‫قدرته وبحمال حياته وبجلال وجوده‪.‬‬‫وتبشره بكل الخير في حياته الدنيوية والأخروية إن عمل بما يترتب على هذه المقومات‬‫وتنذره بالعكس إن لم يفعل فيكون مسؤولا عن خيره وشره في الدنيا والآخرة‪ .‬وما لم‬‫يراع ذلك فلن يكون منتسبا إلى خير أمة أخرجت للناس ولن يشهد على العالمين‪ .‬ذلك أنه‬ ‫خسر منزلة المذكر بالرسالة بمجرد وجوده‪.‬‬‫فوجوده بدونها كعدمه‪ .‬لان ما يذكر من وجوده هو هذه القيم الملازمة للمقومات لتكون‬‫دالة على أن التذكير النهائي متجسم في أمة محمد‪ .‬فمن لم يكن حر الإرادة وصادق العلم‬‫وخير القدرة وجميل الحياة وجليل الوجود يعبد غير الله وباطل العلم وشري الإرادة‬ ‫وقبيح الحياة وذليل الوجود فليس مسلما‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أما بقية الآية فتحدد طبيعة نظام الحكم (أمر الجماعة=جمهورية) وأسلوب الحكم‬‫(شورى بين الجماعة=ديموقراطية)‪ .‬والجمهورية الديموقراطية المباشرة هدفها الاساسي‬‫علاج شروط العيش المشترك السلمي بحل المشكل الاقتصادي الاجتماعي‪ :‬الانفاق من‬ ‫الرزق وأبوابه معلومة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫كيف يمكن أن نستنتج من الرؤية القرآنية بعد أن عرفناها في المحاولات السابقة والتي‬‫نعتبر ما حل بعلوم الملة من تحريف علته عدم البدء بتعريفها لتفتح نظاما من الآفاق‬‫المنتظمة المحررة مما حدث في التعامل مع القرآن بتفتيت وتشتيت أشبه بما حل بدار الإسلام‬ ‫من تفتيت وتشتيت مصدرين للانحطاطين‪.‬‬ ‫الانحطاطان هما‪:‬‬‫‪ .1‬انحطاط النظر والعقد علة للعجز في علاج العلاقة العمودية بين الإنسان‬ ‫والطبيعة شرط الاستعمار في الاض‪.‬‬‫‪ .2‬انحطاط العقد والشرع علة للعجز عن علاج العلاقة الأفقية بين الإنسان‬‫والتاريخ شرط الاستخلاف‪ .‬وغياب الشرطين هو معنى فساد معاني الإنسانية والتحول إلى‬ ‫عالة (ابن خلدون)‪.‬‬‫وكما أسلفت فإن العلاقة الأفقية مقدمة على العلاقة العمودية لأنها هي التي تتأسس‬‫على الوجود والإرادة اللذين يترجمان في العمل والشرع بالرؤية والسياسة والعلاقة‬‫العمودية تتبعها لأنها أحد أبعاد الرؤية والسياسة بل هي أهم أدواتها لتحقيق الغاية التي‬ ‫هي القدرة المادية والروحية‪.‬‬‫فيكون مجال العلاقة العمودية هو مجال العلوم بالمعنى الذي عرفناه في المحاولة السابقة‬‫أعني في نوع ابداع المقدرات الذهنية المؤسسة للمعرفة (استراتيجية الرياضيات الخالصة)‬‫التي تتأسس عليها العلوم (استراتيجية الرياضيات المطبقة على التجربة الطبيعية‬ ‫والتاريخية)‪.‬‬‫ويكون مجال العلاقة الأفقية هو مجال الفنون بالمعنى الذي عرفناه في المحاولة السابقة‬‫أعني في نوع ابداع المقدرات الذهنية المؤسسة للأذواق (استراتيجية السياسيات الخالصة)‬‫التي تتأسس عليها الأعمال (استراتيجية السياسيات المطبقة على التجربة التاريخية‬ ‫والطبيعية)‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وثمرة العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة هي الثروة وهي موضوع التبادل في‬‫الجماعة وبين الجماعات وثمرة العلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان هي التراث وهو‬‫موضوع التواصل فيهما‪ .‬وطبعا فالتواصل مداره الثروة والتراث كذلك‪ .‬التواصل في الاولي‬ ‫حول التبادل وهو في الثانية حول التواصل ذاته‪.‬‬‫والتبادل في ذروته الاعم التي تحتوي كل المتبادلات بالقوة هو رمز الفعل أو العملة‪.‬‬‫والتواصل في ذروته الأعم التي تحتوي كل التواصلات بالقوة هي فعل الرمز أو الكلمة‪.‬‬‫فيصبح كل الوجود الإنسان من حيث هو كائن عضوي روحي محكوما برمزين‪ :‬رمز الفعل‬ ‫أو العلمة وفعل الرمز أو الكلمة‪.‬‬‫ولذلك فالرؤية القرآنية تجعل دور التذكير ووظيفة البشير والنذير في ما يتعلق بقيم‬‫الاستخلاف الضامنة لأهلية الإنسان له مدارها أحكام هذين الأداتين أداة التبادل الأعلى‬‫وأداة التواصل الأعلى‪ :‬فإذا فسدت أداة التبادل وأداة التواصل وتحولتا إلى سلطان على‬ ‫المتبادلين والمتواصلين فسدت كل القيم‪.‬‬‫وفساد الرمزين رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) هو ما يرمز إليه القرآن‬‫ببعدي العجل في دين العجل‪ :‬فساد العملة أو مادة العجل التي هي الذهب (العملة) وفساد‬‫الكلمة أو صوت العجل الذي هو الخوار (الكلمة)‪ .