Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore قانون التساخر بين السخرية والتسخير السياسيين - أبو يعرب المرزوقي

قانون التساخر بين السخرية والتسخير السياسيين - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2022-08-17 01:27:46

Description: قانون التساخر بين السخرية والتسخير السياسيين - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫––‬ ‫فالعولمية ملازمة للتاريخ الإنساني لأن سياسة العالم بتبعية الأقو ياء في السياسة المحلية‬ ‫للأقو ياء في السياسة العالمية‬ ‫لأن أولئك يستمدون سلطانهم من هؤلاء دائما ما يعني أن السياسة الخارجية هي التي‬ ‫تحكم السياسة الداخلية في جميع العصور‪.‬‬ ‫والعولمة الحالية‬ ‫التي تزعم جديدة ليس جديدا فيها إلا ما يشبه السكون النسبي‬ ‫لأن حركات الشعوب اليوم اتخذت شكلا جديدا هو الهجرة إما الطوعية او‬ ‫الاضطرار ية وهي عملية بطيئة من حيث الحركة بخلاف التغازي الجماعي ل كنها لها نفس‬ ‫المفعول في التاريخ المديد‪.‬‬ ‫بمعنى أن توز يع الأرض بين الحضارات بات شبه ثابت بحيث بدا وكأنه قد زاد من‬ ‫التواصل بينها تواصلا متساوقا وليس متواليا كما كان في الماضي عندما كان التغازي هو‬ ‫المسيطر فتزيح الحضارات بعضها بعضا‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن خرافة العولمة واعتبارها ظاهرة حديثة دليل جهل بأنها في الحقيقة‬ ‫ملازمة لوجود البشر وتقاسم جغرافية الثروات الطبيعية الشارطة لقيام العمران‪.‬‬ ‫وهو ما يفسر التغازي الدائم بين البشر طلبا للماء والكلأ في البادية ثم لطلب الطاقة طرق‬ ‫التجارة بين الجماعات‪.‬‬ ‫‪98‬‬

‫––‬ ‫فيكون قانون التساخر مؤلفا من حدين أقصيين هما المحلي والعالمي وبينهما سلم الدرجات‬ ‫التي تصل بين التوابع والمتبوعين بحسب تقاسم المعمورة بين الشعوب بمعيار القادرين على‬ ‫خوض معارك القوتين المادية والرمزية والعاجزين دونهما‪.‬‬ ‫ولما كانت القدرة والعجز في تناسب عكسي فإن السلم واحد إما تصاعديا أو تنازليا‬ ‫بحسب الانطلاق من درجة القدرة الأقصى أو من درجة العجز الأقصى‪.‬‬ ‫فيكون سلم التابعية وسلم المتبوعية نفس السلم إذا قرأناه من التابعية إلى المتبوعية‬ ‫و يكون المدخل علاقة الضعيف بالقوي وإذا قرآناه من المتبوعية إلى التابعية يكون‬ ‫المدخل من علاقة القوي بالضعيف‪.‬‬ ‫وهو مبدأ يسميه القرآن بمبدأ التسخير أو السخرة أي إن كل شيء خادم ومخدوم من‬ ‫كل شيء في عالم الشهادة لكأنها جعلت لتكون متخادمة ومتكاملة‪.‬‬ ‫وما يعنينا منها هو التساخر في المجتمعات البشر ية التي يمثل فيها الوعي به وتنظيمه عين‬ ‫الاستراتيجية السياسية التي تحدد النجاح في الاستعمار في الأرض السلمي أو الحربي‬ ‫والذي به تتحدد اخلاق الشعوب وأنظمتها السياسية تربية وحكما‪.‬‬ ‫ولهذه العلاقة حدان اقصيان‬ ‫أولهما هو القانون العادل إذا كانت استجابة لحاجة التبادل بالتعاوض العادل والتواصل‬ ‫بالتفاهم الصادق‬ ‫والثاني هو القانون الظالم إذا تحول إلى تسخير ظالم لانعدام العدل في التعاوض والصدق‬ ‫في التفاهم‪.‬‬ ‫‪99‬‬

‫––‬ ‫ولهذه العلة فإن الكلام على الرب باعتباره الحاكم‬ ‫العادل بإطلاق ل كونه ذا العلم المحيط‬ ‫والصادق بإطلاق ل كونه ذا العمل التام‬ ‫ول كون المتنازعين يلتقون عنده دون أي قدرة على الخداع لأن كل اعضائهم تصبح‬ ‫شاهدة عليهم إذ هي الأدوات التي تنفذ بالأفعال فتسجلها بحيث إن الكتاب الذي يحمله‬ ‫كل متحاكم هو عين كيانه العضوي والروحي الذي لا يكذب فيكون القضاء المطلق هو‬ ‫قضاء الرب يوم الحساب‪.‬‬ ‫ولولا ذلك لكان عدد الملائكة الحاسبين ضعف عدد الكائنات التي تحاكم ومنهم البشر‪.‬‬ ‫ل كن ذلك يكون دليل عجز في جعل هذه الكائنات خالية من الحواسيب التي تسجل‬ ‫كل ما يحدث فيها حسناتها وسيئاتها بحيث إن مفهوم الملائكة المراقبة لسلوك البشر مثلا‬ ‫هي وظائف يجهز بها كيانهم العضوي الذي ينطق يوم الحساب ليشهد عليهم أو لهم‪.‬‬ ‫ولهذه الرؤ ية تأثير يتجلى في حياة البشر الدنيو ية بحضورها في الوعي بها وعدم نسيانها في‬ ‫عالم الشهادة‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالقضاء الدنيوي لا يكون ذا فاعلية من دون أن يكون كل احتكام إليه‬ ‫مفترضا أن المتنازعين يطلبون العدل أو الظلم إما بحسن نية أو بخداع فيكون دور القضاء‬ ‫التغلب على الخداع للوصول إلى الحكم العادل وأداء الأمانة لأن شرط الحكم هو الأمانة‬ ‫والعدل مع التسليم بأن القاضي الدنيوي يحكم بالظاهر والله بتولى السرائر‪.‬‬ ‫‪100‬‬

‫––‬ ‫ولهذه العلة فإن الاحكام الواردة في القرآن هي الحدود التي ينبغي أن يبقى القاضي‬ ‫الدنيوي دونها لأن علمه محدود ولا يحيط بالسرائر‪.‬‬ ‫ذلك ان كل الاحكام مشفوعة بالكلام على دور التوبة وبعضها إذا نفذ وكأن القاضي‬ ‫عالم بالسرائر يحول دون التوبة فيكون الحكم قد ألغاها فيترتب عليها كما في حالة الردة‬ ‫التي قد يتوب عنها المرتد بعد حصولها‬ ‫والتوبة مشار إليها وإلى مقبوليتها في الآية المتعلقة بحكمها‪.‬‬ ‫ومثله قطع اليد والحرابة إلخ‪ ....‬من الأحكام التي لا ينبغي الذهاب فيها إلى غاية الحد‬ ‫لعدم الإحاطة في علم القضاء الأرضيين‪.‬‬ ‫والإشارة إلى غاية الحد هدفه بيان مراتب الجنايات ووزنها في القضاء التام وهو إذن‬ ‫الحد الذي لا يمكن للقضاء الأرضي أن يبلغه لنسبية علمه واقتصاره على الظاهر وكم فيه‬ ‫من أسباب التزييف وخاصة في مسائل الحقوق والواجبات في مجالات التساخر كلها‬ ‫التي غالبا ما يكون فيها قانون القوة مقدما على قوة القانون‪.‬‬ ‫فالتابعية والمتبوعية ليستا مقصورتين على العلاقة بين القانونين‬ ‫قانون القوة المعتمد على الأمر الواقع العضوي والفكري الطبيعيين‬ ‫وقوة القانون المبرر بالعقدين الفلسفي والديني‬ ‫بل إن له قوانين أخرى بينة للجميع وهي متعلقة بنوعي سد الحاجات‬ ‫المادية (العمران البشري بلغة ابن خلدون)‬ ‫والروحية (العمران البشري بلغة ابن خلدون)‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫––‬ ‫وهذه القوانين متعاكسة مع قانون التساخر الذي من المفروض أن يجعل البشر سواسية‬ ‫إذ كل أحد يكون في توز يع العمل ضرور يا لكل واحد‪.‬‬ ‫ومن ثم فلا مفاضلة بين الوظائف التي لا غنى عنها في سد الحاجات المادية والروحية‪.‬‬ ‫ل كن الأمر بخلاف ذلك في مستوى تقييم الحاجات بنوعيها‪:‬‬ ‫ففي سد الحاجات العضو ية نجد تلازما بين نوعين من القيمة في الاقتصاد والثروة هما‬ ‫القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية‪.‬‬ ‫والتراتب فيهما متعاكس مع سد الحاجة المادية‬ ‫أي إن التبادلية التي من المفروض أن يحكمها سد الحاجة المادية نجد الحكم الغالب‬ ‫عليها هو سد الحاجة الروحية أي الذوق عامة والدلالة على المنزلة الاجتماعية خاصة‬ ‫حتى في أقصى حالات أزوف الحاجة الماديةكما في الحروب مثلا‪.‬‬ ‫وقد ارجعت هذا الأمر إلى البعد الجمالي من المائدة (الغذاء) والسرير (الجنس) في‬ ‫ما يتبعهما أو ما يستتبعهما من حيث الدلالة على المنزلة الاجتماعية‪.‬‬ ‫وخصصت للمسألة عدة دراسات لأنها من أهم ما يمكن من فهم خرافة الدور المنسوب‬ ‫إلى البعد المادي من وجود الإنسان في الرؤ ية الماركسية‪.‬‬ ‫فتقديم القيمة التبادلية على القيمة الاستعمالية تلغي تماما حجة المادية الجدلية لأن الأمر‬ ‫المحدد للفرق ليس التبادل بل القيمة التي تسند إلى ما يتم تبادله وهو بعد روحي بالجوهر‬ ‫إذ هو متعلق بالذوق الجمالي والجلالي وحتى بما يريد الإنسان ابرازه من معان في مظهر‬ ‫ذاته‪.‬‬ ‫‪102‬‬

‫––‬ ‫وذلك أمر يفهمه من يفهم ذوق النساء وحب الظهور لديهن وأهمية الملبس والحلي‬ ‫لديهن‪.‬‬ ‫وهذه الظاهرة الدالة على تقديم الذوق على المنفعة عندما تصل إلى الذروة تتحول إلى‬ ‫ترف وهو ما يعتبر من الأدواء القاتلة للحضارة‪.‬‬ ‫وعلامته الفصل بين القيمتين‪:‬‬ ‫فعندما تصبح القيمة التبادلية مطلوبة بإطلاق خالصة من دون القيمة الاستعمالية‬ ‫ينتهي الأمر إلى فصل الجنس عن وظيفته الإنجابية والاكل عن وظيفته الغذائية فتصبح‬ ‫اللذة مادية خالصة والمظهر خداعا خالصا‪.‬‬ ‫فينهدم كيان الإنسان العضوي والروحي ومثلهكيان الحضارة والجماعة‪.‬‬ ‫وفي سد الحاجات الرمزية نجد تلازما بين نوعين من القيمة في الثقافة والتراث هما‪:‬‬ ‫القيمة الأداتية والقيمة الغائية‪.‬‬ ‫وذلك في العلوم وفي الفنون والملاهي وفي كل انشغال إنساني بما يتجاوز الحاجة المادية‬ ‫وبعدها الرمزي‪.‬‬ ‫وإذن فالتراتب متعاكس في سد الحاجة الرمزية الخالصة‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن العلم مثلا بقدر ما يكون أساسيا وبعيدا عن الهم التطبيقي يكون أسمى‬ ‫منزلة‪.‬‬ ‫‪103‬‬

‫––‬ ‫والتلهي له نفس المنطق كما هو بين في الألعاب الر ياضيةكالفروسية والسباق والصراع‬ ‫وكل ما فيه من مغامرة وشجاعة لتحدي الأبدان والصعاب التي تتعلق بتحقيق ما تهواه‬ ‫الذات لذاته‪.‬‬ ‫ويمكن في هذه الحالة أن نعتبر ذلك هو المميز بين الجمالي والجلالي الذي يجعل ما يعبر‬ ‫عن الحر ية والانشغال بالأمر غاية في حد ذاته هو أسمى المنازل الروحية في الوجود‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫وقد ذهب أرسطو إلى أن الإنسان يعيش في النظر العقلي الخالص لحظات شبيه بالمحرك‬ ‫الذي لا يتحرك وكل شيء يتحرك انجذابا إلى جمالة وجلاله‪.‬‬ ‫فيكون عدم الانشغال بغاية تتجاوز الانشغال نفسه أي طلب الأمر لذاته هو جوهر‬ ‫التعالي المخلص من الهموم الدنيو ية ومنها المائدة والسرير وفنونهما الفعلية أو المستعملة‬ ‫للدلالة على المنزلة الاجتماعية‪.‬‬ ‫‪104‬‬

‫––‬ ‫– الفصل العاشر –‬ ‫في نظرية القيم‬ ‫بمقتضى قانون التبادل وقانون التواصل‬ ‫بينت سابقا علل العلاقة المعكوسة بين قيمتي الاقتصاد أي التبادلية‬ ‫والاستعمالية‪ .‬ولنحاول الآن تعليل هذا التعاكس ودلالته‪ .‬فما الذي يجعل‬ ‫القيمة التبادلية أعلى وأغلى من القيمة الاستعمالية في الاقتصاد والقيمة التواصلية‬ ‫من القيمة الاستعمالية في الثقافة‪ .‬وبينت أن العلة هي أن الأولى لا تتصل‬ ‫بالحاجات الأولية لقيام الإنسان العضوي بل بما يعتبره الإنسان أسمى وله دلالة‬ ‫روحية وشحنة عاطفية وهي تتعلق الحالتين بما له صلة بمنزلة الإنسان في الجماعة‬ ‫أي بما يراه غيره عليه أو بما يريد أن يراه غيره عليه أو بهما معا‪ .‬وهي في الحالتين‬ ‫من علامات الذوق والمنزلة‪.‬‬ ‫أما القيمة الاستعمالية فلها صلة بسد الحاجات المادية والعضو ية ولها علاقة‬ ‫بالعقل بدلا من الذوق فتكون النسبة بين القيمتين الاقتصاديتين عين النسبة بين‬ ‫الروحي والمادي من شروط قيام الإنسان العضوي من حيث هو كائن حي‬ ‫ككل الكائنات الحية والرمزي الذي يميز الإنسان عن الحيوان لما يضفيه على‬ ‫‪105‬‬

‫––‬ ‫المنزلة والدلالة الرمزية التي للفصل بين الحاجة والقيمة الرمزية لما يميز من الأشياء‬ ‫والافعال وكأنها مطلوبة لذاتها للدلالة على المنزلة والذوق‪,.‬‬ ‫وبينت كذلك العلاقة المعكوسة بين قيمتي الثقافة أي التواصلية والاستعمالية‪.‬‬ ‫فالتواصل مثل التبادل له قيمتان‪ :‬التواصل التابع للاستعمال في الاقتصاد وهو‬ ‫ما يصحب تبادل البضائع والخدمات من تخابر حولهما وهو تواصل منفعي تابع‬ ‫للتبادل وليس مطلوبا لذاته بخلاف التواصل المطلوب لذاته وهو كذلك دليل‬ ‫منزلة وذو شحنة عاطفية أو جامع بينهما وغالبا ما يكون إما للدالة على منزلة‬ ‫المتواصل الفكر ية أو موقفه العاطفي إزاء مخاطبيه‪.‬‬ ‫ومن ثم فليس القصد بالمادي والروحي ما يجعلهما وكأنهما متقابلان بل هما‬ ‫متلازمان لأن التبادلي من القيم الاقتصادية متعلق بالمادي ل كنه يتعلق بما يضفي‬ ‫عليه من دلالة روحية وشحنة عاطفية والرمز في هذه الحالة هو الهدايا والحلي‬ ‫بالنسبة إلى المرأة‪ :‬فهي التي تضفي مسحة روحية وعاطفية على التواصل بين‬ ‫الجنسين وتعتبر من دلالات العلاقات العاطفية في الغالب حتى وإن كانت لا‬ ‫تخلو من نفاق وخداع في ال كثير من الأحيان‪.‬‬ ‫فهذه الشحنة العاطفية وخاصة إذا كانت صادقة هي التي تروحن المادي‬ ‫فتضفي عليه بعدا متعاليا على ماديته ولعل أبرز الأمثلة دور الأوثان في الأديان‪:‬‬ ‫‪106‬‬

‫––‬ ‫فلا يوجد دين من دون أوثان عند النظر إليها في ماديتها ل كنها ليست اوثانا إلا‬ ‫في هذه الحالة ل كنها عند المؤمنين في نسبة الشحنة العاطفية التي للهدايا المعبرة‬ ‫عن شحنة عاطفية ومن هنا يأتي دور الأضاحي أو الحج إلى مكة ومنزلة الحجر‬ ‫الأسود‪ .‬والعلاقة هي عين العلاقة التي بين الجمالي والتعين المادي وخاصة في‬ ‫علامات الأنوثة للرجل وفي علامات الذكورة للمرأة‪ .‬وما قد يختلط بين‬ ‫العلامات عند المثليين فتجد المرأة المترجلة في امرأة تفوقها أنوثة وللرجل المتخنث‬ ‫في رجل يفوقه ذكوره ما ذكرت بين المرأة المتأنثة والرجل المتذكر‪ .‬ومثله يحصل‬ ‫في تعين الجلالي في \"فوضى\" الظاهرات الطبيعية واضطرابها الدال على المر يع‬ ‫والرائع والقوة الهوجاء‪.‬‬ ‫وبصورة جامعة فإن الروحي في المادي هو ما يضفيه الذوق والعاطفة على‬ ‫الشيء أو الفعل أو الكائن مما يغير قيمته من مجرد كونه شيئا أو فعلا أو كائنا‬ ‫إلى ما فيه من رمزية إما على المنزلة في الجماعة والدلالة على الذوق أو على ما‬ ‫يتعالى على الحاجة ومن ثم فهو عين الدلالة على الحر ية الإنسانية من حيث هي‬ ‫قدرة على طلب الشيء لذاته من حيث هو رمز هذه المعاني وليس من حيث‬ ‫هو ساد لحاجة مادية من شروط القيام العضوي‪ .‬هي إذن دلالة القيام المتعالي‬ ‫‪107‬‬

‫––‬ ‫على الكيان المادي والعضوي إلى ما بين البشر أو بينهم وبين الأشياء من علاقة‬ ‫روحية وعاطفية متجاوزة لمجرد الحياة البهيمية‪ .‬لذلك فالذوق نوعان‪:‬‬ ‫• ذوق عضوي كما في المأكول والمنكوح والذوق فيهما ليس سد الحاجة‬ ‫العضو ية بل ما يصحبها من لذة مطلوبة لذاتها‬ ‫• وذوق روحي كما في الفنون وفي المعرفة المطلوبة لذاتها أو لرمزيتها الدالة على‬ ‫المنزلة والمهابة التي تتألف من الجمال والجلال‪.‬‬ ‫والفنون أكثر دلالة من المعرفة لأن المعرفة التي لا تستدف سد حاجة غير‬ ‫ذاتها رغم ان طلب الحقيقة لذاتها يبقى دائما من الأدوات التي يتقدم فيها سد‬ ‫الحاجات الضرور ية سواء كانت مباشرةكما في المعرفة الحسية أو غير المباشرةكما‬ ‫في المعرفة العلمية التي تكون أكثر مساعدة على سد الحاجات التي تنتج عن كون‬ ‫الإنسان مستعمر في الأرض كلما كانت أكثر بعدا عن الحاجات المباشرةكما في‬ ‫البحث العلمي النظري الخالص‪.‬‬ ‫ومثلما أن التبادل بقيمتيه هو المقوم الأساسي للاقتصاد فإن التواصل بقيمتيه‬ ‫هو المقوم الأساسي للثقافة التي هي في الحقيقة ذوق فني وعلوم وكلاهما شرط‬ ‫في الاقتصاد لأن الأول هو علة رفعة القيمة التبادلية على القيمة الاستعمالية‬ ‫ومنهما الألعاب الر ياضية التي هي تعين الفن في البدن وكلاهما قد يجمد فيصبح‬ ‫‪108‬‬

‫––‬ ‫عادات تراثية شبه فلكلور ية عندما يتوقف الابداع فيه و يصبح مجرد عادات‬ ‫تمارس في الحياة العادية الخالية من الشحنة الحية التي تضفي عليها دلالتها الذوقية‬ ‫والمعرفية‪.‬‬ ‫‪109‬‬

‫‪–-‬‬ ‫‪-‬الفصل الحادي عشر –‬ ‫نأتي الآن إلى محاولة وصل هذه القيم الأربع‪-‬اثنتان للاقتصاد وهي التبادلية‬ ‫والاستعمالية واثنتان للثقافة وهي التواصلية والاستعمالية ‪-‬بأصلها الذي ينبغي‬ ‫أن يكون عين مقوم كيان الإنسان من حيث هو إنسان‪ .‬وقد سبق أن رأينا أن‬ ‫الإنسان أيا كان لا بد أن يكون متقوما كيانه من إرادة وقدرة وعلم وحياة‬ ‫ووجود أي وعي بذاته وبما يحيط بها‬ ‫و يجمع بين الادراكين رؤ ية لموقعه من الوجود الكلي أي من الاحياز التي‬ ‫يتحدد فيها ما يجعله في علاقة المستعمر في الأرض والمستخلف فيها ليس من‬ ‫حيث هو فرد فسحب بل من حيث هو فرد من جماعة متساخرة في تحقيق‬ ‫شروط قيامها العضوي بتبادل الخدمات المشروط في تقاسم العمل المنتج للثروة‬ ‫التي يترتب عليها التبادل والتعاوض وفي تحقيق شروط قيامها الروحي بتبادل‬ ‫المعلومات والخبرة المشروط في تقاسم العمل المنتج للتراث الذي يترتب عليه‬ ‫التواصل والتصادق‪.‬‬ ‫ولما كان هذا الإدراك المولد لرؤ ية الإنسان لذاته ولمحيطه الطبيعي والتاريخي‬ ‫ومنزلته فيهما بتوسط منزلته في الجماعة بأحيازها الخمسة أي الجغرافيا والتاريخ‬ ‫والثروة والتراث ذا مستو يين مباشر هو الإدراك الحسي المطبوع في ما تحقق من‬ ‫‪110‬‬

‫‪–-‬‬ ‫حضارة في هذه الأحياز وغير مباشر هو الادراك العلمي الذي يتجاوز المزيج إلى‬ ‫ما بين الطبيعي والتاريخي من تفاعل علته التبادل والتواصل بين البشر فإن‬ ‫الأصل هو هذا التفاعل بين البشر في نفس الجماعة وبين الجماعات ومن ثم فتاريخ‬ ‫الإنسانية هو ما بين هذه التفاعلات داخل في الحضارة وبين الحضارات‬ ‫المتساوقة والمتوالية‪ :‬وذلك هو موضوع علم ابن خلدون واكتشافه الذي هو ترجمة‬ ‫شبه حرفية لفلسفة القرآن ال كريم‪:‬‬ ‫فعلم العمران البشري إحالة إلى الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض‬ ‫للتنازل (المشاركة في المنزل وغالبا ما يحصل تراتب في المشاركة في المنزل بمقتضى‬ ‫التقارب في المنزلة سواء في نفس الطبقة أو بين الطبقات بمقتضى الثروة) من‬ ‫أجل سد الحاجات‪.‬‬ ‫و(علم) الاجتماع الإنساني إحالة إلى الإنسان من حيث هو مستخلف فيها‬ ‫للتنازل (المشاركة في المنزل وغالبا ما يحصل تراتب في المشاركة في المنزل بمقتضى‬ ‫التقارب في المنزلة سواء في نفس الطبقية أو الطبقيات بمقتضى التراث) من‬ ‫أجل \"الأنس بالعشير\"‪.‬‬ ‫والحضارة هي تفاعل هذين المستو يين أولهما يغلب عليه تقديم الأدوات‬ ‫وشروط القيام العضوي خاصة ل كن البعد الذوقي والرمزي فيه هو الذي يعلل‬ ‫‪111‬‬

‫‪–-‬‬ ‫تقدم التبادلي على الاستعمالي في الاقتصاد والثاني يغلب عليه تقديم الغايات‬ ‫وشروط القيام الروحي خاصة ل كن دوره في الأول ضروري من حيث حاجته‬ ‫إلى العلوم والخبرة وإلى الذوق ل كن مع التناظر العكسي بخصوص القيم لأن‬ ‫التواصل المطلوب لذاته والصادق مقدم على التواصل النفعي سواء في المعرفة أو‬ ‫في الخبرة وكلتاهما من شروط الاستعمار في الأرض من حيث الأدوات‬ ‫والمناهج‪.‬‬ ‫فالمستو يان متفاعلان وقد تسيطر الأدوات على الغايات وتوهم بتعو يضها وهو‬ ‫جوهر الفساد والترف الذي يزعم أصحابه أن الثاني قابل للرد إلى الأول فيفسد‬ ‫البعد الرمزي من الأفعال وتصبح بديلا من دلالتها الروحية وهو النفاق العام‬ ‫الذي يسيطر في حالات الترف الذي يتوهم أصحابه أنه تعال على المادي بالمادي‬ ‫فتصبح الهدايا ليست دالة برمزية الإهداء بل بقيمة الهدية المادية‪ .‬و يصبح‬ ‫ال كذب والنفاق والفساد بديلا من الصدق والصلاح‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن جوهر الفساد في المستو يين المنتج لمقومات العمران البشري‬ ‫أي علاقة الجماعة بشروط قيامها العضوي أي الثروة بمستو ييها بين البشر تقاسما‬ ‫للعمل وبينهم وبين الطبيعة تقاسما لثمراته المادية والمنتج لمقومات الاجتماع‬ ‫الإنساني أي علاقة الجماعة بشروط قيامها الروحي أي التراث بمستوييه بين البشر‬ ‫‪112‬‬

‫‪–-‬‬ ‫تقاسما للعمل وبينه وبين التاريخ تقاسما لثمراته الرمزية يتجليان في تراتب المنازل‬ ‫فيهما والجمع بين الثروة والتراث محدد للرتبة الأعلى مع وجود رتبتين نسبيتين هما‬ ‫رتبة بمقتضى الثروة ورتبة بمقتضى التراث‪.‬‬ ‫وتفاضل الرتب في هذين المستو يين تحكمه المباشرة وعدمها‪ .‬ذلك أن الثورة‬ ‫متقدمة على التراث لأن فاعليتها مباشرة في حين أن التراث فاعليته غير مباشرة‬ ‫و يعسر رؤ يتها مسبقا‪ .‬فيمكن لمبدع في علم من العلوم وتطبيقاته أن يكون أهم‬ ‫من ألف رجل اعمال ثري في تنمية الثروة‪ .‬ل كن دوره ذلك غير مباشر ولذلك‬ ‫فقلما تجد عالما ثر يا وقلما يكون اجر المربين جزاء حقيقيا لدورهم في تكوين‬ ‫مكوني الثروة‪ .‬لذلك فالمنزلة التي يحددها انتاج التراث تبقى زهيدة دائما وقلما‬ ‫يكون لهم دور يذكر في القرارات المصير ية في الجماعات البشر ية رغم كونهم هم‬ ‫من يحدد أوزان القيم التي تحكم سلوك البشر للعلم بمحركات النفس البشر ية‪.‬‬ ‫والعلاقة بين المباشر وغير المباشر معكوسة دائما‪ .‬فهي في الوقائع خاضعة لتقدم‬ ‫غير المباشر على المباشر تماما كما هو الشأن في المعرفة والقيمة اللتين لا تتحددان‬ ‫بالإدراك الحسي المباشر بل هما خاضعتان لسلاسل معقدة من المؤثرات التي‬ ‫تحاول النظر ية العلمية والتجربة العملية اكتشاف اسرارها حتى يكون تأثير‬ ‫الإنسان في الظاهرات الطبيعية والتاريخية تأثيرا فعليا وليس سحر يا‪.‬‬ ‫‪113‬‬

‫‪–-‬‬ ‫ل كن البشر في سلوكهم العادي يحتكمون إلى الإدراك المباشر ولا يرون هذه‬ ‫السلاسل المعقدة التي تضع سينار يوهات الفاعليات الخفية في الأشياء حتى‬ ‫تستطيع اكتشاف ما تفرضه من قوانين تحكمها وباستعمالها يمكنها السيطرة على‬ ‫مجراها والتدخل فيه وتحو يله إلى ما يمكن من انتاج الثروة‪ .‬فيكون التراث‬ ‫المؤلف من النظر ية المعرفية والخبرة التجريبية أساسا لشروط قيام الإنسان‬ ‫العضوي وشروط قيامه الروحي‪.‬‬ ‫ونفس العلاقة نجدها بين شكلي الثروة‪ :‬فالسائلة التي تمثلها العملة مقدمة على‬ ‫الجامدة التي تمثلها العقارات لأن الأولى تيسر الفعل المباشرة والآني في حين‬ ‫أن الثانية تحتاج إلى التحول إلى الأولى حتى تصبح آنية الفاعلية‪ .‬ونفس العلاقة‬ ‫نجدها بين شكلي الفكر‪ :‬فاللساني الذي تمثله الكلمة مقدمة على المنطقي الذي تمثله‬ ‫الاستدلالات المقعدة لأن الأولى تيسر الفعل المباشر والآني في حين أن الثانية‬ ‫تحتاج إلى التحول إلى الأولى حتى تصبح آنية الفاعلية‪ .‬وتلك هي علة درو‬ ‫الخطابة في السياسة‪.‬‬ ‫ولعل جوهر الموقف السقراطي والسخر ية من خطابة السوفسطائيين الذين‬ ‫يباكتهم فيظهر تناقضاتهم بما يقابل به أحكامهم الخطابية بتحليلاته المنطقية وأهمها‬ ‫التعر يف الدقيق لدلالة الالفاظ ثم المحافظة عليها خلال الاستدلال حتى يمنع ما‬ ‫‪114‬‬

‫‪–-‬‬ ‫تسمح به الخطابة من اللعب على تشابه الدلالات والانزلاق من دلالة إلى أخرى‬ ‫دون التفطن أو بقصد المغالطة‪.‬‬ ‫وفي الختام فإن الحياة البشر ية مبنية أساسا على تقدم المستوى السطحي على‬ ‫المستوى العميق في العلاقات بين البشر وبينهم وبين الطبيعة في كل ما له دور‬ ‫في التساخر والتراتب بينهم بحيث إن الظاهر هو الغالب دائما في المعاملات بينهم‬ ‫ل كنه ليس هو الغالب في محدداتها الفعلية‪ .‬لذلك فما من جماعة يمكن أن تصبح‬ ‫قادرة على علاج ما يتطلبه العمران البشري‪.‬‬ ‫وليس بالصدفة أن كانت شهادة الحواس مقدمة على كل معرفة حتى إن‬ ‫وصفها في نظر ية المعرفة التقليدية تعتبرها عين المعرفة الضرور ية التي يظنها ال كثير‬ ‫حدسا صادقا لحقيقة الأشياء وهو المقصود بالواقع عند من يكثرون الاحتجاج‬ ‫به ضد ما ينتهي اليه أي معرفة غير مباشرة عمادها الاستدلال العقلي‪ .‬وحتى‬ ‫في الفلسفة فإن النويتيك مباشر وهو غير الديانويتيك الذي يعتبر ثمرة استدلال‬ ‫ومعرفة غير مباشرة‪ .‬ولما كان المنطلق في كل فكر اعتقد القائل بها انها من‬ ‫المسلمات للانطلاق أو حقائق هي عين الواقع فإن الثابت هو استحالة تغيير‬ ‫الموقف القضوي بمقتضى مضمون القضية العلمية عندما يتعلق الامر بالتنافي بين‬ ‫ما تقوله الحواس للعامي وما يقوله العلم للباحث عن الحقيقة العلمية التي هي‬ ‫‪115‬‬

‫‪–-‬‬ ‫إدراك غير مباشر لا يدعي الإطلاق وراء الظاهر للإدراك المباشر الذي يتصوره‬ ‫أصحابه مطلقا‪.‬‬ ‫‪116‬‬

–- 117


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook