-- اعتقد-ولا فخر -أني قد حاولت الاستعداد لذلك بالتكوين النظري وبشيء وبما حاولت المشاركة فيه من الممارسة العملية .فأما النظر فقد بدأته بالفكر السياسي الغربي الحديث وأداتيه أي بمبادئ ضرور ية في الاقتصاد والقانون وبما يتميز به عمل القوى السياسية والمدنية فيه من آليات جرت بها العادة. ثم ثنيت بما أهمله الفكر الفلسفي العربي التقليدي الفلسفي والديني اللذين يشتركان في وهم الإحاطة في النظر والتمام في العمل بحيث صار القرآن يحاكم بأرسطو وأفلاطون ما يعني أنهم لا يختلفون كثيرا عن الفكر الفلسفي العربي الحالي الذي يحاكمه بماركس وهيجل ومثله الفكر الديني وخاصة الذي يدعي الحداثة. وما أعجب له شديد العجب غياب الوعي بخصوصية العمل السياسي الذي وضعه ابن خلدون في فصل ولاية العهد وسماه مبدأ عدم التأثيم حلا يتجاوز به ما يتهم به الصحابة عندما تصور الساعون لتدنيس تاريخ المرحلة التأسيسية من تاريخ الإسلام أن صراعهم الذي لا ينكره إلا معاند يقبل التقييم بمنطق عدم التناقض والثالث المرفوع في حين أنه في حل منهما لأنه اجتهاد عقلي بالطبع حول شروط جهاد الإرادة التي تصل بين الغايات التي هي جوهر البعد الخلقي من السياسة بالأدوات التي هي جوهر التوفيق بين 48
-- الضرورة والحر ية في تحقيق شروط قيام الإنسان المادي أي الاستعمار في الأرض وقيامه الروحي أي الاستخلاف فيها. عدت إذن إلى من اهتموا بنقد هذا الموقف ليس من باب دفاعهم عن الدين فلست ممن يختار رد الفعل من فكرهم بل من باب رفضهم لنظر ية في المعرفة تقول بالمطابقة والإحاطة وبنظري في العمل تقول بالمطابقة والتمام أي من باب ثورة ابستمولوجية تجعل العلم الإنساني اجتهاديا بالجوهر ومن ثم فهو ليس مطابقا لما يسمونه الواقع ولا محيطا بالوجود وثورة أكسيولوجية تجعل العمل الإنساني جهادي بالجوهر ومن ثم فهو ليس تاما ولا محيطا بالقيم. وتلك هي النتيجة التي شرع في بيانها الغزالي حتى وإن نكص دونها ثم تلاه ابن تيمية في النظر وختمها ابن خلدون في العمل لأن ذروة هذين الثورتين هو جعل ما بعد التاريخ بديلا من الميتافيز يقا التي ظنها الفلاسفة علما مطلقا وعملا تاما. ل كن هؤلاء الأعلام الذين عالجوا هذه الأبعاد في تراثنا الفكري أهملوا وهجروا بل ذهب حمقى الحداثة بزعمهم على التخلف والانحطاط وبالذات بسبب تلاقي 49
-- مواقف المحدثين بالقدامى في وهم المطابقة والاحاطة في علم الواقع والتمام في قيم الحقيقة. فكان حرصي الذي هو التحدي الأساسي في حياتي الفكر ية فرض العودة إلى هؤلاء الاعلام وبيان أنهم هم من يمثل هذا المشترك بين الفلسفي والديني وثورتهم المضاعفة في نظر ية المعرفة والنظر ونظر ية القيمة وما ترتب عليها من جعل ما بعد التاريخ العلمي والعملي بديلا من المتافيز يقا التي يتصور أصحابها العقل مرآة عاكسة لما يسمونه الواقع والإرادة قدرة خارقة لما يسمونه قيمه .وليس بالصدفة أن كانوا ثلاثتهم من كبار فلاسفة السياسة ببعديها تربية وحكما. ل كن الغاية التي هي جوهر الثمرة التي اعتبر نفسي سعيدا بما حصل لي منها أعني قراءة القرآن ال كريم باعتباره بالأساس استراتيجية سياسية لتوحيد البشر ية بدءا بتكوين النواة الإسلامية أي نواة السلم العالمية وختما بتحديد العلاقة بين: • الديني من حيث هو ديني رمزا للسرمدي • والتاريخي من حيث هو تاريخي رمزا للمتغير كما استخرجتها من سورة هود والمعادلة التي هي عين موضوعات السياسي من حيث هو سياسي. 50
-- وهذه المرحلة تعتبر ذروة لأنها تدحض مبدأين وضعهما ابن خلدون بما يشبه معجزة حققتها العينة التي تمثلها سيرة الرسول الخاتم تحقيقا للفهم الأول للمشروع بوصفه مربيا وحاكما وسار على منوالها من بعده الخلفاء الثلاثة الأول لأن ما تلاهم كان محكوما بظرفية الضرورة التي تبيح المحظور والتي ما زلنا فيها ولم نستطع الخروج منها لأن الضرورة تواصلت ولم نجد لها حلا .والبحث عنه هو العلة الرئيسية لانشغالي بقراءة القرآن. ولا أريد أن أدخل في جدل حول علة ذلك ونسبة الأمر إلى كونها رسالة سماو ية أو استراتيجية أرضية .فحتى من يزعمونها استراتيجية نتجت عن عبقر ية محمد فهم لا ينكرون أنها ليست امرا عاديا وهي على الأقل من مستوى كبار المبدعين في مجالات العلم والعمل الذي حدد توجهات تاريخ البشر ية. وليس من أهدافي بحثي تحقيق ما عجز دونه الكلام :القرآن نفسه استغنى عن اثبات وجود الله والنبوة إذا حصرناها في هذا المعنى واعتبرهما مما لا جدال فيه تاريخيا .وتلك هي علة الشواهد التاريخية فيه لبيان الرسالة الخاتمة ليست بدعا في التراث الإنساني. فما تقدم عليها من الرسالات الإسلام لا ينكرها ولا ينكر عنها كونها رسالات حقا ولا يعتبر من واجب المسلمين اجبارهم على تركها بل إن الرسول في المائدة 51
-- طالبهم بتطبيق شرائعهم واشترط عليهم لما احتكموا إليه أن يقبلوا بأن يطبق عليهم أحكام الرسالة الخاتمة ما داموا قد تخلوا عن الاحتكام إلى شرائعهم طوعا لا كرها .ل كنها لم تكن مثل الإسلام رسالات كونية بل هي من جنس الرسالات الخاصة بأمة دون غيرها ما يعني أن ما تتميز به ليس خاصية عامة ل كون الرسالة رسالة من رب الجميع بل هي رسالة لها خاصية إضافية هي التي تجعلها بهذه الصفات. ولا اريد الكلام على المفاضلة بين الرسالات خاصة والقرآن ال كريم يتكلم على مرحلتين من التذكير الخاص بجماعة بعينها -لكل امة رسول بلسانها -والذكير ال كوني وهو المشروع الذي لا ينطبق إلا على الإسلام. لأن اليهودية دين قبيلة تدعي كونها شعب الله المختار وبقية البشر عبيد لهم. والمسيحية تخلت عن الانحصار في القبيلة من حيث المخاطبين ل كنها بقيت على عقيدة أن الرسل لا يكونوا إلا يهودا. ولهذه العلةكان لا بد من التمييز بين ال كوني في الرسالة من حيث هي استراتيجية دولةكوينة مجردة خالية من القيمين عليها بأعيان محددة استراتيجية تعد القيمين حتى تعمل البنية المجردة أفضل عمل ممكن للإنسان المتحرر من الاخلاد إلى الأرض بشروط سورة العصر المتعلقة بالخروج من الخسر .وذلك هو الشكل 52
-- السرمدي لبنية الدولة الثابتة أي ما به من الوظائف السياسية تكون الدولة دولة تصلح أو تفسد بأخلاق القيمين على التربية والحكم فيها. وقد خصصت لهذه الظاهرة البحث الذي قدمته في المحاولة السابقة على هذه. وهذا الشكل المجرد هو السياسي ال كوني أي ما لا يمكن تصور جماعة بشر ية من دونه مهما تبدت وتطور تعيناته هو تاريخ انتظام الجماعات في مسعاها المشدود إلى هذا الشكل النموذجي في النظر وفي العمل. وهو بالطبع سابق على كل التعينات المتوالية للقوامة التي يقوم بها الأقوام المتداولة عليها بوصفها تنقلها من التجريد إلى التعيين تعيينا يملأ خاناتها الخالية من نظام اختيار القيمين عليها وهو الخاضع للعصبيات التي تمر بعدة مراحل تحكما الانثروبولوجيا البيولوجية والثقافية .وهو البنية الموحدة لمؤسسات المجتمع المدني أي ما يتوسط بين مثاليين أعليين لا يتحققان إلا في الآخرة: الدولة ال كونية التي تبقى مثالا أعلى للدولة ا لدنيو ية وهي لا يكتمل تعيينها الأتم إلا في الآخرة حيث يكون العلم محيطا والعمل تاما. والفرد ال كوني الذي يبقى مثالا أعلى في الفرد الدنيوي وهو لا يكتمل أبدا إلا في الآخرة لما يصبح خالدا لا يتكاثر ولا يموت في الجنة أو في النار. 53
-- أما المبدآن اللذان وضعهما ابن خلدون فهما مستقران من التجربة الحاصلة في الحياة التاريخية دون تحديد العلاقة بالحياة السرمدية التي ليس لنا منها إلا بوصف استعاري يعتمد تلك التجربة .وإذن فهما يقتصران على الدول التي ليس لها استراتيجية تشد حياة الإنسان في عالم الشهادة بحياته في عالم الغيب وتجعل الشكل المثالي لحياة الجماعة هو وحدتها وخلودها والشكل المثالي لحياة الفرد هو الإنسان بعد الحساب والجزاء الخالد في الجنة أو في النار دون تكاثر ولا موت: • المبدأ الأول امتناع تكون دولة في جماعةكثرت فيها العصبيات لأنها تفضي إلى الهرج. • المبدأ الثاني خضوع الدول إلى قانون بايولوجي وهي من ثم مائتةككل كائن حي. فالدولة الإسلامية حققت معجزة التغلب على تعدد العصبيات لأن المشروع كون ما يتعالى على العصبيات بمعناها البايولوجي بتكوين عصبية متعالية على ما القوميات والقبليات ومن ثم فالنقلة تعتمد على مفهوم جديد على العصبية بمعناها الروحي. 54
-- والدولة الإسلامية من ثم تتداول عليها الشعوب المسلمة فتكون الرسالة متعالية على القوميات والعرقيات وعلى المراحل التاريخية القصيرة لتصبح أشبه بالآصرة المتجاوزة للمكان والزمان ومن ثم فهي مشروع الدولة ال كونية المجردة التي تتوسع لتشمل المعمورةكلها. بينهما بالعودة إلى مؤسسي الفلسفة السياسية الأفلاطونية والأرسطية .وأزعم أني قد من حيث التكوين العملي اطلاعا عن قرب على الفوضى والارتجال المسيطرين على اغلب مطابع السياسة في الأحزاب التونسية وصلاتها بالسلطة إما في المعارضة أو في الحكم أو فيهما معا إما بالانتساب أو بالصحبة دون انتساب .لذلك كانت آخرها صريحة عدم الانتساب الحزبي لما شاركت في الانتخابات الأولى بعد الثورة. وقد توصلت إلى نتيجتين تؤيدان تجريبيا ما أثبته في محاولة قراءة القرآن قراءة فلسفية بوصفه استراتيجية كونية تحدد شروط تكون الجماعات السياسية سواء كانت محلية أو عالمية أي سواء في نفس الجماعة أو بين الجماعات الإنسانيةكلها بنفس المنطق الذي يجعل البشر لا يمكن أن يعيشوا في سلام من دونه: الأول هو منطق شروط الاستعمار في الأرض وما يتطلبه من تنافس وتعاون لتقاسم العمل الذي يسد حاجات كيان الإنسان العضوي أي المنزلة الاقتصادية 55
-- وثمرته التبادل في السلم وفي الحرب على حد سواء وشرطه التعاوض الذي ينتج عنه التنازع حول شرطه :ميزان القوى المادية في الجماعات. وتلك هي مسألة العدل الفعلي أو الشكلي .فيكون العلاج إما بمنطق القبول بالأمر الواقع أو بمنطق التبرير بمقتضى العقد الديني أو العقد الفلسفي المؤسس على تراتب الوظائف وسلمها في سد الحاجات العضو ية .وفي الجملة فإن المشكل هو مشكل :منطق التساخر مع التراتب الوظيفي في تقسيم العمل. الثاني هو منطق شروط الاستخلاف في الأرض وما يتطلبه من تنافس وتفاهم لتقاسم العمل الذي يسد حاجات كيان الإنسان الروحي أي المنزلة الاجتماعية وثمرته التواصل في السلم وفي الحرب على حد سواء وشرطه التصادق الذي ينتج عنه التنازع حول شرطه :ميزان القوى الرمزية في الجماعات. 56
-- -الفصل السادس - فإذا جمعنا المعاني التي استخرجناها من مفهوم التساخر أولا (بمعنى أن كل إنسان مسخر في التبادل والتواصل للبقية في الجماعات الجزئية وبمثل نفس القانون في الجماعات في الإنسانية بحسب التجاور المكاني والتوالي الزماني) ومن مفهوم التفاوض الناتج عن التساخر ثانيا إذ إن كون كل الإنسان مسخر لكل البشر في الغاية في التبادل لإنتاج الثورة وفي التواصل لانتاج التراث يجعل المنطق الحاكم للحضارات وعلاقاتها بعضها بالبعض هو منطق التبادل ومنطق التواصل. وكلاهما مقوم لما يمكن أن نسميه العلاقة التجار ية سواء جرت في مناخ التنافس السلمي للتثاري (كل واحد يثري غيره حتى يحصل على الثروة حتى وإن بدا مفقرا له) أو الحربي للتفاقر (كل واحد يفقر غيره حتى يحصل على التراث حتى وإن بدا يغنيه): والغاية هي الوصول إلى فهم الثورة والتراث لا يستقيمان إلا بوصفهما ثمرة التبادل العادل والتواصل الصادق :فيصبح الجمع كما هم حقا اخوة ومتساوين حقا وتل كما هما مبدآ الرسالة الخاتمة التي هي استراتيجية سياسية لتوحيد الإنسانية 57
-- فالإنسانية تشترك في الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف صلاحا وبنفسها طلاحا .تلك هي النتيجة التي توصلنا إليها في الفصول التي تقدمت على الاستطراد ثم من المفهومين الناتجين عن تفاعلهما في الاتجاهين أي: • فعل التساخر في التفاوض المحدد لدور السلطة ومداها • وفعل التفاوض في التساخر المحدد لحدود دور السلطة ومداها وفيهما نكتشف أصلهما هو ما بعدهما المؤسس لهما بوصله بينهما وصلا ناتجا عما بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها من علاقات تراوح بين: • الأمر الواقع • والمثال الأعلى مع ما يترتب عليهما من \" توالج بين شروط الحر ية علل النكوص إلى العبودية نكوصها هو عين الرد إلى الخسر بعد أحسن التقويم الفطري\" في كيان الإنسان. فهذا التوالج بينهما قد يصبح بسبب الاخلاد إلى الأرض علة لجعل الإنسان عبدا لغير الله فلا يتعالى على ضرورات الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف المحررة منها تحريرا يحول دونه وعبادة غير ربه الذي استخلفها فيها. وبتردي التوالج إلى الاخلاد إلى الأرض يمكن أن نفهم العلاقة بين فلسفة الدين التي تحدد غايات الوجود الإنساني للإنسان وفلسفة التاريخ التي تحدد 58
-- شروط ابداع الأدوات التي تحرر من معيقاته تحقيقها .فيكون كل المشكل في انتخاب الأدوات المناسبة للغايات والمتنافية معها وتلك هي مهمة الفلسفة السياسية. فالاستراتيجيات السياسية هي التي تجعل الإنسان مترددا بين تسخير الأدوات للغايات في السياسة الراشدة وتسخير الغايات للأدوات في السياسة الفاسدة إذ إن استراتيجية الفعل السياسي لها حدان لا تخرج عنهما يتقابلان تقابل الصلاح والطلاح الأقصيين ينحرفان عن الحكمة عندما لا تكون اجتهادا دائما يغلب الابتعاد عن الثاني والاقتراب إلى الأول لأن السياسة هي تجنب التحر يفين عن التناسب بين الغايات والأدوات .ونسبة المركز الأوسط بين التحر يفين أشبه بمركز الزاو ية القائمة بين تطرفين هما الزاو ية الحادة والزاو ية المنفرجة ما يجعل المركز هو المحدد لمعيار التطرفين. فيكون مدار ذلك هو عين مشكل الاقتراب الأمثل من اختيار الأدوات بمعيار الغايات أو عكسه لأن الأول يبقي للأخلاق دورا في الاستراتيجية السياسة والثاني يلغيها فيجعلها خبط عشواء أو تكتيك قصير النظر عديم الاستراتيجيا بعيدة النظر. 59
-- ويتجلى ذلك إيجابا بالإثبات وسلبا النفي في مجالي الاستراتيجيات السياسية أعني في قوامة السياسة لوظيفتي تربية الإنسان وحكمه سواء في مستوى: المجتمع المدني بمؤسساته الخمس أي الأسرة والمدرسة والمعبد والمعمل والجماعة باعتبارها هذه المؤسسات الوسيطة هي مؤسسات القاعدية لرعاية الإنسان تكوينا بإعداده ليكون قادرا على تحقيق شروط الاستعمار في الأرض بما تمونه به من قيم الاستخلاف التي تحرره من الاخلاد إلى الأرض. أو المجتمع السياسي بمؤسساته الخمس أي المرجعية والقوى السياسية والدستور التي يرتجم المرجية إلى عقد بين ممثلي القوى السياسية المعبرة عن إرادة الجماعة يحدد نظام قوامة الدولة و يصور نظام الحكم القيم على وظائف الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها أي قوامة وظائف الرعاية التكوينية والتموينية وقوامة وظائف الحماية الداخلية والخارجية شرطين للاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف. ولا يمكن لأي جماعة أن تحقق شروط العيش المشترك السلمي من دون التفاعل في الاتجاهين بين المجتمع المدني الذي هو جوهر الوجود الجمعي والمجتمع السياسي الذي هو جوهر قوامة الجماعة لذاتها بمن تنتخبه للمهمة في تقسم العمل السياسي والتداول عليه تداولا سليما. 60
-- ل كن ذلك محكوم بما ييسر هذا التفاعل في الاتجاهين بين المستو يين من وجود الجماعة من حيث هي رعية راعية لذاتها بالتناوب على القوامة: وذلك لان المجتمع المدني بمؤسساته الخمس هو الذي يكون الإنسان الذي يحقق شروط قيامه العضوي والروحي فيجعله قادرا على تحقيق شروط الرعاية تكوينا وتموينا ليكون المواطنون رعاة أنفسهم فيهما. وعلامة ذلك هو أصل وظائف الرعاية الأربعة المتفرعه عنه :أي القدرة على البحث والاعلام العلميين للتفاعل مع الطبيعة بعلم قوانينها ومع التاريخ بعلم سننه. فلا التربية النظر ية في التربية العملية في التكوين ولا ثمراتهما في التموين بالأمر الذي يمكن أن ينسب إلى الدولة بل هو مهمة الجماعة فرض عين على الجميع رغم كونهما يعتمدان على تقسيم العمل الذي ينتج الثروة ومن التعاون والتبادل العادل والعمل الذي ينتج التراث ومن ثم التفاهم والتواصل الصادق. ولأن المجتمع السياسي بمؤسساته الخمس هو الذي يكون الإنسان الذي يحقق شروط حماية بقائه العضوي والروحي فيجعله قادرا على تحقيق شروط الحماية الداخلية قضاء وأمنا والخارجية دبلوماسية ودفاعا ليكون المواطنون حماة لأنفسهم فيهما. 61
-- وعلامة ذلك هو أصل وظائف الحماية الأربعة المتفرعة عنه :أي القدرة على الاستعلام والاعلام السياسيين لأعداد القوة بكل معانيها ورباط الخيل حتى تحصل مهابتهم بما يرهبون به عدو الله وعدوهم. وهذه هي الحقيقة التي تؤسس ما وصفته بكونه المشترك بين الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات الذي هو مضمون ثورة ابن تيمية في نظر ية المعرفة ومضمون دور ابن خلدون في نظر ية العمل. والتحرير يكون بالتربية من حيث هي تذكير وبالحكم من حيث تحرير من الوسطاء والأوصياء وكل ذلك يستمد مرجعيته من الانثرولوجيا القرآنية أي من نظر ية القرآن في الإنسان والتمييز بين مقومي وجوده العضوي والروحي .فتعر يف الإنسان القرآني تحديد لحقيقته بعلاقة مقوميهكونيتهما: • فهو مستعمر في الأرض • وهو مستخلف فيها وهما مرجعية رؤيته السياسية في عالم الشهادة مجال التاريخية المشدود إلى عالم الغيب مجال ماوراء التاريخية التي هي مصدر النموذج السرمدي .وكان التوالج بين العبودية والحر ية في النموذج الهيجلي والماركسي يستند إلى ما يسمى جدلية العبد والسيد. 62
-- والأساس في هذه الرؤ ية بخلاف ال كثير من الأوهام مرده إلى رؤ ية في نظر ية المعرفة -ابستمولوجية -تقول بالمطابقة والإحاطة أو العلم المطلق حيث يكون العقل واقعا والواقع عقلا وفي نظر ية القيمة -أكسيولوجية تقولان بالمطابقة والإحاطة والعمل التام .فيرد الوجود إلى الإدراك العقلي والمنشود إلى الإرادة النفسية و يصبح الإنسان بديلا من رب الخلق والأمر. ذلك هو الفخ الأول الذي كدت أقع فيه في تكويني الفلسفي إذ كنت ميالا لفكر هيجل .ل كن كما بينت في الفصلين السابقين شرعت في إعادة النظر في تاريخ الفكر بتدارك ما وقع اهماله فيه سواء في علاقتنا بالمرحلة القديمة والوسيطة أو بالمرحلة الحديثة وما بعدها وسواء عندنا أو عند الغرب. وهذا الشروع مكنني من إدراك العلاقة بين حصر الوجود في عالم الشهادة- بلغة هيجل لا وجود لما هناك وراء الماهنا-و يترتب عليه ترجمة فلسفية لألوهية المسيح رمزا لألوهية الإنسان الذي يصبح ربا خالقا وآمرا .وتلك هي بداية الخروج من الفخ الفلسفي الذي كان مسيحية صريحة عند هيجل مع عنصر ية إزاء الإنسان الشرقي عامة والمسلم خاصة ترد إلى عقيدة شعب الله المختار حتى وإن كان الاختيار كما ذكر ذلك في مقدمة فلسفة التاريخ ليس في الوحي كالذي ينسبه إلى اليهودية بل في الفلسفة التي ينسبها إلى الألمان . 63
-- وبهذا المعنى فإني اريد أن ابين أن ما أثبته القرآن بالنسبة إلى الوحي يمكن اثباته بالنسبة إلى الفلسفة .و يكفي أن أبين العلم الرئيس ليس نل بعد الطبيعة بل هو ما بعد التاريخ أعني جوهر الثورة التي انسبها إلى ابن خلدون .ولما كان رمز التاريخ هو الإنسان فإن رمز ما بعد التاريخ هو عند جميع البشر هو ما يعتبر ر با فيكون ما بعد التاريخ موضوعه العلاقة بين الرب والمربوب في جميع الحضارات سواء كانت هذه العلاقة مضمون المثيولوجيا أو موضوع الأديان بصنفيها الطبيعي والمنزل. فيكون المشترك بين الفلسفي والديني هو حل معضلة الجمع بين الضرورة التي تبدو عليها الطبيعة والحر ية التي يبدو عليها الإنسان وهو ما يؤدي إلى أن المعضلة تعود إلى محاولة الفلسفة والدين الجواب عن سؤال كيف يمكن أن نؤسس الحر ية الإنسانية في أطار الضرورة الطبيعية؟ والجواب هو وضع مبدأ وراء التاريخ الإنساني والطبيعة يكون هو بدوره حرا في التشر يع للطبيعة وللتاريخ سواء كان هذا المبدأ محايثا في الطبيعة ومقيسا على الإنسان وتلك هي الميثولوجيات أو مفارقا لها وتلك هي الأديان الطبيعية أو المنزلة. 64
-- ل كن الدين الخاتم يجمع بين خاصية الأديان الطبيعية والأديان المنزلة ومن ثم فهو الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات لأن الإسلام يعتبر الديني ومثل الفلسفي كلاهما فطري لا يخلو منه إنسان من حيث هو إنسان. وكل خلو منه علته النكوص إلى الخسر بعد التقويم الأحسن .ومن هنا تأتي عقيدة الاستخلاف لأن كل قصة الاستخلاف يعللها الرب في حواره مع الملائكة بأمرين: أحدهما موجب هو تعليمه الأسماء الذي يميزه وقدرته على التصرف بوصفه خليفة يؤمن بأنه حر في اتباع قيم مرسومة في كيانه يمكن أن يذكرها أو أن ينساها وذكرها هو الذي يبين جدارته بالاستخلاف. وسلبي هو قدرته هو تمكينه من علامة دالة على أن تصرفه في الحالة الأولى حر وليس مضطرا لأن له القدرة عصيان الأمر فينكص إلى الخسر مدعيا أنه رب لكأنه واضع قوانين الطبيعة وسنن التاريخ. ولما كان الاستخلاف هو منزلة الإنسان من حيث هو انسان -سواء اثبت الإنسان جدارته بها أو لم يثبت-فكل البشر سواسية من حيث المبدأ ولا يوجد بينهم من يعتبر شعبا مختارا والبقية عبيد له .فكل أمة لها رسول بلسانها يذكر 65
-- الناسين والرسالة الأولى هي عين الرسالة الأخيرة وتلك الرسالة التي تلقاها آدم ومحمد. وهي رسالةكونية في الحالتين أي إنها التذكير الأول كان كونيا وجزئيا لأن القصعة تعني أنها رسالة وجهت بداية لآدم وحواء بعد تمكنهما من معرفة الصفتين اللتين تجعلانهما بالقوة قادرين على اثبات الجدارة وعدم اثباتها ووجهت في الأخير إلى كل أبنائهما أي كل البشر ية. وذلك هو مضمون القرآن .فخطاب الرسالة ال كونية بالمعنيين بداية وغاية وذلك هو مضمون القرآن ال كريم .فيكون القرآن الرسالة الفاتحة والرسالة الخاتمة. ذلك أن خرافة الشعب الذي يظن نفسه شعب الله المختار في الفلسفة مثل الشعب الذي يظن نفسه شعب الله المختار في الوحي كلاهما كذبة لا يصدقها تاريخ الفكر الفلسفي لأن اليونان سبقوا الجرمان ولا علاقة لهؤلاء بأولئك ولا تاريخ الفكر الديني لأن الابراهيمية سبقت اليهودية ولا علاقة لليهود به فهو حنيفي وليس يهوديا ولا نصرانيا. ثم إنه حتى لو صدقنا كذبة نسبة الفلسفة القديمة إلى اليوناني وحصرناها في شكلها اليوناني طلبا للحكمة النظر ية والعملية فاعتبارها معجزة لنفي ما سبقها أمر 66
-- لم يعد يصدقه عاقل بعد ما حصل من تقدم في البحث التاريخي والاحاثي للحضارات القديمة وخاصة حضارتي بابل ومصر يثبت وهاءه. وحتى لو صدقنا كذبة نسبة الفلسفة الحديثة وحصرناها في شكلها الأوروبي طلبا للحكمة للسلطة النظر ية والعملية إلى الأوروبيين واعتبارها معجزة لنفي ما توسط بينها وبين اليونان فإن التقدم في البحث التاريخي والاحاثي للحضارات الوسيطة وخاصة الحضارة الإسلامية والشرقية يثبت وهاءها. ويمكن أن يحصل نفس الشيء لو قمنا بنفس الدراسات في تاريخ الأديان المنزلة مثل التي قمنا بها في تاريخ العلوم المنسوبة إلى الفلسفة فيتبين أن الأمر كله مرده إلى نفس ال كذبتين .ومعنى ذلك أن كذبة هيجل بخصوص الشعب الفلسفي بالطبع هي عين ال كذبة التي بخصوص الشعب الديني بالطبع لأن كلتا الصفتين هما انسانيتان بالطبع كما يقول القرآن. وليس قصدي بيان هذين الفهمين المنافيين للتاريخ الفعلي للفلسفي وللديني رد الفعل على خرافتي هيجل بل هدفي تصحيح تاريخ الفكرين اللذين لا يمكن أن يكون الكلام فيهما علميا 67
-- ثم يدعي الاستناد إلى معجزتي شعبين ليس لدورهما في التاريخ تميز إلا عند من يقبل بال كذبتين و يفسر التاريخ بالمعجزات وليس بالتعاون المتواصل في تاريخ البشر ية لبناء مقومات الحضارة العلمية والعملية. ولا يمكن لمسلم قرأ القرآن وتمعن في أسلوب الاستدلال فيه لا يصل إلى هذه النتيجة إذا فهم دلالته وغاص إلى بنيته العميقة .فلا يمكن أن يكون القرآن استراتيجية توحيد الإنسانية وللرسول أن يقدم منها عينة تجربة أولى تحدد التوجه حتى وإن لم تستكمل المسعى وقد لا يكتمل إلا في غاية التاريخ و يقبل الخرافتين اللتين تفسران تاريخ الفكرين بالاستناد إلى المعجزات. فالقرآن لا يستند إلى المعجزات التي تخرق النظام بل هو يعتمد النظام بوصفه المعجزة الوحيدة التي ليس لها تفسير على التسليم بوجود الرب الذي هندس الوجود ومثل له بالعالم الطبيعي والعالم التاريخي اللذين يمثلان أفق الإنسان ثم في الإنسان بوصفه حصيلة التفاعل بينهما وذلك هو التاريخ الذي يجري بمقتضى الاستخلاف الناظم للاستعمار في الأرض. لذلك فلا يمكن الا يكون القرآن ممثلا للديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات .وسياتي بيان أن الأديان والفلسفات هي بدورها خاضعة للمعادلة 68
-- الوجودية لأنها ليست شيئا آخر غير ما يدركه منها الإنسان الذي هو من حيث تعين آيات الله في كيانه العضوي والروحي مؤلف من قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وذلك هو مدلول الآيات التي تتجلى في الانفس كما تتجلى في الآفاق :فتجليها في الانفس ليس كيانيا فحسب بل هو معرفي. ولذلك فما يمكن أن يعتبر واصلا بين الإنسان ومقومات المعادلة الوجودية هو ما يصل ما في الآفاق بما في الأنفس من الآيات جمعها وتراتبها يمثل العناصر المقومة للمعادلة الوجودية إذا جمعنا إرادة الآيات للإنسان بالعلاقة بين الرب المرسل والإنسان المرسل إليه. وذلك هو ما يصلهما بحيث إن رؤ ية الوصل هو ما جهز به الإنسان من قدرة على العلم في النظر وعلى قدرة على التقييم في العمل. 69
–– – الفصل السابع – لم يكن قصدي من بيان الفهمين المنافيين للتاريخ الفعلي للفلسفي وللديني رد الفعل على خرافتي هيجل -حول الشعبين المختارين اليهودي للديني والألماني للفلسفي -بل هدفي تصحيح تاريخ الفكرين الفكرين اللذين لا يمكن أن يكون الكلام فيهما علميا ثم يدعي الاستناد إلى معجزتي شعبين ليس لدورهما في التاريخ تميز إلا عند من يقبل بال كذبتين -كذبة المعجزة اليونانية النافية لما تقدم عليها وكذبة المعجزة الأوروبية النافية لما تقدم عليها -وفي الحالتين نفي دور الشرق في الابداع الحضاري بكل اصنافه. فتفسير التاريخ بالمعجزات من السخافات التي نتجت عن رؤ ية عنصر ية لا تؤمن بوحدة الإنسانية فتختلق هذه الخرافات بديلا من بالتعاون بين الحضارات المتوالية والمتساوقة في تركيم التجارب المحددة لشروط قيامها المادي المتواصل ولشروط قيامها الروحي في تاريخ البشر ية لبناء مقومات الحضارة العلمية والعملية. ولا يمكن لمسلم قرأ القرآن وتمعن في أسلوب الاستدلال فيه ألا يصل إلى هذه النتيجة إذا فهم دلالته وغاص إلى بنيته العميقة التي تبين أن قراءاته السابقة لم تطلب نظامه وشروط فهمه الذي يحرره من التحر يف الذي حصل في الأديان التي عرضها عرضا تفكيكيا بمنطق التصديق والهيمنة. 70
–– فلا يمكن أن يكون القرآن استراتيجية توحيد الإنسانية وللرسول أن يقدم منها عينة تجربة أولى تحدد التوجه حتى وإن لم تستكمل المسعى وقد لا يكتمل إلا في غاية التاريخ و يقبل الخرافتين اللتين تفسران تاريخ الفكرين بالاستناد إلى المعجزات. فالقرآن لا يستند إلى المعجزات التي تخرق النظام بل هو يعتمد النظام بوصفه المعجزة الوحيدة التي ليس لها تفسير على التسليم بوجود الرب الذي هندس الوجود ومثل له بالعالم الطبيعي والعالم التاريخي اللذين يمثلان أفق الإنسان ثم في الإنسان بوصفه حصيلة التفاعل بينهما. وذلك هو التاريخ الذي يجري بمقتضى الاستخلاف الناظم للاستعمار في الأرض. لذلك فلا يمكن ألا يكون القرآن ممثلا للديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات. وسياتي بيان أن الأديان والفلسفات هي بدورها خاضعة للمعادلة الوجودية لأنها ليست شيئا آخر غير ما يدركه منها الإنسان الذي هو من حيث تعين آيات الله في كيانه العضوي والروحي المؤلف من قوانين الطبيعة وسنن التاريخ. وذلك هو مدلول الآيات التي تتجلى في الانفس كما تتجلى في الآفاق: فتجليها في الأنفس ليس كيانيا فحسب بل هو معرفي. ولذلك فما يمكن أن يعتبر واصلا بين الإنسان ومقومات المعادلة الوجودية هو ما يصل ما في الآفاق بما في الأنفس من الآيات جمعها وتراتبها يمثل العناصر المقومة للمعادلة الوجودية إذا جمعنا إراءة الآيات للإنسان بالعلاقة بين الرب المرسل والإنسان المرسل إليه. 71
–– وذلك هو ما يصلهما بحيث إن رؤ ية الوصل هو ما جهز به الإنسان من قدرة على العلم في النظر وعلى قدرة على التقييم في العمل. ولما كان المجتمع المدني والمجتمع السياسي متفاعلين في الاتجاهين فإن الحصيلة في السياسة الفعلية هي التردد الدائم بين الفساد والصلاح في كل المهام والوظائف التي ذكرتها في المجالين بمعنى أن المؤسسات المدنية والمؤسسات السياسة معرضة لهما تعرضا يمكن أن يكون بالتفاسد والتصالح بينهما. ويتجلى ذلك في علاقة التساخر والتفاوض الدائمين ومن هنا الفرق بين رؤيتي الإنسان المتقابلتين اللتين اريد الآن أن أدرسهما بالمقابلة بين رؤ ية هيجل ورؤ ية ابن خلدون رؤ ية هيجل وماركس محاكيا له مستبدلا التراتب الروحي بالتراتب المادي. جدلية السيادة والعبودية في التاريخ متناقضة لأنها لا يمكن أن تكون قانون التاريخ الإنساني وغاية للتحرير منه إلا إذا تصورنا للتاريخ غاية ونهاية وقلنا بالعلم المحيط والعمل التام. فإذا كان التاريخ محكوما بصراع بين القوى والاستسلام لحصيلته فإن قلب العلاقة قلبا يجعل المستسلم سيدا والمسيطر عبدا لا يمكن ان يغير العلاقة إلى التعارف والاعتراف المتبادل إلا بمعنى مواصلة الجدلية مع تبادل الأدوار. 72
–– ولن يحصل تعارف ولا اعتراف متبادل إلا بقبول دوام الحالتين لأنهما متساويتان وجوديا ولأنه لا شيء يثبت الإحاطة في العلم والتمام في العمل. رؤ ية ابن خلدون ومحاكاتي له في ارجاعها إلى وحدة الإنسانية في القرآن. يقتضي استخلاف الإنسان في الرؤ ية القرآنية تبعية الطبيعي العضوي لما بعده الروحي ومن هنا تعر يف ابن خلدون للإنسان بكونه \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" (المقدمة الباب الثالث الفصل الرابع والعشرون) فتكون وحدة الرئاسة طبيعية الوجود ل كنها معللة بما يستثينها من قانون الضرورة الطبيعية وذلك هو مفهوم الاستخلاف المسؤول أساسا لحر ية الإنسان وتكريمه القرآنيين. ومن ثم فالمشكل ليس علاقة قوة بين عبودية وسيادة بل بين علاقة قيمة بين حريتين تسعيان معا للتحرر من الضرورة الطبيعية لتجاوز قانون القوة بقوة القانون المترجم عن علاقة خلقية هي احترام المنازل التي تفعل وملكات العمل في علاقة المعلم بالمتعلم في المسعى الاجتهادي في المعرفة والجهادي في العمل. فلا يوجد تفاضل إلا بالتقوى التي هي ولاء للمرجعية المشتركة وعدل في التبادل وصدق في التواصل فيكون البشر متساو يين وجوديا لا يتفاضلون إلا بهذا المعيار الذي يجعلهم بحر ية يختارون مرجعية تعاقدية بين الاحرار يكون فيها الوازع الذاتي (الضمير) مقدما على الوازع الأجنبي (شوكة الدولة) بلغة ابن خلدون. ولهذه العلة يميز ابن خلدون بين السيادة والرئاسة. • فالأولى متضايفة مع العبودية. 73
–– • والثانية متضايفة مع الحر ية. كيف ذلك؟ فالرئاسة تعني أن المرؤوس دون ارغام يعتبر من يستحق الرئاسة رئيسا أي إن الأمر لا يتعلق بخضوع وتبعية بل بحكم خلقي :كما في علاقة الابن بأبيه أو المتعلم بمعلمه. لذلك • فالأب الذي يعنف ابنه يصبح سيدا ومكروها ولا يبقى رئيسا. • والمعلم الذي يعنف تلميذه يصبح سيدا ومكروها ولا يبقى رئيسا. علاقة من يقبل أن يكون مرؤوسا ممن يختاره رئيسا علاقة خلقية بخلاف علاقة العبد بالسيد التي هي علاقة مغلوب بغالب. • الأولى تسابق في الخيرات • والثانية تنافس عنيف على السيطرة والاستبداد. وتلك هي علة اعتبار ابن خلدون التربية العنيفة والحكم العنيف هما علتا الاستبداد والعبودية. لذلك فالرئاسة بالطبع تختلف عن السيادة وهي مثل مقتضيها ليست ثمرة العنف والقوة بل هي ثمرة قيم الاستخلاف أي العرفان لذي الفضل بفضله سواء كان أبا أو معلما أو حاكما أو أي شخص يعتبره المرؤوس دون اكراه جديرا بأن يكون رئيسا لما له من فضائل خلقية تجعله نموذجا يحاكيه. 74
–– وتلك هي العلة التي جعل القرآن بمقتضاها التعدد شرطا في التعارف معرفة ومعروفا وليس على التفاضل بل التفاضل مؤسس على التقوى التي هي دليل المنزلة عند الله. تلك هي المعضلة التي مثلت الفخين اللذين أمكن لي تجاوزهما وتلك هي علة قصي في الاستطراد للتجربة التي اثمرها سيرتي الأكاديمية بإعادة النظر في تاريخ الفلسفة وسيرتي التفسير ية بإعادة النظر في تاريخ الدين. وتجاوزت الفخين عندما تحررت من رؤ ية هذه الإشكالية في صورتها الفلسفية وفي صورتها الدينية صورتيهما اللتين سيطرتا على فكرنا الفلسفي والديني في حقبتيه الوسيطة والحالية بالتناظر مع الفكر الغربي. فطبيعة هذه العلاقة بين الحر ية والعبودية في الفلسفة القديمة قبل المدرسة النقدية العربية وفي نكوص الفلسفة الحديثة بعد المدرسة النقدية الغربية هي التي تعلل وجود الفخين وتعلل السبيل إلى تجاوزهما. وبذلك تبين أن علاقة هذين الظاهرتين محددة لطبيعة العلة التي تفسرهما. فكان يكفي أن اقارن دورها في فلسفة افلاطون وأرسطو قديما وفي فلسفة هيجل وماركس حديثا 75
–– بالمقارنة مع دور البديل منهما في الفلسفة النقدية العربية وفي الفلسفة النقدية الغربية حتى نكتشف علاقتها بنظر ية المعرفة في النظر وبنظر ية القيمة في العمل فننتقل من المواقف إلى ما يؤسسها في نظر ية المعرفة -الإبستمولوجيا- وفي نظر ية القيمة -الأكسيولوجيا. ففي الرؤ ية النقدية العربية لم تكن العلاقة بين السيادة والعبودية بل بين الرئاسة والمرؤوسية الحرتين كلتيهما هي علاقة بين حريتين وليس علاقة بين حر ية وعبودية. فابن خلدون لا يعتبر الأمر متعلقا بالجدل \"سيد-عبد\" بل بالعلاقة \"رئيس بالطبع\" و\"رئيس بمقتضى الاستخلاف\" وهي علاقة بين منزلتين من الحر ية وليس علاقة بين حر ية وعبودية. وهي تصبح علاقة بين حر ية وعبودية بسبب نسيان السيد والعبد ما يقتضي العلاقة بين المنزلتين الحرتين وهو مطلوب التذكير بأمر منسي أعني وحدة منزلة الاستخلاف في مستواها الطبيعي والديني. فما يقتضيها هو ما يؤسس للمبدأين القرآنيين مبدأ الأخوة البشر ية والمساواة بين البشر. 76
–– ولو قلنا بالعلاقة الجدلية بين السيادة والعبودية لاستحال تصور النتيجة التي يصل إليها هيجل وماركس أي الاعتراف المتبادل بين السيد والعبد. توقف الصراع بين السيد والعبد مستحيل لأن فيه نفيا لمحرك التاريخ في هذا المنطق. أما في المنظور الذي لا يجعل الامر صراعا بين سيادة وعبودية بل علاقة بين رئاسة مستحقة وسيادة مفروضة يرهن وجودها نفسه بنسيان شروط الرئاسة المستحقة عند الرئيس والمرؤوس وهو نسيان ما يقتضي الرئاسة المستحقة عند المرؤوس الطوعي. وهذه الرئاسة المستحقة لدى المرؤوس الطوعي علاقة بين حريتين وهي شرط التساخر الحر أساس كل تعاون في التبادل بالتعاوض العادل وكل تفاهم في التواصل الصادق لأن الإنسان من حيث هو إنسان له منزلة الرئاسة بالطبع وهي منزلة يقتضيها كونه ليس مستعمرا في الأرض فحسب بل هو كذلك مستخلف فيها .ومن ثمراتها أن الرئاسة الإنسانية ال كونية تكون مؤسسة • على الأخوة (الآية الأولى من النساء) • وعلى المساواة (الآية الثالثة عشر من الحجرات) وهما المبدآن المخلصان من عبودية الإنسان للإنسان والمعوضان لها بعباديةكل المخلوقات للرب الواحد. فيكون المشكل كله في كيفية تحرير التاريخ من العبودية بالعبادية لما بعد التاريخ. فيكون ما وراء التاريخ هو المتعاليات التي يؤسسها فضل الرب في • منزلة الإنسان الطبيعية من حيث مستعمر في الأرض 77
–– • ومنزلته ما بعد الطبيعية من حيث هو مستخلف فيها. فيكون قانون العلاقات بين البشر في جعل هدفها إعادة الأمر الواقع إلى الأمر الواجب لتحريره من نكوص الخسر بما حددته سورة العصر .وبذلك فالتاريخ الإنسان لا يكون بطبعه خاضعا لقوانين الطبيعة بل هو يخضع لها إذا نسي الإنسان منزلته الوجودية من حيث هو مستخلف في الأرض وليس مستعمرا فيها فحسب. 78
–– – الفصل الثامن – منذ أن من الله علي بفهم هذه العلاقات التي عرضتها في الفصول السابقة من هذه المحاولة صرت واثقا من أن الفلسفة الغربية بقيت علم كلام يهودي مسيحي متنكرا. ولعل أكثر من يجمعون على كونه مؤسسا للعقلانية الحديثة -أي ديكارت -من أبرز الأدلة على ذلك إذ خلصنا فكره من اسقاط اليعقوبية عليه .فهو استبدل ميتافيز يقا أرسطو الطبعانية نموذجا لما في العالم من حيو ية نظاما فلسفيا أساسه الميثولوجيا الفل كية المحاكية لقانون \"النوس\"بميتاأخلاق كلاميةكاثوليكية أساسها ضمانة إيمانية جعلته يعتبر اثبات وجود الله أيسر عليه من اثبات وجود العالم الطبيعي بحيث إن تأملاته ليست إلا محاولة في الاستدلال على وجود الرب. وبذلك فالفلسفة الغربية ليست محاولة في فهم التاريخ الإنساني عامة بل هي تهويده وتمسيحه الروحي كلاميا و\"أوننته\" العقلي قيسا للديني على الميثولوجي. إنها ميثولوجيا الاوربة الفلسفية بالاستئثار بكل تاريخ الإنسانية وزعمه معجزة اوروبية محوا لكل ما تقدم عليها وسيطا بينها وبين المعجزة المزعومة يونانية التي وصفوها بالمعجزة لمحو ما تقدم عليها. 79
–– تل كما هما ال كذبتان اللتان تستند إليهما ما يزعم حضارة غربية .إنها ثمرةكذبتين في تاريخ الفكر الإنساني الفلسفي العلمي الطبيعي وحتى في تاريخ الفكر الإنساني الديني الروحي. فاليهودية والمسيحية تأوربتا بفضل تنصير اهماج الجرمان تأوربتا ل كنه يعسر التشكيك في كونهما شرقيتين وذلك حتى لو غضضنا الطرف عما حصل فيهما مما استعاراته قبل النهضة الأوروبية من الإسلام وخاصة بتأثير • من الفتح الاول في غرب أوروبا (الاندلس) • ومن الفتح الثاني في شرقها (من البلقان). فحركة الإصلاح والمدرسة الكلامية التي يتبعها ديكارت وباسكال علم الكلام مصدره الاندلس ولو بعد الاسترداد. وما حصل في تاريخ الفلسفة هو عين ما حصل في تاريخ الدين بعد أوربتهما على اساس ال كذبتين النافيتين لما يعتبر لا شيء مما ليس يونانيا وليس أوروبيا في حين أن اليونان تلميذ الشرق القديم وأوروبا بنت الشرق الوسيط. وليست معنيا بما تأسس على ال كذبتين سواء فلسفيا أو دينيا. 80
–– فذلك من حقهم بمقتضى رؤ ية الإسلام التي تعتبر الخلاف بين الحضارات فلسفيها ودينيها من آيات الله ومن شروط التسابق في الخيرات لأن الخلاف في المعتقدات مرجأ إلى يوم الدين. ذلك أن وهم الحسم العنيف في عالم الشهادة ينتج عن توهم العلم المحيط والعمل التام. والمعلوم أن علم الكلام والفلسفة لم يتحررا من القول بالعلم المحيط والعمل التام حتى إن كنط لما حاول تخليصهما من القولين اعتبره هيجل أقرب إلى الإسلام منه إلى المسيحية والفلسفة ذلك أن المسيحية تعتبر عنده الدين المطلق (دروس فلسفة الدين) والفلسفة تعتبر عنده العلم المطلق (فينومينولوجيا الروح) المطلقين. فقد ظن العلم بالعالم الشاهد يقينيا وتلك أصل ال كذبتين بل هي أكبر كذبة فلسفية. فالعلم بالعالم الشاهد يتأسس هو بدروه على خمس معتقدات غفلة لا دليل عليها إلا توهم الإدراك الحسي دليلا كافيا على الأقل من خمسة أوجه. .1فلا بد أن أسلم 81
–– بأنه يوجد خارج وعيي شيء غير الصورة التي في وعيي شرط الخروج من الانطواء على الذات. .2ولا بد من أن أسلم أن هذا الشيء له نظام وقوانين قابلة للعلم المستقر وإلا فلن اميز بين الأحلام والوقائع. .3ولا بد أن أسلم باني موجود ولي وعي يتجاوز ذاتي إلى غيرها من الموجودات ومن المسألتين الأوليين وهو ما ينتج أني أنا أيضا ذو وجود خارج وعيي بذاتي. .4ولا بد أن أسلم بأن لي هذه القدرة على الخروج من ذاتي لعلمها أولا ولعلم ما حولها ثانيا وشرط ذلك التمييز بين ذاتي وغير ذاتي سواء كان ذواتا أخرى أو أشياء غير ذاتية. .5وأخيرا لا بد أن أسلم أن ذلك ليس لي وحدي بل هو عين ما اشترك فيه مع غيري 82
–– وبذلك لا يمكن ألا اعتقد أني لست الذات الوحيدة وهو منطلق التواصل الذي يمكن من امتحان ما في وعيي بما في وعي غيري. وبذلك فحتى دليل ال كوجيتو بخلاف ما يتوهم ديكارت ليس غنيا عما سماه ضمانة إلهية للخروج منه إلى اثبات حقيقة العالم الخارجي بمعيار المساواة في البينونة مع ال كوجيتو. ذلك أنه ليس معرفة حدسية أولية وليس معرفة استدلالية برهانية .ولا وجود لغيرهما .ومن ثم فهي وهم نفسي وليست حقيقة عقلية ضميرها أن الشيطان أو الجني الشرير لا يستطيع تشكيكي إذا لم أكن موجودا .وهذا مصادرة على المطلوب لأنه يعني أن الوعي بالانفعال دليل وجود ومنه استنتاج الوعي بالفعل دليل وجود .وهذا لا يكفي للانتقال من الشك إلى اليقين وهو من ثم يؤدي إلى الاعتقاد بأن الوعي بالذات انفعالا وفعلا دليل وجودها عقيدة وليس حقيقة علمية. كل هذه المسلمات عقدية وليست علمية إذ العلم يقتضي وسائط منطقية تصل بين المقدمات والنتائج وهو معنى ديانويتيك بخلاف هذه \"المعرفة\" المباشرة أي النويتيك التي تكتفي بالحدس المباشر لما يظهر للمدارك الحسية دون وسائط تتجاوز العادة والعفو ية الغافلة. 83
–– وهي إذن في آن شرط اعترافي بأن غيري يقاسمني في ما أدركه هذا الادراك الغفل الذي ننطلق منه للتواصل الذي يمثل بداية التفاحص المتبادل لما في الأديان بالعرض على ما في الأعيان جعلا للحواس شاهدة للحسم بين المتحاورين فتتأسس يؤسس الحاجة إلى الاستدلال للترجيح الأغلبي اعتمادا على الشهادات الحسية: وتلك هي التجربة تجربة عادات الأشياء. وبذلك يمكن كل من المتحاورين أن يراجع غيره انطلاقا من زاده المعرفي وتجربته فتتراكم التجارب التي تحتاج إلى الفحص المتبادل وذلك هو ما نسميه علما بشهادة كل منها لمدارك الثاني تسليما بأمانة نقل المدارك التي في وعيين مختلفين. وما كنت لأخرج من هذين الفخين الفلسفي والديني لو لم أتمكن من تصحيح رؤيتي للقرآن في طفولتي الروحية ورؤيتي للفلسفة في شبابي الفلسفي .ومنذئذ صارت رؤيتي تنبني على استحالة الرضا بوهم اليقين من الوجود الشاهد من دون اليقين من وجود الغيب لأنه هذا هو شرط ذاك والرمز هو أن المجهول في فحص التجارب أكثر من المعلوم كثرة هي في نسبة اللامتناهي المجهول إلى المتناهي المعلوم .وكلاهما منطلقه معرفيا 84
–– هذه المسلمات التي يغفل عنها أو ينساها ومنها ينطلق القرآن بوصفها مسلمات عقدية غنية عن الدليل وليست علما يكتسب بل عين الوعي بالمعادلة الوجودية المنسي .لذلك فالقرآن تذكير بمعرفة هي عقيدة فطر ية وهو معنى الوعي بالمعادلة الوجودية وليست علما ولا عملا بل هي شرط العلم والعمل. وأحمد الله أني أشعر بأني تحررت من فخ رؤيتي للقرآن لما شرعت خلال مقامي في كوالالمبور في البحث عن بنيته العميقة. فعطل الفخ الديني تضاعف قبل دراسة القرآن دراسة نسقية لأنه لم يبق مقصورا على الفوضى التي كنت أجدها في القرآن لما حفظت نصيبا منه في الطفولة بل ازداد بعد أن حيرني حضور الدينين اللذين يبدوان مهيمنين بحضورهما في القرآن رغم موقفه النقدي منهما بمنهج التصديق والهيمنة .وتحرري من فخ رؤيتي للفلسفة سابق عن تحرري من فخ رؤيتي للإسلام لأن نفس العائقين في الفلسفة مثلا نفس العائقين في الدين. ففي جيلي كانت الجامعة مليئة بالدجل وخاصة في قسم العربية الذي كان جل اساتذته مستلبين فرحين بتبريز باريسية أشرف عليهم فيها أضعف مستشرقي أوروبا أي المستشرقين الفرنسيين. 85
–– فكانوا يعانون من عقد نقص إزاء حضارة غربية يجهلونها انطلاقا من حضارة هم أجهل بها منهم بالغربية .ولسوء الحظ فهذه النزعة تضاعفت لما صار المختصون فيها يدعون علم الحضارة ونقد الأديان نقدا لا يعدو تشو يه الإسلام. وازداد الطين بلة لما تفلسف الأقعار الذين حفظوا متونا ظنوها قرآنا وهي ثمرة ما اصاب الفكر الغربي من فاشيات تولدت عن اليعقوبية والنكوصين الهيجلي والماركسي وما تلاهما من أدلجة جعلت الإخلاد إلى الارض أسمى الخيارات الخلقية للجوعى النهمين. لما شرعت في كتابة رسالتي حول منزلة الكلي في الفلسفة قبل ذلك بما يقرب من ثلاثة عقود .فما كان يحيرني في كلام القرآن على الأديان التي يذكرها و يكاد كلامه عليها يغلب على الأقل كميا على كلامه عن ذاته دون المقابلة بين ما تعتمد عليه من استدلال بالمعجزات الخارقة لنظام الطبيعة والتاريخ وما يعتمد عليه هو من النظام الطبيعي والتاريخي. وكان الخروج من المأزق الفلسفي أيسر لأنه لم يكن يقتضي مواقف قد تعتبر بمنظور ديني تكذيبا للأنبياء المحتجين بالمعجزات الخارقة للعادة رغم أن القرآن 86
–– لا يلجأ إليها وإدا فلبيان عدم جدواها في التبليغ بدليل ما تلاها من تحر يف لعل الاطالة في تفكيك اليهودية والمسيحية علته بيان على الاستغناء عنها. وكان من اليسير الخروج اخطبوط الفلسفة الهيجلية الذي غرقت فيه إلى نهاية دراستي الجامعية في دار المعلمين العليا هروبا من أفيون النخب حينها أي الماركسية قبل مراجعة تاريخ الفلسفة في مراحله الأربعة العربية وقبلها اليونانية واللاتينية وبعدها الحديثة تسليما مؤقتا بان الأولى ليس لها ما قبلها وبان الأخيرة ليس لها ما بعدها. وذلك بالعودة إلى مبدأ تجاوزها كلها بشرط التحرر منها وهو المرحلة الخامسة المنسية بشكلها والتي لم نسيت حتى بشكلها الغربي في السطحي من فكرنا الفلسفي والجمع بين ما قبل الأولى وما بعد الأخيرة واحد وهو التحرر من ال كذبتين: • فلا العلم بدأ مع اليونان • ولا استأنف مع الأوروبيين بل هو بدأ قبل اليونان دون نفي أهمية المرحلة اليونانية ولم يستأنف مع الأوروبيين رغم أهمية المرحلة الأوروبية الحديثة: فالمرحلة اليونانية تعتبر تحولا نوعيا لا شك في ذلك ل كن التحول النوعي من شروطه وجود ما يحوله من أسلوب سابق إلى أسلوب لاحق حتى قطيعته معه 87
–– يمكن اعتبارها مرسومة فيه لأن التجاوز هو دائما إما إصلاح ما سبقه من أخطاء او سد ما وجد من ثغرات. وهذه العلاقة التجاوز ية حصلت بين اليونان والأوروبيين وتلك هي علة تكذيبي لنسبة الاستئناف للغرب لأن ما بين عودة أوروبا للمعرفة مرت بمرحلتين بعد انحطاط تجاوز في التدني ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية هزيمتها أماما النهضة الغر بية. والنهضة الغربية أحدثت تحولا كميا في التحول ال كيفي الذي تحقق في الحقبة الإسلامية لأن هذه الحقبة جمعت بين التحول ال كيفي اليوناني وشروط تجاوزه بما فيها مما أهمله اليونان من أخطاء وثغرات وبما ابعده الإسلام وحضارته من حلول تمثل منطلق ما يمكن ان يحرر البشر ية مما تردت إليه الحضارة الغربية. فالعلم الغربي الحديث صار بسبب النهم الاستعماري غير قادر على تجاوز دور أداة التهديم المطلق والترميم الأعرج سفكا للدماء وافسادا في الأرض والسماء وليس كما ينبغي أن يكون لتحقيق شروط الاستخلاف بحماية البشر ية والمعمورة من التوليثين المادي للطبيعة والروحي للإنسان. لما شرعت في كتابة الرسالة اطلعت على سر مما حصل للفلسفة العربية الوسيطة من وقوع في فخ افلاطون وارسطو من حيث الرؤ ية الإبستمولوجية القائلة 88
–– بالمطابقة والإحاطة والرؤ ية الأكسيولوجية القائلة بالمطابقة والتمام .واكتشف أن الوحيدين الذين تحرروا من هذا الفخ: • فهم أولا أبطال المدرسة النقدية العربية التي بدأت مع الغزالي واكتملت مع ابن خلدون. • وهم ثانيا أبطال المدرسة النقدية الغربية التي بدأت مع ديكارت واكتملت مع كنط. فالتحرر من فلسفة أفلاطون وأرسطو التي جعلتها المدرسية الفلسفية العربية الوسيطة في حضارتنا مرجعية فهمهم للقرآن بل هي وحكما عليه بدعوى حق الراسخين في العلم تأو يل المتشابه تماما كما صارت المدرسية الفلسفية العربية الحالية جعلت فلسفة هيجل وماركس وما تفرع عنها وخاصة في ما بعد الحداثة التي يمكن اعتبارها رد فعل عليهما منطلقا منهما. وطبعا فهيمنة المدرسية الفلسفية العربية الحديثة وما بعدها دون المرحلة الوسيطة تمكنا من الفكر الفلسفي اليوناني ومن ثم فهي دونها قدرة على النقد المحرر منها مثل ما حصل في المدرسة النقدية التي تحررت منها عندنا ثم عند الألمان كما بينت في ضميمة ترجمة المثالية الألمانية. 89
–– ومن ثم فلم يكن بالوسع اعتمادها للتحرر من اخطبوط الفخ الأول الذي كانت بدايته فينومينولوجيا الروح والعلم المطلق وغايته فلسفة الدين المطلق غاية للمسار الموصل إلى الأول. والفخ هو بالأساس نفسه الفخ القديم لأن فلسفة هيجل وماركس مثلت نكوصا تاما إلى ما تقدم على النقد في الفلسفة الغربية ممثلا بال كنطية والمدرسة النقدية الألمانية التي لم تشر إلى المدرسة النقدية العربية المتقدمة عليها في الزمان رغم ما بينهما من تناظر عجيب لا يغفل عنه إلا من ساءت نيته لتوطيد خرافة المعجزة الأوروبية التي عادت مباشرة إلى المعجزة اليونانية في غياب دور من سبق هذه ال كذبة الأولى ومن توسط بينها وبين ال كذبة الثانية فكان اهمالها علة كافية عند الحمقى من ماضغي الروبافاكيا الأوروبية ليصبح نجوم الفلسفة العربية الحديثة مؤمنين بنفس ال كذبتين بل وتحملها عند التعرض لها ما يسمونه بالحرب على الفلسفة وعلة الانحطاط الذي مر به فكر الأمة الفلسفي. • والبداية هي أبستمولوجيا المطابقة ورد الوجود إلى الإدراك وهو معنى العلم المطلق. 90
–– • والغاية هي أكسيولوجيا العمل التام ورد المنشود إلى الإرادة وهو معنى الدين المطلق. ومجموعهما يسميه هيجل المصالحة بين العقل من حيث هو نهى المتجاوز للعقل من حيث هو حصاة والحصيلة .لا شيء هناك وراء هنا أي ليس وراء عالم الشهادة عالم للغيب ولا حساب ولا عقاب عدى ومكر التاريخ يحل كل المجهول بتحيل مقبول. أما الفخ الثاني فهو ليس عملا إنسانيا كالحال في الفخ الأول أي إنه ما أضفى الفوضى على نص القرآن ال كريم بسبب عدم تحديد دلالة حضور اليهودية ونظر ية شعب الله المختار أو التفضيل على العالمين وعدم تحديد دلالة حضور المسيحية وقصة خلق عديل بدء الإنسان معجزة عيسى نسخة من آدم. فهذا الحضور يبدو في سطح القرآن وكأنه الممثل الوحيد للحضارة التي تقدمت على الإسلام وللحضارات المعاصرة لليهودية والمسيحية لكأن الشعوب الباقية لم يكن لها دور ولا وجود ودلك هو ما جعلني في البداية لا أطمئن لهذين الحضورين اللذين يبدوان مؤديين دورين القرآن لم يكن بحاجة إليهما إذا فهما بالمعنى الذي جعل الإسرائيليات والنصرانيات تسيطر على فهمه وتفسيره الفقهي والصوفي. 91
–– ومثلما طلبت ما حررني من المطابقة والإحاطة في النظر والمطابقة والتمام في العمل في فكرنا الفلسفي القديم بالتحرر من إطلاق الأفلاطونية والأرسطية وفي فكرنا الفلسفي الحديث بالتحرر من إطلاق الهيجلية والماركسية التحرر منهم أربعتهم بفضل المدرستين النقديتين العربية والغربية. طلبت ما حررني من إطلاق خرافة الشعب المختار وشعب الخطيئة الموروثة بتحرير فهم القرآن بالإسرائيليات الذي سيطر على أهل الحديث وبالنصرانيات الذي سيطر على الدراويش .وكان لا بد من وصل ذلك بالمقابلة التي لا خلاف فيها بين الاستدلال القرآني النظام في الرسالة الخاتمة وليس بالمعجزات الخارقة للنظام في الرسالتين الأخر يين. يبقى الكلام في دلالة رواية القرآن لهذه المعجزات ودعوته لتصديق الرسالات السابقة دون أن يعني ذلك التصديق بنظام استدلالها .فكان لا بد إذن من التمييز بين البنية السطحية والبنية العميقة خاصة والبنية السطحية تبدو أقرب على ما قد يترتب على القول بالمطابقة والإحاطة إذا فضلنا الاستدلال بالنظام على الاستدلال بالمعجزات لأن إمكانها يعني ما يمكن منه عدم احاطة الإنسان المعرفية في النظر وعدم التمام القيمي في العمل .فكيف يمكن التوفيق؟ التوفيق علته طبيعة الخطاب .فمن 92
–– يتوجه إلى الإنسان في الاستدلال ينبغي أن يستند إلى اللغة الأكثر اقناعا من منظور الممكن له وليس من منظور الممكن للرب. فالقرآن لا ينفي أن المعجزات ممكنة للرب .ل كنه لا يحتج بها بل يحتج بما هو ممكن للإنسان وهو أكثر اقناعا له إذ لا يمكن للإقناع الذي شرطه الفهم أن يعتمد على ما لا يفهم أي المعجزات. ومن ثم فالاستدلال القرآني لا ينفي الاعجاز بل هو يرى أن التجربة التاريخية بينت انه لم يكن كافيا لإقناع من خوطبوا به وأغلبه كان للتخو يف وليس للإقناع .لذلك فكلما عاجزه مخاطبوه رد عليهم بهذين الحجتين واكتفي بدليل واحد هو آيات الله في الآفاق وفي الأنفس وشهادة الله بأن من يراها يعلم أن القرآن حق. لذلك فالقرآن هو التذكير بهذه الآيات أو شهادة الله بأنها هي الدالة على حقيقة القرآن .وتلك هي مسألة الحر ية الفعلية أو الشكلية .فيكون العلاج إما بمنطق القبول بالأمر الواقع أو بمنطق التبرير بمقتضى العقد الديني أو العقد الفلسفي المؤسس على تراتب المنازل وسلمها في سد الحاجات الرمزية. 93
–– – الفصل التاسع – وفي الجملة فإن المشكل هو مشكل منطق التساخر مع التراتب الوظيفي في تقسيم العمل الرمزي لإنتاج التراث نظير التراتب الوظيفي في تقسيم العمل المادي لإنتاج الثروة والتفاعل بين الانتاجين. • فإنتاج التراث شرط في العلم بقوانين الطبيعة وقيم التاريخ • وتطبيقهما شرطين في الاستعمار في الاستعمار الناجح في الأرض. • وانتاج الثروة شرط في تمو يل انتاج التراث العلمي والقيمي للرعاية والحماية. • فيكون التفاعل بين التساخرين عين التفاعل بين رعاية الجماعة لذاتها وحمايتها. • وما يحصل في تقاسم العمل الرمزي من صدق يكون إما بمقتضى الأمر الواقع وهو علاقات سلطة وقوة وليس بمقتضى أهمية الوظائف التي ينقسم إليها العمل الرمزي أو بمقتضى العقد الديني والفلسفي المؤسس على تراتب الوظائف وسلمها في سد الحاجات الروحية والمنازل الاجتماعية • تماما كالحال في التراتب في تقسيم العمل المادي. • والتناظر بين النظامين يتعين في تفاعلهما بحيث إن: تقسيم العمل الرمزي يحدد منزلة العلماء والمبدعين عامة وهم أحوج الناس للتفرغ لهذه المهمة التي هي أعسر مهام العمران البشري وشرط تحقيق الرعاية والحماية بعمل على 94
–– علم وليس بالاعتماد على الصدف في الاطلاع على \"عادات\" الأشياء بدلا من استراتيجية البحث عنها وهو دور التربية والبحث العلمي. وتقسيم العمل المادي يحدد منزلة مستعملي ثمرة ما توصلت إليه تجربة المعرفة والخبرة بعد الحصول على الحد الأدنى من التراث العلمي والقيمي سواء كانت ناتجة عن تنظير سابق أو عن ممارسة دون تنظير كالحال في بدايات العمران. ولهذه العلة فإن تقدم المجتمعات البشر ية جعلت الأمرين (انتاج الثروة وإنتاج التراث) يتوالجان بحيث إنه لم يعد بالوسع تصور مؤسسات انتاج مادي خالية من مؤسسات بحث علمي في مجال اختصاصها وأن تجد مؤسسات بحث علمي خالية من مؤسسات تطبيق للنظر يات. وذلك هو سر القوة في المجتمعات الأحدث لأن النظر مع بقاء ما فيه من أساسيات بمعزل عن الفائدة التطبيقية يحتاج إلى التطبيق. وليس من أجل الفائدة التطبيقية بل لأن الاحتكام إلى التجربة معيار مقوم للعلمية وهو شرط التأكد من صحة النظر يات المتعلقة بحقائق الأشياء الطبيعية والتاريخية كما أن العمل مع بقاء ما فيه من حدسيات لا تقبل التنظير وهي في الغالب موحيات بالأفكار التي تستند إلى اكتشاف خصائص في الأشياء مجهولة. 95
–– فما لا يقبل التفسير بالنظر يات السابقة لا متناهي ومن ثم فمفاجآته لا تتوقعه وهي غالبا ما تصبح منطلقا لإعادة النظر في النظر. ومن ثم فكلاهما • له وظيفة معرفية بمعزل عن النفع المباشر • وله وظيفة في النفع المباشر من خلال تطبيق النظر على العمل واستيحاء مفاجآت العمل باعتباره تجربة عينية قد توحي بما لم تتفطن إليه النظر ية فيقع تجويدها. ومن ثم فهما متلازمان دائما. وعبارة \"بمقتضى الأمر الواقع\" يعني بمقتضى قبول ما يحصل من الأمر الواقع على أنه الممكن الوحيد باعتقاد ديني أو فلسفي أو بدونهما يلطفان من الأمر الواقع بمقتضى موازين القوة بين الأقو ياء والضعفاء فيهما إما حقا بما يستمد من علة القوة فيهما أو ظاهرا بمقتضى ما يستمد من ظاهر القوة فيهما. ومن ثم فالأمر كله متعلق بهذا المقتضى الذي ينتج عن قانون القوة المعترف به إما دون تبرير ديني وفلسفي أو بهما. والتبرير الديني والفلسفي يلطف من الامر الواقع الذي تحكمه القوة الفعلية أو ظاهرها لان مفعول القوة لا يستمد منها هي بل من صورتها عند الخاضع لها. ما يعني أن المسافة بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن هو القانون الفعلي لشرطي قيام الجماعات. 96
–– وبهذا المعنى فإن دور المستوى الرمزي من التساخر -تقيم العمل وتكامله -ملازم للمستوى المادي من القوة وهو الذي يجعل القوة فاعلة ليس بذاتها فحسب بل بما يتصورها عليه من يخضع لها فيكون المفعول الرمزي معدا للمفعول الفعلي حتى في الحروب: فمن يهزم رمزيا يستحيل أن ينتصر ماديا لأن السلاح بحد ذاته على أهميته ليس هو المحدد للنتيجة بل معنو يات الجندي وإيمانه بما يجاهد من أجهل. ولهذه العلة فالحروب تربح رمزيا قبل ربحها فعليا وبنفس القانون تخسر. وهذا التفاعل بين التساخرين المنتج للتراث والمنتج للثروة هو ما سأسميه من الآن فصاعدا بقانون التساخر أي اتخاذ البشر بعضهم بعضا سخر يا خلال تقاسم العمل وتكامله بحيث يكون الجميع قائما بفرض كفاية نيابة عن الجماعة في المجال الذي تمكن من علاجه. فهو القانون يحكم السلطة السياسية في الجماعات البشر ية وله مستو يان من تجلي بقانون منطق القوة الذي يتغطى بقانون قوة المنطق دينيا كان أو فلسفيا: .1المستوى الأول بين الأقو ياء والضعفاء في أي جماعة من جماعات العالم وغالبا ما يكون التمييز بين النوعين غير محلي حتى وإن كان مقصورا على المحلي في إدراة الشأن الداخلي. .2وتلك هي علة تقدم المستوى الثاني بين الأقو ياء العالميين على الأقو ياء المحليين. 97
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120