‬وهذا الفساد المضاعف يفسد الدنيا‬ ‫والآخرة ولذلك فهو ذروة التحريف الديني‪.‬‬‫وينبغي هنا أن نذكر بالقيم في بعدها المادي وهي موضوع ما يقدر بالعملة والقيم في بعده‬‫الروحي وهي موضوع ما يقدر بالكلمة (صاحب كلمة مثلا)‪ .‬فالغش في العملة والربا‬‫يفسدان العملة والخداع في الكلمة والكذب يفسدان الكلمة‪ .‬وإذا فسدت العملة فسد‬ ‫التبادل وإذا فسدت الكلمة فسد التواصل‪.‬‬‫وعادة ما يميز في القيم المادية (الاقتصادية) نوعان من القيم‪ :‬الاستعمالية والتبادلية‪.‬‬‫وعادة ما يميز في القيم الروحية (الثقافية) نوعان من القيم‪ :‬الجمالية التي تطلب لذاتها‬‫وتقبل الدخول في الاقتصاد والجلالية التي لا تقبل الدخول في الاقتصاد لكونها تتعلق‬ ‫بكرامة الإنسان‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وأصل هذه القيم الاربع التي هي فروعه هو كيان الإنسان من حيث قيامه العضوي‬‫وقيامه الروحي‪ .‬ومعنى ذلك أن كل القيم هي في الحقيقة منزلة أبعاد الإنسان \"المادية\"‬‫من حيث هو كائن ذو حاجات عضوية وأبعاد الإنسان الروحية من حيث هو كائن ذو حاجات‬ ‫روحية‪ .‬والجامع لا يقبل البيع والشراء والتبادل‪.‬‬‫والقيم المادية أو الاقتصادية معلومة ولا تحتاج إلى شرح‪ .‬لكن القيم الروحية بحاجة‬‫إلى شرح وخاصة الفرق بين القيم الجمالية والقيم الجلالية‪ .‬فيمكن أن يشتري أمير‬‫مراهق لوحة بما كان يمكن أن يعالج حاجات جيل كامل من شباب شعبه لكنه لا يمكن أن‬ ‫يشتري شرف إنسان حر يفضل الموت على فقدان شرفه‪.‬‬‫الشرف قيمة جلالية لا يتنازل عنه أحد إلى إذا كان ذليلا ولا يفهم معنى الجلال‪ .‬فتكون‬‫القيمة الرابعة من فروح الكرامة أسمى القيم لكن سموها علته جمعها بين كل القيم‬‫الفرعية الاربعة بمعنى أن الكرامة تقتضي أن يكون للإنسان سهم في الفروع كلها ليكون‬ ‫رئيسا بالطبع وأهلا للخلافة‪.‬‬‫الآفاق المنتظمة التي تترتب على الرؤية لأنها تجري في الإطار الممكن العام أعني في عالم‬‫المعاني وليس في عالم الدلالات تبدو وكأنها مبدعة لموضوعاتها التي تحيل عليها من جنس‬‫الميثولوجيا واليتوبيا وليست من جنس محاكاة موجودات سابقة الوجود عنها كما في حالة‬ ‫عالم الدلالات‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن ضرورة إيجادها قبل علم عالم الطبيعة والتاريخ للعمل فيهما على علم‬‫شرط في علمهما والعمل فيهما بمقتضى علمهما الذي يصاغ ويعبر عنه بها‪ .‬فالآفاق المنتظمة‬‫هي التقديرات الذهنية للنظر والعقد أساسا لعلم الطبيعة والتاريخ وهي التقديرات‬ ‫الذهنية للعمل والشرع للعمل فيهما على علم‪.‬‬‫فيكون الإنسان لا يستطيع أن يعلم الطبيعة والتاريخ ولا يستطيع أن يعمل فيهما على‬‫علم إلا إذا \"خلق\" عالمين من التقديرات الذهنية التي لا مرجعية خارجية لها من جنس‬‫الطبيعة والتاريخ ذوي الوجود المدرك بالحواس بحسب درجات تطويرها لمضاعفة فاعليتها‬ ‫بما يصنعه من أدوات لتقوية مداركها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فما من علم إلى وهو رياضيات تطبيقية وما من عمل إلى وهو أخلاقيات تطبيعية‪.‬‬‫فالطبيعيات والإنسانيات رياضيات تطبيقية أولاهما بوضوح تام ودقة متناهية والثاني‬‫تسعى إلى أن تصل إلى هذا المستوى لكنها تبقى دون ذلك لأنها أكثر تعقيدا ولذلك‬ ‫فالرياضيات فيها كيفية وليست كمية‪.‬‬‫فما من علم إلى وهو رياضيات تطبيقية وما من عمل إلى وهو أخلاقيات تطبيعية‪.‬‬‫فالطبيعيات والإنسانيات رياضيات تطبيقية أولاهما بوضوح تام ودقة متناهية والثاني‬‫تسعى إلى أن تصل إلى هذا المستوى لكنها تبقى دون ذلك لأنها أكثر تعقيدا ولذلك‬ ‫فالرياضيات فيها كيفية وليست كمية‪.‬‬‫إذا كان ذلك كذلك ولم نقل بالخلق عن عدم فلا بد من أن نعتبر المقدرات الذهنية‬‫بنوعيها ذات مصدر ما والفرضية الاقرب للرجحان هي أن للإنسان تلق من طبيعة مختلفة‬‫عن التلقي الحسي الذي هو الركن الثاني للعلم والعمل بعد هذا الركن الاول أو المقدرات‬ ‫الذهنية‪ .‬فهل هي فطرية ويكفي تذكرها؟‬‫هل يمكن القول بنظرية سقراط وأفلاطون فتكون من جنس الفطرة الدينية في الرسالة‬‫الإسلامية التي تقول إن الرسول لم يأت بعلم ليس موجودا عند الإنسان بل هو يذكر بعلم‬‫مركوز في ذات الإنسان المفطور عليه؟ لكن ألا يعتبر القرآن العلم مكتسبا وليس فطريا؟‬ ‫فما هو المكتسب وليس فطريا؟‬‫فرضية العمل عندي هي أن المكتسب هو العلم والعمل بالطبيعة والتاريخ أي العلم بما‬‫له مرجعية خارجية سابقة عنه والعلم فيه أي الطبيعة والتاريخ بما فيهما الذات الإنسانية‬‫لكن التقديرات الذهنية السابقة عنهما والمشروطة فيهما مبدعة لموضوعها وعلمه والعمل‬ ‫فيه وهي ليست من جنس الإدراك الحسي‪.‬‬‫ولنقل إنها من جنس القدرة على الإدراك الحسي‪ .‬ولو افترضنا أن الإدراك الحسي‬‫مبدع لموضوعاته لكان هو بدوره من جنسها‪ .‬لا نستطيع أن نسلم بأن الأدراك الحسي مبدع‬‫للموضوعات التي يدركها رغم أنه في الحقيقة مبدع لها بنحو ما لأن ما يدركه من الطبيعة‬ ‫والتاريخ يثبت له العلم أوهام بمنظور علمهما‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فما نراه أو نسمعه أو نشمه أو نذوقه أو نملسه من العالم \"المادي\" طبيعيا كان أو تاريخيا‬‫نكتشف بالتدريج وبحسب تطوير أدوات إدراكنا الحسي بفضل ما نبدعه من أدوات تقوية‬‫فاعلية الحواس مختلف تماما عما ندركه بها مباشرة من دون هذه الأدوات‪ .‬إنها مبدعات‬ ‫حواسنا وليست حقيقة العالم الخارجي‪.‬‬‫فلو افترضنا تطور أدوات الإدراك الحسي التي نصنعها لا متناهيا لكانت مستويات موضوع‬‫الإدراك الحسي غير المباشر بتوسطها لامتناهي المستويات وكل ما تقدم على المستوى \"م\"‬‫من المستويات \"م ‪ 1-‬إلى غير غاية\" هي من إبداع مستوى الإدراك الحسي السابق عليه‬ ‫فيكون \"م\" هو بدوره إبداعا لمستواه كذلك‪.‬‬‫هل معنى هذا أن القول بالوحدة المطلقة الصوفية هو الحقيقة؟ أعني هل حقيقة الوجود‬‫الخارجي لا تتجاوز هذه المستويات الإدراكية التي هي من صنع مستويات الإدراك الحسي؟‬‫فيكون الإنسان صاحب هذه القدرة على \"خلق\" مرجعيات إدراكاته فيكون لنا مقدرات ذهنية‬ ‫ومقدرات حسية بحسب عالمين مختلفين؟‬‫لكن الإنسان هو بدوره موضوع للإدراكين فهل هو بدوره مقدر ذهني ومقدر حسي فيكون‬‫بهذا المعنى مقدرا ذهنيا مبدعا لذاته المعقولة والعاقلة ومقدرا حسيا مبدعا لذاته‬‫المحسوسة والحاسة؟ ألسنا بهذه نؤله الإنسان أم نحن أمام نسخة ممثلة لحقيقة الإله دون‬ ‫أن تكون إلها وهو معنى الخلافة العميق؟‬‫هل يكون هذا مجرد نسخة من الله تجعل الإنسان يعرفه بمعرفة ذاته لأنه في آن يدرك‬‫أن ما يمكن أن يغتر فينسبه إلى ذاته لا يمكن أني كون من \"إبداعها \" بل هو تلق من جنس‬‫التلقي الحسي‪ .‬فنحن نتلقى بالحواس معطيات تحيل إلى مرجعية خارجية نعلم أننا لسنا‬ ‫نحن صانعيها‪.‬‬‫ذلك أن عدم تناهي مستويات ما ندركه من الطبيعة والتاريخ أو العالم الخارجي الذي‬‫نسميه واقعا بتطور أدوات إدراكنا لا نصل فيه إلى لحظة يكون فيها إدراكنا هو موضوع‬‫ذاته وينتهي وجود المدرك الخارجي بل إن كل مستويات إدراكنا تبقى دون الإحاطة‬ ‫بالموضوع الخارجي‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فيكون اللاتناهي هو استحالة استنفاذ الفضل بين إدراكنا وموضوعه‪ .‬والفضل الذي هو‬‫لصالح الموضوع الخارجي يعني أن إدراكنا لا يحيط بالوجود وهو معنى استحالة رد الوجود‬‫إلى الإدراك بالمعنى الخلدوني ومعنى العلم غير المحيط لوجود الغيب أو عدم معرفة حقيقة‬ ‫الموضوع علما يلغي الفضل‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فضلت أن أعتبر المحاولة السابقة متواصلة في هذه فضممت فصولها إلى فصولها فتكلمت‬‫في مفهوم جديد اسمي به ما يترتب على الرؤى من أنظمة ممكنة تؤطر الوصل بين الرؤية‬‫وما يمكن أن تفتح من آفاق فيها لعلاج العلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة وبينه‬ ‫وبين التاريخ وما ورائهما‪.‬‬‫فسميت ذلك \"الآفاق المنتظمة\" أو سبل الإنسان في تعامله مع شروط قيامه في الطبيعة‬‫والتاريخ وما ورائهما وما بينهما من علاقات ليعمر الارض بقيم الاستخلاف أو بدونها في ما‬‫له فيه حرية الاختيار من القيم الخمسة وصفا لمقوماته‪ :‬حرية إرادته وصدق علمه وخير‬ ‫قدرته وجمال حياته وجلال وجوده‪.‬‬‫وقد أطلت الكلام إلى حد الآن في \"النظر والعقد\" فبدا وكأني أهمل \"العمل والشرع\"‬‫رغم أني لمحت تلميحا إلى أصناف القانون برؤية التي أقصدها بكلمة الشرع (ليس الشرع‬‫المنزل فحسب لأن كل شرع إنساني وضعي إذا توفر فيه شرطا الشرعية كان جدير‬ ‫التقديس له) مختلفة تماما عما اعتيد في الكلام عنه‪.‬‬‫لذلك فقد حان الوقت للكلام بأكثر وضوح في المسألة ببعديها \"العمل\" و\"الشرع\" كما‬‫تكلمت بالتفصيل في مسألة النظر والعقد‪ .‬فكلاهما ينتسب إلى الآفاق المنتظمة التي تترتب‬‫على الرؤية التي هي في حالتنا ما حاولت تعريفه رؤية إسلامية على سبيل فرضية العمل‬ ‫العلمية دون الزعم بما يتجاوز ذلك‪.‬‬‫ولأذكر بهذا التعريف حتى يفهم المنهج الذي يستنتج منها الآفاق المنتظمة التي أدرسها‬‫بوصفها مستمدة منها ومترتبة عليه‪ .‬فالرؤية هي مضمون القرآن الكريم بوصفه رسالة‬‫خاتمة وكونية‪ .‬وهي تعرف نفسها بكونها كذلك وبوظيفتها التذكيرية التي يكون فيها مبلغ‬ ‫الرسالة بشيرا ونذيرا‪.‬‬ ‫والتعريف مستنتج من هذه الخصائص‪:‬‬ ‫‪ .1‬رسالة بأبعادها الخمسة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .2‬تذكير بموجود في كيان الإنسان‬ ‫‪ .3‬مضمون الرسالة منسي‬ ‫‪ .4‬المبلغ لا سلطان له على المرسل إليهم وهو واحد منهم‬‫‪ .5‬الرسالة مصحوبة بنقد للتجربة الإنسانية في تحقيق مهمتي التعمير والاستخلاف‬ ‫ومشروع إصلاح سياسي تربية وحكما من أجلهما‪.‬‬ ‫وأبعاد الرسالة الخمسة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل (الله)‬ ‫‪ .2‬المرسل إليه (الإنسان)‬ ‫‪ .3‬الرسول (النبي محمد)‬‫‪ .4‬مضمون الرسالة هو نظام العمل والشرع لتعمير الارض اختبارا لأهلية الإنسان‬ ‫للاستخلاف (السياسة‪ :‬نظام التربية ونظام الحكم)‬ ‫‪ .5‬طريقة تلقي الرسالة (الوحي بأشكال متعددة تستكمل النظر والعقد)‪.‬‬‫ولأنها رسالة لا ينبغي أن تتضمن ما لا يفهمه المرسل إليه خاصة وهي تستثني علم الغيب‬‫مما جهز به المرسل إليه لعلاج المهمتين وإذن فلا يمكن أن يكون فيها علم به ولا حتى بالشاهد‬‫لأنها كرؤية توجه إلى حيث على الإنسان البحث ليوظف جهازي النظر والعقد للتصور‬ ‫المعرفي والعمل والشرع للإنجاز الفعلي‪.‬‬‫ركزنا في البحث إلى حد الآن على البعد الأول أي النظر والعقد وشروط العلم والعمل‬‫في مستوييها الاول أو المقدرات الذهنية النظرية والعملية والثاني في تطبيقاتها على عالم‬‫التجربة الطبيعية والتاريخية وهي مرحلة أولى ضرورية للوصول الى الكلام على البعد‬ ‫الثاني أي العمل والشرع الأكثر تعقيدا‪.‬‬‫ولنشرع الآن في فهم نظام الآفاق العملية التي هي أكثر تعقيدا بسبب تضمنها الآفاق‬‫النظرية إذا كان العمل والشرع على علم وليس رماية في عماية كحال الأفراد والجماعات‬‫عديمة الاستراتيجية في تحقيق مهمتي الإنسان من حيث هو مستعمر في الارض ومستخلف‬ ‫فيها بما وصفنا من مقومات ذاته وقيمها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ما ذكرته في إشاراتي حول مستويات القانون قلبت الترتيب فتكلمت على الشرع قبل‬‫العمل مثلما فعلت عندما تكلمت على العقد قبل النظر وهذا أمر ضروري في الحالتين‪ .‬فلا‬‫نظر من دون عقد ولا عمل من دون شرع‪ .‬لا يشرع الأنسان في النظر من دون مبدأين‬ ‫عقديين ولو على جهة الفرض‪.‬‬‫فمن لا يعتقد ولو على جهة الفرض بأن \"شيئا ما\" موجود وذو نظام هو موضوع العلم أولا‬‫وبأن الإنسان له القدرة على اكتشاف ذلك النظام بمدركه العقلية والحسية لا يمن أن‬‫يشرع حتى مجرد الشروع في البحث العلمي‪ .‬ومن لا يسلم بذلك لا يدري فيم يتكلم‪ .‬البحث‬ ‫العلمي وتصديق نتائجه يتأسسان على ذلك‪.‬‬‫وكل سخافات المجادلين في العقائد من أدعياء العقلانية لا يستطيعون أن يثبتوا أن ذلك‬‫من العلم وليس من العقد وكل ما يمكن أن يقبل منهم هو نسبة هذين الشرطين لعقل إلهي‬‫مدبر للنظام في الموضوع وللقدرة المعرفية في الإنسان‪ .‬وحينها تفقد العقلانية اساسها‪.‬‬ ‫فالنظام والقدرة بحاجة إلى تعليل معقول‪.‬‬‫ونفس القلب في الترتيب يحتاجه العمل والشرع‪ .‬فالعمل يفترض أمرين كذلك‪ :‬فلا بد‬‫أن يكون تحقيق شيء ما مشروطا بنظام توالي الأفعال في مسار تحقيقه والتوالي فيه‬‫\"قانون\" أو \"سنة\" ترتب الأفعال وتقسمها بين المشاركين في العمل وهذا هو معنى الشرع‬ ‫وضعيا كان أو منزلا‪.‬‬‫وهذا النظام المرتب لمراحل الإنجاز بمسار توالي الأفعال وتقسيم العمل لا يكفي أن‬‫يكون شرطا في العمل نفسه بل هو كذلك شرط في قدرة الفاعل العملية أي إن الإنسان لو‬‫كان يمكن أن يقوم بعمل مباشرة من دون أن يتقدم عليه خطة تصورية قبل المرور إلى‬ ‫الخطة الإنجازية لما كان عمله عملا بل اضطراب‪.‬‬‫وإذن فالتناظر بين النظر والعقد والعمل والشرع تام‪ .‬النظر يناظر العمل والعقد‬‫يناظر الشرع‪ .‬والعنصر الثاني من الزوجين شرط العنصر الاول منهما بخلاف ما يعتقده‬‫أصحاب الآراء العجلى ممن لا يتدبرون طبائع الأشياء‪ :‬فلا ينظر من لا يعتقد ولا يعلم من‬ ‫لا يشرع‪ :‬وهذا مترتب على الرؤية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫العلاقة بين النظر والعمل والعلاقة بين العقد والشرع متناظرتان والثانية شارطة‬‫للأولى دائما حتى وإن كانت الأولى قادرة على تغيير الثانية لأنها تعدلها بأن تحدد نوع‬‫العقد ونوع الشرع الملائمين لنوع النظر ولنوع العمل بحسب تطور النظر والعمل وخاصة‬ ‫أدواتهما المضاعفة لقدرتي الإنسان فيهما‪.‬‬‫رأينا معنى مشروطية النظر بالعقد وعلينا الآن أن نبحث في معنى مشروطية العمل‬‫بالشرع‪ .‬وقد سبق فعرفتهما بكون النظر والعمل كلاهما مبني على استراتيجية علاج علاقة‬‫ما‪ .‬وعلى التعيين فالمشروطية الأولى هي كون النظر والعقد علاجا للعلاقة العمودية بين‬ ‫الإنسان والطبيعة عامة والطبيعي في الإنسان‪.‬‬‫والمشروطية الثانية هي على التعيين كون العمل والشرع علاجا للعلاقة الأفقية بين‬‫الإنسان والتاريخ عامة والتاريخي في الإنسان وهذه المشروطية الثانية تتضمن في آن‬‫المشروطية الأولى لأن النظر والعقد نوع خاص من العمل والشرع ويخضعان لهما بهذا‬ ‫المعنى خضوع البعض للكل‪.‬‬‫أعتقد أن هذا كاف لتعليل تقديمي الكلام في الشرع على الكلام في العمل مثل تعليلي‬‫تقديم الكلام في العقد على الكلام في النظر‪ .‬وسأشرع في الفصل الموالي تعميق البحث في‬‫مستويات القانون أو الشرع الأربعة التي أشرت إليها باعتبارها كلها خاصة لشرع الشرع أو‬ ‫معياري الأمانة والعدل أصلا لكل شرع‪.‬‬‫فقد ذكرت القانون المدني والقانون الجنائي والقانون الإداري والقانون الدستوري‪.‬‬‫ويبدو أن الأول والثاني لا خلاف حول مدلولهما‪ .‬والثالث والرابع ما يزالان غير‬‫محددين‪ .‬ويحتاجان للمزيد منه‪ .‬لكن الإشكال كله هو في اعتبار مبدأي الأمانة والعدل‬ ‫أصلا لكل مستويات القانون وهما قانون القانون‪.‬‬‫فما لا نفهم معنى الأمانة ومعنى العدل يمتنع أن نفهم معنى قانون القانون أو كونهما ما‬‫به يكون القانون قانونا ذا شرعية‪ .‬فالأمانة تعني أن القانون مؤتمن على أمر والقائم عليه‬ ‫ممثل لصاحب الأمانة فيكون العدل ذا معنيين‪:‬‬ ‫‪ .1‬العدل بين صاحب الأمانة والمؤتمن عليها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .2‬العدل بين المحتكمين إليه‪.‬‬‫وصاحب الأمانة بالنسبة إلى الرؤية القرآنية مضاعف‪ :‬الله أولا وخلفائه ثانيا أي‬‫الجماعة‪ .‬فيكون القاضي مثلا مؤتمن على ما تمثله إرادة الجماعة المشرعة بوصفها مؤلفة‬‫من خلفاء الله في العمل بقانون القانون أي بالأمانة والعدل لأنها هي الأمينة على معاني‬ ‫الاستخلاف أو مقومات الإنسان بقيمه‪.‬‬‫والمشرع ثم القاضي ثم المنفذ كلهم مؤتمنون على الأمانة التي تمثلها إرادة الأمة المشرعة‬‫بمقتضى ما تراه مطابقا لإرادة الله المتعينة في مقومات الإنسان بقيم الاستخلاف وبتحريم‬‫سوالبها‪ :‬الإرادة بقيمة الحرية والعلم بقيمة الحق والقدرة بقيمة الخير والحياة بقيمة‬ ‫الجمال والوجود بقيمة الجلال‪.‬‬‫وبهذا المعنى فمستويات القانون أو الشرع الأربعة وأصلها كلها مفطورة في الإنسان بحسب‬‫الرؤية القرآنية بمعنى أن الإنسان لا يتصور الالتزامات والعقود (القانون المدني)‬‫والعدوان على كرامة الإنسان (القانون الجنائي ومعتقداته وحقوقه) والعلاقة بسلط‬ ‫الدولة (القانون الإداري) ممكنة من دون قانون‬‫وهذه المستويات الثلاث الأولى من أهم موضوعات القانون الرابع الذي ينظم قانونيا‬‫الترجمة السياسية للأساس الخلقي لكل القوانين أي القانون الدستوري (القانون‬‫الدستوري)‪ .‬ويبقى الأصل القانون الخلقي الأسمى أو ما به يكون القانون قانونا شرعيا‬ ‫أصل القوانين كلها أعني الأمانة و العدل (النساء ‪.)58‬‬‫ولولا تعالي هذا الأصل لاستحال أن تراجع الدساتير والقوانين‪ .‬فالفروع الأربعة من‬‫القانون كلها نظام لأمر من العمل والشرع واقع مثل القوانين العلمية التي هي نظام لأمر‬‫واقع من النظر والعقد وكلاهما دائم المراجعة في ضوء انفتاح أفق الفهم والتأويل للأمرين‬ ‫الواقعين بالقياس إلى مثلهما العليا‪.‬‬‫لم يبق إلا أن نفحص كيفية توالي هذه المستويات وتولدها بعضها عن البعض في الفصل‬‫الموالي‪ .‬فالجنائي رغم اختلاف موضوعه عن المدني غالبا ما يكون هذا مصدر وجود‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫موضوعه لأن أغلب الجنايات سببها عدم حصول الأمانة والعدل في المدنيات فيصبح الإنسان‬ ‫قاضيا ومتقاضيا في آن‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بينت أن التحريفين اللذين حدثا في نظام الافق العلمي كان غائبا تمام الغياب في علوم الملة‬‫الخمسة (التفسير وأصوله وفروعه الأربعة في النظريين الكلام والفلسفة وأصولهما وفي‬‫العمليين الفقه والتصوف وأصولهما) ونظام الافق العملي كان أكثر غيابا منه لأن الرؤية‬ ‫نفسها وما يترتب عليها مفقودان‪.‬‬‫ومن الأمثلة الساطعة والدالة عليه عدم التعجب من كون أكثر أحكام القانون الجنائي‬‫الإسلامي متعلقة بأهم موضوعات القانون المدني أعني الملكية سواء كانت ملكية مواد أو‬‫خدمات‪ .‬وهو أمر حيرني حقا إذ كيف تكون أحكام الملكية الاعتداء على الملكية أشد من‬ ‫أحكام قتل النفس مثلا‪.‬‬‫ففي هذه تجد القرآن يشجع على العفو والقبول بالدية ولا يفعل في السرقة إذ لا عفو‬‫فيها وخاصة إذا كانت مسلحة (الحرابة) ولا قبول للتعويض مثلا‪ .‬لم أفهم ذلك إلا عندما‬‫فهمت العلة الخفية في ذلك‪ :‬فالتشدد في حكم الجنايات في الملكية والتخفيف في حكم جناية‬ ‫قتل النفس لهما نفس العلة العميقة‪.‬‬‫فغالبا ما يكون قتل النفس صادرا إما عن القصاص الذاتي أو الثأر وغالبا ما تكون بداية‬‫هذا الاقتتال بالثأر والثأر المضاد ناتجا عن قضية متعلقة بالملكية أو بالشرف والعدوان على‬ ‫الملكية فيه عدوان على الشرف مرتين‪:‬‬ ‫‪.1‬المعتدي عليها استهان بقدرة صاحبها على حمايتها‬ ‫‪.2‬والملكية من كيان الإنسان‬‫فالملكية من كيان الإنسان من وجهين‪ :‬هي زاد قيامه والله نفسه قال في النساء عن المال‬‫إنه قيام للإنسان‪ .‬وهي ثمرة جهده الذي هو بعض من كيانه‪ .‬فهي مدار كل القانون المدني‬‫سواء كانت عينية بالفعل أو ما يمكن أن يتعين بالقوة لأنه ثمرة الجهد العضلي أو الفكري‪.‬‬ ‫كل العقود والالتزامات متصلة بها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫حماية الملكية هي إذن حماية للحياة تماما كحماية الحياة مباشرة ولكن أكثر من ذلك لأن‬‫حمايتها تغني عما يهدد الحياة من جرائم جنائية وما يترتب عليها من قصاص مباشر في هو‬‫الثأر في المجتمعات إذا غابت العدالة فيضطر الناس إلى أخذ حقوقهم العنف بشكل من‬ ‫تحول المتقاضي يقضي وينفذ بنفسه‪.‬‬‫ولا يعني فهمي العلاقة بين المدني والجنائي ومثال العلاقة بين الحكمين في الجنايات‬‫المتعلقة بالملكية أو المباشرة التي لا تبدو ذات صلة بها أني مؤيد للطريقة التي فهمت بها‬‫الأحكام‪ .‬ذلك أني أميز بين تحديد القرآن الكريم للحدود وتطبيقها الأعمى دون فهم أنها‬ ‫الحد الاقصى بإطلاق‪.‬‬‫ففي كل قانون وضعيا كان أو منزلا ليس الحد الأقصى في العقوبة إلا للحالات الخاصة جدا‬‫عندما لا توجد مخففات في غالبية النوازل المعروضة والتي على القاضي مراعاتها دون أن‬‫يجعل ذلك تجريئا للمجرمين على القانون‪ .‬والمبدأ هو في حدود الإمكان تحقيق الأمانة‬ ‫والعدل واحترام كرامة الإنسان‪.‬‬‫وما أسميه بالظروف الخاصة ليست متعلقة بأعيان المجرمين بل بالظرف العام الذي يجعل‬‫الأحكام من طبيعتها وهي ظروف تتكرر في كل الحضارات ما يعني أنها ليست تاريخية بمعنى‬‫أنها تزول بزوال أحد حصولات الظرف بل تبقى قائمة لأن الظرف يتكرر‪ .‬فالظرف الاول‬ ‫في تاريخنا هو ظرف بناء دولة في لا دولة‪.‬‬‫فكيف كان يمكن لتأسيس دولة الأمانة والعدل في مجتمع كان قانونه النهب المتبادل‬‫والاقتتال على الدائم بين القبائل العربية من أجل الثروة والمرأة ويعد ذلك مما يفاخر به‬‫من يعتبرون فرسانا وأبطالا؟ كيف يمكن تحويل ذلك بوصف قانوني صارم (سرقة وحرابة)‬ ‫له أشد العقوبات في ظرف بناء دولة القانون‪.‬‬‫وهذا الظرف يتكرر كما اختل النظام اختلالا يتهدد دولة القانون إذا كانت دولة قانون‬‫وشرعية ومن ثم تكون حالة الطواري معتمدة مبدأ تطبيق أشد العقوبات في الحدود التي‬‫هي تعني الحد الأقصى في العقوبة وليس العقوبة ذاتها التي يحددها القاضي بحسب‬ ‫تقديره للظرف العام ولظروف النازلة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وينبغي ألا نخلط بين الحد الذي هو القدر الأقصى من العقوبة والحكم الذي هو القضاء‬‫بطبيعة الفعل أو تثبيت الوصف القانوني للفعل الذي يستحق العقاب ويبقى الحد الأقصى‬‫من بين ما يمكن أن يعتبره القاضي مناسبا لمقدار العقاب الذي يقدره القاضي بالنظر إلى‬ ‫ظرفيات النازلة كلها‪.‬‬‫وإجمالا يمكن رد الظرف إلى بعدين‪ :‬ظرف الوضع العام أو النظام العام من منظور هذا‬‫الجنس من الجرائم والضرف الخاص للمتهم في نازلة بعينها من جنسها‪ .‬وفي كل الأحوال‬‫فإن ما كان ضروريا لإخراج العرب من الجاهلية من صرامة في المسألة ليس دائما وإعادة‬ ‫النظر هذه في مفهوم الحد واجب‪.‬‬‫وهذه المراجعة لا تناقش في شرعية الحدود ولكنها تناقش في الخلط بينها وبين الحكم‬‫نفسه‪ :‬الحد هو الحد الاقصى من العقاب الذي هو أداة الحكم وليس الحكم‪ .‬الحكم هو‬‫تجريم المعتدي على القانون (وضعيا كان أو منزلا) والعقاب شيء آخر لأنه يقدر من‬ ‫القاضي بحسب المعطيات العنينية العامة والخاصة‪.‬‬‫والمعلوم أن من مبادئ القانون الإسلامي هو تقديم التخفيف على التشديد ويتبين ذلك‬‫خاصة من التشدد في الإثبات حتى إن ادنى حجة تدعو للشك في الإثبات تحسب لصالح المتهم‬‫بل إن الشريعة تشجع على التعاسر في الدليل على الإثبات والتياسر في الدليل على النفي‬ ‫عملا بمبدأ الرحمة‪.‬‬‫أمر الآن إلى العلاقة بين مستوي القانون الاولين والمستويين الثانيين‪ .‬وأبدأ بالقانون‬‫الإداري‪ .‬وهنا لا بد من التنويه بإشارة خلدونية تخص الحرابة‪ .‬فهو يعتبرها ناتجة عن‬‫تقاعس بل وأحيانا عن مساهمة من ممثلي الدولة في تحقيق الأمن العام‪ .‬ومعنى ذلك أن‬ ‫المتضرر من حقه أن يلجأ لمحاكمة الدولة‪.‬‬‫ومحاكمتها بوصفه شخصيا معنويا تكون بتوسط من يمثلها وهذا ينتسب إلى القانون‬‫الإداري‪ .‬فيكون الجنائي (الحرابة) المتعلق بالمدني (الملكية) ذا علاقة بالإداري‪ .‬وفي‬‫الحقيقة يمكن حتى في السرقة العادية من دون عنف قطع الطرق أن تتعلق بالقانون‬ ‫الإداري إذا أخل الأمن بواجبه حيث وقعت السرقة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهذا الأخلال مضاعف‪ :‬هناك الاخلال بعدم الحضور الرادع كما يحدث في بعض ضواحي‬‫المدن الكبرى أو كما يحدث في التقاعس عن تنفيذ الأحكام وغض الطرف عن جماعات‬‫اللصوص كما يحدث في حالات الفساد القضائي والامني وبسبب الفساد السياسي في الغالب‪.‬‬‫وأبرز الأمثلة متعلق بأدنى طبقات السراق ممن يضطرون للسرقة من اجل العيش الأدنى‬‫في مجتمعات غابت فيها أبواب الإنفاق من الرزق التي تحددها الآية ‪ 177‬من البقرة‪ .‬فإذا‬‫الفاروق أوقف تطبيق الحد في عام المجاعة تحميلا للدولة مسؤولية المجاعة فمن باب أولى‬ ‫تحميلها مسؤولية عدم الضمان الاجتماعي‪.‬‬‫والمشكل هو أن الحدود الأقصى لا تطبق إلا على الضعفاء‪ .‬وأكبر اللصوص الذين يدعون‬‫الحكم بشرع الله وتطبيق الحد لو صدقوا لما بقي أحد منه ذا أيد أو أرجل‪ .‬فهم ليسوا‬‫سراقا ولا محاربين فحسب بل هم سراق ومحاربون بقوة الدولة أي إنهم \"حاميها حراميها\"‪.‬‬ ‫ولو طبق الحد لقطعت أدي كل الحكام العرب‪.‬‬‫وليس الحكام وحدهم بل هم ونساؤهم وخليلاتهم وأبناؤهم وبلاطهم وطباليهم من‬‫النوعين أي من الدعاة باسم الدين والدعاة باسم الحداثة ولم يبق أحد له حظوة وجاه له‬‫رجل أو يد سلمية ومعهم جل القضاة وجل الاميين وجل السياسيين فلا يكاد يبقى إلا من‬ ‫لم يستطع مد يده للمال العام عجزا لا تعففا‪.‬‬‫ولا أكاد أصدق ان أحدا من القرآن يمكن بنزاهة أن يتهمني بالمبالغة في وصف الحال‪.‬‬‫فهي ربما أشنع مما استطعت وصفه‪ .‬لذلك فإني اتساءل أحيانا ما الذي بقي فينا يمكن‬‫وصفه بكونه إسلامي هل العبادات الظاهرة المناقضة لكل ما من المفروض أن يكون ثمرة‬ ‫لها تسمى دينا إسلاميا؟‬‫أنا شخصيا لا اعتقد لذلك‪ .‬فإذا كان أكثر الناس تظاهرا بالتعبد هم الدعاة وخاصة‬‫الجدد منهم فهذا وحده كاف لكي يكون وصفي دون الأمر الواقع شناعة‪ .‬لست أشنع بالحال‬‫بل أشخص أدواءها لعلنا ندرك حقيقة القيم الإسلامية التي هي حرية الإرادة وحقيقة‬ ‫العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهذه كلها منعدمة في مجتمع تسيطر عليه أشباه دول يحكمها الاستبداد والفساد المحليان‬‫والاقليميان والدوليان حكما نتيجته ما وصفه ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية‪.‬‬‫فالطبقات الشعبية التي لم يعد بوسعها أن تعيش إلى بالعبودية والباطل والشر والقبح‬ ‫والذل خضوعا لمن هم أكثر منهم في ذلك‪.‬‬‫فمن يدفعون الضعفاء للعبودية والباطل والشر والقبح والذل هم أكثر عبودية وباطل‬‫وشر وقبح وذل في علاقتهم بمن يحتمون به في المحميات التي يسمونها دولا وهي في الحقيقة‬‫معاقل للشعوب حتى يتقاسمون أرزاقها وثرواتها مع مافيات العالم التي تحكم بالحديد‬ ‫والنار فتولي وتعزل من تريد‪.‬‬‫وما ذكرت هذا من أجل كلام سياسي بل لأن في ذلك تعميم لما أقول في القانون الخاص‬‫بجماعة إلى القانون الدولي‪ .‬فما يستعمره الاقوياء لو كان في العالم دولة جامعة للإنسانية‬‫لكان خاضعا للمستويات الخمسة التي حددناها في كلامنا على القانون‪ .‬نعاني من فساد‬ ‫خمس مستويات وطنية وخمس مستويات دولية‪.‬‬‫وكان يمكن أن اكتفي بالحال القانونية في الأمة‪ .‬لكن دولة الإسلام وقانونه ليس خاصا‬‫بالأمة بل هو كذلك شامل للإنسانية فهو يطبق نفس المعايير في الأمانة والعدل أساس‬‫القضاء في الداخل والخارج بل هو لا يميز بني داخل وخارج في القانون إذ حتى الأعداء‬ ‫هو يطلب تطبيق نفس المعيارين عليهم‪.‬‬‫فلصوص العالم الاقوياء يسرقون ثرواتنا ويحمون مشاركيهم في سرقتها بل ويسرقون‬‫أوطانا بكاملها هم أو أذرعهم في الاقليم ولا يوجد قانون يحمي المسلمين وعندما يقاوم المسلم‬‫هذا الإجرام يتهم بالإرهاب حتى لو كان يدافع عن بيته وأرضه وعرضه وحتى لو تظاهر‬ ‫سلميا‪.‬‬‫وبنفس هذه التهمة صار كل مستبد وفاسد يفعل ما يريد بشعبه ويجد التأييد من أحد‬‫ذراعي المستبد والفاسد الأكبر في العالم بالإعلام الزائف والسلاح وتعذيب الشعوب وسجن‬‫أفاضلها وهذا أيضا من مجالات القانون الدولي الذي لا يقل فسادا وظلما من القانون‬ ‫المحلي بل هما متلازمان‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لم نعالج من مستويات القانون إلا الاولين ومن المفروض أن نتكلم اليوم في القانونين‬‫الإداري الدستوري أعنى النوعين الأحوج للتوضيح لأنهما يبدوان غير قابلين للتحديد‬‫كنظام آفاق من الرؤية القرآنية بسبب جدتهما أو بسبب اعتبارهما غير منفصلين عن‬ ‫الاولين فيعاملان بهما أو مباشرة من المرجعية‪.‬‬‫ولن نستطيع الحسم في الأمر قبل أن نزيد ما اعتبرناه أصلا لفروع القانون الاربعة‬‫بوصفه قانون القانون أو ما به يكون القانون شرعيا واقصد المستوى الخلقي من شروط‬‫أداء القانون وظيفته المحققة للأمانة التي تتولاها المؤسسات القانونية شرطا في كل عمل‬ ‫والقيمون عليها نيابة عن صاحب الأمر‪ :‬الجماعة‪.‬‬‫وصاحبة الامر الجماعة هي بدروها نائبة عمن تعتبره صاحب الأمر بحق وهي خليفته‬‫فيه أعني بالنسبة إلى المؤمنين الله وبالنسبة إلى غيرهم الطبيعة أو ما يقوم مقامها أو مقام‬‫الله أعني سلطان العقل الإنساني الذي ينفي أن تكون الإرادة المشرعة نزواتية أو تحكمية‬ ‫أو منافية لشرطي الأمانة والعدل‪.‬‬‫لكن هذا المبدأ الأصل أكثر تعقيدا من أن يحصر في هذين المقومين الأمانة والعدل‬‫(النساء ‪ )58‬لأن هذين يمثلان الوجه الخلقي المعرفي منه (الإرادة والعلم) وله وجه ثان‬‫يصاحب الخلقي دائما‪ :‬إنه الوجه الوجودي (الرؤية والحياة) ويوحد بين هذين الوجهين‬ ‫المضاعفين غايتها وأصلها جميعا أي القدرة‪.‬‬‫وقد سبقت الكلام على الوجه الخلقي (الإرادة الحرة والمعرفة الصادقة) على الوجه‬‫الوجودي (الرؤية الجليلة والحياة الجميلة) لأن القانون هدفه تحقيق شروط الإرادة‬‫والعلم حتى لو لم يكونا حرين وصادقين بسبب أن الرؤية قد لا تكون جليلة والحياة قد لا‬ ‫تكون جميلة فتكون الإرادة تابعة والعلم زائفا‪.‬‬‫إذ كما بينا فالقدرة التي هي الغاية سواء كانت مادية أو روحية يمكن أن تكون خيرة أو‬‫شريرة‪ .‬فيكون القانون خاضعا للأمانة والعدل أو لخيانة الامانة والظلم‪ .‬وبذلك يتبين‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook