–– فالعولمية ملازمة للتاريخ الإنساني لأن سياسة العالم بتبعية الأقو ياء في السياسة المحلية للأقو ياء في السياسة العالمية لأن أولئك يستمدون سلطانهم من هؤلاء دائما ما يعني أن السياسة الخارجية هي التي تحكم السياسة الداخلية في جميع العصور. والعولمة الحالية التي تزعم جديدة ليس جديدا فيها إلا ما يشبه السكون النسبي لأن حركات الشعوب اليوم اتخذت شكلا جديدا هو الهجرة إما الطوعية او الاضطرار ية وهي عملية بطيئة من حيث الحركة بخلاف التغازي الجماعي ل كنها لها نفس المفعول في التاريخ المديد. بمعنى أن توز يع الأرض بين الحضارات بات شبه ثابت بحيث بدا وكأنه قد زاد من التواصل بينها تواصلا متساوقا وليس متواليا كما كان في الماضي عندما كان التغازي هو المسيطر فتزيح الحضارات بعضها بعضا. وهو ما يعني أن خرافة العولمة واعتبارها ظاهرة حديثة دليل جهل بأنها في الحقيقة ملازمة لوجود البشر وتقاسم جغرافية الثروات الطبيعية الشارطة لقيام العمران. وهو ما يفسر التغازي الدائم بين البشر طلبا للماء والكلأ في البادية ثم لطلب الطاقة طرق التجارة بين الجماعات. 98
–– فيكون قانون التساخر مؤلفا من حدين أقصيين هما المحلي والعالمي وبينهما سلم الدرجات التي تصل بين التوابع والمتبوعين بحسب تقاسم المعمورة بين الشعوب بمعيار القادرين على خوض معارك القوتين المادية والرمزية والعاجزين دونهما. ولما كانت القدرة والعجز في تناسب عكسي فإن السلم واحد إما تصاعديا أو تنازليا بحسب الانطلاق من درجة القدرة الأقصى أو من درجة العجز الأقصى. فيكون سلم التابعية وسلم المتبوعية نفس السلم إذا قرأناه من التابعية إلى المتبوعية و يكون المدخل علاقة الضعيف بالقوي وإذا قرآناه من المتبوعية إلى التابعية يكون المدخل من علاقة القوي بالضعيف. وهو مبدأ يسميه القرآن بمبدأ التسخير أو السخرة أي إن كل شيء خادم ومخدوم من كل شيء في عالم الشهادة لكأنها جعلت لتكون متخادمة ومتكاملة. وما يعنينا منها هو التساخر في المجتمعات البشر ية التي يمثل فيها الوعي به وتنظيمه عين الاستراتيجية السياسية التي تحدد النجاح في الاستعمار في الأرض السلمي أو الحربي والذي به تتحدد اخلاق الشعوب وأنظمتها السياسية تربية وحكما. ولهذه العلاقة حدان اقصيان أولهما هو القانون العادل إذا كانت استجابة لحاجة التبادل بالتعاوض العادل والتواصل بالتفاهم الصادق والثاني هو القانون الظالم إذا تحول إلى تسخير ظالم لانعدام العدل في التعاوض والصدق في التفاهم. 99
–– ولهذه العلة فإن الكلام على الرب باعتباره الحاكم العادل بإطلاق ل كونه ذا العلم المحيط والصادق بإطلاق ل كونه ذا العمل التام ول كون المتنازعين يلتقون عنده دون أي قدرة على الخداع لأن كل اعضائهم تصبح شاهدة عليهم إذ هي الأدوات التي تنفذ بالأفعال فتسجلها بحيث إن الكتاب الذي يحمله كل متحاكم هو عين كيانه العضوي والروحي الذي لا يكذب فيكون القضاء المطلق هو قضاء الرب يوم الحساب. ولولا ذلك لكان عدد الملائكة الحاسبين ضعف عدد الكائنات التي تحاكم ومنهم البشر. ل كن ذلك يكون دليل عجز في جعل هذه الكائنات خالية من الحواسيب التي تسجل كل ما يحدث فيها حسناتها وسيئاتها بحيث إن مفهوم الملائكة المراقبة لسلوك البشر مثلا هي وظائف يجهز بها كيانهم العضوي الذي ينطق يوم الحساب ليشهد عليهم أو لهم. ولهذه الرؤ ية تأثير يتجلى في حياة البشر الدنيو ية بحضورها في الوعي بها وعدم نسيانها في عالم الشهادة. وبهذا المعنى فالقضاء الدنيوي لا يكون ذا فاعلية من دون أن يكون كل احتكام إليه مفترضا أن المتنازعين يطلبون العدل أو الظلم إما بحسن نية أو بخداع فيكون دور القضاء التغلب على الخداع للوصول إلى الحكم العادل وأداء الأمانة لأن شرط الحكم هو الأمانة والعدل مع التسليم بأن القاضي الدنيوي يحكم بالظاهر والله بتولى السرائر. 100
–– ولهذه العلة فإن الاحكام الواردة في القرآن هي الحدود التي ينبغي أن يبقى القاضي الدنيوي دونها لأن علمه محدود ولا يحيط بالسرائر. ذلك ان كل الاحكام مشفوعة بالكلام على دور التوبة وبعضها إذا نفذ وكأن القاضي عالم بالسرائر يحول دون التوبة فيكون الحكم قد ألغاها فيترتب عليها كما في حالة الردة التي قد يتوب عنها المرتد بعد حصولها والتوبة مشار إليها وإلى مقبوليتها في الآية المتعلقة بحكمها. ومثله قطع اليد والحرابة إلخ ....من الأحكام التي لا ينبغي الذهاب فيها إلى غاية الحد لعدم الإحاطة في علم القضاء الأرضيين. والإشارة إلى غاية الحد هدفه بيان مراتب الجنايات ووزنها في القضاء التام وهو إذن الحد الذي لا يمكن للقضاء الأرضي أن يبلغه لنسبية علمه واقتصاره على الظاهر وكم فيه من أسباب التزييف وخاصة في مسائل الحقوق والواجبات في مجالات التساخر كلها التي غالبا ما يكون فيها قانون القوة مقدما على قوة القانون. فالتابعية والمتبوعية ليستا مقصورتين على العلاقة بين القانونين قانون القوة المعتمد على الأمر الواقع العضوي والفكري الطبيعيين وقوة القانون المبرر بالعقدين الفلسفي والديني بل إن له قوانين أخرى بينة للجميع وهي متعلقة بنوعي سد الحاجات المادية (العمران البشري بلغة ابن خلدون) والروحية (العمران البشري بلغة ابن خلدون). 101
–– وهذه القوانين متعاكسة مع قانون التساخر الذي من المفروض أن يجعل البشر سواسية إذ كل أحد يكون في توز يع العمل ضرور يا لكل واحد. ومن ثم فلا مفاضلة بين الوظائف التي لا غنى عنها في سد الحاجات المادية والروحية. ل كن الأمر بخلاف ذلك في مستوى تقييم الحاجات بنوعيها: ففي سد الحاجات العضو ية نجد تلازما بين نوعين من القيمة في الاقتصاد والثروة هما القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية. والتراتب فيهما متعاكس مع سد الحاجة المادية أي إن التبادلية التي من المفروض أن يحكمها سد الحاجة المادية نجد الحكم الغالب عليها هو سد الحاجة الروحية أي الذوق عامة والدلالة على المنزلة الاجتماعية خاصة حتى في أقصى حالات أزوف الحاجة الماديةكما في الحروب مثلا. وقد ارجعت هذا الأمر إلى البعد الجمالي من المائدة (الغذاء) والسرير (الجنس) في ما يتبعهما أو ما يستتبعهما من حيث الدلالة على المنزلة الاجتماعية. وخصصت للمسألة عدة دراسات لأنها من أهم ما يمكن من فهم خرافة الدور المنسوب إلى البعد المادي من وجود الإنسان في الرؤ ية الماركسية. فتقديم القيمة التبادلية على القيمة الاستعمالية تلغي تماما حجة المادية الجدلية لأن الأمر المحدد للفرق ليس التبادل بل القيمة التي تسند إلى ما يتم تبادله وهو بعد روحي بالجوهر إذ هو متعلق بالذوق الجمالي والجلالي وحتى بما يريد الإنسان ابرازه من معان في مظهر ذاته. 102
–– وذلك أمر يفهمه من يفهم ذوق النساء وحب الظهور لديهن وأهمية الملبس والحلي لديهن. وهذه الظاهرة الدالة على تقديم الذوق على المنفعة عندما تصل إلى الذروة تتحول إلى ترف وهو ما يعتبر من الأدواء القاتلة للحضارة. وعلامته الفصل بين القيمتين: فعندما تصبح القيمة التبادلية مطلوبة بإطلاق خالصة من دون القيمة الاستعمالية ينتهي الأمر إلى فصل الجنس عن وظيفته الإنجابية والاكل عن وظيفته الغذائية فتصبح اللذة مادية خالصة والمظهر خداعا خالصا. فينهدم كيان الإنسان العضوي والروحي ومثلهكيان الحضارة والجماعة. وفي سد الحاجات الرمزية نجد تلازما بين نوعين من القيمة في الثقافة والتراث هما: القيمة الأداتية والقيمة الغائية. وذلك في العلوم وفي الفنون والملاهي وفي كل انشغال إنساني بما يتجاوز الحاجة المادية وبعدها الرمزي. وإذن فالتراتب متعاكس في سد الحاجة الرمزية الخالصة. ومعنى ذلك أن العلم مثلا بقدر ما يكون أساسيا وبعيدا عن الهم التطبيقي يكون أسمى منزلة. 103
–– والتلهي له نفس المنطق كما هو بين في الألعاب الر ياضيةكالفروسية والسباق والصراع وكل ما فيه من مغامرة وشجاعة لتحدي الأبدان والصعاب التي تتعلق بتحقيق ما تهواه الذات لذاته. ويمكن في هذه الحالة أن نعتبر ذلك هو المميز بين الجمالي والجلالي الذي يجعل ما يعبر عن الحر ية والانشغال بالأمر غاية في حد ذاته هو أسمى المنازل الروحية في الوجود الإنساني. وقد ذهب أرسطو إلى أن الإنسان يعيش في النظر العقلي الخالص لحظات شبيه بالمحرك الذي لا يتحرك وكل شيء يتحرك انجذابا إلى جمالة وجلاله. فيكون عدم الانشغال بغاية تتجاوز الانشغال نفسه أي طلب الأمر لذاته هو جوهر التعالي المخلص من الهموم الدنيو ية ومنها المائدة والسرير وفنونهما الفعلية أو المستعملة للدلالة على المنزلة الاجتماعية. 104
–– – الفصل العاشر – في نظرية القيم بمقتضى قانون التبادل وقانون التواصل بينت سابقا علل العلاقة المعكوسة بين قيمتي الاقتصاد أي التبادلية والاستعمالية .ولنحاول الآن تعليل هذا التعاكس ودلالته .فما الذي يجعل القيمة التبادلية أعلى وأغلى من القيمة الاستعمالية في الاقتصاد والقيمة التواصلية من القيمة الاستعمالية في الثقافة .وبينت أن العلة هي أن الأولى لا تتصل بالحاجات الأولية لقيام الإنسان العضوي بل بما يعتبره الإنسان أسمى وله دلالة روحية وشحنة عاطفية وهي تتعلق الحالتين بما له صلة بمنزلة الإنسان في الجماعة أي بما يراه غيره عليه أو بما يريد أن يراه غيره عليه أو بهما معا .وهي في الحالتين من علامات الذوق والمنزلة. أما القيمة الاستعمالية فلها صلة بسد الحاجات المادية والعضو ية ولها علاقة بالعقل بدلا من الذوق فتكون النسبة بين القيمتين الاقتصاديتين عين النسبة بين الروحي والمادي من شروط قيام الإنسان العضوي من حيث هو كائن حي ككل الكائنات الحية والرمزي الذي يميز الإنسان عن الحيوان لما يضفيه على 105
–– المنزلة والدلالة الرمزية التي للفصل بين الحاجة والقيمة الرمزية لما يميز من الأشياء والافعال وكأنها مطلوبة لذاتها للدلالة على المنزلة والذوق,. وبينت كذلك العلاقة المعكوسة بين قيمتي الثقافة أي التواصلية والاستعمالية. فالتواصل مثل التبادل له قيمتان :التواصل التابع للاستعمال في الاقتصاد وهو ما يصحب تبادل البضائع والخدمات من تخابر حولهما وهو تواصل منفعي تابع للتبادل وليس مطلوبا لذاته بخلاف التواصل المطلوب لذاته وهو كذلك دليل منزلة وذو شحنة عاطفية أو جامع بينهما وغالبا ما يكون إما للدالة على منزلة المتواصل الفكر ية أو موقفه العاطفي إزاء مخاطبيه. ومن ثم فليس القصد بالمادي والروحي ما يجعلهما وكأنهما متقابلان بل هما متلازمان لأن التبادلي من القيم الاقتصادية متعلق بالمادي ل كنه يتعلق بما يضفي عليه من دلالة روحية وشحنة عاطفية والرمز في هذه الحالة هو الهدايا والحلي بالنسبة إلى المرأة :فهي التي تضفي مسحة روحية وعاطفية على التواصل بين الجنسين وتعتبر من دلالات العلاقات العاطفية في الغالب حتى وإن كانت لا تخلو من نفاق وخداع في ال كثير من الأحيان. فهذه الشحنة العاطفية وخاصة إذا كانت صادقة هي التي تروحن المادي فتضفي عليه بعدا متعاليا على ماديته ولعل أبرز الأمثلة دور الأوثان في الأديان: 106
–– فلا يوجد دين من دون أوثان عند النظر إليها في ماديتها ل كنها ليست اوثانا إلا في هذه الحالة ل كنها عند المؤمنين في نسبة الشحنة العاطفية التي للهدايا المعبرة عن شحنة عاطفية ومن هنا يأتي دور الأضاحي أو الحج إلى مكة ومنزلة الحجر الأسود .والعلاقة هي عين العلاقة التي بين الجمالي والتعين المادي وخاصة في علامات الأنوثة للرجل وفي علامات الذكورة للمرأة .وما قد يختلط بين العلامات عند المثليين فتجد المرأة المترجلة في امرأة تفوقها أنوثة وللرجل المتخنث في رجل يفوقه ذكوره ما ذكرت بين المرأة المتأنثة والرجل المتذكر .ومثله يحصل في تعين الجلالي في \"فوضى\" الظاهرات الطبيعية واضطرابها الدال على المر يع والرائع والقوة الهوجاء. وبصورة جامعة فإن الروحي في المادي هو ما يضفيه الذوق والعاطفة على الشيء أو الفعل أو الكائن مما يغير قيمته من مجرد كونه شيئا أو فعلا أو كائنا إلى ما فيه من رمزية إما على المنزلة في الجماعة والدلالة على الذوق أو على ما يتعالى على الحاجة ومن ثم فهو عين الدلالة على الحر ية الإنسانية من حيث هي قدرة على طلب الشيء لذاته من حيث هو رمز هذه المعاني وليس من حيث هو ساد لحاجة مادية من شروط القيام العضوي .هي إذن دلالة القيام المتعالي 107
–– على الكيان المادي والعضوي إلى ما بين البشر أو بينهم وبين الأشياء من علاقة روحية وعاطفية متجاوزة لمجرد الحياة البهيمية .لذلك فالذوق نوعان: • ذوق عضوي كما في المأكول والمنكوح والذوق فيهما ليس سد الحاجة العضو ية بل ما يصحبها من لذة مطلوبة لذاتها • وذوق روحي كما في الفنون وفي المعرفة المطلوبة لذاتها أو لرمزيتها الدالة على المنزلة والمهابة التي تتألف من الجمال والجلال. والفنون أكثر دلالة من المعرفة لأن المعرفة التي لا تستدف سد حاجة غير ذاتها رغم ان طلب الحقيقة لذاتها يبقى دائما من الأدوات التي يتقدم فيها سد الحاجات الضرور ية سواء كانت مباشرةكما في المعرفة الحسية أو غير المباشرةكما في المعرفة العلمية التي تكون أكثر مساعدة على سد الحاجات التي تنتج عن كون الإنسان مستعمر في الأرض كلما كانت أكثر بعدا عن الحاجات المباشرةكما في البحث العلمي النظري الخالص. ومثلما أن التبادل بقيمتيه هو المقوم الأساسي للاقتصاد فإن التواصل بقيمتيه هو المقوم الأساسي للثقافة التي هي في الحقيقة ذوق فني وعلوم وكلاهما شرط في الاقتصاد لأن الأول هو علة رفعة القيمة التبادلية على القيمة الاستعمالية ومنهما الألعاب الر ياضية التي هي تعين الفن في البدن وكلاهما قد يجمد فيصبح 108
–– عادات تراثية شبه فلكلور ية عندما يتوقف الابداع فيه و يصبح مجرد عادات تمارس في الحياة العادية الخالية من الشحنة الحية التي تضفي عليها دلالتها الذوقية والمعرفية. 109
–- -الفصل الحادي عشر – نأتي الآن إلى محاولة وصل هذه القيم الأربع-اثنتان للاقتصاد وهي التبادلية والاستعمالية واثنتان للثقافة وهي التواصلية والاستعمالية -بأصلها الذي ينبغي أن يكون عين مقوم كيان الإنسان من حيث هو إنسان .وقد سبق أن رأينا أن الإنسان أيا كان لا بد أن يكون متقوما كيانه من إرادة وقدرة وعلم وحياة ووجود أي وعي بذاته وبما يحيط بها و يجمع بين الادراكين رؤ ية لموقعه من الوجود الكلي أي من الاحياز التي يتحدد فيها ما يجعله في علاقة المستعمر في الأرض والمستخلف فيها ليس من حيث هو فرد فسحب بل من حيث هو فرد من جماعة متساخرة في تحقيق شروط قيامها العضوي بتبادل الخدمات المشروط في تقاسم العمل المنتج للثروة التي يترتب عليها التبادل والتعاوض وفي تحقيق شروط قيامها الروحي بتبادل المعلومات والخبرة المشروط في تقاسم العمل المنتج للتراث الذي يترتب عليه التواصل والتصادق. ولما كان هذا الإدراك المولد لرؤ ية الإنسان لذاته ولمحيطه الطبيعي والتاريخي ومنزلته فيهما بتوسط منزلته في الجماعة بأحيازها الخمسة أي الجغرافيا والتاريخ والثروة والتراث ذا مستو يين مباشر هو الإدراك الحسي المطبوع في ما تحقق من 110
–- حضارة في هذه الأحياز وغير مباشر هو الادراك العلمي الذي يتجاوز المزيج إلى ما بين الطبيعي والتاريخي من تفاعل علته التبادل والتواصل بين البشر فإن الأصل هو هذا التفاعل بين البشر في نفس الجماعة وبين الجماعات ومن ثم فتاريخ الإنسانية هو ما بين هذه التفاعلات داخل في الحضارة وبين الحضارات المتساوقة والمتوالية :وذلك هو موضوع علم ابن خلدون واكتشافه الذي هو ترجمة شبه حرفية لفلسفة القرآن ال كريم: فعلم العمران البشري إحالة إلى الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض للتنازل (المشاركة في المنزل وغالبا ما يحصل تراتب في المشاركة في المنزل بمقتضى التقارب في المنزلة سواء في نفس الطبقة أو بين الطبقات بمقتضى الثروة) من أجل سد الحاجات. و(علم) الاجتماع الإنساني إحالة إلى الإنسان من حيث هو مستخلف فيها للتنازل (المشاركة في المنزل وغالبا ما يحصل تراتب في المشاركة في المنزل بمقتضى التقارب في المنزلة سواء في نفس الطبقية أو الطبقيات بمقتضى التراث) من أجل \"الأنس بالعشير\". والحضارة هي تفاعل هذين المستو يين أولهما يغلب عليه تقديم الأدوات وشروط القيام العضوي خاصة ل كن البعد الذوقي والرمزي فيه هو الذي يعلل 111
–- تقدم التبادلي على الاستعمالي في الاقتصاد والثاني يغلب عليه تقديم الغايات وشروط القيام الروحي خاصة ل كن دوره في الأول ضروري من حيث حاجته إلى العلوم والخبرة وإلى الذوق ل كن مع التناظر العكسي بخصوص القيم لأن التواصل المطلوب لذاته والصادق مقدم على التواصل النفعي سواء في المعرفة أو في الخبرة وكلتاهما من شروط الاستعمار في الأرض من حيث الأدوات والمناهج. فالمستو يان متفاعلان وقد تسيطر الأدوات على الغايات وتوهم بتعو يضها وهو جوهر الفساد والترف الذي يزعم أصحابه أن الثاني قابل للرد إلى الأول فيفسد البعد الرمزي من الأفعال وتصبح بديلا من دلالتها الروحية وهو النفاق العام الذي يسيطر في حالات الترف الذي يتوهم أصحابه أنه تعال على المادي بالمادي فتصبح الهدايا ليست دالة برمزية الإهداء بل بقيمة الهدية المادية .و يصبح ال كذب والنفاق والفساد بديلا من الصدق والصلاح. وبذلك يتبين أن جوهر الفساد في المستو يين المنتج لمقومات العمران البشري أي علاقة الجماعة بشروط قيامها العضوي أي الثروة بمستو ييها بين البشر تقاسما للعمل وبينهم وبين الطبيعة تقاسما لثمراته المادية والمنتج لمقومات الاجتماع الإنساني أي علاقة الجماعة بشروط قيامها الروحي أي التراث بمستوييه بين البشر 112
–- تقاسما للعمل وبينه وبين التاريخ تقاسما لثمراته الرمزية يتجليان في تراتب المنازل فيهما والجمع بين الثروة والتراث محدد للرتبة الأعلى مع وجود رتبتين نسبيتين هما رتبة بمقتضى الثروة ورتبة بمقتضى التراث. وتفاضل الرتب في هذين المستو يين تحكمه المباشرة وعدمها .ذلك أن الثورة متقدمة على التراث لأن فاعليتها مباشرة في حين أن التراث فاعليته غير مباشرة و يعسر رؤ يتها مسبقا .فيمكن لمبدع في علم من العلوم وتطبيقاته أن يكون أهم من ألف رجل اعمال ثري في تنمية الثروة .ل كن دوره ذلك غير مباشر ولذلك فقلما تجد عالما ثر يا وقلما يكون اجر المربين جزاء حقيقيا لدورهم في تكوين مكوني الثروة .لذلك فالمنزلة التي يحددها انتاج التراث تبقى زهيدة دائما وقلما يكون لهم دور يذكر في القرارات المصير ية في الجماعات البشر ية رغم كونهم هم من يحدد أوزان القيم التي تحكم سلوك البشر للعلم بمحركات النفس البشر ية. والعلاقة بين المباشر وغير المباشر معكوسة دائما .فهي في الوقائع خاضعة لتقدم غير المباشر على المباشر تماما كما هو الشأن في المعرفة والقيمة اللتين لا تتحددان بالإدراك الحسي المباشر بل هما خاضعتان لسلاسل معقدة من المؤثرات التي تحاول النظر ية العلمية والتجربة العملية اكتشاف اسرارها حتى يكون تأثير الإنسان في الظاهرات الطبيعية والتاريخية تأثيرا فعليا وليس سحر يا. 113
–- ل كن البشر في سلوكهم العادي يحتكمون إلى الإدراك المباشر ولا يرون هذه السلاسل المعقدة التي تضع سينار يوهات الفاعليات الخفية في الأشياء حتى تستطيع اكتشاف ما تفرضه من قوانين تحكمها وباستعمالها يمكنها السيطرة على مجراها والتدخل فيه وتحو يله إلى ما يمكن من انتاج الثروة .فيكون التراث المؤلف من النظر ية المعرفية والخبرة التجريبية أساسا لشروط قيام الإنسان العضوي وشروط قيامه الروحي. ونفس العلاقة نجدها بين شكلي الثروة :فالسائلة التي تمثلها العملة مقدمة على الجامدة التي تمثلها العقارات لأن الأولى تيسر الفعل المباشرة والآني في حين أن الثانية تحتاج إلى التحول إلى الأولى حتى تصبح آنية الفاعلية .ونفس العلاقة نجدها بين شكلي الفكر :فاللساني الذي تمثله الكلمة مقدمة على المنطقي الذي تمثله الاستدلالات المقعدة لأن الأولى تيسر الفعل المباشر والآني في حين أن الثانية تحتاج إلى التحول إلى الأولى حتى تصبح آنية الفاعلية .وتلك هي علة درو الخطابة في السياسة. ولعل جوهر الموقف السقراطي والسخر ية من خطابة السوفسطائيين الذين يباكتهم فيظهر تناقضاتهم بما يقابل به أحكامهم الخطابية بتحليلاته المنطقية وأهمها التعر يف الدقيق لدلالة الالفاظ ثم المحافظة عليها خلال الاستدلال حتى يمنع ما 114
–- تسمح به الخطابة من اللعب على تشابه الدلالات والانزلاق من دلالة إلى أخرى دون التفطن أو بقصد المغالطة. وفي الختام فإن الحياة البشر ية مبنية أساسا على تقدم المستوى السطحي على المستوى العميق في العلاقات بين البشر وبينهم وبين الطبيعة في كل ما له دور في التساخر والتراتب بينهم بحيث إن الظاهر هو الغالب دائما في المعاملات بينهم ل كنه ليس هو الغالب في محدداتها الفعلية .لذلك فما من جماعة يمكن أن تصبح قادرة على علاج ما يتطلبه العمران البشري. وليس بالصدفة أن كانت شهادة الحواس مقدمة على كل معرفة حتى إن وصفها في نظر ية المعرفة التقليدية تعتبرها عين المعرفة الضرور ية التي يظنها ال كثير حدسا صادقا لحقيقة الأشياء وهو المقصود بالواقع عند من يكثرون الاحتجاج به ضد ما ينتهي اليه أي معرفة غير مباشرة عمادها الاستدلال العقلي .وحتى في الفلسفة فإن النويتيك مباشر وهو غير الديانويتيك الذي يعتبر ثمرة استدلال ومعرفة غير مباشرة .ولما كان المنطلق في كل فكر اعتقد القائل بها انها من المسلمات للانطلاق أو حقائق هي عين الواقع فإن الثابت هو استحالة تغيير الموقف القضوي بمقتضى مضمون القضية العلمية عندما يتعلق الامر بالتنافي بين ما تقوله الحواس للعامي وما يقوله العلم للباحث عن الحقيقة العلمية التي هي 115
–- إدراك غير مباشر لا يدعي الإطلاق وراء الظاهر للإدراك المباشر الذي يتصوره أصحابه مطلقا. 116
–- 117
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120